فصول البدائع في أصول الشرائع

الفصل الثاني عشر في حكم المتشابه
وهو التسليم واعتقاد حقيقة المراد علما والتوقف لبدا عمل وهو عبودية لأنها الرضا بفعل الرب والإمعان في الطلب عبادة لأنه فعل يرضي الرب والأولى أولى ولذا تسقط الثانية في العقبي دون الأولى والمراد بالأبد إلى آخر الدنيا لأن انقطاع رجاء بيانه للابتلاء فيختص بداره وينكشف في العقبي وإنما عد من أقسام النظم من حيث يعرف به حكم الشرع ولا يعرف به أصلا لأن حيثية المعرفة أعم من إيجابها وسلبها انجر إليه التقسيم أو يعرف به أن لنا منه اشتد الوجهين بلوى وأن لله شيئا استأثر بعلمه عبر عنه به والفرق بينه وبين المجمل الذي لم يبين بوروده في الاعتقادات وورود المجمل في العمليات غالبا.
تحصيل ما يتعلق بهذه الفصول للخفاء والبيان من الأصول وفيه بابان:

الباب الأول في المجمل
وفيه بحثان:

الأول: قد مرت الإشارة إلى أن الشافعية يسمون كل ما لم يتضح المراد منه أي بعد ما دل وأورد المهمل متشابها ومقابله محكما فكذلك يسمون قسمًا من المتشابه مجملا لا يعرف قبل البيان من المجمل وبعده مبينا فقيل في تعريفه ما له دلالة غير واضحة فيتناول القول والفعل والمشترك والمتواطئ إذا أريد به واحد من أفراده لا الحقيقة.
وهذا يقتضي الترادف بينه وبين المتشابه مع أن المتشابه مشترك بينه وبين المؤول كما مر فهو قسم منه قسيم للمؤول فإن التشابه عندهم بالدلالة على شيئين أو أكثر فحين التساوي جمل وعند مرجوحية أحدهما مؤول كما أن الراجح لكن لا يرد الظاهر لأن دلالته واضحة ولذا عدوه كالنص قسما في المحكم.
وقيل هو اللفظ الذي لا يفهم منه عند إطلاقه شيء ولام اللفظ للعهد وإلا فالنكرة كافية للتعريف والأصل عدم الزيادة فلا يرد على طرده المهمل ولا المستحيل إذا أريد بالشيء اللغوي ولا على عكسه المشترك الدائر بين المعنى بناء على أنه يفهم منه أحد محامله لا بعينه لأن المراد فهم الشىء على أنه مرادًا نعم يرد الفعل لوعد مجملا كالقيام من الركعة الثانية من غير تشهد يحتمل الجواز والسهو إذ ليس لفظا إلا أن يقال أريد تعريف المجمل الذي من أقسام المتن اللفظ.
وقال أبو الحسين: ما لا يمكن معرفة المراد منه قيل الجار متعلق بالمعرفة لا بالمراد وإلا لم يصدق على مجمل لإمكان معرفة كل مجمل بالبيان لكن المعرفة من البيان منه فيرد

(2/105)


على طرده المشترك المقرون بالبيان إذْ ليس بمجمل وكذا المجازيين أولا فالمعرفة فيهما ليست منهما بل من البيان لو كان ويمكن أن يقال المشترك مجمل من حيث هو وذلك كاف في الصحة؛ لأن قيد الحيثية مراد في مثله ولا نعلم أن المتردد بين المعاني المجازية مع الصارف على الحقيقة ليس محملا فالأوضح ما مر لهم أما المجمل ما تساوى دلالته بين المعنين أو أكثر والأصح ما مر.
لنا: أنه ما لا يدرك مراده مع رجائه إلا بالاستفسار إما لغرابة أو تغيير في مفهومه اللغوي أو تساو فالمبين ما يقابله ولا يختص بمقابلته.

الثاني: فيما اختلف في إجماله:
1 - التحريم المضاف إلى العين نحو: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] حقيقة وعند العراقيين مجاز من حذف المضاف أو التعبير بالمحل لأن تعلقه بالمقدور وهو الفعل ثم منهم من ذهب إلى إجماله كالكرخي منا وأبي عبد الله البصري والبهشمية إذْ لا يضمر الجميع لأن الضرورة تندفع بالبعض ولا أولوية بين الأبعاد.
قلنا: لا نعلم التجوز إذْ المراد أحد نوعي الحرمة وهو حرمة المحل أعني خروجه من محلية الفعل أعني خروجه من الاعتبار شرعًا كالمنهي الفساد والمنع عن شرب الماء الموجود والحماية ويعبر عنهما بالحرمة العينية والغيرية فالمنع في الأول أوكد فإلحاقه بالثاني غلط ولئن كان مجازا فالعرف يعين المراد كالأكل من الميتة والشرب في الخمر والتمتع في النساء فلا إجمال.
2 - نحو: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" (1)، "وإنما الأعمال بالنيات" (2) مما يراد به لازم من لوازمه وإلا لزم الكذب وهو الحكم لأنه مبعوث لبيانه مجمل بعد التجوز لكونه مقولا شرعا على الدنيوي كالصحة والفساد والأخروي كالثواب والعقاب وهما مختلفان حقيقة ومحلا ومقصودًا ومناطًا فقط ببط الأول بتحقيق ما يتوقف عليه، والثاني بصحة العزيمة؛ ولذا يفترقان إجماعا في ظن تحققه وإلا فلا يرادان معا وإلا لتلازما فيتحققا معا في الأول وينتفيا معا في الثاني وحينئذ إن أريد بالأعمال مثلا ما صدق عليه الحكم على التعين مجازا من الثواب أو الصحة صار مشتركا وهو مراد فخر الإِسلام فلا بحث فيه.
وإن أريد مطلق الأثر الثابت بها صار في حكم المشترك أو صار حكم العمل مشتركا بين حكم عزيمته وحكم تحقق ما يتوقف عليه فصار مجملا وحين أريد الأخروي اتفاقا
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.

(2/106)


إذ المؤاخذة بالخطأ ليست ممتنعة في الحكمة بدليل: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286] لم يرد الدنيوي لما مر عندنا ولعدم عموم المجاز عنه فلم يصح تمسك بالأول على عدم فساد الصلاة بالكلام ناسيا والصوم بالإفطار مخطئا وبطلان طلاق المخطئ وبالثاني على اشتراط نية الوضوء وقال البصري بأن لا إجمال في حديث الرفع لأن العرف عين إرادة رفع العقاب كقول السيد لعبده رفعت عنك الخطأ والضمان بإتلاف مال الغير جبر المتلف لا العقاب إذ لا يقصد به الزجر كما في الصبي.
قلنا العرف مشترك إذْ لا نعلم إرادة رفع العقاب في كل موضع فإنه بعد ترتيب الوعد كللى أمر له شروط أو منافيات قد يراد برفع الخطأ الاعتداد في الشروط بما عدمت فيه وفي المنفيات بما وجدت فيه خطأ في ترتب الوعد من غير تعرض لترتب الوعيد أصلا.
تنبيه: من لم يفرق بين المقتضي والمحذوف من أصحابنا كأبي زيد جعل الحكم مقتضى فبنى على أن لا عموم له عندنا لا عند الشافعي رضي الله عنه وفيه التقصي عن تكلف إثبات الاشتراك أو حكمه.
3 - المسح في حق المقدار مجمل خلافا لغيرنا كمالك والقاضي وابن جني لأن مسح الرأس لغة مسح الكل، والشافعي وعبد الجبار وأبو الحسين البصري للعرف الطارئ على أطرقة للبعض فالمشهور من أن مسح بعض الرأس واجب وكله سنة وبعضهم على أن الواجب مطلقه.
قلنا: ما دخل عليه الباء لا يراد استيعابه عرفا كما مر أما الآلة فلأن المقصود منها مقدار ما يتوسل به وأما غيرها فلأن دخول الباء لتشبيهه بها نحو مسحت يدي بالمنديل والحائط ورأس اليتيم فلا فرق بينهما في ذلك كما ظن وحمله على الصلة خلاف الأصل وبعد انتفاء الكل فليس المراد مطلق البعض بما سلف من الوجوه.
4 - نحو قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بطهور"، "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، "لا نكاح إلا بولي"، "لا صيام لمن لم يبيت"، مما ينفي الفعل والمراد صفته لا إجمال فيه بين نفي الصحة ونفي الكمال خلافا للقاضي.
لنا أنه إن ثبت عرف شرعي في نفي الصحة أو عرف لغوي في نفي الفائدة نحو لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد ولا طاعة إلا لله فلا إجمال وإن انتفيا فالأولى حمله على نفي الصحة إلا لدليل كالإجماع في "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" ولزوم النسخ في لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب عندنا لأنه كالعدم في عدم الجدوى قكان أقرب المجازين إلى الحقيقة المتعذرة وظاهرا فيه فلا إجمال وهذا ترجيح له أن العرف الشرعي

(2/107)


مشترك قلنا لا نعلم بل ذلك للاختلاف في الظهور يعني أنه ظاهر عند كل في واحد ولا قائل بالتردد ولئن سلم التردد فنفي الصحة راجح بأنه أقرب إلى نفي الذات.
5 - قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] مجمل في حق مقدار ما يجب قمه خلافا للأكثر، لنا أن إرادة كل اليد وبعضها المطلق منتفيان بالإجماع لا بالخبر إذ لا يزاد به على خاص الكتاب فلا بد من مقدار بينة خبر الواحد.
قالوا أولا اليد حقيقة في جملة العضو إذْ الأصل خلاف الاشتراك والقطع في الإبانة فلا إجمال. قلنا: بل المعاني الثلاثة مشتركة في الاستعمال وغلبته وذلك آية الاشتراك ولئن سلم فالمراد إجماله بعد العلم بعدم إرادة الكل والبعض المطلق كما مر، وثانيا إنما يكون مجملا لوكان مشتربما بين الكل لا متواطئا فيها ولا حقيقة في أحدها ومجازا في الباقي ووقوعه واحد لا بعينه من اثنين أقرب من وقوع ثالث بعينه فيغلب ظن عدم الإجمال.
قلنا: إثبات اللغة بالترجيح ونفي لمطلق الإجمال في محل النزاع أما ما يثبت إجماله بدليل آخر فلا.
6 - اللفظ المستعمل تارة في معنى وأخرى في معنيين إذا لم يثبت ظهوره في أحد الاستعمالين مجمل خلافا لشرذمة.
قلنا: إثبات اللغة بالترجيح بكثرة الفائدة على أنه معارض بأن الموضوع لواحد أكثر ففيه أظهر فيتعارضان. وثانيًا: إجماله عند الاشتراك لا التواطؤ والتجوز ووقوع المبهم أقرب. قلنا: مر جوابه.
7 - قيل: اللفظ الذي له معنى لغوي ومحمل شرعي إذا صدر من الشارع ليس مجملا بل يتعين الشرعي محملا لأنه بعث لتعريف الأحكام الشرعية لا الموضوعات اللغوية فقوله عليه السلام "الطواف صلاة" (1) يراد به كهي في اشتراط الطهارة لا أنه يسمى صلاة لغة.
قلنا: الكلام فيما لم يتضح دلالته على الشرع ولئن سلم فلا يراد ظاهره إذ ليس صلاة حقيقة وفي المجازات كثير لاحتمال إرادة أنه كهي في الفضلية واحراز الثواب وكونه إمارة الإيمان وشيء منها غير متعين على أن حمله على اشتراط الطهارة يؤدي إلى نسخ خاص الكتاب.
__________
(1) أخرجه ابن الجارود في المنتقى (1/ 120) ح (461)، والحاكم لما مستدركه (1/ 630) ح (1686) والدارمي (2/ 66) ح (1847)، والبيهقي في الكبرى (5/ 85) ح (9074)، وأبو يعلى في مسنده (4/ 467) ح (2599).

(2/108)


8 - اللفظ الذي له مسمى لغوي وشرعي بناء على الحقائق الشرعية كالنكاح في الوطئ والعقد إذا صدر عن الشارع ظاهر في الشرعي مطلقا وقيل مجمل وقال الغزالي في النهي مجمل كما عن صوم يوم النحر وفي الإثبات ظاهر فيه كقوله عليه السلام: "إني إذا لصائم" (1) بعد سؤاله عن عائشة رضي الله عنها أعندك شيء فقالت لا وقيل في الإثبات بالشرعي وفي النهي باللغوي فلا إجمال.
لنا: ظهور إطلاق المستعمل في متعارفه فلا يسمع تمسكهم بصلوحه لهما بعد وضوح اتضاحه وفرق الغزالي بأن النهي لو كان شرعيا لكان صحيحا والنهي لا يدل على الصحة ولا دليل عليهما غيره إجماعا فيكون مجملا بين المجاز الشرعى والحقيقة اللغوية والجواب بأن الشرع ليس الصحيح شرعا بل ما يسميه الشارع به من الهيآت قد استفيد فساده من باب النهي بل الحق منع أن النهي لا يدل على الصحة.
ومن يعلم جواب الرابع فإنه لما لم يمكنه حمله في النهي على الشرعي حمله على اللغوي فالرد والتحقيق كما سلف.

الباب الثاني في المبين
وفيه مباحث مشتركة ومقاصد مختصة:

المبحث الأول
أن البيان يطلق على التبين وهو الإظهار كالسلام على التسليم من بان أي ظهر أو انفصل وهو الغالب كما قال تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] أي إظهار ما في الضمير بالمنطق المعرب عنه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] وقال عليه السلام: "إن من البيان لسحرا" فاختاره أصحابنا ويناسبه تعريف الضمير في الإخراج من خبر الأشكال التي حيز التجلي والوضوح وما أورد عليه من البيان الابتدائي ومجازية لفظ الحيز في الموضعين والتكرار في الوضوح مناقشات واهية لأن مقتضي الإخراج عرفًا تجويز الإشكال لا وقوعه نحو ضيق فمم الركية.
ويجوز التجوز في الحدود إذا اشتهر والترادف للتوضيح فإنه محل البيان وقد يطلق على ما به التبين ولذا عرف القاضي والأكثرون بأنه الدليل وعلى محل التبيين وهو المدلول ولذا عرفه عبد الله البصري بأنه العلم عن الدليل.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 329) ح (2455)، والنسائي في الكبري (2/ 116) ح (2638)، وعبد الرازق في مصنفه (4/ 277) ح (7764)، والطرني في الأوسط (7/ 233) ح (7364).

(2/109)


قلنا البيان بيان علم به السامع فاقرا ولم يعلم قاصرا إذ لو كان علمًا لم يكن النبي مبينا للكل وقد قيل لتبيين للناس ما نزل إليهم.

المبحث الثاني
وجوه تقسيمه:
1 - انه إما مفرد أو مركب مع أقسامها ويتضح بتنويره فيما يقابله من المجمل فإن الإجمال اما مفردا كالمشترك المتردد أصالة كالعين أو إعلال كالمختار يحتمل الفاعل والمفعول وإما في مركب إما بجملته نحو: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يحتمل الزوج والولي أو في مرجع الضمير منه كمَا يحكى عن ابن جريح أنه سئل عن أبي بكر وعلى رضي الله عنهما أيهما أفضل فقال أقربهما إليه فقيل من هو قال من بنته في بيته فأجمل فيهما أو مرجع الصفة تجوز طبيب ماهر لتردده بين مطلق المهارة والمهارة فيه أو في تعدد المجازات مع الصارف عن الحقيقة ومنه التخصيص أو الاستثناء أو الصفة أو البدل أو الغلبة المجهولات فلكل مبين يقابله.
2 - قد يسبقه إجمال وهو ظاهر وقد لا نحو: {اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 231] ابتداء.
3 - قد يكون قولا وذا بالاتفاق وقد يكون فعلا عند الجمهور خلافا لشرذمة.
لنا أولا: بيانه عليه السلام الصلاة والحج بالفعل لا يقال بل بقوله صلوا وخذوا إذ البيان بالفعل وهما دليلا بيانيته.
وثانيًا: أن مشاهدة الفعل أدل كما قيل ليس الخبر كالمعاينة قالوا الفعل يطول فالبيان به يوجب تأخير البيان عن وقت الحاجة وأنه غير جائز.
قلنا: يطول القول أكثر في مثل هيئات الركعتين ولئن سلم فلا تأخير لأنه لا يشرع فيه عقيب الإمكان لا امتداد الفعل كمن قال لغلامه ادخل البصرة فصار عشرة أيام حتى دخلها ولئن سلم فلأنما عدم جوازه مع غرض في التأخير كسلوك أقوى البيانين على أن جوازه مطلقا مما ذهب إليه وسيجىء ذنابة إذا ورد بعد الإجمال قول وفعل صالحان للبيان فإن اتفقا كطواف واحد والأمر به بعد آية الحج فإن عرف المتقدم فهو البيان وإلا فأحدهما لا بعينه وقيل إذا لم يرجح أحدهما وإلا فهو المتأخر لأن المرجوح لا يؤكد به.
قلت ذلك في المفردات لا في المؤكد المستقل وإن اختلفا كطوافين والأمر بواحد وصورة اربع فالقول هو البيان تقدم أو لا والفعل ندب أو واجب مختص به لأن فيه جمعا بين الدليلين وقال أبو الحسين المقدم هو البيان ففي صور في تقدم القول اتفاق ويلزمه نسخ

(2/110)


الفعل في طوافين ثم الأمر بواحد وهو باطل، أما عكسه فليس نسخا بل زيادة للتكليف.
4 - في أقسام القول أنه إن لم يكن بالمنطوق بل يتركه في محله فبيان ضرورة وإن كان فللازم المعنى كمدة بقاء المشروع بيان تبديل ولعينه بالتغيير بيان تغيير كالاستثناء والشرط والصفة والبدل والغاية ولخصيص العام القطعي والاستدراك فإنها بيان مدة نفس المشروع لإبقائه ولا بالتغيير فلتأكيد المعنى المعلوم برفع احتماله المرجوح بيان تقرير ولتبين المراد المجهول بأحد الوجوه الثلاثة بيان تفسير.
5 - في أقسام الفعل أن بيانه إما بنفسه وذا إما وضعي كالخطوط والعقود والنصب أو عرفي كالإشارة أو بضرورة معرفة أن فعله للبيان كإمامة جبريل أو بدليل عقلي كوقوعه وقت الحاجة إلى العمل بالمجمل نحو قطع يد السارق من الكوع وإما بتركه كترك التشهد الأول عمدا ليعلم عدم وجوبه وترك ما يتناول الخطاب به له ولأمته قبل الفعل ليعلم تخصيصه أو بعده ليعلم نسخه في حقه فإن علم أن أمته في ذلك كهو ثبت في حقهم أيضًا وإلا فلا.

المبحث الثالث
أن الأكثر على أن المبين يجب كونه أقوى، وقال الكرخي لا أقل من المساواة وجوز أبو الحسن الأدنى والصحيح من مشايخنا عدم جواز الأدنى في المغير والمبدل لا في المقرر والمفسر.
لنا أن إلغاء الراجح بالمرجوح بافى فإن تخصيص العام إلغاء لدلالته والتحكم في المساوي ممنوع بل لكونه محمولا على المقارنة عند الجهل بالتاريخ يخص العام.
لا يقال الصحابة رضي الله عنهم خصصوا الكتاب بخبر الواحد من غير نكير فكان إجماعًا لأنا نقول بعد ما ثبت تخصيصه بقطعي من إجماع وغيره ولئن سلم فخبر الواحد عندهم كان قطعيا مسموعا من النبي عليه السلام وأما تقييد المطلق متراخيا فنسخ عندنا إذ لا دلالة له على المقيد فضلا عن قوتها وضعفها كالعام المنطقى بخلاف العام الأصولي المخصص حيث يدل على بعض أفراده تضمنا فحين قيد متراخيا لم يبق مطلقًا وتبدل والعام المخصص عام مخصص ولو خصص.
ثانيا: متراخيًا ولم يتبدل من القطع إلى الظن بخلاف غير المخصص أو خصص متراخيا أما تقييده متصلا فبيان لما هو المراد منه تغيير لما هو الظاهر لولاه فيكون بيان تغيير موجبا توقيف أول الكلام على الآخر المغير لئلا يلزم نفي شيء وإثباته معا واحتمال للتوقف مع الفصل وإلا لزم بطلان الأحكام هذا في الظاهر وأما المجمل ونحوه فيكفي في

(2/111)


بيانه تفسيرا أدنى دلالة ولو مرجوحًا إذ لا تعارض فإنه لا يدفع دلالته بل يجمع بينهما وفي بيان التقرير بالأولى لأنه تأكيدٌ للظاهر لا إظهار لما ليس فيه.

المبحث الرابع
أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز إلا على قول من جوز تكليف المحال أما خبر وضع العقالين في آية الخيطين قبل نزول: {مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] فحمله على تقدير ثبوته نفل الصوم ووقت الأجل وقت فرض الصوم وعن وقت الخطاب قيل يجوز مطلقا وهو مختار ابن الحاجب، وقال الصيرفي والحنابلة يمتنع مطلقًا وقال الكرخي: يمتنع في الظاهر إذا أريد به غير ظاهره ويتناول تخصيص العام وتقييد المطلق وتفسير الأسماء الشرعية والنسخ لا في المجمل كالمشترك والمتواطئ المراد به معين، وقال أبو الحسين من المعتزلة والقفال والدقاق وأبو اسحق المروزي من الأشاعرة كما قال الكرخي لكنه في البيان الإجمالي أي بجواز التأخير في المجمل وامتناعه في غيره لكن الممتنع تأخيره هو البيان الإجمالي كان يقال هذا العام مخصوص أو سيخص أو سيقيد المطلق أو سينسخ الحكم وجوزوا تأخير التفصيل بعد قرآن البيان الإجمالي.
وقال: الجبائيان وعبد الجبار لا يجوز التأخير أصلا إلا في النسخ وهو المفهوم من المعتمد ولا ينبئك مثل خبير والمختار عند مشايخنا جوازه إجمالا وتفصيلا في بيان التقرير والتفسير كتبين المجمل بل والمشكل والخفي ومنه تصير الأسماء الشرعية وفي بيان التبديل ومنه تقييد المطلق متراخيا كما مر وتعيين معين أريد بالنكرة من أقسامه عندنا وامتناعه في بيان التغيير باقسامه.
قال فخر الإِسلام رحمه الله وكذا عند الشافعي - رحمه الله - إلا أن تجويزه التراخي في تخصيص العام دوننا بناء على أنه تفسير عنده لما كان محتملا له وللكل كالمجمل وبيان محض فشرطه محل موصوف بالإجمال والاشتراك أي بالخفاء والجهل محققا في البيان البنائي أو مقدرًا كما في البيان الابتدائي وأما شرط سبق الكلام له تعلق في الجملة كما ظن وليس مشهورا والتغيير عندنا من القطع إلى الاحتمال لما مر أن العام قبل التخصص قطعي عندنا دونه وإنما لم يجوز التراخي في الاستثناء والخمسة المتصلة الباقية مع أنها تخصيصات عنده لعدم استدلالها وليس الخلاف في جواز قصر العام على بعض متناولاته بمستقل متراخ بل في أن يكون تخصيص فيكون في الباقي ظنيا أو نسخ فيكون قطعيا بناء على أن دليل النسخ لا يحتمل التعليل.

(2/112)


فليس اشتراط المقارنة كاشتراط الاستقلال مجرد اصطلاح كما ظن بل ليفيد الظن والجري على هذا مستمر ومهول التاريخ محمول على المقارنة وذلك كثير لنا في جوازه في التقرير والتفسير كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19].
حيث أريد التفسير لأنه فسر بيان ما اشكل عليك من معانيه ولأنه إيضاح لغة ولأنه مرادٌ إجماعًا فلا يراد غيره دفعا لعموم المشترك ولو سلم عمومه فبيان التعبئة أخص منه لما سيأتي وفي التقرير معنى التفسير بل أولى وأن الخطاب بالمجمل مفيد للابتلاء بعقد القلب على أحقية المراد به مع انتظار البيان كما بالمتشابه مع عدمه كما يبتلى بالفعل عنده وفي امتناعه في التفسير قوله عليه السلام: "فليكفر عن يمينه" (1).
إذْ لو جاز تراخيه لما وجب التكفير أصلا لأن الإبطال بالاستثناء محتمل ولو استدل الإجماع على وجوب الكفارة ووقوع نحو الطلاق والعتاق ولزوم الأقارير ونحوها مما لا يحصى لكان أولى على ما لا يخفى هذا المعتمد لا أن التأخير إلى مدة معينة تحكم وإلى الأبد تكليف مع عدم الفهم لكفاية تعينها عند الله تعالى يعلمه من وقت التكليف به ولا أن الخطاب يستلزم التفهيم ولذا لا يصح خطاب الجماد ولا الزنجى بالعربي ولا تفهيم بظاهره لأنه غير مراد ولا بباطنه لأنه غير مبين متعذر والقصد إلى ما يمتنع حصوله سفه وذلك لأنه مع نقضه بالنسخ يجوز قصد تفهيم الظاهر مع لخويز التخصيص عند الحاجة فلا جهالة إذ لم يعتقد عدم التخصيص ولا أدلة إذ لم يقصد فهم التخصيص تفصيلا للمجوزين مطلقا.
أولا: قوله تعالى في المغنم {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] إلى قوله: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] ثم بين أن السلب للَقاَتل مطلقًا على ما رأي وإذا رأه الإِمام على آخر.
قلنا ذلك بشرط التنفيل قبل الإحراز عندنا ولم يكن حينئذ غنيمة ومذهبنا أولى جمعا بين حديث التنفيل وحديث خبيب بن أبي سلمة رضي الله عنه.
وثانيا: أنه بين ذوى القربى بأنهم بنو هاشم دون بني أمية وبنى نوفل متراخيا قلنا بيان مجمل القرابة فإنها تحتمل قرابة النصرة وقرابة النسب قيل ظاهرة في الثانية قلنا ولئن سلم فقرابات النسب أيضًا مختلفة فهو بيان المراد بالعام الذي تعذر العمل بعمومه.
ثالثا: بيانه بقرة بني إسرائيل متراخيًا وجه تمسكهم قيل إن المطلق عندهم عام وقيل
__________
(1) تقدم تخريجه.

