فصول البدائع في أصول الشرائع

الفاتحة:
في أربعة مقدمات الشروع بالبصيرة في العلم، وللمقام تمهيدات:
1 - أن كل علم في الأصل مسائل كثيرة تضبطها جهةً واحدةً ذاتيةً هي خصوصية بحثها عن الأعراض الذاتية لشيءٍ واحدٍ حقيقية أو اعتبارية هو موضوعه وباعتبارها وضع علمه بإزائه أو عرضية تلزمها.
2 - أنه لكون موضوع المسائل عائدًا إلى موضوعه والبرهنة عليها موقوفة على تصورات وتصديقات بينة تسمى علومًا متعارفة أو مسلمة ها هنا مبينة في علم أعلى من جنسه أو خلافه إن كان وتسمى مصادرات أو محققة عند روم التحقيق لكن بوجه لا يتوقف عليها لئلا يدور وإن لم يكن أعلى ففي ذلك العلم اصطلاحًا، وقيل: أوفى أدنى لكن لا على وجه الدور وهو الحق وهي المبادئ جزءين له في وضع ثان بخلاف مقدمات الشروع لتقدمها بمرتبتين.
3 - أن الاطلاع على ذاتيات الماهيات صعبةٌ أما الحقيقة فمطلقًا وأما الاعتبارية فبالنسبة إلى غير المعتبر فلذلك نظروا في الآثار الفائضة عنها واشتقوا منها ما يحمل على الماهية وجعلوا المستتبع العام جنسًا والخاص فصلًا، وإن لم يعلم ذاتيتها وتابعيها عرضًا

(1/9)


عامًّا وخاصة فماهية العلم لكونها اعتبارية جعل تعريفها بالوحدة التي اعتبرها واضع علمه حدًّا له فجعل الموضوع كمادته والعرض الذاتي كصورته وأخذ باعتبارهما محمولان هما كونه علمًا بالموضوع وعلمًا به من الحيثية المخصوصة أو معلومًا هو الموضوع والحيثية المخصوصة إن كان العلم بمعنى المعلوم فجعلا جن سًا وفصلًا كالحيوان من بدن الإنسان والناطق من نفسه وتعريفها بالجهة العرضية المميزة المشتملة على شروط القبول رسمًا فمن مقدمة الشروع ما هو حد لكون التحديد بالأجزاء العقلية لا الخارجية حتى يمتنع فذات المسائل كأعضاء زيد وليس التحديد بها.
4 - إن كل طالب كثرة كذلك حقه عقلًا أن يعرفها بتلك الجهة ليأمن فوات ما يعنى وضياع وقته فيما لا يعني. فنقول: فحق كل طالب علم أن يعرفه بإحدى الجهتين ليكون على بصيرة في شروعه، أي: بعد تحصيل معرفة إجمالية بجميع مسائله فيأمن الأمرين وفائدته لأمور.
1 - أن يجزم بأن طلبه ليس عبثًا سواء فسر العبث بما لا فائدة فيجوز انتقاؤه عن فعل الموجب والمختار والغرض هي الفائدة المقصودة أو بما لا يقصد به فائدة ما ففعل الموجب عبث دون المختار سواء كانت الفائدة غرضًا إن لم يمكن تحصيلها إلا بذلك الفعل أولًا إن أمكن كفعل المختار عندنا، وإن كانت الفائدة عائدة إلى العباد دفعًا للاستكمال.
2 - أن يزداد جده إذا كانت الفائدة مهمة.
3 - أن لا يصرف فيه وقته إذا لم يعجبه وموضوعه لأمرين:
1 - أن يحصل له البصير الكاملة بالتميز الذاتي فإن اشتمل تعرفه عليه جاز الاكتفاء بالذكر الضمني وإلا فحقه التصريح بالتصديق لموضوعيته.
2 - أن يتميز المقصود بالذات عن المقصود بالعرض ليهتم به أكثر منه واستمداده الإجمالي أنه من أي علم يستمد ليرجع إليه عند روم تدقيق التحقيق، وإنما لم يجعله من المبادئ لأن البرهنة على المسائل لا تتوقف بعد معرفة المبادئ التفصيلية على بيان أنها من على كذا.

المقصد الأول في معرفة الماهية
لأصول الفقه معنيان إضافي حده بيان أجزائه المضاف والمضاف إليه والإضافة من حيث يصح تركيبها.

(1/10)


