فتح القدير للكمال ابن الهمام

بَابُ الِاعْتِكَافِ قَالَ (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاظَبَ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
[بَابُ الِاعْتِكَافِ]
قَالَ الْقُدُورِيُّ (الِاعْتِكَافُ مُسْتَحَبٌّ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) وَالْحَقُّ خِلَافُ كُلٍّ مِنْ الطَّرِيقَيْنِ، بَلْ الْحَقُّ أَنْ يُقَالَ: الِاعْتِكَافُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْمَنْذُورُ تَنْجِيزًا أَوْ تَعْلِيقًا، وَإِلَى سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ وَهُوَ اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَى مُسْتَحَبٍّ وَهُوَ مَا سِوَاهُمَا.
وَدَلِيلُ السُّنَّةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ بَعْدَهُ» فَهَذِهِ الْمُوَاظَبَةُ الْمَقْرُونَةُ بِعَدَمِ التَّرْكِ مَرَّةً لَمَّا اقْتَرَنَتْ بِعَدَمِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ لَمْ يَفْعَلْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ كَانَتْ دَلِيلَ السُّنِّيَّةِ، وَإِلَّا كَانَتْ تَكُونُ دَلِيلَ الْوُجُوبِ. أَوْ نَقُولُ: اللَّفْظُ وَإِنْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ التَّرْكِ ظَاهِرًا لَكِنْ وَجَدْنَا صَرِيحًا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّرْكِ وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا «كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ جَاءَ إلَى مَكَانِهِ الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، فَاسْتَأْذَنَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنْ تَعْتَكِفَ فَأَذِنَ لَهَا فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً، فَسَمِعَتْ بِهَا حَفْصَةُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى، فَسَمِعَتْ زَيْنَبُ فَضَرَبَتْ فِيهِ قُبَّةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْغَدَاةِ أَبْصَرَ أَرْبَعَ قِبَابٍ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَأُخْبِرَ خَبَرَهُنَّ، فَقَالَ: مَا حَمَلَهُنَّ عَلَى هَذَا؟ آلْبِرُّ؟ انْزِعُوهَا فَلَا أَرَاهَا فَنُزِعَتْ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ فِي رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ فِي آخِرِ الْعَشْرِ مِنْ شَوَّالٍ وَفِي رِوَايَةٍ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ وَتَرَكَ الِاعْتِكَافَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ» هَذَا.
وَأَمَّا اعْتِكَافُ الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ فَقَدْ وَرَدَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اعْتَكَفَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقَالَ: إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ يَعْنِي لَيْلَةَ الْقَدْرِ فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْآخِرَ» وَعَنْ هَذَا ذَهَبَ الْأَكْثَرُ إلَى أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي لَيْلَةِ إحْدَى وَعِشْرِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: فِي لَيْلَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. وَوَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتَمِسُوهَا فِي كُلِّ وِتْرٍ» وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ فَلَا يُدْرَى أَيَّةُ لَيْلَةٍ هِيَ، وَقَدْ تَتَقَدَّمُ وَقَدْ تَتَأَخَّرُ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ إلَّا

(2/389)


الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ وَالْمُوَاظَبَةُ دَلِيلُ السُّنَّةِ (وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) أَمَّا اللَّبْثُ فَرُكْنُهُ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْهُ فَكَانَ وُجُودُهُ بِهِ، وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَالنِّيَّةُ شَرْطٌ فِي سَائِرِ الْعِبَادَاتِ، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ وَهُوَ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ. وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ» وَالْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ الْمَنْقُولِ غَيْرُ مَقْبُولٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لَا تَتَقَدَّمُ وَلَا تَتَأَخَّرُ، هَكَذَا النَّقْلُ عَنْهُمْ فِي الْمَنْظُومَةِ وَالشُّرُوحِ. وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: وَفِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ أَنَّهَا تَدُورُ فِي السَّنَةِ تَكُونُ فِي رَمَضَانَ وَتَكُونُ فِي غَيْرِهِ فَجُعِلَ ذَلِكَ رِوَايَةً، وَثَمَرَةُ الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ فِيمَنْ قَالَ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَإِنْ قَالَ: قَبْلَ دُخُولِ رَمَضَانَ عَتَقَ وَطَلُقَتْ إذَا انْسَلَخَ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ لَيْلَةٍ مِنْهُ فَصَاعِدًا لَمْ يَعْتِقْ حَتَّى يَنْسَلِخَ رَمَضَانُ الْعَامَ الْقَابِلَ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِثْلُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِنْ رَمَضَانَ الْآتِيَ وَلَيْسَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَازِمًا مِنْ التَّقْرِيرِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهَا لِأَنَّهَا مِمَّا أَغْفَلَهَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَا يَنْبَغِي إغْفَالُهَا مِنْ مِثْلِ هَذَا الْكِتَابِ لِشُهْرَتِهَا فَأَوْرَدْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ تَتْمِيمًا لِأَمْرِ الْكِتَابِ.
وَفِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ: قِيلَ هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ. وَقَالَ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَيْلَةَ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَقِيلَ تِسْعَةَ عَشَرَ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ لَيْلَةَ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ. وَأَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ الْأَدِلَّةِ الْمُفِيدَةِ لِكَوْنِهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ: بِأَنَّ الْمُرَادَ فِي ذَلِكَ الرَّمَضَانُ الَّذِي كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْتَمَسَهَا فِيهِ، وَالسِّيَاقَاتُ تَدُلُّ عَلَيْهِ لِمَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَ الْأَحَادِيثِ وَأَلْفَاظَهَا كَقَوْلِهِ «إنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ» وَإِنَّمَا كَانَ يَطْلُبُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْرَاءُ. وَمِنْ عَلَامَاتِهَا أَنَّهَا بَلْجَةٌ سَاكِنَةٌ، لَا حَارَّةٌ وَلَا قَارَّةٌ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا بِلَا شُعَاعٍ كَأَنَّهَا طَسْتٌ، كَذَا قَالُوا، وَإِنَّمَا أُخْفِيَتْ لِيَجْتَهِدَ فِي طَلَبِهَا فَيَنَالَ بِذَلِكَ أَجْرَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ، كَمَا أَخْفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ السَّاعَةَ لِيَكُونُوا عَلَى وَجَلٍ مِنْ قِيَامِهَا بَغْتَةً، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ اللَّبْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الصَّوْمِ وَنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ) هَذَا مَفْهُومُهُ عِنْدَنَا، وَفِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ إذْ هُوَ لُغَةً مُطْلَقُ الْإِقَامَةِ فِي أَيِّ مَكَان عَلَى أَيِّ غَرَضٍ كَانَ، قَالَ تَعَالَى {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] .
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ رُكْنَهُ اللَّبْثُ بِشَرْطِ الصَّوْمِ وَالنِّيَّةِ، وَكَذَا الْمَسْجِدُ مِنْ الشُّرُوطِ أَيْ كَوْنُهُ فِيهِ، وَهَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى رِوَايَةِ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ مُطْلَقًا لَا عَلَى اشْتِرَاطِهِ لِلْوَاجِبِ مِنْهُ فَقَطْ، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا لِلنَّفْلِ مِنْهُ، وَعَلَى هَذَا أَيْضًا إطْلَاقُ قَوْلِهِ: وَالصَّوْمُ مِنْ شَرْطِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ، إنَّمَا هُوَ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، وَلَيْسَ هُوَ عَلَى مَا يَنْبَغِي لِأَنَّهُ إنْ ادَّعَى انْتِهَاضَ دَلِيلِهِ عَلَى الشَّافِعِيِّ لَزِمَهُ تَرْجِيحُ هَذِهِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَخْ) رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُوَيْد بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا وَهْمٌ مِنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، أَوْ مِنْ سُوَيْد، وَضَعَّفَ

(2/390)