(2/113)


من حيث أريد به خلاف الظاهر في الجملة إذ المذبوحة هى المأمور بها بعينها من أول الأمر لرجوع الضمائر إليها وإلا كان الأمر ثانيا وثالثا جديدا وليس كذا إجماعا ولا دلالة على التعين والأمر ليس للفور ليكون تأخيرًا عن وقت الحاجة.
قلنا بل تقييد للمطلق وهو كإطلاق القيد نسخ أي لإطلاقه السابق فلا يرد أن قيود الجواب الأول لم تنسخ بالجواب الثاني إذ هى أيضًا مرادة فيجوز متراخيا إذ المراد بها أولا غير معينة بدليل قول ابن عباس رض الله عنهما لو ذبحوا أي بقرة لاجزأتهم لكنهم شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم والاستدلال به من حيث إنه تفسير سلطان المفسرين لا من حيث إنه خبر واحد ولئن سلم فليس معاضا لظاهر الكتاب لأن ظاهره الإطلاق ورجوع الضمائر إليها لا يقتضى اتحاد التكليف وإن قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] دليل على قدرتهم وأن سؤالهم كان تعنتًا وفاء {فَذَبَحُوهَا} [البقرة: 71] يمنع كون الذم لتوانيهم في الذبح بعد البيان.
ورابعا: بيان قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] بعد سؤال ابن الزبعري أليس قد بعدت الملاَئكةَ والمسيح بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ} [الأنبياء: 101].
قلنا: لا يتناولهما لأن ما لما لا يعقل كما نقل عن الرسول قوله له: "ما أجهلك بلغة قومك" وذلك لأن تعذيب الشخص بعبادة الغير إياه معلوم الانتفاء عقلا وكذا عدم رضاء الملائكة والأنبياء بها وإذ لا دليل على رضاهم والأصل عدمه فالظاهر عدم إرادة التعميم لعدم الحاجة وأن الذين كالتقييد بقوله من دون الله لتوضيح خروجهم وبيان جهله ودفع وهو التجوز لمن أو للذي أو تجوز للتغليب لا للتخصيص من أنه خبر وذكر عدم جواز التأخير عن وقت الحاجة في محل النزاع دليل تخصيص الاختلاف بما فيه التكليف.
وخامسا: بيان وأهلك وهو عام يتناول بنيه بقوله في كنعان: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، قلنا متصل لدخوله في قوله: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} [هود: 40] أي وعد إهلاك الكفار فهو منهم ولئن سلم فبيان أن المراد أهل ديَانة لا أهل نسبة فإن أهل الرسل من اتبعهم وذلك بيان المجمل وقوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} لحسن ظنه بإيمان ابنه حين شاهد الآية الكبرى.
ولما وضح له أمره أعرض عنه وذا في الأنبياء بناء على العلم البشري إلى أن ينزل الوحى غير عزيز كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ} [التوبة: 114] فقد استغفر بناء على رجاء أن يؤمن وظن جوازه ما دام يرجى له الإيمان والعقل يجوزه إلى أن

(2/114)


يجىء الوحى فهو كقول نبينا عليه السلام لعمه "لأستغفرن لك ما لم أنه عنه".
وسادسا: بيان قوله تعالى: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] بقوله تعالى: {لَنُنَجِّيَنَّهُ} [العنكبوت: 32] بعد قول إبراهيم "إن فيها لوطا"، قلنا بل متصل لأن قوله: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] استثناء معنى كقوله في آية أخري {إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 59] وقول إبراهيم عليه السلام بعد علمه بخروجه بالاستثناء طلب لمزيد الإكرام له بتخصيصه بوعده النجاة فإن التخصيص بعد التعميم من موجبات التفخيم كما أن قول: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] بعد علمه طلب للطمانينة الحاصلة بالمعاَينة المنضمة إلى الاستدلال أو خوف من عموم العذاب بشؤم المعصية.
تنبيه: هذه الوجوه تصح تمسكًا للشافعى - رحمه الله - أيضًا في جواز تخصيص العموم لكن على الأول من وجهى مسئلة البقرة.
وسابعا: أن التأخير ليس ممتنعًا لا لذاته ولا لغيره وإلا لعرف بالضرورة أو النظر ولا ضرورة بالضرورة في محل النزاع ولا نظر إذ لو كان لكان الامتناع لجهل مراد المتكلم ولا يصلح مانعا كما في النسخ قلنا معارض إذ لا ضرورة في جوازه ولانظر إذ لو جاز لجاز لعدم المانع ولا جزم به غايته عدم الوجدان، وحله أن ليس كل واقع معلوما بأحد الطريقين ولئن سلم فعدم الدليل لا يقتض العلم بعدم المدلول بل عدم العلم به.
وثامنا: نحو قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] ثم بينه جبرائيل عليه السلام: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] ثم بين تفاصيل الجنس والنصاب بتدريج وآية السرقة ثم بين اشتراط الحرز والنصاب وآية الزنا ثم بين أن المحصن يرجم ونهى عليه السلام عن بيع المزاينة وهو أن يبيع التمر على النخيل بمجذوذ مثله كيله حرصا وقيل على أنه إن زاد فله وأن نقص فعلى إنه مفض إلى المزاينة أي المدافعة بالنزاع ثم رخص في العرايا وهي هو ولكن فيما دون قدر الزكاة كخمسة أوسق.
قلنا: أما بيان للمجمل كالصلاة والزكاة والربا ولا نزاع لنا فيه أو توضيح لتحقق الماهية فإن الخفية من مفهوم السرقة ولا يتحقق في التافه المبتذل كالقليل وفي غير المحرز عادة أو لعدم العذر الواجب بدلالة أنها خيانة أو نسخ بما يصلح ناسخًا كحديث الرجم إن علم تراخيه وإلا فتخصيص العام بمثله قوة كتخصيص عمومات الحدود المخرج عنها مواضع الشبهات والعرايا عندنا بيع مجازا بل بر مبتدا لأنه أن يبيع المعرى له ما على النخيل للمعرى بتمر مجذوذ لعذر طرأ بعد هبته كذا فسروه ولأن العرية العطية ولاتفاقه

(2/115)


فيما دون خمسة أوسق ظنه الراوي شرطا.
وتاسعا: أن جبرائيل عليه السلام قال له عليه السلام: {اقْرَأْ} فقال ما أقرأ كرره ثلاث مرات فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فتبين المراد.
لا يقال: إنما يصح الاستدلال بالظاهر فيما ليس كهذا متروك الظاهر فإن الأمر فيه إما للفور ففيه تأخير عن وقت الحاجة فيمتنع وإما للتراخي وهو للوجوب لا الجواز إذ لا قائل بوجوب التأخير والجواز حكم يمتنع تأخيره أيضًا لأنه عن وقت الحاجة لأنا لا نعلم أن الأمر قبل البيان للفور أو للتراخي إنما صحة ذلك الترديد بعد الفهم.
قلنا كان المراد الأمر بقراءة معين لم يكن معهودا وإلا لم يسأل ما اقرأ والنسبة إلى المعينات سواسية فيكون مجملا وتأخير بيانه نجوزه للجبائي ومتابعيه في امتناع تأخيره أما في المجمل:
فالأول: لأن الجهل بصفة الشيء يخل بفعله في وقتها ولا جهل بالصفة في النسخ قلنا لا يخل ولا يضر قبل وقت الفعل وهو وقت الحاجة.
وثانيا: أن الخطاب به قبل البيان كالخطاب بالمهمل في عدم الإفهام فلو جاز ذاك لجاز هذا قيل له معنى مرجو بيانه بالآخرة بخلافه فأجيب بان المراد مهمل وضعه من لم يصطلح مع غيره لمعنى فخاطبه مريدًا إياه.
قلنا فذاك ليس لمهمل بل مجمل بالغرابة وهو أحد أقسامه فلا نعلم امتناع الخطاب به إذ هو من محل النزاع فعينه مصادرة والجواب بان في المجمل طاعة ومعصية بالعزم على فعل أحد مدلولاته وتركه إذا بين بخلاف المهمل عائدٌ إلى ذلك مع أنه تخصيص ببعض أقسام المجمل كالمشترك لا كالهلوع والأسماء الشرعية وأما في الظاهر المراد خلافه كتخصيص العام مثلا أنه يوجب الشك في كل واحدة من متناولاته هل هو مراد أم لا فلا يعلم تكليف فينتفي غرض الخطاب والكل في النسخ داخلون إلى أوانه.
قلنا المنتفي غرضه التفصيلي لا الإجمالي وهو الابتلاء بالعزم وتركه إذا فهم والجواب بأن الشك في متناولاته على البدل وفي النسخ على الاجتماع لأنه محتمل في كل زمان فكان أجدر بالامتناع فيه ما فيه للبون البين بين الشك في أصل الثبوت وبينه في الرفع بعد الثبوت مدة في حصول غرض الخطاب.
ولأبى الحسين أن تأخير مطلق البيان يوهم وجوب الاستعمال في الجميع وأنه تجهيل وإغواء فيمتنع من الشارع بخلاف تأخير التفصيلى بعد الإجمالى قلنا لا يضر إذا بين قبل وقت الحاجة ولعل الغرض هو الفعل وقت الحاجة والعلم قبله مع الداعي إلى تقديم

(2/116)


التكليف والصارف عن تقديم التبين كالابتلاء بالعزم وإمعان النظر وقد وقع مثله فيما يوجب الظنون الكاذبة نحو يد الله فوق أيديهم ونحوه تذنيبات.
1 - إذا جوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة فتأخر تبليغ الرسول إليه أجوز لخلوه من كثير من مفاسده كعدم الإفهام والإفادة أما إذا منع فاختير جوازه إذ لا استحالة بالذات ولعل لتاخيره مصلحة.
وقيل بامتناعه لأن {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67] للفور والألم يفد فائدة جديدة
لأن وجوب التبليغ يقضي به العقل ورد الثالى بأنه مع إمكان أن الأمر لا للوجوب تجوزا
ولا للفور وفائدته تقوية ما يقتضيه العقل ظاهر في تبليغ لفظ القرآن لا في كل الأحكام.
2 - إذا جوز تأخير وجوده فتأخير إسماع المخصص السمعي للداخل تحت العام بعد إسماع العام أجوز وإذا منع فالمختار جوازه وهو مذهب النظام وأبى هاشم خلافا لأبي الهذيل والجبائي.
لنا قياس الطرد أعني الدلالة الزاما على المانع فإنه إذا ثبت جواز التأخير في وجوده ثبت في إسماعه بالأولى وقياس العكس من المانع لأنه إنما منع في وجوده لبعد الاطلاع مع عدمه فيجوز في إسماعه لقربه مع وجوده ووقوعه فلأن فاطمة رضي الله عنها سمعت:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] ولم تسمع مخصصه "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" (1) والصحابة سمعوا "اقتلوا المشركين كافة" مخصصه في المجوس عند من يقول به "سنوا به سنة أهل الكتاب" إلى زمان خلافة عمر رضي الله عنه.
3 - إذا منع تأخير المخصص مع ذكر بعض المخصصات دون بعض وإذا جوز فالمختار جوازه وقيل يجب ذكر الجميع لنا مع عدم الامتناع الذاتي ووقوعه كما أخرج عن "اقتلوا المشركين" أهل الذمة ثم العبد ثم المرأة على التدريج وكذا غيرها قالوا تخصيص البعض فقط يوهم وجوب الاستعمال في الباقي وأنه تجهيل، قلنا لا نعلم امتناعه كما مر في الكل.
الخامس: أن الهجوم على الحكم بالعموم قبل التأمل فيما يعارضه من الخصوص إلى أن يجىء وقت العمل لا يجوز إجماعا كما في كل دليل مع معارضه أما العمل به قبل البحث في أن له مخصصا فممتنع خلافا للصيرفي كذا في المحصول ومختصر به ولا إجماع فيه إذ إما في عصره فلا ينعقد مع مخالفته أو قبله فهو انعقد بمعرفته أو بعده فلم يخالف فيه من بعده
__________
(1) تقدم تخريجه.

(2/117)


وبعد وجوب البحث فبلغه.
قيل: بحيث يغلب معه ظن انتفاء المخصص وقال القاضي لا بد من القطع بانتفائه وكان الخلاف في أن النقلي هل يفيد اليقين وأن العام هل هو القطعي الدلالة على العموم مبني على هذا.
لنا: لو اشترط القطع لبطل العمل بالعمومات المعمول بها اتفاقا إذ الغاية عدم الوجدان، قالوا إذا كانت المسألة مما كثر البحث فيها ولم يطلع يقضي العادة بعدمه وإن لم يكن منه فبحث المجتهد يوجب القطع بعدمه.
قلنا: لا نعلم حكم القسمين فكثيرًا ما يبحث بين الأئمة أو يبحث المجتهد ثم يوجد ما نرجع به.
هذا عند مشايخنا القائلين بأن الاحتمال وإن لم ينشأ عن دليل قادح في القطع، أما عند مشايخنا القائلين بعدم قدحه إلا إذا نشأ عن دليل وهو الحق كما مر فالمختار القطع بما ذكر من قضاء العادة وقضاؤها فيما لا يوجد ما يرجع به وإلا فلا اعتماد على الدليل العقلي أيضًا لاحتمال الرجوع بظهور خطأه كما يقع كثير والإجماع على الاعتماد وهذا كله بالنظر إلى مجرد العام ونحوه.
أما بالنظر إلى القرائن الحاقة ومنها العادة العامة فقد يحصل القطع كما سلف.

المقصد الأول في بيانيّ التقرير والتفسير
فبيان التقرير توكيد الكلام بما يقطع احتمال المجاز أو الخصوص نحو: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] ينفي أن يراد المسرع وغيره {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] ينفي إرادة البعض ومثله قوله لها أنت طالق وله أنت حر وقال عنيت المعنى الشرعي وبيان التفسير بيان المجمل والمشترك وغيرهما مما فيه خفاء ففي المجمل كما مر من بيان الصلاة والزكاة والسرقة المجملة في مقدار ما يجب به القطع ومحله ومثله قوله لها أنت بائن وسائر الكنايات وقال عنيت الطلاق ولفلان طى ألف وفي البلد نقود مختلفة ففسر بإحدها وفي المشترك كما أن الإحالة في "أحلنا" كمعنى الإنزال بقرينة دان المقامة وفي: {أُحِلَّ لَكُمْ} [البقرة: 187]، بمعنى الإباحة بقرينة الرفث وكلاهما يصح موصولا ومفصولا في الأصح من أصحابنا وقد مر.

المقصد الثاني في بيان التغيير
وهو الاستثناء اتفاقا والشرط إلا عند السرخسي وأبي زيد إذْ عندهما الشرط تبديل والنسخ ليس ببيان لأن الشرط يبدل الكلام من انعقاده للإيجاب إلى التعليق أي إلى أن

(2/118)


ينعقد عند وجوده لا للحال فإنه رفع الحكم لا إظهار ابتداء وجوده.
قلنا: الشرط فيه تغيير من ذلك الوجه واظهار إيجاب عند وجوده فكان بيان تغيير كالاستثناء إخراج صورة عما هو المقصود ذكره له حيث بعض المفهوم لا سيما في العدد الذي لا يحتمله حقيقة ولا مجازا ولذا يصح علمًا للجنس كأسامة وإظهار لعدم تعلق الحكم إلا بعد الإخراج كما لا يدخل شىء منه تحت قوله له على ألف لو صدر عن غير المكلف.
أما النسخ فليس تغييرًا بل رفعا وإبطالا بالنسبة إلينا لكنه عند الله بيان نهاية مدة الحكم فسمي بيان تبديل للجهتين ها هنا يعلم أن تقييد المطلق كقيود الفعل ليس من بيان المغير مطلقا بل إذا اقتضى تغيير ما يوجبه الكلام لولاه إلى محتمله كما بهذين الوجهين أعني من القطع إلى الاحتمال ومن المقصود ذكره إلى نقضه وإن لم يقتضه فإن اتصل فبيان ما هو أول المقصود من المذكور وإن انفصل فتبديل القصد من المبهم إلى المعين إذ المبهم مما يصلح مرادا بدون التعيين وإن لم يلح متحققا بدونه ولا يلزم من عدم تحققه عدم إرادته إلا معه كما علم.
وهو أقسام: منها: الاستثناء وفيه مقاصد: أحدها: أنه لغة من الثني وهو الصرف واصطلاحا إن كان للمشترك بين المتصل والمنقطع أي متواطئًا فالدلالة على المخالفة بإلا غير الصفة وأخواتها والمستثنى مخالف سبق عليه أحد أدواته فبالإخراج ولو تقديرًا أي من حيث التناول لولا القرينة أو صورة أو ذاتًا على المذاهب ومنع الدخول تحقيقًا أي من حيث الإرادة أو معنى أو حكما متصل وبدونه منقطع ومنفصل.
فلا بد فيه بعد التعلق من المخالفة بأحد وجهين لكونه بمعنى لكن إما بالنفي والإثبات نحو: ما جاءني القوم إلا حمارا أو زيدا وهو ليس منهم ونحوه في وجه: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا} [مريم: 62] وعليه {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77]، إلا على قول مقاتل، وإما بعدم الاجتماع نحو: ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر، بخلاف ما جاءني إلا أن الجوهر الفرد حق وإن كان مشتركا بينهما أي لفطا وهو الحق أو حقيقة في المتصل مجازا في المنقطع كما هو الحق في صيغ الاستثناء ولذا لم يحمله جمهور العلماء عللا عند تعذر المتصل وتكلفوا في ارتكاب مخالفة الظاهر للجنسية حملا لكلام العاقل على الاتصال بقدر الإمكان.
فمن حيث القيمة مطلقًا عند الشافعى رحمه الله كما في على ألف إلا ثواني أي قيمته ومن حيث المعنى المقصود في المقدرات فقط عند أبي حنيفة وأبي يوسف واعتبر محمد

(2/119)


الصورة مطلقا وخير الأمور أوساطها فلا يمكن جمعها في حدٍّ واحد وإن تحقق معنى مشترك بينهما كما مر إذ لا يكون ذلك حقيقة الاستثناء لعدم وضعه له فيقسم أولا ثم يعرف كل بما مر أو بما قال بعض أصحابنا هو المنع عن دخول بعض ما تناوله صدر الكلام في حكمه بإلا وأخواتها فهو أولى من تعريفه بالإخراج بإلا وأخواتها لا لأن إلا للصفة داخل إذ لا إخراج حيث لا يتحقق التناول بل لأن الإخراج تقديري أو صوري أو ذاتي، والمنع عن الدخول تحقيقي أو معنوي أو حكمي ورعاية الثواني أولى ولو أريد به ففيه مجازان.
وفي الثاني واحد وبما قال الغزالي رحمه الله هو قول ذو صيغ مخصوصة محصورة قال على أن المذكور به لم يرد بالقول الأول لأنه إن أراد بالصيغ ألفاظ أدوات الاستثناء كما ظن كان تعريفا لفطا لا حقيقيا ولا سيما والمطلوب في الأصول هما وعن هذا أنه قد يمتنع جمعهما في حد وإن قيل بالتواطؤ وإن أراد معانيها فلا بد من تفسير الدلالة بالوضعية كما هو المتعارف لئلا يرد نحوها جاءني القوم ولم يجيء زيد فإن لزوم عدم إرادته من الكلام الأول عقلي لا وضعي إذ لم يوضع نحو لم يجىء إلا للنفي.
ولذا جاز لم يجىء القوم ولم يجىء زيد ومن القول بإنه تعريف جنس من الاستثناء من حيث عمومه لئلا يرد أن كل استثناء ذو صيغة لا ذو صيغ إذ المتعارف صدق التعريف على كل فرد مع أن في فيه نظرا هو أنه لا يمنعه من الصفة نحو: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، لأن لا دلالة وضعية على ذلك بخلاف أكرم الناس إن لم يكونوا جهالا وإن ادعى عدم دلالته حين استعارته للوصفية وإلا خص انه إخراج بحرف وضعت له وأنه تعريف ليس بلفظي.
ثانيها: في أنه لا تناقض فيه وان توهم أن في على عشرة إلا ثلاثة اثباتا للثلاثة في ضمن العشرة ونفيا لها صريحا كيف وأنه واقع في كلام الله نحو: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] وإنما يحتاج إلى دفعه في الإخبار لجواز النفي بعد الإثباتَ وعكسه في الإنشاء.
كما في دليل الخصوص والنسخ ففيه وجوه:
1 - أن المراد بالعشرة السبعة مجازًا والاستثناء قرينته ولا يرد عليه ما مر أن الأعداد أعلام أجناس ولا تجوز فيها إذ الممنوع الاستعارة ولئن سلم فالعلم عدد لا يراد به معدوده ولذا يتصرف اخذت عشرة من الدراهم ولأنها ليست جزءًا مختصا ليلزمها فيصح التجوز لأن كل عدد جزء لكل مما فوقه إذْ الاختصاص يطلب إطلاق الجزء على الكل

(2/120)


كعين الرئية وإلا فالجزء لازم ولا أنه يؤدي في نحو اشتريت الجارية إلا نصفها إلى استثناء الشيء من نفسه أو إلى التسلسل.
فإن استثناء النصف من النصف يوجب إرادة الربع ومن الربع ارادة الثمن وهلم جرا هذا الاستثناء من حيث التناول لولا القرينة فالمفهوم قبلها هو الكل لا من حيث إرادة المعنى المجازي فإنها بعد الإخراج ولقام القرينة لا قبلهما فالذي أطلق مجازا على نصف الجارية هي الجارية المقيدة لا المطلقة كاشتريت جارية نصفها للغير فما لم يتم التقييد لقيام القرينة يكون الملاحظ المعاني الوضعية فلذا يرجع الضمير إلى كمال الجارية ويتحقق أن الاستثناء إخراج بعض من كل كما أجمع عليه وأن العشرة نص في مدلوله وأن فيه رعاية وضع الإخراج والمخرج والمخرج عنه وليس مثله جعلوا الأصابع في آذانهم إلا اصولها كذلك لأن الاستثناء وإرجاع الضمير بعد تمام القرينة.
2 - قول القاضي أن المجموع موضوعٌ بإزاء السبعة فلها مفرد ومركب يريد به أنه موضوع وضعًا نوعيًا والمعاني الإفرادية ليست مهجورة في الموضوعات النوعية فلا يراد أنه خارج عن قانون اللغة إذ الأمر مركب مزجي فيها عن ثلاثة ولا مركب اعرب جزؤه الأول وليس بمضاف ولا مشبه به نحو اثني عشر ولا انه لإخراج ولا نصوصية للعشرة في مدلولها حينئذ ويرجع الضمير إلى بعض الاسم ويقصد بجزء من المفرد الدلالة على جزء معناه لأن امتناع جميع ذلك في الأوضاع الشخصية أما النقض بنحو برق نحوه وأبي عبد الله فليس بشيء لأن الأول من باب الحكاية الغير المقصود التركيب فيه بل نثره نثر أسماء العدد وليس ما نحن فيه كذلك والثاني فيه مضاف وهذا في التحقيق عين ما يقال مراده التعبير عن السبعة بلازم مركب نحو أربعة ضمت إليها ثلاثة كالتعبير عن الإنسان لمجموع مستوى القامة الضاحك بالطبع أو بمجموع الحيوان الناطق عقلا والبدن النفس خارجًا فارتضاء أحدهما وازراء الآخر يفضي إلى خلاف الأطر الفارقة ولا ريب أن اعتبار المقيد في ذاته لكونه مقيدا في نفس الأمر غير اعتباره من حيث هو مقيد وغير اعتبار المجموع فيه يحقق التقابل بين المذاهب.
3 - أن المراد من كل حقيقته والإسناد إلى العشرة بعد إخراج الثلاثة منها والفرق بين المذاهب الثلاثة من وجوه:
1 - ما ذكر.
2 - أن المستثنى منه مجاز على الأول دون الأخيرين.