فالأصل في اللغة ما يبتني عليه غيره حسيًا كالبناء على الأساس أو عقليًا كالمعلول على علته والمنقول على المنقول عنه والمشتق على المشتق منه والجزئي على القاعدة الكلية ثم أطلق على الدليل والراجح والمستصحب والقاعدة بخصوصيتها (1).
وقيل: وعلى المحتاج إليه (2) فيحتمل أن يكون عرفًا للبعض ولا تشاح فيه يورد أنه غير مانع للفاعل والصورة والغاية والشروط وإن سلم عدم جواز التعريف بالأعم (3).
والفقه: قيل: معرفة النفس ما لها وما عليها (4)، فالمعرفة لكونها إدراك الجزئيات عن دليل يخرج التقليد وما لها وعليها ما أن يراد بهما ما ينتفع وما يتضرر به في الآخرة كالثواب وعدمه أو لعدم العقاب ووجوده وإما أن يراد ما يجوز وما يحرم وأيًّا ما كان فإن أريد عمومهما للاعتقاديات والوجدانيات اكتفى به وألا يزاد عملًا للاحتراز عنهما واحتمال المعاني الصحيحة يكفي لتصحيح لما قيل لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سواءًا ما وجدت لها محملًا صحيحًا.
وقيل: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية (5) فالعلم وسيجيء تفسيره كالجنس لما مر أنها ماهيةٌ اعتباريةٌ وإلا كان جنسًا وخرج بالأحكام العلم بالحقائق والصنائع.
والمراد بها ها هنا النسب الحكمية بين الأشياء الخمسة، وأفعال المكلفين التي هي مورد الإيجاب والسلب لأنفسهما ليكون العلم بها تصديقات، ولا المفسر بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء والتخيير أو ليندرج الوضعي كالتكليفي وهو الخطاب بتعلق شيء بشيء بالدليلية أو السببية أو الشرطية أو المانعية أو نحوها وذلك لئلا يورد تارة على تعريف الحكم بأن الحكم ما ثبت بالخطاب لا عينه فيجاب بأن المراد بالخطاب
__________
(1) قاله أبو الحسن البصري في شرح العمد. انظر / المعتمد لأبي الحسن البصري (1/ 5).
(2) قاله الإِمام فخر الدين الرازي في المحصل والمنتخب، وتبعه صاحب التحصيل. انظر / المحصول للرازي (1/ 9)، نهاية السول للإسنوي (1/ 7).
(3) والثالث: ما يستند تحقيق الشيء إليه، قاله الشيخ سيف الدين الآمدي في الإحكام ومنتهى السول. انظر إحكام الأحكام للآمدي (1/ 8).
والرابع: ما منه الشيء، قاله صاحب الحاصل.
والخامس: منشأ الشيء، قاله بعضهم انظر / نهاية السول للإسنوي (1/ 7).
(4) قاله صدر الشريعة. انظر / التنقيح ومعه التلويح على التوضيح (1/ 10).
(5) انظر / المحصول للرازي (1/ 10)، المستصفى لحجة الدين الغزالي (1/ 4)، المعتمد لأبي الحسين البصري (1/ 4)، نهاية السول للإسنوي (1/ 22).

(1/11)


أيضًا ما ثبت به أو الحكم إيجاب وإطلاقه على الوجوب مجاز أو هو عين الوجوب بالذات، وإن كان غيره بالاعتبار وبأن الخطاب قديم والحكم حادث كالحل بالنكاح فيجاب تارةً بأن الحادث تعلق الحكم بفعل المكلف لا عينه، وطورًا بأن الحادث ظهوره وإن قدم تعلقه أيضًا وبخروج فعل الصبي فيجاب بأن تعلق الخطاب به باعتبار وليه ولا حكم فيما لا حكم على وليّه، وأخرى على حد الفقه بلزوم تكرار الشرعية فيجاب بأنه تعريف للحكم الشرعي وبخروج ما ثبت بالقياس والإجماع والسنة، فيجاب بأن كلًا منها كاشف عن الخطاب وبخروج نحو آمنوا ولزوم التكرارِ بين العملية والأفعال ويجاب عنهما بأن المراد بالأفعال ما يتناول الجوارح والقَلب وبالعملية ما يخصها فإن كل ذلك تكلف مستغنى عنه.
وخرج بالشرعية العقلية كالتماثل والاختلاف والحسية كحرارة النار والاصطلاحية كرفع الفاعل.
وبالعملية الاعتقادية إذ تسمى أصلية وكلامية كوجوب الإدمان وحجية الإجماع وليست من مسائلنا لأنه إثبات الموضوع والوجدانية كالأخلاق فإنها ملكات لا تتعلق بالمباشرة فهي أولى من الفرعية إلا أن يترادف بينهما اصطلاحًا وبالأخير أصول الفقه كالعلم بوجوب المأمور والخلاف كالعلم عن المقتضى والنافي وعلم المقلد.
وقوله قول مقلدي وظنونًا ليس بدليل أو ليس بتفصيلي والمراد العلم بلا واسطة إذ به الاستناد إلى الأدلة الأربعة عنده، وكذا علم الرسول وجبريل عليهما السلام لأن علمهما بالضرورة لا عن الأدلة، وربما قيل: هما عن الأدلة كوجوب الصلاة من {أَقِمِ الصَّلاةَ} [الإسراء: من الآية 78] لأنه من الغيب الذي لا ينفذ فيه ابتداء إلا علم الله لكن لا بالاستدلال لأن المؤيد من عند الله لا يحتاج إلى النظر بل بتوجه النفس أو الحدس أو قضايا قياساتها معها، فالمراد بعلم الرسول ما عدا مجتهداته إن جوز عليه الاجتهاد فقيد بالاستدلال احترازًا عنهما ومن فهمه مما قبله إما بالالتزام فذكره مقتضى صناعة التحديد أو دفع وهم الشمول، وإما بالمطابقة فذكره للتأكيد والبيان.
وأما علم الله تعالى فإن كان الكلام النفسي هو المعنى المعبر عنه بالعبارات المختلفة كان الحكم بالنسبة إليه لا عن دليل، وإن كان النظم والمعنى جميعًا كان الحكم إنشاء وهو إيجاد معنى ينظم يقارنه في الوجود، والعلم تابع للمعلوم عندنا فكان علمه عن دليل كعلم الرسول في الخروج بالاستدلال.

