قواطع الأدلة في الأصول

ج / 1 ص -49-         باب الأوامر.
القول بالوقف في الأوامر والنواهى: وللأمر صيغة مقيدة بنفسها في كلام العرب من غير قرينة تنضم إليها وكذلك النهى وهذا قول عامة أهل العلم وذهب أبو الحسن الاشعري ومن تبعه إلى أنه لاصيغة للأمر والنهى وقالوا: لفظ افعل لا يفيد بنفسه شيئا إلا بقرينة تنضم إليه ودليل يتصل به.
وعندي أن هذا قول لم يسبقهم إليه احد من العلماء وقد ذكر بعض اصحابنا شيئا من ذلك عن ابن سريج ولا يصح وإذا قالوا: أن حقيقة الكلام معنى قائم في نفس المتكلم والأمر والنهى كلام فيكون قوله افعل ولا تفعل عبارة عن الأمر والنهى ولا يكون حقيقة الأمر والنهى وهذا ايضا لا يعرفه الفقهاء وإنما يعرفوا قوله افعل حقيقة في الأمر وقوله لا تفعل حقيقة في النهي.
واما الواقفية فتعلقوا بما ذهبوا إليه وقالوا: أن صيغة قوله افعل تحتمل وجوها من المعنى فانه قد ورد بمعنى الايجاب مثل قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وورد بمعنى التهديد بدليل قوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وورد بمعنى التكوين قال الله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وورد بمعنى التعجيز قال الله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وورد بمعنى السؤال وذلك في قول العبد رب اغفر لى وارحمنى وورد بمعنى الاباحة وهو قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وورد بمعنى الندب في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً} وإذا احتملت هذه الصيغة هذه الوجوه لم يكن البعض أولى من بعض فوجب التوقف حتى نعلم المراد بقرينة واشبه هذا سائر الأسماء المشتركة وهذا لازم احتمل وجوها شتى من المعنى لا يتعين أحد وجوهه إلا بدليل وشبهة القوم أن قوله افعل ليس يختص بمحمل احد من مسالك العقول فإن العقول لا مجال لها في تفصيل العبارات فلئن اختص بمحمل فإنما يختص من جهة النقل عن العرب أو من جهة الشرع.
قالوا: فإن ادعيتم نقلا صريحا من جهة أهل اللسان وهم العرب فهذه مباهته ولانعلم في هذا نقل صريح من العرب ولأن النقل ينقسم إلى المتواتر والآحاد وأن ادعيتم النقل من جهة الاحاد فلا احتمال به لانه لا يوجب العلم والمطلوب في هذه.

 

ج / 1 ص -50-         المسألة هو العلم.
وان ادعيتم النقل بالتواتر كان ذلك محالا لان النقل من جهة التواتر يوجب العلم الضروري وذلك يوجب استواء طبقات الناس فيه قالوا: ونحن معاشر الواقفية مصرون على أنه لم يقع لنا العلم بذلك وقد مرت علينا الدهور والازمان ونحن مقيمون على هذا الخلاف واين العلم الذي تدعونه وتزعمونه.
قالوا: وأن نسبتم قولكم إلى الشرع فالكلام على النقل الشرعى مثل ما قلناه على من ادعى النقل من جهة العرب وقد بينا التقسيم فيه وبطلان وجهى ذلك فهذا مثله هذا حجة القاضي ابى بكر محمد بن ابى الطيب ونهاية ما قالوا:.
واما حجتنا فنقول اجمع أهل اللغة على أن اقسام كلام العرب أربعة اقسام أمر ونهى وخبر واستخبار وقالوا: الأمر قوله افعل والنهى قوله لا تفعل والخبر قوله زيد في الدار والاستخبار قوله أزيد في الدار ومعلوم انهم إنما ذكروا الاقسام المعنوية في كلامهم دون ما ليس له معنى فإذا قلنا أن قوله افعل ولاتفعل ليس له معنى مقيد بنفسه بطل هذا التقسيم ببينه أن الخبر والأستخبار كلام مقيد بنفسه من غير قرينة تتصل به فكذلك الأمر والنهى وهذا الحقيقة وهى أن وضع الكلام في الأصل إنما هو للبيان والافهام وعلم المراد من الخطاب ولو كان بخلاف ذلك لجرى مجرى اللغو والأخبار التى يقع القصد منها إلى المغايرة وتعمية المراد وذهبت فائدة الكلام أصلا وهذا ظاهر الفساد وإذا ثبت أن القصد من الكلام هو البيان واعلام مراد المخاطب فنقول المعلومات متغايرة في ذواتها مختلفة في معانيها ولا بد لها من أسماء متغايرة ليقع التمييز بتغايرها بين المعلومات فيحصل البيان عن المراد ولا نعرف فيها الاشكال ومن جملة المعلومات التي لابد من البيان عنها الأمر والنهى والعموم والخصوص والتفريق والتخيير إلى ما سوى ذلك من المعلومات والعرب قد جعلت للأمر اسما وللنهى اسما وكذلك للتخيير والعموم والخصوص وغير ذلك وهو مثل ما وضعوا الاسامى المنفردة لمعانى معلومة ووضعوا الحروف التى هي ادوات لمعانى معلومة ايضا وإذا ثبت هذا فالواجب أن يكون كل شيء منها محمولا في الأصل على ما جعل سمة له ودلاله عليه وأن يكون معقولا من ظاهره ما اقتضته صورته إلا أن يرد دليل ينقله عنه إلى غيره ليصير الغرض من الكلام واللبس مرتفعا فالبيان حأصلا والاشكال زائلا ومن حاد عن هذه الطريقة فقد جهل لغة العرب ولم يعرف فائدة.

 

ج / 1 ص -51-         موضوعها وقد أنزل الله تعالى القران بلسان العرب وعلى اوضاع بيانها فقال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] فعرفنا قطعا أن اوضاعهم مبينة وأن منصوباتهم معتبرة يدل عليه أنه لا خلاف أن المفردات من الأسماء والاحاد من الاجناس التي تتركب منها الجموع والمصادر التي تصدر عنها الافعال مستعملة على ظواهرها غير متوقف فيها وكان حتى ما يبتنى منها وتتركب عليها من الالفاظ الموضوعة للأمر والنهى والعموم والخصوص من أن تكون كذلك إذا كان بعضها متركبا من بعض ومشتقا منه والبيان بكل منها من نوعه واقع به متعلق فإذا توقفنا مع وجود اسمه وحصول الدلاله من جهة الظاهر فقد عطلنا البيان وابدلنا فائدته.
فان قالوا: ما ذكرتم من أصل لكلام وتقسيم انواعه إنما هو منقول عن جماعة من أهل اللغة مثل الخليل وسيبويه واقرانهما والعلم لا يحصل بتعلم بحال وإنما يكون ذلك لكم حجة أن لو نقلتم عن العرب وهم لا يعرفون هذا التقسيم وأما الذي قلتم أن الكلام في الأصل موضوع للبيان مسلم ولكن البيان ليس مقصور على لفظ دون لفظ وعلى حالة دون حالة وأن لم يقع بيان الأمر والنهى بصيغة قوله افعل ولاتفعل فيقع عند اتصال القرائن به ويقع ايضا بغير هذه الالفاظ وعلى أنا ادعينا أن هذه اللفظة من جملة الأسماء المشتركة والأسماء المشتركة باب عظيم منقول عن العرب والبيان يقع بها في محتملاتها عند ارادة بعض وجوهها فكذلك ها هنا.
والجواب أن الذي حكيناه من اقسام كلام العرب وحكى عن جميع أهل اللغة وهم الذين عنوا بمعرفة لسان العرب واخلطوا علما محدود اوضاعه فلما ارادوا أن يحصروا علمه لمن بعدهم ولمن غاب داره عنهم من أهل عصرهم صنفوا كلام العرب اصنافا وقسموا كلام العرب اقساما وقد عدوا الأمر من اقسامه كما عدوا الخبر من اقسامه فلما كان ظاهر الخبر والاستخبار معمولا به فكذلك ظاهر الأمر والنهى وهذا لان طريق العلم في كل واحد والنقل الذي في الجميع كان بجهة واحدة لغرض واحد وهو العلم بكلام العرب فلا يجوز أن نعلم البعض ونجهل البعض هذا محال.
واما قولهم أن البيان يقع ولا يختل مع التوقف الذي صرنا إليه.
قلنا إذا وضعوا للأمر قوله افعل وللنهى قوله لا تفعل ولم يفد بنفسه شيئا اختل البيان.
بيانه أن اللغة وضعت لحاجات الناس فكل ما احتاجوا إليه وضعوا له اسما يدل

 

ج / 1 ص -52-         عليه ومعلوم أن الأمر والنهى من اشد ما تقع الحاجة إليه وهما داخلان في عامة المخاطبات التي تدور بين الناس ونقل ذلك اكثر من الخبر والاستخبار فيستحيل أن يخلو كلام العرب مع سعته وكثرة وجوهه من صيغة الأمر والنهى ولفظة مفردة تدل عليهما بأنفسهما.
وأما الذي قالوا: أن هذا اسم مشترك مثل سائر الأسماء المشتركة ويقع البيان بهما عند ارادة احد وجوههما.
قلنا نحن لاننكر وجود الأسماء المشتركة في اللغة ولكن ليس هذا من جملتها لانه لو كان يقول القائل لغيره افعل حقيقة في أن يفعل وحقيقة في التهديد الذي يقتضى في أن لا يفعل أو غير ذلك مما ذكروه لكن اقتضاؤه لكل واحد من هذين على سواء لا ترجيح لأحدهما على الآخر ولو كان كذلك لما سبق إلى افهامنا عند سماعها من دون قرينة أن المتكلم بها يطلب الفعل ويدعو إليه كما أنه لما كان اسم اللون مشتركا بين البياض والسواد لم يسبق عند هذه اللفظة من دون قرينة السواد دون البياض ومعلوم أنا إذا سمعنا قائلا يقول لغيره افعل وعلمنا تجرد هذا القول عن كل قرينة فإن الاسبق إلى افهامنا أنه طلب للفعل كما انا إذا سمعناه يقول: رأيت حمارا فإن الاسبق إلى أفهامنا الدابة المعروفة دون الابله الذي يشبه بها وقد بطل بهذا الكلام دعواهم أن الاسم المشترك وإذا بطل الاشتراك لم يبق إلا ما بينا من تعيين وجه واحد له وهو طلب الفعل.
وأما الجواب عن كلامهم أما الأول قولهم أنه قد ورد لكذا وورد لكذا قلنا هذه الصيغة موضوعة بنفسها لطلب الفعل وإنما حملنا على ما سواه في المواضع التي ذكرها بقرائن دلت عليها.
وأما الأسماء المشتركة فقدمنا الجواب عنها وهذا لأن اللون والعين واشباه ذلك لم توضع لشيء معين وإنما قوله افعل وضع لمعنى معين.
ألا ترى أن من أمر عبده أن يضع الثوب يكون لم يستحق له الذم باي صيغ من صيغه فلو قال لعبده اسقنى استحق الذم بتركه السقى ولو كان قوله اسقنى مشتركا بين الفعل والترك واشتراك اللون بين السواد والبياض لم يجز أن يستحق الذم والتوبيخ بترك السقى وهذا لأن أهل اللغة لم يضعوا اسم اللون بعينه وقد وضعوا قوله افعل لمعنى تعينه وهو طلب الفعل على ما سبق.

 

ج / 1 ص -53-         وأما كلامهم الثاني قلنا قد بينا بطريق النقل عن العرب الذين هم أهل اللسان.
وقولهم أنه لم يقع لنا العلم بذلك قلنا هذه مكابرة ومباهتة.
بيانه أن العرب صاغوا قوله افعل ولاشك انهم صاغوا هذه اللفظة لمعنى مثل ما صاغوا سائر الالفاظ لمعان وليس ذلك إلا لطلب الفعل الذي يعرفه كل احد من معناه.
يدل عليه أنه إذا وجب الوقف بالأمر وجب الوقف بالنهى ايضا ثم حينئذ يصير الأمر والنهى واحدا وهذا محال وعلى أن من مذهب الواقفية أن قوله افعل من الأسماء المشتركة وإذا كان عندهم هكذا فجميع ما قالوه من التقسيم في ثبوت الصيغة للأمر وانها تثبت بالعقل أو بالنقل ودعواهم أن العلم لم يقع لنا بنقل ذلك من العرب ينقلب عليهم فيما ادعوه أنه من الأسماء المشتركة ولا مخرج لهم عن هذا بحال وكل كلام امكن قلبه على قائله ويغير على ما جعله حجة فانه يبطل من أصله والله الهادى إلى الصواب وهو المعين.

فصل: وإذا ثبت أن للأمر صيغة فنقول.
حد الأمر: أنه استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه1 ثم هو أمر بصيغته وليس أمر بالارادة وعند المعتزلة هو أمر بارادة الأمر المامور2.
وقد حد بعضهم الأمر فقال حد الأمر أنه ارادة الفعل بالقول ممن هو دونه وهذه المسألة أصولية فإن عندنا يجوز أن يأمر بالشيء وأن كان لا يريده وقد أمر الله تعالى ابليس بالسجود لادم عليه السلام ولم يرد أن يسجد ونهى ادم عن اكل الشجرة واراد أن ياكل وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه ولم يرد أن يذبح وهذا لأن ما أراد الله تعالى أن يكون لا بد أن يكون ولأن السيد إذا قال لعبده افعل كذا يقال امره بكذا وأن لم يعلم مراده فدل أن الأمر أمر بصيغته فحسب ثم إذا عرفنا هذا فنذكر بعد حكم الأمر موجبه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا هو قول المعتزلة وتابعهم فيه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ونقله القاضي عبد الوهاب في الملخص عن أهل اللغة أهل العلم واختاره
والعلو هو أن يكون الطالب أعلى مرتبة فإن كان متساويا فهو التماس فإن كان دونه فهو سؤال انظر نهاية السول للآمدي 1/235 المعتمد للقاضي أبو الحسين البصري 1/46.
2 انظر المعتمد لأبي حسين البصري 1/46, 47 إحكام الأحكام للآمدي 2/198.

 

ج / 1 ص -54-         مسالة موجب الأمر الوجوب عندنا.
وهو قول اكثر أهل العلم1 هذا في الصيغة المتجردة عن القرائن والجملة أن الأمر عندنا حقيقة في الوجوب وعند جماعة من المعتزلة أنه حقيقة في الندب قال أبو هاشم أنه يقتضي الارادة فحسب فإذا قال القائل لعبده افعل افاد ذلك أنه يريد منه الفعل فإن كان الفاعل حكيما وجب كون الفعل على صفة زائدة على حسنه تستحق لاجلها المدح فإذا كان القول في دار التكليف وأجاز أن يكون واجبا وجاز أن لا يكون واجبا ويكون ندبا فإذا لم تدل دلالة على وجوب الفعل وجب نفيه والاقتصار على المتحقق وهو كون الفعل ندبا يستحق فاعله المدح.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر لا يقتضي إلا الندب2.
وعند جماعة أنه يقتضى الإباحة3 لا غير4 وذهب من قال أنه للندب إلى أن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/251 والبرهان 1/216 وأصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/136.
2 قال الشيخ الأسنوي والثاني أنه حقيقة في الندب ونقله الغزالي في المستصفى والآمدي في كتابيه قولا للشافعي ونقله المصنف عن أبي هاشم وليس مخالفا لما نقله عنه صاحب المعتمد كما ظنه بعض الشارحين فافهمه انظر نهاية السول 2/252 والمستصفى 1/411.
3 قال الشيخ الأسنوي الثالث أنه حقيقة في الإباحة لأن الجواز محقق والأصل عدم الطلب انظر نهاية السول 2/252 انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/147.
4 اعلم أنه هناك مذاهب غير التي ذكرها المصنف ولقد ذكرها الأسنوي فقال:
الرابع أنه مشترك بين الوجوب والندب وجزم به الإمام في المنتخب وكذلك صاحب التحصيل كلاهما في أثناء الاشتراك وهذا المذهب نقله الآمدي في منتهى السول عن الشيعة ونقل في الإحكام عنهم أنه مشترك بينهما وبين الإرشاد.
والخامس أنه حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الطلب وفي المستوعب للقيرواني والمستصفى للغزالي أن الشافعي نص على أن الأمر متردد بين الوجوب والندب وهذا محتمل لهذا المذهب ولما قبله.
السادس أنه حقيقة في أحدهما أي الوجوب والندب لكنه لا يعرف هل هو حقيقة في الوجوب مجاز في الندب أو بالعكس ونقله المصنف عن حجة الإسلام الغزالي تبعا لصاحب الحاصل وليس كذلك فإن الغزالي نقل في المستصفى عن قوم أنه حقيقة في الوجوب فقط وعن قوم أنه حقيقة في الندب فقط وعن قوم أنه مشترك بينهما كلفظ العين ثم نقل عن قوم التوفيق بين هذه المذاهب الثلاث قال وهو المختار ونقله في المحصول عنه على الصواب وقال في المنخول وظاهر الأمر الوجوب وما عداه فالصيغة مستعارة فيه هذا لفظه وهو مخالفا لكلامه في المستصفى.
السابع أنه مشترك بين الثلاثة وهي الوجوب والندب والإباحة وقيل إنه مشترك بينهما.....ولكن بالاشتراك المعنوي وهو الإذن حكاه ابن الحاجب.
الثامن أنه مشترك بين الخمسة انظر نهاية السول 2/252.

 

ج / 1 ص -55-         الأمر طلب الفعل فلا يجوز أن يكون موجبه الإباحة لأن الاباحة لا ترجح جهة الفعل فيها على جهة الترك فلا يكون الأمر طلبا للفعل إذا حمل على الاباحة فاما إذا حملناه على الندب فقد رجح جهة الفعل على جهة الترك لانا جعلنا الفعل أولى من الترك فتحقق طلب الفعل في الأمر فظهرت حقيقته وإذا تحقق الأمر في الندب فلا معنى لاثبات صفة زائدة عليه وهذا لان صفة الوجوب لا دليل عليها لانه لما تحقق معنى الأمر في الندب لم يبق دليل على الوجوب.
قالوا: ولأن صفة الأمر لا تفيد إلا الارادة ولا فرق بين قول القائل افعل كذا وبين قوله اريد أن تفعل كذا وأهل اللغة يفهمون من أحدهما ما يفهمون من الآخر ويستعملون أحدهما مكان الآخر ثم قوله اريد منك أن تفعل كذا لا يفيد الوجوب فكذلك قوله افعل وجب أن لا يفيد الوجوب ايضا ولأن أهل اللغة قالوا: أن قوله افعل إنما يكون امرا إذا كان القائل فوق المقول له في الرتبة فإذا كان دونه في الرتبة يكون سؤالا وطلبا ولا يكون امرا فلم يفرقوا بين السؤال والأمر إلا بالرتبة ومعلوم أن هذه الصيغة في السؤال لا تقتضى ايجاب الفعل على المسئول وإنما تقتضى الارادة فقط فكذلك في الأمر لانه لو اقتضى الوجوب لا يفصل من السؤال شيء زائد على الرتبة وهذا لان الرتبة لا تقتضى الوجوب بحال لأن عالي الرتبة قد يأمر بالندب كما يأمر بالواجب فلم يكن في الرتبة ما يدل على الوجوب.
قالوا: ولأن الأمر ضد النهى ولا معنى لكونه ضدا إلا أن فائدته ضد فائدته وفائدة النهى كراهة الناهى للمنهى عنه لاغير فكان فائدة الأمر ايضا ارادة للأمر المامور به لاغير.
قالوا: ولانا امرنا بالنوافل وسائر الطاعات ونحن مطيعون لربنا بامتثالنا لها ولا صفة لها سوى الندبية فدل أن الأمر يكون حقيقة في الندب وإذا ثبت أنه حقيقة في الندب سقط الوجوب لانها زيادة لا معنى لها وأما حجتنا نستدل أولا بما ورد في قصة ادم عليه السلام وابليس فإن الله تعالى ذكر امره ونهيه في هذه القصة أما الأمر فإن الله تعالى قال:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] فإن الله امره بالسجود لادم فخرج عن أمر ربه بقوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ

 

ج / 1 ص -56-         رَبِّهِ} [الكهف: 50] ومعناه خرج فلعنه واخرجه من رحمته ونهى ادم عن اكل الشجرة فاكله واخرجه من الجنة ووسمه بالعصيان ولم يحك لنا في القصة سببا يقدم به اليهما غير مطلق الأمر.
والدليل عليه أنه قال تعالى:
{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وقال تعالى في حق ادم: {وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19] فدل هذا القول انهما يصيران ظالمين بمجرد ارتكاب النهى فإن قيل إنما كفر ابليس لا بمخالفة الأمر لكن بالاستكبار وانكار فضيلة ادم عليه السلام التي اكرمه الله بها والدليل عليه قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] معناه صار من الكافرين باستكباره وأما انكاره فضيلة آدم لأنه قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ}.
الجواب انا لاننكر استكباره وانكاره لفضيلة ادم التى وصفها الله تعالى له لكن استدلالنا - بقوله:
{فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وسمه بالفسق لخروجه عن أمر ربه وايضا قال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] ووبخه بمجرد ترك الأمر لانه افاد الوجوب ولولا ذلك لم يستقم توبيخه وذمه بنسبة ذلك إلى مجرد ترك الأمر ويدل عليه أن الله تعالى قال: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] فقد حذر الله تعالى خلاف الأمر واوعد عليه وبين تعالى أن امره لنا ليس كأمر بعضنا لبعض في أنه لا يجب فإن لنا فيه الخيرة وقد قال تعالى فى موضع آخر: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فقد نفى الله تعالى ثبوت الخيرة فى امره وانتفاء الخيرة نص في التحتيم والايجاب ويروى أنه عليه السلام دعا ابى بن كعب أو رجلا آخر من اصحابه وهو يصلى فلم يجبه فلما قضى صلاته جاء فقال لم يمنعنى من اجابتك إلا انى كنت في الصلاة فقال النبى صلى الله عليه وسلم الم تسمع قول الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}1 فأخبر أن الاجابة واجبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري التفسير 8/158 ح 4647 وأبو داود الصلاة 2/72 ح 1458 وأحمد المسند 3/549 ح 15736 الحديث عن أبي سعيد بن المعلى ولم يذكر أبي ابن كعب.

 

ج / 1 ص -57-         عليه لهذا الخطاب وعنه عليه السلام أنه قال: "لولا أن اشق على امتى لامرتهم بالسواك عند كل صلاة"1 دل أنه إذا أمر وجب وأن لحقت المشقة.
واذا قلنا أن الأمر لا يوجب فلا مشقة وايضا فإن المتعارف من أمر الصحابة رضى الله عنهم انهم عقلوا عن مجرد أوامر الرسول صلوات الله عليه الوجوب وسارعوا إلى تنفيذها ولم يراجعوه فيها ولم ينتظروا لها قران الوعيد وارادته اياها بالتوكيد ولوكان كذلك لحكى عنهم ولنقل القرائن المضافة إلى الأوامر كما نقلت أصولها فلما نقلت اوامره ونقل امتثال الصحابة لها من غير تلبث وانتظار ونقل ايضا احترازهم عن مخالفتها بكل وجه عرفنا انهم اعتقدوا فيها الوجوب وهذا كله من الشرع وأما من حيث اللسان فلان العرب تستجيز نسبة المخالف للأمر إلى العصيان احالة له إلى نفس المخالفة يقول القائل منهم لغيره امرتك فعصيتنى وهذا شيء متدأول بينهم لا يمتنع أحد منهم عن إطلاقه عند مخالفة الأمر قال شاعرهم:

امرتك امرا جازما فعصيتنى          وكان من التوفيق قتل ابن هاشم

وقال دريد بن الصمة:

امرتهم امرى بمتعرج اللوى     فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

فلما عصونى كنت منهم وقد            ارى غوايتهم واننى غير مهتد

ببينه أن العرب تقول امرتك فعصيتنى فعقب الأمر بالعصيان موصولا بحرف الفاء فدل أنه كان ذلك مما سيق من الأمر ومخالفته كما تقول زرتك فاكرمتنى أو زرتنى فاكرمتك يدلان أن المؤثر في اكرامه كان زيارته كذلك المؤثر في معصيته خلافه لامره وإذا كان هو المؤثر دل أنه موجب فإن قالوا: قد يقول القائل لغيره اشرت عليك فعصيتنى ولاتدل على أن الاشارة عليه موجبة.
قلنا إنما يقال في الاشارة فلم يقبل منى ولا يقال فعصيتنى إلا نادرا ولئن قيل فهو على طريق التوسع لا على أنه حقيقة ودليل آخر معتمد وهو من اقوى الادلة وهو.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الجمعة 2/425 ح 887 ومسلم الطهارة 1/220 ح 42/252 وأبو داود الطهارة 1/12 ح 46, 47 والترمذي الطهارة 1/34 ح 22 والنسائي الطهارة 1/36 باب الرخصة في السواك بالعشى للصائم وابن ماجه الطهارة 1/105 ح 287 ومالك في الموطأ الطهارة 1/66 ح 114 والدارمي في الطهارة 1/184 ح 683 وأحمد المسند 2/328 ح 7358.

 

ج / 1 ص -58-         دليل معقول ووجه ذلك أن قوله افعل طلب الفعل لا محالة وطلب الفعل لا محالة ايجاب وإنما قلنا أنه طلب الفعل لا محالة لان قوله افعل قضية الفعل بلا اشكال من غير أن يكون للترك فيه مشاع لان الترك نقيض الفعل والشيء لانقيض يقتضيه وكذلك لا تخيير فيه لان التخيير يأخذ طرفا من الترك فانه يخبر ليفعل أو يترك والأمر يقتضى الفعل بكل حال من غير أن يكون للترك فيه مشاع فلا يكون للتخيير فيه ايضا مشاع وإذا ثبت بطلان التخيير فيه والمندوب إليه على التخيير لانه وأن كان الفعل منه أولى فالترك فيه جائز من غير أن يكون فيه عيب على تاركه فبطل اقتضاء الندب ايضا على هذا الوجه وبقى ما قلنا أن الأمر لا يقتضى طلب الفعل لا محال إنما يقتضي مجرد إرادة المأمور وارادة المامور لا توجب الفعل قالوا: وهذا لانه لا فرق بين قول القائل لغيره افعل وبين قول القائل اريد منك أن تفعل وهذا ليس بصحيح بل الأمر يقتضى الفعل بكل حال على ما سبق وليس قوله افعل مثل قوله اريد أن تفعل لان قوله اريد منك أن تفعل اخبار بالارادة فحسب وليس بطلب الفعل منه وأما قوله افعل طلب الفعل صريحا فكيف يستويان وقد قال بعضهم في تقرير ما ذكرناه أن الأمر في اللغة لما كان موضوعا لطلب الفعل والفعل لا يحصل إلا بالوجوب لان الفعل إذا لم يكن واجبا لا يحصل لانه ترك فاقتضى الوجوب حتى يحصل فصار وجوبا بايجابه فأوجبناه ليوجد.
يدل عليه أن الائتمار من حكم الأمر كما أن الانكسار من حكم الكسر كما يقال كسر القنديل فانكسر وهدم الجدار فانهدم وأمر بكذا فائتمر وإذا كان الائتمار من حكم الأمر اقتضى حصول الائتمار كالكسر اقتضى حصول الانكسار إلا أن حصول الائتمار لما كان بفعل مختار اقتضى وجوب الفعل ليحصل الائتمار إلا ترى أنه لما لم يكن الائتمار بفعل مختار حصل الائتمار عقيب الأمر بلا واسطة كالانكسار عقيب الكسر قال الله تعالى:
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وقال تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} والجواب في هذا الدليل أن الائتمار لما كان حكم الأمر فاقتضى الأمر ثبوت الائتمار ضرورة ولا ائتمار إلا بالأيجاب ليوجد لا محالة فيثبت الوجوب ضرورة هذا الطريق وهذا دليل اورده أبو زيد وفيه تكليف شديد والذي ذكرناه من قبل احسن وقد استدل المتقدمون في هذه المسالة بأمر السيد عبده بفعل من الافعال ثم إذا خالف يجوز تاديبه وحسن منه ذلك عند العقلاء كافة.