ثُمَّ الصَّوْمُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَاجِبِ مِنْهُ رِوَايَةً وَاحِدَةً، وَلِصِحَّةِ التَّطَوُّعِ فِيمَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
سُوَيْدًا، لَكِنْ قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ حَجَرٍ: سَأَلْت هُشَيْمًا عَنْهُ فَأَثْنَى عَلَيْهِ خَيْرًا، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضًا، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» قَالَ أَبُو دَاوُد: غَيْرُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ لَا يَقُولُ فِيهِ قَالَتْ: السُّنَّةُ.
وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُهُمْ فَقَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَدِيلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَكِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَيْلَةً أَوْ يَوْمًا عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَسَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: اعْتَكِفْ وَصُمْ وَفِي لَفْظٍ لِلنَّسَائِيِّ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَكِفَ وَيَصُومَ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ عَنْ عَمْرٍو، وَهُوَ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ، وَالثِّقَاتُ مِنْ أَصْحَابِ عَمْرٍو لَمْ يَذْكُرُوا الصَّوْمَ مِنْهُمْ ابْنُ جُرَيْجٍ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، وَحَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ وَغَيْرُهُمْ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الصَّوْمِ، بَلْ «إنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَيْلَةً فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَفِيهِمَا أَيْضًا «عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْتَكِفَ يَوْمًا فَقَالَ: أَوْفِ بِنَذْرِكَ» وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ اللَّيْلَةُ مَعَ يَوْمِهَا أَوْ الْيَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وَغَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الصَّوْمِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ، وَقَدْ رُوِيَتْ بِرِوَايَةِ الثِّقَةِ وَتَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ فَيَجِبُ قَبُولُهَا فَالثِّقَةُ ابْنُ بَدِيلٍ قَالَ فِيهِ ابْنُ مَعِينٍ: صَالِحٌ.
وَذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ، وَالْمُؤَيِّدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - الصَّحِيحِ السَّنَدِ، فَإِنَّ رَفْعَهُ زِيَادَةُ ثِقَةٍ.
وَمَا أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أُسَيْدَ عَنْ عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ " ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَنَّهُمَا قَالَا: الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ " فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِلُزُومِهِ مَعَ أَنَّهُ رَاوِي وَاقِعَةَ أَبِيهِ يُقَوِّي ظَنَّ صِحَّةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فِي حَدِيثِ أَبِيهِ، وَمَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَيْسَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامٌ إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ» وَصَحَّحَهُ لَمْ يَتِمَّ لَهُ ذَلِكَ.
فَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الرَّمْلِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَمَعَ جَهَالَتِهِ لَمْ يَرْفَعْهُ غَيْرُهُ، بَلْ يَقِفُونَهُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَيُؤَيِّدُ الْوَقْفَ مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ بَعْدَ ذِكْرِهِ تَفَرُّدَ الرَّمْلِيِّ حَيْثُ قَالَ: وَقَدْ

(2/391)


لِظَاهِرِ مَا رَوَيْنَا وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
رَوَاهُ أَبُو بَكْرٍ الْحُمَيْدِيِّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: اجْتَمَعْت أَنَا وَابْنُ شِهَابٍ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ عَلَى امْرَأَتِهِ اعْتِكَافٌ نُذِرَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا يَكُونُ اعْتِكَافٌ إلَّا بِصَوْمٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَا، قَالَ: فَمِنْ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَمِنْ عُمَرَ؟ قَالَ لَا، قَالَ أَبُو سُهَيْلٍ: فَانْصَرَفْت فَوَجَدْت طَاوُسًا وَعَطَاءً، فَسَأَلْتُهُمَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ طَاوُسٌ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَرَى عَلَى الْمُعْتَكِفِ صِيَامًا إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: ذَلِكَ رَأْيٌ صَحِيحٌ اهـ.
فَلَوْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَرْفَعُهُ لَمْ يَقْصُرْهُ طَاوُسٌ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَكُنْ يَخَفْ عَلَيْهِ خُصُوصًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ، وَقَوْلُ عَطَاءٍ بِحُضُورِهِ ذَلِكَ رَأْيٌ صَحِيحٌ فَعَنْ ذَلِكَ اعْتَرَفَ الْبَيْهَقِيُّ بِأَنَّ رَفْعَهُ وَهْمٌ ثُمَّ لَمْ يَسْلَمْ الْمَوْقُوفُ عَنْ الْمُعَارِضِ، إذْ قَدْ ذَكَرْنَا رِوَايَةَ الْبَيْهَقِيّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا قَالَا: الْمُعْتَكِفُ يَصُومُ، فَتَعَارَضَ عَنْ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ. وَدَفْعُ الْمُعَارَضَةِ عَنْهُ بِأَنْ يُجْعَلَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ " إلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ " الِاعْتِكَافَ فَيَكُونَ دَلِيلَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ دُونَ النَّفْلِ، وَيُخَصُّ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْهُ بِهِ.
وَكَذَا حَدِيثُ عُمَرَ إنَّمَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى اشْتِرَاطِهِ فِي الْمَنْذُورِ، وَالْمُعَمِّمُ لِاشْتِرَاطِهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمُ الْمَرْفُوعُ، وَمَا أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهَا مَوْقُوفًا قَالَتْ: مَنْ اعْتَكَفَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ.
وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ الزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ، وَفِي مُوَطَّأِ مَالِكٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَنَافِعٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَا: لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الِاعْتِكَافَ مَعَ الصِّيَامِ.
قَالَ يَحْيَى: قَالَ مَالِكٌ: وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصِيَامٍ، وَكَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلًا مِنْ رِوَايَةِ سُوَيْد، فَهَذِهِ كُلُّهَا تُؤَيِّدُ إطْلَاقَ الِاشْتِرَاطِ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ، وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَقَلُّ الِاعْتِكَافِ النَّفْلِ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ، وَجَعَلَ رِوَايَةَ عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ فِي النَّفْلِ ظَاهِرً الرِّوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَلَا يَحْضُرُنِي مُتَمَسَّكٌ لِذَلِكَ فِي السُّنَّةِ سِوَى حَدِيثِ الْقِبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْبَابِ فِي الرِّوَايَةِ الْقَائِلَةِ «حَتَّى اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ شَوَّالٍ» فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي اعْتِكَافِ يَوْمِ الْفِطْرِ وَلَا صَوْمَ فِيهِ.
وَفَرَّعُوا عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ سَاعَةً ثُمَّ تَرَكَهُ لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلِاعْتِكَافِ بَلْ إنْهَاءً لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ. وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ يَلْزَمُهُ، وَحَقَّقَ بَعْضُهُمْ أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ إنَّمَا هُوَ لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فِي شَرْطِهِ الصَّوْمَ لَا أَنْ يَكُونَ الِاعْتِكَافُ التَّطَوُّعُ لَازِمًا فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لَيْلًا فَقَطْ، وَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ تَبَعًا لِلنَّهَارِ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَنْقُولَ مِنْ مُسْتَنَدِ إثْبَاتِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الظَّاهِرَةِ هُوَ قَوْلُهُ فِي الْأَصْلِ: إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بِنِيَّةِ الِاعْتِكَافِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَامَ تَارِكٌ لَهُ إذَا خَرَجَ وَفِيهِ نَظَرٌ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ عِنْدَ الْعَقْلِ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهِ سَاعَةً مَعَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَصُمْ سَوَاءٌ كَانَ يُرِيدُ اعْتِكَافَ يَوْمٍ أَوْ دُونَهُ، وَلَا مَانِعَ مِنْ اعْتِبَارِ شَرْطٍ يَكُونُ أَطْوَلَ مِنْ مَشْرُوطِهِ، وَمَنْ ادَّعَاهُ فَهُوَ بِلَا دَلِيلٍ، فَهَذَا الِاسْتِنْبَاطُ غَيْرُ صَحِيحٍ بِلَا مُوجِبٍ، إذْ الِاعْتِكَافُ لَمْ يُقَدَّرْ شَرْعًا بِكَمِّيَّةٍ لَا يَصِحُّ دُونَهَا كَالصَّوْمِ، بَلْ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ لَا يَفْتَقِرُ فِي كَوْنِهِ عِبَادَةً إلَى

(2/392)


وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَقَلُّهُ سَاعَةٌ فَيَكُونُ مِنْ غَيْرِ صَوْمٍ. لِأَنَّ مَبْنَى النَّفْلِ عَلَى الْمُسَاهَلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقْعُدُ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ. وَلَوْ شَرَعَ فِيهِ ثُمَّ قَطَعَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَلَمْ يَكُنْ الْقَطْعُ إبْطَالًا. وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ: يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْيَوْمِ كَالصَّوْمِ.