(1/12)


وقبل الاختلاف في الاحتياج إلى زيادة قيد الاستدلال فيما إذا تعلق عن الأدلة بالعلم أما إذا تعلق بالأحكام أو الفرعية لأن لها معنى الوصفية فلا.
قلنا لو أريد قيد الحيثية أي العلم بالأحكام من حيث هي متفرعة عن الأدلة لم يكن فرق بين التعلقين وقد يقيد الأحكام بالتي لا يعلم كونها من الدين ضرورةً لإخراج مثل وجوب الصلاة والصوم وليس بصحيح لأنه منه إلا أن يصطلح وربما يزاد عليه قيد انضمام العمل لوجوه:
1 - إن الحكمة التي هي في اللغة العلم مع العمل فسرها ابن عباس - رضي الله عنه - بالفقه.
2 - مقارنة الخير الكثير بها في قوله تعالى {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا} [البقرة: من الآية 269] ولا يقارن العلم إلا بذلك.
3 - دلالة موضع الاشتقاق نحو طبا فقيهًا بذوات إلا بلام.
4 - أنه الفقه مندوب إليه بقوله تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ} [التوبة: من الآية 122] وبالحديث والعلم المجرد عن العمل ليس كذلك بل مذموم لقوله تعالى {كمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: من الآية 176] و {كمَثَلِ الْحِمَارِ} [الجمعة: من الآية 5] و {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: من الآية 2] وبالحديث.
5 - أنه وصفهم بالإنذار المقصود به الحذر ولا يستحق فاعله مدحًا ولا فعله رواجًا إلا بالعمل لقوله تعالى {أَتَأمُرُونَ النَّاسَ} [البقرة: من الآية 44] الآية وعدم اشتراطه في الأمر بالمعروف أمر آخر لا ينافي هذا.
ولما كان ماهية العلم اعتبار انضمام العمل جزءًا من العلم والتحقيق أن كمال العلم بالعمل فالقولان اعتبار المكمل جزءًا وعدمه كما في العمل مع الإيمان ولا مساحة في التسمية لكن الأخير أنسب لغةً وشريعةً.
والفرق على مذهب الحنفية أن الإيمان بدون العمل منجٍ عن عقاب الكفر بالآتية والحديث إلا عند الخوارج والعلم بدونه ليس بمنج عن عقاب الفسق بل يقتضي شدته بالحديث.
وعلى مذهب الشافعية أن الإيمان مبطن له أحكام جارية بين العامة متعدية إلى الكافة فنبط بأمور ظاهرة تدل عليه كالإقرار من جملتها والعمل فعد من أجزائه مثله بخلاف العلم إذ ليس له حكم متعد ليحتاج إلى الأدلة الظاهرة فلم يجعل العمل من أجزائه تحصيل فالأركان عندهم ثلاثة لأنه إن لم يكن مقوّمًا فركن مكمل كالعمل في الفقه عند من يقول

(1/13)


به منا وفي الإيمان عند الشافعية وإن كان مقومًا فأما أبدًا ويسمى ركنًا أصليًا ولازمًا كالتصديق فيه والعمل عند الخوارج وكذا عند المعتزلة إما عدم دخوله في الكفر فلثبوت الواسطة أو في بعض الأحيان ويسمى ركنًا زائدًا كالإقرار فيه حالة الاختيار والنظم في القرآن في غير حالة الصلاة وما يلحق بها عند أبي حنيفة رحمه الله وفي غير حالة الضرورة عندهما ولا مشاحة في الاصطلاح.
وأورد على حدي الفقه بأن المراد بما في الأول وبالأحكام في الثاني أما كلها إن كان للاستغراق والمجموع إنما يراد بالكل المضاف إلى المعرف فأما لام الاستغراق فلكل فرد من أفراد المجموع حقيقة المجموع حقيقة الوحدان مجازًا وأما بعضها إن كان للعهد الخارجي كالأحكام المنصوصة والإجماعية أو الذهني كالنصف أو الأكثر منه كما قيل بجملة غالبة أو مطلق البعض وكذا إن كان للحقيقة لأن حقيقة الجمع أفراد أقلها ثلاثة والمهمل في حكم الجزئي فعلى الأول لا جمع إذ لا فقيه إن كان الاستغراق حقيقيًا أو ليس من قال لا أدري كما لك بفقيه إن كان عُرفيًا بأن أريد كل حكم يقع في الوجوب ويلتفت إليه ذهن المجتهد، وعلى الثاني فيه جهالة إذ لا دلالة ولا إحاطة بالكل أو ليس بمانع المقلد العالم بمثله أو ثلاث عن أدلتها.
وأجيب تارة: باختيار الأول وإرادة الاستغراق العرفي وكون المراد بالعلم التهيؤ القريب له وهو حصول ما يكفي في استعلام كل حكم من معرفة النصوص بمعانيها وسائر شروط الاجتهاد.
ورد بأن لا دلالة للفظ عليه وأن بعض الفقهاء لم يعلموا بعض الأحكام مدة حياتهم كأبي حنيفة - رضي الله عنه - لم يعلم دهرًا وجواز الخطأ في الاجتهاد وأن لا مساغ للاجتهاد في بعضها.
وأجيب: بأن الدلالة في العلم بالقوة القريبة عرفية وأن عدم العلم في الحالة الراهنة أو الخطأ فيها لا ينافي وجود التهيؤ لجواز أن يكون لتعارض الأدلة أو الوهم مع العقل أو موانع أُخر كعدم تيسير مدة مديدة يقتضيها أو فراغ فيها وأن عدم مساغ الاجتهاد فيما عدا المنصوصة والمجمع عليها مم بدلالة حديث معاذ - رضي الله عنه - (1).
__________
(1) أخرجه الترمذي (3/ 616) - ح (1327)، والدارمي (1/ 72) - ح (168)، وأبو داود (3/ 303) - ح (3592)، والنسائي في الكبرى (3/ 468) - ح (5944)، والإمام أحمد في مسنده (5/ 230) - ح (22060)، والطبراني في الكبرى (20/ 170)، والخطيب في تاريخ بغداد (13/ 368).