 

ج / 1 ص -59-         ولولا أنه أفاد الوجوب لم يحسن تاديبه إلا بقرينة يصلها بامره ليدل على الوجوب وحين جاز تاديبه ويقول له: اؤدبك لانك خالفت امري وعصيتنى ولاتهجن في ذلك احد يسمع منه هذا المقال عرفنا أنه يفيد الوجوب بصيغته والاعتماد على ماذكرنا وإذا عرفنا هذه الدلائل سهل الجواب عن شبههم.
أما الأول فقولهم أن الأمر طلب للفعل وقد ترجح الفعل على الترك بالندبية.
قلنا وأن ترجح جانب الفعل لكن الترك مدخل في الفعل.
فان قلنا أنه مندوب إليه لانه بتركه فيجوز له ذلك وقد بينا أن قوله افعل يقتضى الفعل لا محالة وذلك هو الوجوب.
واما قولهم أن قوله افعل لا يقتضى إلا ارادة الفعل قد اجبنا عن هذا في اثناء كلامنا وذكرنا الفرق بين قوله افعل وبين قوله اريد منك أن تفعل وعلى انا بينا فيما تقدم أن الأمر لا يدل على الارادة ويجوز أن تأمر الأمر بما لا تريده من المأمور.
واما قولهم أن الأمر إنما يكون أمر بالرتبة.
قلنا ليس فيما قلناه اكثر من أن السؤال لا يقتضى الوجوب وهذا كلام باطل لان السؤال ليس بأمر والكلام في موجب الأمر.
وقولهم انهم فرقوا بمجرد الرتبة قلنا واى مانع من التفريق بالرتبة واللغة منقولة عن أهل اللسان فإذا سمعوا عن هذا امرا وهذا سؤالا وفرقوا بالرتبة لا بالصيغة وقع الفرقان ولم يدل عدم الوجوب في السؤال على عدم الوجوب في الأمر.
بيانه أن القائل لغيره افعل على طريق السؤال نعتقد أن فعله لذلك على طريق التطول والتفضل لا على طريق الخروج عن الأمر حتى أنه إذا لم يفعل لا ينسب إلى العصيان والخلاف وإنما ينسب إلى طريق التفضل والتكرم وهاهنا نعتقد الأمر أن فعله كالمامور على جهة الخروج عن الأمر وينسب إلى العصيان والخلاف عند ترك المامور فإن قالوا: أن الإنسان إذا قال لمن هو فوقه افعل كذا يطلب منه الفعل لا محالة من غير أن يدع له في تركه مساغا مثل ما إذا قال لمن هو دونه افعل.
قلنا ليس كما قلتم لانه سؤال على طريق التذلل والخضوع فيطلب منه الفعل مع اعتقاده أنه على تخييره وأن فعله تفضل منه بخلاف مسالتنا فانه يطلب منه الفعل على طريق الاستعلاء عليه ويعتقد أنه لاخيرة له فيه بحال فكان مقتضيا للإيجاب على.

 

ج / 1 ص -60-         ما سبق فهذا وجه الجواب عن هذا الفصل وهو معتمدهم وأما قولهم بان النهى يفيد الكراهة فيفيد الأمر والإرادة.
قلنا عندنا أن النهى للتحريم فيكون الأمر للايجاب وسياتى هذا من بعده.
واما قولهم أن النوافل مامور بها.
قلنا بلى ولكن على طريق المجاز لا على طريق الحقيقة فإن قلنا على طريق الحقيقة سيتبين من بعد وقد قال بعض المخالفين لو كان مطلق الأمر ظاهر يدل على الوجوب لم يكن لورود التاكيد عليه معنى فحين دخل عليه التأكيد من ذكر الالزام والايجاب وذكر الوعيد وما يجرى مجراه علمنا أن الوجوب كان بذلك وايضا فانه يحسن الاستفسار من المخاطب ولو كان صيغته الوجوب لم يحسن الاستفسار وليس واحد من هذين الكلام بشيء أما الأول فإن اللفظ قد يؤكد فإن كان له ظاهر معمول به مثل قولهم ثلاثة وسبعة فتلك عشرة والتاكيد واسع في كلام العرب.
قال أبو المكارم الاعرابى هو شيء شد به كلامنا وأما الاستفسار فلا نسلم حسنه بعد أن يكون الكلام معلوما في نفسه وعلى أنه أن قيل فهو نوع استظهار وطلب زيادة شرح وتبيين وهو ايضا داخل في كلام العرب مع كون الكلام صحيحا في نفسه معمولا به والله اعلم بالصواب.

فصل
ثم اعلم أن هذه الصيغة سواء وردت ابتداء أو وردت بعد الحظر فانها تقتضى الوجوب1 2.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محل الخلاف في هذه المسألة في أن الأمر المطلق ابتداء يفيد الوجوب وهو قول الجمهور أو يفيد الإباحة وهما القولان اللذان انبنت عليهما هذه المسألة وأما القائلون بأن للصيغة حقيقة في الإباحة إبتداء فقد اتفقوا على أنها للإباحة كذلك إذا وردت بعد الحظر والتحريم انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/152.
2 وقد استدل البيضاوي لهذا القول بأن الصيغة حقيقة في الوجوب لما سبق من الأدلة على ذلك فإذا استعملت بعد الحظر في الوجوب فقد استعملت في مقتضياها لغة ووروردها بعد الحظر لا يصلح أن يكون مانعا من إفادتها الوجوب لأن الصيغة قد طلبت الفعل وطلب الفعل بعد منعه يرفع الحرج الذي كان مقررا فيه ولا شك أن رفع الحرج يتحقق في الإباحة كما يتحقق في الوجوب لأن كلا منهما يحقق المنافاة للتحريم.
وحيث كان الانتقال من التحريم إلى الإباحة معقولا كان الانتقال من التحريم إلى الوجوب معقولا كذلك وتكون الصيغة مفيدة للوجوب عملا بالمقتضى السالم عن المعارض.
انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/261 نهاية السول للأسنوي 2/272 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/152, 153.

 

ج / 1 ص -61-         وقال بعض اصحابنا إذا وردت بعض الحظر اقتضت الاباحة1 وعليه دل ظاهر قول الشافعى2 رحمه الله في أحكام القران3.
وتعلق من قال بالقول الثانى بان الأمر المطلق المتجرد عن القرائن هو الدليل على الوجوب وتقدم الحظر قرينة دالة على الاباحة مثل قوله:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] ولأن عرف الشرع وعرف العادة معتبر والمعروف في الأمر الوارد بعد الحظر في الشرع أنه يفيد الاباحة بدليل قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وبدليل قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وكذلك عرف العادة فإن من قال لعبده لا تدخل الدار ثم قال ادخل كان المعقول منه رفع النهى المتقدم لا ايجاب الدخول.
واما الدليل على القول الأول وهو الاصح أن صيغة الأمر الوارد بعد الحظر مثل صيغة الأمر الوارد بعد الحظر مثل صيغة الأمر الوارد ابتداء فإذا كانت صيغة الأمر ابتداء فإذا كانت صيغة لمر ابتداء مفيدة للوجوب كذلك الوارد بعد الحظر وهذا لان الموجب هو الصيغة والصيغة لا تختلف بتقدم الحظر وعدم تقدمه ولأن النهى الوارد بعد الاباحة يفيد ما يفيده النهى ابتداء كذلك الأمر الوارد بعد الحظر يفيد ما يفيده في الابتداء وربما يمنعون هذا.
واما قولهم أن تقدم الحظر قرينة لا نسلم وهذا لان الحظر ليس له اتصال بالأمر المتآخر فكيف نجعل قرينة فيه وهذا لان المنع فى الشريعة فى الالفاظ لا الاعراض اذ الاعراض لا يمكن الوقوف عليها فوجب ترك التفتيش عنها ولزم الرجوع إلى حقائق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين واختاره ابن الحاجب ونقله عن الشافعي انظر نهاية السول 2/272 إحكام الأحكام للآمدي 2/261 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/153.
2 انظر نهاية السول 2/272 إحكام الأحكام للآمدي 2/261 وأصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/153.
3 اعلم أنه يترع على هذه المسألة فروع مهمة ذكرها ابن اللحام في كتابه القواعد فانظرها انظر القواعد 223, 224.

 

ج / 1 ص -62-         الالفاظ فى الشريعة.
واما قولهم أن الكلام يحمل على عرف الشرع وعلى عرف العادة.
قلنا أما ما ذكروا من الايات فإنما حمل الأمر على الاباحة في هذا الموضوع بدليل.
واما الذي ذكروه من عرف العادة فلا نسلم ذلك والعادة فى ذلك مختلفة فلا يمكن الرجوع إليها فنرجع إلى نفس اللفظ على ماسبق.
ألا ترى أن لفظ الايجاب وهو قول القائل اوجبت كذا والزمت كذا لافرق فيه بين أن يرد به قبل الحظر أو يرد ابتداء كذلك لفظ الأمر الذي يقتضي الإيجاب يكون كذلك.

فصل
ثم اختلف اصحابنا فى الأمر إذا قام الدليل فيه على انتفاء الوجوب وحمل على الندب هل هو مأمور به أولا فمن اصحابنا من قال ليس بمأمور به ولئن سمى مامورا به فهو على المجاز.
ومنهم من قال هو مامور به حقيقة.
اما الذين قالوا: بالأول يذهبون إلى أن الأمر حقيقة في الايجاب فإذا استعمل في غير الايجاب يكون مجازا كما لو استعمل فى الاباحة وكسائر الالفاظ التى تستعمل فى غير موضعها أما الذين قالوا: بالثانى ذهبوا إلى أن الواجب ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه والندب ما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه فإذا حمل الأمر على الندب فقد حمل على بعض ما اشتمل عليه الواجب فكان حقيقة فيه كما لو حمل العموم على بعض مدلوله فإنه يكون حقيقة فيه كذلك هاهنا.
والأول احسن لان المندوب إليه غير الواجب قطعا وبان كان يثاب على فعله المندوب إليه لا يذهب هذه الغيرية لأن الشيئين يجوز أن يستويا فى بعض الأشياء وأن كانا مختلفين لعدم التشابه فى باقى الاوصاف وإذا ثبت الاختلاف فإذا حمل الامرعليه عرفنا قطعا أنه استعمل فى غير حقيقته فلا بد أن يكون مجازا.

فصل
اذا دل الدليل على أنه لم يرد بالأمر الوجوب لم يجز الاحتجاج به على الجواز ومن اصحابنا من قال يجوز لان الوجوب وأن انتفى فانتفاؤه لا يدل على انتفاء الجواز

 

ج / 1 ص -63-         والأول اظهر لان اللفظ لم يوضع للجواز أما وضع للايجاب والجواز يدخل فيه على طريق التبع فإذا سقط الأصل سقط ما دخل فيه على سبيل التبع1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذه المسألة فريدة لم يذكرها المؤلف وهي المعنون عنها في كتب الأصول إذا نسخ الوجوب بقى الجواز واعلم أن الجواز يطلق بإطلاقات ثلاثة الإطلاق الأول: الإذن في الفعل وهو بهذا الإطلاق يشمل أحكاما أربعة هي: الوجوب الندب الإباحة الكراهة الإطلاق الثاني: الإذن في الفعل والترك وهذا الإطلاق يشمل أحكاما ثلاثة هي: الندب الإباحة الكراهة الإطلاق الثالث: التخيير بين الفعل والترك على السواء وهذا الإطلاق لا يشمل إلا الإباحة.
والوجوب هو: طلب الفعل مع المنع من الترك على ولا شك أن الفعل متى كان مطلوبا صح أن يحكم عليه بأنه ما نحن فيه كما يصح أن يقال: إنه لا حرج فيه ومن هنا صح تعريف الوجوب بأنه الإذن في الفعل مع المنع من الترك كما صح تعريفه بأنه عدم الحرج في الفعل مع الحرج في الترك ويكون الوجوب له تعريفات ثلاثة كلها مقبولة.
فالوجوب حقيقة مركبة من جزءين مما في التعريف الأخير: عدم الحرج في الفعل والحرج في الترك ولا شك أن المركب يرفع بارتفاع أحد جزءين كما يرفع بارتفاع كل الأجزاء.
ومن هنا صح أنه يقال: إن نسخ الوجوب يتحقق بارتفاع الحرج في الترك كما يتحقق بارتفاع الجزءين معا وهما عدم الحرج في الفعل والحرج في الترك ولا شك أن الحرج في الترك نقيض لعدم الحرج في الترك والنقيضان لا يرتفعان كما لا يجتمعان فإذا نسخ الوجوب بارتفاع الحرج في الترك حل محله عدم الحرج في الترك لأنه نقيض له والنقيضان لا يرتفاعان.
وتكون الحقيقة الباقية بعد رفع الحرج في الترك هي عدم الحرج في الفعل مع عدم الحرج في الترك وهذه الحقيقة هي الجواز بالإطلاق الثاني فهي شاملة لأحكام ثلاثة هي الندب والإباحة والكراهة.
وقد اختلف الأصوليون فيما إذا نسخ الشارع وجوب الفعل بدليل لم يتعرض لحكم المنسوخ بعد نسخه بأن قال: الشارع نسخت وجوب الفعل أو قال رفعت الحرج في الفعل عنكم فهل يبقى الجواز بالإطلاق الثاني وهو عدم الحرج في الفعل مع عدم الحرج في الترك ويكون عدم الحرج في الفعل مستفادا من دليل الوجوب لأنه كان يدل عليه والناسخ لم يرفعه وإنما رفع الحرج في الترك ويكون عدم الحرج في الترك مستفادا من الدليل الناسخ لأنه لما رفع الحرج في الترك اقتضى ذلك أن يحل محله عدم الحرج في الترك لأنه نقيضه - والنقيضان لا يرتفعان - وبذلك يكون الفعل بعد نسخه صالحا لأن يكون مندوبا أويكون مباحا أو أن يكون مكروها - ويكون المعين لأحدهما بخصوصه هو دليل آخر أو إذا نسخ الوجوب فلا يبقى الجواز بالإطلاق الثاني وإنما يبقى الجواز بالإطلاق الثالث - وهو التخيير بين الفعل والترك على السواء وهو المعروف بالإباحة.
أو إذا نسخ الوجوب فلا يبقى الجواز وإنما يبقى الندب أو إذا نسخ الوجوب فلا يبقى الجواز بل يعود الفعل بعد نسخ وجوبه إلى ما كان عليه قبل الوجوب فإن كان قبل الوجوب مندوبا........=

 

ج / 1 ص -64-         ..................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فهو مندوب وإن كان قبل الوجوب مباحا فهو مباح وإن كان قبل الوجوب محرما فهو محرم وإن كان قبل الوجوب مكروها فهو مكروه.
اختلف الأصوليون في ذلك على أربعة مذاهب:
المذهب الأول:
مذهب جمهور الأصوليين وهو إذا نسخ الوجوب بقي الجواز بمعنى عدم الحرج في الفعل وعدم الحرج في الترك ويكون الفعل بعد نسخ وجوبه صالحا لأن يكون مندوبا أو مباحا وخصوص أحدهما يعرف بالدليل.
ووجهتهم في ذلك أن الدليل الذي دل على وجوب الفعل قد دل على شيئين أحدهما: عدم الحرج في الفعل وثانيهما: الحرج في الترك والدليل الذي نسخ الوجوب لم يتعرض لعدم الحرج في الفعل وإنما تعرض لنسخ الوجوب فقط ونسخ الوجوب يتحقق برفع الحرج في الترك - فلا يزال الوجوب بعد النسخ دالا على الحرج في الفعل والناسخ لما رفع الحرج في الترك اقتضى ثبوت نقيضه وهو عدم الحرج في الترك لأن النقيضين لا يرتفعان وبذلك يكون عدم الحرج في الفعل مستفادا من دليل الوجوب وعدم الحرج في الترك مستفادا من الناسخ وتكون الحقيقة الباقية بعد النسخ هي عدم الحرج في الفعل مع عدم الحرج في الترك ويكون الفعل صالحا للأحكام الثلاثة وهو ما ندعيه.
المذهب الثاني:
أن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز بمعنى التخيير بين الفعل والترك على السواء وهو المعروف بالإباحة ووجهة أصحاب هذا المذهب أن الوجوب هو طلب الفعل مع المنع من الترك وما دام الوجوب قد نسخ فقد ارتفع المنع من تركه وأصبح دليل الوجوب غير دال على واحد منهما فيكون المكلف مخيرا بين الفعل والترك وهذا هو الإباحة.
المذهب الثالث:
إذا نسخ الوجوب بقي الندب فيترجح الفعل على الترك ووجهة أصحاب هذا المذهب أن الإيجاب هو طلب الفعل مع المنع من الترك فلا يزال الدليل دالا على طلب الفعل والذي يطلب فعله بعد الواجب هو المندوب فقط لأن المباح لا طلب فيه والمكروه إنما يطلب تركه لا فعله وبذلك يكون الحكم الباقي بعد نسخ الوجوب هو الندب فقط وهو ما ندعيه.
المذهب الرابع:
وهو لحجة الإسلام الغزالي أن الوجوب إذا نسخ لم يبق الجواز بل يعود الفعل إلى ما كان عليه قبل الوجوب فإن كان قبل الوجوب محرما كان محرما وإن كان قبل الوجوب مندوبا أو مباحا أو مكروها أخذ الحكم الذي كان عليه قبل الوجوب.
وحجته في ذلك: أن الوجوب حقيقة مركبة من جنس هو عدم الحرج في الفعل ومن فصل هو الحرج في الترك وقد نص ابن سينا على أن الجنس يتقوم بالفصل ويوجد بوجوده بمعنى أن الفصل يكون علة للحصة المعنية من الجنس المتحققة في النوع ومما لا شك فيه أن ذهاب العلة يقضى بذهاب المعلول فيكون دفع الفصل رفعا للجنس فإذا ارتفع الوجوب بارتفاع فصله وهو.............=

 

ج / 1 ص -65-         مسألة: الأمر لا يفيد التكرار على قول اكثر اصحابنا.
وقال بعضهم يفيد التكرار وهو اختيار الاستاذ ابى اسحاق الاسفرائينى.
وقد قال بعض اصحابنا أنه لا يفيد التكرار ولا يحتمله فالأولى أن تقول أنه يحتمله لكن لا يفيده بمطلقه1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الحرج في الترك فقد ارتفع الجنس وهو عدم الحرج في الفعل وبذلك فلا يكون الخطاب الدال على الوجوب دالا على عدم الحرج في الفعل لعدم بقائه بعد النسخ.
ومتى ارتفع الوجوب ولم يوجد دليل يدل على حكم معين في الفعل رجع الفعل إلى ما كان عليه قبل الوجوب وهو ما ندعيه انظر نهاية السول 1/236, 237 والمستصفى للغزالي 1/73, 74. وأصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/136, 139.
1 هذه المسألة هي المسألة المعنون عنها في كتب الأصول بأن مطلق الأمر يقتضي التكرار فنبين أولا محل النزاع ثم نذكر المذاهب وأدلتها وهو ما أخذناه لى يد شيخنا حفظه الله الحسيني الشيخ في محاضرته في كلية الشريعة جامعة الأزهر قسم الدراسات العليا.
أولا محل النزاع أن الأمر المقيد بالمرة يحمل على المرة عملا بهذا القيد كإقراء الكتاب مرة والأمر المقيد بالتكرار يدل على التكرار عملا بالقيد كاقرأ الكتاب ثلاث مرات.
والأمر المقيد بشرط أو صفة لا يحمل على التكرار لفظا ولكن يحمل عليه قياسا مثل:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فالصفة في الزنى والسرقة والجنابة.
وقوله قياسا أي عقلا لا أن اللفظ بوصفه يدل عليه إما أنه لا يدل لفظا فلأن لو قال رجل لوكيله: طلق زوجتي ولا تطلقها إلا إذا دخلت الدار لم يتكر الطلاق في هذه الصورة بتكرر الدخول ولو دل عليه لفظا لتكرر كما لو قال: كلما دخلت زوجتي الدار فطلقها دل على التكرار لفظا بقوله كلما.
وضابط الوكالة كل بما يجوز أن يباشر الشخص بنفسه يجوز التوكيل فيه.
وإما أنه يدل قياسا فلأن ترتيب الحكم على الشرط أو الصفة يفيد عليه ذلك الشرط عقلا لا لفظا العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما وتلك الصفة لذلك الحكم ولا شك أن المعلول "الحكم" يتكرر بتكرر علته "إذا عدم الشرط ينعدم الحكم".
فإن قيل: إن هذا التعليل منقوض بقوله لوكيله إن دخلت زوجتي الدار فطلقها فإنه أمر معلق على شرط يقتضي أن دخول الطلاق علة فيه ومع ذلك لم يتكرر الطلاق بتكرر الدخول كقوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} فلم كرر أمر الطهارة في الجنابة ولم يكرر أمر الطلاق بتكرر الدخول.
أجيب بأن الذي جعل الطلاق معلولا هنا هو الزوج ولا عبرة بجعله لأنه ليس له سلطة التشريع في الأحكام مدة لو صرح بالتعليل كأن قال: طلقتك لأجل دخولك الدار وكانت له زوجة أخرى لا تطلق هذه الأخرى بدخولها هذه الدار فالمولى سبحانه وتعالى يملك سلطة.........=

 

ج / 1 ص -66-         .........................................
ــــــــــــــــــــــــــــــ
= التشريع ولذلك يتكرر الأمر المعلق عقلا بتكرر الشرط أو الصفة الزوج لا يملك حق التعليل المطلق ولذلك فلا تطلق إلا من عيبها فالمعتبر إنما هو تعليل الشارع أما الأمر المطلق العاري من هذه القيود المتقدمة فقد اختلف العلماء في دلالته على المرة أو التكرار أو غيرهما على خمسة مذاهب.
المذهب الأول:
أنه لا يدل بذاته على المرة أو التكرار ذاته مادته وحروفه بل بالالتزام فدلالته التزامية فلا يدل بذاته أي دلالة مطابقة فيدل على طلب إيجاد وتحقيق المعدوم فاضرب لا ضرب موجود بل يوجد في الخارج ولما كان وجود المعدوم لا يتحقق إلا بالوجود فيتحقق بالمرة فدل على المرة التزاما فهذا الإيجاد يتحقق بمرة.
وإنما يقيد طلب الماهية من غير إشعار بوجدة أو كثرة غير أنه لما لم يمكن إدخال هذه الماهية في الوجود بأقل من مرة كانت المرة واجبة لهذا للضرورة أثبت الدلالة بالضرورة ونفى الدلالة بنفسه أي لعدم إمكان ماهية الوجود بأقل من مرة فالضرورة اقتضت ذلك لا لأن الأمر يدل عليها بذاته ليس ذلك من دلالته على المرة بل لعدم إمكان التحقق في الوجود بأقل من مرة فكان للضوروة ودلالة الشيء على الشيء للشرورة تكون دلالة التزامية وإلى هذا ذهب الإماموأتباعه واختاره الآمدي وابن الحاجب والبيضاوي واستدلوا على ذلك بما يأتي:
أولا: أن المقصود من صيغة الأمر هو إدخال حقيقة الفعل المطلوب في الوجود كأسقني ماء المقصود إيجاد السقي سواء المرة أو التكرار والأكثر من مرة خارج عن المطلوب والوحدة والتكرار بالنسبة إلى الحقيقة أمر خارجي فيجب أن يحصل الامتثال بالحقيقة والموحدة من ضروريات الحقيقة لأنها المطلوبة مع أيها حصل و لا يتقيد بأحدهما دون الآخر ولذلك يبرأ بالمرة الواحدة لا لأنها تدل على المرة بخصوصها.
ثانيا: أن الأمر ورد في الشرع تارة مع التكرار كآيات الصلاة والزكاة والصوم فلو كان يدل على الوحدة لكان التكرار باطلا وورد عرفا مع التكرار نحو: افظ دابتي أي المداومة إلى أن آتي فدل عليه بمادته وأحسن إلى الناس كما أنه ورد في الشرع وفي العرف مع المرة كآية الحج وكفول القائل لغيره: ادخل الدار واشتر اللحم ويلزم من هذا أي من أن الشرع جاء دالا على التكرار والوحدة وكذا العرف كونه حقيقة في القول المشترك بين التكرار والمرة وإلا للزم الاشتراك اللفظي أو المجاز والأصل عدم المجاز وعدم الاشتراك اللفظي فهو مشترك بينهما.
ثالثا: لو كان الأمر المطلق للتكرار لعم الأوقات كلها "وإذا لضي واجبات أخرى وما أدى إلى إبطال الواجبات الأخرى فباطل" لكن التالي باطل فبطل المقدم "إذا فلا يدل على التكرار" وثبت نقيضه "وهو عدم الدلالة" وهو عدم كون الأمر المطلق مفيدا للتكرار وهو المطلوب.
أما الملازمة فلأن الأوقات كلها بالنسبة للأمر المطلق سواء لعدم دلالته على معين فيهما........=

 

ج / 1 ص -67-         ...........................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بخلاف أوقات الصلاة لأن الشارع بين الأفضلية وامتناع الترجيح بلا مرجح.
وأما الاستثنائية فلأنه يلزم أن ينسخه كل تكليف يرد لا يمكن الجمع بينهما فلا يمكن الإتيان بلا صلاة مع الأمر بالقراءة فعلى هذا القراءة تستغرق الوقت فالأمر بالصلاة ينسخ الأمر بالقراءة لأنه متأخر لأن الأمر المطلق يقتضي الفعل في جميع الأوقات والتكليف بما لا يجامعه الوارد بعده يقتضي دفعه "بتركه" في بعضها "ليؤدي الفيضة" وذلك هو النسخ بعينه "ولا قائئل بعد بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
المذهب الثاني:
أنه يدل على التكرار المستوعب لزمان العمل شرط الإمكان أي الوقت الممكن له وبه قال الأستاذ أيو إسحاق وأبو هاشم القزويلي وطائفة من العلماء واستدلوا لذلك بما يلي:
أولا أن الخليفة الأول رضي الله عنه تمسك في حق أهل البغي على وجوب تكرار الزكاة بعد أن أدوها مرة بمجرد الأمر "متعلق الجار والمجرور قوله تمسك" في قوله تعالى:
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا وما ذاك إلا لفهم التكرار من الصيغة.
وأجيب بأنه يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد بين للصحابة وجوب تكرار إيجاب الزكاة قولا أو عملا بأن أرسل العمال كل حول إلى الملاك لأخذ الزكاة فلم ينكره لذلك "والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال.
ثالثا: الأمر كالنهي في أن كلا منهما موضوع للطلب والنهي يقتضي التكرار فكذلك الأمر.
"الانتهاء عن الزنا لا يتعارض مع أي تكليف والفعل يتعارض لأن التلبيسمع الفعل مع آخر لا يمكن لعدم اتساع الزمن لهما فالزمان يتسع لنواهي وأمر لا أمران أو أكثر".
لأن فيه بقاء على العدم وهو يجامع كل فعل ومقتضى الأمر بالشيء الاتيان به في جميع الأوقات وهو غير ممكن لأنه يؤدي إلى تفويت المأمورات الأخرى التي لا تجامعه فكان قياسا مع الفارق وهو باطل.
ثالثا: الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي يقتضي انتفاء المنهي عنه دائما "فلو تلبس به لما انتهى" وذلك يلزمه وجود المأمور به دائما ولا معنى للتكرار إلا هذا "قم نهى عن القعود والامتناع عن القعود لا يتصور إلا بالقيام وما دام القعود منهي عنه فلا بد أن يستمر في القيام فهو قد لاحظ دلالة النهي على التكرار وهو عدم وجود المنهي عنه دائما والمعنى: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي يتكررر ولا يمكن أن يحقق المنهي عنه إلا بالاستمرار في تحقق المأمور به.
وأجيب بأنا لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن ضده سلمنا "هذا مزيد ترقي في الرد" لكن لا.........=

 