، ثُمَّ الِاعْتِكَافُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ " وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْجُزْءِ الْآخَرِ وَلَمْ يَسْتَلْزِمْ تَقْدِيرُ شَرْطِهِ تَقْدِيرَهُ لِمَا قُلْنَا.
وَقَوْلُ مَنْ حَقَّقَ الْوَجْهَ إنَّمَا ذَلِكَ لِلُزُومِ الْقَضَاءِ فِي شَرْطِهِ بَعِيدٌ عَنْ التَّحْقِيقِ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ. فَإِنَّ إفْسَادَ الِاعْتِكَافِ لَا يَسْتَلْزِمُ إفْسَادَ الصَّوْمِ لِيَلْزَمَ قَضَاؤُهُ لِجَوَازِ كَوْنِهِ بِمَا لَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ. وَغَايَةُ مَا يُصَحَّحُ بِأَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ وَجَبَ قَضَاؤُهُ فَيَجِبُ لِذَلِكَ اسْتِئْنَافُ صَوْمٍ آخَرَ ضَرُورَةَ اشْتِرَاطِ الصَّوْمِ لَهُ. وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ لِلُزُومِهِ فِي الصَّوْمِ بَلْ بِالْعَكْسِ، فَلَا يَلْزَمُ الْقَضَاءُ إلَّا فِي مَنْذُورٍ أَفْسَدَهُ قَبْلَ إتْمَامِهِ، وَمُقْتَضَى النَّظَرِ أَنَّهُ لَوْ شَرَعَ فِي الْمَسْنُونِ أَعْنِي الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ بِنِيَّتِهِ ثُمَّ أَفْسَدَهُ أَنْ يَجِبَ قَضَاؤُهُ تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فِي الشُّرُوعِ فِي نَفْلِ الصَّلَاةِ نَاوِيًا أَرْبَعًا لَا عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَمِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَنَّهُ لَوْ أَصْبَحَ صَائِمًا مُتَطَوِّعًا أَوْ غَيْرَ نَاوٍ لِلصَّوْمِ ثُمَّ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتَكِفَ هَذَا الْيَوْمَ لَا يَصِحُّ. وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ يَصِحُّ مِنْهُ نِيَّةُ الصَّوْمِ لِعَدَمِ اسْتِيعَابِ النَّهَارِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَقَلُّهُ أَكْثَرُ النَّهَارِ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ لَزِمَهُ فَإِنْ لَمْ يَعْتَكِفْهُ قَضَاهُ. وَهَذَا أَوْجَهُ فَيَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ لِمَا ذَكَرْنَا بِقَلِيلِ تَأَمُّلٍ.
(قَوْلُهُ وَفِي رِوَايَةِ الْأَصْلِ إلَخْ) ذَكَرَ وَجْهَهُ مِنْ الْمَعْنَى وَذَكَرْنَا آنِفًا وَجْهَهُ مِنْ السُّنَّةِ، وَحَمْلُ صَاحِبِ التَّنْقِيحِ إيَّاهُ عَلَى أَنَّهُ اعْتَكَفَ مِنْ ثَانِي الْفِطْرِ دَعْوَى بِلَا دَلِيلٍ. وَمَا تَمَسَّكَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ جَاءَ مُصَرَّحًا فِي حَدِيثٍ «فَلَمَّا أَفْطَرَ اعْتَكَفَ» عَلَيْهِ لَا لَهُ، لِأَنَّ مَدْخُولَ لَمَّا مَلْزُومٌ لِمَا بَعْدَهُ فَاقْتَضَى أَنَّهُ حِينَ أَفْطَرَ اعْتَكَفَ بِلَا تَرَاخٍ.

(قَوْلُهُ لِقَوْلِ حُذَيْفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَخْ) أَسْنَدَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ حُذَيْفَةَ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: أَلَا تَعْجَبُ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَ دَارِك وَدَارِ أَبِي مُوسَى يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عُكُوفٌ؟ قَالَ: فَلَعَلَّهُمْ أَصَابُوا وَأَخْطَأْت، أَوْ حَفِظُوا وَأُنْسِيت، قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَمَاعَةً. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: إنَّ أَبْغَضَ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى الْبِدَعُ، وَإِنَّ مِنْ الْبِدَعِ الِاعْتِكَافُ فِي الْمَسَاجِدِ الَّتِي فِي الدُّورِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفَيْهِمَا: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ أَخْبَرَنِي جَابِرٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَّمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: " لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ ". وَتَقَدَّمَ مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
(قَوْلُهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ

(2/393)


الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، لِأَنَّهُ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ فَيَخْتَصُّ بِمَكَانٍ تُؤَدَّى فِيهِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا لِأَنَّهُ هُوَ الْمَوْضِعُ لِصَلَاتِهَا فَيَتَحَقَّقُ انْتِظَارُهَا فِيهِ.

(وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ أَوْ الْجُمُعَةِ) أَمَّا الْحَاجَةُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يَخْرُجُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَلِأَنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ فِي تَقْضِيَتِهَا فَيَصِيرُ الْخُرُوجُ لَهَا مُسْتَثْنًى، وَلَا يَمْكُثُ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الطُّهُورِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةُ فَلِأَنَّهَا مِنْ أَهَمِّ حَوَائِجِهِ وَهِيَ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْخُرُوجُ إلَيْهَا مُفْسِدٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الِاعْتِكَافُ فِي الْجَامِعِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ) قِيلَ: أَرَادَ بِهِ غَيْرَ الْجَامِعِ، أَمَّا الْجَامِعُ فَيَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يُصَلَّ فِيهِ الْخَمْسُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ: أَنَّ الِاعْتِكَافَ الْوَاجِبَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ وَالنَّفَلُ يَجُوزُ. وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ كُلَّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ مَعْلُومٌ وَتُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِالْجَمَاعَةِ، وَصَحَّحَهُ بَعْضُ الْمَشَايِخِ قَالَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ لَهُ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ» وَمَعْنَى هَذَا مَا رَوَاهُ فِي الْمُعَارَضَةِ لِابْنِ الْجَوْزِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ وَمُؤَذِّنٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصِحُّ» ثُمَّ أَفْضَلُ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، ثُمَّ مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ مَسْجِدِ الْأَقْصَى، ثُمَّ الْجَامِعُ. قِيلَ: إذَا كَانَ يُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَفِي مَسْجِدِهِ أَفْضَلُ لِئَلَّا يَحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ، ثُمَّ كُلُّ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَكْثَرَ.
(قَوْلُهُ أَمَّا الْمَرْأَةُ فَتَعْتَكِفُ فِي مَسْجِدِ بَيْتِهَا) أَيْ الْأَفْضَلُ ذَلِكَ، وَلَوْ اعْتَكَفَتْ فِي الْجَامِعِ أَوْ فِي مَسْجِدِ حَيِّهَا وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الْجَامِعِ فِي حَقِّهَا جَازَ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ ذَكَرَ الْكَرَاهَةَ قَاضِي خَانْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا وَلَا إلَى نَفْسِ الْبَيْتِ مِنْ مَسْجِدِ بَيْتِهَا إذَا اعْتَكَفَتْ وَاجِبًا أَوْ نَفْلًا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ، وَلَا تَعْتَكِفُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا، وَإِذَا أَذِنَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْتِيَهَا وَلَا يَمْنَعَهَا، وَفِي الْأَمَةِ يَمْلِكُ ذَلِكَ الْإِذْنَ مَعَ الْكَرَاهَةِ الْمُؤَثِّمَةِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: أَسَاءَ وَأَثِمَ

(قَوْلُهُ فَلِحَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -) رَوَى السِّتَّةُ فِي كُتُبِهِمْ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اعْتَكَفَ يُدْنِي إلَيَّ رَأْسَهُ فَأُرَجِّلُهُ، وَكَانَ لَا يَدْخُلُ الْبَيْتَ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ» وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَيْضًا.
(قَوْلُهُ الِاعْتِكَافُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ مَشْرُوعٌ) هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُجِيزُهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ. وَأَمَّا عَلَى رَأْيِنَا فَلَا إذْ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَسْجِدٍ يُصَلَّى فِيهِ الْخَمْسُ بِجَمَاعَةٍ

