فتح القدير للكمال ابن الهمام بَابُ الْفَوَاتِ (وَمَنْ أَحْرَمَ
بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حَتَّى طَلَعَ
الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ) ؛
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَيْهِ
(وَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلَ وَيَقْضِيَ
الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ) ؛ لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ
بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ
وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَالْعُمْرَةُ لَيْسَتْ
إلَّا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ بِالْحَرَمِ فَقَالَ: لَا يَكُونُ
مُحْصَرًا، فَقُلْت: أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ
وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ؟ فَقَالَ: إنَّ مَكَّةَ كَانَتْ
يَوْمَئِذٍ دَارَ الْحَرْبِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ
الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا. قَالَ
أَبُو يُوسُفَ: أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: إذَا غَلَبَ
الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ. وَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّفْصِيلَ
الْمَذْكُورَ قَوْلُ الْكُلِّ. وَفِيهِ أَنَّ الْحُدَيْبِيَةَ
مِنْ الْحَرَمِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ
أَنَّهَا مِنْ الْحِلِّ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ
وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا أَنَّ بَعْضَهَا مِنْ الْحَرَمِ،
وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَلَا خِلَافَ فِي
الْمَعْنَى إذَا لَاحَظْتَ تَعْلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَبِمُلَاحَظَتِهِ أَيْضًا يَتَّضِحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
حَمْلِ مَنْعِهِ الْإِحْصَارَ بِالْحَرَمِ عَلَى مَا
بِالْعُذْرِ، إذْ لَا يَخْفَى إمْكَانُ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ
عَنْ الذَّهَابِ إلَى مَكَّةَ بِشِدَّةِ الْمَرَضِ فِي بَعْضِ
الصُّوَرِ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِضْرَارِ بِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ
مَعَ الْمَرَضِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
[تَقْسِيمٌ] الْمُتَحَلِّلُ قَبْلَ أَعْمَالِ مَا أَحْرَمَ
بِهِ إمَّا مُحْصَرٌ أَوْ فَائِتُ الْحَجِّ أَوْ غَيْرُهُمَا،
وَتَحَلَّلَ الْأَوَّلُ فِي الْحَالِ بِالدَّمِ وَالثَّانِي
بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالثَّالِثِ بِلَا شَيْءٍ
يَتَقَدَّمُهُ وَهُوَ كُلُّ مَنْ مُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ
شَرْعًا؛ لِحَقِّ الْعَبْدِ، كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ
الْمَمْنُوعَيْنِ؛ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى إذَا
أَحْرَمَا بِغَيْرِ إذْنٍ فَإِنَّ لِلزَّوْجِ وَالْمَوْلَى
أَنْ يُحَلِّلَاهُمَا فِي الْحَالِ بِلَا شَيْءٍ؛ ثُمَّ عَلَى
الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْعَثَ بِهَدْيٍ يُذْبَحُ عَنْهَا فِي
الْحَرَمِ، وَعَلَى الْعَبْدِ إذَا أُعْتِقَ هَدْيُ
الْإِحْصَارِ، وَعَلَيْهِمَا مَعًا قَضَاءُ حَجَّةٍ
وَعُمْرَةٍ، وَسَنَذْكُرُ تَمَامَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ الْمَنْثُورَةِ.
[بَابُ الْفَوَاتِ]
(بَابُ الْفَوَاتِ) . (قَوْلُهُ: لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ
فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلِيَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ
الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» )
(3/135)
وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَمَا
انْعَقَدَ صَحِيحًا لَا طَرِيقَ لِلْخُرُوجِ عَنْهُ إلَّا
بِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ كَمَا فِي الْإِحْرَامِ
الْمُبْهَمِ، وَهَاهُنَا عَجَزَ عَنْ الْحَجِّ فَتَتَعَيَّنُ
عَلَيْهِ الْعُمْرَةُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ
التَّحَلُّلَ وَقَعَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَتْ فِي
حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الدَّمِ فِي حَقِّ
الْمُحْصَرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا.