ج / 1 ص -68-         .................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نسلم أن النهي الذي يدل عليه الأمر يمنع من المنهي عنه دائما في جميع أحواله بل هو تابع للأمر الذي دل عليه فإن كان الأمر دائما كان النهي المستفاد منه مقيدا به كذلك فالأمر بالحركة دائما منع من السكون دائما والأمر الحركة ساعة منه من السكون دائما ومن هنا نأخذ أن كون النهي الضمني للتكرار فرع كون الأمر للتكرار فإثباته به دور وهو باطل "الأمر هنا أصل والنهي فرع فإذا كان الأمر مفيدا فالنهي كذلك وإذا كان الأمر مطلق فالنهي مطلق فدلالة النهي الذي تضمنه الأمريتبع دلالة الأمر والدور هنا صورته هو توقف دلالة الأمر على النهي في دلالته أي الأمر على التكرار من النهي وتوقف دلالة النهي على الأمر في دلالته أي النهي على التكرار من الأمر بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده واعلم أن الدور هنا اسمه الدور المصرح نوع من الدور السبقي".
المذهب الثالث:
أنه يدل على المرة ويحمل على التكرار وبقرينة وبه قال كثير من الأصحاب واستدلوا على ذلك بأنه لو قال السيد لعبده ادخل الدار فدخلها مرة واحدة عد ممتثلا عرفا ولو كان للتكرار لما عد ممتثلا.
وأجيب بأنه عد ممتثلا لأن المأمور به وهو الحقيقة حصل في ضمن المرة لا بخصوصهما بل لكونهما مما تحصل به الحقيقة مع عدم احتياج صرفه الامتثال إلى أزيد منها.
المذهب الرابع:
أنه مشترك لفظي بين التكرار والمرة فيتوقف إعماله في أحدهما على وجود القرينة.
واستدل له بأنه لم يكن مشتركا بين المرة والمرات لما حسن الاستفسار عند سماع صيغة الأمر بأن المراد ايهما لكن التالي باطل فبطل المقدم وهو عدم الاشتراك ونبت نقيضه وهو أنه مشترك بينهما "لو لم يكن مشتركا لما اسفسر عنه فحسن الاستفسار دليل على اشتراك"
أما الملازمة فلأن سراقة هو من أهل اللسان قال في حجة الوداع: ألعامنا هذا أم للأبد فحسن السؤال مستلزم الاشتراك البتة.
وأجيب عن ذلك بأنا لا نسلم الملازمة لجواز أن يكون متواطئا "أي معنويا ومشترك للقدر المشترك وهو إيجاد المعدوم في الخارج" ومع ذلك يحسن الاستفسار ألا ترى "زيادة توضيح" أنه قد يستفسر عن أفراد المتوطئ كما لو قيل مثلا أعتق رقبة يحسن أن يقال: أمؤمنة أم كافرة سليمة أم معيبة فقد حصل الاستفسار ولن يلزم منه كون اللفظ مشتركا لفظيا كما رأيت.
المذهب الخامس:
التوقف على القول بالمرة أو التكرار على معنى أنه مشترك بينهما أو لأحدهما ولا تفرقة فلا يحمل على أحدهما إلا بقرينة واستدلوا: بأنه لو ثبت مدلول صيغة الأمر لثبت بدليل أي لو ثبت أنه للمرة أو التكرار أو مجرد الوجود لثبت بدليل وهو إما النقل أو العقل ولم يوجد النقل والعقل لا مدخل له أي ثبت في إثبات اللغة والآحاد لا تعتبر أي لأن اللغة لا تثبت فوجب التوقف..........=

 

ج / 1 ص -69-         أما الذين قالوا: أنه يفيد التكرار تعلقوا بحديث الاقرع بن حابس أنه قال يا رسول الله احجتنا هذه لعامنا أم للابد فقال: "للابد ولو قلت: لعامنا لوجب وما استطعتم"1.
فقد اشكل عليه أنه على التكرار أو لا على التكرار ولو كان لا يفيد لما اشكل عليه ولم يكن لهذا السؤال معنى ولأن الأمر ضد النهى وهو في طلب الفعل مثل النهى في طلب الكف عن العمل ثم النهى يفيد التكرار وكذلك الأمر حتى لو ترك الفعل مرة ثم فعله يكون مرتكبا للنهى كذلك هاهنا إذا فعل المامور مرة ثم لم يفعله يكون تاركا للأمر ولانه يفيد الفعل ويفيد اعتقاد الوجوب ثم هو يفيد اعتقاد الوجوب على الدوام فيفيد الفعل على الدوام والدوام فيه أن يفعله على وصف التكرار ولو اقتضى الفعل مرة وجب أن لا يجوز عليه النسخ لانه يكون بدءا والبداء على الله تعالى لا يجوز ولأن الأمر لا يتخصص بوقت دون وقت فليس بأن يقال يجب فى بعض الاوقات بأولى من قول القائل يجب فى البعض فوجب فى كل الاوقات وهذا لان القول بالاستيعاب واجب فى الخطاب لطلب كثرة الفوائد والتكرار من الاستيعاب وقد اتفقنا على أن الأمر لا يتناول ما ينطلق عليه الاسم حتى لو قال لغلامه كل فأكل لقمة واحدة لا يكون ممتثلا للأمر وإذا لم يحمل على ادنى ما ينطلق عليه الاسم وجب أن يحمل على جنس ما ينطلق عليه الاسم لأن مالا يحمل على الخصوص يحمل على العموم لأن القول بالعموم فى كل ما يمكن فيه القول واجب.
وأما حجتنا فنقول قوله صل أمر بما قوله صلى خبر عنه كذلك قوله صل لا يقتضى فعل مرة واحدة ليكون قوله صلى خبرا عنه كذلك قوله صل لا يقتضي الفعل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأجيب بما مر من الاستقراء وأن الظن كاف في مدلولات الالفاظ مدلولات الألفاظ تثبت بالآحاد.
ومن هذا العرض يتبين رجحان القول بأن صيغة الأمر لطلب الماهية والمرة من لوازم تحقق الماهية في الوجود وليس للمرة ولا للتكرار وليس مشتركا ولا مجملا وهو المذهب الأول.
انظر البرهان لإمام الحرمين 1/224 - 231 نهاية السول للآمدي 2/274 - 282 اصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/156 - 163.
ومما ذكره شيخس - الحسيني الشيخ - امد الله في عمره ونفع به - ذلك في محاضرته في كلية الشريعة بجامعة الأزهر المحروسة- قسم الدراسات العليا.
 1 أخرجه أبو داود 1/379 المناسك 2/143 ح 1721 وابن ماجه المناسك 2/963 ح 2886 وأحمد المسند 1/379 ح 2646 ولفظ الحديث عند أحمد والحاكم المستدرك 1/441 انظر نصب الراية للزيلعي 3/2.

 

ج / 1 ص -70-         إلا مرة ليكون قول صل امرا به وهذا لأنه قوله صل أحد تصارف الفعل فصار كما لو قال صلى وهذا لأن تصاريف الفعل لا تختلف عن الفعل لأن الفعل واحد فى الكل وإنما اختلفت تصاريفه فإذا كان واحدا فى تصريف الخبر وتصريف المستقبل.
مثل قوله ضرب يضرب كذلك فى تصريف الأمر وهم يوردون على هذا تصريف النهى وسنجيب عنه.
ويمكن أن يقال مثال مأخوذ من المصدر كالخبر.
ألاترى أن ضرب مأخوذ من الضرب فكذلك اضرب مثال مأخوذ من الضرب فثبت استواؤهما من هذا الوجه وهكذا الحقيقة وهو أن الأمر يقتضى الامتثال فلا يتناول إلا قدر ما يصير به ممتثلا للأمر وبالفعل مرة يصير ممتثلا للأمر دل أن الأمر تناوله بلا زيادة فإن قالوا: إنما يصير ممتثلا بعض الأمر دون الكل.
قلنا لا يصير ممتثلا كل الأمر فإن من قال لغلامه اسقنى فسقاه مرة يصير ممتثلا كل ماأمره به وكذلك إذا قال اشتر لحما وخبزا ففعل مرة صار ممتثلا على الإطلاق.
ألاترى أنه لو كرر فى هذه الصورة يجوز أن يعاقبه السيد فيقول: أمرتك مرة فلم زدت عليه وأيضا فإن الغلام يعد نفسه ممتثلا للأمر وكذلك العقلاء يعدونه ممتثلا للأمر ولا يستحسنون عتابه فى ترك الأمر وهذا لأن قوله صل معناه صل صلاة وكذلك قوله صم وكل واشرب وادخل واشتر وقوله صلاة وصوما نكرة فى اثبات وأجمع أهل اللغة أن النكرة فى الاثبات تخص ولا تعم فاقتضى وجود ما سمى صلاة وصوما أو دخولا وخروجا أو شربا أو أكلا وخرج على هذا فصل النهى الذى تعلقوا به لأنه على الصورة التى قلنا بها يكون نكرة فى النفى تعم ولا تخص بالإجماع ونظير النكرة فى النفى قوله ما رأيت رجلا ونظير النكرة فى الإثبات رأيت رجلا.
فإن قالوا: إنما تجعل كأنه قال افعل الصلاة وافعل الصوم أوافعل الدخول وإدخال الألف واللام يقتضى استيعاب الجنس.
قلنا إنما نقدر من المصدر ما يستقبل به الكلام وقد استقل متعد وصلاة منكرة وصوم منكر فلا حاجة إلى تقديره بالألف واللام وقد قال الأصحاب أن الطاعة والمعصية فى الأوامر على مثال البر والحنث فى الأيمان ثم البر والحنث في الأيمان يحصل فى الفعل مرة والأمثلة معلومة كذلك الطاعة والمعصية فى الأوامر وعلى هذا أوامر العباد فى قولهم طلق وأعتق وبع واشتر وتزوج ولا تتزوج فإن فى هذه الصورة

 

ج / 1 ص -71-         يحصل الامتثال بفعل المأمور مرة واحدة.فإن قالوا: أن الخلاف فى قضية الأمر فلا يجوز أن نلتمس ذلك من قضايا الشرع خصوصا فى الشرعيات التى تثبت على العادات.
قلنا بل هو على ما قلتم فى البر والحنث من قضايا الشرع لكن هذه القضايا جاءت على ما يوافق اللغة وهذا لأنه يجب أن نعرف مقتضى الأفعال ثم نبنى الشرع عليه فيستدل بإجماعهم فى هذه المسائل على أن الأوامر ما اقتضت الفعل إلا مرة واحدة على أنهم علموا أن الأمر لا يقتضى الفعل إلا مرة واحدة حتى بنوا الأحكام على هذا الأصل.
أما الجواب عما تعلقوا به قلنا أما تعلقهم بحديث الأقرع يقال لهم أولا لو كان الأمر يقتضى التكرار لم يقل أم للأبد بل كان ينبغى أن لا يشتبه عليه ذلك ثم نقول إنما سأله لأنه وجد أوامر فى القران مقتضية للتكرار لكن مثال لذلك لأنه ظن من هذا الأمر مثل تلك الأوامر.
فإن قالوا: نحن نتعلق بالأوامر التى وردت فى القران واقتضت التكرار.
قلنا نحن لا ننكر احتمال الأمر للتكرار لكن إنما أنكرنا أن يكون موضوعا لذلك فأما إذا وردت فأريد بها التكرار بدليل يقوم على ذلك فنحن لا ننكره وعلى أنه ورد فى القران من الأوامر ما لا يقتضى التكرار مثل قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ومثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وأما تعلقهم بالنهى واعتبارهم الأمر بذلك فغير صحيح فإنه يمكن أن يقال أولا لا نسلم أن النهى يقتضى التكرار لأن معنى التكرار أن يفعل فعلا وبعد فراغه منه يعود إليه وهذا لا يوجد فى النهى لأن الكف فعل واحد مستدام وليس بأفعال مكررة بخلاف الأمر فإنه يوجد فيه أفعال متكررة على ماذكرنا والأمر فيه دليل على الفعل وليس فيه دليل على إعادة الفعل بعد الفراغ منه وعلى أنه أن بينت الفرق الذى قالوه. فيقال لا فرق بينهما لغة فإن واحدا منهما لا يفيد التكرار لغة وإنما افترقا من حيث العرف فإن من قال لغلامه افعل كذا واخرج إلى السوق فإن هذا الأمر يقتضى أن يفعل مرة فقط وإذا قال لا تخرج أو لا تفعل يقتضى هذا النهى أن لا تفعل أبدا فالفرق كان من حيث العرف لا من حيث اللغة وقد قال بعض أصحابنا فى الفرق بين.

 

ج / 1 ص -72-         الأمر والنهى إن فى حمل الأمر على التكرار ضيقا وحرجا يلحق الناس لأنه إذا كان الأمر يقتضى الدوام عليه لم يتفرغ لسائر أموره وتعطل عليه جميع مصالحه وأما النهى لا يقتضى إلا الكف والأمتناع ولا ضيق ولا حرج فى الكف والامتناع وهذا لأن الوقت لا يضيق عن أنواع الكف ويضيق عن أنواع الفعل وهذا الفصل يضعف لأن الكلام فى مقتضى اللفظ فى نفسه وأما التضايق وعدم التضايق معنى يوجد من بعد وربما يوجد وربما لا يوجد فلا يجوز أن يعرف مقتضى اللفظ وعلى أنه يلزم على هذا الفصل أن يقتضى الأمر الفعل على الدوام إلا القدر الذي يعتذر عليه ويمنعه من قضاء حاجته وهذا لا يقوله أحد وقد بينا الفرق بين الأمر والنهى فى قولنا أن الأمر لا يقتضى فعلا على وجه التنكير وهو ما يخص فى الأمر ويعم فى النهى وهو جواب معتمد وأيضا فإنه يمكن أن نفرق بينهما بالمسائل التى ذكرناها فى البر والحنث وكذلك مسائل الوكالات.
وأما قولهم أن اعتقاد الوجوب يجب على الدوام.
قلنا لا يجب عليه إلا أن يعتقد وجوب الفعل مرة إلا أنه لا يجوز أن يترك هذا الاعتقاد لأنه يؤدى إلى أن يعتقد الشيء على خلاف ما هو به وهو مثل ما إذا قيل بمرة واحدة فإنه يلزمه إعتقاد وجوبه على ما يلزمه فى الأمر المطلق ومع ذلك هو غير مقيد للتكرار.
وأما قولهم أنه لوأفاد العمل مرة لم يجز عليه النسخ.
قلنا عندنا يجوز نسخ المأمور قبل وجود وقت فعله ولا يكون أداء فكيف يكون هذا أداء وسنبين ذلك من بعد.
وقد قال بعض أصحابنا إنا إذا قلنا أن الأمر على الفور ويقتضى الفعل مرة لا يجوز عليه النسخ وإنما يجوز النسخ عليه إذا دل الدليل على إفادته التكرار وأن قلنا أنه دليل على التراخى والأمر وأن اقتضى الفعل مرة ولكن الأوقات تتناوب فيه فجاز النسخ بعد ما مضى وقت واحد ولا يدل ذلك على الأداء وأما الذي قالوا: أنه ينبغى أن يحمل على العموم فى الجنس.
قلنا قد بينا أن التقدير فى اللفظ صل صلاة أو صم صوما وعلى هذا لا يجوز حمله على الإستيعاب فى الجنس وحين وصلنا إلى هذا الموضع فقد إنتهت المسألة.

 

ج / 1 ص -73-         ومما يتفرع على هذه المسألة الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يتكرر بتكرارها1.
والمذهب الصحيح أنه لا يتكرر بتكرارها وقضيته عند وجود الشرط والصفة مثل قضيته عند إطلاق الأمر.
وزعم بعض أصحابنا أنه يتكرر بتكرارها2 وأن كان لا يفيد التكرار عند.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 استدل أصحاب هذا القول على أنه لا يفيده من اللفظ بأن الأمر المعلق بشرط أو صفة يقتضي توقف الأمر على هذا الشرط أو تلك الصفة - وذلك التوقف محتمل لأن يكون بالنسبة للمرة الواحدة وبالنسبة لجميع المرات - والدال على الأعم من حيث هو أعم لا دلالة له على الأخص من حيث خصوصه وبذلك لا يكون الأمر المعلق بشرط أوصفة دالا على تكرار الأمر بتكرار الشرط والصفة واستدلوا على أنه لا يفد التكرار من جهة القياس بأن تعليق الأمر على الشرط أقوى من تعليقه على العلة لأن العلة تتعدد والشرط لا يتعدد وتعليق الأمر على الشرط لا يدل على تكرار المشروط بتكرار الشرط فإن من قال لوكيله: طلق زوجتي إن دخلت الدار لا يقتضي هذا القول الإذن للوكيل يتعدد الطلاق تبعا لتعدد الشرط وهو الدخول فتعليق الأمر على العلة لا يدل على تكرار المعلول بتكرار العلة بطريق الأولى وإذا ثبت ذلك ثبت أن تعليق الأمر على الشرط أو الصفة لا يدل على التكرار لأن أقصى ما يفيده التعليق عليهما العلية وقد قلنا: إن تعليق الأمر على العلة لا يفيد تكرا المعلول بتكرار علته.
نوقش هذا: أن العلة أقوى من الشرط لأنها تؤثر بطرفي الوجود والشرط إنما يؤثر بطرف العدم فقط ولذلك قالوا: يلزم من وجود العلة وجود المعلول ومن عدم المعلول - ويلزم من عدم الشرط عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط وإذن يكون تعليق الحكم على العلة أقوى من تعليقه على الشرط وإذا ثبت أن ترتيب الأمر على الوصف أو الشرط يفيد أن كلا منهما علة للأمر فقد ثبت أن تعليق الأمر بكل منهما يفيد التكرار من جهة القياس لأن العلة كلما وجدت يوجد المعلول انظر نهاية السول 2/282 المستقصى للغزالي 712 إحكام الأحكام للآمدي 2/236, 237 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/164, 165.
2 أي أنه يفيد لفظا
واستدل أصحاب هذا القول بما يأتي:
لو لم يكن الأمر المعلق بشرط أو صفة مفيدا للتكرار المأمور به بتكرار الشرط أو الصفة لكن المأمور به يتكرر وبتكرار الشرط أو الصفة فكان الأمر المعلق بكل منهما مفيدا للتكرار لفظا لأن الأصل في الإفادة أن تكون بواسطة اللفظ.
دليل الملازمة: أن تكرر المامور به تابع للتكليف به والتكليف إنما يستفاد من الخطاب وإذا لم يكن الخطاب مفيدا للتكرار لم يكن المكلف مكلفا بالتكرار.
دليل الاستثنائية قوله تعالى:
{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} فإن الغسل يتكرر بتكرار الجنابة والقطع يتكرر بتكرار السرقة........=

 

ج / 1 ص -74-         الإطلاق1 وتعلقوا بالأوامر المعلقة بالشروط فى القرآن فإنها تتكرر بتكرار الشروط كذلك ما جاء فى غير القران يكون كذلك ولأن الشروط كالعلة.
ألا ترى أنه إذا وجد الشرط وجد المشروط مثل ما إذا وجدت العلة وجد المعلول ولا خلاف أن المعلول يتكرر بتكرار العلة كذلك وجب أن يتكرر المشروط بتكرار الشرط ولأنه لا خلاف أن النهى المتعلق بالشرط يتكرر بتكرر الشرط فكذلك الأمر يكون كذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نوقش هذا الدليل بأن تكرر الحكم فيما ذكرتم جاء من جهة أن كلا من الشروط والوصف قد قام الدليل على أنه علة للحكم والمعلول يتكرر بتكرار علته اتفاقا ولذلك إذا لم يثبت أن الشرط على للحكم - لا يتكرر الحكم بتكرر الشرط كالأمر بالحج فإنه معلق بشرط هو الاستطاعة ومن المتفق عليه أن الحجلا يتكرر بتكررها ومن هنا يعلم أن اللفظ بمقتضاه لم يفد التكرار ولكن التكرار قد يستفاد من شيء آخر ككون الشرط أو الوصف علة للحكم - وهذا لا يضرنا انظر نهاية السول 2/282 انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/165.
1 واعلم أن هناك مذهبا ثالثا وهو أنه لا يفيد التكرار من جهة اللفظ ولكنه يفيده من جهة القياس قد استدل البيضاوي على أن الأمر المعلق بشرط أو صفة لا يفيد تكرار من جهة اللفظ بأمرين: الأول: الأمر المعلق بشرط أو صفة يقتضي ثبوت الحكم عند وجود الشرط أو الصفة وثبوت الحكم عند وجود كل منهما محتمل لثبوت عند كل منهما مرة واحدة وثبوته عند كل منهما مرات فاللفظ صالح لكل منهما والصالح للأعم من حيث عمومه لا يصلح للأخص من حيث خصوصه وبذلك لا يكون اللفظ دالا على التكرار بخصوصه.
الثاني لو قال الشخص لوكيله: إن دخلت زوجتي الدار فطلقها لا يقتضي هذا القول الإذن للوكيل في طلاق الزوجة كلما دخلت الدار بل الوكيل لا يملك إلا إيقاع الطلاق عليها مرة واحدة عند حصول الشرط ولو كان الأمر مقتضيا للتكرار لفظا لكان الوكيل مأذونا بإيقاع الطلاق أكثر من مرة.
واستدل على أن الأمر المعلق بالشرط أو الصفة يفيد التكرار قياسا بأن ترتب الحكم على الشرط أو الصفة يدل على أن كلا منهما علة للحكم ولا شك أن المعلول يتكرر بتكرر علته والقياس مأمور به فيكون الأمر المعلق بالشرط أو الصفة مفيدا للتكرار بالقياس.
نوقش هذا الدليل بأنه منقوض بقول القائل لوكيله: إن دخلت زوجتي الدار فطلقها فإن هذا أمر معلق على شرط وهو يقتضي أن الشرط علة في الطلاق كما تقول ومع ذلك لم يتكرر الطلاق بتكرر الشرط.
أجيب عن ذلك: بأن هذا التعليق وإن أفاد أن الشرط على للظلاق إلا أن هذه العلة لا تعتبر لأن الشارع لم يجعل الدخول علة للطلاق وإنما الذي جعله هو المطلق ولا عبرة بجعله هذا لأنه ليس له سلطة التشريع في الأحكام وهذا هو السر في أن الطلاق لم يتكرر بتكرر الدخول انظر نهاية السول 2/282, 283 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/166, 167.

 

ج / 1 ص -75-         لأنه ضده ولأن عمل أحدهما فى الفعل مثل عمل الآخر فى الكف عن الفعل وأما الدليل لنا أن الأمر المطلق لا يفيد التكرار وكذلك المعلق بالشرط لأن الشرط لا يقتضى إلا تآخر الأمر إلى وجود الشرط ثم إذا وجد الشرط تعين الأمر منزلة الإبتداء فى هذه الحالة فلا يفيد إلا ما يفيده عند ابتدائه ولأنه إذا قال لغلامه إذا دخلت السوق فاشتر كذا فإنه لا يفيد أنه كلما دخل السوق يجب عليه أن يشترى اللحم وهذا معلوم قطعا ومن ادعى خلافه فهو مكابر.
وأما تعلقهم بالأوامر الواردة قبل الشرع على التعليق بالشرط.
فقلنا لم يكن ذلك قضيته الأمر بل كان ذلك بدلا دلت عليه قرائن اقترنت بالأمر فأفادت ذلك.
وأما التعلق بالعلة قلنا العلة موجبة للحكم والموجب لا ينفك عن الموجب أو هي دلالة على الحكم والدليل لا ينفك عن المدلول وأما الشرط فليس بموجب للحكم ولا هو دلاله عليه إنما هو علامة على الحكم فحسب ويجوز أن يوجد الشرط ولا مشروط وسنبين بعد هذا الفرق بين العلة و الشرط وعلى الإيجاز نقول هاهنا أن الحكم يقتصر ثبوته على العلة ولا يحتاج إلى أمر آخر وثبوت المشروط لا يقتصر على الشرط بل يحتاج إلى موجب يوجبه وهو العله.
مثال هذا أن كون الواحد منا حيا شرط لكونه قادرا وكونه قادرا لا يثبت كونه حيا بمعنى آخر وراء الحياة.
وأما تعلقهم بالنهي فقد أجبنا عنه في المسألة الأولى والله أعلم.
مسألة: إذا ثبت أن الواجب بالأمر الفعل الواحد فهو على الفور أو على التراخى.
اختلف أصحابنا فيه.
فقال ابوعلى بن خيران وأبو على بن أبى هريرة وأبو بكر القفال وأبو على صاحب الإفصاح أنه على التراخى وهو الأصح وهو قول أكثر المتكلمين ونصره أبو بكر محمد بن الطيب وقاله أبو على وأبو هاشم.
وزعم أبو بكر الصيرفى من أصحابنا والقاضى أبو حامد وأبو بكر الدقاق أنه على الفور وهو قول أكثر أصحاب أبى حنيفة وذهب إليه طائفة من المتكلمين.