(1/14)


وأخرى باختيار أن المراد مطلق البعض وبالعلم اليقين وبالأدلة الأمارات التي يمكن التوصل بصحيح النظر فيها إلى الظن بمطلوب خبري واليقين من الأدلة الظنية لا يحصل إلا لمجتهد يفيده ظن الحكم الجزم به في حقه وحق مقلديه أما ظنه الذي هو علة الجزم فوجداني وأما عليته فالإجماع المتواتر على أثر الجزم وهو وجوب العمل والفتوى، أو بأن رجحان المرجوح ممتنع فالأولى وجدانية والثانية ضرورية من الدين والحاصل من المقدمتين القطعيتين وهما هذا مظنوني مجتهدًا وكل ما هو كذلك فهو مجزومٌ به في حق مقلدي قطعي غاية الأمران الثابت قطعية في حقه وحق مقلديه لا في نفس الأمر ولذا لم يقطع بتخطئة المخالف اجتهادًا بالإجماع وجاز توليه مجتهد مخالف وذلك لا ينافي صدق تعلق اليقين به لأن صدق الشيء ببعض الاعتبارات طاف في أصل الصدق ومجزومية الحكم في حقه وحق مقلديه هي المرادة بالحكم بمجزومية وجوب العمل والفتوى لا أن الفقه هو العلم بوجوب العمل بالأحكام الخمسة من حيث تعلقها بأفعال المكلفين وفي حقه لا في نفس الأمر ليضره جواز كون وجوب العمل وجوبًا بما يظن أنه حكم الله تعالى كما في نحو خبر الواحد والتحقيق أن مناط الحكم قد يكون نفس المحل كحرمة لحم الخنزير وقد يكون وصفًا خارجًا كحرمة لحم المذكاة فإذا اشتبه مع لحم الميتة وكون ظن المجتهد مناطًا لقطعية الحكم من القبيل الثاني.
ثم الطعن في الإجماع بأن أدلته سمعية فلا يفيد اليقين وفي الدليل العقلي بالنقض بصور ظن يجب العمل فيها بخلافه كشهادة واحد عدل ليس بشيء لأن الحق أن الأدلة السمعية تفيد اليقين بالقرائن العقلية كتواتر القدر المشترك وأن المظنون يجب العمل به ما دام مطنونًا وعند المعارض الأقوى لم يبقَ مظنونًا. نعم يرد على الثاني أن امتناع رجحان المرجوح في نفس الأمر فيلزم أن يثبت به القطعية في نفس الأمر.
وجوابه: إنما يلزم أن لو كان الرجحان في نفس الأمر وهو ممنوع بل عند المستدل.
فإن رد بأن ما يستنبطه المقلد أيضًا قطعي حينئذ وهو خلاف الإجماع.
يجاب بأنه: إنما يلزم لو كان الرجحان الذي عنده معتبرًا وليس كذلك بالإجماع فما رأيه حتى يكون له عند.
ثم تفسير الأمارات بالأدلة الظنية لا محذور فيه إذا لم يجعل الأحكام الثانية بالأدلة القطعية من الفقه وإن جعلت كما هو الحق فاندراجها أما بأن المراد بالظن الراجح الشامل لجواز المرجوح ولعدمه أو بأن المراد إفادة الأدلة من حيث هي، والسمعية إنما يفيد

(1/15)


العقلية أما الجواب بأن المقلد المتمكن من استنباط الحكم عن الأمارات المراد فقيه ففاسد لأن ما يستنبطه إنما يكون علمًا لو أجمع على أثره وهو وجوب العمل موجب ظنه وليس كذلك وبأن المقلد فقيه وقول إمامه أمارة أفسد لأن التقليد ليس بحجة كالإلهام والأمارة حجة وإن سلم فكونه أمارة من حيث هو قول إمامه فليس بدليل تفصيلي ولئن سلم فالمراد الأمارات من الأدلة الأربعة.
ولما زعم البعض أن ذلك الإيراد وارد عدل إلى أنه العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها فالعالم ببعض ذلك وغير العالم بشيء منه ليس فقيهًا وكذا على الجواب الأول أن لا تهيؤ بدون معرفتها وهذا المجتهد العالم ببعض الأحكام على الجواب الثاني فالحد متساويان ولا يقدح فيه عدم العلم بما نزل به الوحي ولم يظهر.
واعترض بأنه حينئذ علم بجملة تتزايد بالوحي والإجماع ويتناقص بالنسخ والإجماع على خلف خبر الواحد يومًا فيومًا فليس اسمًا لشيء معين.
وبأنه لا يصدق على فقه الصحابة - رضي الله عنهم - لعدم الإجماع في زمنه عليه السلام وبأنه لا يكون العلم بالأحكام القياسية فقهًا إلا بالنسبة إلى قائسها فهو بالنسبة إلى كل مجتهد شيء آخر.
وبأن الظهور ولو لواحد لا يكفي وإلا لم تكن الصحابة الراجعون إلى عائشة رضي الله عنها مثلًا فقهاء وللأعم الأغلب غير مضبوط.
والجواب على الأولين أن التزايد والتناقص غير قادح في التعين النوعي الكافي وإلا لقد جاء فيما مر أيضًا لأن التهيؤ لا يحصل إلا بمعرفة النصوص الثابتة بمعانيها والمسائل المجمع عليها المتزايدة المتناقصة إن كان وهي المراد.
وعن الثالث أن اعتبار المسائل القياسية لنفسه دور ولغيره للمجتهد لا يجوز.
وعن الرابع بأن ظهور نزول الوحي ثبوته لدى المجتهد في طلب الكل بوجع معتبر شرعًا قطعي كمحكمات الكتاب والسنة المتواترة والمشافه بها أو ظني كغيره منهما.
أو نقول نفس ظهوره لكن لأكثر أهل الحلّ والعقد وذلك مضبوط كالإجماع والأول هو هو.
والإضافة إن كان مضافها دالًا على معنى مشتقًا كان كمكتوب زيدًا وغيره كدق القصار يفيد الاختصاص باعتبار ذلك المعنى وإن لم يدل الأعلى الذات فمطلقًا.