(وَالْعُمْرَةُ لَا تَفُوتُ وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي جَمِيعِ
السَّنَةِ إلَّا خَمْسَةَ أَيَّامٍ يُكْرَهُ فِيهَا فِعْلُهَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ، فَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي سَنَدِهِ رَحْمَةُ بْنُ
مُصْعَبٍ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: ضَعِيفٌ وَقَدْ تَفَرَّدَ
بِهِ، وَرَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ فِي الْكَامِلِ وَضَعَّفَهُ
بِمُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى،
وَضَعَّفَهُ عَنْ جَمَاعَةٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ
يَحْيَى بْنُ عِيسَى النَّهْشَلِيُّ ضَعَّفَهُ ابْنُ حِبَّانَ
وَأَسْنَدَ تَضْعِيفَهُ عَنْ ابْنِ مَعِينٍ. وَقَالَ صَاحِبُ
التَّنْقِيحِ: رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغَرَضَ
مِنْ خُصُوصِ هَذَا الْمَتْنِ الِاسْتِدْلَال عَلَى نَفْيِ
لُزُومِ الدَّمِ، فَإِنَّ مَا سِوَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ
الْمَذْكُورَةِ لَا يُعْلَمُ فِيهَا خِلَافٌ. وَوَجْهُهُ
أَنَّهُ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْفَوَاتِ، وَكَانَ
الْمَذْكُورُ جَمِيعَ مَا لَهُ مِنْ الْحُكْمِ، وَإِلَّا
نَافَى الْحِكْمَةَ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَذْكُورِ لُزُومُ
الدَّمِ، فَلَوْ كَانَ مِنْ حُكْمِهِ لَذَكَرَهُ. (قَوْلُهُ:
كَمَا فِي الْإِحْرَامِ الْمُبْهَمِ) وَهُوَ أَنْ لَا يَزِيدَ
فِي النِّيَّةِ عَلَى مُجَرَّدِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ يُلَبِّي
فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ
أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ مَا شَاءَ مَا
لَمْ يَشْرَعْ فِي الطَّوَافِ، فَإِذَا شَرَعَ قَبْلَ
التَّعْيِينِ تَعَيَّنَتْ الْعُمْرَةُ وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ
لَمْ يُعَيِّنْ حَتَّى طَافَ أَقَلَّ الْأَشْوَاطِ ثُمَّ
أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا وَلَزِمَهُ حُكْمُ الرَّفْضِ
عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي إضَافَةِ الْإِحْرَامِ إلَى
الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ
عُمْرَتَيْنِ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا فِي الْإِحْرَامِ
الْمُبْهَمِ شَيْئًا فِي بَابِ الْإِحْرَامِ، وَالْمُرَادُ
بِالصَّحِيحِ فِي قَوْلِهِ: لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ مَا
انْعَقَدَ صَحِيحًا اللَّازِمُ لِيَخْرُجَ بِهِ الْعَبْدُ
وَالزَّوْجَةُ بِغَيْرِ إذْنٍ لَا مُقَابِلَ مَا فَسَدَ.
(قَوْلُهُ: وَلَا دَمَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ
زِيَادٍ: عَلَيْهِ الدَّمُ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ. وَلَنَا فِيهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
الْحَدِيثِ آنِفًا، وَهُوَ حُجَّةٌ؛ لِأَنَّ مُسْلِمًا رَوَى؛
لِلنَّهْشَلِيِّ، وَمَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ
عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ؛ لِأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ حِينَ
فَاتَهُ الْحَجُّ: اصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الْمُعْتَمِرُ ثُمَّ
قَدْ حَلَلْت، فَإِذَا أَدْرَكَك الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ
فَاحْجُجْ وَأَهْدِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ. وَكَذَا
رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ؛ لِهَبَّارِ بْنِ الْأَسْوَدِ
وَمَنْ مَعَهُ حِينَ فَاتَهُمْ الْحَجُّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ
مِثْلُ مَا عَنْ أَبِيهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -،
رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ؛
لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَأْمُرْ بِهِ حِينَ
بَيَانِهِ لِحُكْمِ الْفَوَاتِ، أَوْ لَمْ يَعْلَمَا فِيهِ
(3/136)
وَهِيَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ
النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ) لِمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا كَانَتْ
تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ؛
وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامُ الْحَجِّ فَكَانَتْ
مُتَعَيِّنَةً لَهُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
-: أَنَّهَا لَا تُكْرَهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ
الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ
الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ، وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْمَذْهَبِ مَا
ذَكَرْنَاهُ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا لَوْ أَدَّاهَا فِي هَذِهِ
الْأَيَّامِ صَحَّ وَيَبْقَى مُحْرِمًا بِهَا فِيهَا؛ لِأَنَّ
الْكَرَاهَةَ لِغَيْرِهَا وَهُوَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الْحَجِّ
وَتَخْلِيصُ وَقْتِهِ لَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
شَيْئًا، وَتَأَيَّدَ بِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْمَعْنَى فِي
الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّ الْعُمْرَةَ لِفَائِتِ الْحَجِّ
جُعِلَتْ شَرْعًا شَرْطًا لِلتَّحَلُّلِ، وَكَانَتْ كَالدَّمِ
فِي الْمُحْصَرِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَقَوْلُهُ:
لِأَنَّ التَّحَلُّلَ إلَخْ الْمُرَادُ أَنَّ لُزُومَ الدَّمِ
عَلَى الْمُحْصَرِ؛ لِكَوْنِهِ تَعَجَّلَ الْإِحْلَالَ قَبْلَ
الْأَعْمَالِ، وَهَذَا قَدْ حَلَّ بِالْأَعْمَالِ فَلَا يَجِبُ
عَلَيْهِ الدَّمُ لَا مَا يَتَخَايَلُ مِنْ ظَاهِرِ
الْعِبَارَةِ؛ لِيُقَالَ عَلَيْهِ مُقْتَضَاهُ أَنْ لَا يَجِبَ
عَلَى الْمُحْصَرِ عُمْرَةٌ فِي قَضَاءِ الْحَجَّةِ حِينَئِذٍ
. (قَوْلُهُ: لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ) أَخْرَجَ
الْبَيْهَقِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ يَزِيدَ الرِّشْكِ عَنْ
مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ. حَلَّتْ الْعُمْرَةُ فِي
السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ: يَوْمُ
عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَيَوْمَانِ بَعْدَ ذَلِكَ اهـ.