 

ج / 1 ص -76-         وقال بعضهم أنه على الوقف ولا يحمل على الفور ولا على التراخى إلا بدليل1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الأمر المقيد بزمن يقع فيه الفعل يدل على وجوب ذلك الفعل في ذلك الزمن سواء تساوى الزمن كله كرمضان أم كان الزمن أكثر من الفعل كوقت الظهر أن الأمر الذي لم يقيد بزمن يقع فيه الفعل فالقائلون بإنه يدل على التكرار يقولون أنه "الأمر" يدل على الفور ضرورة أنالتكرار يستلزم الفور لأن التكرار مطلوب في جميع ما يمكن "التكرار هو شغل جميع الأزممنة الممكنة بهذا الفعل ومن ضمن الأزمنة الوقت الأول" من أزمنة العمر ومن جملتها الزمان الأول فوجب "يستلزم بالتكرار القول بالفور" أن يكون الأمر للفور.
أما غير القائلين بالتكرار فقد اختلفوا في دلالته على الفور أو غيره على أربعة مذاهب:
الأول:
وهو المختار عند جمهور الحنفية والشافعية وغيرهم لا يدل على الفور ولا على التراخي وإنما يفيد طلب الفعل فقط وايهما حصل كان مجزيا.
واستدلوا على ذلك بما يأتي: أن الأمر المطلق ورد استعماله في الفور كما في قوله تعالى:
{وآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وورد استعماله في التراخي كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب عليكم الحج فحجوا" ويلزم من هذا أن يكون حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو طلب الفعل من غير تعرض لوقت من فور أو تراخي والإلزام الاشتراك اللفظي إن قلنا أنه موضوع لكل منهما أو المجاز وإن قلنا أنه موضوع لأحدهما وهو حقيقة فيه مجاز في الآخر وهما خلاف الأصل "العدول من الأصل إلى خلافه ممنوع".
الثاني:
أنه يعمل على الفور فلو أخر المكلف عصى بالتأخير وإليه ذهب الحنفية واستدلوا لذلك لما يأتي:
أولا: إن الله تعالى ذم إبليس عليه اللعنة على ترك السجود لآدم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى:
{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} فلو لم يكن الأم رللفور لما استحق الذم ولكان لإبليس أن يقول إنك ما أوجبته على الفور "أي على التأخير ولكن كونه ذم دل على الفور" ففيم الذم.
وأجيب بأن ذلك الأمر الوارد وهو قوله تعالى:
{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} وفيه قرينتان تدلان على الفور إحداهما: الفاء وهي في اللغة للتعقيب والثانية وهو فعل الأمر وهو قوله تعالى: {فَقَعُوا لَهُ} حيث وقع جوابا لإذا وهي طرف والعامل فيهما جوابهما على رأي البصريين فيكون التقدير حينئذ "فقعوا له ساجدين وقت تسويتي إياه" "الدلالة على الفور ليس من ذات صيغة الأمر بل من القرائن".
ثالثا: قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} وجه الدلالة: أن الله تعالى أمر بالمسارعة إلى المغفرة والمراد أسبابها اتفاقا والمسارعة هي التعجيل بفعل المأمورات فيكون التعجيل مأمورا به وقت ثبت أن الأمر للوجوب فتكون المسارعة واجبة ولا معنى للفور إلا هذا "أسباب المغفرة........=

 

ج / 1 ص -77-         ............................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إطاعة الأوامر" ويجاب: بأنا لا نسلم أن حصول الفورية مستفاد من صيغة الأمر بل هو مستفاد من جوهر اللفظ لأن لفظ المسارعة دل عليه كيفما تصرف على ذها الدليل يدل عليه عدم الفورية فهي عليكم وليس لكم لأن المسارعة مباشرة الفعل في وقته مع جواز الإتيان به في غيره إذ الإتيان بالفعل في الوقت الذي لا يجوز تأخيره عنه لا يسمى مسارعة "فالمسارعة الفعل في الوقت لو قال السيد لعبده: اسقني وأخره لغير عذر عد عاصيا ولولا أنه للفور ما عد عاصيا.
وأجيب عن هذا الكلام في أن كلا منهما طلب والنهي يفيد الفور فالأمر مثله يفيد الفور قياسا على النهي.
ويجاب: بأن لا نسلم أن النهي يفيد الفور إذ في إفادته الفورية خلاف سلمنا أنه يفيد الفور "ترقى في الرد" لكنه قياس مع الفارق لأنه "توضيح الفرق" لما كان النهي مفيدا للتكرار في جميع الأوقات ومن جملتها وقت الحال "أي المباشر" لزم ضرورة أن يفيد "دلل عليه باللازم" وإنما فهم هذا من القرينة وهي أنه من المعلوم عادة وطلب السقي لا يكون إلا عند الحاجة إليه عاجلا والكلام يكون مفيدا للفورية بالقرينة وليس محل النزاع بل في المطلق فكان قياسا مع الفارق.
المذهب الثالث:
أنه يدل على وجوب إيقاع الفعل في الحال أو العزم على الفعل في ثاني الحال.
وهو رأي القاضي ومن وافقه واحتجوا له بأنه ثبت في الفعل والعزم حكم خصال الكفارة وهو أنه لو أتى بأحدهما أجزأه ولو أخل بهما عفى وهذا معنى وجوب أحدهما فيثبت.
وأجيب عن ذلك بأنا نقطع أن فاعل المأمور به مطيع لكونه أتى بخصوص "نفس الشيء" ما أمر به لا لكونه أحد الأمرين منهما "الفعل أو العزم أي أنه لم يؤمر بالعزم" وأن ترك العزم على فعل كل واجب إجمالا وتفصيلا من أحكام الإيمان يثبت مع ثبوته سواء دخل الوقت أو لم يخله فإن جوز ترك الواجب بعد مرة أثم وإن لم يدخل الوقت ولم يحن لا انه ترك مخيرا بينه وبين ما أمر به حتى يكون كخصال الكفارة.
المذهب الرابع:
التوقف "أي ليس أيا مما سبق" إما لأنه مشترك بينهما "أي مشترك لفظي" أو لأحدهما "حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر" ولا نعرفه هو رأي الإمام ومن وافقه واحتجوا لذلك بأن طلب الفعل محقق وجواز التأخير مشكوك فيه "أي بالمنع في جواز التأخير بالجواز في آخره" لاحتمال أن يكون للفور فيعطى للتأخير فوجب الفورية ليخرج عن العهدة بيقين.
والجواب: لا نسلم أن جواز التأخير مشكوك فيه بل التأخير جائز حتما بما ذكرنا من الأدلة وبهذا رجح رأي الجمهور وهو أن الأمر المجرد عن القرائن لا يدل على الفور ولا على التراخي وإنما يفيد طلب الفعل فقط اهـ مما ذكر الشيخ الحسيني الشيخ في محاضراته في كلية الشريعة جامعة الأزهر قسم الدراسات العليا وانظر نهاية السول 2/286 - 291 إحكام الأحكام..........=

 

ج / 1 ص -78-         واعلم أن قولنا أنه على التراخى ليس معناه على أنه يؤخر عن أول أوقات الفعل لكن معناه أنه ليس على التعجيل.
والجملة أن قوله افعل ليس فيه عندنا دليل إلا على طلب الفعل فحسب من غير أن يكون له تعرض للوقت بحال.
وعند الآخرين أن قوله افعل يقتضى الفعل في أوقات الإمكان فمنهم من قال أن لفظ الأمر يقتضى كذلك ومنهم من قال أن الواجب المستفاد بالأمر يقتضيه.
أما من قال منهم أن لفظ الأمر يقتضى ذلك فاستدلوا بأمر السيد عبده وصورته أن السيد إذا أمر عبده أن يسقيه الماء فهم منه أن يعجل سقيه الماء ولو لم يفعل استحسن العقلاء ذمة على تأخير سقيه.
قالوا: فإن قلتم أنه اقتضى ذلك بقرينة نقول أن السيد يعلل ذمه لعبده فيقول: أمرته بشيء فأخره فلا يحل الذم إلا على مجرد تأخير الأمر هذا دليل.
واستدل أيضا من قال أن لفظ الأمر يقتضي العجل بأن الوقت وأن لم يكن مذكورا في لفظ الأمر فإن الفعل لما كان إنما يقع في وقت وجب أن يفيد إيقاعه في أقرب الأوقات إليه كما أن ألفاظ البيع والنكاح والطلاق والعتاق يفيد وقوعهما فى أقرب الأوقات إليها.
ببينة أن هذه الأشياء إيقاعات من غير أن يكون فيها تعرض للوقت فإذا كان موضوعها على التعجيل لأن الوقت الأول أقرب الأوقات إلى الإيقاع كذلك الأمر الذي هوطلب الفعل.
وأما دليلهم من حيث النظر في فكرة الأمر فمن وجوه:.
منها أن الأمر قد اقتضى وجوب الفعل في أول الفعل والدليل عليه أنه لو أوقعه المكلف فيه أسقط بذلك الفرض عن نفسه فجواز تأخيره نقض لوجوبه لأن حد الواجب ما لا يسع تركه ولاشك أن تأخيره ترك لفعله في وقت وجوبه فثبت أن في التأخير نقض الوجوب وإلحاقه بالنافلة وهذا باطل وهذا دليل معتمد.
قالوا: فإن قلتم أن التأخير لا ينقض الوجوب ولا يلحقه بالنافلة لأن النافلة يجوز الإخلال بها أصلا وهذا لا يجوز الإخلال به لأنه وأن أخره فلا بد أن يفعله في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للآمدي 2/242 - 250 وروضة الناظر وجنة المناظر 178 - 179 المعتمد 1/11 أصول الفقه للسرخسي 1/26 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/167 - 173.

 

ج / 1 ص -79-         زمان غيره وهذا غير صحيح لأن الإلزم هو وجوبه في أول أوقات الإمكان ثم جواز تركه فقد يلحق بالنافلة في هذا الوقت وليس الإلزام أنه التحق بالنافلة على الإطلاق حتى يفصلوا بينه وين النوافل المطلقة إنما الإلزام الحاقه بالنافلة في وقت وجوبه.
قالوا: وقول بعض أصحابكم أن التأخير إنما جاز ببدل يقيمه مقام فعله وهو العزم على فعله في الوقت الثاني فهذا كلام باطل لأنه أولا إثبات بدل العبادة لادليل عليها.
فإن قلتم وجوب العزم بالإجماع على أداء الفعل في الثاني دليل نقول لكم ومن بسلم بهذا الإجماع بل لو قيل أن الإجماع على سقوط وجوب العزم كان صحيحا فإن من دخل عليه وقت الصلاة فأخرها عن أول وقتها من أن يخطر بباله عزما أو ترك عزم فإنه لا يعلم بين الأمة خلاف أنه يجوز له ذلك وإذا فعل الصلاة من بعد في وقتها لم يكن عليه وزر ولا وبال وقالوا: اللهم إلا أن يكون المعنى من الوجوب العزم الذي هو أصل ما يجب على كل مؤمن من التزام الفعل وكونه على أدائه وترك الإخلال به وهذا أمر لا يختص بالأوقات فإنه يجب على كل إنسان في العبادات قبل دخول أوقاتها بعد دخولها في قضية الأوامر الواجبة بعد وجود أوقاتها قالوا: ولأن العزم لو كان بدلا عن العبادة لوجب أن يقوم مقام العبادة بحال لأن البدل ما يقوم مقام الأصل فى وجوه مصالحها وأجمعنا على أنه لا يقوم مقام العبادة بحال فإن أصل الفعل لا يسقط بالعزم على الفعل بوجه ما.
قالوا: فإن قلتم أنه يقوم مقامه في الوقت الأول دون الوقت الثاني.
نقول إذا قام مقامه في الوقت الأول وقضية الفعل في الوقت الأول سقوط الفرض عن المكلف فينبغي أن يقوم مقامه في هذا الغرض قالوا: ولأنكم اعتقدتم هذا الأمر فرضا آخر معجلا وهو العزم على الفعل من غير أن يكون لصيغة الأمر تعرض له واعتقدتم تأخير الفعل مع اقتضاء الأمر الفعل ولا دليل على التأخير وهذا خطأ فاحش فبطل قول من قال أن العزم يدل وصح الدليل الذي تعلقنا به.
دليل آخر للقائلين بموجب الأمر على الفور وهو أن الأمر بالفعل يقتضي الفعل ويقتضي اعتقاد وجوبه ويقتضى العزم على فعله ثم كان اقتضاؤه اعتقاد الوجوب واقتضاؤه العزم على فعله على الفور والتعجيل فكذلك اقتضاؤه الفعل يكون على هذا الوصف أيضا وتعلقوا بالنهى أيضا فإنه يقتضي الإنتهاء عن الفعل على الفور فكذلك.

 

ج / 1 ص -80-         الأمر يكون اقتضاؤه بالفعل على الفور ولأن كل واحد نظير صاحبه ومما يعتمدون عليه وهو شبه المسألة وإشكالها أن القول بالتأخير يؤدى إلى أقسام كلها باطلة فيكون باطلا فى نفسه لأن ما يؤدى إلى الباطل باطل وإنما قلنا ذلك لأنه إذا جاز التأخير فلا يخلو أما أن يجوز إلى غاية أو لا إلى غاية فإن جاز لا إلى غاية فإما أن يجوز إلى بدل أو لا إلى بدل فإن قلتم لا إلى بدل فهذا نقض لوجوبه وإلحاق له بالنوافل وهو لا يجوز وأن قلتم يجوز إلى بدل فإما أن يكون البدل هو العزم على فعله فى الوقت الثانى أو الوصية به فأما العزم فقد أبطلنا كونه بدلا والمعتمد فى إبطاله أنه لا دليل على كونه بدلا فلا يجوز تأخير العبادة إلى بدل لا دليل عليه.
فان قلتم أن الإجماع ثابت على وجوب العزم فقد بينا أن لا إجماع وعلى أنه وأن وجب العزم فوجوب الشيء لا يدل على أنه يكون بدلا من غيره بل الأصح أن الأمر يوجب الفعل أصلا ويوجب العزم عليه أصلا إلا أن وجوب أحدهما بالصريح ووجوب الآخر بالدلالة وأما القول بجواز التأخير إلى بدل الوصية فباطل أيضا لأنه ليس كل العبادات مما يجوز الوصاية بفعلها وعلى أنه أن كان أمر الله تعالى لنا أن نفعل العبادة لا يمنع من أن يعزم على الإخلال أو يوصى غيرنا بها لم يمنع أيضا أمرنا الوصى أن يوصى بما وصيناه به ويحل بفعله بنفسه وكذلك القول فى الوصى الثانى والثالث إلى ما لا يتناهى.
قالوا: وأن قلتم يجوز التأخير إلى غاية فلا يخلوا لنا أن تكون الغاية معينة أو موصوفة فالمعينة أن يقال يجوز له التأخير إلى اليوم الثانى أو الثالث أو وقت كذا أو سنة كذا فلا يجوز تأخيره بعده وهذا لم يقل به أحد ولا دليل عليه فهو باطل.
وأما الموصوفة فهو أن يقال يجوز له تأخيره إلى الوقت الذي يغلب على ظنه أنه لو آخر عنه فات وهذا لا يخلوا أما أن يغلب على ظنه لا بأمارة أو يغلب على ظنه بأمارة من شدة مرض وعلو سن وغير ذلك وهذا باطل ايضا أما غلبة الظن لا عن إمارة فليس بشيء لأن الظن لا عن أمارة لا يجوز تعليق حكم الشرع به ولأنه قد يغلب الظن على السوء اى فى الموت وغيره ولا يجوز أن نعتبر مثل هذا الظن فى شيء وأما الظن عن أمارة فهو باطل أيضا لأن كثيرا من الناس يموتون فجأة وبغتة ولا يوجد لهم غلبة الظن فيموتون فما قلتم يقتضى أنه لم تجب عليهم العبادة لأنه قد جاء عندكم التأخير إلى غاية ولا غاية فى حقهم وكان التأخير لهم جائزا على الإطلاق.

 

ج / 1 ص -81-         فانتقض الوجوب فى حقهم أصلا.
ببينة وهو الإشكال أن الأمر بالفعل يقتضى الفعل لا محالة هذا الطريق صار موجبا للفعل على ما سبق بيانه وعلى ما قلتم لا يكون موجبا للفعل لأنه لا يكون مقتضيا للفعل لا محالة لأنه إذا جاز التأخير ولم يتضيق عليه فى وقت ما فلا وجوب وأن تضيق عليه فى وقت ما فلا يكون ذلك التضييق على العموم فى حق المكلفين فإنه أن يضيق فى حق من يغلب على ظنه لا يتضيق فى حق من لا يغلب على ظنه ويموت بغتة فلا يكون الأمر مقتضيا للفعل لا محالة فينتقض الوجوب.
والحرف أن الأمر إذا أوجب الفعل على العموم فلا يجوز أن يكون علامة الوجوب إلا على الأمر وأما حجة القائلين بالتراخى وهو الأصح فدل أولا أنه ليس فى لفظ قوله افعل دليل على صفة الفور والتعجيل فنقول قوله افعل صيغة موضوعة لطلب الفعل ولا تقتضى إلا مجرد طلب الفعل من غير زيادة كسائر الصيغ الموضوعة للأشياء فإنها لا تفيد إلا ما وضع لها ولا يفيد زيادة عليها وأقرب ما يعتد صيغة طلب الفعل فى المستعمل بصيغة الخبر عن الفعل الماضى ثم لو أخبر عن فعل فى الماضى لم يدل الخبر عن الفعل إلا على مجرد الفعل ويكون خبر الفاعل عن الفعل بعد فعله بمدة قرينة على وجه واحد كذلك هاهنا وهذا لأن قوله لغيره افعل ليس فيه تعرض للوقت بوجه ما وإنما هو مجرد طلب الفعل وليس فيه دليل على وقت متقدم وعلى وقت متآخر ولا يجوز أن يدل اللفظ على ما لا يتعرض له اللفظ وهو دليل على التقييد وهذا لا يجوز كيف وقد جعلوا تقييد المطلق نسخا له فى كثير من المسائل على ما عرف من مذهبهم إيقاع الفعل فحسب إلا أن الزمان من ضرورته لأن الفعل من العباد لا يصير موقعا إلا فى زمان فصارت الحاجة ماسة إلى الزمان ليحصل الفعل موقعا والزمان الأول والثانى والثالث فى هذا المعنى وهو حصول وقوع الفعل واحد وإذا استوت الأزمنة فى هذا المعنى بطل التخصيص والتقييد بزمان دون زمان وصار كما لو قال افعل كذا فى أي زمان شئت فهذه الدلائل من حيث بيان أن الأمر لا يقتضى التعجيل بلفظه ثم يدل على أنه لا يقتضى التعجيل بفائدة فنقول لو كان يقتضى التعجيل بفائدته لكان يقتضيه من حيث أن الأمر يفيد الوجوب ولا يتم الوجوب مع القول بجواز التراخى وهذا لا يصح لأن الفعل يجوز أن يكون واجبا على المكلف وأن كان مخيرا بين فعله فى أول الوقت وفعله فيما بعده فيجوز له التأخير ما لم يغلب على ظنه فواته.

 

ج / 1 ص -82-         إن لم يفعله فمتى غلب على ظنه فواته أن لم يفعله حرم التأخير فيكون هذا الأمر مقتضيا طلب الفعل منه فى مدة غيره بشرط أن لا يخلوا زمان العلم منه فيصير واجبا عليه بوصف التوسع لا بوصف التضييق والتكليف على هذا الوجه لا يمنع منه معقول ولا مشروع.
أما المعقول فإنه لو صرح بمثل هذا الأمر لم يكن مستنكرا عند أحد العقلاء ولو قال السيد لغلامه افعل كذا غدا أو قال افعل فى شهر كذا أو سنة كذا ومراده أن يأتى به فى أي وقت يختاره من هذه المدة بشرط إلا يخلى المدة منه فإنه يكون صحيحا غير مستبعد ولا مستنكر وأما المشروع فقد ورد الشرع بمثاله وذلك فى الصلوات المفروضات فى الأزمنة المعلومة لها وكذلك القضاء الواجب عند ترك الصوم بعد زوال الكفارات الواجبات والزكوات على أصولهم وبهذا المعنى أجمع أهل العلم على أنه فى أي زمان فعله يكون مؤديا ويحسن أن يوصف بالإمتثال لأمره ولهذا المعنى أجمع أهل العلم أيضا أن الإيمان على الأفعال يحصل البر فيها سواء اتى بالأفعال على الفور أو على التراخى فيثبت أنه لا دليل على صفة الفورية لا من جهة لفظ الأمر ولا من جهة فائدته والقول بالشيء بلا دليل عليه باطل.
فإن قالوا: ليس مع هذا كله أجبتم المسارعة والمبادرة فى الأوامر فكذلك جاز أن وجب ذلك.
قلنا إنما أوجبنا المسارعة والمبادرة بلا دليل من جهة اللفظ ولا من جهة معناه لكن بدليل أجنبى جاء من جهة الشرع استجلب المبادرة إلى كل الطاعات والكلام فى هذا الاقتضاء من حيث اللفظ وقد يدل على ما ذكرناه أيضا قصة عمر رضى الله عنه أنه قال لأبى بكر رضى الله عنه فى زمان الحديبية من صد النبى صلى الله عليه وسلم عن البيت ووقوع الصلح على الرجوع فى ذلك العام أليس أن الله تعالى وعدنا أن ندخل المسجد الحرام فقال له أبو بكر أقال العام قال لا قال فسندخل فسكت عمر وعلم الحق من قوله وكذلك سائر الصحابة رضى الله عنهم علموا ذلك واعتقدوا صدق الوعد بهذا الطريق مع وجوه تراخى الدخول فثبت أنهم علموا ذلك بالطريق الذي قدمناه فكذلك الأمر يكون بمثابته ومنوالهم على ما ذكرناه بما أوردناه فى شبههم وسنفصل عنها ونزيل الإشكال منها بعون الله تعالى.
الجواب أما كلامهم الأول وهو تعلقهم بالسيد إذا أمر غلامه بسقيه الماء.

 

ج / 1 ص -83-         قلنا إنما عقل التعجيل فى ذلك الأمر بقرينة دلت عليه وهى علم العبد أن السيد لا يستدعى الماء إلا وهو محتاج إلى شربه هذا هو الأغلب ولو لم يوجد إلا فى الأمر فإنه لا يعقل ذلك.
وأما قولهم أن السيد يقول: أمرته بكذا فأخره.
قلنا وقد يعتذر العبد فيقول: أمرنى بكذا ولم يأمرنى بتعجيله ولا علمت أن عليه فى تأخيره مضرة.
وأما كلامهم الثانى قلنا هذه الأحكام التي تعلقوا بها عامة صيغها صيغ أخبار وقد بينا أن صيغة الخبر لا تدل على قرب من المخبر عنه ولا يعد إلا بدليل يقترن به أيضا فإن هذه العقود فى الشرع إيقاعات تقتضى أحكاما على التأبيد فلا بد أن تتصل أحكامها بالعقود ليصح القول بإتيانها على التأبيد فهو مثل النهى فى مسألتنا فإنه لما اقتضى الانتهاء والكف على التأبيد اقتضى الانتهاء على الفور ليصبح القول بثبوتها على التأبيد.
فإن قيل كون الحكم إذا وقع دام لا يمنع من النظر فى ابتداء وقوعه أنه يقع معجلا أو على التراخى وهو كالملك فى الثمن المؤجل فإنه يقع الملك فيه فى المستقبل ثم إذا وقع دام وهو لا يمنع ذلك من النظر فى ابتداء وقوعه أنه على التعجيل أو على التراخى ويكون ذلك بحسب قيام الدليل عليه.
قلنا إذا كان قضية الشيء أن يكون حكم على الدوام فاعتقاد التراخى فيه يفضى إلى اعتقاد الجزم فى صفة الدوامية لأنه يتراخى ويتراخى إلى زمان يوجد حكم اكتسب فى ذلك الزمان ولا يتصور معنى الدوام فيه فلهذا قلنا أنه يكون على الفور على ثبت صفة الدوام ثم نقول فى هذه المسائل التى قاسوا عليها لم تثبت صفة التعجيل بصيغ هذه الألفاظ وإنما ثبتت بإثبات الشرع لها ذلك وكلامنا وقع فى مقتضى صيغة اللفظ فسقط تعلقهم بها من هذا الوجه وهذا جواب معتمد.
وأما دليلهم الذى قالوه من جهة فائدة اللفظ قولهم أن الأمر قد أفاد الوجوب فى أول أوقات الإمكان.
قلنا أي شيء يعنون بهذا أن عنيتم أنه أفاد الوجوب فى أول الوقت على وجه لا يجوز تأخيره عنه فلا نسلم ذلك وأن عنيتم أنه أفاد الوجوب فى أول الوقت على معنى أنه إذا أوقعه فيه يقع من الواجب قلنا لم قلتم إذا كان على هذا الوصف وجب إلا يجوز التأخير.

 

ج / 1 ص -84-         فإن قلتم لأنه كان واجبا فى أول الوقت وجاز التأخير أدى إلى نقض وجوبه وإلحاقه بالنوافل.
قلنا لا يؤدى إلى ذلك لأنه إنما يؤخر لا لأنه غير واجب بل يؤخر لأنه واجب موسع عليه فى وقته والواجب على وجهين واجب موسع على المكلف فى وقته وواجب مضيق على المكلف فى وقته فالمضيق عليه فى وقته لا يجوز تأخيره فأما الموسع عليه فى وقته يجوز تأخيره وهذا التأخير لا يخل بصفة الواجبية لأنه جوز لنا التأخير عن أول أوقات الإمكان إلى وقت مثله فى الإمكان وشرط عليه أن لا يخلى كل الوقت عن الفعل ولما أخلا عصى وأثم فعلى هذا أفاد صفة الواجبية ولم يلتحق بالنافلة فهذا وجه الجواب عن هذا الدليل وقد سلك بعض أصحابنا طريقا آخر فى الجواب وقال إنما جاز التأخير إلى بدل وهو العزم وزعم أن الإنسان إنما يجوز له التأخير بشرط أن يكون عازما على فعله الثانى.
وذكر القاضى أبو الطيب وجهين للأصحاب فى وجوب العزم وهذه الطريقة صعب تمشيتها شاق مسلكها للمسائل التى ذكرناها وما ذكرناه من الجواب معتمد وهو كاف
ويقال أيضا لهم إنكم تعلقتم بسقوط الأمر عنه بفعله فى أول الوقت بمعنى يستوى فى ذلك الوقت الأول والثانى وذلك لأن الأمر اقتضى إيقاع الفعل فقط من غير تعرض للوقت فإذا فعله فى الوقت الأول فقد أوقع الفعل وإذا فعله فى الوقت الثانى أو الثالث فقد أوقع الفعل فكان سقوط الفرض عنه بفعل المأمور فى أول الوقت لا لمعنى يرجع إلى الوقت بل كان لوجود حصول الفعل على ما اقتضاه الأمر وقد استوى فى هذا المعنى كل الأوقات فصار جميع الأوقات فى هذا الوقت واحدا وصح الفعل فى الوقت الثانى والثالث من حيث صحته فى الوقت الأول ولم يؤد هذا التوسع عليه إلى إلحاقه بالنوافل لما بينا من قبل.
وأما ما تعلقوا به من وجوب الإعتقاد على التعجيل.
قلنا ولم قلتم إذا وجب تعجيل إعتقاد وجوب المأمور به وجب تعجيل المأمور به وما أنكرتم أن تعجيل الاعتقاد وجب لدليل يخصه لا للأمر وإنما كان يلزم ذلك أن لو وجب لقضية الأمر.
فإن قالوا: أن الاعتقاد تابع للمعتقد فإذا تعجل الاعتقاد وجب أن يتعجل المعتقد قلنا والمطالبة مع هذا ولم إذا وجب تعجيل الاعتقاد مع هذا وجب تعجيل المعتقد

 

ج / 1 ص -85-         ويتصور انفصال أحدهما عن الآخر.
ثم يقال لهم إنما وجب تعجيل اعتقاد الوجوب لأنه إذا كان قام الدليل للمكلف فى أن الأمر يفيد الوجوب وقد وجد الأمر فكيف يتصور أن لا يعتقد وجوب الأمر والأمر على هذا الوجه فأما تعجيل الفعل فيجوز أن يعتقد الوجوب فى المأمور ومع هذا لا يجب عليه تعجيله لما بينا من قبل وعلى أنا نقول يلزمه اعتقاد وجوبه على التوسع كما يلزمه فعله على التوسع وإذا وجب الفعل على حسب ما يعتقده من الوجوب ووجب الاعتقاد على حسب ما يلزمه من الفعل لم يقع الفرقان بوجه ما وأما تعلقهم بفصل النهى فقد أجبنا عنه من قبل وهو أنه يقتضى الانتهاء على الدوام فإنما كان على الفور والتعجيل لأنا إذا لم نعجله على هذا الوقت أدى إلى بطلان صفة الدوامية فيه على ما سبق بيانه ويمكن أن يجاب عن فصل اعتقاد الوجوب بهذا أيضا وأما الذى ذكروه من بعد هذا وهو أن القول بجواز التأخير يؤدى إلى أقسام كلها باطلة قلنا لا يؤدى لأنا نقول يجوز له التأخير إلى أن يغلب على ظنه أنه إذا آخر يفوت المأمور ونقول أن الظن المعتبر هو الظن عن إمارة وهذا قسم صحيح جائز اعتقاده لأن الظن عن أمارة دليل من دلائل الشرع.
فيجوز بناء الأحكام عليه بدليل الاجتهاد فى الأحكام فكذلك هذا الحكم يجوز بناؤه عليه ولأن الله تعالى قد كان أوجب الوصية للأقارب فى ابتداء الاسلام عند حضور الموت على ما قال تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ولا يعرف حضور الموت إلا بغلبة الظن عن إمارة وقد بين الشرع إيجاب الوصية عليه كذلك هاهنا يجوز أيضا مثله
وأما قولهم أنه ربما يموت بغتة أو فجأة.
قلنا هذا الذى قلتم نادر والظاهر الأغلب فى حق الناس موافقة علامات حضور الموت واحتباس الإنسان بضعفه وحضور أجله ومعرفته بظهور علاماته فيه والنادر لا يدخل فيما بنى أمره على الأعم الأغلب بدليل ما قلناه فى الوصية.
فإن قالوا: ما قولكم إذا مات بغتة يموت عاصيا أو لا يموت عاصيا.
فإن قلتم يموت عاصيا فمحال لأنا أطلقنا له التأخير فاخترمته المنية من غير أن يحس بحضورها لم يتصور إطلاق وصف العصيان عليه لأن وصف العصيان بالتأخير مع إطلاق التأخير محال.