(1/16)


فالمراد بأصول الفقه أدلة تختص دلالتها بالفقه والاختصاص في الإثبات لا في الثبوت وبه الفرق بين غلام زيد وغلام ليس إلا لزيد.
فنقل إلى المعنى اللقبي ووضع بإزاء ما مر من الأقسام وإن لم يصدق عليها قبل النقل.
ولو حمل الأصول على اللغوي بمعنى ما يبتني عليه الفقه شمل الأقسام قبل النقل وهذا أولى لأن الأصل عدم النقل لاحتياجه إلى وضع سابق وتجاوزه إلا عند النظر إلى فوائد العملية.
ولقبي وحده العلم بالقواعد التي يتوصل بها توصلًا قريبًا إلى الاستنباط المذكور (1) فالتوصل القريب لإخراج المبادئ والاستنباط يخرج الخلاف لأن قواعده موصلة إلى حفظ المستنبط وهدية لا إلى الاستنباط، إذ لا نظر له في خصوصيات الأحكام فلا حاجة إلى قيد على التحقيق إلا بالنظر إلى أن بعض نكاته خصصت بالتعمل والحساب لأن قواعده موصلة إلى تعيين المقادير لا إلى استنباط وجوبها أو حرمتها مثلًا والقاعدة هي الأمر الكلي المنطق على جزئياته أي الذي يصلح أن يكون كبرى لصغرى معلومة في الفقه ليثبت المطلوب فالصغرى المعلومة في الفقه إن هذا الحكم مدلول الكتاب أو السنة أو مجمع عليه أو مقيس على كذا بالشروط المعتبرة في كل منها والكبرى المبحوث عنها هنا أن كل حكم كذلك فهو ثابت ولما كان قولنا كذلك فهو ثابت ولما كان قولنا كذلك مشمولًا على شروط استنباط كل حكم من الأحكام الخمسة عن كل من الأدلة اندرج تحته جميع مسائل هذا العلم المتعلقة بالأدلة من حيث الإثبات بها وتعارضها وطلب الثبوت وأما مسائل التقليد والاستغناء فإنما تذكر لكونها في مقابلة الاجتهاد لا لأن كل ما هو قول أمامي فهو واقع عندي مسألة أصولية كما ظن.
وفي تحديد العلوم بحث هو أن كل علم شخص من أشخاصه والشخص لا يحد وجوابه منع أنه شخص بلا نوع أشخاصه ما في العقول لاختلافها بالمحال ولا يرد أن اختلاف المحال لو أثر في الشخص لما تشخص زيد إلا بمحله وكان في محل آخر شخصًا آخر لأن بينهما فرقًا وهو أن تشخص العرض بتحيزه خلاف الجوهر.

المقصد الثاني في فائدته
فائدة: معرفة الأحكام الربانية بحسب الطاقة الإنسانية لينال بالجريان على موجبها
__________
(1) انظر/ المحصول للرازي (1/ 11)، إحكام الأحكام للآمدي (1/ 8)، نهاية السول للإسنوي (1/ 5)، المستصفى للغزالي (1/ 5)، التنقيح دمعه التلويح على التوضيح (1/ 20).

(1/17)


السعادات الدنيوية والكرامات الأخروية قيل لو كانت فائدته معرفة الأحكام لكانت قواعده كافية فيها وليست كذلك بل لا بد من جزء آخر باحث عن الأدلة التفصيلية ليحصل الغرض.
لا يقال الملازمة ممنوعة لأن شأن فائدة الشيء توقفها عليه لا عدم توقفها إلا عليه.
لأنا نقول الأصول جميع قوانين الاستنباط فلا بد أن يكون كافية.
أجيب بأن الأدلة التفصيلية وما يعرضها مندرجة تحتها من حيث هي أدلة وإن لم تكن ملحوظة بخصوصيتها كما أن فائدة المنطق الذي هو جميع قوانين الاكتساب هي صون الذهن عن الخطأ في طرقه ويندرج جميع الطرق تحته من حيث إنها كاسبة وإن لم يلاحظ خصوصيتها.
وتحقيقه أن في الأدلة التفصيلية ثلاث أمور جهات دلالتها على الأحكام وحصول تلك الجهات فيها وأعيانها فالأولى التي هي قوانين الاستنباط معلومة مبينة ها هنا والثانية لا تحتاج إلى البيان والثالثة وظيفة الفقه فلم يذكر من قوانين الاستنباط شيء إلا فيه.