(2/394)


وَإِذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فَالضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ فِي الْخُرُوجِ، وَيَخْرُجُ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ بَعْدَهُ، وَإِنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بَعِيدًا عَنْهُ يَخْرُجُ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا، وَفِي رِوَايَةٍ سِتًّا، الْأَرْبَعُ سُنَّةٌ، وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ، وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي سُنَّةِ الْجُمُعَةِ، وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا فَأُلْحِقَتْ بِهَا، وَلَوْ أَقَامَ فِي مَسْجِدِ الْجَامِعِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافَهُ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِكَافٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَهُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ فَلَا يُتِمَّهُ فِي مَسْجِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ (وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً بِغَيْرِ عُذْرٍ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الْقِيَاسُ، وَقَالَا: لَا يُفْسِدُ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَوْ دُونَهَا إذَا كَانَ جَامِعًا فَلَا يَكُونُ التَّمَسُّكُ عَلَى الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] كَمَا فَعَلَهُ الشَّارِحُونَ صَحِيحًا عَلَى الْمَذْهَبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي غَيْرِ الْجَامِعِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ إلْزَامًا بِالدَّلِيلِ، فَإِذَا صَحَّ فَبَعْدَ ذَلِكَ الضَّرُورَةُ مُطْلَقَةٌ لِلْخُرُوجِ مَعَ بَقَاءِ الِاعْتِكَافِ وَهِيَ هُنَا مُتَحَقِّقَةٌ نَظَرًا إلَى الْأَمْرِ بِالْجُمُعَةِ.
(قَوْلُهُ وَيُصَلِّي قَبْلَهَا أَرْبَعًا) يَنْبَغِي جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَطْفًا عَلَى إدْرَاكِهَا مِنْ بَابِ {صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] وَ {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام: 96] بِمَعْنَى قَابِضَاتٍ وَجَاعِلُ، فَيَنْحَلُّ إلَى أَنْ يَخْرُجَ فِي وَقْتٍ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ إدْرَاكُهَا وَصَلَاةِ أَرْبَعٍ أَوْ سِتٍّ قَبْلَهَا يُحَكِّمُ فِي ذَلِكَ رَأْيَهُ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي خُرُوجِهِ عَلَى إدْرَاكِ السَّمَاعِ لِلْخُطْبَةِ لِأَنَّ السُّنَّةَ إنَّمَا تُصَلَّى قَبْلَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ.
(قَوْلُهُ وَالرَّكْعَتَانِ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ) صَرَّحُوا بِأَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي الْفَرِيضَةِ حِينَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَجْزَأَهُ عَنْ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ التَّحِيَّةَ تَحْصُلُ بِذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى غَيْرِهَا فِي تَحَقُّقِهَا وَكَذَا السُّنَّةُ، فَهَذِهِ الرِّوَايَةُ وَهِيَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ إمَّا ضَعِيفَةٌ أَوْ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كَوْنَ الْوَقْتِ مِمَّا يَسَعُ فِيهِ السُّنَّةَ وَأَدَاءُ الْفَرْضِ بَعْدَ قَطْعِ الْمَسَافَةِ مِمَّا يُعْرَفُ تَخْمِينًا لَا قَطْعًا، فَقَدْ يَدْخُلُ قَبْلَ الزَّوَالِ لِعَدَمِ مُطَابَقَةِ ظَنِّهِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالسُّنَّةِ فَيَبْدَأَ بِالتَّحِيَّةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّى عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، لِأَنَّهُ قَلَّمَا يَصْدُقُ الْحَزْرُ.
(قَوْلُهُ وَبَعْدَهَا أَرْبَعًا أَوْ سِتًّا عَلَى حَسَبِ الِاخْتِلَافِ) مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ السُّنَّةَ بَعْدَهَا أَرْبَعٌ، وَقَوْلَهُمَا سِتٌّ، وَمِنْهُمْ مَنْ اقْتَصَرَ فِي السِّتِّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَقَدَّمْنَا الْوَجْهَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ.
(قَوْلُهُ وَسُنَنُهَا تَوَابِعُ لَهَا) يَعْنِي فَتَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ لَهَا كَمَا تَحَقَّقَتْ لِنَفْسِ الْجُمُعَةِ فَلَا يَكُونُ بِصَلَاتِهَا فِي الْجَامِعِ مُخَالِفًا لِمَا هُوَ الْأَوْلَى، وَهُوَ أَنْ لَا يَقْعُدَ فِي الْجَامِعِ إلَّا قَدْرَ الْحَاجَةِ الَّتِي جَوَّزَتْ خُرُوجَهُ، وَإِلَّا فَلَوْ اسْتَمَرَّ هُوَ فِيهِ بِغَيْرِ حَاجَةٍ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ لِأَنَّ خُرُوجَهُ كَانَ لِمُجَوِّزٍ فَلَمْ يُبْطِلْهُ، وَمُقَامُهُ بَعْدَ الْحَاجَةِ فِي مَحَلِّ الِاعْتِكَافِ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ فِي مَكَانِ الشُّرُوعِ لِأَنَّ إتْمَامَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي مَحَلِّ الشُّرُوعِ وَهِيَ عِبَادَةٌ تَطُولُ أَحَزُّ عَلَى النَّفْسِ مِنْهُ فِي مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ، فَإِنَّ فِي هَذَا تَرْوِيحًا لَهَا مِنْ كَدِّ التَّقَيُّدِ بِالْعِبَادَةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي عِبَادَةٍ فِي مَكَان تَقَيَّدَ بِهِ حَتَّى يُتِمَّهَا فَيَكُونُ كَالْإِخْلَافِ بَعْدَ الِالْتِزَامِ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ) وَتَقْيِيدُهُ فِي الْكِتَابِ الْفَسَادُ بِمَا إذَا كَانَ الْخُرُوجُ

(2/395)


وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ ضَرُورَةً.