 

ج / 1 ص -86-         وإن قلتم يموت لا عاصيا فلم يبق للوجوب فائدة.
الجواب أنا نقول يموت لا عاصيا ولا يدل هذا على بطلان فائدة الوجوب وذلك لأنا بينا أن الوجوب على التوسع جائز وردوه مشروعا ومعقولا وبينا أن التأخير لا يدل على أن المأمور غير واجب لأنه يجوز له التأخير عن الوقت الأول فى الفعل إلى وقت مثله فى الفعل فلا يكون محرما عليه لأن المحظور عليه فى الواجبات تركها على الإطلاق والترك على الإطلاق هو الترك على وجه يفوت المأمور والتأخير على هذا الوجه الذي أطلقناه ليس فيه تفويت المأمور ثم إذا أحس بالفوات وهو إذا ظهرت عليه أمارات حضور الموت ضيقنا عليه الأمر ومنعناه من التأخير وأما إذا مات بغتة وفجأة فهو غير مفوت للمأمور لأنه إنما آخر من وقت إلى وقت مثله وقد بينا أن مثل هذا لا يعد تفويتا وإذا صار حيث يؤدى إلى التفويت منعناه من التأخير فصار الفوات عند موته بغتة محالا به على الله تعالى لا على العبد لأنه قد فعل ما كان مطاقا له ذلك فعنذ ذلك الفعل منه لم يجز وصفه بالتفويت على ما سبق بيانه إلا أنه صار فائتا بمعنى من قبل الله تعالى فلم يجز أن يوصف بالعصيان وهو كالأمر المضيق إذا لم تساعده الحياة فى وقته وكان من هذا الوجه على العبد لم يجز أن يوصف بالعصيان وجعل الفوات لمعنى من قبل الله تعالى كذلك هاهنا وعدم وصفه بالعصيان لم يدل على ذهاب فائدة الوجوب لأنا حققنا صفة الواجبية مما يعود إلى فعل العبد من منعه وتفويته فبوجود الفوات من قبل الله تعالى لا نبطل فائدة الوجوب فهذا وجه الجواب عن هذا الفصل ولم نبق على ما قررناه إشكال بوجه ما وهذا الفصل قد أعيى الفحول من الأصحاب حتى رأيت بعضهم يقول فى أصوله لا يستقيم مع قولنا أنه غير عاص إلا أن يحكم أنه لا وجوب وكذلك زعم أن الصلاة فى أول الوقت لا تجب والمفعول فى أول الوقت ينبغى أن يكون نافلة وهذا ترك لمذهب الشافعى رحمه الله ومساعدة للمخالفين وليس سبيل من ينصب للتقدم فى مذهبه ويعتقد أنه الفحل المدافع عن حريمه أنه إذا جاء إشكال فى المسألة يترك مذهب صاحبه ويوافق الخصوم بل ينبغى أن يبذل له جهده ويجعل فكره يحل الإشكال فإن أمكنه ذلك وإلا تركه إلى من يوفقه الله تعالى له ويهديه إليه وبمثل قول عمرو بن معدى كرب

إذا لم تستطع شيئا فدعه       وجاوزه إلى ما تستطيع

فأما أن يترك مذهبه ويوافق خصومه فمحال والله العاصم بمنه.

 

ج / 1 ص -87-         وإذا عرفنا هذه المسألة يخرج عليها مسألة الحج أنه يجوز تأخيره عن أول أوقات الإمكان وقد ذكرنا وجه الكلام فيها وأما أبو زيد الدبوسي زعم أن الأمر بصيغته لا يدل على صفة الفورية إلا أن فى الحج وجب فعله على الفور لأن تأخيره يؤدى إلى تفويته حقيقة والإدراك فى السنة الثانية على الوهم والشك فلا يجوز القول بتأخير يؤدى إلى الفوات قطعا بإدراك موهوم وهذا فصل قد ذكرناه فى الخلافيات وذكرنا الكلام عليه فى كتاب الاصطلام فتركنا الكلام عليه فى هذا الباب واقتصرنا على ما ذكرناه والله أعلم.
مسألة.
وإذ بينا الكلام فى الأمر المطلق وقضيته فنبين حكم الأمر المؤقت بوقت فنقول اعلم أن الأمر الوارد على التوقيت على وجهين أمر مؤقت بوقت لا يفصل الوقت عنه بل هو وارد بقدر الوقت مثل صوم رمضان فإنه واجب بأول دخول الوقت بلا خلاف ومعنى الوجوب بأول الوقت أنه يجب مباشرته مقترنا بدخول وقته مقترنا من غير تقديم ولا تأخير1 وأما الوجه الآخر فهو الأمر المؤقت بوقت يفصل الوقت عنه وأن شئت قلت: يسع له ولغيره مثل الصلوات الخمس التى هى مؤقتة بالأوقات المعلومة ونعلم قطعا أن أوقاتها تسع لها ولغيرها فعندنا تجب هذه العبادات فى أول أوقاتها وجوبا متوسعا ومعنى الوجوب المتوسع أنه يطلق له التأخير عن أول أوقاتها إلى أوقات مثلها إلى أن يصل إلى وقت يعلم أنه أن آخر فات فحينئذ يضيق عليه ويحرم عليه التأخير وهذا قول أبى شجاع السلمى من أصحاب أبى حنيفة وهو اختيار كثير منهم وإليه ذهب جمهور المتكلمين2.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول للأسنوي 1/166 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 1/104.
2 ودليلهم في ذلك: أن الله تعالى لما فرض الصلاة أرسل جبريل عليه السلام ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم أوقاتها وأفعالها فأم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى به أول يوم الصلاة في أو وقتها ثم صلى به في اليوم الثاني في آخر وقتها ثم أعلم النبي صلى الله عليه وسلم الأمة بهذه الأوقات بقوله: الوقت ما بين هذين - ووجه الاستدلال من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الوقت كله من أوله إلى آخره وقت للصلاة وهذا الخبر محتمل لأمور أربعة:
أحدها: أن المكلف يحرم بالصلاة من أول الوقت لا ينتهي منها حتى ينتهي الوقت.
الثاني: أن المكلف يوقعها مرة واحدة في جزء معين من الوقت..........=

 

 

ج / 1 ص -88-         وذهب الكرخى وأبو بكر الرازى وأكثر أصحابهم من العراقيين إلى أنه يجب تأخير الوقت والمفعول فى أول الوقت نفل وفعله يمنع الوجوب فى أخره مثل الزكاة المعجلة فى الحول قبل انقضائه1.
ومنهم من قال أنه موقوف أن أدركه آخر الوقت وهو أهل الوجوب كان المفعول واجبا وأن أدركه آخر الوقت وهو ليس من أهل الوجوب كان المفعول تطوعا.
ومنهم من قال المفعول يكون واجبا فكان الوجوب متعلق بأحد شيئين أما آخر الوقت وأما اختيار الفعل2 3.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثالث: أن المكلف يوقع الصلاة مرارا حتى ينتهي وقت الصلاة.
الرابع: أن يوقعها المكلف مرة واحدة في أي جزء يختاره من أجزاء الوقت أما الاحتمالان الأول والثاني فباطلان بالإجماع وأما الاحتمال الثالث فباطل لأنه لا دليل على تعيين بعض أجزاء الوقت بأداء الفعل فيه دون البعض الآخر فيكون تخصيص هذا الجزء بالأداء تخصيصا بلا مخصص وهو باطل.
وحيث بطلت الاحتمالات الثلاثة تعين أن يكون الاحتمال الرابع هو المراد من الحديث وبذلك يكون الخطاب المتعلق بالصلاة مقتضيا لإيقاعها في أي جزء من أجزاء الوقت من غير بدل وهو ما ندعيه انظر نهاية السول 1/172 المحصول 1/282 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 1/105, 106.
1 وقد استدل أصحاب هذا المذهب بأنه لو وجب الفعل فيما عدا الجزء الأخير من الوقت لما جاز تركه فيه لأن شأن الواجب أنه لا يجوز تركه لكن ترك الفعل فيما عدا الجزء الأخير من الوقت جائز اتفاقا فبطل أن يكون الفعل واجبا فيما عدا الجزء الأخير وثبت أنه واجب في الجزء الأخير وهو ما ندعيه انظر المحصول لفخر الدين الرازي 1/281 نهاية السول 1/172, 173 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 1/110.
2 قال الشيخ محمد أبو النور زهير رحمه الله ولم أعثر لهذا المذهب على دليل ولعل وجهة الكرخي فيما ذهب إليه أن آخر الوقت معتبر في سقوط التكليف عن المكلف كما هو معتبر في إيجابه عليه ابتداء انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/111.
3 اعلم أن هذه المسألة مذهبان آخران لم يذكرهما المصنف:
أحدهما: مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة متكلمي الأشاعرة والمعتزلة أن الإيجاب يقتضيس إيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت ولكن المكلف إذا لم يفعل في أي جزء من الأجزاء يجب عليه أن يعزم على الفعل في الجزء الذي لم يفعل فيه حتى يأتي الجزء الأخير من الوقت فيتعين عليه الفعل فيه وأما دليلهم على وجوب العزم فقد قالوا فيه: لو لم يكن العزم واجبا عند عدم الإتيان بالفعل للزم ترك الواجب بلا بدل وترك الواجب بلا بدل باطل لأنه يجعل الواجب غير واجب وضرورة أن الواجب هو ما لا يجوز تركه بلا بدل وغير...........=

 

ج / 1 ص -89-         وتعلق من قال إنها لا تجب بأول الوقت بأن حد الواجب ما لا يسع تركه والصلاة فى أول الوقت واسع تركها من غير حرج فدل أنها غير واجبة قالوا: ولا يجوز أن يقال أن تركها إلى بدل وهو العزم على فعلها فى الثانى لأنا قد أبطلنا طريقة العزم فى المسألة الأولى.
قالوا: ولا يجوز أن يقال أن هذا تأخير وليس بترك لأنا بينا أن الترك فى أول الوقت قد وجد فإن الترك فى أول الوقت هو التأخير الذي قلتم والتأخير هو الترك فى أول الوقت فعلى أي الاسمين ذكر نحوه فالمعنى واحد لا يختلف وربما يقولون الواجب ما يتعين الإقدام عليه فى الزمان الأول لم يكن واجبا فيه وقد قال بعض أصحابنا المتأخرين حين سمع هذه الشبهة للمخالفين قد اتفق أهل التحقيق من الفقهاء أن من آخر الصلاة عن أول وقتها ومات فى أثناء الوقت لم يلق الله تعالى عاصيا فإذا كان كذلك فلا معنى لوصف الصلاة بالوجوب فى أول الوقت إلا على تأويل وهو أن الصلاة لو أقيمت لوقعت فى مرتبة الواجبات إذا أجزأت وهى على القطع كالزكاة تعجل قبل حولان الحول هذا كلامه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الواجب ما جاز تركه بلا بدل انظر المحصول 1/282 إحكام الأحكام للآمدي 1/149 نهاية السول 1/166 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/106, 107.
والثاني: أن الإيجاب يقتضي إيقاع الفعل في الجزء الأول من أجزاء الوقت فإذا مضى من الوقت ما يسع الفعل ولم يفعل المكلف الفعل فيه وإنما فعله في غيره من الأجزاء كان هذا الفعل قضاء وهل يأثم بهذا التأخير أو لا يأثم - اختلف النقل عن أصحاب هذا المذهب وهذا المذهب فيه إنكار للواجب الموسع وهو مذهب لم يعرف قائله ولكنه نقل عن بعض المتكلمين ونسبه بعض الأصوليين إلى الشافعي وهي نسبة غير صحيحة لأن الشافعية لم تقل بذلك وقد استدل أصحاب هذا المذهب على مدعاهم بقوله صلى الله عليه وسلم
"الصلاة في أول الوقت رضوان الله وفي آخره عفو الله" ووجه الاستدلال من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الصلاة في أول الوقت سبب لرضاء الله ورحمته وثوابه وأن إيقاعها في آخر الوقت موجب للعفو من الله تعالى وذلك يقضي بأن إيقاعها في آخر الوقت فيه معصية تتطلب من الله العفو عنها فإن العفو إنما يكون عن ذنب أو معصية.
فلو كان الوقت كله وقتا للأداء والمكلف خير في إيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء لما كان إيقاعها في الجزء الأخير منه موجبا للذنب لأن المكلف قد فعل ما هو مأذون فيه بذلكك يكون الحديث دالا على أن وقت الفعل هو الجزء الأول منه وما بعده بوقت لقضائه وهو المطلوب انظر نهاية السول 1/171 المحصول لفخر الدين الرازي 1/281 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/108, 109.

 

ج / 1 ص -90-         وأما دليلنا فنقول الأمر يفيد الوجوب قد تناول أول الوقت قطعا فأفاد الوجوب قطعا يدل على أن الأمر تناول جميع الوقت على وجه واحد فإن كان لا يفيد الوجوب فى أوله فلا يفيد فى أخره فإذا أفاد الوجوب فى أخره فلا بد أن يفيد فى أوله ولأنا أجمعنا أنه يجب عليه نية الواجب إذا فعل الصلاة فى أول الوقت ولو نوى النفل بطلت صلاته والنية مصححة للفعل ومفسدة له فلو كان المفعول فى أول الوقت يقع نفلا لم يبطل النفل بل كان ينبغى أن يكون نية النفل مصححة لها.
ببينة أنه لما وجبت نية الفرض علمنا قطعا أن المفعول لا يقع نفلا لأنه لا يتصور أن يقع عن النفل مع وجوب نية الفرض وإذا وقع عن الفرض ثبت أنه فرض فإن قالوا: ليس فيما قلناه أكثر من وقوع الفعل عن الواجب قبل الوجوب وأنتم قد فعلتم مثل هذا فى صلاة العصر للمسافر فى وقت الظهر وصلاة العشاء الاخرة له فى وقت المغرب وكذلك الوضوء يجب عند دخول وقت الصلاة وقد صح بالإجماع قبله.
قلنا واحد منهما لا يلزم أما الأول فوقت الظهر وقت وجوب العصر فى حق المسافر إلا أنه واجب موسع وكذا نقول فى العشاء الأخرة أن وقت المغرب وقت وجوبها فى حق المسافر وهذا ثابت عندنا بالنصوص الواردة فى الباب على ما عرف فلم نقل بجواز تقديم الواجب على وقته.
وأما فصل الطهارة قلنا دخول الوقت إنما يوجب الوضوء على المحدث لإزالة الحدث فأما إذا كان تطهر قبل دخول الوقت وجاز على طريق النفل فقد زال الحدث ودخل وقت الصلاة وهو متطهر غير محدث ولم يجب عليه الوضوء أصلا وهذا لأن الوضوء لا يجب لعينه بحال وإنما وجب شرطا للصلاة ليؤديها على طهر من حدث وإذا كان متطهرا عن الحدث عند دخول الوقت فقد وجد شرط الصلاة فلم يتصور وجوب الطهارة عليه.
وأما الجواب عن قولهم أن حد الواجب ما لا يجوز تركه.
قلنا لا ترك هاهنا على وجه يخل بالواجبية فلم قلتم أن الترك الذى لا يخل بالواجبية لا يسع فى الواجب والدليل على أنه لا يخل بالواجبية أن هذا واجب واسع وقته على معنى أن وقته يشتمل على أزمان غيره لهذا الفعل على الترادف والتعاقب فلا بد أن يكون لتوسع الوقت أى فى هذا الواجب وليس ذلك إلا أنه يجوز تأخيره عن أول زمانه إلى زمانه الثانى والثالث والرابع إلى أن يضيق فى أخره فيوجد وقت لا يتلوه

 

ج / 1 ص -91-         وقت أخر.وجواز التأخير على هذا الوجه لا يخل بالواجبية لأنه أخره عن وقته أو تركه فى وقت إلى وقت مثله فى الوجوب فيفيد فائدة الأمر فى الإيجاب لأن الوقت الثانى فى الحقيقة صار مثل الوقت الأول فكأنه الوقت الأول فكذلك الثالث والرابع ولا يخص ترك وهذا لأن المحظور ترك يؤدى إلى تفويت الواجب وإذا تعددت أوقات الفعل بحكم اتساعه لم يوجد تفويت وإذا قرر على هذا الوجه وقع التفريق بينه وبين النفل ولم يلحق به بحال فقد وقع الانفصال عن هذه الشبهة بأبين وجه وبقى الدليل الذى قدمناه من غير أن يكون لهم غلبة كلام بوجه ما وأما إذا مات فى خلال الوقت فقد بينا أنه غير عاص بقول من قال من أصحابنا أن على هذا لا يصح إلا أن يقال أنه غير واجب فى أول الوقت خطأ وقد بينا الكلام عليه فى المسألة الأولى وحققنا وجود الوجوب مع القول بترك معصيته عند اخترام المنية إياه ولا مزيد على ما قلناه.
وأما الزكاة فعندنا الأمر اقتضى الإيجاب من وقت ما تناوله الأمر وقد تناوله الأمر وقد تناول الأمر ما بعد الحول فلا يجب قبله فكذلك الأمر هاهنا قد يتناول أول الوقت فلا يتآخر عنه الوجوب.
وأما جواز إخراج الزكاة قبل الحول رخصة من الشرع ثبت ذلك بالنص الوارد فيه والرخص لا يجوز إلزامها على الواجبات التى هى عرفيه ولو وردت هاهنا رخصة بجواز فعل الصلاة قبل الوقت لقلنا بذلك.
فإن قال قائل الوقت سبب الوجوب فكيف يتصور أن يجب من أول الوقت إلى أخره وهو يؤدى إلى أن يكون الزمان الأول سببا للوجوب وكذلك الزمان الثانى والثالث فيكون ذلك إيجاب ما هو واجب وهذا لا يجوز الجواب أن عندنا الوقت ليس بسبب الوجوب أما سبب الوجوب خطاب الشرع إلا أنه يجب مرة فى زمان متضيق ويجب مرة فى زمان واسع وكل واحد جائز معقولا ومشروعا على ما سبق بيانه فعلى هذا لم يرد إلى ترادف الإيجاب فى فعل واحد بل الإيجاب حصل مرة واحدة إلا أنه واجب متوسع وقته فصار الترادف فى الوقت لا فى نفس الإيجاب فسقط ما قالوه من هذا الوجه وقد دل ما ذكرناه أن الوجوب لا يستقر بأول الوقت واستقرار الفريضة معتبرة بإمكان الأداة بعد دخول الوقت وهو الظاهر من مذهب الشافعى وإذا استقر بإمكان الاداء كان التأخير جائزا بحكم توسع الوقت بشرط أن

 

ج / 1 ص -92-         لا يؤخذ تأخيرا يؤدى إلى التفويت على ما سبق وبعض أصحابنا ضم إلى هذا شرطا آخر وهو العزم على أداء المأمور قبل انقضاء الوقت وعندى أن الشرط الأول كاف وقد سبق الكلام فى ذلك والله أعلم.
مسألة
المأمور إذا ترك الإمتثال فى الوقت المضروب للأمر حتى انقضى فلا يجب عليه القضاء بصيغة الأمر فإن وجب يجب بأمر جديد.
وقال بعض الفقهاء يجب القضاء بالأمر الأول1 واحتج فى ذلك بما روى عنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ فخر الدين الرازي هذه المسألة لها صورتان: الصورة الأولى الأمر المقيد كما إذا قال: افعل هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى ذلك القت فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت؟ الحق لا لوجهين:
الأول: أن قول القائل لغيره: افعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول ما عداه وما لا يتناوله الأمر وجب أن لا يدل عليه بإثبات ولا ينفي بل لو كان قوله: افعل هذا الفعل يوم الجمعة موضوعا في اللغة لطلب الفعل في يوم الجمعة وإلا ففيما بعدها فها هنا إذا تركه يوم الجمعة لزمه الفعل فيما بعده ولكن على هذا التقدير يكون الدال على لزوم الفعل فيما بعد يوم الجمعة ليس مجرد طلب الفعل يوم الجمعة بل كون الصيغة موضوعة لطلب يوم الجمعة وسائر الأيام.
قال ولا نزاع في هذه الصورة وإنما النزاع في أن مجرد طلب الفعل يوم الجمعة لا يقتضي إيقاعه بعد ذلك.
الثاني أن أوامر الشرع تارة لم تستعقب وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارة استعقبته ووجود الدليل مع عدم المدلول خلاف الأصل فوجب أن يقال إن إيجاب الشيء لا إشعار له بوجوب القضاء وعدموجوبه.
فإن قلت إنك لما جعلته غير موجب للقضاء فحيث وجب القضاء لزمك خلاف الظاهر.
قلت عدم إيجاب القضاء غير وإيجاب عدم القضاء غير ومخالفة الظاهر إنما تلزم من الثاني وأنا لا أقول به أما على التقدير الأول فغايته أنه دل منفصل على أمر لم يتعرض له الظاهر بنفي ولا إثبات وذلك لا يقتضي خلاف الظاهر.
الصورة الثانية: الأمر المطلق وهو أن يقول: افعل ولا يقيده بزمان معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعده أو يحتاج إلى دليل؟
أما نفاة الفور فإنهم يقولون: الأمر يقتضي الفعل مطلقا فلا يخرج عن العهدة إلا بفعله وأما مثبتوه فمنهم من قال إنه يقتضي الفعل بعد ذلك وهو قول أبي بكر الرازي ومنهم من قال: لا يقتضيه بل لا بد في ذلك من دليل زائد.
ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره: افعل كذا هل معناه: افعل في الزمان الثاني فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت ففي الرابع على هذا أبدا أو معناه: افعل في الثاني من غير بيان حال...............=

 

ج / 1 ص -93-         النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها"1 وقوله فليصلها دليل على أن الأمر الأول باق عليه وأن الواجب بعد خروج الوقت هذا الذى كان واجبا فى الوقت ولأن الواجب عليه بعد الوقت واجب باسم القضاء والقضاء من ضرورته وجوب فقضى عليه فدل أن الأمر الأول باق عليه حتى سمى المفعول قضاء.
ببينة: أنه إذا وجب بأمر لم يتصور أن يكون قضاء.
قالوا: ولأن الأوامر مصالح والمصلحة فى نفس الفعل لا فى وقت الفعل فإذا لم يفعل كان عليه فعله وأن انقضى الوقت المضروب للفعل.
وأما دليلنا هو أن الوجوب بالأمر والأمر يتناول الفعل فى وقت معلوم فلا يكون الفعل فى غير ذلك الوقت مأمورا وإذا لم يكن أمرا بعد الوقت لم يكن وجوب والحق أن المأمور يفوته بفوات الأمر وقد فات الأمر بفوات الوقت فيفوت الوجوب.
ببينة: أن فى الشاهد من قال لغلامه زر فلانا فى الغد لا يكون أمرا بالزيارة بعد الغد حتى إذا ترك الزيارة فى الغد وزار بعد الغد يسمى مخالفا لسيده وأيضا يقال القاضى ليس يمتثل الأمر فإن الممتثل للأمر هو الموافق لصيغة الأمر والموافقة لصيغة الأمر وهى بالفعل فى الوقت المسمى فى الأمر وإذا لم يكن الفعل بعد الأمر امتثالا لم يكن الأمر مقتضيا له فصار فعل المأمور بعد خروج الوقت كفعله قبل دخول الوقت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الزمان الثالث والرابع فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الفعل في سائر الأزمان وإن قلنا بالثاني لم يقتضيه فصارت هذه المسألة لغوية.
واحتج من قال أنه لا بد من دليل منفصل بأن قوله: افعل قائم مقام قوله: افعل في الزمان الثاني.
وقد بينا أنه إذا قيل له في ذلك وترك الفعل في الزمان الثاني لم يكن ذلك القول سببا لوجوب الفعل في الزمان الثالث فكذا ها هنا ضرورة أنه لا تفاوت بين اللفظتين واحتج أبو بكر الرازي على قوله: بأن لفظ افعل يقتضي كون المأمور فاعلا على الإطلاق وهذا يوجب بقاء الأمر ما لم يصر المأمور فاعلا انظر المحصول 1/224, 225, 226 إحكام الأحكام 2/262 روضة الناظر وجنة المناظر 180 التمهيد تخريج الفروع على الأصول ص 68.
1 أخرجه البخاري المواقيت 2/84 ح 597 ولم يذكر "من نام" ومسلم المساجد 1/477 ح 315, 684 وأبو داود الصلاة 1/118 ح 442 والترمذي الصلاة 1/335 ح 178 ولفظهما لفظ البخاري والنسائي المواقيت 1/236 باب فيمن نسي صلاة وابن ماجه الصلاة 1/227 ح 696 ولفظ الحديث عند مسلم.

 

ج / 1 ص -94-         ثم لا يصح ذلك فى الأمر وكذلك بعد خروج الوقت يكون كذلك أيضا.
وأما الجواب عما تعلقوا به أما الخبر قوله ص فليصلها نقول أولا هذا دليل عليهم لأن قوله فليصلها أمر جديد فلو كان الأمر الأول باقيا عليه لم نحتج إلى هذا الأمر الثانى فلما ذكره دل على وجوبه بهذا الأمر لا بالأمر الأول ثم قوله فليصلها يعنى فليصل مثلها لأن الواجب عليه هذا الأمر المحدد صلاة مثل صلاة الأولى فلأجل هذه المشابهة صحت هذه الكتابة وأما الذى تعلقوا به من تسمية المفعول قضاء.
قلنا هذا دليل عليكم لأن الأمر الأول لو تناول الفعل قبل خروج الوقت كان المفعول أداء ولم يكن قضاء مثل المفعول فى الوقت ثم نقول تسميته قضاء هو على طريق المجاز لا على طريق الحقيقة ومعنى المجاز أنه فعل على مثاله الأول قائم مقامه فى إسقاط تبعة الأمر الأول عنه وهذا لأن عندنا وأن وجب القضاء بأمر جديد يعمله قيامه مقام الأول فيسقط عنه تبعة الخلاف فى الأمر الأول فهذا الوجه سمى قضاء وهو على طريق المجاز لأنه لا يقضى عليه فى الحقيقة.
وأما كلامهم الأخير فقوله أن الأوامر مصالح.
قلنا تأجيل المصالح فى الأوامر عندنا باطل والله تعالى لا يجب عليه شيء بوجه ما وقد يفعل الأصلح بالعبد وقد يفعل غير الأصلح وهذه قاعدة تعرف فى غير هذا الموضع وعلى أنه يجوز أن تكون مصلحة العبد فى فعل الشيء في وقت معين ولا يكون فعله فى غير ذلك الوقت مصلحة.
ألا ترى أن فعله فى الوقت مصلحة له وقبل الوقت لا يكون مصلحة والله أعلم.

فصل
وذكر أصحابنا فى أصحاب الأعذار الذين لا يحتم عليهم الصوم فى الحال مثل المريض والمسافر ومن لا يجوز له صوم فى الحال مثل الحائض والنفساء أن الصوم واجب عليهم فى حال العذر.
وقال أصحاب أبى حنيفة لا يجوز القول بإيجاب الصوم على الحائض والمريض فى

 

ج / 1 ص -95-         حال العذر1.
وأما المسافر فالصوم واجب عليه وله الفطر بترخيص الشرع وحكوا عن بعض من ينسب إلى الكلام أن الصوم لا يجب على المريض والحائض وأما المسافر فعليه صوم أحد الشهرين أما شهر الاداء وأما شهر القضاء وأيهما صام كان أصلا مثل الأنواع الثلاثة فى كفارة اليمين.
واحتج الأصحاب فيما صاروا إليه بأن الله تعالى علق قضاء الصوم بفطر مضمر فى الأية إجماعا وهو قوله تعالى:
{وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ومعناه فانظروا عدة من أيام آخر فدل أن وجوب القضاء معلق بالفطر ولو لم يكن الوجوب ثابتا عند الفطر لما تعلق به القضاء ولأن المفعول لما كان يسمى قضاء لا أداء فالقضاء اسم لواجب قام مقام واجب آخر فأما أداء الواجب فى وقته فلا يسمى قضاء بحال ولأن هذه العبادة مفروضة فى هذا الوقت فلو لم يجب على هؤلاء فى الوقت لم يجب شيء بعد فوات الوقت كالحائض لما لم يجب عليها الصلاة فى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ الآمدي اختلفوا في تكليف الحائض بالصوم فنفاه أصحابنا وأثبته آخرون انظر إحاكم الأحكام 1/221 وفي شرح المنار لابن مالك الحنفي والحيض والنفاس وهما لا يعدمان الأهلية لا أهلية الوجوب ولا أهلية الأداء فكان ينبغي أن لا يسقط بهما الصلاة كما لا يسقط الصوم انظر المنار لابن مالك 350.
وهذا يدل على أن الذي ذكره المصنف هو عكس ما قلناه فعند الأحناف يجوز أن يجب الصوم على المعذور وأما عندنا نحن الشافعية فالحيض مانع من أهلية الوجوب وقت الحيض اهـ.
ثم سطر الشيخ الآمدي قوله فقال: والحق في ذلك إن أريد بكونها مكلفة به بتقدير زوال الحيض المانع فهو حق وإن أريد بكونها مكلفة به بتقدير نزول الحيض المانع فهو حق وإن أريد به أنها مكلفة بالإتيان بالصوم حال الحيض فهو ممتنع وذلك لأن فعلها للصوم في حالة الحيض حرام ومنهي عنه فيمتنع أن يكون واجبا ومأمورا به لما بينهما من التضاد الممتنع دالا على القول بجواز التكليف بما لا يطاق.
فإن قيل فلو لم يكن الصوم واجبا عليها فلم وجب عليها قضاؤه؟ قلنا: القضاء عندنا إنما يجب بأمر مجدد فلا يستدعي أمرا سابقا وإنما سمي قضاء لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه في الصوم ولم يجب لمانع الحيض انظر إحاكم الأحكام 1/221, 222 التلويح على التوضيح 2/176, 177.
تنبيه: اعلم وفقك الله أنه من الممكن أن يكون هناك خطأ في عبارة المصنف والصحيح "أن الصوم غير واجب عليهم في حال العذر وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز القول بإيجاب الصوم على الحائض في حال العذر والله أعلم".