وَهُوَ يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ كَرَاهَةُ تَحْرِيمٍ
وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يُفِيدُهُ. وَقَالَ الشَّيْخُ
تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ: رَوَى إسْمَاعِيلُ بْنُ
عَيَّاشٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَنَافِعٌ عَنْ طَاوُسٍ قَالَ:
قَالَ الْبَحْرُ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ: خَمْسَةُ أَيَّامٍ:
يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَالثَّلَاثَةُ أَيَّامِ
التَّشْرِيقِ اعْتَمِرْ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا مَا شِئْت.
اهـ. هَذَا وَأَمَّا أَفْضَلُ أَوْقَاتِهَا فَرَمَضَانُ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عَنْهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ «عُمْرَةٌ
فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً» وَفِي طَرِيقٍ؛ لِمُسْلِمٍ
«تُقْضَى حَجَّةً أَوْ حَجَّةٌ مَعِي» وَفِي رِوَايَةٍ؛
لِأَبِي دَاوُد «تَعْدِلُ حَجَّةً مَعِي» مِنْ غَيْرِ شَكٍّ.
وَكَانَ السَّلَفُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُسَمُّونَهَا
الْحَجَّ الْأَصْغَرَ.
هَذَا وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَائِلِ كِتَابِ الْحَجِّ
الْوَعْدَ بِعَدَدِ عُمُرَاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فَنَقُولُ: قَدْ «اعْتَمَرَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمُرَاتٍ
كُلُّهُنَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ» ، وَلَمْ يَعْتَمِرْ مُدَّةَ
مُقَامَهُ بِمَكَّةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ شَيْئًا، وَذَلِكَ
ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَعَنْ هَذَا ادَّعَى مَنْ ادَّعَى
أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ تُفْعَلَ دَاخِلًا إلَى
مَكَّةَ لَا خَارِجًا، بِأَنْ يَخْرُجَ الْمُقِيمُ بِمَكَّةَ
إلَى الْحِلِّ فَيَعْتَمِرَ كَمَا يُفْعَلُ الْيَوْمُ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَمْنُوعًا؛ ثُمَّ الْمُرَادُ
بِالْأَرْبَعَةِ، إحْرَامَهُ بِهِنَّ، فَأَمَّا مَا تَمَّ لَهُ
مِنْهَا فَثَلَاثٌ، وَلِهَذَا قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ:
«اعْتَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عُمْرَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَحُجَّ فَلَمْ يَحْتَسِبْ
بِعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ» ، كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَكُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى مَا هُوَ الْحَقُّ.
[الْأُولَى] عُمْرَةُ الْحُدَيْبِيَةِ سَنَةَ سِتٍّ فَصُدَّ
بِهَا فَنَحَرَ الْهَدْيَ بِهَا وَحَلَقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ
وَرَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ. [الثَّانِيَةُ] عُمْرَةُ
الْقَضَاءِ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَهِيَ قَضَاءٌ عَنْ
الْحُدَيْبِيَةِ، هَذَا مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَذَهَبَ
مَالِكٌ إلَى
(3/137)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنَّهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لَا قَضَاءٌ عَنْهَا، وَتَسْمِيَةُ
الصَّحَابَةِ وَجَمِيعِ السَّلَفِ إيَّاهَا بِعُمْرَةِ
الْقَضَاءِ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِهِ، وَتَسْمِيَةُ بَعْضِهِمْ
إيَّاهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ لَا يَنْفِيهِ، فَإِنَّهُ
اتَّفَقَ فِي الْأُولَى مُقَاضَاةُ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلِ مَكَّةَ عَلَى أَنْ
يَأْتِيَ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَيَدْخُلَ مَكَّةَ
بِعُمْرَةٍ وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، وَهَذَا الْأَمْرُ
قَضِيَّةٌ تَصِحُّ إضَافَةُ هَذِهِ الْعُمْرَةِ إلَيْهَا،
فَإِنَّهَا عُمْرَةٌ كَانَتْ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَهِيَ
قَضَاءٌ عَنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَتَصِحُّ إضَافَتُهَا إلَى
كُلٍّ مِنْهُمَا فَلَا تَسْتَلْزِمُ الْإِضَافَةُ إلَى
الْقَضِيَّةِ نَفْيَ الْقَضَاءِ، وَالْإِضَافَةُ إلَى
الْقَضَاءِ يُفِيدُ ثُبُوتَهُ فَيَثْبُتُ مُفِيدُ ثُبُوتِهِ
بِلَا مُعَارِضٍ.