(2/121)


3 - ما قيل إن في الأول إيجابا وسلبا بالمنطوق لأن الاستثناء لا يصلح قرينة لارادة السبعة بالعشرة إلا إذا نفي الثلاثة منها ولا حكم في الأخيرين بالنفي أو الإثبات في المستثنى بل مجرد دلالة على مخالفته لحكم الصدر وهي أعم من الحكم عليه بنقيض حكمه فرق بينهما بأن تلك الدلالة في الثاني بمفهوم العلم في العددي لأن العدد كالعلم خاص بمفهومه وبفهوم الوصف في غيره؛ لأن معنى جاءني القوم إلا زيدا جاءني غير زيد منهم، وفي الثالث بإشارة الإخراج قبل الإسناد لكن لا نقتضي الحكم بالنقيض كما في الأول؛ لأن الإخراج هنا قبل الحكم وثمة بعده؛ لأن القرينة سياقية فالثالث أوكد في تلك الدلالة لأن الإشارة طريق اتفاقي واضح.
ثم قيل ميل الشافعي إلى الأول ولذا جعله من النفي إثباتًا ومن الإثبات نفيا وتخصيصًا غير مستقل بطريق المعارضة ويعني بها إثبات حكم مخالف للسابق.
ومشايخنا مالوا إلى الأخيرين ولذا جعلوه تكلما بالباقي بعد الثنيا أي المستثنى إما تعبيرًا عنه بالمجموع أو بالعشرة المقيدة بإخراج الثلاثة وبيانًا مغيرًا لا تخصيصًا فقالوا بالإثبات في المستثنى في كلمة التوحيد بالإشارة على الثالث إذْ لو لم يكن حكم المستثنى خلاف حكم الصدر لما خرج منه لا على الثاني؛ لأن التخصيص بالعلم أو الوصف لا يقتضي النفي عما عداهما عندهم بل بضرورة أن وجود الآلة كان ثابتا في عقولهم وقد نفي غيره.
وبعضهم مالوا في غير العددي إلى الثالث فقالوا بإثبات حكم في المستثنى مخالف للصدر بطريق الإشارة بشهادة العرف وبنوا ذلك على أن المستثنى كالغاية، وفي العددي إلى الثاني حتى قالوا في إن كان في إلا مائة فكذا ولم يملك إلا خمسين لا يحنث لأن معناه إن كان في فوق المائة فلم يشترط وجود المائة وفي ليس له على عشرة إلا ثلاثة لا يلزمه شيء كأنه قال ليس له علي سبعة.
وفيه نظر من وجوه:
1 - أن بيان عدم إرادة الثلاثة يكفي قرينة لإرادة السبعة ولا يلزم إرادة عدم الثلاثة.
2 - أن دلالة الاستثناء على مخالفة حكم الصدر في الخارج ممنوعة وفي العقل بمعنى أن ليس فيه حكم الصدر مسلمة لكن لا تقتضي حكمًا بخلافه من الإثبات أو النفي لا بالعبارة ولا بالإشارة فإن الأخص لا يلزم الأعم فلا يتم الإشارة المذكورة ولو في كلمة التوحيد، وقوله: إذْ لو لم يكن إلخ لا يفيد الحكم بالنقيض إذ يكفي للخروج عدم الحكم السابق.

(2/122)


3 - أن الإخراج لو أفاد بالإشارة الحكم بالنقيض لأفاد في كلا القولين الأخيرين لأن الإخراج بحسب الصورة والذات لا بحسب المعنى والحكم متحقق فيهما كما مر كيف والمدلول بالإشارة لازم المنطوق فلو كان حاصلا كان مطرد اللزومة، فكان مذهبنا مثل مذهب الشافعي ولم يكن أيضًا عنده منطوقًا مع ما عرفت أن بيان منطوقيته غير تام.
4 - أن فرق البعض بين العددي وغيره غير مسلم فإن كون المستثنى كالغاية لا يقتضي الإشارة المذكورة لأن شأن الغاية إنهاء الحكم بخلافه ومرادهم بما ذكروا في ذلك لزوم هذا الأخص من ذلك الأعم بحسب المقام كما تحقق ولئن سلم فكونه كالغاية لا يفرق بين العددي وغيره وكذا المسألتان.
أما الأولى: فلما كان معناها إن كان في فوق المائة بدلالة العرف كان المستثنى ما دون ما فوقها وذلك موجود كالخمسين ولو سلم فعدم اشتراط وجود المائة من خطران حيث سرى من المستثنى منه في المستثنى حتى لو قال والله ما كان في إلا مائة وجب وجودها.
وأما الثانية: فلا اختصاص فيها بالثاني؛ لأن إسناد ليس إلى العشرة بعد إخراج الثلاثة عنها كاف في ذلك ثم إذا لم يلزم ثبوت الثلاثة كان مؤيدا لما قلنا من عدم الإشارة بحسب اللفظ هذا.
ولله الملك العلام، در التحقيق في هذا المقام، وذلك في فوائد سمح بها الألمعي من مهرة الفحول، ولعمري أنها تنسمت من مهب قبول القبول.
1 - أن مرجع القول الثالث إلى أحد الأولين إذ لا ريب أن العشرة مثلا أطلقت أو قيدت ليست حقيقة في السبعة مع لنها مرادة فإن أطلق فيها مجرد العشرة المقيدة كنحو: أربعة ضمت إليها ثلاثة كانت مجازًا وإن أطلق المجموع على أنه تعبير ببعض لوازمها كجذر التسعة والأربعين ونصف الأربعة عشر على طريق قوله: بنت سبع وأربع وثلاث، كانت حقيقة إذ التعبير عن الشيء بلازم حقيقته باعتبار أنه الذي يصدق عليه ليس مجازا فلا خروج عنهما.
وأقول بعد أنه أقرب إلى الثاني لأن اعتبار المقيد من حيث هو مقيد أقرب إلى اعتبار المجموع من اعتباره في ذاته وهو مقيد ولذا حكموا عليهما بأنهما حقيقة فيهما واشتركا في ظهور كونهما تكلما بالباقي بعد الثنيا يفهم من هذه الفائدة أن الأخيرين بل الثلاثة مشتركة في الإفادة بالإشارة أو الضرورة أو كونه بمعنى الغاية وفي الإخراج الصوري والبيان المعنوي وفي عدم التعرض للحكم بنقيض حكم الصدر كما يجب.

(2/123)


نعم لو بنى على القول بمفهوم الصفة للمستثنى فإن الاستثناء في محل الصفة للمستثنى منه اعتبر قرينة أو جزءً أو قيدًا لكان شيئًا.
2 - أن الاستثناء كان من النفي أو الإثبات لا يدل على المخالفة في النسبة الخارجية بل النفسية فإن كان مدلول الجملة هي النفسية فالمخالفة في المستثنى عدم الحكم النفسي فيه لا الحكم بخلافه وإن كان مدلولها الخارجية فالاستثناء إعلام بعدم التعرض لها والسكوت لا بالتعرض لعدمها.
أقول: وكل من الأوليين أعم فلا يلزمه الأخص إلا بحسب خصوصية المقام كما أن السكوت عن الإثبات يسئلزم نفي الحكم بالبراعة الأصلية وعن المسلب قد يستلزم إثباته كما إذا علم ثبوت حكم لعدة قلب عن غير المستثنى علم ثبوته في المستثنى بالاستصحاب نحو ما قام القاعدون لمقدم عمرو إلا زيد وعليه وضع الاستثناء المفرغ ومنه كلمة التوحيد أو يقال أفادتها الإثبات بالعرف الشرعي لا اللغوي.
ولذا يندفع تشكيك الإمام الرازي رحمه الله أن المقدر فيها إن كان الموجود لم يلزم عدم إمكان إله غيره وإن كان الممكن لم يلزم منه وجود ذات الله تعالى بل إمكانه إذ يلزم عرفًا وإن لم يلزم لغة وهذه الوجوه هي مجمل الإشارة المقولة فيه وفي الغاية التي بها التوفيق بين الإجماعات الأربعة:
1 - إفادة القصر بما وإلا.
2 - أنه إخراج.
3 - أنه تكلم بالباقي بعد الثنيا.
4 - أنه من النفي إثبات وبالعكس.
5 - أن هذا في الخبر أما فيما هو عدة الأحكام وهو الطلب فلأنه يدل إما على طلب تحصيل النسبة النفسية كإكرام الناس في أكرمهم أو لا تكرمهم إلا زيدًا في الخارج كالأمر والنهي وبالعكس كالاستفهام فالاستثناء بعده دل على انتفاء النسبة النفسية التي بين المستثنى منه وما نسب إليه في المستثنى لا على طلب دخصيل خلافها خارجًا فلا دلالة على المخالفة في الخارجية أصلا لكن في النفسية فبعد الثبوت يفيد عدم الحكم النفسي فيه وبعد النفي ثبوته لكن عقلا لأن النفي العام إنما هو بعد تعقل الثبوت العام وحين نفي عقلا عن غير المستثنى بقى الثبوت له فيه.
تنبيه: كفى كرامةً للحنفية اعتراف أفضل متأخريها بأن لا تعرض في الاستثناء للحكم بالنقيض ومنه يلزم عدم التعرض في الوصف أيضًا لأنه في معناه، ثالثها في أدلة المذهبين.

(2/124)


لنا: في أنه تكلم بالباقي بعد الثنيا أي استخراج صوري وبيان معنوي أن المستثنى لم يرد لا نحو قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] لأن سقوط الحكم بالمعارضة حالي انشائي فلا يتصور في الإخبار عن الخارج لا سيما عن الماضي وفي العدد بخلاف الإنشاء والأصل خلاف التجوز.
وثانيا: اجماع أهل اللغة أنه استخراج أي صورة وتكلم بالباقى الثنيا أي معنى كما مر.
وثالثا: أنه بخلاف النسخ لا يستغرق أي لا يجوز استثناء الكل عن الكل ولو فيما يصح الرجوع عنه كأوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي يثبت الوصية وطريق المعارضة يقتضي استواء البعض والكل كالنسخ ولا وجه للفرق بآدائه في الاستثناء إلى الناقض لا في النسخ وإلا لأدى إلى استثناء البعض أيضًا لأن اختلاف الزمان مشترك إذ تخلل العمل ليس بلازم للاختلاف.
ورابعا: أنه بخلافه لا يستقل كصدره وشرط المعارضة التساوى في القوة كالنسخ أو فهو تبع له والتبع لا يعارض أصله إجماعا.
وخامسا: أنه لوكان معارضًا كان التكلم بالصدر باقيا حكما بصيغته بقاء المشركين بعد تخصيص أهل الذمة ولذا كان منتهى تخصيص الجمع ثلاثة والمفرد واحدا والعشرة في السبعة غير باقية بحقيقتها.
قيل: وليصر مجازا قلنا خلاف الأصل فلا يعدل إليه إلا لضرورة انتفت بجعله تكلما بالباقي، قيل عدم بقاء حكم الصيغة مشترك مع ذلك.
قلنا: إنما يطلب بقاؤه لتقابله المعارض أما بالشيء بلا حكم ولا انعقاد له فسايغ شايع كطلاق الصبي وكل ممتنع بعد لمانع، قيل فليكن بعد المعارضة كذلك قلنا ما قلناه مرجح بأنه حقيقة بلا ضرورة صارفة.
وسادسا: قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] فمعناه ليس له ذلك عمدا لا أن له ذلك خطأ لحرمته بناء على ترك التروي ولذا وجبت الكفارة والخصم يحمله على المنقطع فرارًا عنه ولو صح في المفرغ فالأصل لمتصل.
فرع: بعت هذا العبد بألف إلا نصفه بيع النصف بألف لدخوله في المبيع لا الثمن وعلى أن في نصفه بيع النصف بخمسمائة لأن على شرط معارض لاستقلاله ولأنه في المعنى ليس شرطا بل بيع شيء من شيئين فيعتبر الإيجاب السابق إلى أن يقع البيع من المشتري ومنه والبيع من النفس صحيح إذا أفاده فالتقسيم هنا فيدخل ليخرج بقسطه من الثمن كمن اشترى عبدين بألف أحدهما ملكه وكشرى رب المال مال المضاربة ليفيد

(2/125)


ولاية التصرف بخلاف الشرط الغير المعارض نحو إن كان في نصفه حيث يبطل العقد فالمسألة افادت أصولا.
1 - الفرق بين الاستثناء والشرط وإن شملهما بيان التغيير.
2 - الفرق بين الشرطين بالابطال وعدمه بالاعتبار لمعناه وهو بيع شىء من شيئين.
3 - صحة البيع من نفسه إذا أفاد وللشافعي رضي الله عنه في أنه إخراج لبعض ما حكم عليه في الصدر وتخصيص بالمعارضة.
أولا: أن إعدام التكلم الموجود إنكار للحقيقة بخلاف التكلم مع عدمه في البعض قلنا ليس إعداما بل لكونه حقيقة أولى.
وثانيا: إجماعهم على أنه من النفى إثبات وبالعكس فلنا مرادهم بالإثبات عدم النفى وبالعكس إطلاقا للخاص على العام ولئن سلم فتعارض الإجماعين يدفع بأنه استخراج صوريّ في الأفراد وتكلم بالباقي في الحكم لما مر أن المجموع عبارة يصلح لذلك ونفى وإثبات بإشارته بحسب خصوصية المقام أو العرف لعدم ذكرهما قصدًا بل لازمًا عن كونه كالغاية المنهية للوجود بالعلم وبالعكس لكن في ذلك المقام لا مطلقًا لما مر من قوله تعالى: {إِلَّا خَطَأً} ولما سيجيء من نحو "لا صلاة إلا بطهور".
وثالثًا: دلالة الإجماع على أن لا إله إلا الله كلمة توحيد ولو من الدهري ولا يحصل إلا بالإثبات بعد النفي قلنا لإشارته بالوجهين ولأن الأصل في التوحيد التصديق القلبي لا الذكر اللساني اكتفى بعد النفي قصدًا إنكارًا لدعوى التعدد بالإشارة الغير المقصودة في الإثبات لأنه كلما يذهب إلى النفي بالكلية والحكم بإسلام قائله بناء على الأغلب عملا بظاهر الحديث ويمكن أن يجعل تكلما بالباقي ونفيا لا لمطلق الألوهية بل لها عن غير الله تعالى ويكون الاستثناء منقطعا فيكون كل من النفى والإثبات مقصودا لطيفة سلكها بعض أصحابنا لإبطال أن كل استثناء من النفي إثبات هي أنه لوكان إثباتًا لاستلزم قولنا "لا صلاة إلا بطهور" كل صلاة طهور ثابتة أي جائزة لوجهين:
1 - أن خبر لا محذوف أي لا صلاة ثابتة إلا صلاة بطهور فالمستثنى نكرة موصوفة في سياق الإثبات مقصود بها الجنس وقد عرفت في بحث العام لنها عامة لا سيما بعد النفي نحو لا أجالس إلا رجلا عالمًا حيث يشمل الإباحة رجل عالم فلا يحنث بمجالسة أي فرد واحد فصاعدا منه.
ومنه علم أن مثل هذا العموم للاستغراق بخلاف لأكر من رجلا عالمًا أو ما كتبت إلا بالقلم وإذا عمت وقد حكم عليها بالثبوت حصل كل صلاة مقترنة بطهور ثابتة.

(2/126)


2 - أن النفي شامل لكل فرد فكذا إيجابه إلا فالبعض لا يكون مقترنة بطهور فالمعنى إلا كل صلاة مقترنة بطهور وقد حكم عليها بالثبوت وأما صلاة فاقد الطهورين فليست صلاة بل تشبها بها إذ الكلام فيما هو شرط ولو كان معناه لا صلاة بغير طهور لم يلزم شيء فلما ثبت العموم فلوجهين لم يرد أن رفع السلب الكلي إيجاب جزئي فلا يلزم إلا جواز شيء منها حال الاقتران بالطهور لأنه المراد به أما بعض المقترنة بالطهور فلا نعلم كفايتها في اللزوم أو بعض مطلق الصلاة فلا ينافي العموم الذي ادعيناه ولا أن اللازم أن كل صلاة بطهور صلاة لأن المسلوب في صدر الكلام الثبوت والجواز فكذا المثبت في عجزه وبأن المنفي الجواز علم إن انتفى على حقيقته فلا يحتاج إلى التأويل بالمبالغة أو بأن سائر صفاتها لم يعتبر بالنسبة إليه أو بأن المنفي ما زعم المخاطب ثبوته كصحة الصلاة بغير طهور وقولنا في لا أجالس إلا رجلا عالما له أن يجالس كل عالم ليس إثباتًا بعد النفى بل ذلك بالإباحة الأصلية وبإفادة المقام إياها.
فروعه: جعل الشافعي معنى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] فلا تجلدوهم واقبلوا شهادتهم وأولئك هم الصالحون فقبل شهادته لأن ردها من حقوق الله تعالى فيكفي في سقوطه التربة كشرب الخمر بخلاف جلد القذف فإنه حق العبد خالصا عندنا وغالبا عنده.
ولذا يجري فيه التوارث ولا عفو عنده فلا يسقط بمجرد التوبة إلى الله كالمظالم بل وإلى العبد بان يعتذر حتى يعفو فيسقط كالقصاص، وقوله عليه السلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء متساويين" (1).
فعمم صدر الكلام في القليل والكثير؛ لأن المعارضة في المكيل خاصة كـ {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] فإن عفو المطلقة قبل المس وقد فرض لها تختص بالعاقلة الكبيرة فالمجنونة والصغيرة تحت حكم الصدر وأسقط في على ألف درهم إلا ثوبا قدر قيمته كما مر؛ لأن دليل المعارضة يجب العمل به في المذكور ما أمكن لكونه كلاما برأسه لا كما لو كان قيدًا مستخرجا.
ولذا قال النسفي -رحمه الله- هذا من ثمرة ذلك الاختلاف يعني لاقتضائه الجنسية
__________
(1) أخرجه مسلم (3/ 1214) ح (1592)، وابن حبان في صحيحه (11/ 385) ح (5011)، وأبو
عوانة في مسنده (3/ 396) ح (5458)، والبيهقي في الكبرى (5/ 283) ح (10287)، والدارقطني في سننه (3/ 24) ح (83)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 3)، والطبراني في الأوسط (1/ 105) ح (325)، والإمام أحمد في مسنده (6/ 400) ح (27290).

(2/127)


المصححة للحمل على الاتصال هذا ويمكن تخريجها عنده على أصول أخر، ومن الجائز توارد التخريجات على مسألة فلا بحث فيه.
فالأولى على أن الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة يرجع إلى الجميع أو على أن أولئك الفاسقون في معنى التعليل لعدم القبول وسنبطلهما بأن الرد ثابت بضرورة عدم استقلاله وقد اندفعت بالأخيرة وأن الواو يمنع التعليل والثانية على أن القليل باق عن المستثنى فلئن جعل تكلمًا بالباقي اندرج تحت النهي أيضًا. قلنا: إلاسواء كـ ألا يعفون استثناء حال مفرغ من العام المقدر مجانسًا لعدم المجانسة ظاهرًا والأحوال المقدرة من المجازفة والمفاضلة والمساواة مختصة بالكثير الداخل تحت القدر ولا يقدر بحيث يندرج القلة والكثرة تحتها لأن ذا تعميم فوق الضرورة الداعية إلى التقدير فلا يجوز لما عرف في الجامع وكذا {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] تكلم بالباقي مثله غير أن حالة العفو تستدعي أهلية العافية له وقال أبو زيد منقطع لأن الوجوب الثابت بالصدر لا ينتفي بالعفو بل العفو بعده وعن هذا كما قال بعض مشايخنا بأن الاستثناء في {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] متصلٌ لكنه يرجع إلى الأخيرة كما مر أو مفرغ والتقدير إلا حال توبة الذين تابوا وفيه تكلف.
قال بعضهم: منقطعٌ قال أبو زيد: لأنه لا إخراج عن الحكم المذكور وهو أن من قذف صار فاسقا إذْ معناه أن من تاب لا يبقى فاسقا وفخر الإِسلام -رحمه الله- لأن التائب ليس بفاسق؛ فلا تناول وهذا بناء على أن الصفة مجاز في الماضي فيصح نفيه.
وقيل: لأن الفسق لازم القذف والتائب قاذف فيكون فاسقًا في الجملة وإن لم يمكنه في الحال فلا إخراج وهذا بناء على كونها حقيقة في الماضي وهو المذكور في العفو والفرق بين الأول والأخيرين أن المستثنى منه فيه هو أولئك وفيهما الفاسقون فاعترض عليه بأن الإخراج يتحقق لو أريد الفاسقون دائمًا وليس بشيء لأنه خلاف الظاهر بل بعيد لأن الشرط لا يستدعيه وعليهما بأن الاستثناء عن المحكوم عليهم وهم الرماة لا الحكم بالفسق والتائبون بعضهم نحو القوم منطلقون إلا زيدا.
ورد بأن شرط المتصل تناول الحكم للمستثنى على تقدير السكوت عنه ولا يتناول التائب الفاسق أصلا إن أريد الفاسق دائما ويتناوله إن أريد الفاسق في الماضي أو في الجملة ولا يصح إخراجه.
لا يقال المراد الفاسق حقيقة وهو الفاسق في الحال لأنه لا يتناول التائب كالفاسق دائما وهذا هو مراد فخر الإِسلام - رحمه الله - في الحقيقة لا كونه مستثنى من الفاسقين

(2/128)


ومن ذهب من أصحابنا إلى أنه متصل ينظر إلى تناول لفظ أولئك والحكم بالفسق باعتبار الدلالة اللغوية ولا ينافيه عم التناول شرعا بقوله عليه السلام: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له" (1) أو بالإجماع كقولنا خلق الله كل شيء إلا ذاته وصفاته أو نقول عدم التناول الشرعي مستفاد من دلالة هذا الاستثناء والحديث مبين له وربما يقال المرتفع بالتوبة عقاب الفسق لا نفسه والتائب من الذنب كمن لا ذنب له لا عينه ونظيره إلا ما قد سلف فإن المرتفع ليس حرمة الجمع السالف بين الأختين بل عقابه بالعفو والثالثة على أن الأصل المتصل فلا يصار إلى المنقطع ما أمكن قليس من ضرورة إلزام القيمة كونه للمعارضةكما في المقدرات عند غير محمد وزفر.
قلنا: منقطع لعدم المجانسة ولا معنى بخلاف المقدر كالمكيل والموزون والمعدود المتقارب للمجانسة المعنوية من حيث الثبوت في الذمة ثمنا وحالا ومؤجلا وجواز الاستقراض وهذه الأحكام الشرعية أثر الجنسية الحلقية ولذا يقال النقدان مخلوقان للثمينة فهذه تبين حكم الشرع من حكم اللغة الناظرة على الخلقة لا عكسه كما وهم ولجنسيتهما من وجه لم يجز بيع أحدهما بالآخر نسيئة وإن جاز حالا لأن ربا النقد كمال الفضل فيترتب على كمال الجنسية.
رابعها: أنه يشترط فيه كما مر في مطلق بيان التغيير الاتصال لفظًا أو حكمًا فلا يضر قطعه بتنفس وسعال ونحوهما مما لا يعد انفصالا عرفًا وروي عن ابن عباس رضي الله عنه صحة الانفصال إلى شهر وقيل مطلقًا بنية الوصل وعليه حمل مذهب ابن عباس رضي الله عنه وإلا فبعيد وقيل يصح في كتاب الله خاصة.
لنا قوله عليه السلام وليكفر عن يمينه حيث لم يقل فليستثن أو يكفر مع كونه اسهل الطريقين والإجماع على لزوم إحكام الأقارير والطلاق ونحوها من غير أن يوقف على الاستثناء بعد.
وأيضًا يؤدي تجويزه إلى أن أن لا يعلم كذب لجواز أن يصيره الاستثناء صدقا أو بالعكس.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1419) ح (4250)، والبيهقي في الكبرى (10/ 1540)، والطبراني في الكبير (10/ 150) ح (10281)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 97) ح (108)، والبيهقي في الشعب (5/ 436) ح (7178).