قَالَ (وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالنَّوْمُ يَكُونُ فِي مُعْتَكَفِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِغَيْرِ عُذْرٍ يُفِيدُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِعُذْرٍ لَا يَفْسُدُ. وَعَلَيْهِ مَشَى بَعْضُهُمْ فِيمَا إذَا خَرَجَ لِانْهِدَامِ الْمَسْجِدِ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ. أَوْ أَخْرَجَهُ سُلْطَانٌ. أَوْ خَافَ عَلَى مَتَاعِهِ فَخَرَجَ، وَحُكِمَ بِالْفَسَادِ إذَا خَرَجَ لِجِنَازَةٍ وَإِنْ تَعَيَّنَتْ عَلَيْهِ، أَوْ لِنَفِيرٍ عَامٍّ أَوْ لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ. وَاَلَّذِي فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ وَالْخُلَاصَةُ: أَنَّ الْخُرُوجَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا بِأَنْ أَخْرَجَهُ السُّلْطَانُ أَوْ الْغَرِيمُ. أَوْ خَرَجَ لِبَوْلٍ فَحَبَسَهُ الْغَرِيمُ سَاعَةً. أَوْ خَرَجَ لِعُذْرِ الْمَرَضِ فَسَدَ اعْتِكَافُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَعَلَّلَ قَاضِي خَانْ فِي الْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ بِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ وُقُوعُهُ فَلَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى عَنْ الْإِيجَابِ، فَأَفَادَ هَذَا التَّعْلِيلُ الْفَسَادَ فِي الْكُلِّ، وَعَنْ هَذَا فَسَدَ إذَا عَادَ مَرِيضًا أَوْ شَهِدَ جِنَازَةً.
وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ النَّهْيُ عَنْهُ مُطْلَقًا، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ أَيْضًا يَفْسُدُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِهِ كَالْخُرُوجِ لِلْمَرَضِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّهُ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى حَيْثُ لَمْ يَغْلِبْ وُقُوعُ تَعَيُّنِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى وَاحِدٍ مُعْتَكِفٍ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ.
فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا فَكَانَتْ مُسْتَثْنَاةً. وَعَلَى هَذَا إذَا خَرَجَ لِإِنْقَاذِ غَرِيقٍ أَوْ حَرِيقٍ أَوْ جِهَادٍ عَمَّ نَفِيرُهُ يَفْسُدُ وَلَا يَأْثَمُ. وَهَذَا الْمَعْنَى يُفِيدُ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا انْهَدَمَ الْمَسْجِدُ فَخَرَجَ إلَى آخَرَ يَفْسُدُ لِأَنَّهُ لَيْسَ غَالِبَ الْوُقُوعِ، وَنَصَّ عَلَى فَسَادِهِ بِذَلِكَ قَاضِي خَانْ وَغَيْرُهُ.
وَتَفَرُّقُ أَهْلِهِ وَانْقِطَاعُ الْجَمَاعَةِ مِنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ. وَنَصَّ الْحَاكِمُ أَبُو الْفَضْلِ فَقَالَ فِي الْكَافِي: وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَاعْتِكَافُهُ فَاسِدٌ إذَا خَرَجَ سَاعَةً لِغَيْرِ غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ أَوْ جُمُعَةٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي لَا يَغْلِبُ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ لَا لِلْبُطْلَانِ وَإِلَّا لَكَانَ النِّسْيَانُ أَوْلَى بِعَدَمِ الْإِفْسَادِ لِأَنَّهُ عُذْرٌ ثَبَتَ شَرْعًا اعْتِبَارُ الصِّحَّةِ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُخْرِجَ رَأْسَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى بَعْضِ أَهْلِهِ لِيَغْسِلَهُ أَوْ يُرَجِّلَهُ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَإِنْ غَسَلَهُ فِي الْمَسْجِدِ فِي إنَاءٍ بِحَيْثُ لَا يُلَوِّثُ الْمَسْجِدَ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَصُعُودُ الْمِئْذَنَةِ إنْ كَانَ بَابُهَا مِنْ خَارِجِ الْمَسْجِدِ لَا يُفْسِدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا فِي حَقِّ الْمُؤَذِّنِ لِأَنَّ خُرُوجَهُ لِلْأَذَانِ مَعْلُومٌ فَيَكُونُ مُسْتَثْنًى.
أَمَّا غَيْرُهُ فَيُفْسِدُ اعْتِكَافَهُ، وَصَحَّحَ قَاضِي خَانْ أَنَّهُ قَوْلُ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْكُلِّ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الْقَوْلَ أَقْيَسُ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ. وَفِي شَرْحِ الصَّوْمِ لِلْفَقِيهِ أَبِي اللَّيْثِ: الْمُعْتَكِفُ يَخْرُجُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ شَاهِدٌ آخَرَ فَيَتْوَى حَقُّهُ. وَلَوْ أَحْرَمَ الْمُعْتَكِفُ بِحَجٍّ لَزِمَهُ إذْ لَا يُنَافِيهِ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ إلَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الْحَجِّ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ وَيَسْتَقْبِلُ الِاعْتِكَافَ.
وَلَوْ احْتَلَمَ لَا يَفْسُدُ اعْتِكَافُهُ، فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ تَلْوِيثٍ فَعَلَ، وَإِلَّا خَرَجَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ يَعُودُ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ) يَقْتَضِي تَرْجِيحَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الْمَعْدُودَةِ الَّتِي رَجَحَ فِيهَا الْقِيَاسُ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ. ثُمَّ هُوَ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِحْسَانِ بِالضَّرُورَةِ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاسْتِنْبَاطٌ مِنْ عَدَمِ أَمْرِهِ إذَا خَرَجَ إلَى الْغَائِطِ أَنْ يُسْرِعَ الْمَشْيَ، بَلْ يَمْشِي عَلَى التُّؤَدَةِ وَبِقَدْرِ الْبُطْءِ تَتَخَلَّلُ السَّكَنَاتُ بَيْنَ الْحَرَكَاتِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي فَنِّ الطَّبِيعَةِ، وَبِذَلِكَ يَثْبُتُ قَدْرٌ مِنْ الْخُرُوجِ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْقَلِيلَ عَفْوٌ فَجَعَلْنَا الْفَاصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَثِيرِ أَقَلَّ مِنْ أَكْثَرِ الْيَوْمِ أَوْ اللَّيْلَةِ لِأَنَّ مُقَابِلَ الْأَكْثَرِ يَكُونُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ، وَأَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى السُّوقِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ أَوْ الْقِمَارِ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ كَمَا هُوَ قَوْلُهُمَا، ثُمَّ قَالَ " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا مُعْتَكِفٌ.
قَالَ: مَا أَبْعَدَك عَنْ الْعَاكِفِينَ " وَلَا يُتِمُّ مَبْنَى هَذَا الِاسْتِحْسَانُ فَإِنَّ الضَّرُورَةَ الَّتِي يُنَاطُ

(2/396)


لِأَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُ قَضَاءُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْخُرُوجِ.

(وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَبْتَاعَ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحْضِرَ السِّلْعَةَ) لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَقُومُ بِحَاجَتِهِ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: يُكْرَهُ إحْضَارُ السِّلْعَةِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ. لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَفِيهِ شَغْلُهُ بِهَا، وَيُكْرَهُ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِيهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ إلَى أَنْ قَالَ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ» .

قَالَ (وَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِهَا التَّخْفِيفُ هِيَ الضَّرُورَةُ اللَّازِمَةُ أَوْ الْغَالِبَةُ الْوُقُوعِ، وَمُجَرَّدُ عُرُوضِ مَا هُوَ مُلْجِئٌ لَيْسَ بِذَلِكَ. أَلَا يُرَى أَنَّ مَنْ عَرَضَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ مُدَافَعَةُ الْأَخْبَثَيْنِ عَلَى وَجْهٍ عَجَزَ عَنْ دَفْعِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ لَا يُقَالُ بِبَقَاءِ صَلَاتِهِ كَمَا يُحْكَمُ بِهِ مَعَ السَّلَسِ مَعَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَالْإِلْجَاءِ وَسُمِّيَ ذَلِكَ مَعْذُورًا دُونَ هَذَا مَعَ أَنَّهُمَا يُجِيزَانِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَصْلًا.
إذْ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أَنَّ خُرُوجَهُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ لَا يُفْسِدُ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ لِحَاجَةٍ أَوْ لَا بَلْ لِلَّعِبِ. وَأَمَّا عَدَمُ الْمُطَالَبَةِ بِالْإِسْرَاعِ فَلَيْسَ لِإِطْلَاقِ الْخُرُوجِ الْيَسِيرِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ الْأَنَاةَ وَالرِّفْقَ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى طَلَبَهُ فِي الْمَشْيِ إلَى الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُفَوِّتُ بَعْضَهَا مَعَهُ بِالْجَمَاعَةِ.
وَكُرِهَ الْإِسْرَاعُ وَنُهِيَ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُحَصِّلًا لَهَا كُلَّهَا فِي الْجَمَاعَةِ تَحْصِيلًا لِفَضِيلَةِ الْخُشُوعِ إذْ هُوَ يَذْهَبُ بِالسُّرْعَةِ وَالْعَاكِفُ أَحْوَجُ إلَيْهَا فِي عُمُومِ أَحْوَالِهِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ نَفْسَهُ لِلَّهِ تَعَالَى مُتَقَيِّدًا بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ الذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَالِانْتِظَارِ لِلصَّلَاةِ، فَهُوَ فِي حَالِ الْمَشْيِ الْمُطْلَقِ لَهُ دَاخِلٌ فِي الْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ الِانْتِظَارُ، وَالْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ حُكْمًا فَكَانَ مُحْتَاجًا إلَى تَحْصِيلِ الْخُشُوعِ فِي حَالِ الْخُرُوجِ، فَكَانَتْ تِلْكَ السَّكَنَاتُ كَذَلِكَ، وَهِيَ مَعْدُودَةٌ مِنْ نَفْسِ الِاعْتِكَافِ لَا مِنْ الْخُرُوجِ، وَلَوْ سَلَّمَ أَنَّ الْقَلِيلَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيرُهُ بِمَا هُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مُقَابِلِهِ مِنْ بَقِيَّةِ تَمَامِ يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ، بَلْ بِمَا يُعَدُّ كَثِيرًا فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ الَّذِينَ فَهِمُوا مَعْنَى الْعُكُوفِ، وَأَنَّ الْخُرُوجَ يُنَافِيهِ.

(قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ مَأْوًى إلَّا الْمَسْجِدَ) أَيْ لِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ مِنْ الْأَكْلِ وَنَحْوِهِ، أَمَّا إذَا بَاعَ أَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِ ذَلِكَ كَالتِّجَارَةِ أَوْ اسْتِكْثَارِ الْأَمْتِعَةِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ إبَاحَتَهُ فِي الْمَسْجِدِ لِلضَّرُورَةِ فَلَا يُجَاوِزُ مَوَاضِعَهَا

(قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّرٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ) فَإِنَّهُ أَخْلَصَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، وَفِي إحْضَارِ السِّلْعَةِ شَغْلُهُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
(قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ» ) رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ، وَشِرَاءَكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ، وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ، وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ، وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ، وَاِتَّخِذُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ. وَجَمِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ» اهـ.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ رِوَايَتِهِ: حَدِيثَ «لَا تُظْهِرْ الشَّمَاتَةَ بِأَخِيكَ فَيُعَافِيَهُ اللَّهُ وَيَبْتَلِيَكَ» عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ وَاثِلَةَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ سَمِعَ مَكْحُولٌ مِنْ وَاثِلَةَ وَأَنَسَ. وَأَبِي هِنْدٍ الدَّارِيِّ

(2/397)


وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) لِأَنَّ صَوْمُ الصَّمْتِ لَيْسَ بِقُرْبَةِ شَرِيعَتِنَا لَكِنَّهُ يَتَجَانَبُ مَا يَكُونُ مَأْثَمًا.

(وَيَحْرُمُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ الْوَطْءُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ذَكَرَهُ فِي الزُّهْدِ وَرَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ.
وَرَوَى أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي الْمَسْجِدِ. وَأَنْ يُنْشَدَ فِيهِ ضَالَّةٌ، أَوْ يُنْشَدَ فِيهِ شِعْرٌ، وَنَهَى عَنْ التَّحَلُّقِ قَبْلَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالنَّسَائِيُّ رَوَاهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ بِتَمَامِهِ، وَفِي السُّنَنِ اخْتَصَرَهُ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِهِ وَالنَّسَائِيُّ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَبِيعُ أَوْ يَبْتَاعُ فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا: لَا رَبَّحَ اللَّهُ تِجَارَتَكَ، وَمَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَنْشُدُ ضَالَّةً فِي الْمَسْجِدِ فَقُولُوا لَا رَدَّ اللَّهُ عَلَيْكَ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، وَرَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خِصَالٌ لَا تَنْبَغِي فِي الْمَسْجِدِ: لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا، وَلَا يُشْهَرُ فِيهِ سِلَاحٌ، وَلَا يُنْبَضُ فِيهِ بِقَوْسٍ، وَلَا يُنْثَرُ فِيهِ نَبْلٌ، وَلَا يُمَرُّ فِيهِ بِلَحْمٍ نِيءٍ، وَلَا يُضْرَبُ فِيهِ حَدٌّ، وَلَا يُتَّخَذُ سُوقًا» وَأُعِلَّ بِزَيْدِ بْنِ جَبِيرَةَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا لِلْمَسْجِدِ أَحْكَامًا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ تُنْظَرُ هُنَاكَ.

(قَوْلُهُ وَيُكْرَهُ لَهُ الصَّمْتُ) أَيْ الصَّمْتُ بِالْكُلِّيَّةِ تَعَبُّدًا بِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَرِيعَتِنَا، وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ «لَا يُتْمَ بَعْدَ احْتِلَامٍ وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
وَأَسْنَدَ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَوْمِ الْوِصَالِ وَعَنْ صَوْمِ الصَّمْتِ» وَيُلَازِمُ التِّلَاوَةَ وَالْحَدِيثَ وَالْعِلْمَ وَتَدْرِيسَهُ، وَسِيَرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَخْبَارَ

(2/398)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] (وَ) كَذَا (اللَّمْسُ وَالْقُبْلَةُ) لِأَنَّهُ مِنْ دَوَاعِيهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إذْ هُوَ مَحْظُورُهُ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ لَا مَحْظُورُهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ إلَى دَوَاعِيهِ (فَإِنْ جَامَعَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّ اللَّيْلَ مَحَلُّ الِاعْتِكَافِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الصَّالِحِينَ، وَكِتَابَةَ أُمُورِ الدِّينِ

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ) أَيْ كُلًّا مِنْهُمَا (مِنْ دَوَاعِيهِ) فَمَرْجِعُ ضَمِيرِ دَوَاعِيهِ الْوَطْءُ وَضَمِيرُ مَحْظُورِهِ الِاعْتِكَافُ. وَحَاصِلُ الْوَجْهِ الْحُكْمُ بِاسْتِلْزَامِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ ابْتِدَاءً فِي الْعِبَادَةِ حُرْمَةَ دَوَاعِيهِ وَبِعَدَمِ اسْتِلْزَامِهَا حُرْمَةَ الدَّوَاعِي إذَا كَانَتْ حُرْمَتُهُ ثَابِتَةً ضِمْنَ ثُبُوتِ الْأَمْرِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَ التَّحْرِيمِ الضِّمْنِيِّ لِضِدِّ مَأْمُورٍ بِهِ وَالْقَصْدِيِّ. وَلَا شَكَّ أَنَّ ثُبُوتَ مَا لَهُ الدَّوَاعِي عِنْدَ ثُبُوتِهَا مَعَ قِيَامِ الْحَاجِزِ الشَّرْعِيِّ عَنْهُ لَيْسَ قَطْعِيًّا وَلَا غَالِبًا غَيْرَ أَنَّهَا طَرِيقٌ فِي الْجُمْلَةِ فَحُرِّمَتْ لِلتَّحْرِيمِ الْقَصْدِيِّ لِمَا هِيَ دَوَاعِيهِ لَا الضِّمْنِيِّ، إذْ هُوَ غَيْرُ مَقْصُودٍ، بَلْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ إلَّا تَحْصِيلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ غَيْرَ مَلْحُوظٍ فِي الطَّلَبِ إلَّا لِغَيْرِهِ فَلَا تَتَعَدَّى الْحُرْمَةُ إلَى دَوَاعِيهِ، إذَا عُرِفَ هَذَا فَحُرْمَةُ

(2/399)


وَحَالَةُ الْعَاكِفِينَ مُذَكِّرَةٌ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ (وَلَوْ جَامَعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَأَنْزَلَ أَوْ قَبَّلَ أَوْ لَمَسَ فَأَنْزَلَ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ حَتَّى يَفْسُدَ بِهِ الصَّوْمُ، وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ وَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ.