وَأَيْضًا فَالْحُكْمُ الثَّابِتُ فِيمَنْ شَرَعَ فِي إحْرَامٍ
بِنُسُكٍ فَلَمْ يُتِمَّهُ لِإِحْصَارٍ فَحَلَّ أَنْ يَقْضِيَ
وَهَذِهِ تَحْتَمِلُ الْقَضَاءَ فَوَجَبَ حَمْلُهَا عَلَيْهِ،
وَعَدَمُ نَقْلِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
أَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ بِالْقَضَاءِ لَا يُفِيدُ
ذَلِكَ، بَلْ الْمُفِيدُ لَهُ نَقْلُ الْعَدَمِ لَا عَدَمُ
النَّقْلِ. نَعَمْ هُوَ مِمَّا يُؤْنَسُ بِهِ فِي عَدَمِ
الْوُقُوعِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ،
لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ
الثَّابِتِ مَا يُوجِبُ الْقَضَاءَ فِي مِثْلِهِ عَلَى
الْعُمُومِ فَيَجِبُ الْحُكْمُ بِعِلْمِهِمْ بِهِ وَقَضَائِهَا
مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ طَرِيقِ عِلْمِهِمْ. [الثَّالِثَةُ]
عُمْرَتُهُ الَّتِي قَرَنَهَا مَعَ حَجَّتِهِ عَلَى مَا
أَسْلَفْنَا إثْبَاتَهُ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَجَّ قَارِنًا أَوْ الَّتِي تَمَتَّعَ
بِهَا إلَى الْحَجِّ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ
حَجَّ مُتَمَتِّعًا، أَوْ الَّتِي اعْتَمَرَهَا فِي سَفَرِهِ
ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ أَفْرَدَ
وَاعْتَمَرَ، وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الرَّابِعِ.
[الرَّابِعَةُ] عُمْرَتُهُ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَمَّا خَرَجَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى حُنَيْنٍ وَدَخَلَ
بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ إلَى مَكَّةَ لَيْلًا وَخَرَجَ مِنْهَا
لَيْلًا إلَى الْجِعْرَانَةِ فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ
وَزَالَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ فِي بَطْنِ سَرِفَ حَتَّى جَامَعَ
فِي الطَّرِيقِ، وَمِنْ ثَمَّةَ خَفِيَتْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ
عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ. وَأَمَّا أَنَّهُنَّ كُلُّهُنَّ
فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَلِمَا ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «لَمْ يَعْتَمِرْ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا
فِي ذِي الْقَعْدَةِ» . وَأَمَّا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ
حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ:
«اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عُمَرَ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ،
إلَّا الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ» : عُمْرَةٌ مِنْ
الْحُدَيْبِيَةِ أَوْ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مِنْ الْجِعْرَانَةِ حَيْثُ قَسَّمَ
غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ مَعَ
حَجَّتِهِ فَلَا يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّ مَبْدَأَ عُمْرَةِ
الْقِرَانِ كَانَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَفِعْلُهَا كَانَ فِي
ذِي الْحِجَّةِ فَصَحَّ طَرِيقَا الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ أَرْبَعًا إحْدَاهُنَّ
فِي رَجَبٍ، فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ لَمَّا بَلَغَهَا
ذَلِكَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا
اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عُمْرَةً قَطُّ إلَّا وَهُوَ شَاهِدٌ، وَمَا
اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ «خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةٍ
فِي رَمَضَانَ» فَقَدْ حَكَمَ الْحُفَّاظُ بِغَلَطِ هَذَا
الْحَدِيثِ، إذْ لَا خِلَافَ أَنَّ عُمَرَهُ كُلَّهَا لَمْ
تَزِدْ عَنْ أَرْبَعٍ، وَقَدْ عَيَّنَهَا أَنَسٌ وَعَدَّهَا
وَلَيْسَ فِيمَا ذُكِرَ شَيْءٌ مِنْهَا فِي غَيْرِ ذِي
الْقَعْدَةَ سِوَى الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ، وَقَدْ جَمَعَ
بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْوَجْهِ الصَّحِيحِ، فَلَوْ كَانَتْ
لَهُ عُمْرَةٌ فِي رَجَبٍ وَأُخْرَى فِي رَمَضَانَ لَكَانَتْ
سِتًّا، وَلَوْ كَانَتْ أُخْرَى فِي شَوَّالٍ كَمَا هُوَ فِي
سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اعْتَمَرَ فِي شَوَّالٍ كَانَتْ
سَبْعًا» . وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا أَمْكَنَ
الْجَمْعُ فِيهِ وَجَبَ ارْتِكَابُهُ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ،
وَمَا لَمْ يُمْكِنْ الْجَمْعُ فِيهِ حُكِمَ بِمُقْتَضَى
الْأَصَحِّ وَالْأَثْبَتِ، وَهَذَا أَيْضًا يُمْكِنُ فِيهِ
الْجَمْعُ بِإِرَادَةِ عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ فَإِنَّهُ
خَرَجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي شَوَّالٍ وَالْإِحْرَامُ بِهَا فِي
ذِي الْقَعْدَةِ فَكَانَ
(3/138)
فَيَصِحُّ الشُّرُوعُ.
(وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «الْعُمْرَةُ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ»
وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» ؛ وَلِأَنَّهَا
غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ بِوَقْتٍ وَتَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهَا
كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ، وَهَذِهِ أَمَارَةُ
النَّفْلِيَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَجَازًا؛ لِلْقُرْبِ، هَذَا إنْ صَحَّ وَحُفِظَ، وَإِلَّا
فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الثَّابِتُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَتْ كُلَّهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَقَعَ
تَرَدُّدٌ لِبَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّ أَفْضَلَ
أَوْقَاتِ الْعُمْرَةِ أَشْهُرُ الْحَجِّ أَوْ رَمَضَانُ،
فَفِي رَمَضَانَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى
الْأَفْضَلِيَّةِ، وَلَكِنَّ فِعْلَهُ لَمَّا لَمْ يَقَعْ
إلَّا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ كَانَ ظَاهِرًا أَنَّهُ أَفْضَلُ
إذْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْتَارُ
لِنَبِيِّهِ إلَّا مَا هُوَ الْأَفْضَلُ، أَوْ أَنَّ رَمَضَانَ
أَفْضَلُ بِتَنْصِيصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَلَى ذَلِكَ. وَتَرْكُهُ لِذَلِكَ؛ لِاقْتِرَانِهِ بِأَمْرٍ
يَخُصُّهُ كَاشْتِغَالِهِ بِعِبَادَاتٍ أُخْرَى فِي رَمَضَانَ
تَبَتُّلًا وَأَلَّا يَشُقَّ عَلَى أُمَّتِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ
اعْتَمَرَ فِيهِ لَخَرَجُوا مَعَهُ وَلَقَدْ كَانَ بِهِمْ
رَحِيمًا، وَقَدْ أَخْبَرَ فِي بَعْضِ الْعِبَادَاتِ أَنَّ
تَرْكَهُ لَهَا؛ لِئَلَّا يَشُقَّ عَلَيْهِمْ مَعَ مَحَبَّتِهِ
لَهُ كَالْقِيَامِ فِي رَمَضَانَ بِهِمْ وَمَحَبَّتِهِ لَأَنْ
يُسْقِيَ بِنَفْسِهِ مَعَ سُقَاةِ زَمْزَمَ ثُمَّ تَرَكَهُ
كَيْ لَا يَغْلِبَهُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِهِمْ، وَلَمْ
يَعْتَمِرْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي
السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً. وَمَا ظَنَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ
حَدِيثٍ فِي أَبِي دَاوُد عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - اعْتَمَرَ عُمْرَتَيْنِ عُمْرَةً فِي ذِي
الْقَعْدَةِ وَعُمْرَةً فِي شَوَّالٍ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ
ذِكْرَ جَمِيعِ مَا اعْتَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -؛ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ اعْتَمَرَ أَكْثَرَ،
فَكَانَ الْمُرَادُ ذِكْرَ أَنَّهُ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي
سَنَةٍ يَجِبُ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِ بِالْغَلَطِ، فَإِنَّهُ
قَدْ تَظَافَرَ قَوْلُ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ
وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّهَا أَرْبَعٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْأُولَى كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ
سَنَةَ سِتٍّ، ثُمَّ لَمْ يَعْتَمِرْ إلَّا مِنْ قَابِلٍ
سَنَةَ سَبْعٍ سِوَى الَّتِي فِي ذِي الْقَعْدَةِ عُمْرَةِ
الْقَضَاءِ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ إلَى مَكَّةَ حَتَّى
فَتَحَهَا سَنَةَ ثَمَانٍ فِي رَمَضَانَ وَلَمْ يَعْتَمِرْ فِي
دُخُولِهِ فِي الْفَتْحِ، ثُمَّ أُخْرِجَ إلَى حُنَيْنٍ فِي
شَوَّالٍ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ ثُمَّ رَجَعَ مِنْهَا
فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَمَتَى اعْتَمَرَ
فِي شَوَّالٍ؟ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ،
وَلَا عِلْمَ إلَّا مَا عَلَّمَ.