(2/129)


قالوا أولا: قال عليه السلام: "لأغزون قريشا فسكت ثم قال إن شاء الله" (1).
قلنا لعله سكوت ضرورة من تنفس أو سعال فيحمل عليه جمعا بين الأدلة.
وثانيًا: قوله عليه السلام حين سأله اليهود عن مدة لبث أصحاب الكهف فقال غدا أجيبكم فتأخر الوحي بضعة عشر يوما ثم نزل {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ} [الكهف: 23] فقال إن شاء الله ولا كلام يعود إليه الاستثناء إلا قوله أجيبكم وهو استثناء عرفا ولأنه في معنى إلا أن يشاء الله.
قلنا: بل يعود إلى مقدار متعارف مثله أي فعل تعليق ما أقول بأني فاعله غدا بالمشيئة إن شاء الله أو أذكر ربى إن شاء الله وأذكر هذه الكلمة وإذا قدر أذكر فالأول أولى لقوله تعالى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24].
وثالثا: أن قول ابن عباس رض الله عنه متبع لكونه ترجمان القرآن ومن المشهود له بالبلاغة. قلنا: محمول على ما مر من سماع دعوى نيته أو على أن الإتيان بعد شهر بالعبارة الصحيحة نحو بلى فاعل غدا إن شاء الله امتثال للأمر المستفاد من نهي الآية أو لقوله تعالى {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} [آل عمران: 41] ولمن خصه بكتاب الله.
أولا: أن غير أولى الضرر نزل بعد ما نزل {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] بزمان قلنا بيان تبديل لأنه تقييد للمطلق متراخيا.
ثانيا: أن القرآن اسم للمعنى فقط فلا يضر في وصله فصل اللفظ قلنا لا نسلمهما فإن كونه عربيا ومعجزًا ومخالفته للقراءة الفارسية في الأحكام آية أنه اسمهما مع أن الأدلة غير فاصلة.
تعميم: ولشمول شرط الوصل كل بيان مغير لما يوجبه الكلام لولاه وكونه أعم مما مر لوجوده في الصفة والحال والاستدراك وغيرها.
قلنا لو قال لزيد على ألف وديعة يصدق موصولا فقط لأنه تغيير لحقيقة وجوب الألف إلى مجاز لزوم حفظه على حذف المضاف أو إطلاق اسم المحل على الحال فإن الدراهم محل الحفظ، ولو قال أسلم إليّ في بُرّ أو أسلفنى أو أقرضنى أو أعطاني ولكن لم اقبض يصدق موصولا في الأصح لجواز استعارتها للعقد وليس برجوع لكن شرط الوصل
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (10/ 185) ح (4343)، والبيهقي في الكبرى (10/ 47) ح، وأبو داود (3/ 231) ح (3285)، وعبد الرزاق في مصنفه (6/ 385) ح (1306)، والطبراني في الأوسط (1/ 300) ح (6004)، وأبو يعلى في مسنده (5/ 78) ح (2674)، والطبراني في الكبير (11/ 282) ح (11742).

(2/130)


استحساني نظرًا إلى حقائقها يقتضي القبض والقياس لا يفصل الفصل من الوصل لأنها عقود شرعا فكان نحو اشتريت منه فلم اقبض بيان تقرير وكذا دفع إلى أو نقد لكن لم اقبض عند محمد - رحمه الله - لشيوع الاستعارة له كالإعطاء إطلاقا لاسم المسبب خلافًا لأبي يوسف رضي الله عنه لاختصاصهما بالتسليم لغة وشرعا بخلاف الإعطاء المستعمل بمعنى الهبة فكان رجوعا فلا يقبل أصلا.
وكذا عندهما لو أقر به قرضًا أو ثمن مبيع وقال هو أو وهو زيوف فلتنوع الدراهم لم يكن رجوعا ولغلبة الجياد حتى تنصرف عليها مطلقا صار الزيوف كالمجاز فكان تغييرا والإمام - رحمه الله - يجعله رجوعا لأن الزيافة عارضة وعيب لا يحتملها مطلق الاسم فلا يقبله مطلقا كدعوى الأجل في الدين والخيار في البيع؛ لأن مقتضى مطلقهما الحلول واللزوم.
ولو قال على ألف من ثمن جارية باعينها لكنى لم أقبضها لم يصدق عنده أصلا سواء صدقه في البيع أم لا بل ادعى الالف مطلقا أو من جهة أخرى كالقرض والغصب لأنه رجوع فإن إنكار القبض في غير المعين ينافي الوجوب وقالا يصدق مع التصديق في البيع وإن فصل لثبوته حينئذ بتصادقهما وليس إقرارًا بالقبض ومع التكذيب فيه إن وصل لأنه تغيير من جهة أن الأصل في البيع وجوب المطالبة بالثمن وعدم قبض المبيع محتمل البيع لا من العوارض.
قلنا: وجوب الثمن لمبيع لا يعرف أثره دلالة قبضه ولذا يقال غير المعين كالمستهلك والدلالة كالصريح.
خامسها: أن الاستثناء يجرى في اللفظ لا في الفعل خلافًا لأبي يوسف فإذا أودع الصبي العاقل الحجور عليه شيئًا فاستهلكه يضمن عنده لتنوع التسليط إلى الاستحفاظ وغيره كالإباحة والتمليك والتوكيل والنص على الحفظ جعل غيره وعدم ولاية الصبى عليه لا يبطله؛ لأن الاستثناء تصرف للناطق على نفسه فيثبت الاستحفاظ لكن لا يتعدى إلى الصبى لعدم الولاية عليه فانعدم، وصار كالملقى على الطريق فيؤاخذ به؛ لأنه ضمان فعل كما قبل الإيداع، وفالا: الاستثناء كم اللفظ والتسليط فعل كيف وهو مطلق لا عام إذ لا عموم للفعل.
ولئن سلم فالأمر بالحفظ قول ليس من جنس الدفع فيكون منقطعا معارضا له إن صح شرعا مثل قول الشافعي رضي الله عنه في المتصل لكن لا يصح إذ ليس المخاطب من أهل الالتزام بالعقد فيبقى تسليطا مطلقا فلا يضمن بالاستهلاك كما بتضييع الوديعة.

(2/131)


سادسها: من شرطه أن يكون مما أوجبه الصيغة قصدا لا مما يثبت ضمنا لأنه تصرف لفظي ففيمن وكل بالخصوصية غير جائز الإقرار عليه أو على أن لا يقر عليه يبطل عند أبي يوسف لكون الإقرار مملوكا له لقيامه مقام الموكل لا لأنه من الخصومة ولذا لا يختص بمجلسها فيثبت بالوكالة ضمنا لا قصدا فلا يصح استثناؤه ولا إبطاله ليعارضة الشرط بل بالعزل عن الوكالة وقال محمد يصح الاستثناء إما لتناولها اياه بعموم مجازها وهو الجواب وقد انقلب حقيقة شرعيته ديانة إذْ المهجور شرعًا كالمهجور عادة فالحق بها فكل من الاستثناء والتقييد تغيير فصح بشرط الوصل لا منفصلا إلا أن يعزله أصلا لا عن الإقرار فقط لكون ذكره حكمًا للوكالة بخلاف من وكل بيع عبدين حيث لا يصح استثناء أحدهما منفصلا ويصح العزل عن بيع أحدهما وإما للعمل بحقيقة الخصومة لغة فإن الإقرار مسألة لا يتناوله فصح بيان تقرير وصلا وفصلا وهو مختار الخصاف أما استثناء الإنكار فقيل لا يصح اتفاقا إذْ حقيقته عينه ومجازها إما عينه أو إقرار بتبعه ولا تبع مع عدم المتبوع والأصح أنه على الخلاف أيضًا لكن على الطريق الأول لمحمد - رحمه الله - لأن مجازها شامل لهما لا عين شيء منهما فيصح استثناء أحدهما لا على الثاني إذ ليس عملا بالحقيقة بوجه ولا يصح عند أبي يوسف - رحمه الله - لا لدليل الإقرار بل لأن الإنكار عين الخصومة قصدا والتبع لا ينفك عن المتبوع فيكون استثناء الكل من الكل.
سابعها: أن استثناء الكل أو الأكثر منه باطل اتفاقا كان بلفظه أو بما يساويه مفهوما لا وجودا فيصح عبيدى احرار إلا هؤلاء لاحتمال الكلام بقاء ما يكون عبارة عنه لا إلا عبيدي أو مماليكي والأكثر على جواز المساوي والأكثر وقالت الحنابلة والقاضي أو لا يمنعها فيجب أن يبقي أكثر من النصف.
وقال ثانيا بمنعه في الأكثر خاصة، وقيل: بمنعهما في العدد الصريح لا في نحو أكرم بني إلا الجهال وهم ألف والعالم واحد لكفاية الاحتمال.
لنا أولأ وقوعه نحو: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وهم الأكثر لقوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] وكل غير مؤمن غاو فالمساوي أولى.
وثانيا: صحة أن يقال: "كلكم جائع إلا من أطعمته" (1) وقد أطعم الأكثر كيف وهو
__________
(1) أخرجه مسلم (4/ 1994) ح (2577)، والحاكم في مستدركه (4/ 269) ح (7606)، والبيهقي في الكبرى (6/ 93) ح (12283)، والبزار في مسنده (9/ 441) ح (4053)، والبيهقي في الشعب (5/ 450) ح (7088)، والبخاري في الأدب المفرد (1/ 172) ح (490).

(2/132)


وارد في الحديث القدسى أورده الترمذي ومسلم ولكونه آحادًا لم يتمسك بوقوعه.
وثالثا: دلالة إجماع فقهاء الامصار على إلزام الواحد على من قال على عشرة إلا تسعة لمشترطي الأقل أن الاستثناء إنكار بعد الإقرار خالفناه في الأقل لأنه قد ينسى فبقي غيره.
قلنا: لا نعلم بل تكلم بالباقي ولو سلم فليجز باتباع أدلتنا أما استقباح على عشرة إلا تسعة ونصفا وثلثا فلا يقتضي عدم صحته بل ذلك للتطويل بل مع إمكان الاختصار.
ثامنها: الاستثناء بعد الجمل المتعاطفة لا نزاع في إمكان رده إلى الجميع والأخير بل للظهور فعندنا إلى الأخيرة وعند الشافعي رضي الله عنه إلى الجميع كالشرط وقال القاضي والغزالي بالوقف بمعنى لا أدري وعليه ابن الحاجب رحمه الله والمرتضى بالاشتراك فهم كالحنفية في الحكم وهو عدم الرد إلى غير الأخيرة بلا قرينة لا في التخريج لأن عدم ظهور التناول غير ظهور عدم التناول وقال أبو الحسين البصري إن ظهر إضراب الثانية عن الأولى فللاخيرة وإلا فللجميع فظهوره إما بالاختلاف نوعا أي إنشاءً وخبرًا أو اسمًا للمستثنى منه أو محكوما به مع أن لا يكون الاسم الثاني ضمير الأول وأن لا يشترك الجملتان غرضا كالتعظيم والإهانة فأقسام الاختلاف أفرادًا وجمعًا سبعة أربعة منها وهي ما فيها الاختلاف اسمًا لا يتصور فيها كون الاسم الثاني ضمير الأول وإلا لم يختلفا اسما فالثلاثة الباقية باعتبار اشتمالها على هذا الشرط وعدمه معنة وهي مع الأربعة باعتبار الشرط الثاني عشرون فالأقسام السبعة للاختلاف المشتملة على شرطين صور ظهور الإضراب وهي الأربعة من الثمانية التي فيها الاختلاف اسما والثلاثة من الاثني عشر الباقية فالثلاثة عشر الباقية التي منها أربعة لا اختلاف فيها بوجه من الوجوه الثلاثة لأنه مع أحد الشرطين أو كليهما أو بدونهما صور ظهور عدم الإضراب والأمثلة غير خافية.
تنبيه: صورة رجوع الاستثناء إلى الأخيرة عند الواقفية أعم من صور ظهور الإضراب لأن مطلق الإمارة أعم من الاختلافات السبعة وصورة رجوعه إلى الجملة عندهم أخص لأن ظهور الاتصال أخص من عدم ظهور الاضراب {تَنْزِيلُ} [السجدة: 2] ففي قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] عند غير الشافعي وأبي الحسين راجع إلى الأخيرة لما سيجيء مؤيدًا ذلك بأن الأخير اسمية لا تعلق لها بالحكام وبالحد وما قبلها فعلية إنشائية خوطب بها الحكام للحد إذ هذا الاختلاف مع الاشترك في الضمير والتسبب عن الشرط أمارة الإعراض عن الأسلوب السابق لغرض كالاستثناء عنه فقط لأن الامتناع مع الداعى اشتد فلا يصلح الاشتراك فيهما دليلا لعدم ظهور الإضراب كما توهموا.

(2/133)


قيل الغرض تعليل السابق قلنا لا يناسبه الواو وان أريد أنه في معرض التعليل وإن لم يسق له لا يتم التقريب وعندهما إلى الجملة للاشتراك المذكور غير أن لا يرجع إلى الجلد لكونه حق العبد.
قيل يرجع باعتبار أن يدرج الاستحلال في واصلحوا وفيه أن يتوقف قبول شهادته عندهم على الاستحلال أيضًا وليس كذلك.
لنا أولا: أن رجوع الاستثناء لضرورة عدم استقلاله ووضعه للرجوع لا ينافيه لأنه بواسطة وضعه غير مستقل مع اعتباره جزءًا للعبارة عن الباقي بعد الثنيا ومقدمًا على الحكم والأمور الاعتبارية كثيرًا ما يصار إليها للدواعي كاعتبار الوصف مع الموصوف شيئأ واحدًا والبدل مقصودًا من البدل والغاية جزءًا من المغيا أو منهيا لوجوده ومقررا والحال في معنى الصفة والاستدراك في معنى الاستثناء فيقدر بقدر ما تندفع به والثابت بهذه الضرورة المشتملة على وجوه من خلاف الظاهر الأصل عدم ارتكابه وتقليله ما أمكن بخلاف الشرط وسائر المتعلقات الغير مسمتقلة.
وثانيا: أن الرجوع إلى الأخيرة متحققه على التقديرين وإلى غيرها مشكوك مع أن حكم الأولى بكمالها متيقن وارتفاع بعضه بالاستثناء أو توقفه على المغير مشكوك لجواز ترتبه على الأخيرة فقط والوقوف عندما تحقق وهذا يناسب الواقفية أيضًا من حيث الحكم ولا يقلب لجواز كونه للأولى لدليل لأن الاحتمال المحتاج إلى الدليل كعدمه قبله.
وثالثا: أن في عليَّ عشرة إلا أربعة إلا اثنين يعود إلى الأخيرة حتى يلزم ثمانية. قيل: الكلام في المتعاطفة قلنا كذا في غيرها لاشتراك العلة بل أولى لأن ما يجوز على المقيد يجوز على المطلق ولذا لم يذكر أبو الحسين قيد العطف.
قيل: الكلام في الجمل وهذه مفردات قلنا ففي المستقلة أولى قيل: لتعذر عوده إلى الجميع وإلا كان الاثنان مثبتا ومنفيا لاستثنائه منهما وكان لغوًا للزوم الستة على التقديرين وبعد تعذر الجميع جعل للأخيرة لقربها حتى لو تعذر للأخيرة جعل للأولى نحو عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة يلزم خمسة.
قلنا يجوز ذلك بالاعتبارين عما في كل عدد يستثنى من عدد وفي كل عدد يتضمنه كلا المستثنى والمستثنى منه وحديث اللغو لغو لاحتمال أن يقال بعد الكل إلا واحد بل التمسك منزل فيه فلا تناقض لو رجع المنفى على إلى كل مثبت وبالعكس ولا لغو إذ يلزم الستة حينئذ وعند العود إلى الأخير فقط سبعة إذ القاعدة أن يجمع المثبتات على حدة والمنفيات كذلك ويرفع الثانية عن الأولى فيعرف الباقية.

(2/134)


للشافعى - رحمه الله - أولا أن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ قلنا لا من كل وجه فقد يمنع الاستقلال.
وثانيا: القياس على الشرط قلنا قياس في اللغة ومع الفارق السالف وأن الشرط مبدل للتنجيز إلى التعليق لا مبطل لا كلا ولا بعضا كالنسخ والاستثناء إلا فيما لا يقبل التعليق كالتمليك وأنه يجعل مقصود المقام المنع أو الحمل لجعله يمينًا والظاهر عدم اختلاف المقصود بين المتصلات أما أن الشرط مقدم تقديرًا فلا يفيد إذْ لا تقدم إلا على ما يرجع إليه إلا أن يقال الفصل بين المتصلات خلاف الظاهر فيجاب بأنه الفصل لفظًا لا تقديرًا فالظاهر أن التأخير لفظًا وهو خلاف الأصل للاحتراز عنه فيعارضه.
وثالثًا: أنه في على خمسة وخمسة إلا ستة للجميع قلنا مفردات وليس المستقلة مثلها في الاشتراك ولأن رجوعه إلى الأخير متعذر ولأن مدعاكم الرجوع إلى كل واحد بل النزاع فيما يصلح له وللأخيرة.

للواقفية المشتركة
أولا: حسن الاستفهام
أيهما المراد قلنا لعله لمعرفة الحقيقة أو لدفع احتمال خلاف الظاهر

وثانيًا: صحة الإطلاق
للأخيرة والجميع والأصل الحقيقة قلنا المجاز أولى ومنها الشرط.

وفيه مباحث

الأول في حده
قد مر ما هو الصحيح عن مشايخنا وكيف يتميز عن السبب والعلة وجزئها والركن وعرفه الغزالي بما لا يوجد المشروط بدونه ورد بأنه دور وغير مطرد لصدقه على جزء العلة فاجيب عن الأول بأنه في قوة شرط الشيء ما لا يوجد بدونه أي المعرف ذات المشروط والموقوف مفهومه وعن الثاني أن المعلول قد يوجد بدون جزء العلة إذا وجد بعلة أخرى ولا يدفع الإيراد بالعلة المساوية وجزئها المساوي.
وقيل: ما يتوقف عليه تأثير المؤثر أي لا ذاته فيخرج جزء العلة ورد بأنه لا يتناول شرط القديم كالحياة للعلم القديم إذ لا تأثير لأن المحوج إلى المؤثر الحدوث واختار بعضهم ما يستلزم نفيه نفي أمر لا على جهة السببية فيخرج السبب أي العلة وجزؤه ولا خفاء أن الفرق بينهما موقوف على معرفة المميز بينهما فهو تعريف بمثله في الخفاء.

(2/135)


الثاني في تقسيمه
قد مر أنه تعليقي جعلي أو حقيقي شرعي أو وضعي أي عقلي على منع الخلو والثاني كالطهارة للصلاة والحياة للعلم، والأول قد يسمى لغويا هو ما دخله أداة الشرط حقيقة أو دلالة سواء كان مما يتوقف عليه وجود الجزاء فقط نحو إن جاء غد فأنت طالق أو مقتضيا له جعلا نحو إن كلمت فلانا فأنت طالق حيث جعل التكلم مقتضيا له أو وضعا نحو: إن طلعت الشمس فالبيت مضيء وقد يدخل على شرط شبيه بالعلة من حيث استتباعه للوجود وهو ما لا يبقى للمعلول أمر يتوقف عليه سواه فمن شأنه أن يخرج ما لولاه لدخل إذ لو لم يدخل لولاه لتوقف على أمر آخر نحو أكرم بني تميم أو عبيدي أحرار إن دخلوا يخرج غير الداخلين عن وجوب الإكرام والعتق، وبهذا عد بيانا وتخصيصا كذا.
قيل: والحق أنه يخرج أما ما لولاه لدخل كما في ذلك أو ما لولاه لاحتمل الدخول أي على تقدير تحقق غيره مما يتوقف عليه وإن لم يكن الآن إذ كل منهما إخراج الداخل على التقدير وهذا المقدار متفق عليه غير أن إخراجه في حق تأخير انعقاد الجزاء علة إلى وقت وجود الشرط عندنا لأن الإيجاب لا يثبت إلا في محله ولا يوجد إلا بركنه لا كبيع الحر وشطره والشرط حال بينه وبين المحل لأن أثره في المعلق بالذات وهو الاعتاق مثلا لا حكمه ونأخره أثر الأثر ولذا لا يحنث بالتعليق من حلف لا يعتق قبل وجود الشرط اتفاقا بخلاف الإضافة لأنها إيجاب في الحال والتقييد لتعيين زمان وقوعه واللازم يحقق إفضاءه ولذا جاز التعجيل في علي أن أتصدق بدرهم غدًا لا في إذا جاء غد فعلي ذلك وعند الشافعي رضي الله عنه في تأخير حكم العلة المنعقدة فبناه أن المعلق عندنا التطليق مثلا وعنده وقوع الطلاق والحق لنا لأن مجموع الجملة تطليق والوقوع أثره لأن المعتبر عنده مجرد المشروط الموجب للحكم على كل التقادير والتعليق خصصه بتقدير معين فاعدم غيره وعندنا مجموع الشرط والجزاء فهو إيجاب على تقدير ساكت عن غيره ومجرد المشروط كانت من أنت طالق فلا ينعقد عليه ففيه بحث من وجوه:
1 - أنا لا نعلم إيجاب المشروط على كل تقدير لأن الكلام يتم بآخره والإيجاب لولا عدم الشرط لا يكون إيجابا فلا يتم التقرير فلا يترتب الإعدام كيف وهل النزاع إلا في أن التقييد لا يكون إعدامًا.
2 - إن أريد بمجرد المشروط نفس الطلاق فليس جزاء بل بعضه وإن أريد التطليق له لا لجزئه.
3 - أن اعتبار المجموع خلاف اعتبار العربية ولا شك أن الأصول الفقهية مقتبسة منه

(2/136)


فكيف يظن بمثل الإِمام - رحمه الله - مخالفته والثمرة بطلان تعليق نحو العتاق والطلاق بالملك عنده لاشتراط الملك عند وجود السبب وفاقا وتجويز تعجيل النذر المعلق وكفارة اليمين المالية قبل الحنث لأنه كتعجيل الزكاة بعد النصاب والمالي يحتمل الفصل بين نفس الوجوب ووجوب الداء كالثمن لا يجب أداؤه قبل المطالبة بخلاف البدني خلافا لنا في الكل كيف واليمين انعقدت للبر فلا يكون سببًا للكفارة بل سببها كما قيل الحنث فبينهما تناف والمال في حقوق الله تعالى غير مقصود لتنزهه عن الانتفاع والخسران بخلاف حقوق العباد وإنما المقصود هو الأداء حتى إنما جاز الإنابة في الزكاة لكونها فعله فالمالي فيه كالبدني فإذا احتمل المال احتمل البدني أيضًا وقياسه على الأجل وشرط الخيار فاسد لأنهما لم يدخلا على السبب بل الأجل على الثمن والخيار على الحكم لأن البيع لا يحتمل الخطر عكس الإسقاطات المحصنة فكان القياس عدم دخوله.
وقد جوز لضرورة دفع الغبن فاندفعت بدخوله في الحكم لأنه أدنى الخطرين وفيه تصحيح تصرف العاقل ما أمكن ومن ثمراته أن الإخراج لإيجاب عدم الشرط عدم المشروط عنده لأن العلة منعقدة، فلولا إيجابه العدم لترتب الوجود على علته وعندنا لعدم الأولى لا الشرعي لعدم علته فلا يجوز تعدية ذلك العدم بالقياس وفي قوله: "إن كانت الإبل معلوفة فلا تؤد زكاتها" لا يجب الزكاة في السائمة وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء: 25] لا يوجب عدم حل نكاح الأمة عند طول الحرة فيحل نَكاحها بالأيات المطلقة ويجوز تعليق الحكم الواحد بكل من الأمرين فلا توقف لوجوده على أحدهما معينا وان كان أحدهما كلا والآخر جزعًا منه فلا يتوقف على الجزء الآخر وأن يكون الحكم الواحد معلقًا ومرسلا كالطلقات الثلاث المعلقة بشيء والمحتجزة قبل وجوده أما وجوده بالشخص فبأحد الوجهين معنيًّا خلافا له فيها وفي كون طول الحرة الكتابية مانعًا نكاح الأمة روايتان عنده فمنعه مع فهم عدم مانعيته لمعارضة إمكان صيانة الجزء عن الأرقاق الذي هو إهلاك حكمي بنكاحها.