المقصد الثالث في التصديق بموضوعية موضوعه
موضوعية الأدلة السمعية من حيث يستنبط عنها الأحكام الفرعية لأن البحث فيه عن أعراضها التي تلحقها لذاتها أو لما يساويها وهو حملها إما عليه نحو الكلب يثبت الحكم قطعًا أو على نوعه نحو الأمر يفيد الوجوب أو على عرضه الذاتي نحو يفيد القطع أو على نوعه نحو العام الذي خص منه البعض أو على غير ذلك كما سنوفي في موضوعه أما الأعراض أي المحمولات الخارجية اللاحقة للخارج الأعم أو الأخص أو المباين والحق ذكره لأن المراد الوسط في الثبوت وإلا لم تكن المسائل اللاحقة بلا واسطة من المفاسد العلمية.
ولذا قيل التمثيل لمباديء المحمولات أولى فغريبة وكذا اللاحق للجزء الأعم في الصحيح لأنه للعلم الأعلى في الحقيقة.
وقيل: والأحكام من حيث هي ثابتة بها لأنه يبحث فيه من أعراضها الذاتية أيضًا نحو الوجوب ثابت بالأمر والفرضية بقطعي لا شبهة فيه والوجوب القضائي يثبت بما يثبت به الأدائي والقضائي بمثل غير معقول لا يثبت بالقياس.
وقيل: والاجتهاد والترجيح للبحث عن أعراضهما أيضًا والتحقيق أن الإثبات نسبة

(1/18)


بين الأدلة والأحكام بالنسبة إلينا لأن الإثبات في الحقيقة لله تعالى والأدلة أمارات له والنسبة لها تتعلق بالمنتسبين فباعتبار تعلقها بالأدلة تسمى إثباتًا وباعتبار تعلقها بالأحكام تسمى ثبوتًا باعتبار انتسابها إلينا تسمى استنباطًا يقتضي الترجيح عند المعارضة.
ولما كان جواز تعدد الموضوع مما منعه بعض الأئمة كما يجيء وعند القائلين بجوازه الأصل عدمه تقريبًا للضبط وتقليل خلاف الأصل هو الأصل كان تقليل التعدد أولى فالمختار هو الأول لأن جميع مباحثه راجع إلى الإثبات أو النفع فيه كما حققناه وإن اختلفت العبارات وأحكام الأحكام أحكام أعراض الأدلة وأنواع أعراضها فهي في الحقيقة لها وحيثية الإثبات أعم من إثباته ونفيه فيندرج فيها مباحث الأدلة المختلف فيها.

تمهيدات في قواعد الموضوع
الأولى في تعدده قيل يجوز ذلك إذ تتناسب باشتراكها في ذاتي كالخط والسطح والجسم التعليمي المشتركة في جنسها المقدار للهندسة أو عرضي كبدن الإنسان والأغذية والأدوية والأركان والأمزجة وغيرها المشتركة في النسبة إلى الصحة للطب فالجهة الضابطة هي جهة الاشتراك المفيدة للوحدة الذاتية أو الاعتبارية.
وقيل لا يجوز إن لم يكن المبحوث عنه إضافة شيء إلى آخر وإلا لاختلفت المسائل فاختلف العلم كما لو قيل الفقه والهندسة علم واحد وموضوعه فعل المكلف والمقدار.
أما إذا كان إضافة شيء إلى آخر كالإيصال في المنطق والإثبات ها هنا فجاز أن يكون كلا المضافين.
وأورد بمنع لزوم اختلاف المسائل إن أريد عدم تناسبها ومنع اللازم إن أريد تكثرها.
وجوابه أن المراد عدم المناسبة التامة الضابطة للكثرة عند الفهم.
فبيان اللزوم أن جهة البحث هي جهة الوحدة الضابطة للمسائل الرابطة للموضوعات بها لوجوب ملاحظتها في كل مسألة والربط هو المراد بالإضافة.
وبيان بطلان اللازم أن جعل المسائل العديدة علمًا واحدًا بمجرد الاصطلاح ولا بمناسبة ما كيف كانت وإلا لجاز ما مر لمناسبة الأفعال والمقادير في أشياء كثيرة كالعريضة فلا بد من المناسبة التامة الضابطة.
ثم نقول كلما كانت أقرب كانت أضبط ولا شك أن الموضوع إذا اتحد كان الضبط أقرب ما يمكن وتم المناسبة فاختياره أولى تقليلًا لخلاف الأصل وهذا المقدار يكفي في الأمور الاصطلاحية.

(1/19)


والمحققون على أن موضوع الهندسة المقدار والطب بدن الإنسان وتعدادهم أنواعهما قصر المسافة كما نحن فيه.
نعم يرد أن هذا يجري فيما كان المبحوث عنه نفس النسبة أيضًا كما حققناه فيما نحن فيه.
الثاني في قيد حيثية قيل تارة تكون جزء الموضوع نحو موضوع الإلهي الموجود من حيث هو موجود فإن الوجود فيه ليس جهة البحث إذ لا يبحث فيه بأن ذاك موجود وهذا لا بل يمثل العلية والمعلولية والوجوب والإمكان العارضة من جهة الوجود وأخرى يكون جهة البحث بأن تكون بيانًا لنوع أعراضه الذاتية المبحوث عنها وإن كان له نوع آخر منها نحو موضوع الطب بدن الإنسان من حيث الصحة والزوال عنها فإن البحث فيه من هذه الجهة.
ويرد على الأول وجهان:
أن موضوع إلالهي ليس مركبًا من الموجود والوجود وليس البحث عن أعراض هذا المجموع إذ ليس المجموع أمرًا محققًا حتى يبحث عن أعراضه في أعلى العلوم الحقيقية.
2 - أنه لا يلزم من عدم كون الوجود جهة البحث أن يكون جزءًا لجواز أن يكون قيدًا خارجيًا معتبرًا في البحث وذلك هو الحق.
وأورد على الثاني أن الحيثية لو كانت بيانًا للأعراض المبحوث عنها والأعراض مبحوث عنها من تلك الحيثية يلزم تقدم الشيء على نفسه ضرورة تقدم سبب اللحوق عليه.
واجب بأن المراد حيثية الاستعداد لعروضها كحيثية الاستعداد للصحة في الطب وللحركة والسكون في العلم الطبيعي.
وفيه بحث إذ لا يتمشى في مثل قولهم موضوع علم السماء من الطبيعي أجسام العالم من حيث الطبيعة إذ لا يصح تفسيره بحيثية استعداد الطبعة وإن أمكن تأويله بصرف الطبعة إلى تأثيرها.
والحق من الجواب أن حيثية الصحة مثلًا اعتبارها واعتبارها غيرها وليست علة للحوقها بل لجملها والفرق بين اعتبارها في الموضوع والمسائل بأنه في الأول بالعروض وفي الثاني بالجزئية ولو صح حديث الاستعداد لما احتيج إلى الفرق.
الثالث في وحدته لعلمين أو أكثر.