(قَوْلُهُ: وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ) أَيْ مَنْ أَتَى بِهَا
مَرَّةً فِي الْعُمُرِ فَقَدْ أَقَامَ السُّنَّةَ غَيْرَ
مُقَيَّدٍ بِوَقْتٍ غَيْرَ مَا ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهَا
فِيهِ، إلَّا أَنَّهَا فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ، هَذَا إذَا
أَفْرَدَهَا فَلَا يُنَافِيهِ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ؛
لِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ يَرْجِعُ إلَى الْحَجِّ لَا إلَى
الْعُمْرَةِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْإِتْيَانَ
بِالْعُمْرَةِ عَلَى وَجْهٍ أَفْضَلَ فِيهَا فَفِي رَمَضَانَ
أَوْ الْحَجَّ عَلَى وَجْهٍ أَفْضَلَ فِيهِ فَبِأَنْ يَقْرِنَ
مَعَهُ عُمْرَةً. (قَوْلُهُ: وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: فَرِيضَةٌ) وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ مِنْ
مَشَايِخِ بُخَارَى: فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقِيلَ هِيَ
وَاجِبَةٌ. وَجْهُ
(3/139)
وَتَأْوِيلُ مَا رَوَاهُ أَنَّهَا
مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ إذْ لَا تَثْبُتُ
الْفَرْضِيَّةُ مَعَ التَّعَارُضِ فِي الْآثَارِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا رَوَاهُ
الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَنْ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ
فَرِيضَتَانِ لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِمَا بَدَأْتَ» قَالَ
الْحَاكِمُ: الصَّحِيحُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مِنْ
قَوْلِهِ. اهـ.
وَفِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ الْمَكِّيُّ ضَعَّفُوهُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَقَالَ أَحْمَدُ:
حَذَفْنَا حَدِيثَهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ هِشَامِ
بْنِ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ مَوْقُوفًا وَهُوَ
الصَّحِيحُ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ رَجُلًا قَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْإِسْلَامُ؟ قَالَ: أَنْ تَشْهَدَ
أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ
اللَّهِ وَأَنْ تُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ
وَأَنْ تَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ» قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ:
إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي كِتَابِهِ
الْمُخَرَّجِ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ قَالَ صَاحِبُ
التَّنْقِيحِ: الْحَدِيثُ مُخَرَّجٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ
فِيهِ وَتَعْتَمِرَ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ فِيهَا شُذُوذٌ،
وَفِيهِ أَحَادِيثُ أُخَرُ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ ضَعْفٍ أَوْ
عَدَمِ دَلَالَةٍ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ أَيْضًا عَنْ ابْنِ
عُمَرَ: «لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا
وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ وَاجِبَتَانِ عَلَى مَنْ
اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا» وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَخْرَجَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: «الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ
فَرِيضَتَانِ عَلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ إلَّا أَهْلَ مَكَّةَ
فَإِنَّ عُمْرَتَهُمْ طَوَافُهُمْ، فَلْيَخْرُجُوا إلَى
التَّنْعِيمِ ثُمَّ لْيَدْخُلُوهَا» الْحَدِيثَ، وَقَالَ عَلَى
شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - فِي مُنَاظَرَةِ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ
بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ: أَشْبَهُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؛
لِأَنَّهُ قَرَنَهَا بِالْحَجِّ. وَلَنَا مَا أَخْرَجَهُ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ حَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قَالَ «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ قَالَ لَا،
وَأَنْ تَعْتَمِرَ فَهُوَ أَفْضَلُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ:
حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، هَكَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ
الْكَرْخِيِّ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ: حَدِيثٌ
حَسَنٌ لَا غَيْرُ. قِيلَ هُوَ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ
الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ هَذَا فِيهِ مَقَالٌ. وَقَدْ
ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْقِرَانِ مَا فِيهِ وَأَنَّهُ لَا
يَنْزِلُ بِهِ عَنْ كَوْنِ حَدِيثِهِ حَسَنًا وَالْحَسَنُ
حُجَّةٌ اتِّفَاقًا، وَإِنْ قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إنَّ
الْحَجَّاجَ بْنَ أَرْطَاةَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ فَقَدْ
اتَّفَقَتْ الرُّوَاةُ عَنْ التِّرْمِذِيِّ عَلَى تَحْسِينِ
حَدِيثِهِ هَذَا، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ، وَأَخْرَجَهُ
الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالدَّارَقُطْنِيّ بِطَرِيقٍ
آخَرَ عَنْ جَابِرٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَضَعَّفَهُ.