الثالث في أنه إما واحد أو متعدد على الجمع
فينوقف المشروط على حصولهما معا أو على التفريق فعلى حصول أيهما كان وهو المراد بالبدل لا حصول احدهما مع عدم الآخر لأن أحد الأمرين واحد لا متعدد وكذا الجزاء فاللازم حصول واحد أو كليهما أو احدهما والحاصل من تداخل الاعتبارات الثلاث تسعة.
فرع: في إن دخلتما فأنتما طالقان فدخلت احديهما قيل تطلق الداخلة إذ المراد عرفا

(2/137)


تعليق طلاق كل بدخولها، وقيل: لا واحدة منهما لأن الشرط دخولهما معا، وقيل: كلاهما لأنه دخول أيهما كان والذي ذكره أصحابنا أن مدخول كلمة الشرط بجميع أجزائه شرط واحد وكل من اجزاء الجزاء الصالح للجزائية جزاء وهو الموافق لما تقرر في العلوم العقلية أن تعدد المقدم لا يقتضي تعدد الشرطية بخلاف تعدد التالي وللأصل المقرر أن المشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط ففي قوله لأربع عنده إن حضتن فأنتن طوالق لا يقع شيء عند حيض البعض بل تطلق الكل عند حيض الكل.
فإن قلنا حضنا فصدق الواحدة أو المثنى لا يقع شيء أو الثلاث تطليق المكذبة فقط لكمال الشرط في حقها فقط نعم لو قال إن حضتن حيضة يكفي في طلاقهن حيضة الواحدة لأن الحمل على نسبة الفرد إلى المتعدد مجازا نحو: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] أولى من اللغو والمحال كما عرف فتطلق الكل بخبر الفرد إن صدقها وإلا تطلق المخبرة فحسب لأنها أمينة في حقها دون حق غيرها فيما لا يختص بحيضها بخلاف الحرمة والعدة وفي قوله إن دخلتن دارا لا يحنث لا بدخول الكل.
أما إذا تقابل الجمل في نفس الشرط نحو إن دخلتما دارين فأنتما طالقان تطلقان بدخول كل في دار عندنا حكمت لتقابل الجمل وعند زفر - رحمه الله - بدخول كل في دارين كأن دخلتما هذه ودخلتما هذه أما إن دخلتما هذه وهذه فكدخلتما دارين وأما في مسألة إن شئتما فأنتما طالقان فالمعتبر شرطا عند زفر مشيئة كل منهما في حق نفسها إلا أن المتعارف في مخاطبة المرأة بالطلاق المعلق بالمشبه تعليق طلاقها بمشيئتها كقوله إن شئتما طلقتكما فصار كقوله لكل أنت طالق إن شئت وعندنا مشيئتهما معا لطلاقهما معا في المجلس فلا يقع لمشيئة إحديهما لهما أو لصاحبتها أو بموت إحديهما قبل المشبه لأنه بعض الشرط إذْ معناه إن شتئما الطلاق كما في إن دخلتما هذه الدار والحق لنا لما مر أن المشروط لا يتوزع على أجزاء الشرط.
لا يقال المشروط بالكل مشروط بكل جزء منه فيكون كل جزء شرطًا لأنا نسلمه لمعنى التوقف عليه لا لمعنى عدم التوقف إلا عليه والكفاية في ترتب التالي.
ذنابة: قياس الشرط اقتضاء صدر الكلام ليعلم من أول الأمر نوعه كالاستفهام والقسم والنفي ففي أكرمك إن دخلت الدار ما تقدم خبر دليل للجزاء المحذوف لا جزاء أي لفظا وإلا لجاز ولكن معنى إذ لا تتجيز فلم يجز جزمه لاستقلاله لفظا وقدر مدلوله جزاء لكونه جزاء معنى رعاية للمسألتين ولذا اختلف فيه واتفق على إطلاق الجزاء عليه.

(2/138)


ومنها الصفة: نحو أكرم بني تميم الطوال فيخرج القصار والبدل نحو: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ} [آل عمران: 97] فيخرج غير المستطيع والغاية نحو أكرمهم إلى أن يدخلوا فيخرج الداخلون.

تتمة: هذه الأربعة كالاستثناء في وجوب الاتصال وتعقيب المتعدد أنه للجميع أو الأخير والاختلاف والاختيار وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الشرط للجميع والفرق سلف من وجوه أربعة وكذا الأقسام التسعة بحسب اتحاد الغاية والمغيا وتعددهما.

ومنها تخصيص العام:
وفيه مباحث:

المبحث الأول
أن قصر العام على بعض أفراده بالمستقل المتصل حقيقة أو حكما للجهل بالتاريخ فخرج غير المستقل وهو ما مر والمفصل المتراخي فإنه نسخ وقد مر أن دونه بيانا مغيرا من القطع إلى الظن والصحيح أن ذلك في التخصيص باللفظ أما بالعقل فقطعي كما قبله ولذا يكفر من أنكر فرضية العبادات الثابتة بخطابات خص عنها غير المكلف بالعقل فهذا تعريف مطلقه وإن أريد ما هو الغير قيد باللفظين أيضًا.

المبحث الثاني
في جواز التخصيص بالعقل خلاف الشرذمة، لنا: خروج الواجب القديم من نحو {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة: 120] لاستحالة مخَلوقيته ومقدوريته وغير المكلف من نحو {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] لعدم فهمه كل ذلك بالعقل.
قيل: التخصيص فرع صحة التعميم لغة وهو معلوم إذْ القائل بأني فاعل كل شىء لو أراد نفسه لحظي لغة قلنا التخصيص للمفرد وعمومه لغة من حيث هو الظاهر وبعد التركيب حكم العقل بتخصيصه بل وحين التركيب أيضًا غايته الكذب والخطأ لغة غيره وغير لازم منه.
قالوا أولا: ليس العقل متأخر والبيان متأخر عن المبين قلنا الواجب تأخر صفة مبينيته لا ذاته.
وثانيا: لو جاز التخصيص عقلا لجاز النسخ عقلا وليس إجماعا قلنا فرق بان النسخ سواء كان بيان لمد الحكم أو رفعه محجوب عن نظر العقل بخلاف خروج البعض عن الخطاب كما مر.

(2/139)


وثالثًا: أن ترجيح العقل على الشرع عند التعارض تحكم قلنا لا نعلم بل صرف للمحتمل القاطع.

المبحث الثالث في جواز تخصيص الكتاب بالكتاب
خلافا للبعض لكنه عند القاضي وإمام الحرمين إذا علم تأخر الخاص إذْ لو علم تقدمه ينسخه العام مطلقا ومن وجه في قدر ما تناولاه ولو جهل التاريخ يحمل على المقارنة فيثبت حكم التعارض في ذلك القدر وكذا عندنا لكن إذا اتصل الخاص المتأخر إذ لو تراخى كان ناسخا ويبقى العام في الباقي قطعيا فلم يجز تخصيصه بالقياس وخبر الواحد وعند الشافعي ومالك يخصصه الخاص تقدم أو تأخر أو جهل.
لنا: في الجواز ووقوعه ما مر من تخصيص الربا من البيع والمستأمن من المشركين وفي اشتراط تأخر الخاص:
أولا: إن قوله لا تقتل احدا بعد قوله اقتل زيدا منع له عن قتل زيد أيضًا هو المفهوم بالدلالة العادية القطعية فيصير نسخا قيل تخصيصه ممكن فيصار إليه دون النسخ لأولويته لغلبيته وكونه دفعا لا رفعا كما إذا تأخر قلنا لا يعارضان ما ذكر من الدلالة العادية فضلا عن الترجيح. وثانيًا: قول ابن عباس رضي الله عنه "كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث" (1) وظاهره أخذ الجماعة فكان إجماعا قيل محمول على ما لا يقبل التخصيص جمعا بين الأدلة قلنا سنبطل دليلكم وفي اشتراط وصله التراخي يقتضي سبق الثبوت فلا يحتمل إلا الرفع للمخصصين مطلقا أنه لو لم يخصص لبطل القاطع وهو الخاص بالمحتمل وهو العام والعقل قاض ببطلانه أما كون العام محتملا فقيل لجواز أن يراد به الخاص وقد مر أنه من احتمال المجاز فلا ينافي القطع، وقيل: للاختلاف في أنه للعموم أو الخصوص أو يوقف قلنا قد أبطلنا الأخيرين فلا يؤبه بهما على أنه عند الخصوم للعموم قطعا وللمعنيين مطلقا أن المبين هو الرسول عليه السلام لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] لا الكتاب ولا يكذب قلنا معارض بقوله في صفة القرَآن {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] والحل أن الكل ورد على لسانه فهو المبين تارة بالقرآن وأخرى بالسنة.
__________
(1) أخرجه ابن حبان في صحيحه (8/ 329) ح (3563)، والدارمى (2/ 16) ح (1708)، والبيهقي في الكبرى (4/ 240) ح (7930)، والإمام الشافعي في مسنده (1/ 157)، والإمام مالك في الموطأ (1/ 294) ح (650)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (2/ 64).

(2/140)


المبحث الرابع في جواز تخصيص السنة بالسنة
خلافا لشرذمة وهذه كالسالفة.

المبحث الخامس في جواز تخصيص السنة بالقرآن
لقوله تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] قالوا هي تبيين القرآن لقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} فالمبين قلنا الرسول هو المبين بكل منهما.

المبحث السادس في جواز تخصيص القرآن بخبر الواحد
كما بالمتواتر اتفاقا وينسب إلى الأئمة الأربعة لكنه عندنا بالمشهور مطلقا وبغيره بعد التخصيص لا بالعقل لا بعد النسخ، وقيل بعهد التخصيص بقطعي أو منفصل (وقال الكرخي بعد التخصيص بمنفصل قطعي أو ظني فالمنفصل ليس ناسخًا عندهما)، وتوقف القاضي بمعنى لا أدري.
لنا وقوعه كتخصيص الصحابة من قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] نكاح المرأة على عمتها وخالتها بقوله عليه السلامَ: "لا تنكحوا المرَأة على عمتها ولا على خالتها" فإنه مشهور وكما خص قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بقوله عليه السلام: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث" بعد تخصيص صور الموانع منه قيل إن أجمعوا على ذلك فالمخصص هو الإجماع لا السنة وإلا فلا نعلم التخصيص إذ لا يتصور فيه دليل سوى الإجماع. وأجيب: بأن عدم إنكارهم للتخصيص بخبر الواحد إجماع دل على جوازه أما قبل التخصيص فالعام قطعط الدلالة كما مر والثبوت فلا يعارضه غير المشهور لكونه ظني الثبوت والتخصيص بطريق التعارض لا لرد عمر خبر فاطمة بنت قيس في عدم وجوب النفقة والسكنى المخصص لقوله تعالى وأسكنوهن إذْ ذلك للتردد في صدقها ولذا علل الرد به.
قال ابن أبان ولذا لا يخصصه أول الأمر إلا قطعي وبعد ما خصصه صار ظنيا وقال الكرخي القطعي إذا ضعف بالتجوز لا يبقى قطعيا لأن نسبته إلى مراتب التجوز بالجواز سواء والمخصص بالمنفصل مجاز عنده دون المتصل فيعارضه الظن وفي تخصيصه الأول بالظني نظر إلا أن يريد ظنيا يكون سندا للإجماع للقاضي أن الكتاب قطعي ثبوتا وظني دلالة والخبر بالعكس فتعارضا فتوقف قلنا بل ودلالة كما مر.
السابع: أن الإجماع يخصصهما كإيجاب نصف الثمانين على العبد بالإجماع المخصص لآية حد القذف ولا بد أن يتضمن نصًّا مخصصًا يكون سنده نفسه أو قياسا يظهر حكمه حتى لو أمكن الإجماع في عهد الرسول على خلاف المنصوص متراخيًا كان

(2/141)


يتضمن نصا ناسخا لكن لا إجماع فيه كما لا نسخ بعده والحق عندنا أن لا تخصيص مع التراخي بل ذلك بنص مجهول التاريخ محمول على المقارنة والمعارضة فإن أمكن العمل بهما وإلا يطلب الترجيح فإذا ترجح الخاص يكون مخصصا.
الثامن: من قال بالمفهوم جوز تخصيص العام به سواء فيه الموافقة والمخالفة وذكروا في مثاله المخالفة ليعرف صحة تخصيص الموافقة بالأولى وهو تخصيص قوله عليه السلام "خلق الماء طهورا" الحديث بمفهوم قوله "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا" قلنا التخصيص بطريق المعارضة ولا يصلح المفهوم لضعفه معارضا المنطوق والجمع بين الدليلين من أحكام المعارضة على أن العام ورد في بئر بضاعة وكان ماؤه جاريا يسقى منه خمسة بساتين وإنما لا يخصص عموم اللفظ بخصوص السبب إذا لم يرد مخصص مثله في القوة وقد ورد هنا حديث المستيقظ والنهي عن البول والاغتسال في الماء الدائم من غير فصل ولئن سلم فحديث القلتين ضعفه أبو داود وقال لا يحضرني من ذكره ومثله دون المرسل فلا يكون حجة عندهم بالأولى ولئن سلم فيحتمل أن يراد إذا بلغ انتقاصا ضعف عن احتماله لا لمعنى يدفعه.
التاسع: فعل الرسول عليه السلام بخلاف العموم كالوصال في الصوم بعد نهي الناس عنه يخصص العموم إن قيل بحجيته فإن لم يثبت وجوب اتباع الأمة ففي حقه فقط وإن ثبت فبدليل خاص لذلك الفعل نسخ لتحريمه وبدليل عام في جميع أفعاله مثل خذوا عني مناسككم أي عباداتكم لا إن كنتم تحبون الله فاتبعوني لأن الأمر لا يقتضى العموم قيل يصير مخصصا بالنهي الأول من حيث هو خاص من وجه وإن لم يكن قطعيا لعمومه من وجه وذلك لأنه مرادا وداخل تحت الإرادة فيلزم على الأمة موجبه لا الاقتداء بالفعل وقيل لا بل يجب العمل بدليل وجوب اتباع فعله وهو المختار وقيل بالتوقف.
لنا أن العام المتأخر ناسخ قالوا تخصيص دليل الاتباع بالنهي الخاص المقدم جمع بين الدليلين قلنا الجمع من أحكام المعارضة ولا معارضة عند العلم بالتاريخ ولئن سلم فالدليل الثاني مجموع دليل التباع مع الفعل وهو أخص.
العاشر: علم الرسول عليه السلام بما فعله المكلف مخالفا للعموم وعدم إنكاره مخصص للفاعل وهذا من جزئيات القسم الثالث من أقسام بيان الضرورة كما سيجيء فلو تبين علة لتقريره الحق به من يوافقه فيها إما قياسا أو بقوله حكمي على الواحد حكمي على الجماعة إذ سكوته عن إنكار غير الجائز لا يجوز لقوله عليه السلام: "الساكت عن الحق شيطان أخرس" وإن لم يتبين فلا يتعدى لا قياسًا لتعذره ولا بالحديث لتخصيصه

(2/142)


إجماعًا بما علم فيه عدم الفارق للاختلاف في الأحكام قطعًا وها هنا لم يعلم.
الحادي عشر: مذهب الصحابي على خلاف العام مخصص والصحيح إن كان هو الراوي، وقيل: لا والمسألة فرع التمسك بالأثر لكنه إذا لم يكن الراوي يحتمل أن لا يبلغه أو لا يعتمد عليه.
الثاني عشر: أن العام قد يخصص بالعادة كما يعتمد عليها في كل يجوز ومعناه أن العادة إذا اختصت يتناول نوع من أنواع متناولات اللفظ العام تخصصه به استحسانا نحو أن يحلف أن لا يأكل رأسا يقع على المتعارف الذي يباع في السوق ويكبس في التنانير وهو عند أبي حنيفة رأس البقر والغنم وعندهما الثاني فقط أو بيضا يختص ببيض الإوز والدجاج ونحوها إلا سائر الطيور الغير المتعارفة وفي المبسوط ببيض الطور لا السمك أو طبيخا أو شواء فعلى اللحم المسلوق ومائه لا المقلي إذ لا يسمى مطبوخا ولا نحو البيض والباذنجان والجبن والسلق والجزر وهذا أحد أقسام ما يترك به الحقيقة ذكرناه تتبعا وسنستوفيها إن شاء الله تعالى وقيل لا يخصصه وهو القياس لأنه الحقيقة اللغوية.
لنا: أن الكلام للإفهام فالمطلوب به ما يسبق على الأفهام وذا هو المتعارف قطعا فينصرف الفعل المتعلق به إليه انصراف اللفظ الغالب استعماله في أحد متناولاته عرفا إليه كالدابة إلى ذات القوائم والنقد إلى نقد البلد للتعامل لا سيما في الأيمان المبنية على العرف قالوا العادة في التناول لا تصلح دليلا على نقل اللفظ من العموم إلى الخصوص بخلافها في غلبة الاسم قلنا غلبة العادة تستلزم غلبة الاسم ولئن سلم فالتخصيص ككل صرف عن الظاهر ليس من لوازمه نقل اللفظ فمن الجائز صرفه بالسياق والسابق والمحل والحال كما سنذكر وليعلم أن هذا نظير الحقيقة المهجورة مع المجاز المتعارف وفي مثله يحمل على المجاز اتفاقا بخلاف المستعملة معه غير أن المتعارف ها هنا في الفعل لا في اللفظ كما في تلك المسألة كما في وضع القدم للدخول والتوكل بالخصومة للجواب.
الثالث عشر: أن الخاص الذي يوافق العام في الحكم إن كان له مفهوم معتبر يدل به على نفي الحكم عن غيره يخصصه كما مر وإلا فلا خلافا لأبي ثور فإن قوله عليه السلام في شاة ميمونة "دباغها طهورها" (1) لا يخصص "أيما أهاب دبغ فقد طهر" (2) وهو فرع
__________
(1) أخرجه الدارمى (2/ 117) ح (1986)، والبيهقي ق الكبرى (1/ 17) ح (57)، والدارقطني في سننه (1/ 44)، وأبو داود (4/ 66) ح (4125)، والنسائي في الكبرى (3/ 84) ح (4570)، والإمام أحمد في مسنده (1/ 279) ح (2522).
(2) أخرجه مسلم (1/ 277) ح (366)، وابن الجارود في المنتقى (1/ 27) ح (61)، وأبو نعيم في =

(2/143)


مفهوم اللقب وسيجىء أنه مردود.
الرابع عشر: أن رجوع الضمير إلى بعض ما يتناوله العام كضمير {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] إلى الرجعيات من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] لا يخصصه خلافا لإمام الحرمين وأبي الحسين وقيل بالتوقف.
لنا: أن صرف أحد اللفظين عن الظاهر كمجازيته لا يقتضيه في الآخر، قالوا فيلزم المخالفة بين الضمير والمرجوع إليه قلنا لا يسمى مخالفة كإعادة الظاهر مقيدًا، للواقف لا بد من تخصيص الظاهر أو المضمر دفعا لتلك المخالفة ولا مرجح قلنا في تخصيص الظاهر تخصيص المضمر دون العكس فهو أولى ولو سلم فالظاهر أقوى دلالة ودفع الأضعف أسهل.
الخامس عشر: في جواز تخصيص العام بالقياس إن كان مخصصا قيل وهو مختار كثير من مشايخنا كابن أبان وغيره كتخصيص المدبور من قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] قياسًا على الفقر لما خص منه كثير من الأموال بالإجماع وغيره كاللآلئ والجواهر والتخصيص في الجملة منقول من الأئمة الأربعة والأشعري وأبي هاشم وأبي الحسين وشرط الكرخي التخصيص بمنفصل وابن سريج جلاء القياس قيل هو قياس المعنى لا الشبه أو ما علته ظاهرة كما لا يقتضي القاضي وهو غضبان من دهش العقل المانع عن تمام الفكر أو الذي لو قضي بخلافه ينقض والحق أنه ما قطع ينفي تأثير الفارق منه والبعض خروج الأصل المقيس عليه بنص وتوقف الإِمام والقاضي وعمل حجة الإِسلام بالأرجح من الظن الحاصل بالعام والحاصل بالقياس إن كان تفاوت وإلا فتوقف واختار ابن الحاجب أن ثبت العلة بنص أو إجماع أو كان الأصل مخرجًا عن العام خص به وإلا فقرائن آحاد الوقائع إن رجحت خاص القياس عمل به وإلا فبعموم الخبر وقال الجبائي يقدم العام جليا أوْ لا ومخصوصًا أوْ لا فهذه ثمانية مذاهب.
لنا ما مر أن التخصيص بطريق المعارضة والقياس لكونه ظنى الدلالة يعارض النص إلا إذا كان كذلك والعام قبل التخصيص قطعى الدلالة كما مر وهو المراد بقول الجبائي لزم تقديم الأضعف عن الأقوى إذ الاجتهاد في خبر الواحد في أمرين السند والدلالة وفي
__________
= مستخرجه على مسلم (1/ 410) ح (805) بتحقيقنا، والبيهفى في الكبرى (1/ 20) ح (68)، والدارقطنى في سننه (1/ 46)، والإمام الشافعي في مسنده (1/ 10)، وأبو داود (4/ 66) ح (4133).

(2/144)


القياس في ستة حكم الأصل وعلته ووجودها فيه وخلوها عن المعارض فيه ووجودها في الفرع وخلوها عنه فيه مع الأمرين إن كان الأصل الخبر. قال ابن الحاجب: ما ثبت عليته بنص أو إجماع أو كان أصله مخرجا بنص يتنزل منزلة نص خاص فيتخصص به جمعا بينهما ثم الإلزام بذلك إنما يراه عند الإبطال وها هنا إعمال لهما على أنه منقوض بتخصيص الكتاب بالسنة والمنطوق بالمفهوم.
قلنا: إن علم المعارض المماثل قوة من النص وغيره فالتخصيص به وإذا كان الأصل مخرجًا كان العام مخصصًا وظنيا فيعارضه القياس ثم لا نعلم أن إعمال الدليلين جائز أينما كان بل عند تساويهما قوة وإلا تعين العمل بالأقوى وإليه ينظر مذهب الغزالي - رحمه الله - وبه يعرف عدم ورود النقض بالتخصيصين لعدم قولنا بهما غير أن الجبائي اعتبر تفاصيل الظن وإمكان كثرة تطرق الخلل ونحن اعتبرنا نفس الظن فبعد حصوله واجب العمل به على المجتهد إجماعًا قلت مقدماته أو كثرت قال قدم الخبر في حديث معاذ وصوبه الرسول عليه السلام قلنا منقوضٌ بتقديم الكتاب على السنة وأنها تخصصه مشهورًا أو متواترًا أن التخصيص ليس إبطالا بل بيانًا وإعمالا بهما عند صلوح التعارض وقال أيضًا صحة العمل بالقياس للإجماع ولا إجماع ها هنا للخلاف قلنا الإجماع على صحة مطلق العمل به لا على صحة كل قياس يعمل به فلا ينافيه العمل به في موضع مع الخلاف فيه ولأن الإجماع في الحقيقة على العمل بالظن وأنه حاصل وبعد حصوله صار وجوب العمل به قطعيا كما مر في صدر الكتاب، للكرخي ما مر أن المخصص بالمنفصل مجاز فيضعف فيخصص بالظني قلنا المنفصل دافع فهو ناسخ والباقي بعده قطعي ثم مناط أمر القياس حصول الظن وهو وجداني سواء فيه جلاؤه وخفاؤه والباقي إما غير مخالف أو ظاهر الاندفاع وربما يستدل على أن القياس لا يخصصه مطلقا بأن العلة المستنبطة إنما تخصص راجحة لا مرجوحة ولا مساوية فيثبت باحتمال بعينه وينتفي باحتمالين آخرين منهما وهو أقرب من وقوع واحد معين وارجح ظنا وجوابه بأنه يجري في كل تخصيص ليس بشيء لجواز العلم برجحان المخصص أو قصد العمل بكلا الدليلين عند التساوي لا عند المرجوجية لعدم قوة المعارضة بل بأن هذا النوع من الترجيح إنما هو إذا لم يعرف بينهما شيء من الأحوال الثلاثة فيلتزمه لولا الحكم بالمساواة وبأن نمنع عدم التخصيص عند المساواة فإنه عمل بهم لا إبطال للعام.