قَالَ (وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْوَطْءِ فِي الِاعْتِكَافِ قَصْدِيٌّ إذْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّهْيِ الْمُفِيدِ لِلْحُرْمَةِ ابْتِدَاءً لِنَفْسِهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَمِثْلُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَالِاسْتِبْرَاءِ قَالَ تَعَالَى {فَلا رَفَثَ} [البقرة: 197] الْآيَةَ.
وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تُنْكَحُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ» فَتَتَعَدَّى إلَى الدَّوَاعِي فِيهَا، وَحُرْمَةُ الْوَطْءِ فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ ضِمْنِيٌّ لِلْأَمْرِ الطَّالِبِ لِلصَّوْمِ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فَإِنَّ مُقْتَضَاهُ وُجُوبُ الْكَفِّ، فَحُرْمَةُ الْوَطْءِ تَثْبُتُ ضِمْنًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْوَطْءُ هِيَ الثَّابِتَةُ أَوَّلًا بِالصِّيغَةِ. ثُمَّ يَثْبُتُ وُجُوبُ الْكَفِّ عَنْهُ ضِمْنًا فَلِذَا يَثْبُتُ سَمْعًا حِلُّ الدَّوَاعِي فِي الصَّوْمِ وَالْحَيْضِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابَيْهِمَا.
(قَوْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يَفْسُدُ وَإِنْ كَانَ مُحَرَّمًا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْجِمَاعِ وَهُوَ الْمُفْسِدُ) أَوْ رَدَّ لِمَ لَمْ يَفْسُدْ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ} [البقرة: 187] ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ مَجَازَهَا وَهُوَ الْجِمَاعُ مُرَادٌ فَتَبْطُلُ إرَادَةُ الْحَقِيقَةِ لِامْتِنَاعِ الْجَمْعِ. وَهُوَ مُشْكِلٌ لِانْكِشَافِ أَنَّ الْجِمَاعَ مِنْ مَاصَدَقَاتِ الْمُبَاشَرَةِ، لِأَنَّهُ مُبَاشَرَةٌ خَاصَّةٌ فَيَكُونُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقُبْلَةِ وَالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ وَالْجِمَاعِ مُتَوَاطِئًا أَوْ مُشَكِّكًا، فَأَيُّهَا أُرِيدَ بِهِ كَانَ حَقِيقَةً كَمَا هُوَ كُلُّ اسْمٍ لِمَعْنًى كُلِّيٍّ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ فَرْدَانِ مِنْ مَفْهُومِهِ فِي إطْلَاقٍ وَاحِدٍ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ سِيَاقُ النَّهْيِ وَهُوَ يُفِيدُ الْعُمُومَ.
فَيُفِيدُ تَحْرِيمَ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُبَاشَرَةِ جِمَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ. هَذَا وَإِذَا فَسَدَ الِاعْتِكَافُ الْوَاجِبُ وَجَبَ قَضَاؤُهُ إلَّا إذَا فَسَدَ بِالرِّدَّةِ خَاصَّةً، فَإِنْ كَانَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ يَقْضِي قَدْرَ مَا فَسَدَ لَيْسَ غَيْرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ كَالصَّوْمِ الْمَنْذُورِ بِهِ فِي شَهْرٍ بِعَيْنِهِ إذَا أَفْطَرَ يَوْمًا يَقْضِي ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَلَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِئْنَافُ أَصْلُهُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ اعْتِكَافُ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا فَيُرَاعَى فِيهِ صِفَةُ التَّتَابُعِ، وَسَوَاءٌ أَفْسَدَهُ بِصُنْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ وَالْأَكْلِ إلَّا الرِّدَّةَ، أَوْ لِعُذْرٍ كَمَا إذَا مَرِضَ فَاحْتَاجَ إلَى الْخُرُوجِ أَوْ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْحَيْضِ وَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ الطَّوِيلِ، وَأَمَّا الرِّدَّةُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» كَذَا فِي الْبَدَائِعِ.

(قَوْلُهُ وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ)

(2/400)


لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا) لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَيَّامِ عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ يَتَنَاوَلُ مَا بِإِزَائِهَا مِنْ اللَّيَالِي، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ أَيَّامٍ وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ (مُتَتَابِعَةً وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّتَابُعَ) لِأَنَّ مَبْنَى الِاعْتِكَافِ عَلَى التَّتَابُعِ، لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ كُلَّهَا قَابِلَةٌ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّفَرُّقِ لِأَنَّ اللَّيَالِيَ غَيْرُ قَابِلَةٍ لِلصَّوْمِ فَيَجِبُ عَلَى التَّفَرُّقِ حَتَّى يَنُصَّ عَلَى التَّتَابُعِ (وَإِنْ نَوَى الْأَيَّامَ خَاصَّةً صَحَّتْ نِيَّتُهُ) لِأَنَّهُ نَوَى الْحَقِيقَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِأَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ: عَشَرَةَ أَيَّامٍ مَثَلًا (لَزِمَهُ اعْتِكَافُهَا بِلَيَالِيِهَا وَكَانَتْ مُتَتَابِعَةً) وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْقَلْبِ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: شَهْرًا وَلَمْ يَنْوِهِ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ مُتَتَابِعًا لَيْلُهُ وَنَهَارُهُ يَفْتَتِحُهُ مَتَى شَاءَ بِالْعَدَدِ لَا هِلَالِيًّا، وَالشَّهْرُ الْمُعَيَّنُ هِلَالِيٌّ، وَإِنْ فَرَّقَ اسْتَقْبَلَ.
وَقَالَ زُفَرُ: إنْ شَاءَ فَرَّقَهُ وَإِنْ شَاءَ تَابَعَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ وَشَهْرًا يُلْحَقُ بِالْإِجَارَاتِ وَالْأَيْمَانِ فِي لُزُومِ التَّتَابُعِ وَدُخُولِ اللَّيَالِي فِيمَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ أَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ، وَبِالصَّوْمِ فِي عَدَمِ لُزُومِ الِاتِّصَالِ بِالْوَقْتِ الَّذِي نَذَرَ فِيهِ، وَالْمُعَيِّنُ لِذَلِكَ عُرْفُ الِاسْتِعْمَالِ، يُقَالُ: مَا رَأَيْتُك مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَفِي التَّارِيخِ كُتِبَ لِثَلَاثٍ بَقِينَ، وَالْمُرَادُ بِلَيَالِيِهَا فِيهِمَا وَقَالَ تَعَالَى {آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ} [مريم: 10] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [آل عمران: 41] وَالْقِصَّةُ وَاحِدَةٌ، وَتَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى فَيَدْخُلُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَيَخْرُجُ بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ آخِرِ الْأَيَّامِ الَّتِي عَدَّهَا، وَإِنَّمَا يُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ بِالْيَوْمِ إذَا قُرِنَ بِفِعْلٍ يَمْتَدُّ، وَذُكِرَ الْيَوْمُ بِلَفْظِ الْفَرْدِ فَلِهَذَا إذَا نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ لَمْ يَدْخُلْ اللَّيْلُ بِخِلَافِ الْأَيَّامِ، وَلَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ لَيْلَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ الصَّوْمِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ تَلْزَمُهَا بِيَوْمِهَا، وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلَةِ الْيَوْمَ لَزِمَهُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَصِلَ قَضَاءَ أَيَّامِ حَيْضِهَا بِالشَّهْرِ فِيمَا إذَا نَذَرَتْ اعْتِكَافَ شَهْرٍ فَحَاضَتْ فِيهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِهِ، وَعَنْ لُزُومِ التَّتَابُعِ قَالُوا: لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَوْ أَصَابَهُ عَتَهٌ أَوْ لَمَمٌ اسْتَقْبَلَ إذَا بَرْءًا لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ وَفِي الصَّوْمِ لَا يَقْضِي الْيَوْمَ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ وَيَقْضِي مَا بَعْدَهُ، فَأَفَادُوا أَنَّ الْإِغْمَاءَ إنَّمَا يُنَافِي شَرْطَ الصَّوْمِ وَهُوَ النِّيَّةُ.
وَالظَّاهِرُ وُجُودُهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ الْإِغْمَاءُ فَلَا يَقْضِيهِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ الْفَرْقِ أَنْ يُقَالَ: هُوَ عِبَادَةُ انْتِظَارِ الصَّلَاةِ، وَالِانْتِظَارُ يَنْقَطِعُ بِالْإِغْمَاءِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي تَجِبُ بَعْدَ الْإِغْمَاءِ بِخِلَافِ الْإِمْسَاكِ الْمَسْبُوقِ بِالنِّيَّةِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الصَّوْمِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ) لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْيَوْمِ بَيَاضُ النَّهَارِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَنَوَى الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِيَ أَوْ قَلَبَهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ

(2/401)


(وَمَنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ اعْتِكَافَ يَوْمَيْنِ يَلْزَمُهُ بِلَيْلَتَيْهِمَا) . وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ، وَفِي الْمُتَوَسِّطَةِ ضَرُورَةُ الِاتِّصَالِ. وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ فَيَلْحَقُ بِهِ احْتِيَاطًا لِأَمْرِ الْعِبَادَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الشَّهْرَ اسْمٌ لِعَدَدِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، لَيْسَ بِاسْمٍ عَامٍّ كَالْعَشَرَةِ عَلَى مَجْمُوعِ الْآحَادِ فَلَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا دُونَ ذَلِكَ الْعَدَدِ أَصْلًا، كَمَا لَا تَنْطَلِقُ الْعَشَرَةُ عَلَى خَمْسَةٍ مَثَلًا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا، أَمَّا لَوْ قَالَ: شَهْرًا بِالنَّهْرِ دُونَ اللَّيَالِي لَزِمَهُ كَمَا قَالَ وَهُوَ ظَاهِرٌ، أَوْ اسْتَثْنَى فَقَالَ: شَهْرًا إلَّا اللَّيَالِيَ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي بَعْدَ الثُّنْيَا فَكَأَنَّهُ قَالَ: ثَلَاثِينَ نَهَارًا، وَلَوْ اسْتَثْنَى لِأَيَّامٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْبَاقِيَ اللَّيَالِي الْمُجَرَّدَةَ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا لِمُنَافَاتِهَا شَرْطَهُ، وَهُوَ الصَّوْمُ

(قَوْلُهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ) فِي النِّهَايَةِ: كَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يَقُولَ: وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى، كَمَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي نُسَخِ شُرُوحِ الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ لِمَا أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي حُجَّتِهِمَا بِقَوْلِهِ: وَجْهُ الظَّاهِرِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُثَنَّى غَيْرُ الْجَمْعِ) فَكَانَ لَفْظُهُ وَلَفْظُ الْمُفْرَدِ سَوَاءً، ثُمَّ فِي لَفْظِ الْمُفْرَدِ بِأَنْ قَالَ يَوْمًا لَا تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَا التَّثْنِيَةُ، إلَّا أَنَّ الْمُتَوَسِّطَةَ تَدْخُلُ لِضَرُورَةِ الِاتِّصَالِ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ مُنْتَفِيَةٌ فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى.
(قَوْلُهُ أَنَّ فِي الْمُثَنَّى مَعْنَى الْجَمْعِ) وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وَلَوْ قَالَ: لَيْلَتَيْنِ صَحَّ نَذْرُهُ إذَا لَمْ يَنْوِ اللَّيْلَتَيْنِ خَاصَّةً، بَلْ نَوَى الْيَوْمَيْنِ مَعَهُمَا، ثُمَّ خَصَّ الْمُصَنِّفُ الرِّوَايَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمُثَنَّى، وَعَنْهُ فِي الْجَمْعِ مِثْلُ الْمُثَنَّى، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ لَا يَنْتَهِضُ عَلَى رِوَايَةِ عَدَمِ إدْخَالِ اللَّيْلَةِ الْأُولَى فِي الْجَمْعِ أَيْضًا.
[فَرْعٌ]
لَوْ ارْتَدَّ عَقِيبَ نَذَرَ الِاعْتِكَافِ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ مُوجَبُ النَّذْرِ، لِأَنَّ نَفْسَ النَّذْرِ بِالْقُرْبَةِ قُرْبَةٌ فَيَبْطُلُ بِالرِّدَّةِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ. وَنَذْرُ اعْتِكَافِ رَمَضَانَ لَازِمٌ، فَإِنْ أَطْلَقَهُ فَعَلَيْهِ فِي أَيِّ رَمَضَانَ شَاءَ، وَإِنْ عَيَّنَهُ لَزِمَهُ فِيهِ بِعَيْنِهِ فَلَوْ صَامَهُ وَلَمْ يَعْتَكِفْ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُ مُتَتَابِعًا بِصَوْمٍ مَقْصُودٍ لِلنَّذْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ فَلَا يُقْضَى وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَكِفَ عَنْهُ فِي رَمَضَانَ آخَرَ بِاتِّفَاقِ الثَّلَاثَةِ، وَلَوْ لَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَعْتَكِفْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ الِاعْتِكَافَ فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأُصُولِ، وَكُلُّ مُعَيَّنٍ نُذِرَ اعْتِكَافُهُ كَرَجَبٍ وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ مَثَلًا فَمَضَى وَلَمْ يَعْتَكِفْ فِيهِ لَزِمَهُ

(2/402)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَضَاؤُهُ، فَلَوْ أَخَّرَ يَوْمًا حَتَّى مَرِضَ وَجَبَ الْإِيصَاءُ بِإِطْعَامِ مِسْكِينٍ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ لِلصَّوْمِ لَا لِلَّبْثِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ مَرِيضًا وَقْتَ الْإِيجَابِ وَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى مَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ صَحَّ يَوْمًا يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الصَّوْمِ، وَالنَّذْرُ بِاعْتِكَافِ أَيَّامِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّشْرِيقِ يَنْعَقِدُ، وَيَجِبُ فِي بَدَلِهَا لِأَنَّ شَرْطَهُ الصَّوْمُ وَهُوَ فِيهَا مُمْتَنِعٌ، فَلَوْ اعْتَكَفَهَا صَائِمًا أَثِمَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ.
وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ تَعَجَّلَ اعْتِكَافَ شَهْرٍ قَبْلَهُ عَنْهُ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ خِلَافٍ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ قَالَ: يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَحُجَّ سَنَةَ كَذَا فَحَجَّ سَنَةً قَبْلَهَا، وَكَذَا النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ إذَا صَلَّاهَا قَبْلَهَا. وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ غَدًا أَوْ أُصَلِّيَ غَدًا فَصَامَ الْيَوْمَ أَوْ صَلَّى جَازَ عِنْدَهُمَا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فَجَعَلَ أَبَا حَنِيفَةَ مَعَ أَبِي يُوسُفَ. وَأَجْمَعُوا أَنَّهُ إذَا نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتَصَدَّقَ يَوْمَ الْخَمِيسِ عَنْهُ أَجْزَأَهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ فَصَلَّاهُمَا فِي مَسْجِدٍ آخَرَ جَازَ بِلَا فَرْقٍ بَيْنَ الْمُضَافِ إلَى الزَّمَانِ وَالْمُضَافِ إلَى الْمَكَانِ.
وَقَالَ زُفَرُ: إنْ كَانَ هَذَا الْمَكَانُ دُونَ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَمْ يَجُزْ اهـ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ مِثْلُ مَا عَنْ زُفَرَ، وَالْخِلَافُ فِي التَّعْجِيلِ مُشْكِلٌ، وَلَعَلَّ تَرْكَ الْخِلَافِ أَنْسَبُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى جَوَازِ التَّعْجِيلِ بَعْدَ السَّبَبِ، وَكُلٌّ مَنْذُورٌ فَإِنَّمَا سَبَبُ وُجُوبِهِ النَّذْرُ، وَلَا تَعْتَكِفُ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ، فَإِنْ مَنَعَهُمَا بَعْدَ الْإِذْنِ صَحَّ مَنْعُهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ مُسِيئًا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: يَكُونُ آثِمًا، وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَلَوْ نَذَرَ الْمَمْلُوكُ اعْتِكَافًا لَزِمَهُ وَلِلْمَوْلَى مَنْعُهُ مِنْهُ فَإِذَا عَتَقَ يَقْضِيهِ، وَكَذَا إذَا نَذَرَتْ الزَّوْجَةُ صَحَّ، وَلِلزَّوْجِ مَنْعُهَا، فَإِنْ بَانَتْ قَضَتْ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى مَنْعُ الْمُكَاتَبِ، وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ مِنْ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ سِبَابٌ وَلَا جِدَالٌ وَلَا سُكْرٌ فِي اللَّيْلِ، وَيُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ الرِّدَّةُ وَالْإِغْمَاءُ إذَا دَامَ أَيَّامًا، وَكَذَا الْجُنُونُ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ قَرِيبًا، فَإِنْ تَطَاوَلَ الْجُنُونُ سِنِينَ ثُمَّ أَفَاقَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ؟ فِي الْقِيَاسِ لَا كَمَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْضِي لِأَنَّ سُقُوطَ الْقَضَاءِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إنَّمَا كَانَ لِدَفْعِ الْحَرَجِ، لِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا طَالَ قَلَّمَا يَزُولُ فَيَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ صَوْمُ رَمَضَانَ فَيُحْرَجُ فِي قَضَائِهِ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ فِي الِاعْتِكَافِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصِحَابِهِ وَسَلَّمَ.

(2/403)