 

ج / 1 ص -96-         الوقت لم يجب بعد الوقت.
قال من يخالف هذا كيف يتصور وجوب الصوم على الحائض ولا سبيل لها إلى الأداء ولا إلى إزالة المانع إلى الأداء بل هي منتهية عن فعل الصوم لا إيجاب فعل لا سبيل للمأمور إلى التوصل إليه بحال.
ببينة أنه لو جاز إيجاب الصوم على المرأة فهى منتهية عنه لجاز إيجاب سائر المنهيات عليها هذا فى الحائض وكذلك قالوا: للمريض الذى يستضر بالصوم لا يجوز له فعل الصوم فلا يجوز أن يقال بوجوبه عليه وأما المسافر فالصوم له جائز إلا أنه رخص له تركه والقضاء من بعد.
وأجاب الأصحاب عن هذا وقالوا: المحدث إذا ضاق به وقت الصلاة لا يتأنى له الأداء والوجوب ملاق إياه وكذلك من لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا لا يتصور منه الأداء ولا التسبب إليه ومع ذلك صح الوجوب عليه والسكران لأنه خطاب وجوب الصلاة وهو ممنوع من أدائها وهذا لأن الحيض نوع حدث والمرض والسفر نوع عذر والحدث والعذر إنما يؤثران فى الأداء ولا يؤثران فى أصل الوجوب مثل سائر الأحداث والأعذار إلا من الأحداث ما يكون العبد بسبيل إلى إزالته ومنها لا سبيل له إلى إزالته ومن الأعذار ما يكون الأداء جائزا معه وربما يكون الأداء هو الأولى ومنها ما يكون ترك الأداء أولى وذلك فى المريض الذى يستضر بالصوم.
واعلم أن القول بإيجاب الصوم على الحائض مشكل جدا والحرف الذى يمكن الاعتماد عليه أن الخطاب بالإيجاب عام فى حق كل من هو من أهل الخطاب إلا أن هؤلاء أصحاب أعذار وموانع فيعمل العذر والمانع بقدره ولا يفوت الخطاب أصلا والحيض حدث دائم وعمل الأحداث فى المنع من الأداء والمرض عذر مضر بصاحبه والضرر فى الأداء فى الإيجاب والسفر جعل عذرا لأنه سبب المشقة فالمشقة فى الأداء لا غير فهذا الطريق كان عمل هذه الأشياء فى الأداء لا فى الوجوب فيبقى أصل الوجوب وظهرت فائدته من بعد وهو عند زوال هذه الأعذار وهذا غاية ما يمكن ذكره فى هذا الفصل وللقاضى أبى زيد فى كل هذه الأعذار كلام مفرد ذكره فى أحد أصوله الذى صنفه وسنحكى ذلك من بعد ونتكلم عليه مع أخواته التى ضم إليها ونتكلم فيها ونبين الصواب من ذلك والله المعين بمنه.

 

ج / 1 ص -97-         مسألة: الأمر الوارد على التخيير بين شيئين أو أشياء.
مثل الأمر الوارد فى كفارة اليمين وما يشبه ذلك فالذى عليه جمهور الفقهاء أن الواجب أحد ذلك لا بعينه فأيها فعل يعين واجبا بفعله فيكون مبهما قبل الفعل متعينا بعد الفعل بفعله1.
وقال كثير من المعتزلة وشرذمة من فقهاء العراقيين أن جميعها واجب دون أحدها فإذا فعل أحدها سقط به وجوب باقيها2.
وقد قال بعض أصحابنا أن من عليه الكفارة إذا فعل جميعها كان الواجب أحدها وهو أعلاها ثمنا لأنه مثاب على جميعها وثواب الواجب أكثر من ثواب الندب فانصرف الواجب إلى أعلاها دون أدناها ليكثر ثوابه وأن ترك جميعها كان معاقبا على أحدها.
وهو أدناها ليقل وباله ووزره ولأن الواجب يسقط بفعل الأدنى فينظر فى إلحاق الوزر إلى ذلك القدر ولا وزر فيما زاد عليه3 احتج عبد الجبار الهمدانى لمن قال إن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول للأسنوي 1/132 إحكام الأحكام 1/142 المحصول لفخر الدين الرازي 1/273 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/93.
2 انظر المعتمد في أصول الفقه للقاضي حسين 1/79 المحصول لفخر الدين الرازي 1/273.
3 هذا المذهب لم اجده ولكن ما وجدته في كتب الأصول هو مذهب لبعض المعتزلة - أن الخطاب يقتضي إيجاب واحد معين عند الله تعالى غير معين للناس وأصحاب هذا المذهب ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: ترى أن المعين عند الله الذي تعلق به الإيجاب هو ما يختاره المكلف من الخصال التي ورد فيها للتخيير - فتعيين الواجب عند الله تابع لاختيار المكلف - ومن هنا كان الواجب مختلفا لاختلاف المكلفين فيما يختارون والواجب على كل مكلف هو ما يختاره.
الطائفة الثانية: ترى أن المعين عند الله تعالى الذي تعلق به الإيجاب شيء واحد بالنسبة لجميع المكلفين هو الإطعام مثلا أو الإعتاق - فإن اختاره المكلف وفعله فقد فعل الواجب وإن لم يختره بل اختار غيره وفعله فقد سقط عنه الواجب لأنه فعل ما يقوم مقامه.
الطائفة الثالثة:ترى أن المعين عند الله تعالى متعد فليس شيئا واحدا لجميع المكلفين كما تقول الطائفة الثانية وليس التعيين تابعا لاختيار المكلفين كما تقول الطائفة الأولى وإنما التعيين راجع إلى والله تعالى والله تعالى قد عين لكل طائفة من المكلفين ما يناسبهم فعين لطائفة منهم الإطعام وعين لطائفة أخرى الإعتاق وعين لطائفة ثالثة الإكساء وعند الحنث يلهم الله كل طائفة أن تفعل ما عينه لها انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 93.

 

ج / 1 ص -98-         جميعها واجب وقال أن الكفارات الثلاث كل واحدة منها قد أرادها الله عز وجل كما أراد الأخرى وأمر بها كما أمر بالأخرى والصلاح فى إحداها كالصلاح فى الأخرى كان الأمر والصلاح والإرادة اتصل بكل الثلاث على وجه واحد وجب أن يكون وجوب الجميع على وجه واحد وربما يقول: ليس إيجاب البعض بأولى من إيجاب البعض فوجب أن يجب الكل وأيضا فإن كل واحد منها إذا فعله جاز ويكون مؤديا للواجب وهذا صفة بالواجب وحكمه وقالوا: لوكان الواجب أحدها لا بعينه وجب أن يبينه الله تعالى.
لأنه إذا لم يتبين أدى إلى أن يكلف أحد شيئا من غير أن يسأله وهذا لا يجوز.
يدل عليه أنه لو أوجب أحدها لنصب عليه دليلا وميزه من غيره حتى لا يؤدى إلى التخيير بين الواجب وبين ما ليس بواجب فلما لم يميزه ولم ينصب عليه دليلا دل أنه أوجب الكل.
قالوا: أيضا أن الكفارات إنما أمرنا الله تعالى بها لأنها مصالح لنا ولا يجوز أن تكون المصالح موقوفة على اختيارنا لأن العبد لا يهتدى إلى مصالح نفسه لأن رأيه عن عقل مشوب برأيه عن هوى ولا يحصل بمثل هذا الرأي الاهتداء إلى المصالح.
وأما حجتنا هى أنا أجمعنا أنه لو عين أحد الأنواع بالفعل وأداه سقط الواجب عنه ولا يلزم الإتيان بعده وهذا الواجب ما لا يسع تركه إلى غير بدل ولا شك أن المؤدى واحدا من الأنواع تارك غيره بلا بدل فدل أن عليه الذى أداه ليس بواجب وأن شئت قلت: انعقد إجماع المسلمين أنه لو ترك جميع الأنواع لا يستحق العقاب على جميعها وإنما يستحق العقاب على أحدها ولو كان الجميع واجب استحق العقاب على الكل.
قالوا: عندنا يجب الكل على طريق الجمع لكن على طريق التخيير فإذا إدى المكلف إحدها يخرج الباقى عن صفة الوجوب.
قلنا هذا هو الدليل عليكم لأن الجميع لو كان واجبا لم يسقط بفعل أحدهما كالصناعات والصلوات والزكوات المجتمعة عليه لا تسقط بأداء الواحد منها وإذا تركها عوقب على جميعها وقولهم أن الكل واجب على طريق التخيير.
قلنا لو وجب الكل وجب أن لا يثبت التخيير فيها على وجه إذا فعل الواحد منها سقط الكل كسائر الواجبات التى تجتمع عليه فى الوجوب.
قالوا: يجوز مثل هذا كفرض الكفاية فإنه واجب على الكل ومع ذلك إذا فعله.

 

ج / 1 ص -99-         البعض سقط عن الكل.
قلنا فرض الكفاية دليل عليكم لأنه لما وجب على الكل من وجه ظهر لذلك أثر بوجه ما فإنه العقاب كما إذا كان واجبا على الكل لا على طريق التخيير وأما هاهنا لو ترك الكل لم يكن عقاب وإثم إلا بترك أحدها فلم يكن لوجوب الكل ظهور أثر بوجه ما وإذا كان كذلك لم يكن فيما قالوه إلا مجرد تسمية الواجب أن غير معنى ولا عبرة للأسامى إذا كانت خالية عن المعانى وقد دل على ما قلنا قوله تبارك وتعالى:
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89].
وأجمع أهل اللغة أن أو للتخيير والواو للجمع فلو قلنا أن جميع الكفارات الثلاث واجبة لم يبق فرق بين أو وبين الواو مع إجماع أهل اللغة على التفريق بينهما أما الجواب عن كلماتهم.
أما قولهم أن الإرادة تعلقت بكل الثلاث.
قلنا الأمر ليس بأمر بالإرادة حتى يقال أن الإرادة إذا اتصلت بالكل صار الكل واجبا إنما الأمر بصيغة قوله افعل أو بما يقتضى الفعل لا محالة وصيغة طلب الفعل إنما اتصلت بإحدى الكفارات الثلاث لا بعينها بدليل أنه إذا فعل إحداها سقط عنه الطلب وأيضا يقال لهم الأمر أمر بالإرادة والله تعالى إنما أراد من المكلف فعل إحدى الكفارات لا فعل جميعها بدليل أنه لا يلزمه فعل جميعها ولو أريد منه فعل كل الكفارات لزمه فعل كل الكفارات.
ويقال أيضا أن الإرادة اتصلت بمبهم غير معين فى حق المكفر وأن تعين ما يكفر به فى سابق علم الله تعالى.
وأما قولهم أن إيجاب البعض ليس بأولى من إيجاب البعض.
قلنا لم وقد قام الدليل على إيجاب بعضها على إيجاب كلها والعبرة بما قام الدليل عليه.
وأما قولهم أنه لو كفر بكل واحدة يكون مؤديا ما هو الواجب عليه.
قلنا هذا لا يدل على أن الكل واجب وإنما هو دليل على أن الواجب مفوض إلى اختيار العبد هذا كما نقول فى الرقبة والإطعام فإن من ملك مائة رقبة فإنه إذا أعتق يقع عن الكفارة أو ملك ألف مد أي عشرة أمداد أعطى وقع عن الواجب ولا يدل.

 

ج / 1 ص -100-       على أن الكل واجب وكذلك لوباع قفيزا من صبرة فإنه اى قفيز سلم يكون مبيعا ولا يدل على أن الكل مبيع كذلك هاهنا.
وأما قولهم أنه لو كان الواجب واحد ما لميزه ونصب عليه دليلا قلنا هذا إنما يجب إذا كان الواجب معينا قبل الفعل فيجب أن يكون عليه دليل ليتوصل المأمور إلى معرفته وأداء فرضه بفعله فأما إذا لم يكن معينا وإنما يتعين بفعله فلا حاجة إلى غيره لأن ما يتأدى به فرضه هو ما يختاره منها.
جواب آخر أن ما يستحق الثواب بفعله والعقاب بتركه واحد بالإجماع ولم يجب تمييزه عن غيره ونصب الدليل لكل جواب للمخالف على هذا فهو جوابنا فى وجوب الواحد.
وأما قولهم أن الكفارات كلها مصالح.
قلنا قد تكلمنا على فصل المصلحة من قبل فلأن المصلحة فى كونها واجبا تعلقت بإحداها لا بالكل بدليل أنه لو فعل الكل لا يكون مؤديا للواجب ولو كانت مصلحة الواجبية تعلقت بالكل لوجب أن يجعل هو مؤديا للكل عن صفة الوجوب واعلم أنه لا يتحصل خلاف معنى فى هذه المسألة وإنما الخلاف خلاف عبارة ونحن نمنعهم من إطلاق عبارة الواجب على الكل لأنه يؤدى إلى ما بيناه من قبل ولأن العبارات التى ليس لها معنى لا يجوز التمسك بها لا إجماعا ولا اختلافا فثبت أن الصحيح ما قدمناه والله أعلم.

فصل
ذكر الأصحاب أن الأمر بالشيء لا يكون أمرا بأسبابه بصيغته1 مثل قوله صل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة هي المعنون عنها بمسألة مقدمة الواجب وهو أن إيجاب الشيء يقتضي إيجاب ما يتوقف عليه.
واعلم أن الواجب يتوقف على شرطه وسببه كما يتوقف على جزئه ويتضح ذلك مما يأتي:
الشرط: هو ما يلزم من عدمه عدم المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط ولا عدمه لذاته وأقسامه ثلاثة لأن عدم المشروط عند عدم الشرط إن كان منشأه الشرع فهو شرط شرعي وإن كان منشأه العقل فهو شرط عقلي وإن كان منشأه العادة فهو شرط عادي مثال الشرط الشرعي الطهارة بالنسبة للصلاة فإن عدم الطهارة تستلزم عدم صحة الصلاة ومنشأه الاشتراط .....  =

 

 

ج / 1 ص -101-       ...............................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هو الشرع والعقل لا دخل له في ذلك ومثال العقلي: ترك ضد من الأضداد التي لا يمكن فعل الصلاة معه فترك هذا الضد شرط لصحة الإتييان بالصلاة والعقل يوجب هذا الاشتراط من حيث إنه يمنع الجمع بين المتنافيان.
ومثال الشرط العادي: نصب السلم بالنسبة لصعود السطح فإن الصعود لا يتحقق عادة إلا بالسلم فإن لم يوجد الصعود عادة وكذلك غسل جزء من الرأس فإنه شرط في تحقيق غسل الوجه والذي قضى بذلك هو العادة فإن غسل الوجه لا ينفك عادة عن غسل جزء من الرأس.
السبب: هو ما يلزم من وجوده وجود المسبب ومن عدمه عدم السبب فالمسبب يؤثر بطرفي الوجود والعدم بخلاف الشرط فإنه يؤثر من جهة العدم فقط وأقسام السبب ثلاثة لأن تأثيره في المسبب إن كان من جهة الشرع فهو سبب شرعي وإن كان من جهة العقل فهو سبب عقلي وإن كان من جهة العادة فهو سبب عادي.
مثال السبب الشرعي: دخول الوقت بالنسبة لوجوب الصلاة وملك النصاب بالنسبة لوجوب الزكاة.
ومثال السبب العقلي: ترك كل ما ينافي الصلاة فهو سبب من جهة أن ترك كل مناف للصلاة يقضي بوجود الصلاة وإن عدم الترك وذلك يكون بإتيان ما ينافي الصلاة يقضي بعدم الصلاة والعقل هو الذي يحكم بذلك فهو سبب عقلي.
ومثال السبب العادي حز الرقبة بالنسبة للقتل الواجب.
وأما الركن هو ما يلزم من عدمه العدم ومن وجوده الوجود مع كونه داخلا في الماهية "فهو يخالف السبب من حيث إن السبب خارج عن الماهية أما الركن فهو داخل فيها - ويتفق الركن مع السبب من حيث إن كلا منهما يؤثر بطرفي الوجود والعدم.
واعلم أن الأصوليين قد اتفقوا على أن وجوب الشيء إذا كان مقيدا بشرط أو بسبب فإن المكلف لا يجب عليه تحصيل الشرط ولا تحصيل السبب لكي يكون مكلفا بذلك الشيء فلو قال الشارع مثلا: إن توضأت فقد أوجبت عليك الصلاة أو قال: إن ملكت النصاب فقد أوجبت عليك الزكاة فلا يجب على المكلف بتحصيل الوضوء ولا تحصيل ملك النصاب ليكون ذلك محققا لإيجاب الصلاة والزكاة عليه.
واعلم أنه إذا كان وجوب الشيء مطلقا غير مقيد بشرط ولا سبب ولكن وجود هذا الشيء في الخارج يتوقف على شرط أو سبب مثل الصلاة فإن وجودها في الخارج صحيحة يتوقف على شروط صحتها من طهارة حدث وخبث واستقبال القبلة وستر العورة - ومثل الصوم فإن وجوده في الخارج يتوقف على شروط صحته كترك الأكل نهارا مثلا ومثل الزكاة فإن وجود ما يتوقف على فرز المال وغير ذلك فهل يكون الخطاب الذي دل على وجوب الشيء دالا ايضا على وجوب ما يتوقف عليه ذلك الشيء من حيث الوجود وهو ما يعرف بمقدمة الوجود أو لا يكون الخطاب دالا على وجوبه وإنما يكون وجوبه مستفادا من الدليل الذي دل عليه استقلالا - ومن هنا يعلم أن وجوب الشرط أو السبب متفق عليه لوجود ما يدل عليه استقلالا وإنما الخلاف .........=

 

ج / 1 ص -102-       .........................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في أن الدليل الذي دل على إيجاب الشيء يدل أيضا على إيجاب ذلك الشرط والسبب أو لا يدل عليه - اختلف الأصوليون في ذلك على أربعة مذاهب:
المذهب الأول:
ذهب جمهور الأصولين ومنهم البيضاوي وهو أن الخطاب الدال على وجوب الشيء يدل أيضا على وجوب ما يتوقف وجوده عليه مطلقا - أي سواء كان سببا أو كان شرطا وسواء كان كل منهما شرعيا أو عقليا أو عاديا - وبذلك يكون الخطاب دالا على شئين - أحدهما بطريق المطابقة - وهو وجوب الشيء - وثانيهما بطريق الالتزام - وهو وجوب ما يتوقف ذلك الشيء عليه من حيث الوجود واشترطوا لذلك شرطا هو أن يكون ما يتوقف وجود الشيء عليه مقدورا للمكلف بحيث يستطيع فعله كما سبق في الأمثلة.
فإن لم يكن مقدورا له مثل إرادة الله تعالى لحصول الفعل من المكلف ووجوب الداعية على الفعل وهي العزم المصمم من المكلف عليه فلا خلاف في أن الخطاب لا يدل على وجوبه لأن الوجوب إنما يتعلق بفعل المكلف وكل من هذين الأمرين ليس فعلا له - أما إرادة الله تعالى لحصول الفعل من المكلف فواضح أنها ليست من فعل المكلف ولكن وجود الفعل منه يتوقف عليها لأنه لا يقع من المكلف إلا ما أراده الله تعالى - وأما الداعية - وهي العزم المصمم على الفعل - فليس مخلوقة للمكلف ولا من فعله بل هي مخلوقة لله تعالى إذ لو كانت........= = مخلوقة للعبد لانتقل الكلام إليها من حيث إنها تقع في وقت دون وقت فلا بد لها من داعية وداعيتها كذلك تحتاج إلى داعية وهلم جرا فيلزم التسلسل - وهو باطل - فكانت مخلوقة لله تعالى منعا من التسلسل.
ومع كون الداعية مخلوقة لله تعالى وليست من فعل المكلف فإن الفعل يتوقف وجوده عليها لتكون مرجحة لحصول الفعل في وقت دون وقت آخر وإلا لزم أن يكون حصول الفعل في بعض الأوقات دون حصوله في البعض الآخر ترجيحا بلا مرجح وهو باطل.
المذهب الثاني:
أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب السبب فقط سواء كان شرعيا أو عقليا أو عاديا ولا بد على إيجاب الشرط مطلقا.
المذهب الثالث:
أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء لا يدل على إيجاب ما يتوقف الشيء الدال عليه سواء كان شرطا أو سببا وسواء كان كل منهما شرطا أو سببا وسواء كان كل منهما شرعيا أو عقليا أو عاديا.
المذهب الرابع:
أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب ما يتوقف عليه إذا كان شرطا شرعيا ولا يدل على إيجاب غيره من السبب مطلقا أو الشرط العقلي والعادي وهو لإمام الحرمين انظر إحاكم الأحكام 1/157 المحصول 1/289 نهاية السول 1/289 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/119 - 124.

 

ج / 1 ص -103-       هذا اللفظ بصيغته لا يكون أمرا بالطهارة وستر العورة لأن هذه الشرائط لها صيغ موضوعة واختلاف الصيغ يدل على اختلاف المسوغ له.
ألا ترى أن صيغة غير الصلاة لا تجعل صيغة لها وصيغة الصلاة لا تجعل صيغة لغيرها واعلم أن لا ننكر أن الصلاة مقتضية للطهارة بالدلالة وإنما ننكر أن تكون من حيث الصيغة مقتضية وهذا لأن المأمور كما لا يستغنى عن الشرائط التى يقف صحة الأداء عليها لا تستغنى عن وقت الأداء ثم الأمر بالشيء لا يدل على الوقت بصيغته وإنما يدل عليه من حيث الضرورة كذلك الشرائط.
فإن قال قائل لما صارت الأسباب من ضرورة فعل الصلاة حتى لا يسمى الفعل صلاة إلا بها كان التنصيص على الصلاة تنصيصا على أسبابها كما كان تنصيصا على أفعالها وأبعاضها.
قلنا أبعاض الصلاة كلها صلاة فيجوز أن نطلق عليها اسم الصلاة والطهارة ليست بصلاة.
ألا ترى أن المصلى لا يجوز له استعمال الطهارة فدل أنها غيرها وأما أفعال الصلاة نفس الصلاة والشيء الواحد يتوقف أوله على أخره ولا ننكر اشتمال الإسم الواحد على جميعه وإنما أنكرنا ذلك فى شيئين مختلفين وقد قال أصحابنا أن الصلاة بصيغتها تدل على الدعاء فقط وما زاد على الدعاء ثبت بالدلائل الشرعية لا من طريق الصيغة واعلم أن ما لا يمكن امتثال المأمور إلا به يلزمه من حكم الدلالة حكم الدلالة إذا كان من كسبه نحو الطهارة وغيرها من شرائط الصلاة وكالسعى إلى الجمعة وقطع المسافة فى الحج وهما أمران لا أمر واحد وأن كان أداء أحدهما لا يتم إلا بأداء الآخر إلا ترى أنه قد يلزمه الحج بلا قطع مسافة ولا ملك زاد وصورة الخطاب فى الموضعين واحدة وأما ما لا يتم إلا بكسب غيره نحو حضور غير الجمعة حتى يصح غير جمعة فلا يكون هو مخاطبا به وإنما يخاطب بفعل نفسه وهو الحضور وأن كان حضور غيره شرطا فى الأداء إلا أنه قد يخاطب بإحداث فعل غيره بقدر ما يتأنى منه كالإمام يلزمه الحضور وإحضار الناس للجمعة ويلزمه الخروج وإخراج الناس للجهاد ويلزمه أيضا تحصيل الماء لإجراء الطهارة وستر العورة لأدائها واعلم أن هذه الأشياء وأن لزم الإنسان بحضوره العبادات وأنه لا يلزمه تحصيل المال لأداء الزكاة وقد كان يجوز ورود الشرع به إلا أن الله تعالى وضع ذلك عن العباد رحمة وأما إذا لم يمكن.

 

ج / 1 ص -104-       أداء الواجب إلا بأداء ما ليس بواجب هل يصير ذلك واجبا أم لا مثل إمساك جميع النهار لا يمكن إلا بإمساك جزء من الليل وكذلك ستر العورة لا يمكن إلا بستر ما ليس بعورة وغسل جميع العضو لا يمكن إلا بغسل ما ليس من ذلك العضو وكذلك ممن وجب عليه الطهارة ولا يمكنه فعلها إلا بشراء الرشاء واستقاء الماء فالواجب فى هذه المواضع كلها ما علق بها الوجوب فى الشرع.
إلا إنما لا يتأتى أداء الواجب إلا به صار واجبا للتوصل إلى أداء الواجب لا لأنه واجب مقصود بنفسه.
وأما اكتساب المال لاستطاعة الحج واكتساب المال لأداء الزكاة لا يجب لأن ذلك شرط الوجوب دون الفعل ولا يجب عليه أن يفعل ما تجب به العبادة عليه.
وأما فى سائر المواضع فالعبادات واجبة إلا أن لفعلها شرطا لا يمكنه ذلك الفعل إلا به فيجب عليه ذلك ليتوصل به إلى الفعل ومن هذا الفصل إذا زاد على مقدار الواجب زيادة يتأدى الواجب بدونها مثل أن يطيل الركوع أو القراءة.
فالأولى على هذا المذهب أن الزيادة على ما يتناوله الاسم من مقدار الواجب نفل.
وحكى عن بعضهم أن الكل فرض وإنما قلنا أن الزيادة نفل لأنه قضى حق الاسم لما أتى من المأمور بما انطلق عليه بالاسم فكان بالزيادة مستقلا كما لو أدى الفرض مرة ثم أعاد فإن الثانى يكون نفلا.
يدل عليه أنه لو ترك الزيادة لا إلى بدل فإنه لا يأثم وهذا من حد النفل ولا ينظر إلى أن اسم الصلاة يتناول أول الفعل وآخره لأن اسم الصلاة يتناول فرضها ونفلها ثم يختلفان فى الصفة ولا نقول أن من قال لغيره تصدق من مالى أنه لا يتقدر بل يتقدر بأقل ما ينطلق عليه اسم الصدقة واعلم أن الذى قلناه فى المأمورات وهو أنه إذا كان لا يتأتى أداء الواجب إلا بأداء ما ليس بواجب قد يكون مثله فى الكف عن المحضور وهو إذا لم يكن الكف عن المحظور إلا بالكف عما ليس بمحظور وذلك إذا اختلط النجس بالطاهر نحو الدم أو البول يقع فى الماء القليل فيجب الكف عن استعماله ثم اختلفوا فى كيفية التحريم فمنهم من قال يصير كله نجسا وهو اللائق بمذهبنا1 ومنهم من قال إنما حرم الكل لتعذر الإقدام على تناول المباح لاختلاط المحرم به فإنه لا يكاد يستعمل جزءا من الطاهر إلا وقد استعمل جزءا من النجس وهذا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 1وهو مذهب ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه انظر شرح المهذب 1/112.