(2/145)


المقصد الثالث في بيان الضرورة
وفيه إضافة الحكم على سببه فإنه بيان يقع للضرورة وأقسامه أربعة:
1 - ما هو في حكم المنطوق للزومه منه عرفا كالآية {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] لأن بيان نصيب أحد الشريكين بيان لنصيب الآخر.
ومنه بيان نصيب المضارب فقط في المضاربة وهذا عكسه استحسانًا لهذا لا قياسا لأن المحتاج إلى البيان نصيب المضارب وإلا فكل الربح نماء ملك رب المال وغير لازم لاحتمال أن يشترط بعض الباقي لعامل آخر ومثله المزارعة قياسًا واستحسانًا وعليه من أوصى لزيد وسعد بألف أو بالثك فقال لزيد منه أربعمائة.
2 - ما بينه حال الساكت القادر كسكوت النبي عليه السلام عن تغيير ما يعاينه من قول أوفعل من مسلم حتى لو سكت عما سبق نهيه كان نسخا لا استغناء عنه بما سبق كما وهم لأن تقريره على منكر وإلا لما صدق مدحهم بقوله: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}
[آل عمران: 104] إذ المراد عن كل منكر أما ما يعاينه من كافر كشرب الخمر والذهاب إلى كنيسة فسكوته لا يدل على جوازه وهذا سكوت الصحابة رضي الله عنهم عندنا كسكوتهم في خلافة عمر رضي الله عنه عن تقويم منفعة البدن في ولد المغرور بعد تقويم البدن فدل أن المنافع لا تضمن بالإتلاف المجرد عن العقد وشبهته بدلالة حالهم أن البيان كان واجبا عليهم يطلب صاحب الحادثة حكمها وهو رجل من بني عذرة تزوج أمة آبقة مغررا وولدت فاستحت وكانت أول حادثة لم يسمعوا فيها نصا بعده عليه السلام.
ومنه سكوت البكر في النكاح بدلالة حال الحياء والناكل عن اليمين بيان لوجوب المنال عند الإمامين بدلالة حال امتناعه عن اليمين الواجبة والإمام الأعظم رضي الله عنه لم يجعله إقرار لاحتمال الاحتراز عن نفس اليمين والاقتداء عنها اقتداء بالصحابة إذْ صلاح حاله لليمين ونسبته إلى الكذب ومنه دعوة المولى أكبر أولاد أمة ولدتهم في بطون بيان لنفى نسب الأخيرين بدلالة حال لزوم الإقرار عليه لو كانوا منه والسكوت عن البيان بعد تحقق الوجوب بيان المنفى.
3 - ما بينه ضرورة دفع الغرور كسكوت من يرى عبده يعامل كان إذنا لأن الناس يستدلون به على إذنه فيعاملونه فكان إضرار وسكوت الشفيع عن طلبها كان إسقاطا لضرورة دفع الغرور والضر رضي الله عنه عن المشترى وليس مندرجا في القسم الثاني كما ظن لأنه سكوت مع امتناعه شرعا لولا الرضا أو مع وجوبه عرفًا عند الرضا وليس ما نحن فيه بشيء منهما كيف وربما يكون المولى لفرط الغيظ أو لأن يتأمل في صلاحيته

(2/146)


للإذن فيأذن وكذا سكوت الشفيع.
4 - ما بينه ضرورة طول الكلام مثل له على مائة ودرهم أو دينار أو قفيزين جعل العطف بيانا لها عندنا وعند الشافعي مجمله وإليه بيانها لأن العطف لم يوضع للبيان بل للمغايرة وإلا فكذلك مائة وثوب أو شاة أو عبد وهو القياس. قلنا: استحسناه بالعرف والاستدلال فإن إرادة التفسير بالمعطوف فإن مميزه عينه متعارفة في نحو مائة وعشرة دراهم للإيجاز حتى يستهجن ذكره في العربية ويعد تكرارًا وكذا مائة ودرهم وعطف كل غير عدد إذا كان مقدار لأنه مما يثبت في الذمة في عامة المعاملة كالمكيل والموزون بخلاف له علي مائة وثوب فضلا عن نحو وعبد فإنه لا يثبت في الذمة إلا في السلم فلا يرتكب إلا فيما صرح به كالمعطوف ولأن المعطوفين كشيء واحد كالمضافين ولذا لم يجز الفصل بينهما إلا بالظرف فكما يعرف المضاف إليه مضافه يعرف المعطوف المعطوف عليه إذا صلح كما في المقدر. واتفقوا في له أحد وعشرون درهما أو شاة أنه بيان لكونه تفسيرا يعقب مبهمين متعاطفين والعطف للشركة فيما يتم به أحد المعطوفين كما على مائة وثلاثة دارهم أو ثلاثة أثواب أو شياه وأبو يوسف -رحمه الله- جعل على مائة وثوب أو شاة بيانا لأن احتمال قسمة الجميع قسمة واحدة جبرا دل على الاتحاد إذ الجبري ليس إلا في متحد الجنس بخلاف مائة وعبد قيل لا يصح الفرق لأن عدم التقسيم الجبرى في الرقيق مذهب الإمام وعند صاحبيه كغيره. فأجيب: بان جريانه بأنه عندنا عند اتفاق المتقاسمين وذا في الحقيقة بيع لا قسمة ورد بأن الرواية جريانه عندهما ولو بإرادة البعض ثم وجه بأن الفرق بالاتفاق في جريانه في غير الرقيق لا فيه والحق أن الحق قولهما في الرقيق على جريانه برأي القاضي لا بدونه كما في غيره.

المقصد الرابع في بيان التبديل
وهو النسخ ويستدعي الكلام في تعريفه وجوازه ومحله وشرطه الناسخ والمنسوخ ففيه مباحث:
الأول: في تعريفه هو لغة التبديل وهو إخلاف شىء بغيره ولذا سماه به في قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وذا يعتبر تارة في نفس الشيء فيعبر عنه بالإزالة نحو نسخت الشمس الظل لأنها تخلفه شيئا فشيئا وأخرى في مكانه فيعبر بالنقل نحو نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه إلى آخر ومنه مناسخات المواريث لانتقال المال في الورثة وتناسخ الأرواح لانتقالها في الأشباح والتعبير عنه في القرآن بالتبديل أدل دليل

(2/147)


على أنه حقيقته لا سيما وقد نقله الثقة من مشايخنا ففي كل من المعنين الآخرين مجازا باسم الملزوم فلا يلتفت إلى أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل باسم اللازم أو بالعكس باسم الملزوم أو مشترك واصطلاحا أن يدل على خلاف حكم شرعي دليل شرعي متراخ فالدلالة أولى من الرفع كابن الحاجب والبيان كبعض الفقهاء لأن صدق كل منهما باعتبار دون آخر فإنه بيان محض في علم الله المتعلق بأمد حكمه ورفع وتبديل في علمنا بإطلاقه الظاهر في البقاء.
ومن اللفظ والخطاب كإمام الحرمين والغزالي فأولا لأنه دليل النسخ لا عينه ولذا يقال نسخ به ويسمى ناسخًا ولا يلزم من كون شرط دوام الحكم عدم قول الله الدال على انتفائه أن يكون قطع الدوام ذلك القول لجواز أن يكون آلته كما أن عدم الآلة القتالة شرط بقاء المنقول وتفسير القول بالكلام النفسي ولقثيله بمدلول نسخت ينافي وقوعه موقع اللفظ ووصفه بالدال على الانتفاء فإنه عين النفي الخفي.
وثانيا: أن لفظ العدل نسخ حكم كذا داخل ليس بنسخ وفعل الرسول خارج نسخ إلا عند تأويل الدلالة بالذاتية فالأولى عدمه على أن دلالة الفعل عند من يجعله موجبًا ذاتية ويخرج بقولنا على خلاف حكم شرعى أي ما ينافيه لا ما يغايره رفع المباح الأصلي ولا يرد نسخ التلاوة فقط جمعًا لأن المقصود تعريف النسخ المتعلق بالأحكام إلا أن يدرج الأحكام اللفطة كصحة التلاوة في الصلاة وحرمتها على نحو الجنب وبقولنا دليل شرعي دلالة عدم الأهلية كما بالموت والجنون على عدمه كما خرج عدمه بالإذهاب عن القلوب وبانتهاء وقت الموقت ويتناول الكتاب والسنة القولية والفعلية وغيرها وبمتراخ المخصص ونحو الاستثناء لأنه دافع والناسخ رافع لا يقال لا يصح كونه رافعًا فإنه إما للحكم وتعلقه وهما قديمان فلا يرتفعان لأن القدم ينافي العدم لأثرهما وهو الفعل فليس الفعل الماضي أو الحاضر إذْ لا يتصور نسخهما ولا المستقبل قيل: لأن ما في المستقبل إذا نسخ لم يكن وما لم يكن لا يرفع فما في المستقبل لم ينسخ وفيه أن رفع المرفوع بهذا الرفع غير ممتنع.
والأولى: أن ما في المستقبل غير موجود فكيف يرفع لأنا نقول قد مر أن قدم المتعلق يختلف فيه بين المشايخ فيمكن أن يكون محل النسخ إياه لكن شبهة الأثر عائدة إن تمت امتنع النسخ والحق أن المنسوخ ليس نفس الفعل بما تعلق الحكم التكليفي لكن بالنسبة إلى إطلاقه في علمنا كما مر، أما بالنسبة إلى علم الله تعالى فالتعليق القديم مكيف بهذه الكيفية ومغيا بهذا الأمد فالمرتفع دوامه الظاهري الاستصحابي لا الحقيقي وهو المراد بالتعلق المظنون في المستقبل والقول بأن القديم الإيجاب والمرتفع الوجوب التنجيزي الذي هو

(2/148)


أثره ليس بتحقيق كما مر أن اختلافهما اعتباري وفي الحقيقة شيء واحد لأن ارتفاع الأثر اللازم يوجب ارتفاع الملزوم فإن أريد التعلق بالوجه الذي قررناه فذلك هو هو.
الثالط في جوازه: أجمع أهل الشرائع على جوازه إلا غير العيسوية من اليهود ففرقة منهم عقلا وفرقة سمعا وكذا على وقوعه غلا أبا مسلم الأصفهاني لأن كلاهما يسمى نسخا تخصيص عنده والحكم الأول مقيد بالغاية حتى في الشرائع المتقدمة إلى ظهور خاتم الأنبياء عليه السلام وبذا يعلم أن ليس النزاع في إطلاق لفظ النسخ وكيف يتصور من المسلم وقد ورد في القرآن بل في ورود نص على خلاف حكم نص سابق غير موقت والحق أن بشارة موسى وعيسى عليهما السلام بشرع محمد عليه السلام يحتمل أن تكون لتفسيره أو تقريره أو نسخ البعض وغير لازم منه توقيت جميع أحكامهم المنسوخة.
لنا في مجرد جوازه القطع به عقلا أما إذا لم يعتبر المصالح أي للعباد فالله غني عن العالمين فظاهر لأن الله يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل وأما إذا اعتبرت تفضلا على ما عليه الفقهاء فلجواز اختلاف مصلحة الفعل أو الأمر باختلاف الأوقات وعلم الخبير القدير به وإن كان غيبًا عنا كشرب الدواء ففي ذلك حكمة بالغة لا بداء كما في الإماتة والإحياء وفيهما أمر آدم باستحلال الأخوات والجزء كحواء ونسخ في سائر الشرائع.
قيل: بناؤه على حجية شرع من قبلنا ما لم يرد مخالفه فأولى منه أن يقال ثم حرم عليه إذا وجد أولاد أولاده لاندفاع ضرورة التناسل وليس بشيء لأن الكلام ها هنا في مطلق النسخ لا في النسخ بشريعتنا أما وجوب الختان يوم ولادة الطفل في شريعة موسى عليه السلام بعد جواز تركه في شريعة إبراهيم عليه السلام وحرمة جمع الأختين عندهم بعد جوازه في شريعة يعقوب عليه السلام والسبب بعد جوازه قبلهم فقيل لا يصلح للتمسك لأن كلا منهما رفع الإباحة الأصلية ولا ترد بأن الإباحة فيها بالشريعة فإن الناس لم يتركوا سدى في زمان لأن تقييد الحكم بالشرعي مستدرك حينئذ بل بأن سكوت الأنبياء عند مشاهدتها تشريع منهم فكانت أحكامًا شرعية.
لليهود أولا قول موسى عليه السلام تمسكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض وهذه شريعة مؤبدة عليكم فإنه متواتر قلنا على أن التأبيد قد يستعمل في الزمان المديد لا نعلم أنه قوله ومتواتر كيف وكتابهم محرف لا يصلح حجة ولذا اختلف نسخها ولم يجز الإيمان بالتورية التي فيهم بل يجب بالتي أنزل على موسى عليه السلام وكيف يتواتر بعد بخت نصر وقد قتل علماء اليهود شرقا وغربا واحرق أسفار التوراة قيل اختلقه ابن الراونى ويؤيد كونه مختلقا أنهم لم يحتجوا به للنبي عليه السلام وإلا لاشتهر عادة ولو كان

(2/149)


لفعلوه عادة.
وثانيا: أن النسخ لحكمة ظهرت بداء ولا لها عبث وكلاهما على الله تعالى محال قلنا لحكمة لكن المتجدد نفس المصلحة كما في شرب الدواء لا العلم بهذا فلا بداء.
وسره كونه بيانًا بالنسبة إليه وإلا فإن وجد المصلحة الأولى وقت النسخ فلا تجدد وإلا فلا ثبوت فلا نسخ اولا لحكمة لكن المنفى قصدها والعلم المتجدد بها ولا عبث لأنه ما لا مصلحة فيه وإن سلم أن ما لا قصد إلى مصلحة فيه يمنع استحالته على الله تعالى.
وتنويره إن أريد بظهور الحكمة تجددها اخترنا الإثبات ولا بداء أو تجدد العلم بها اخترنا النفي ولا عبث ولا إحالة فيه.
وثالثا: أنه يوجب كون الشيء حسنًا وقبيحًا معا لا يجاب بأنه في زمانين كما فعل وإلا فلا رفع، قيل: ولأن اجتماعهما على مذهب من يجوز النسخ قبل التمكين من الفعل كما هو المختار إنما هو في زمان وليس بشيء لأن المجتمع فيه الفعلان المأمورية والمنهى عنه لا الحسن والقبح بل بان الحكم حال النسخ حسن ظاهرا قبيح حقيقة أما الأول فلبقائه بالاستصحاب لا يقال ليس بحجة عندنا فلا علم بحكمه إلا حال نزوله لأنه حجة إنما
علم عدم تغيره فإن العلم بعدم نزول المغير في زمن الرسول عليه السلام علم بعدم المغير إذ لو كان لبين قطعا أو لأن النص هو المفيد بالإجماع أن الأحكام الشرعية لها حكم البقاء إلى زمان نزول الناسخ على احتماله وهذا كله في زمنه أما بعده فكونه خاتم النبين الثابت بالتواتر الموجب لانسداد باب الوحى بعده المقتض لامتناع النسخ بعده يفيد البقاء يقينا وأما الثاني فلأن الحكم الأول مغيا بهذه الغاية في الحقيقة.
ورابعا: أن الحكم الأول إما مغيا بها فلا رفع بعد غايته أو موبد فلا نسخ لأربعة أوجه التناقض والتادية إلى أن لا يمكن التعبير عن التأييد وإلى نفي الوثوق بتأييد حكم وإلى جواز نسخ شريعتكم والثواني باطلة باعترافكم.
قلنا: بعد ما مر مغيا عند الله ولا ينافي رفعه بالنظر إلينا لا نعلم الحصر بل مطلق عن القيدين قيل ولو سلم فالتأييد قيد الواجب والنسخ للوجوب أي الفعل أبدًا واجب في الجملة وإذا جاز نسخ وجوب المؤقت قبل وقته مع النصوصية فهذا أولى فلا تناقض ولا تأدية لأن المنسوخ غير ما عبر عن تأييده والوثوق لفة ونسخ الحكم المؤيد غير نسخ حكم المؤبد.
وفيه بحث
فأولا: لأن نسخ الوجوب يستلزم نسخ الجواز عندنا كما مر أنه الحق فإذا نسخ

(2/150)


وجوب المؤبد لم يبق جوازه فارتفع تأييده أيضًا.
وثانيا: وفيه سر واضح حجابه.
وثالثا: يكشفه لوقته كتابه.
رابعا: لأن ترديدهم إما مغيا أو مؤبد إنما هو في محل النسخ وإذا كان محله الوجوب كان الترديد فيه فلا يتم ذلك مخلصا والتعويل على ما سلكه أصحابنا.
وخامسا: أنه لو جاز فرفع الحكم إما قبل وجوده والشيء قبل وجوده لا يرتفع وإما بعده أي بعد ابتداء وجوده حالة بقائه لا حالة عدمه بعد الوجود لأن انعدام المعدوم ممتنع لكن الموجود لا ينعدم بعينه أي لا يكون المقصود بالنسخ ارتفاع عينه بل أن لا يوجد مثله ثانيا فيعود إلى الارتفاع قبل الوجود وأما معه فلمثله النسخ وإما في الحكم التكليفي فذلك يجوز ارتفاع تعلقه قبل وجود الفعل كما بالموت كذا قيل.
وفيه بحث: لأن التردد إذا كان في الحكم كان معنى هذا القسم ارتفاع الحكم قبل وجود نفسه ولا شك في امتناعه.
لا يقال فالأولى اختيار أنه بعد الحكم حالة بقائه قوله الموجود لا ينعدم بعينه قلنا فلا انعدام لأن جميع الموجودات المنعدمة كذلك بل ينعدم بارتفاع بقائه.
لأنا نقول المرتفع وجودًا كان أو بقاء لا ينعدم حالة وجوده ولا بعده بعينه وإلا لكان موجودًا معدومًا معا فالحق شيدنا أركانه أن المرتفع لبقاء المطون الاستصحابي لا المتحقق قطعا وذلك كاف لإطلاق الارتفاع فلله در من أختار بيانه.
سادسا: أن الحكم في علم الله إما مؤبد فليزم من النسخ جهله وإما موقت بلا ثبوت له بعد الوقت فلا رفع قلنا موقت بوقت معين عنده لعلمه بالارتفاع بالنسخ لكن ذلك التوقيت مما يقرر النسخ لا ينافيه ولا يخلو عن البحث انه لما لم يثبت وقت النسخ كيف ينسخ والأولى أن المرتفع بقاؤه المطون في نظرنا كما مر.
ولنا على الأصفهاني أولا إجماع الأمة قبل ظهوره وان شريعتنا بخلاف كل الشرائع أي تنسخ أحكامها المخالفة.
وثانيا: أن شريعتنا إن توقفت على النسخ وهي ثابتة ثبت والأحاد إثباته بالأدلة الشرعية بلا دور فهنا الإجماع قبل ظهور ومنها نحو قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] الآية.
وثالث: أن التوجه إلى بيت المقدس نسخ بعد وجوبه إجماعا بالتوجه إلى القبلة وكذا الوصية للوالدين بآيات لمواريث وكذا ثبات الواحد للعشرة بثبات الواحد للاثنين وغيرها،

(2/151)


الثالث في محله وهو حكم يحتمل الوجود والعدم من حيث ذاته ولم يلحق منافيه من تأييد أو تأقيت ثبت نصا أو دلالة وإلا فلا نسخ.
وتنويره أن الحكم إما أن لا يحتمل العدم لذاته كالأحكام العقلية من أسماء الله وصفاته وما يجري مجراها من الأمور الحسية أو لا يحتمل الوجود كالممتنع أو يحتملها كالشرعية الفرعية فإن لحقه تأييد أي دوام ما دامت دار التكليف نصا كآيتى ادخلوا خالدين ولا حمل على المكث الطويل بلا قرينة وفيه الكلام. قيل ومنه: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55] فهو تأييد في صورة التأقيت وذا باعتبار تضمنه الحكم بوجوب تقدم المؤمن على الكافر في الكرامات كالشهادة أو لأن مفهومه يحتملهما ذاتا كقوله عليه السلام: "الجهاد ماض إلى يوم القيامة" أو دلالة كالشرائع التي قبض عليها النبي عليه السلام كما مر أو توقيت كان يقول أحللت هذا إلى عشر سنين أو كان إخبارًا عن الأمور الماضية أو الحاضرة أو المستقبلية لم يقبل النسخ والإلزام خلاف قضية العقل والبداء والتناقض والكذب وإن أطلق فهذا هو المحل لجواز النسخ إذ لا دليل على البقاء عقلا أو نصا بل ظاهرا بخلاف الأقسام الستة فهذا كالبشرى يثبت الملك دون البقاء فينسخ لانعدام الداعي إلى شرعه لا أن الناسخ بعينه أبطله بل أظهره فلم يلزم تنافض وبداء واجتماع حسن وقبح في آن واحد بل في آنين ولو في فعل واحد كإيجاب الصوم غدا ونسخه قبله ولا يرد ذبح إسماعيل عليه السلام أنه مأمور به بعد الفداء لأنه فداؤه ومنهي عنه - رحمه الله - لأنه حرام قيل لأنه ليس بمنسوخ بل ثابت نحول مما أضيف إليه بسبب الفداء على ذلك قد صدقت الرؤيا أي حققت مما أمرت به بالإتيان ببدله فإن الإبدال ليس نسخا كالتيمم فذبح الشاة بالأمر الأول.
فأولا: لأنه لا أمر آخر والمأمور بلا أمر مح.
وثانيا: لأن موجب الفداء هو موجب الأصل كالشيخ الفاني هو المعلوم من نص النقدية كما عرف وأبرز في صورة ذبح الولد تحقيقا للابتلاء فيه وفي والده.
ورد بمنع أن الأمر بنفس الذبح بل بالاشتغال بمقدماته وإلا قال إني ذبحتك وقد اشتغل بها وبذا صدق الرؤيا، وأجيب أنه خلاف الظاهر فلا يصار إليه بلا دليل بل ترويع الولد والإقدام على المذبح بالجد دليل الظاهر والعبارة عن المباشرة إنما هي أذبحك أما ذبحتك فعبارة الفراغ عنها وتصديقه الرؤيا في الذبح حاصل وهو إمرار السكين على محل الذبح إمرار بالمبالغة.

(2/152)


وأقول فيه بحث لأن هذا الجواب محقق لاجتماع المأمورية والحرمة بعد الفداء لدافع والصحيح أن ذبح الولد مقيدا بالإتيان ببدله على الكيفية الواقعة من الترويع وغيره هو المأمور به من أول الأمر فلم يكن ذبح الولد مطلقا حسنًا أصلا.
فها هنا مسألتان الأولى لا يجوز نسخ الخبر عند الجمهور ماضيا ومستقبلا خلافا لبعض المعتزلة والأشعرية فإن أريد تكليف الشارع بالإخبار بشىء شرعي أو عقلي أو عادي فلا نزاع في جوازه لأنه للحكم في الحقيقة وكذا نسخ تلاوة الخبر لأنه لجوازها في الصلاة أو حرمتها لعلة الجنب أو نحوها وهل يجوز أن يكلفه الأخبار بنقيضه فعلى الرسول لا لأنه يرفع الثقة وعلى غيره نعم لجواز تكليفهم بالكتاب كما في المواضع الثلاثة خلافا للمعتزلة فهان أحدهما كذب والتكليف به قبيح فمبناه التقبيح العقلي وإن أيد نسخ الخارجي الذي يطابقه مفهوم الخبر فإن كان مما لا يتغير كوجود الصانع وحدوث العالم فلا اتفاقا للزوم الجهل والكذب كما في نسخ مدلوله النفسي وهو الجزم بالنسبة أو مما يتغير كإيمان زيد وكفره فالمختار لا لما مر خلافًا لهم ومنهم من أجازه في المستقبل فقط لأن الماضي قد تحقق قالوا إذا قال أنتم مأمورن بصوم رمضان ثم قال لا تصوموا رمضان جاز اتفاقا قلنا المنسوخ وجوب الصوم لا مدلول الخبر وهو وقوع الأمر.
تنبيهات
1 - قوله أنا افعل كذا ألف سنة أو أبدا ثم قال أردت عشرين سنة جائز اتفاقا لكنه تخصيص إن وصل وإلا فغير مسموع لأنه بيان تغيير لا نسخ.
2 - {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] قيل أي ينسخ ما يستصوب نسخه ويثبت بدله أو يتركه غير منسوخ وقيل يمحو من ديوان الحفظة ما ليس بحسنة ولا سيئة فلا دلالة فيه على نسخ الخبر.
3 - قلة من الآخرين ليس ناسخا لقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 14] لأنه إن صحت الحكاية فزيادة ألحقت بتضرعهم أو بدعاء الرسول عليه السلام وإلا وهو الأولى سياقا فالأولى في السابقين والثانية في أصحاب اليمين.
4 - {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118] لم ينسخ بقوله فبدت لهما سوآتهما ولا آيات الوعيد بالخَلود في النار بقوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] بل هي من باب تقييد المطلق بالقرائن لأن مجهول التاريخ مقارن.
5 - النزاع في خبر في غير الأحكام الشرعية أما فيها فكالآلام والنهي، الثانية في المقيد بالتأييد والتوقيت إن كانا قيدي الفعل نحو صوموا إلا الموالي كذا لأن الفعل يعمل بمادته

(2/153)