وَرَوَى عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ»
وَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ، وَقَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ إنَّهُ
مُرْسَلٌ رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي
صَالِحٍ مَاهَانَ الْحَنَفِيِّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -، وَتَضْعِيفُ عَبْدِ الْبَاقِي وَمَاهَانُ
اعْتَرَضَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ فِي الْإِمَامِ
بِأَنَّ عَبْدَ الْبَاقِي بْنَ قَانِعٍ مِنْ كِبَارِ
الْحُفَّاظِ وَبَاقِي الْإِسْنَادِ ثِقَاتٌ،
(3/140)
قَالَ (وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ)
وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَابِ التَّمَتُّعِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَعَ أَنَّ الْمُرْسَلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا
كَلَامُنَا عَلَى التَّنَزُّلِ.
قَالَ: وَتَضْعِيفُ مَاهَانَ غَيْرُ صَحِيحٍ، فَقَدْ وَثَّقَهُ
ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى عَنْهُ جَمَاعَةٌ مَشَاهِيرُ
وَذَكَرَهُمْ. وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ وَفِي سَنَدِهِ مَجَاهِيلُ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ
عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ
«الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَفِيهِ عَمْرُو
بْنُ قَيْسٍ. قَالَ فِي الْإِمَامِ: مُتَكَلَّمٌ فِيهِ اهـ.
وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يُخْرِجُ حَدِيثَهُ عَنْ الْحَسَنِ
فَلَا يَنْزِلُ عَنْ مُطْلَقِ الْحُجِّيَّةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ
أَبِي شَيْبَةَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ سَعِيدِ
بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ
قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -: " الْحَجُّ فَرِيضَةٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ "
وَكَفَى بِعَبْدِ اللَّهِ قُدْوَةً. فَبَعْدَ إرْخَاءِ
الْعِنَانِ فِي تَحْسِينِ حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ تَعَدُّدُ
طُرُقِهِ يَرْفَعُهُ إلَى دَرَجَةِ الصَّحِيحِ عَلَى مَا
حَقَّقْنَاهُ، كَمَا أَنَّ تَعَدُّدَ طُرُقِ الضَّعِيفِ
يَرْفَعُهُ إلَى الْحَسَنِ؛ لِضَعْفِ الِاحْتِمَالِ بِهَا،
وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَقَامَ رُكْنُ الْمُعَارَضَةِ،
وَالِافْتِرَاضُ لَا يَثْبُتُ مَعَ الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّ
الْمُعَارَضَةَ تَمْنَعُهُ عَنْ إثْبَاتِ مُقْتَضَاهُ، وَلَا
يَخْفَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - الْفَرْضُ الظَّنِّيُّ وَهُوَ الْوُجُوبُ
عِنْدَنَا، وَمُقْتَضَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَنْ لَا يَثْبُتَ
مُقْتَضَى مَا رَوَيْنَاهُ أَيْضًا؛ لِلِاشْتِرَاكِ فِي
مُوجِبِ الْمُعَارَضَةِ. فَحَاصِلُ التَّقْرِيرِ حِينَئِذٍ
تَعَارُضُ مُقْتَضَيَاتِ الْوُجُوبِ وَالنَّفَلِ فَلَا
يَثْبُتُ وَيَبْقَى مُجَرَّدُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ، وَذَلِكَ
يُوجِبُ السُّنِّيَّةَ فَقُلْنَا بِهَا، وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
[فُرُوعٌ] وَإِنْ اُسْتُفِيدَ شَيْءٌ مِنْهَا مِمَّا تَقَدَّمَ
فَإِنِّي لَا أَكْرَهُ تَكْرَارَهَا، فَإِنَّ تَعَدُّدَ
الْمَوَاقِعِ يُوَسِّعُ بَابَ الْوِجْدَانِ وَهُوَ
الْمَقْصُودُ. إحْرَامُ فَائِتِ الْحَجِّ حَالَ التَّحَلُّلِ
بِالْعُمْرَةِ إحْرَامُ الْحَجِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يَصِيرُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْمَفْعُولُ
أَيْضًا أَفْعَالُ الْحَجِّ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؛
لِأَنَّهُ حِينَ عَجَزَ عَنْ الْكُلِّ فَإِنَّهُ يَتَحَلَّلُ
بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ. الثَّابِتُ شَرْعًا التَّحَلُّلُ
بَعْدَ الْوُقُوفِ لَا قَبْلَهُ، وَلَا تَحَلُّلَ إلَّا
بِطَوَافٍ بَعْدَ فَوَاتِ وَقْتِ الْوُقُوفِ، فَلَوْ قَدِمَ
مُحْرِمٌ بِحَجَّةٍ فَطَافَ وَسَعَى ثُمَّ خَرَجَ إلَى
الرَّبَذَةِ مَثَلًا فَأُحْصِرَ بِهَا حَتَّى فَاتَهُ الْحَجُّ
فَعَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ، وَلَا يَكْفِيهِ طَوَافُ
التَّحِيَّةِ وَالسَّعْيِ فِي التَّحَلُّلِ حَتَّى لَوْ كَانَ
قَارِنًا، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ
قَضَاءُ عُمْرَتِهِ الَّتِي قَرَنَهَا؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا،
وَإِنْ كَانَ قَارِنًا وَلَمْ يَطُفْ شَيْئًا حَتَّى فَاتَهُ
يَطُوفُ الْآنَ لِعُمْرَتِهِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ
وَيَسْعَى، وَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَهَا،
وَإِنَّمَا يَقْطَعُهَا إذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ الَّذِي
يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ.
وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَمَكَثَ حَرَامًا حَتَّى دَخَلَتْ
أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ فَتَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ
حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا، وَهَذَا
مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْرَامَ حَجِّهِ بَاقٍ، إذْ لَوْ
انْقَلَبَ إحْرَامَ عُمْرَةٍ كَانَ مُتَمَتِّعًا إذْ لَا
يَمْنَعُ مِنْ التَّمَتُّعِ تَقَدُّمُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ
عَلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ بَعْدَ أَنْ أَوْقَعَ أَفْعَالَهَا
فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيْسَ لِفَائِتِ الْحَجِّ أَنْ
يَحُجَّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ قُلْنَا بِبَقَاءِ
إحْرَامِ حَجٍّ، حَتَّى لَوْ مَكَثَ مُحْرِمًا إلَى قَابِلٍ
لَمْ يَفْعَلْ أَفْعَالَ عُمْرَةِ التَّحَلُّلِ، وَأَرَادَ
أَنْ يَحُجَّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ إحْرَامِ
حَجِّهِ تَغَيَّرَ شَرْعًا بِالْفَوَاتِ فَلَا يَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ غَيْرُ مُوجِبِهِ، فَلَا يَتَمَكَّنُ أَبُو يُوسُفَ
فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا عَلَى صَيْرُورَتِهَا إحْرَامَ
عُمْرَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي وُجُوبِ
(3/141)
الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ أَنْ
يَجْعَلَ ثَوَابَ عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ صَلَاةً أَوْ صَوْمًا
أَوْ صَدَقَةً أَوْ غَيْرَهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ
وَالْجَمَاعَةِ، لِمَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ
أَمْلَحَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
التَّحَلُّلِ بِعُمْرَةٍ بَيْنَ كَوْنِ الْفَوَاتِ حَالَ
الصِّحَّةِ أَوْ بَعْدَمَا فَسَدَ بِالْجِمَاعِ. وَلَوْ
فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَهَلَّ بِأُخْرَى طَافَ لِلْفَائِتَةِ
وَسَعَى وَرَفَضَ الَّتِي أَدْخَلَهَا؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ
التَّحَلُّلِ بِالْعُمْرَةِ جَامَعَ بَيْنَ إحْرَامَيْ
حَجَّتَيْنِ، وَعَلَيْهِ فِيهَا مَا عَلَى الرَّافِضِ.
وَلَوْ نَوَى بِهَذِهِ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا قَضَاءَ
الْفَائِتَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِهْلَالِ شَيْءٌ
سِوَى الَّتِي هُوَ فِيهَا؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَعْدَ
الْفَوَاتِ بَاقٍ، وَنِيَّةُ إيجَادِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ
لَغْوٌ فَيَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَيَقْضِي
الْفَائِتَ فَقَطْ، فَلَوْ كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ رَفَضَهَا
أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ عُمْرَتَيْنِ إحْرَامًا
عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَمَلًا عَلَى قَوْلِهِمَا.
وَلَوْ أَهَلَّ رَجُلٌ بِحَجَّتَيْنِ فَقَدِمَ مَكَّةَ وَقَدْ
فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا
بِعُمْرَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّرْكِ وَالشُّرُوعِ رَفَضَ
إحْدَاهُمَا، وَالتَّحَلُّلُ بِالْعُمْرَةِ إنَّمَا يَجِبُ
لِغَيْرِ مَا رَفَضَ وَذَلِكَ وَاحِدَةٌ. |