 

ج / 1 ص -105-       يليق بمذهب أبى حنيفة وأصحابه1 فإن عندهم إذا وقعت النجاسة فى الماء الكثير وكان الماء بحيث إذ وقعت النجاسة فى جانب منه لم يخلص إلى الجانب الآخر فيمكن استعمال الماء من الطرف الآخر على وجه لا يكون مستعملا لجزء من النجاسة قالوا: يجوز ذلك2 والأول أحسن لما بينا.
وقد قال أصحابنا أن البول أو الدم إذا وقع فى الماء الكثير ولم يتغير أحد أوصافه3 فإن الكل طاهر ويجوز استعمال جميع الماء وأن تيقنا أنه باستعمال كل الماء يصير مستعملا لذلك القدر من الدم أو البول4 وإذا قلنا يجوز استعمال جميع الماء فنقول أن ما وقع فيه قد حكم بطهارته وهذا ينبغى أن يكون هو المذهب.
وقد قال بعض أصحابنا إذا استعمل الماء الذى وقع فيه مثل هذه النجاسة فإنه ينبغى أن يترك بقدر النجاسة وليس بمذهب5 وأما إذا لم يكن الاختلاط بدخول أجزاء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وعندهم ضابط القليل والكثير بأنه إذا كان بحال يخلص بعضه إلى بعض فهو قليل وإلا فكثير انظر بدائع الصنائع للكساني 1/71.
2 قال ملك العلماء الشيخ الكاساني - رحمه الله - اتفقت الروايات عن أصحابنا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك وهو أنه إن كان بحال لو حول ظرف منه يتحرك الطرف الآخر فهو مما يخلص وإن كان لا يتحرك فهو مما لا يخلص وإنما اختلفوا في جهة التحريك فروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف وروى محمد عنه: أنه يعتبر التحريك بالوضوء وفي رواية: باليد من غير اغتسال ولا وضوء واختلف المشايخ: فالشيخ أبو حفص الكبير البخاري: اعتبر الخلوص بالصبغ وأبو نصر محمد بن محمد بن سلام عتبره بالتكدير وأبو سليمان الجوزجاني اعتبره بالمساحة انظر بدائع الصنائع للكاساني 1/72.
3 وأما إن تغير أحد أوصاف فنجس بالإجماع انظر شرح المهذب 1/110.
4 وذلك لأن الحكم بجواز الطهارة منه بناء على طهوريته عام في جميع أجزائه انظر المهذب 1/112 والصحيح باتفاق أصحابنا الشافعية جواز استعمال جميعه انظر شرح المهذب 1/142.
5 نعم هو كما قال الشيخ السمعاني قال الشيخ النووي قال أصحابنا هذا الوجه غلط لأنا نقطع بأن الباقي ليس عين النجاسة فلا فائدة في تركه بل إن وجب ترك شيء وجب ترك الجميع فلما اتفقوا على أنه لا يجب ترك الجميع وجب أن يقال يستعمل الجميع لأن النجاسة استهلكت قال الشيخ النووي: وصورة المسألة أن تكون النجاسة الذائبة قليلة لم تغير الماء صح مخالفتها له في صفاته أو كانت موافقة له في صفاته وكانت بحيث لو قدرت مخالفة لم تغيره انظر شرح المهذب 1/142.

 

ج / 1 ص -106-       البعض فى البعض لكن كان اختلاط التباس واشتباه ففى قسم منها يجب الكف عن الكل1 كالمرأة التى هى حلال تختلط بالنساء المحرمات والمطلقة بغير المطلقات أو المذكات بالميتات فالكف عن الكل واجب احتياطا وفى قسم تسقط حكم المحرم باختلاطه بالمباح نحو امرأة محرمة تختلط بنساء بلدة عظيمة ولا يحصى عددهن فيسقط تحريم الواحدة وتجعل كالعدم ويباح له نكاح أى امرأة أراد منهن وفى قسم الثالث ثبت التحرى وذلك فى الثوب النجس يختلط بالثياب الطاهرة أو الآنية من الماء النجس اختلط بالأوانى الطاهرة فجعل الشرع لما علم طهارته بالاجتهاد حكم الطهارة وأن كان نجسا فى الحقيقة وأسقط به الفرض عنه إلا أن يزول ذلك العلم الظاهر بيقين يحصل من بعد على ما عرف فى المذهب والله المستعان.
مسألة: نذكر بعد هذا من يتناوله خطاب الأمر ونبتدئ بالكفار فنقول إنهم داخلون فى الخطاب بالشرعيات2 كما أنهم داخلون فى الخطاب بالتوحيد3 والإقرار بالنبوات ومن فوت على نفسه فعلها بترك الإسلام استحق العقاب وهذا قول أكثر أصحابنا وكثير من أصحاب أبى حنيفة4 وقالت طائفة منهم إنهم لا يلحقهم خطاب الشرعيات بحال وهو اختيار الشيخ أبى حامد الإسفراينى5 وأما المتكلمون فأكثرهم معنا فى هذه المسألة وتعلق من قال إنهم لا يدخلون فى الخطاب بكلمات معنوية منها وهو شبهتهم قالوا: تكليف من لا يصل إلى امتثال المأمور على ما ورد به الشرع بحال محال وهذا صفة خطاب الكافر بالشرعيات لأنه لا يتصور من الكافر أداء العبادات فى حال كفره وإذا أسلم سقط وزال التكليف عنه ولا وصول إلى أداء المأمور بحال.
قالوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه مقدمة لترك المحظور.
2 أي بالفروع.
3 وهذا مما لا خلاف فيه.
4 وهو مختار جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد وهو المعروف عن علماء الحنفية العراقيين انظر نهاية السول للأسنوي 1/369 المحصول 1/316 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/185.
5 هذا المذهب هو لعلماء الحنفية السمرقنديين كأبي زيد الدبوسي وشمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام واختاره أبو حامد الإسفرايني انظر نهاية السول 1/370 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/75 - 76 المحصول 1/316 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/185.

 

ج / 1 ص -107-       وبهذا فارق الإيمان لأنه يصلح من الكافر متى قصد إليه ويفارق المحدث أيضا لأنه بعد الطهارة أمكنه أداء الصلاة بذلك الخطاب فطهارته لا تنافى ما خوطب به وأما إسلام الكافر ينافى ما خوطب به من حيث أنه لا يبقى عليه بعد الإسلام ولهذه الشبهة اختار الشيخ أبو حامد هذا المذهب وربما يقولون هذا أمر لا يفيد فائدة ولا يقتضى قضيته لأنه طلب الفعل فإذا لم يصل إلى الفعل سقطت فائدته والأمر لا يكون إلا لفائدة فإذا سقطت فائدته بطل الأمر بل خطاب الكافر بالشرعيات يؤدى إلى تكليفه ما ليس فى وسعه وأمره بما لا يطيقه وإنما قلنا ذلك لأنه يستحيل أن يفعل الشرعيات مع كفره.
قالوا: ولا يجوز أن يقال أن فائدة الأمر استحقاق العقاب عند تركه لأن الأمر لا يرد من الأمر لفائدة العقاب عند الترك بل الأمر ليس إلا لفائدة الفعل وهو المقصود من الأمر وإنما أوعد عليه عند تركه لتحقيق طلب الفعل منه وترك العقاب عند الترك بمنزلة التبع من المقصود فكما أن العقد مصحح لمقصوده لا لما ليس لمقصوده فكذلك الأمر يصحح لمقصوده لما ليس لمقصوده.
يدل عليه أن الأوامر بالعبادات لنفع العباد ونفع العباد فى فعلهم العبادات فإذا لم يصح منهم فعلها بطل نفعهم منها فإذا كان الأمر لنفعهم بطل نفعهم [وبطل]1 أمرهم.
وأما حجة أبى زيد أن الكافر ليس بأهل لأداء العبادات لأن أداء العبادة لاستحقاق الثواب فى الآخرة بحكم الله تعالى.
والكافر ليس بأهل الثواب فى الآخرة لأن ثواب الآخرة هى الجنة وهو ليس من أهل الجنة فتبين أنه ليس بأهل للعبادة وإذا لم يكن من أهل هذا العمل لم يكن من أهل الخطاب بالعمل لأن الخطاب بالعمل للعمل وهذا كالعبد لا يخاطب بالعبادات المالية من الكفارات والزكوات وغيرها لأنه ليس من أهل ملك المال فلا يخاطب بواجب المال.
ببينة أن العبادات ثمن الجنة والكافر لا يتصور أن يكون له حظ فى الجنة فأشبه الكافر فى هذا من لا ذمة له في استحقاق حق أصلا وهو [كالبهائم]2 قال وليس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 1 ثبت في الأصل "بطل" بدون واو.
2 ما بين المعكوفين كلمة غير مقروءة لعلها ما أثبتناه.

 

ج / 1 ص -108-       كالإيمان لأنه ثبت له الحق فى الجنة فصار الإيمان فى الحقيقة اكتسابا للجنة وهو من أهل اكتسابها.
قالوا: ولا يجوز أن يقال أنه من أهل العبادة إذا أسلم فيصح الأمر ليسلم ويفعل بمنزلة المحدث مخاطب بالصلاة ليتطهر ويصلى.
وهذا لا يصح لأن الكافر فى الحال ليس بأهل للعمل ليثاب عليه والخطاب يتناول العمل فى الحال لأن الخطاب هو قوله صل وصم وهذا تناول الحال وفى الحال ليس هو من أهل هذا العمل ولا الكافر أعد للإسلام ما له حتى يعطى له حكم ما له فى الإعداد له كالمنى فى الرحم وبيض الطير فالكافر ماله مال الإسلام لا حيلة له من الله تعالى ولا عادة لهم بل العادة فى الكافر التمسك بالكفر كالمسلم عادته التمسك بالإسلام وإنما يختار الإسلام كالمسلم يختار الكفر نادما.
قالوا: وليس كالجنب لأنه بنفسه أهل لعمل يثاب عليه غير أنه لا يصح منه الصلاة لفقد شرطه وهو الطهارة فهى شرط لصحة الأداء لا ليصير أهلا لعمل يثاب عليه فى الآخرة فيصح الخطاب له على أن يفعله بشرطه وأما الكافر فليس بأهل لعمل يثاب عليه فى الآخرة أصلا فلا يصح الخطاب معه أصلا وسبيل هذا سبيل المولى يقول لعبده أعتق عن نفسك عبدا أو كفر عن يمنيك بالمال يكون لغوا لأن ملك المال شرط التصرف بهذا الخطاب والعبد ليس من أهل ملك المال وبمثله لو قال لحر أعتق عبدك على ألف فأعتق صح عنه بصحة الأمر لأنه أهل الإعتاق إلا أنه فقد فى الحال شرط الأداء وهو الملك وصح الأمر به على أن يؤدى المأمورية بشرطه قال ولا يجوز أن يقال أن الكفر معصية فلا يجوز أن يجعل شىء لسقوط الخطاب لأنه تخفيف والكفر لا يصلح سببا للتخفيف قال لأنا لا نسقط الخطاب برحمة ليكون سبب العذر بل أسقطنا الخطاب نقمة لأنه سقط لخروجه عن صلاحية الجنة وهذا نقمة ببنية أن الكافر سقط عنه خطاب الله تعالى بالعبادات ليأسه عن الجنة وبخطاب المؤمن بالعبادات لاستحقاقه الجنة وشدة النار فوق ثقل الخطاب وراحة الجنة فوق راحة سقوط الخطاب وهذا كالبهائم لا يخاطبون وليس ذلك لإرادة التخفيف عليها بل لأنها ليست بأهل الخطاب فكان سقوط الخطاب للإزراء بها كذلك سقوط العبادات عن الكفار ليس للتخفيف عليهم بل لإخراجهم عن أهلية الخطاب فيكون على وجه العقوبة والإزراء بهم وإلحاقهم بالبهائم التى لها خطاب عليهم قال وأما المناهى ثابتة.

 

ج / 1 ص -109-       في حقهم لأنه أن لم يكن من أهل العبادة لأنها ثمن الجنة فهو من أهل المعصية التى هى سبب العقوبة فيستقيم إثبات خطاب المناهي فى حقه وأن لم يستقم إثبات خطاب العبادات قال وهذا يحثهم على المعاصي في الدنيا لأن الحدود عقوبات على إنكار المناهي وخطاب المناهي قد لحقهم ولأن هذه الأعمال للفكاك عن قيد الاستعباد كما أن مال الكتابة يؤديه العبد للفكاك عن قيد الرق وقبل الإيمان بالله عز وجل لا يتصور منه أعمال تتعلق بهذا الفكاك عن القيد وأما الإيمان فيتعلق بنفسه للفكاك أو يثبت عقد الفكاك فاستقام الخطاب بالإيمان دون الأعمال ألا ترى أن المولى يستقيم منه خطاب العبد بأداء المال بعد عقد الكتابة ولا يستقيم قبل عقد الكتابة هذا طريقا إلى هذا الموضع وتعلقوا بالخبر المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن قال له ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فإن أجابوك فأعلمهم أن عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وفي رواية فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد فى فقرائهم1 فقد أخبر أن هذه الواجبات تلزم بعد الإيمان بالله تعالى ولو لزمت مع لزوم الإيمان لم يكن لتأخير ذكر الإيجاب معنى.
وأما حجتنا في هذه المسألة تتعلق أولا بما ورد من السمعيات في الباب والتعلق للأصحاب بما ورد في القرآن والسنة كثيرة غير أن المختار من ذلك قوله تعالى:
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} [المدثر: 42, 45] فقد ذمهم ووبخهم بترك الصلاة وكذلك بترك الزكاة لأن إطعام الطعام الذى يتعلق بتركه التوبيخ هو الزكاة فلولا أن ذلك توجه عليهم ولحقهم خطابه لم يستقم التوبيخ والذم فإن قيل معناه لم نك من جملة المصلين أي المسلمين قلنا لا يستقيم ذلك لأن قوله: {مِنَ الْمُصَلِّينَ} يفيد أنهم استحقوا الذم لأنهم لم يصلوا كقول القائل عاقبت فلانا لأنه لم يك من المطيعين يدل أنه عاقبه لأنه لم يطعه.
فإن قيل قوله:
{لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} يجوز أن يكون إخبارا لأنهم كانوا ارتدوا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الزكاة 3/307 ح 1395 ومسلم الإيمان 1/50 ح 29/19 وأبو داود الزكاة 2/107 ح 1584 والترمذي الزكاة 3/12 والنسائ الزكاة 5/3 باب وجوب الزكاة وابن ماجه الزكاة 1/568 ح 1783 وأحمد المسند 1/306 ح 2076.

 

ج / 1 ص -110-       بعد إسلامهم ولم يكونوا صلوا في حال إسلامهم قلنا قوله: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} لا يقتضي ترك الصلاة في زمان معين بل يقتضي ظاهره أنهم لم يكونوا من المصلين فى جميع زمانهم مثل قول القائل فلان [صرورة]1 لأنه لم يحج يقتضي أنه لم يحج فى وقت ما وإذا حملت الآية على ما قالوا: كان حملا على ترك الصلاة في زمان معين وهذا خلاف ظاهر الآية وعلى أن الآية عامة فى المرتدين وغير المرتدين وقد أيد هذه الآية قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 6, 7] أوجب لهم الويل بكفرهم وإخلالهم بالزكاة وهو مثل قول القائل ويل للسراقة الذين لا يصلون فهذا ذم لهم على السرقة وترك الصلاة جميعا كذلك هاهنا ذم وتوبيخ على الشرك وترك الصلاة جميعا ونعتمد على قوله سبحانه وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وهذا يتناول المسلم والكافر لأن اسم الناس يتناول كليهما على وجه واحد ولا مانع من كون الكافر من أهل الآية لا من جهة ولا من جهة السمع العقل.
أما الدليل السمعي فلأنه لو وجد مانع من هذه الجهة لظفرنا به عند الطلب.
وأما من جهة العقل فلأنه لو كان لكان لفقد التمكن والكافر متمكن من الحج بأن يقدم عليه الإسلام وكل من تمكن من الفعل على بعض الوجوه فهو له مستطيع كما أن المحدث متمكن من أداء الصلاة بأن يقدم عليه الوضوء والخراسانى متمكن من الحج بأن يقدم عليه قطع المسافة وهذا الذى قلناه فى الحج موجود فى كل عبادة فيلزمه كل العبادات بالخطاب العام الذى يتناول المسلمين والكفار وهذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الناس أحمرهم وأسودهم وقد جاء بالقرآن المشتمل على إيجاب الإيمان وإيجاب الشرائع من الأوامر والنواهي فإن كان بعث بما أنزل معه إلى جميع الناس وجب كل ما أنزل معه على جميع الناس لأنه بعث بهذه الشرائع فكل ما بعث به يجب على من بعث إليه.
فإن قالوا: هذا على ما قلتم إذا أمكن الإيجاب وهاهنا لا يمكن الإيجاب.
قلنا يمكن على ما بينا من قبل ولأنه لما لزمهم النواهي لزمهم الأوامر لأن الأوامر أحد قسمى الشرع فصار كالقسم الآخر والدليل على لزومهم النواهي إجماع الأمة في أن الكافر يحد إذا زنا ويقطع إذا سرق ولو لم يكن مكلفا بترك الزنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "مؤقت" هكذا ولعل الصواب ما أثبتناه.

 

ج / 1 ص -111-       والسرقة لم يكن الزنا والسرقة معصية ولو لم تكن معصية لم يعاقب على فعله وهذا دليل معتمد.
فإن قالوا: إنما وجب ذلك عليهم التزامهم أحكام الإسلام.
قلنا هذا ليس بشىء لأن لزوم الأحكام بالتزام العبيد ذلك.
ألا ترى أن الخطاب متوجه على جميع الكفرة بالإيمان بالله عز وجل وأن كانوا لم يلتزموا شيئا من ذلك.
ثم نقول من أحكامنا أن لا يحد الإنسان على المباح فلو كان الزنا غير محظور عليه كان مباحا والحد لا يجب بارتكاب المباح.
قالوا: أن الكافر مع كفره قد كلف ترك الزنا لأنه مع كفره لا يمكنه فعلها فلم يخاطب بفعلها.
قلنا لا يجوز أن يكلف ترك الزنا إلا وقد كلف العلم بقبحه ولا سبيل إلى العلم بقبحه إلا بشريعة الإسلام لأن ما عداه من الشرائع فقد منع المكلفون من الرجوع إليها ولا يمكن مع جحد الإسلام أن يعلم قبح شىء كما لا يمكنه فعل الصلاة فى هذه الحالة فلا فرق بينهما.
ولكن كان وجه التكليف بالعلم بقبح الزنا بأن يسلم قبحه ليتركه فحقق عليه تحريم الزنا بهذا الوجه وكذلك فى الصلاة مثله يتحقق عليه إلزام الصلاة بالوجه الذى حقق عليه تحريم الزنا غير أن ترك إقامة الحد عليهم كان بدليل شرعى قام عليه ونحن لا ننكر سقوط إقامة الحد مع تحقق التحريم بدليل شرعى يقوم عليه وذلك الدليل هو العهد المعقود معهم بترك التعرض لهم فى شرب الخمور وأكل الخنازير إذا لم يظهروا ذلك فيما بيننا وإقامة الحد من التعرض فيكون ذلك إحقار للعهد فلهذا لم نقمه عليهم وقد أجبنا بغير هذا فى المسائل الفقهية.
أما الجواب عن كلماتهم.
أما الأول قلنا لا نسلم أن هذا تكليف بما لا وصول إليه بل الوصول من الكفار إلى فعل هذه العبادات ممكن وذلك بأن يسلم ثم يباشر العبادات ونظير ذلك الجنب مكلف فعل الصلاة بأن يزيل الجنابة ثم يصلي.
وقولهم أنه إذا أسلم سقط عنه الصلاة فلا وصول إليها لا قبل الإسلام ولا بعد الإسلام.
قلنا الوصول ممكن بأن يسلم في الوقت أو يسلم قبل الوقت فإذا دخل الوقت صلى.

 

ج / 1 ص -112-       فإن قالوا: إذا أسلم صلى بأمر جديد.
قلنا لا كذلك قيل بفعل الصلاة بالأمر الذي كان عليه من قبل.
فإن قالوا: هل كلف الكافر الصلاة قبل الإسلام.
فإن قلتم نعم فهو مستحيل لأنه إذا لم يصح منه فعل الصلاة كيف يكلف فعل الصلاة.
قلنا هذا قد قلتم وقد أجبنا.
ونقول هل كلف الجنب بأن يصلى فى حال الجنابة.
فإن قالوا: أن الطهارة تصلح شرطا للصلاة والإسلام لا يصلح شرطا لأن الشروط اتباع.
قلنا ولم لا يصلح شرطا وليس معنى الشرط إلا ما يقف الشىء على وجوده.
وعلى أن هذا ليس بخروج عن الإلزام فإن وجه الإلزام أن الجنب يكلف فعل الصلاة فى حال الجنابة ثم إذا أداها يكون بشرطها وهو تقديم الإسلام وأيضا فإن الأمة اجتمعت على أن الكافر يخاطب بالإيمان بالرسل وإذا وصل إلى الآخرة ولم يكن أسلم يعاقب على ترك الإيمان بالرسل كما يعاقب بترك الإيمان بالله ومعلوم أنه لا يصح الأيمان بالرسل إلا بشرط تقديم الإيمان بالله مثلما لا تصح الصلاة إلا بعد تقديم الإيمان.
ولكن قيل كلفوا ذلك بشرط تقديم معرفة الله عليه كذلك جاز أن يكون مكلفا بالعبادات بهذه الشريطة أيضا وهذا إلزام عظيم هدم عليهم هذه القاعدة.
وقولهم أنه لا فائدة فى هذا الأمر.
قلنا إذا بينا وجه التمكن من الفعل على بعض الوجوه اتصلت الفائدة بالأمر.
قالوا: بطلت فائدة الأمر فى حال كفر الكافر لأنه عندكم مخاطب بالعبادات فى حال كفره.
قلنا هذا الذى قلتم ليس بشرط لصحة الأمر بدليل الجنب الذي قلناه وعلى أن فائدة الأمر في الحال أنه إذا ترك الإتيان استحق العقاب على ترك الصلاة فى الآخرة ويجوز تصحيح الأمر بهذه الفائدة في الحال بدليل الجنب الذي قدمناه وكذلك من علم الله تعالى منهم أنه لا يؤمن يحسن خطابه بالإيمان وليس يحسن خطابه بالإيمان إلا لفائدة استحقاق العقاب بترك الإيمان لأن الفعل منه غير متصور لأنه يؤدي إلى تجهيل.

 

ج / 1 ص -113-       الله تعالى وقد تقدس البارى عن ذلك وتعالى عنه علوا كبيرا.
وقولهم أن المقصود من الأمر طلب الفعل فإنا قد ذكرنا وجها للفعل وذكرنا أيضا أن فائدة استحقاق العقاب كان فى تصحيح الأمر فسقط هذا السؤال.
وقد قال الأصحاب على قولهم أن الكافر إذا أسلم يسقط الأمر بالصلاة لأنه إنما سقط بعفو الشرع وذلك بقوله تعالى:
{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ولأجل أنا إذا أوجبنا عليه قضاء ما سبق من الصلوات والصيامات الفائتة والزكوات [والخراج]1 [المسير الماء فيه]2 أدى ذلك إلى تنفيرهم عن الإسلام وقد ذكرنا هذا فى المسائل الفقهية وما ذكرنا أولا كاف.
وأما طريقة أبي زيد فنقول قوله أن الكافر ليس من أهل العبادة.
قلنا ليس معنى هذا إلا أنه إذا فعل العبادة لا يصح وهو باطل بالجنب الذي قدمناه لأن الجنب ليس من أهل فعل الصلاة مثل الكافر ليس من أهل فعل الصلاة.
ولكن قيل هو من أهل الصلاة عند تقديم الطهارة فصح الأمر عن فى حقه وأن لم يكن على طهارة كذلك الكافر من أهل الصلاة عند تقديم الإسلام فصح الأمر فى حقه وأن لم يكن فى الحال مسلما.
وأما قوله أن العبادة لاستحقاق الثواب وهو ثمن الجنة على ما زعم.
قيل له ليس صحة الأمر بالعبادة بكونه من أهل الجنة لأنه ليس لصحة العبادة من المسلم باستحقاق الجنة فإنه قد قام الدليل لنا أن الثواب الموعود محقق بفضل من الله تعالى وأنه لا يجب على الله تعالى حق لأحد وإنما صحة العبادة بورود السمع بها وانضمام شرطها إليها والإيمان بالله تعالى أحد شرائطها غير أن صحة الأمر لا تقف على وجود الشرط بل يكفى فى صحة التمكن من إيجاد الشرط على ما سبق كذلك هاهنا وعلى أنه أن لم يكن تصحيح الأمر ليفعل المأمور فيثاب عليه يمكن تصحيحه حتى إذا ترك يعاقب عليها.
فإن قالوا: لا يصح الأمر لهذا.
قلنا ولم وقد سبق الجواب عن هذا والجواب الأول أولى وأحسن ويبطل هذه الطريقة بالإيمان بالرسل فإنه يخاطب به وكما أنه خوطب بالصلاة ليثاب عليها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أثبتناه من الهامش.
2 ما بين المعكوفين غير مقروء في الأصل ولعله ما أثبتناه والله أعلم.

 

ج / 1 ص -114-       فكذلك خوطب بالإيمان بالرسول ليثاب عليه فلا فرق بينهما بحال وإذا ثبت لنا هذه المسألة فقد ثبت على هذه المسألة كثير من المسائل من مسألة وجوب القضاء للصلوات المتروكة على المرتد إذا أسلم وجواز إيتاء الحج منه بعد الردة ومسألة الذمى إذا أتلفه المسلم ومسألة استيلاء الكفال وغير ذلك على ما عرف والله أعلم.

مسائل قصار وفصول من المذهب يليق بهذا الموضع.
مسألة:
يدخل العبيد فى المطلق من الأوامر والنواهي1 مثل ما يدخل الأحرار وذهبت شرذمة إلى أنهم لا يدخلون إلا بدليل يدل على ذلك2 قالوا: وذلك لأن العبد نفسه مملوكة لغيره ومنافعه مستحقة له والأمر تصريف من مالكه فإذا كان هو في تصريف [مالكه]3 لم يدخل في تصريف غيره إلا بدليل يدل عليه.
وأما الدليل على أنهم يدخلون مع الأحرار بصيغة قوله افعل يتناول فعل الحر والعبد على وجه واحد وكل واحد منهما يجوز أن يكون مأمورا بهذا الأمر.
ألا ترى أنه لو أراده صح فاشتمل الأمر على الأحرار والعبيد على وجه واحد أيضا ويقال أيضا أنه لما جاز أن يكون العبيد معينين لهذا الأمر دخلوا فى هذا الخطاب إلا أن يوجد مانع سمعى أو نقلى ولم يوجد مانع فإن قالوا: أن المانع قد وجد وهو ما وجد من وجوب خدمته لسيده في أوقات العبادة.
قلنا إنما يكون من خدمة سيده إذا فرغ من العبادات فصارت أوقات العبادات مستثناة من أوقات خدمة السيد كأوقات الأكل والشرب وسعيه بنفسه فيما لا بد به.
قولهم أنه في تصريف سيده فلا يكون في تصريف آخر لنفس الشيء لأنه يجوز.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي اختلفوا في دخول العبد تحت خطاب التكاليف بالألفاظ العامة المطلقة كلفظ الناس والمؤمنين فأثبته الأكثرون وعزاه إمام الحرمين الجويني إلى المحققين انظر إحاكم الأحكام 2/393 التلويح على التوضيح 2/170 البرهان 1/356 المستصفى 2/77, 78 المعتمد 1/278 القواعد لابن اللحام 275.
2 قال الآمدي ونفاه القلون إلا بقرينة ودليل يخصه ومنهم من قال بدخوله في العمومات المثبتة لحقوق الله تعالى دون حقوق الآدميين وهو منسوب إلى أبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة انظر إحاكم الأحكام 2/393 البرهان 1/356 المعتمد 1/278.
3 بياض في الأصل ولعله ما أثبتناه.