والوجود من الهيئة فالجمهور منا من السعة على جواز نسخه خلافا للجصاص وعلم الهدى والقاضي ابن زيد والشيخين ومن تبعهما أما إن كانا قيدي الوجوب نحو الصوم واجب مستمر أبدا لا يجوز اتفاقا أو ظاهرا محتملا نحو صوم رمضان يجب أبدا فإن الفعل أصل في العمل والمختار في التنازع أعمال الثاني ويحتمل ظرفا للصوم يجوز عند الجمهور ويحمل على خلاف الظاهر من أعمال إلا بعد وقيد على التجوز بالأبد عن المكث الطويل وفيه أن هذا التجوز يجوز في "يجب" أبدا أيضًا لا عندهم.
للجمهور أن أبدية الفعل المكلف به لا ينافي عدم أبدية التكليف به كما أن تقيده بزمان يجامع عدم تقيد التكليف به نحو هم غدا فمات قبله ولذا جاز نسخه اليوم كما مر وذلك لجواز اختلاف زمانيهما وإذا جاز ذلك في صم غدا مع قوة النصوصية فيما تناوله فهذا مع احتمال التجوز في الأبد أولى لا يقال تقييد الفعل بالأبدية لا من حيث هو بل من حيث كلف به فيستلزم أبدية التكليف به فإذا انتفت أبدية التكليف بالنسخ انتفت أبديته لأنا نقول إن أريد بالحيثية تقييد التكليف بها فليس يلازم ولئن لزم فملتزم وإن أريد اعتبارها في الفعل وقت التكليف فسلم ولا يقتضي تقييد التكليف.
وللمشايخ المتأخرين أولا أن ورود النسخ على الصوم الدائم والمؤقت يجعله غير دائم وموقت لأنه ينافيهما وعلى وجوبه يستلزمه لأنه إذا لم يجب جاز تركه فلم يدم فبين دوام الصوم ونسخ وجوبه منافاة نقيض كل لازم لملزومه فيكون مبطلا لنصوصية التأبيد كتأبيد الوجوب بعينه.
وثانيا: أن التأبيد بمنزلة التنصيص على كل وقت من الأوقات بخصوصيته ولا نسخ فيه بمنزلة التنصيص على وقته فقط من نحو صم غدًا أولا يرى أن التأبيد في الخبر قطعي حتى نسب حمل قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [النساء: 57] في حق الجنة والنار وأهليهما على المبالغة إلى الزيغ والضلال فَكذا في الحكم إذْ لا فرق بينهما في دلالة اللفظ.
وثالثا: أن عدم الجواز في نحو الصوم واجب مستمر أبدا إن كان لكونه خبرا مؤديا إلى الكذب فكذا الصوم المستمر المؤيد في رمضان واجب وإن كان باعتبار كونه حكمًا وإيجابًا فالإيجاب المويد للصوم كالايجاب للصوم المؤيد في أن نسخه بداء فالفرق تحكم.
وأقول: هذا القول كان حقيقا بالقبول لو بني عدم جواز نسخ المؤيد على لزوم رفع نصوصية التأبيد كما هو المفهوم من الكتب حتى فرقوا بينه وبين نسخ بعض أفراد العام بأنه لا يوجب كون المراد ولا بعضها فلا يرفع نصوصية العموم وهذا يرفع نصوصية

(2/154)


التأبيد لكن سر المسألة عندي أن اجتماع الحسن والقبح في زمان واحد إن لزم امتنع لامتناع لازمه وإلا فلا فنسخ الوجوب المؤبد يستلزمه ولو في بعض أزمنة ما نسخ وجوب الفعل المؤبد فلا لاحتمال أن يكون زمان الوجوب غير زمان الفعل أو بعضا منه فيتصف بالقبح في غير زمانه كما في صم غدا ثم نسخه قبله.
وها هنا يطلع على خلل نكتهم فإن الفعل المؤبد إذا لم يلاحظ معه الحكم الشرعي لا يتصور نسخه ولا قبحه فكيف يستلزم نسخ وجوبه نسخه ولا نعلم أن لا نسخ في التنصيص على كل وقت إذا قيد به الفعل بل إذ قيد به الوجوب فليس الإيجاب المؤيد كإيجاب المؤبد.
وفي فرقهم أيضًا منع يستند بأن نسبة الأزمان إلى نصوصية التأبيد كنسبة الأفراد إلى نصوصية العموم عندهم فالرفع وعدمه مشتركان.
تتمة: لا مثال للتأبيد والتأقيت في نصوص الأحكام الشرعية فليس في هذا الخلاف كثير فائدة أما نحو {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] فللتحريم في الحيض و {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ} [البقرة: 187] لإباحتهما في الليل وهما مطلقان لا مؤقتان وكذا نظيرهما.
الرابع: في شرطه هو التمكن من عقد القلب عندنا فإنه كاف وعند المعتزلة والصيرفي من الشافعية والجصاص وعلم الهدى والقاضي ابن زيد من الحنفية التمكن من الفعل أيضًا وهو أن يمضي بعد وصول الأمر إلى المكلف زمان يسع الفعل من وقته المقدر له شرعا ولا يكفي ما يسع جزعًا منه فكل من النسخ قبل دخول وقته أو بعده وقبل مضى ذلك القدر محل النزاع وبناؤه على أن الأصل عندنا عمل القلب فالنسخ بيان انتهاء مدته لكفايته مقصودا تارة كما في إنزال المتشابه وكونه أقوى المقصودين أخرى لتوقف كون العمل قربة عليه بدون العكس وعدم احتماله السقوط دونه وعندهم عمل البدن لأنه المقصود. بكل تكليف فصار النسخ لبيان انتهاء مدته فلو نسخ قبله كان بداء.
لنا أولا: خبر المعراج حيث نسخ الزائد على الخمس من الخمسين قبل التمكن من الفعل لا من عقد النبي عليه السلام وهو أصل وعقد جميع المكلفين ليس بشرط وهم ينكرون المعراج بمعنى الإسراء إلى المسجد الأقصى لثبوته بالكتاب بل بمعنى الصعود إلى السماء والحديث مشهور متلقى بالقبول كالمتواتر لا يمكن إنكاره.
وثانيا: أنه بعد وجود فرد من المأمور به أو زمان يسعه بدونه جائز اتفاقا وإن كان ظاهر الأمر يتناول كل ما في العمر فكما بين النسخ ثمة أن الأدنى هو المقصود ولم يؤد إلى

(2/155)


البداء فكذا هنا بل أولى.
وثالثا: أن النسخ يقتضي تحقق المنسوخ ليكون بيانا لانتهاء حسنه وقبح ما يتصور من أمثاله ولما لم يتحقق قبل الفعل بعد التمكن إلا عقد القلب مع الاتفاق في جواز نسخه علم أن محكم المقصود من الأمر ذلك وعمل البدن الروائد كالتصديق والإقرار في الإيمان.
أما التمسك بأن التكليف ثابت قبل وقت الفعل فيجوز رفعه بالنسخ كما بالموت من حيث يمكن مع ثبوت التكليف مع الموت لأن شرطه الحياة عقلا فلا رفع وبأن كل تكليف قبل وقت الفعل أو معه أو بعده لا نسخ لتعين الإطاعة والعصيان من حيث إن ليس كل نسخ كمحل النزاع لجواز أن يكون قبل وقت الفعل وبعد التمكن بوجود الوقت الذي يسعه وبقصة الذبح حيث أمر به لقوله تعالى: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] ولا قدامه وترويعه ونسخ قبل وقته لأنه لم يفعل فلو حضر وقته كان عاصيا من حيث إمكان أن يكون موسعا وقد انقضى منه ما يسعه ولا يعصي به ومثل هذا التعلق بالمستقبل لا يمنع النسخ عندهم ولا يرد لو كان موسعًا لآخر الإقدام والترويع رجاء أن ينسخ أو يموت فمثله من عظائم الأمور يؤخر عادة لأنا لا نعلم عدم التأخير فكونها في أول أوقات الإمكان غير معلوم أو من حيث أنه ليس بنسخ كما مر فإن الاستخلاف ليس نسخا.
ويكون مقرر للأصل وفائدة الأصل ابتلاؤهما بالانقياد وحرمة الذبح بعد الفداء حرمة أصلية معتادة كاستخلاف عقد الذمة عن الحرب لا شرعية ليقال التحريم بعد الوجوب نسخ لا من حيث أنه لم يؤمر بل يوهمه من الرؤيا أو لم يؤمر إلا بمقدمات الذبح وقد فعلها أو أنه ذبح لكن كان كلما قطع شيئًا التحم عقيبه أو خلق صفيحة نحاس يمنعه إذ لولا الأمر لم يقدم على المحرم ولما سماه بلاء مبينا ولما احتاج إلى الفداء ولكان على أصلهم توريطا لإبراهيم عليه السلام في الجهل بما يظهر أنه أمر وليس نقله معتبرًا والأمر بالذبح مع الصحيفة تكليف بالمحال فلا يجوز عندهم فليس شيء منها بشيء.
ولهم بعد ما مر من البداء أن الفعل لا بد من وجوبه وقت النسخ وإلا فلا رفع فلو عدم وجوبه به لكان مأمورا به وغير مأمور به حينئذ قلنا إن صح منع النسخ مطلقا وحله جواز كونه مأمورا به في وقت وجائزا تركه في وقت بعده هو وقت النسخ وكلاهما قبل وقت الفعل المقدر له شرعا فلا تناقض كذا قيل وحاصله أن زمان التكليف متعدد وإن اتحد زمان الفعل ولا يتم إلا مع حديث الاستصحاب المار إذ لا نسخ وقت الوجوب.
وها هنا مسائل
الأولى: شرط بعضهم في نسخ التكليف تكليفا يكون بدلا عنه أي خطابا لا وضعيا

(2/156)


سواء كان فيه كلفة كالوجوب والتحريم أو لا كالإباحة الشرعية والجمهور على جوازه بدونه.
لنا أولا: أن لا مصلحة وإلا فلعلها فيه بلا بدل.
وثانيا: وفوعه كنسخ وجوب تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول عليه السلام فالإباحة أصلية أما الإباحة بعد نسخ وجوب الإمساك عن المباشرة بعد الإفطار وتحريم لحوم الأضاحي فشرعية وإنما تصح مثالا لو أريد بالتكليفى إلزام ما فيه كلفة لهم أو لا: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآية ولا يتصور الخير والمثل إلا في البدل والجواب عنه بأن الآية هو اللفظ فبدلها لفظ فالمراد نأت بلفظ خير لا بحكم خير والنزاع في الثاني لما سيجيء أن ليس المراد اللفظ بل بأن الحكم أعم من البدل والشرعي فلعل الخير في حكمة الله عدم الحكم الشرعي وهو حكم أصلى ولئن كان فربما كان مخصصا بما نسخ لا إلى بدل ولئن كان فدلالته على عدم الوقوع والكلام في عدم الجواز.
الثانية: شرط بعض الشافعية كون البدل تكليفا أخف كنسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة بوجوب ثبات الواحد للعشرة بوجوب ثباته للاثنين وتحريم الأكل بعد النوم في رمضان بإباحته أو مساويا كنسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس بوجوبه إلى المسجد الحرام والجمهور على جوازه بدونه.
لنا ما تقدم من حديث المصلحة والوقوع كنسخ التخيير بين الصوم والفدية بتعيين الصوم وصوم عاشوراء وهي يوم بصوم شهر رمضان ووجوب الحبس في البيوت على الزاني بالجلد أو الرجم والصفح عن الكفرة بقتال مقاتليهم ثم يقتالهم كافة.
لهم أولا: أن النقل إلى إلا نقل أبعد مصلحة قلنا بعد النقض بأصل التكليف لا نعلم وجوب رعاية المصلحة ولئن كان فلعلها في الأثقل بعد الأخف كمن القوة إلى الضعف والصحة إلى السقم والشباب إلى الهرم.
وثانيا: بعد قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآية والخير هو الأخف والمثل هو المساوي والأشق ليس بشيء منهما قلنا خير باعتبار الثواب قال تعالى: {ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ} [التوبة: 120] الآية وقال عليه السلام: "أجرك بقدر نصبك" (1) ويقول للمريض الجوع خير لك.
وثالثا: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
__________
(1) لم أجده.

(2/157)


الْيُسْرَ} [البقرة: 185] الآية والنقل إلى الأثقل تعسير قلنا الآية مطلقة لا عامة والسلام للجنس لا للاستغراق ولئن كان فالسياق دليل إرادته في الآخرة كتخفيف الحساب وتكثير الثواب ولئن كان فحاز باعتبار ما يؤل إليه لأن عاقبة التكليف هذان ولئن كان دنيويا وحقيقة فخصوص بما مر من النسخ بالأثقل تخصيصه بأنواع التكاليف الشاقة والباليات في الأبدان والأموال.
الثالثة: بلوغ الناسخ إلى المكلف بعد الرسول شرط لزوم حكمه فبين التبليغين لا يلزم كما قبل التبليغ إلى الرسول خلافا لقوم.
لنا أولا: لزوم اجتماع التحريم والتحليل أن ترك العمل بالأول لحرمته للناسخ ووجوبه لعدم اعتقاد نسخه وكذا إن عمل بالثاني لعكسها.
وثانيا: لو ثبت قبله لثبت قبل تبليغ جبرائيل أيضًا بعد وجوده لاستوائها في وجود الناسخ وعدم علم المكلف به والفرض أنه لا يمنع والتالي باطل اتفاقا لهم أنه حكم محدد لا يعتبر علم المكلف به كما عند بلوغه إلى مكلف واحد.
قلنا الفارق بينهما وهو التمكن من العلم معتبر قطعا وإلا كان تكليف الغافل وهو من ليس له صلاحية اللهم لا من ليس عالما وإلا لم يكن الكفار مكلفين.
الخامس في الناسخ والمنسوخ: وفيه مباحث: الأول الإجماع "لا يصلح ناسخا ولا منسوخا" (1) خلافا لبعض مشايخنا (2) لأن زمن الإجماع بعد عهد الرسول إذ لا إجماع فيه دون راية وهو منفرد ولا نسخ بغده عليه السلام وسقوط نصيب المؤلفة في زمن أبى بكر رضي الله عنه لسقوط سببه لا بالإجماع وهذا وإن عم صورة فالمراد به أن لا ينسخ الكتاب والسنة به وبالعكس لا الإجماع بالإجماع فذلك يجوز.
والفرق أنه لا ينعقد مخالفا لهما ولو وجد فبنص هو المعارض بخلافه في مصلحة ثم في أخرى، وقيل: لا يجوز مطلقا أما ناسخيته فلأنه إما عن نص فهو الناسخ وإما لا عنه فالأول إما قطعي ولا إجماع على خلاف القاطع لكونه خطأ وإما ظني فقد انتفى بمعارضة الإجماع القاطع فلا ثبوت لحكمه فلا رفع.
وفيه بحث: فإن للإجماع عبرة وإن لم يعرف نصه وأيضًا إذا عرف نصه ربما لم
__________
(1) وهو قول الجمهور، انظر المستصفى للغزالي (1/ 126)، المحصول لفخر الدين الرازي (1/ 561)، اللمع لأبي إسحاق الشيرازي (ص/33)، فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت (2/ 81).
(2) وهو قول بعض المعتزلة، وعيسى بن أبان، انظر الحصول لفخر الدين الرازي (1/ 561) إحكام الأحكام للآمدي (3/ 229).

(2/158)


يعرف تاريخه فلم ينسخ بخلاف الإجماع المتراخي والإجماع على خلاف الظني لا يجب قاطعيته فلعله ظني راجح ولئن سلم فالثابت قبل انعقاده ولو بالظني إذا ارتفع به صار نسخا كارتفاع الثابت بالظني من الكتاب وخبر الواحد إذا نزل نص قطعي بخلافه وأما منسوخيته وهو رفع الحكم الثابت به فإما بقاطع من نص أو إجماع فيكون الإجماع الأول على خلاف القاطع وهو مح وإما لا به وكيف ينسخ القاطع بغيره ولا يقدم الأضعف بالإجماع.
أما القياس القطعي الذي نص الشارع على عليته فالنسخ به نسخ بالنص القاطع وفيه أيضًا بحث إذ إنما يتم لو كان الإجماع الأول قطعيا وهو غير لازم وكان منشأ لنزاع ذلك.
لهم في جواز ناسخيته مطلقا قول عثمان رضي الله عنه بعد ما قال ابن عباس رضي الله عنه كيف تحجب الأم بالأخوين وليس الأخوان إخوة حجبها قومك يا غلام فأبطل حكم القرآن بالإجماع قلنا الإبطال به يتوقف على القطع بعدم حجب ما ليس بإخوة وذا فرع المفهوم وعلى أن الأخوين ليسا إخوة وذا فرع أن الجمع لا يطلق على اثنين ثم هذا بالظاهر لجواز البخاري ولو سلم القطع فيهما فالإجماع الأول مشروط بعدم الثاني فحين انعقد لا إجماع غيره.
الثاني أن القياس المظنون لا ينسخ به ولا ينسخ أعم من أن يكون جليا أو خفيا واستنباطًا أو قياس شبه خلافا لابن عباس وابن سريج من الشافعية مطلقا ولأبي القاسم الإنماطي في نسخ قياس الاستنباط القرآني للقرآن والسني للسنة لأنه بنوعه في الحقيقة دون قياس الشبه أو في القياس الجلي في رواية أما الأول فلأن شرطه التغذية إلى ما لا نص فيه والمنسوخ ثابت بالنص أو بما فيه نص ولما سيجيء في السنة من اتفاق الصحابة على ترك الرأي ولو بخبر الواحد وقيل لأن الحكم الأول إما قطعي فلا يرتفع به وإما ظني مرجوح وإلا فلا نسخ فعند ظهور الراجح بطل شرط العمل به وهو رجحانه فلا حكم له فلا رفع وبذا يعرف أنه لا ينسخ إذ لا حكم له عند ظهور الراجح.
وفيه بحث لأن المرتفع بالناسخ لحكم المطون ثبوته في وقت ظهور لولاه لا المتحقق وإلا لتناقض كما مر ولا ريب أن الظني السابق ثابت حينئذ لولاه ورفع المرتفع المرتفع بهذا الرافع متحقق ها هنا كما مر من نسخ الظني من الكتاب السنة بقطعي أو راجح منهما.
قيل بينهما فرق هو أن الناسخ المتراخي ليس بموجود حين العمل بهما والقياس

(2/159)


موجود لأنه مظهر لا مثبت قلنا على أنه لا يفيد في إبطال منسوخيته غير لازم لجواز أن يكون النص الذي يظهر حكمه متراخيا نعم لو قيل لما كان مظهرًا كان الناسخ والمنسوخ في الحقيقة نصه لا نفسه لكان شيئا ولا سيما لا نسخ بعده عليه السلام والعبرة في زمنه عليه السلام بالنص.
قال الشافعي -رحمه الله-: القياس المقطوع وهو ما جميع مقدماته قطعية كأن كان حكم الفرع أقوى كحرمة الضرب على حرمة التأفف أو مساويا كحرمة صب البول في الماء الدائم على حرمة التبول فيه أو أدنى كحرمة النبيذ على حرمة الخمر ينسخ بالمقطوع في حياته عليه السلام سواء كان الناسخ نصا كالنص القطعي على خلاف حكم الفرع أو قياسا كالنص على خلاف حكم الفرع في محل يكون قياس الفرع عليه أقوى وهذا متفق على جوازه بينهم أما القياس على حكم الأصل المنسوخ فمختلف فيه كما سيجيء وأما بعد حياته عليه السلام فلا نسخ نعم قد يظهر أنه كان منسوخا.
وفيه بحث فإن القسمين الأولين مفهوم الموافقة المسمى عندنا دلالة النص والثالث ممنوع قطعيته وأيضًا فاعتبار ولا قرار للرأي في عهده دون الرجوع إليه.
للمجوزين مطلقا قياسه على التخصيص به ولا يصلح كون أحدهما في الأعيان والآخر في الأزمان فارقا إذ لا أثر له قلنا بعد النقض بالإجماع والعقل وخبر الواحد حيث يخصص بها ولا ينسخ الدفة أهون من الرفع وللأنماطي أنه نسخ بالنص في الحقيقة قلنا لا نعلم فإن الوصف المدعى علة غير مقطوع بأنه علة المنصوص حتى لو كان مقطوعا كالعلة المنصوصة جاز.
الثالث: أن النسخ بعدهما إما للكتاب أو السنة وكل بنوعه أو بالأجر فالكتاب به كالعدتين والسنة بها كإخبار وخالف الشافعي رضي الله عنه في المختلفين على نسخها به في رواية.
لنا فيه أولا: إمكانه في نفسه وعدم لزوم المحال كعكسه وبلا منع السمع فإن بيان أمد الحكم والله تعالى بعثه مبينا فمن الجائز أن يتولى بنفسه بيان ما أجرى على لسانه كعكسه.
وثانيا: وقوعه كنسخ التوجه إلى بيت المقدس وقد فعله عليه السلام في المدينة ستة عشر شهرا وحرمة المباشرة بالليل وصوم يوم عاشوراء وليس في الآيات ما يدل عليها بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ} [البقرة: 144] والآن باشروهن وفمن شهد منكم قيل يجوز أن يكون نسخها بالسنة ويوافقها القرآن أو يثبت المنسوخ بشرائع من قبلنا أو بقرآن نسخ تلاوته قلنا لو قدح ذلك لما صح إجماع العلماء على صحة الحكم بناسخيه

(2/160)


نص علم تأخره كما يخالفه وحجية شرائع من قبلنا معتبرة بما قص فيه ولم يقص في الكتاب وما نسخ تلاوته لا يسمى قرآنا بل سنة لأنه وحي غير متلو ولذا لا يجوز به الصلاة ومنه مصالحة الرسول عليه السلام أهل مكة من الحديبية على رد نسائهم ثم نسخ بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية وربما يتمسك بنسخ الشرائع السالفة بشريعتنا فيحتمل حجة له لأنها ما ثبتت إلا بتبليغه عليه السلام فلها حكم السنة ولعكسه لأنها ثابتة بالوحي المتلو وقد نسخ كلها أو بعضها في حقنا بقول أو فعل منه عليه السلام.
له أولا: لتبين للناس فلا يكون ما جاء به رافعا قلنا المعنى من البيان التبليغ ولو سلم فالنسخ بيان أمد الحكم ولو سلم فيدل على مبنيته في الجملة ولا ينافي كونه ناسخا لما ارتفع منها.
وثانيا: أنه مطعنة للناس توجب نفرتهم قلنا إذا علم أنه مبلغ لا غير لم يوجبها كما في الأقسام الأُخر.
ولنا في عكسه بعد ما تقدم من إمكانه ووقوعه ومنه ما سيجىء من أن أهل قباء استداروا في خلال الصلاة بقول ابن عمر رضي الله عنه إن القبلة قد حولت إلى الكعبة ولم ينكره الرسول عليه السلام أن المنسوخ بها حكم الكتاب لا نظمه وهي في حقه وحي مطلق مثله ولا لضحك بنسخ التوجه إلى الكعبة في الابتداء بالسنة الموجبة للتوجه إلى بيت المقدس لاحتمال كونهما بالسنة وهو الظاهر ولا بنسخ الوصية للوالدين والأقربين بقوله عليه السلام: "لا وصية لوارث" (1) لأنه لا يصلح ناسخا وليس متواتر الفرع حتى يجعل مشهورا وإن تلقته الأمة كيف ولم يذكره في الخلف البخاري ومسلم والنسائي وفي السلف مالك ولأن النسخ بآية المواريث لا لكونها مترتبة على وصية منكرة نسخت بإطلاقها المعهودة السابقة وإلا لوجب ذكرها أيضًا وإطلاق المقيد نسخ كتقييد المطلق وليست عينها لإعادتها نكرة ولر سلم لم يدل الآية على تقدم وصية إلا جانب ولم يستند الإجماع إلا إليها وذلك لجواز كونها شاملة لها وإن لم يكن عينها ولو سلم مباينتها لا ينفيها إلا بمفهوم اللقب لأن في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء: 11] إشارة إلى أنه تولى بنفسه بيان حق كل من الأقارب بعد ما فوضه إلينا لعجزنا عن معرفة مقاديره كما قال تعالى: {لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ} [النساء: 11] وقد أوضحها قوله عليه السلام: "إن
__________
(1) تقدم تخريجه.

(2/161)


الله أعطى كل ذي حق حقه" (1) ولا وصية لوارث.
تحريره أن الوصية شاملة شرعا للأوامر والنواهي والمواعظ والتخصيص بالتبرع بعد الموت عرف فقهي طارئ وهي للأقارب كانت مفوضة إلينا هو المفهوم من قوله بالمعروف ثم أوجبها الشارع مقدرة في آية المواريث ولا شك أنها تنافي المفوضة فنسخها وحين لم ينسخ بها إلا وصية الأقارب لتلك المنافاة بقيت وصية الأجانب فتعينت مراده بقوله {بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا} [النساء: 11] والحديث أوضح الأمرين نسخ الوصية المفوضة وإن المنسَوخة وصية الأَقارب.
وهذا تحقيق لكلام المشايخ لم أسبق إليه وبه يندفع أن إيجاب حق بسبب لا ينافي إيجابا كان بسبب آخر ولا نسخ بدون المنافاة وقال شمس الأئمة المنتفي بآية المواريث وجوب الوصية لا جوازها فالجواز نسخ بالحديث.
وفيه بحث لأن الجواز إباحة أصلية لا يكون رفعها نسخا ولا ينسخ الإمساك في البيوت أو الجلد لظاهر عمومه في حق الحصين بالرجم يفعله أو قوله عليه السلام إما لما روينا عن عمر رضي الله عنه أن الرجم كان مما يتلى في كتاب الله وهو قوله "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما" وإما لأن قوله تعالى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] بمعنى إلى أن فكان وجوب الإمساك مغيا به فبين عليه السلام إجماله بقوله أو فعله وذا جائز اتفاقا لأنه ليس نسخا وهذا أولى لما سبق أن المنسوخ تلاوته في حكم السنة فإن تواتر أو اشتهر فقد صح التمسك وإلا فلا يصح ناسخا على ما سيجيء ولا بنسخ لا يحل لك النساء من بعد بقول عائشة رضي الله عنها ما قبض رسول الله حتى أباح لله تعالى له من النساء ما شاء إن قوله من بعد محكم في التأييد ولو سلم فبقوله {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] الآية.
وقولها أباح ظاهر في أنها في الكتاب ولا بنسخ {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] الآية بنهيه عن أكل ذي ناب إما لأنَ النهي رافع للإباحة الأصلية لا بحكم قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 29] لأن معناه كما قيل خلق الكل للكل لا كل واحد لكل واحد ولئن سلم فالحديث مخصص لا ناسخ أو لأن معناه لا أجد إلا أن والتحريم في المستقبل لا ينافيه ولا ينسخ قوله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ
__________
(1) هو ضمن حديث لا وصية لوارث، أخرجه ابن الجارود في المنتقى (1/ 238) ح (949)، وغيره، وتقدم تخريجه.