(1/20)


قيل: ممتنعة وإلا لم يتمايزا.
وقيل: جائزة فيما له أعراض متنوعة في كل علم عن نوع منها لأن حقيقة العلم المسائل المركبة من الموضوع والمحمول فكما جاز اختلافه بحسب الموضوع جاز بحسب المحمول وواقعة فإن أجسام العالم موضوع الهيئة التامة من حيث الشكل مثلًا وموضوع علم السماء من حيث الطبعة والحيثية فيهما بيان المبحوث عنه لا جزء الموضوع.
ولما حققنا أن قيد الحيثية لا يكون بيانًا للمبحوث عنها علم أن موضوعهما مختلف بالاعتبار وذلك كاف حتى في نفس المسائل كاشتراكهما في كرية البسيط لكن علم السماء يقيد اللمية والهيئة الآنية فهذا الاختلاف فرع الاختلاف السابق.
الرابع: في شرط إفرازه وجعل أحكامه علمًا برأسه، إفرازه موضوعًا لعلم برأسه يتوقف على أمور:
1 - أن يهتم بشأن معرفة أحكامه لفوائد منوطة بها وإلا فيندرج أحكامه في العلم الأعلى على التفصيل السالف فيما مضى إفراز بدن الإنسان للطب من حيث الصحة وزوالها وبدن الفرس للفروسة من حيث التربية وأشغالها والبزاة لعلمها من حيث تعليمها والأحجار النفيسة من حيث حقيقتها وخاصيتها وتقويمها بخلاف أكثر الأحجار والحيوانات مع أن لكل منها مختصان.
2 - كون أحكامه مشتملة على وحدة جامعة وإلا اختلط العلوم بل والمتباينة وعاد الأمر على موضوعه بالنقض.
3 - كونها أعراضًا ذاتية لئلا يختلط أي لاحقه بلا واسطة أو بالمساوي لا بالأعم وإلا اختلطت بمسائل الأعلى ولا بالأخص وإلا فبمسائل الأدنى فلا بد من كونها مختصة وشاملة.
أما اختصاصها فلتكون مطلوبة منه.
وأما شمولها فأما على الإطلاق كالتحيز للجسم وإثبات أحد الأحكام الخمسة للأدلة الأربعة فيحمل على كليته وأما على التقابل كالحركة والسكون له وإثبات وجوب العلم والهمل أو العمل فقط لها فلا يحمل على كلية أحدهما معينًا بل مرددًا.
ولم يعتبر الواحد المعين حتى يعد من الغريب اللاحق بالأخص لأن الأخص إذا لم يجعل موضوعًا لعلم آخر أدى إلى إهمالها وهي مهتم بشأنها.

(1/21)


إما أنه متى يجعل الأخص موضوعًا لعلم آخر فقيل الأمر الكلي فيه أن لحوقها إن احتاج إلى أن يصير الأخص نوعًا متهيئًا لقبولها كالإنسان لنحو الضحك يفرز علمًا باحثًا عنها وإلا كالتحرك من الحيوان فلا.
وفيه بحث بأن الشق الثاني منقوش بنحو الكيمياء الباحثة عن كيفية تبديل الصور النوعية على هيولى واحدة غير مختص بمعدني أو نباتي أو حيواني والسيمياء الباحثة عن خواص الأجسام والأعراض من حيث ارتباطهما بالمبادئ المؤثرة من حيث التأثير غير مختص بنوع منها وبنحو الهيئة المجردة الباحثة عن أحوال أشخاص البسائط من الفلكيات والعنصريات لا عن أحوال أنواعها الكلية فإنها في علم السماء أو التامة.
والشق الأول يمثل مباحث النفس ومباحث كائنات الجو وغيرهما حيث يحتاج لحوقها إلى أن يصير نوعًا متهيئًا لقبولها لكن لا يعد علمًا مفرزًا إلا إذا اصطلح جديدًا.
فالحق عندي أن الأخص نوعًا كان أو صنفًا أو شخصًا إذا اهتم لبيان أحكامه من حيث هو أخص فإن كان جهة البحث عنها عين جهته عن أحكام الأعم عدت جزءًا منها لا جزئيًا واعتبر شمولها على التقابل ولم يفرز حتى لو أفرز لكان تسامحًا إفراز علم الفرائض من الفقه والكحالة في الطب.
وإن تغايرت جهتا البحث جعل علمًا جزئيًا أدنى إفراز الجسم الطبيعي من مطلق الموجود والطب والثلاثة الآخر منه.
الخامس: في نسبة العلوم وهي إما بالتداخل أي بالعموم والخصوص وبالتباين فترتب العلوم أعلى وأوسط وأدنى بحسب ترتيب موضوعاتها وخصوصًا المكلوم للكلام ثم الكتاب أو السنة للتفسير والحديث.
أما علم القراءة وأسماء الرجال فجزءان منهما لا جزئيان ثم هما للأصول كالإجماع والقياس وكذا تباينها كالفقه للأصول إن جعل موضوعه فعل المكلف وإن جعل الأدلة الجزئية من حيث إثباتها الأفعال الجزئية فجزئي منه فنظير المباين لعلمنا علم الأخلاق.
ففي التداخل إما أن يكون الأخص نوعًا كالهندسة والمجسمات أو نوعًا مع عرض ذاتي كالطبيعي والطب أو غريب غير نسبة كالأكر والأكر المتحركة أو غريب هو نسبة كالمناظر فموضوعها خطوط مضافة إلى البصر.
والتباين إما بالجنس كالطب والهندسة أو بالنوع كالحساب والهندسة أولًا بهما بل باختلاف الجهة كعلم السماء والهيئة وعليك باعتبارها في الشرعيات.