(2/162)


شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 11] الآية بالسنة إذ منسوخ ولأبتلى ناسخة لا يقال ولم يظهَر في السنة أيضًا لأن القرآن محصور دونها ولا نسخ للمتلو بأحدهما وذلك لأدْ في كونه منسوخا اضطرابا فقيل وردت في أن يعطي لمن ارتدت امرأته ولحقت من غرم الصداق على سبيل الندب.
وقيل: على سبيل الوجوب لكن من مال الغنيمة لا من كل مال فعنى عاقبتم غنمتم أو غلبتم ثم لم ينسخ وقيل نسخ بآية القتال وقيل بقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] ومع هذه الاحتمالات لا تمسك ولا بتقرير النبي عليه السلام قول أبي رضي الله عنه حين نسي آية فقال لأبي هلا ذكرتنيها فقال ظننت أنها نسخت فقال عليه السلام: "لو نسخت لأخبرتكم ولم يكن له ناسخ في الكتاب لجواز أن يعتقد نسخها بآية لم تبلغه لضيق الوقت أو لعله ظن النسخ بالإنشاء كيف وقد مر أن السنة لا تصح ناسخة لنظم الكتاب لتقوم مقامه في الإعجاز وصحة الصلاة وغيرهما.
له أولا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] الآية إما لأن السنة ليست خبرا ولا مثلا أو لأن ضمير نأت الله تعالى قلنا المراد خيرية الحكم أو مثليته في حق المكلف حكمة أو ثوابا كسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن إذ لا تفاضل في القرآن من حيث اللفظ وبلاغته لكون جميع مقتضيات الأحوال مرعيا في كل منه ولذا لم يتفاوت في صحة الصلاة به وكره فعل يوهم اعتقاده على أن حكم القرى كما مر مثل السنة، والسنة أيضًا من عنده لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيات 3، 4] وبه يعلم الجواب عن تمسكه.
ثانيا: بقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] حيث يكون تبديله من الله تعالى كان بالسنة أو بالاجتهاد الذي يفعله بإذن الله لا من تلقاء نفسه أو المراد لا أضع لفظا لم ينزل مكان ما أنزل.
وثالثا: قوله عليه السلام: "إذا روى لكم عني حديث فأعرضوه" (1) الحديث فقد دل على رده عند المخالفة قلنا خبر العرض إن سلم ثبوته ففيما أشكل تأريخه ليحمل على المقارنة فيرد لعدم قوته على المعارضة أو أشكل صحته فلم يصلح لنسخ الكتاب به.
الرابع: لا ينسخ المتواتر كتابا كان أو سنة بآحاد لا يفيد القطع بالقرآن إلحاقه وينسخ بالمشهور وأما الأول فلأن المظنون لا يقابل القاطع قالوا التوجه إلى بيت المقدس كان
__________
(1) لم يثبت فيه شيء، وانظر كشف الخفاء للعجلوني (2/ 569).

(2/163)


متواتر فاستداروا في قباء بخبر الواحد ولم ينكره الرسول عليه السلام قلنا للقطع بالقرآن فإن نداء مناديه عليه السلام بحضرته في مثلها قرينة صدقة عادة وبه يجاب عن تمسكهم ثانيا ببعثه الآحاد ليبلغ مطلق الأحكام حتى ما ينسخ متواتر لو كان وأما الثاني فلأن النسخ من حيث بيانه يجوز بالأحاد كبيان المجمل والتخصيص ومن حيث تبديله بشرط المتواتر فيجوز بالمتوسط بينهما عملا بشبهيه.
تحصيل: لتعيين الناسخ من المنسوخ طرق صحيحة كالعلم بالتاريخ وتنصيص الرسول بناسخيته صريحا كهذا ناسخ أو دلالة كأحاديث كنت نهيتكم وكالإجماع وكذا تنصيص الصحابة خلافا لمن لا يرى التمسك بالأثر.
ولهم إذا تعارض متواتران فعين الصحابي أحدَهما أنه ناسخ قولان من حيث أن الناسخ آحاد وربما قاله اجتهادا وإليه يميل أبو الحسين أو متواتر والأحاد دليل ناسخيته فقد يقبل مآلا ما لا يقبل ابتداء كالشاهدين في الإحصان دون الرجم المرتب عليه وشهادة النساء في الولادة دون النسب وهو مذهب القاضي عبد الجبار وقال الكرخى إن قال هذا نسخ ذاك لم يقبل وإن قال هذا منسوخ قبل لان الإطلاق دليل ظهوره عنده وفاسده كتأخره في المصحف إذ لم يرتب ترتيب النزول وكحداثة سن الصحابة أو تأخر إسلامه إذ لا يلزم منهما تأخر منقولهما إلا أن ينقطع صحبة الأول قبل الثاني فيرجع إلى العلم بالتاريخ وكموافقته للبراءة الأصلية فيجعل متأخرا ليفيد وذلك لأن تأخره يستلزم تغييرين والأصل قلته لا نسخين لأن رفع الحكم الأصلي ليس نسخا.
تنبيه: إذا لم يعلم الناسخ وجب التوقف لا التخيير كما ظن لأن فيه رفع حكمهما أحدهما حق قطعا.
الخامس: الثابت بدلالة النص يجوز نسخه مع نسخ الأصل دونه بلا عكس لأن حكم الأصل ملزومه كتحريم التأفيف والضرب فرفع اللازم ملزومه رفعه لأنه عكس نقيضه بلا عكس.
للمجوز مطلقا أنهما دلالتان متغايرتان فجاز رفع كل بلا أخرى قلنا لا نعلم الكبرى عند الاستلزام. وللمانع مطلقا من طرف الأصل ما مر ومن طرف الفحوى أنه تابع لا يبقى بدونه قل ضد التبعية في الدلالة والفهم لا في ذات الحكم والمرتفع بالنسخ ذاته لا دلالة اللفظ فلا يتم التقريب.
السادس: إذا نسخ حكم أصل القياس لا يبقى حكم فرعه خلافا للبعض ثم بينهم في

(2/164)


أنه يسمى نسخا لحكم الفرع نزاع لفظي.
لنا أن نسخه يوجب إلغاء علية علته لأنها بترتب الحكم وبانتفائها ينتفي الفرع، لهم أنه تابع للدلالة لا الحكم كما في الفحوى.
قلنا بل يلزم هنا انتفاء الحكمة المعتبرة في الفرع لاتحادها لا في الفحوى؛ لأن حكمه الأصل ثمة كالتعظيم المحرم للتأفيف أقوى فلا يلزم من ارتفاعه ارتفاع الأدنى كالتعظيم المحرم للضرب.
قالوا أنتم قستم الفرع بالأصل في عدم الحكم بجامع عدم العلة ولا يصلح جامعا.
قلنا لا بل حكمنا بانتفاء الحكم المعين لانتفاء علته المخصوصة وذا ليس قياسا إذ لا يحتاج إلى أصل وفرع وعلة.
هذا جواب القائلين بالاستدلال وسنبين إن شاء الله تعالى أنه راجع إلى أحد الأربعة فهذا إما على إجماع القائلين بالحكم والمصالح أن الحكم لا يثبت بلا حكمة ما وإما إلى النصوص المفيدة له نحو: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} [الأنعام: 145] الآية وإما إلى قياس بجامع صالح.
السابع: أن المنسوخ أربعة عندنا لتلاوة مع الحكم المستفاد منها أو أحدهما.
والرابع: وصف الحكم فالمورد منسوخ الكتاب إن اختص التلاوة به ونسخ بعض الحكم مندرج فيه اندراج نسخ الشرط تحت الوصف فالأول كصحف إبراهيم عليه السلام وما روت عائشة رضي الله عنها أنه كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات وذلك إما بدليل شرعي أو بموت العلماء أو بالإنسان وذا جائز في حياته للاستثناء في قوله تعالى:
{سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6، 7] ولقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} [البقرة: 106] وروى عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن سورة الأَحزاب كانت تعدل سورة البقرة لا بعد وفاته عليه السلام صيانة للدين بقوله تعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] خلافا لبعض الرافضة والملحدة ورواياتهم مردودة والثاني والثاكَ أنكرهما بعض المعتزلة.
لنا أولا: جوازه من حيث إن اللفظ أحكاما مقصودة كالإعجاز وجواز الصلاة والثواب بقرائنه وحرمتها على نحو الجنب لا تلازم بينها وبين الحكم المستفاد منه فيجوز افتراقهما نسخا كسائر المتباينة.
وثانيا: وقوعه فالتلاوة فقط كما روى عمر رضي الله عنه أنه كان فيما أنزل الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما نكالا من الله ويراد بهما عرفًا المحصن والمحصنة لأن الشيخوخة

(2/165)


تستلزم الدخول بالنكاح عادة وكمتتابعات في قراءة ابن مسعود رضي الله عنه لأنه لما الحق بالمصحف ولا تهمة في روايته حمل على نسخ نظمه وبقاء حكمه وللمنع فيه وهو أن التواتر في القرآنية شرط فيها ولم يتحقق فيما نسخت تلاوته فلم يكن الباقي حكم القرآن.
جوابه: هو أن ذلك في حقنا أما في حق الرواة فيثبت بإخبار الرسول عليه السلام أنه من عند الله غايته كونه قرآنا فيما مضى بالظن ولا محذور فإن القطع شرط فيما بقى لا فيما نسخ والحكم فقط كنسخ إيذاء الزواني باللسان وإمساكهن في البيوت والاعتداد بالحول ووصية الوالدين وسورة الكافرين ونحوها.
لهم أولا فيهما أن التلاوة والحكم متلازمان كالعلمية مع العلم والمنطوق مع المفهوم قلنا بعد أن لا عالمية فإنها عين قيام العلم بالذات إذ الحال لا نعلم لزوم المفهوم إن أريد به الموافقة كما هو اللائق ولذا صح قول الملك إذا استوجب شريف حدا اجلده ولا تقل له وإن أريد المخالفة فلا نعلم ثبوته فضلا عن لزومه ولئن سلمنا فالتلازم بين التلاوة والحكم لكونهما إمارته وذا في الابتداء لا البقاء ولذا يتكرر التلاوة دون الحكم والنسخ في البقاء.
أما المثالان فالمتلازم بينهما لو ثبت ثبت في الحالين وبذا يسقط بأن لهم أن النص وسيلة حكمه فلا اعتبار لها عند فواته كوجوب الوضوء بعد سقوط الصلاة وأن الحكم لا يثبت إلا به فلا يبقى دونه كالملك الثابت بالبيع بعد انفساخه وذلك أن التوسل والنسب هنا في الابتداء وفي الصورتين مطلقا وثالثا ورابعا في بقاء التلاوة أنه يوهم بقاء الحكم وأنه تجهيل قبيح وأنه يبطل فائدته والقرآن منزه عنه قلنا بعد بطلان التقبيح العقلي إنما يكون تجهيلا لو لم ينصب عليه دليلا وهو للمجتهد دليله وللمقلد الرجوع إليه ولمجرد التلاوة فائدة كالأحكام اللفظية وأما الرابع وهو نسخ وصف الحكم كالأجزاء والاعتداد وحرمة ترك الواجب بزيادة جزء في الواجب المخير كالشاهد والمبين علي قسمي الاستشهاد أو المعين كركعة على ركعتي الفجر ومنه زيادة التغريب على الجلد وعشرين على أربعين سوطا وإن فارقاها بعدم وجوب الاستيناف لعدم وجوب الاتصال بين أجزائه أو شرط كالطهارة على الطواف ومنه زيادة قيد الإيمان على مطلق الرقبة.
وذكر ابن الحاجب من صورها رفع مفهوم المخالفة كإيجاب الزكاة في المعلوفة بعد نص السائمة ورد بعدم صحته محلا لنزاع الحنفية لعدم قولهم به فوجه بأنه تفريع على تقدير القول به وأنكره الشافعية والحنابلة مطلقا وقوم غير مفهوم المخالفة وهو الجزاء والشرط وقال عبد الجبار - رحمه الله - إن غيرت تغييرا شرعيا وفسره أبو الحسين بأن

(2/166)


جعلت الأصل كالعدم ووجب أصنافه فنسخ كزيادة الركعة وإلا فلا كالتغريب والعشرين فأورد عليه أن زيادة شرط منفصل كالطهارة في الطواف ليس نسخا عنده ويجب الاستئناف بدونه وزيادة وظيفة في الخبر نسخ عنده ولا يجب الاستيناف فيها وليندفع ذلك فسره ابن الحاجب يكون الأصل كالعدم فقط فأخطأ بإدراج بعض الحد لأنه كالعدم في عدم الإجزاء.
أما إدراج المخير مع أن الأصل فيه مجزي فوجه بأن تركه لما صار كوجوده في عدم الحرمة وإن كان تركه قبل الزيادة حراما لا وجوده صار وجوده كعدمه في عدم الحرمة ولو بدل الثالث بإمكان الإجزاء بدونه لكان أقرب ولم يندفع إشكال زيادة الشرط أصلا ويرد عليه أيضًا أن الزيادة في المخير إذا كانت نسخا فزيادة مثل التغريب والعشرين أولى إذ به اشتراكهما في عدم وجوب الاستئناف أصل المخير مجزئ دونهما.
وقال الغزالي رحمه الله: إن صار الكل شيئا واحدا كركعة في الفجر فنسخ وإلا كعشرين في الحد والطهارة في الطواف فضل المخير واختار ابن الحاجب مذهب أبي الحسين أنه أن رفع الزيادة حكمًا شرعيا ثابتا بدليل شرعي فنسخ وإلا نحو أن يكون عدما أصليا فلا.
وهذا أقرب لأنه مبني على حقيقة النسخ وهو مآل مذهبنا وان اختلف في بعض الأمثلة لأصل آخر فمن الوفاقية زيادة الركعة والتغريب والعشرين لحرمة هذه الثلاثة قبلها بالإجماع وإن كان سنده في الأخيرين لا ضرر ولا إضرار في الإسلام فليس تخصيصا والتخير بعد التعين كما بين غسل الرجل ومسح الخف بعد وجوب الغسل عينا وكل منهما حكم شرعي وإيجاب الزكاة في المعلوفة بعد نص السائمة على تقدير ثبوت المفهوم وتحقق شرائطه ومن الخلافية زيادة وظيفة على المخير كالحكم بهما.
ولو جاز بثالث لذكر وزيادة غسل عضو في الوضوء وركن في الصلاة قالوا المرفوع فيها عدم جواز الحكم بشاهد ويمين وعدم وجوب ذلك لزائد فيهما قلنا يرفع الأول حرمة تركهما أو وجوب أحدهما في الحكم والآخر أن الأجزاء بدونهما وكل منها حكم شرعي.
قالوا حرمة ترك الأمرين لا يعلم بمجرد التخيير بينهما ولو قيل بالمفهوم لأن مفهوم طلبهما أن غيرهما غير مطلوب لا أنه غير مجزي بل مع العلم بأن الأصل عدم ثالث والإجزاء امتثال به وعدم توقف على شيء آخر والأول لم يرتفع والثاني عدم أصلي قلنا جعل تعيين الأمر الواحد بشخصه شرعيا فرفعه غير نسخ تحكم يوضحه أن منكر وجوب أحدهما أو حرمة تركهما يكفر ولا يكفر منكر العدم الأصلي إن لم يعتبر شرعيا.

(2/167)


ولذا يقال المذكور في صدد الجزاء يكون كله وذا بإشارة العرف ولئن سلم فالحكم هو المجموع ولا يلزم من كون جزئه عدما أصليا كون المجموع كذلك على أن الإجزاء قد سلف أنه حكم شرعي وضعي وبهذا يعرف بطلان مذاهب الخصوم أجمع وقال أبو الحسين حرمة الترك مبنية على عدم اتخلف عنه وأنه عد أصلى وكل مبني عليه ليس حكما شرعيا فليس رفعه نسخا ولذا ثبت التخيير بين غسل الرجل ومسح الخف وبين الوضوء بالنبيذ والتيمم وبين القسمين والشاهد واليمين.
قلنا: عدم الخلف ليس علة لحرمة الترك بل مثبتها النص عنده ولو ارتفع شرعية الحكم بذلك القدر لم يكن وجوب شىء ما شرعيا لأن حرمة تركه مبنية على عدم الخلف والتخيير بين الأمرين يجعل كل أصلا فليس هذا استخلافًا ولذا صار نسخا دونه ففي المسألتين الأوليين بالخبر المشهور الذي يزاد به وينسخ اتفاقا والثالثة ممنوعة فالثمرة عدم جواز الزيادة بخبر الواحد إذا لم يشتهر خلافا لهم وفي أن زيادة عبادة مستقلة ليست نسخا إذ لا تأثير لها في عدم إجزاء مسبب بعد سببه اتفاق لا إجماع إذ قال بعضهم إيجاب صلاة سادسة نسخ لأنه لا يبطل كون الوسطى وسطى فوجوب المحافظة عليها.
قلنا لا يبطل وجوب ذلك الوسطى بل كونها وسطى وليس شرعيا وقال الغزالي إذا لم يتحد الأصل بالزيادة كانت ضما لا رفعا كزيادة عبادة مستقلة وإذا اتحد بها ركنين وصارا حقيقة أخرى التحق بالعلم حقيقة فصار نسخا لا يقال إن اعتبر اتحاد الماهية الاعتبارية الشرعية فزيادة الحد كذلك لأن المجموع هو الحد شرعًا والفرق بوجوب الاستئناف لشرط آخر هو وجوب الاتصال بين أجزاء الصلاة لا بين أجزاء الحد وإن اعتبر وجوب الاستئناف فالطواف بعد اشتراط الطهارة كذلك لأن له أن يقول المعتبر كلاهما أي وجوب الاستئناف لفقد ركن.
قلنا رفع الكل لا يتوقف على رفع كل جزء فوجوب الاستئناف وعدمه في تحقق الرفع سواسية وعد اعتبار الشرط مبني على أن الشرعي هو المشتمل على الأركان فقط لا المعتبر شرعا وقد تقدم بطلانه وبه يعرف فساد مذهب عبد الجبار بعد ما مر في إدارة الفرق على كون وجوده كالعدم أو وجوب الاستئناف.
وقال الشافعي أولا الزيادة ضم وتقرير للأصل والنسخ رفع وتبديل ففي في حقوق الله تعالى كزيادة عبادة مستقلة وفي حقوق العباد كمن ادعى ألفا وخمسمائة فشهد شاهد بألف وآخر به وبخمسمائة.
يوضحه أن الناسخ متأخر لو تقارنا لتنافيا ومثبت الزيادة يوجب الجمع لا ينافيه ويزيد

(2/168)


توضيحه أن الزيادة مقيدة كتقييد الرقبة بالإيمان والمطلق في التناول البدلي كالعام في التناول الشمولي فكما أن تخصيصه ليس نسخا فكذا تقييده ومن البين الفرق بين الدفع والرفع قلنا إن أريد المنافاة في الوجود فلا يعتبر وإن أريد في الحكم الشرعي فالمنافاة ظاهرة إذْ ليس للبعض كالمطلق حكم وجود الكل كالمقيد لا في العبادة كبعض الركعات ولا في العقوبة كبعض الحد حتى لا يبطل شهادة القاذف ببعضه. أما بطلانها عندك فلترتبه على القذف لا الحد ولا في الكفارة كصوم المظاهر شهرًا ثم إطعام ثلاثين لا يكون مكفرا بشيء منهما وهذا بعض العلة لا يوجب حكمها ولذا قال الأولان بعض المثلث لا يحرم لأنه بعض المسكر والحرمة في غير الخمر للسكر بالحد وقالوا جميعًا بعض المطهر للحديث والجنب كالعدم وإن قال الشافعي - رحمه الله - في قول لا يجوز التيمم قبل استعماله لأن {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] عام، قلنا مخصوص فيخص غير الكافي.
يوضحه أن المطلق يستلزم بدون القيد والمقيد عدمه وتنالني اللزوم ملزوم تنافي الملزومات إذ لا يشكل أن الجلد بعد إلحاق النفي لا يبقى حدا وإذا تنافيا كان أحدهما منهيا للآخر وبيان أمد الحكم الشرعي نسخ فنظيره اختلاف الشهود في قدر الثمن أي البيع بألف أو بألف وخمسمائة لأنه الموجب للتغيير لا ما قاله ومثله الطلاق المنجز والمعلق أما إلحاق التناول البدلي بالشمولي فإلحاق للمحتمل بالموجب وللساكت بالناطق.
يوضحه أن العام بعد التحاقه عامل فيما هو المراد بنفسه والمطلق بعد التقييد عامل بالمقيد فيحقق أن التقييد إثبات ابتدائي والتخصيص إخراج بنائي.
فروعنا: فلا يزاد التغريب على الجلد والنية والترتيب والولاء شرطا على الوضوء ولا هو على الطواف ولا الفاتحة والتعديل فرضا بخبر الواحد ولا الإيمان على الرقية بالقياس وقد مر تمامه.
ذنابة: أما نقصان الجزء كركعتى الظهر أو الشرط كطهارته فنسخ لهما اتفاقا وهذا لما هما له وقيل ليس بنسخ مطلقا وعند عبد الجبار جزاءً لا شرطًا. لنا أن رفع الجزء أو الموقوف عليه رفع للكل والموقوف.
قالوا: لو كان نسخا لافتقر الباقي إلى دليل جديد قلنا إنما يلزم لو كان بنسخ كل جزء أما بنسخ بعض الأجزاء فلا فالباقي من حيث خصوصيته ليس منسوخا لا يحتاج إلى حكم ودليل جديدين.
الثامن: في أن نسخ جميع التكاليف غير جائز وإن جاز رفعه بإعدام العقل اتفاقا

(2/169)


كالاتفاق على امتناع نسخ وجوب معرفة الله تعالى لا مطلقا بل بالنهي عنها لا على تجويز تكليف المحال لأن الحلم بنهيه يستدعي معرفته فعندنا لا يجوز نسخ نحو وجوب المعرفة مطلقا وحرمة الكفر وكذا نحو الظلم والكذب وسائر القبائح العقلية الثابتة عند المعتزلة وعند الغزالي يجوز إلا في وجوب معرفة النسخ والناسخ وقالت الأشعرية بجواز نسخ الجميع لأن كل حسن وقبح شرعي عندهم فيجوز نسخها إذ التكليف غير واجب أصلا.
وعند المعتزلة عقلي فلا يجوز أن ينسخ منها لا ما يختلف باختلاف المصالح قلنا ما يتوقف ثبوت الشرع عليه من وجوب المعرفة وحرمة الكفر وغيرهما مما لا يقبل السقوط عقلا لا شرعا لما مر من الدور فلا ينسخ بخلاف غيره على أن نحو الظلم والكذب مما قد لا يقبح.
وللغزالي رحمه الله تعالى أن نسخ الجميع مستلزم لنقيضه فيكون مجالا إذ لا ينفك عن وجوب معرفة النسخ والناسخ أي الشارع ولعدم تمام ملازمته إذ وقوع الشىء لا يستلزم معرفته بل وإمكان معرفة غيره بعضهم إلى معرفة نسخ الجميع يستلزم معرفتهما فيجب على ذلك التقدير وذا خلاف المفروض لا يقال جواز الشىء لا يستلزم معرفته فضلا عن وجوب معرفته والمستلزم لوجوب معرفتهما وجوب معرفته لا عينها لأنا نقول كلامنا في الوجوب الشرعي لمعرفة النسخ وهو ثابت إذْ لا نسخ إلا بدليل شرعى يجب فهمه قلنا المراد بنسخ الجميع أن لا يبقى تكليف فمن أين الوجوب الشرعى ولئن سلم فلا نعلم وجوب فهم كل دليل شرعي وإنما يجب فهم ما يترتب عليه امتثال بنوع ما والناسخ للجميع ليس كذلك ولئن سلم وجوب معرفته لكن معرفته إنما تستلزم المعرفين في الابتداء لا في البقاء لإمكان أن تعرفه بالمعرفتين فيسقطا في البقاء لوقوعهما فإن الواجب المطلق يرتفع بالوقوع مرة ويسقط سائر التكاليف بالنسخ وإذا كان اللزوم في حال وبطلان اللازم في أخرى لم يتم الاستثنائي.