(1/22)


تتمة:
الموضوع إذا تركب من معروض وعارض فإن كان البحث عن أعراضهما معًا يعد العلم مندرجًا تحت مطلق المعروض كما تكرر مثاله وإن كان عن أعراض العارض فقط فتحت مطلق العارض كالموسيقي الباحث عن أعراض النغمة والصوت من حيث العدد العارض عليهما كالاتفاق والاختلاف فيعد مندرجًا تحت الحساب لا تحت الطبيعي.

المقصد الرابع
في أنه يستمد من الكلام والعربية والأحكام (1) فمن الكلام لأن غير الكتاب من الأدلة الشرعية مستندة إليه في الحجية وحجيته موقوفة على معرفة الباري تعالى ليعلم وجوب امتثال ما كلف به بخطاب مفترض الطاعة وهي على معرفة حدوث العالم عندنا سواء كان نفس المحوج أو جزئه أو شرطه.
وهذا التوجيه لا يتوقف على اعتبار حكم السنة باعتبار مبلغية الرسول والإجماع باعتبار سنده حكمًا لله تعالى ولأن حجية الكتاب موقوفة على صدق الرسول المبلغ وهو على دلالة المعجزة المقصود بها إظهار صدق من ادعى أنه رسول الله الموقوفة على شيئين على امتناع تأثير قدرة الله تعالى ليتعذر المعارضة سواء قلنا بأنها ليست مقدورة لرسول أو مقدورة بأقدار الله تعالى فإن ذلك كاف في التصديق وذلك موقوف على بيان أن جمع الأفعال مخلوقة لله تعالى ليكون تصديقًا منه وعلى إثبات أن الله تعالى قادر عالم مريد ليوجد المعجزة على وفق دعوى النبي والقول بأن دلالتها تتوقف على الأشياء الثلاثة بلا واسطة فيه منع.
فهذه مسائل سبعة لا بد من الكلام في معرفتها إذ التقليد في العقبات المقصود فيها اليقين لا يفيد وإلا لاجتمع النقيضان فيها فيما قلد اثنان لا اثنين في النقيضين بخلاف الظنيات التي يجوز فيها أن يطابق نفس الأمر.
وأيضًا يستمد في المنطق وبحث النظر المجعولين جزءًا منه اصطلاحا لما لم يكن في الشرع علم أعلى من الكلام وعدم ذكرهم هنا اكتفاء بالمبادئ التفصيلية كما أن عدم ذكر المسائل السبعة فيها اكتفاء بطهور ثبوتها في الدين كأنها ضرورية أو مفروغ عنها.
ومن العربية لأن الكلب والسنة عربيان.
__________
(1) انظر/ إحكام الأحكام للآمدي (1/ 9 - 10).

(1/23)


ومن الأحكام أن تصورها لأن إثباتها ونفيها للأدلة المقصودين في الأصول نحو الأمر موجب والنهي ليس بموجب وللأفعال في الفروع نحو الوتر واجب والنفل ليس بواجب.
وكذا إثبات شيء لها أو نفيه عنها نحو وجوب الشيء يقتضي حرمة ضده أو لا يقتضيها لا يمكن بدونه فتصور ما يقع في محمولات مسائل العلم ومسائل غايته من المبادئ ومنعه مكابرة لظهور أن البرهنة على مسائله من حيث هي هي ومن حيث يترتب عليها غايتها يتوقف على هذه التصورات.
وفي المنطق كذلك من حيث أنه محمول ما أو واقع في محمول ما وذكره ها هنا أنسب كسائر مباديء الفقه.
ولكن رد الأخيرين إلى الأولين لما مر أن الإسناد إلى الأحكام إسناد إلى الأدلة الموجبة لها في الحقيقة أو المقصود منه إفادة تصورات جزئيات الأحكام ولذا ذكرت في المبادئ.
وليس إثباتها ونفيها في شيء من العلمين من المبادئ ها هنا وإلا دار صريحًا أو مضمرًا لأنهما ها هنا مقصودان لنا وفي الفقه غايتان لنا.
وذكرنا إثباتها أو نفيها في بعض المبادئ الأحكامية مع أنها من مسائلنا حقيقة إنما هو لما مر من تصور جزئيات الأحكام بذلك.
والمراد كان نفي توقف كل أصل على فرع نفسه فالدور لازم وإلا فلزومه مبني على مختار الجمهور وهو عدم جواز تجزي الاجتهاد إذ لا علم بحكم فقهي حينئذ إلا بعد العلم بجميع مسائلنا.

وأما المطلب ففيه مقدمتان