 

ج / 1 ص -115-       أن يكون في تصريف سيده فى وقت وفى تصريف خالقه في وقت.
ألا ترى أنه لو عنى العبد صح فإذا جاز أن يكونوا معينين بهذا الأمر وحق السيد عليه قائم كذلك يجوز أن يكون الخطاب المطلق متناولا للعبيد أيضا وحق للسيد عليه قائم والله أعلم
مسألة: مذهب الشافعى أن النساء لا يدخلن1 في خطاب الرجال
وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى أنهن يدخلن وقالوا: قد دخلن فى أكثر الأوامر المطلقة فى الشرع مثل الأمر بالصلاة والزكاة وبالحج وغير ذلك فدل أن حقهن الدخول بصيغة الأمر ولأن أهل اللغة قالوا: أن الرجال والنساء إذا اجتمعوا أى علامة التذكير على علامة التأنيث فصار الخطاب فى حق الجنسين على وجه واحد.
وأما دليلنا هو أن أهل اللغة فرقوا بين الجنسين فى خطاب الجمع كما فرقوا فى خطاب الفرد فإنهم قالوا: فى خطاب الجمع للرجال افعلوا وللنساء افعلن وفى خطاب الفرد للرجل افعل وللمرأة افعلى وإذا اختلفت الصيغة فى الجنسين دل أن أحدهما لا يدخل فى خطاب الآخر كما لا يدخل الرجال فى خطاب النساء وكما أن فى خطاب الفرد لا تدخل المرأة فى صيغة خطاب الرجل ونستدل بحديث أم سلمة2 أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ماترى الله تعالى لا يذكر إلا الرجال فأنزل الله تعالى:
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية إلى آخرها فإن قالوا: أرادت الإفراد بالذكر.
قلنا هذا الطلب إنما يصح أن لو وجد إفراد الرجال بالذكر وإذا كان عندكم الخطاب يتناول الجنسين من حيث وضع اللغة فيكون دخول النساء فيه مثل دخول الرجال فلا يستقيم طلبنا بالإفراد بالخطاب لأنه تعالى لم يفرد الرجال بالذكر فى محل ما فى خطاب الجمع فمن أى وجه يطلب النساء أن يفردن بالذكر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب الجمهور من الشافعية والحنفية إلى أنه خاص بالمذكور ولا يتناول الإناث وقال الحنابلة وبعض الظاهرية إنه يتناول الإناث كما يتناول الذكورانظر نهاية السول 2/360 انظر إحاكم الأحكام 2/392 انظر المستصفى 2/79 انظر البرهان 1/358 انظر المعتمد 1/233 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/226.
2 أخرجه الترمذي في تفسير القرآن 5/354 الحديث 3211 وقال حديث حسن غريب انظر تفسير القرطبي 8/5267.

 

ج / 1 ص -116-       ببينة أنا إذا قلنا يكون الخطاب للرجال والنساء في صيغة الجمع على وجه واحد لا يبقى لخطاب الرجال على الانفراد صيغة وهذا محال.
وأما الذي قالوا: أن النساء قد دخلن مع الرجال في أكثر خطاب الشرع.
قلنا إنما دخلن بدلالة وقرينة.
وأما كلامهم الثاني وهو قولهم أن الرجال والنساء أن اجتمعوا علمت علامة التذكير على علامة التأنيث.
قلنا هذا لا يعرف لغة إنما هذا قول الفقهاء وعلى أننا لا ننكر دخول النساء فى خطاب الرجال إذا أردن بذلك ويكون ذلك على وجه المجاز كالحمار إذا أريد به البليد تناوله على وجه المجاز والكلام فى الحقيقة وقد بينا أنه لا يجوز أن يدخلن من حيث الحقيقة والله أعلم.
فصل: وأفعال السكران وأقواله داخلة تحت التكليف فى قول عامة الفقهاء.
وقال أهل الكلام لا تكليف عليه وتابعهم بعض الفقهاء1 وقال من يمنع دخوله تحت التكليف أن توجيه التكليف مع عدم علم المكلف بما كلف به محال لأنه لا يدخل هذا فى تكليف ا الإنسان ما ليس فى وسعه وهذا لا يجوز فى الشرع ولا فى العقل.
قالوا: ولأنه لوجاز تكليف السكران جاز تكليف المجنون والصبي بل جواز تكليف الصبي أقوى من تكليف السكران لأن الصبي له عقل وتمييز وأن لم يكمل مثل ما كمل للبالغين فإذا لم يكلف الصبي فلأن لا يكلف السكران أولى.
قالوا: وأما الصلاة إذا فاتته في حال السكر فإنما القضاء بأمر جديد بعد الصحو.
ويقولون أيضا أن الأمر فيما قلتم متقدم على زوال العقل فإنه يقال له إذا سكرت فى وقت الصلاة أو نسيت أو نمت عنها أو أتلفت شيئا فى حال السكر أو فى حال النوم لزمك ضمانه.
وأما دليل ما صار إليه الفقهاء قوله تبارك وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان 1/105, 106 نهاية السول 1/315, 317 المحصول 217 التلويح على التوضيح 2/185 القواعد لابن اللحام 70

 

ج / 1 ص -117-       الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فقد خاطب السكران بها حال السكر بالكف عن الصلاة حتى يعلم ما يقول: فدل أن السكر لا ينافى الخطاب ولأن الأمة أجتمعت على صحة ردته فى حال السكر وأجمعوا على وجوب الحد عليه بالزنا والقذف وكذلك يلزمه ضمان ما يتلفه من الأموال فدلت هذه الأحكام أن التكليف قائم فى حقه وأن زال عقله بالسكر.
وقد قال بعض الأصحاب فى حين أقدم على الشرب كان عاقلا وقد تكلف شيئا محظورا أجرى الله العادة إلى زوال العقل به فجعل الزوال بالسبب المحظور بمنزلة القائم ولهذا المعنى إذا قتل الإنسان مورثه جعل المقتول كالحى حتى لم يورث منه وكذلك نقول أن التكليف متوجه على النائم وجعل كاليقظان بدليل شرعي قام عليه وهو إيجاب الصلاة عليه وأن استوعب النوم جميع وقت الصلاة وكذلك إذا انقلب على شيء أو أتلفه يجب عليه الضمان هكذا قال بعض الأصحاب.
والأصح عندى أن السكران متوجه عليه الخطاب ويجعل عقله بمنزلة القائم بالدلائل التى قامت عليه من جهة الشرع وإذا جعلنا عقله بمنزلة القائم شرعا استقام خطابه وتكليفه.
وأما النائم فالأولى أن يقال لا تكليف عليه فى حال النوم1 لأن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"رفع القلم عن ثلاثة"2 وذكر فيهم النائم ولأن النوم مباح فلا يجعل النائم بمنزلة اليقظان ويعتبر ما وجد من زوال الحس بالنوم ولا يجوز تكليف من لا حس له ولا علم وإنما وجوب القضاء بعد اليقظة للصلاة التي فاتته في حال النوم ووجوب غرامات المتلفات فإنما ذلك بالأمر بعد الانتباه.
قال الأصحاب ولا تكليف على الساهي فيما سها عنه وذلك لعدم علمه بما سها عنه لأنه لو كان عالما لم يكن ساهيا وأما المكره ففعله داخل تحت التكليف لأنه يقدر على تركه بأن يستسلم بما خوف به وهذا بخلاف حركة المرتعش لا يوصف بأنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر روضة الناظر 49.
2 ذكره البخاري الطلاق 9/300 باب الطلاق في الإغلاق معلقا وأبو داود الحدود 4/139 ح 4403 والترمذي الحدود 4/32 ح 1433 والنسائي الطلاق 6/127 باب من لا يقع طلاقه من الأزواج وابن ماجه الطلاق 1/658 ح 2041 وأحمد المسند 1/147 ح 96.

 

ج / 1 ص -118-       مكره عليها لأنه لا يقدر على تركها فالإكراه لا ينافي العلم والقصد فلا ينافي دخول فعله تحت اقتداره واختياره فلم يسقط التكليف.
وقال بعض المتكلمين أن فعل المكره لا يدخل تحت التكليف وليس لأهل هذه الطائفة تعلق إلا ادعاؤهم فقد الاختيار.
قالوا: ولا تكليف مع عدم الاختيار1 وربما يقولون أنه غير مريد لما أكره عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الإكراه هو: حمل الشخص غيره على ما لا يرضاه من قول أو فعل وهو نوعان أحدهما الإكراه الملجئ وهو الذي لا يبقى للشخص معه قدرة ولا اختيار كإلقاء الشخص من أعلى الجبل.
الثاني الإكراه غير الملجئ وهو الذي لا يبقى معه اختيار وإن بقيت معه القدرة "مثل أن يكره شخص غيره على قتل آخر فبقول له: اقتل فلانا وإلا قتلتك ويعلم المكره أنه إن لم يقتل ذلك الشخص قتل هو" ويتحقق الإكراه بقتل النفس أو بذهاب عضو من الأعضاء أو بغير ذلك مما هو معروف في كتب الفروع.
وقد اتفق الأصوليون على أن الإكراه الملجئ يمنع التكليف بالمكره عليه كما يمنع التكليف بضده لأن من شروط التكليف أن يكون الفعل مقدورا للمكلف بمعنى أن يتأتى له فعله كما يتأتى له تركه والإكراه الملجئ لا تبقى معه قدرة للمكلف لا على المكره عليه لأنه أصبح واجب الصدور عقلا ولا على ضده لأنه ممتنع الوقوع عقلا وكل من الواجب العقلي والممتنع العقلي لا يدخل تحت قدرة المكلف فلا يكلف بواجد منهما اللهم إلا إذا قلنا يجوز التكليف بما لا يطاق وأما الإكراه غير الملجئ فللأصوليين كلام فيه يتلخص فيما يأتي به قال جمهور الأشاعرة أن الإكراه غير الملجئ لا يمنع التكليف بضده المكره عليه بل إن المكره قد يكون مكلفا بعين المكره عليه وقد يكون مكلفا بضده فإذا أكره مثلا على شرب الخمر بحيث لو لم يشرب قتل وجب عليه أن يشرب لأن الشرب في هذه الحالة يكون مباحا لأنه مضطر إليه والله تعالى يقول:
{إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} وفعل المباح متى ترتب عليه ترك الحرام كان واجبا ففي هذه الحالة يكون مكلفا بعين المكره عليه.
وإذا أكره على قتل المسلم بحيث لو لم يقتله قتل هو كان مكلفا بضد المكره عليه وهو عدم القتل لأن قتل المسلم بغير حق منهي عنه ولا يجوز الإبقاء على نفسه بذهاب حياة غيره.
وقالت المعتزلة: إن كان المكره عليه مأمورا به كان الإكراه عليه مانعا من التكليف به بمعنى أن فعل المكره له لا يسقط عنه التكليف به لأن فعل المأمور به في هذه الحالة لا يوجب ثوابا عليه لكونه أتى به لداعي الإكراه ولم يأت به لداعي الطاعة وحيث كان الإتيان بالمأمور به لم يحقق الفائدة المقصود منه امتنع التكليف به لما فيه من العبث.
أما إن كان المكره عليه معصية كالقتل أو السرقة أو الغصب كان المكره مكلفا بضد المكره عليه لأن ترك المكره عليه في هذه الحالة أبلغ في إجابة داعي الشرع والثواب عليه أعظم فالإكراه...........=

 

ج / 1 ص -119-       ولا قصد له فصار فعله كفعل النائم وليس هذا بشيء لأنا قد بينا أن اختياره فيما أكره عليه قائم.
ألا ترى أنه يصبر على ما خوف به فدل أنه إذا لم يصبر وفعل ما اكره عليه فإنه يفعله عن قصد واختيار والدليل على بقاء التكليف فى حقه أنه تنقسم عليه الأحكام فيما أكره عليه ففي بعضها يجب عليه فعله وفي بعضها يحرم وفي بعضها يباح وفي بعضها يرخص فالأول مثل أكل الميتة والثاني مثل القتل والثالث مثل إتلاف مال الغير والرابع مثل إجراء كلمة الكفر على لسانه مع طمأنينة قلبه على الإيمان وانقسام الأحكام عليه دليل قاطع على بقاء التكليف وقد أجتمعت الأمة على أنه لو أكره إنسانا على قتل إنسان لا يجوز أن يقتله ولو قتل أثم إثم القتل ولولا الحظرية عليه قائمة لم يأثم ولما أثم ثبت أن التكليف قائم مستمر عليه وأما الصبيان فلا تكليف عليهم في فعل شيء ما لأن التكليف من قبل الله تعالى والله تعالى وضع عنهم ظلمة الأفعال ولم يوقعهم فى هذه الكلفة رحمة من قبل الله تعالى ونظرا لهم فأما الحقوق المالية التى تجب عليهم فليست فيها إلزام فعل ولا إيقاع لهم فى كلفة ومشقة إنما الإيجاب عليهم يلاقيب ذممهم ولهم ذمم صحيحة وأما فعل الأداء الذى هو كلفة ومشقة فهو متوجه على الأولياء لا على الصبيان والجملة أن إزالة التكليف على الصبيان نظر من الله تعالى ورحمة وذلك فى إسقاط الفعل الذى يتضمن التعب والمشقة وأما أمرهم بالعبادات عند بلوغ السبع فنوع امتران واعتياد وليس على جهة التكليف وكذلك ضربهم على سائر الآداب للرياضة كضرب الدابة.
وأما الذى قاله الشافعى رحمه الله من سقوط الظهر عنه إذا كان فى أول الوقت وهو غير بالغ ثم بلغ فى آخر الوقت1 فإنما كان كذلك لأنه فعل وظيفة الوقت فى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في هذه الحالة لا يمنع من التكليف بضد المكره عليه انظر نهاية السول 1/322, 323 البرهان 1/106 إحكام الأحكام 1/220 روضة الناظر ص/ 50 التلويح على التوضيح 3/197 القواعد لابن اللحام 73 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/170- 171.
1 أي بعد أن فعل الصلاة فما يجزئه عن الفرض لأنه صلى صلاة الوقت بشروطها فلا.......=

 

ج / 1 ص -120-       أول الوقت فمنع فعلها من وجوبها عليه فى آخر الوقت إذا بلغ لئلا يؤدى إلى التثنية فى الوظيفة وقد قررنا هذا المعنى فى خلافيات الفروع
مسألة: لا يدخل الأمر فى الأمر عند عامة الفقهاء:
وذهب طائفة قليلة من أصحابنا أنه يدخل والمسألة مصورة فى النبى صلى الله عليه وسلم إذا كان آمرا فإن الأمر الوارد من قبل الله تعالى بذكر الناس وأمرهم بشيء بفعله فقد اتفقوا أن الرسول يدخل فى ذلك1 وتعلق من قال بدخوله فى الأمر قال لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ عن الله عز وجل فإذا قال للأمة افعلوا كذا فيصير كأن الله تعالى قال افعلوا كذا فيدخل النبى صلى الله عليه وسلم فيه مثل ما يدخل غيره وربما يقولون أن الأمر يدل على الإيجاب فيصير كأن النبى صلى الله عليه وسلم قال هذه العبادة واجبة فتكون واجبة على الكل وأما دليلنا أنه لا يجوز أن أمرا لنفسه بلفظ يخصه فلا يجوز أن يكون أمرا لنفسه يعمه ويعم غيره وهذا لأنه أمر فلا يكون مأمورا كالمأمور لا يكون أمرا ولأن الأمر قول القائل لمن دونه افعل فصارت الرتبة شرط صحة الأمر ولا يتصور رتبة مع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يلزمه الإعادة وحكى عن أبي العباس بن سريج يستحب له أن يعيد وحكى عنه وجوب الإعادة وقال الإصطخري إن بقي من الوقت ما يسع تلك الصلاة بعد بلوغه وجبت وإلا فلا انظر شرح المهذب 3/12 وأما إن لم يفعل الصلاة وليس هذا في كلام المؤلف ففيه تفصيل أولا: إما أن يكون الباقي من الوقت قدر رحعة فتلزمه الصلاة بلا خلاف وثانيا أن يكون الباقي قدر تكبيرة فما فوقها مما لم يبلغ ركعة فقولان: أصحهما باتفاق الأصحاب تلزمه تلك الصلاة لأنه أدرك جزء منه كإدراك الجماعة والثاني لا انظر شرح المهذب 1/65.
1 اعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو قول الشافعية وأكثر العلماء أن الخطاب يتناول الرسول صلى الله عليه وسلم كما يتناول الأمة سواء صدر بلفظ "قل" أو لم يصدر.
القول الثاني وهو لبعض الفقهاء والمتكلمين الخطاب خاص بالأمة فلا يدخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقا سواء صدر الخطاب بلفظ "قل" أو لم يصدر به.
القول الثالث: إن صدر الخطاب بلفظ "قل" كان خاصا بالأمة إن لم يصدر بلفظ "قل" كان عاما يشمل الرسول والأمة وإلى هذا ذهب الحليمي وأبو بكر الصيرفي من الشافعية انظر نهاية السول 2/372 انظر البرهان 1/365 انظر نهاية السول 3/371 إحكام الأحكام 2/397 المستصفى للغزالي 2/80 - 81 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/233.

 

ج / 1 ص -121-       نفسه لأنه لا يتصور أن يكون الإنسان أعلا رتبة أو أدنى رتبة من نفسه ولهذا لم يصح أمر الإنسان لنفسه على التخصيص وأيضا فإن الأمر قول موضوع لاستدعاء الفعل وطلبه وهذا وضع لطلبه من الغير لأن هذه الصيغ إنما تكلمت بها العرب لحاجتهم إليها وليفهم البعض من البعض مراده وخطابه ولا يتصور منه قول لاستدعاء الفعل من نفسه لأن طبيعته داعية إليه طالبة منه فعل كل ما يسره والكف عن كل ما يضره فلا حاجة إلى قول موسع له من نفسه لطلب فعل منه أو قول وضع لمنعه عن فعل وهذه كلمات قطعية والذى قاله الخصم أنه يصير كأن الله تعالى قال افعلوا
قلنا إذا قال تعالى افعلوا فالنبى صلى الله عليه وسلم يكون مأمورا وإذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فيكون أمرا والكلام فى دخول الأمر فى الأمر فلا يرد عليه الموضع الذي لا يكون فيه أمرا وهذا كالسيد يقول لغلامه اسقنى فإنه لا يدخل العبيد فى هذا الأمر وأن كان يجوز أن يدخل فى أمر غيره وأما قولهم أن أمره يصير كأنه قال هذه العبادة واجبة قلنا ولم يصير هكذا وهذا خبر وذاك أمر والخبر خبر فى حق كل أحد وأما الأمر يتناول الأمر على الخصوص بحكمه وأما الأمر الوارد من قبل الله عز وجل بخطاب النبى صلى الله عليه وسلم الرسول فإنه يتناوله على الخصوص ولا يتناول غيره إلا أن يقوم عليه الدليل وأما الوارد بقوله:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ} أو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو: {يَا عِبَادِيَ} فإنه يتناول النبى صلى الله عليه وسلم وغيره لأجل عموم اللفظ والله أعلم.
واعلم أن الأصحاب قد ذكروا أن الخطاب الوارد من الله عز وجل ومن رسوله صلى الله عليه وسلم إنما يتناول المكلفين الصالحين لهذا التكليف الوارد الموجودين عند الخطاب وأما الذين يوجدون من بعد ذلك فإنما يدخلون فى الخطاب بالإجماع وهذا لأن خطاب المعدوم لا يتصور إفادته الإيجاب فدخولهم فى الخطاب لا يكون بنفس الخطاب وإنما يكون بدليل آخر وليس ذلك إلا الإجماع فكذلك نقول فى كل خطاب معلق بصفة إنما يتناول أهل تلك الصفة عند مورد الخطاب فأما من يصير بتلك الصفة فى حالة أخرى1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن في هذه المسألة قولان:
الأول: هو قول عامة الأصوليين من الشافعية والحنفية لا يتناول الأمة.
الثاني: أن خطاب الرسول خطاب لأمة وهذا القول منقول عن أبي حنيفة وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما وأصحابهما انظر نهاية السول 12/358 إحكام الأحكام 2/379 انظر روضة الناظر 183 البرهان 1/367 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/224.

 

ج / 1 ص -122-       فإنما يتناوله الخطاب بدليل آخر1 وإذا ثبت هذا فخطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم باسم الجمع إنما صار شاملا جميع أهل الإيجاب مع عدمهم عند ورود الخطاب بدليل إجماع الأمة والإجماع فى نفسه دليل قاطع لا شك أنهم عقلوا ذلك حين أجمعوا عليه وقالوا: ما قالوه عن دليل فثبت ما أجمعوا عليه وأن لم ينقل الذى أجمعوا عليه.
مسألة: الأمر بالشيء يدل على أجزائه
وهذا قول جميع الفقهاء2 وذهبت طائفة من المتكلمين أنه لا يدل على أجزائه ولا بد فيه من دليل آخر3 وقال هؤلاء الطائفة لا بد أن نبين المراد من قولنا مجزىء ليصح أن نتكلم عليه قالوا: وعلى أنا لا نريد بقولنا مجزىء أنه يثاب عليه وأنه حلال لأنا نقول أن المأمور لابد أن يكون مثابا عليه ولا بد أن يكون حلا لا لأنه أما أن يكون واجبا أو مندوبا إليه وأيهما كان فلا بد أنه حلال وإنما نريد بقولنا أنه مجزىء أنا إذا قلنا هذه اللفظة فى الصلاة فالمراد بذلك أن القضاء غير لازم فيها فإذا قلناه فى البيع فالمراد أن الملك الصحيح يقع به وإذا قلناه فى الشهادات فالمراد من ذلك أنه يجب على القاضى أن يقضى بها فهذا هو المراد بقولنا مجزىء وإذا عرف هذا نقول أن الأمر لا يقتضى إلا كون المأمور واجبا أو ندبا على خلاف وكونه كذلك لا يمنع كونه مجزئا بل لا متنع أن يكون واجبا أو ندبا ومع ذلك لا يكون مجزئا على المعنى الذى قلناه وهذا كما يقول فيمن ظن أنه على الطهارة وليس على الطهارة وتجب عليه الصلاة وأن كانت الصلاة غير مجزئة وعليه قضاؤها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن في هذه المسألة اختلاف فذهب جمهور العلماء إلى أن الخطاب خاص بالحاضرين في زمن الخطاب فلا يتناول غيرهم ممن لم يكن موجودا في زمنه ويكون ثبوت الحكم لمن بعدهم بدليل آخر وذهب الحنابلة وبعض الفقهاء إلى أن الخطاب يعم الجميع من وجد في زمن الخطاب ومن لم يوجد في زمنه انظر نهاية السول 2/364 إحكام الأحكام 2/400 روضة الناظر 186 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/228.
2 انظر البهان 1/255 نهاية السول 1/383 روضة الناظر 181 المستصفى 2/12 المعتمد 1/90.
3 انظر البهان 1/255 نهاية السول 1/383 المستصفى 2/12 المعتمد 1/90 روضة الناظر 181.

 

ج / 1 ص -123-       إذا علم أنه محدث وكذلك من أفسد على نفسه الحج يجب عليه المضي وأن كان غير مجزيء عنه فهذا كلام ذكره عبد الجبار بن أحمد في العمد.
وأما دليلنا نقول أن معنى الإجراء هو الخروج عن عهده الأمر أو إنهاء ذلك الأمر في حقه فنقول على هذا امتثل الأمر كما أمر فوجب أن يخرج عن عهده الأمر.
كالمولى إذا قال لغلامه اسقني فسقاه يخرج عن عهدته وهذا لأن الأمر لا يقتضي الفعل إلا مرة واحدة فإذا فعل المأمور ما اقتضاه هذا الأمر وجب أن لا يبقي عليه واجب آخر من جهة هذا الأمر وإذا لم يبق عليه شيء من جهة الأمر لا بد أنه حكم بكون المفعول مجزئا وهو يعني خروجه عن عهدته وهو كما لو نهى عن شئ فانتهى خرج عن عهدة النهى.
وأما كلامهم ففي غاية الضعف لأن القضاء يجب بأمر جديد فكيف يستقيم تفسير الإجراء بسقوط القصد ولهذا المعنى صح وورد أمر من الشارع لاقضاء له عن فواته مثل الجمعة وما يشبهها وإنما معنى الإجراء ما بيناه.
ببينه أن المأمور بامتثال الأمر يصير مطيعا لأمر آمره ومتى جعل مطيعا لا بد أن يكون طاعة وأما الذي قالوا: أنه ظن أنه على الطهارة يجب عليه الصلاة ثم يلزمه قضاؤه.
قلنا إنما وجب بناء على طهارة فإذا تبين أنه لم يكن على طهارة ظهر أنه لم يمتثل للمأمور كما أمر فبنى الحكم على ما تبين حقيقته وأعرض عن الحكم الذي كان مبتنيا على ظن منه وكان الأمر بخلافه وكذلك في مسألة الحج الفاسد إذا مضى عليه بها وجب عليه القضاء لآنه ممتثل المأمور كما مر لأنه أمر بالحج الخالي عن الإصابة وقد حج لا على هذا الوجه فلم يخرج عن عهدة الأمر وأما في مسألتنا فقد فعل المأمور كما أمر فلا بد أن يقع المفعول مجزئا عنه على أي وجه فسر الإجزاء والله أعلم.
مسألة: الأمر بالشئ نهى عن ضده من طريق المعنى
وهذا مذهب عامة الفقهاء وذهبت المعتزلة إلى أنه يكون نهيا عن ضده1 وتعلقوا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ الحسيني الشيخ:
أ ـ لا خلاف بين العلماء في أن مفهوم الأمر سواء كان لفظيا أو نفسيا مخالف لمفهوم النهي كذلك "أي حقيقة الأمر غير حقيقة النهي".......=

 

ج / 1 ص -124-       .............................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فقد عرفوا الأمر النفسي بأنه طلب فعل غير كف مدلول عليه بغير لفظ كف ونحوه وعرفوا اللفظي بأنه اللفظ الدال بالوضع على طلب فعل غير كف مدلول عليه بغير كف مدلول عليه بغير كف وعلى هذا فالأمر نوعان: طلب فعل غير كف وطلب كف عن فعل مدلول عليه بكف كدع وذر فالطلب إما إيجابي كافعل أو سلبي ككف ونحوه.
وكما عرفوا الأمر بنوعيه بما سبق عرفوا النهي النفسي بأنه طلب الكف عن الفعل بغير كف ونحوه "أي صيغة لا تفعل" وعرفوا النهي اللفظي بأنه القول الدال على طلب الكف عن الفعل بغير لفظ كف ونحوه.
وكما لا خلا بينهم فيما مضى من أن صيغة الأمر بخالف صيغة النهي وإنما الخلاف بينهم في أن الشيء المعين إذا طلب بصيغة الأمر المعلومة "افعل" فهل يكون ذلك الأمر نهيا عن ضده أو مستلزما له معنى أن ما يصدق عليه أنه أمر نفسي هل يصدق عليه أنه نهي عن ضده أو مستلزما له "كاضرب زيدا" هل هي نهي عن ضد الضرب وهو عدم الضرب أم تستلزم عدم الضرب أي هل تكون أمرا بالضرب ونهيا عن عدم الضرب ولم يجتمع الضدان لأن المحلان مختلفان.
فاضرب دلت على وجوب الضرب واضرب دلت على على عدم الضرب فهذه دلالة وضعية مطابقية لأنها جمعت الأمر والنهي والثانية: التزامية لأنه لتحقق المأمور به لا بد من ترك أضداد المأمور به فدلت التزاما وقبل ذكر المذاهب يجب أن نبين أن عبارة القوم قد اختلفت في التعبير عنها كالآتي:
فمنهم من عبر عنها بقوله "الأمر بالشيء نهي عن ضده أو يستلزم النهي عن ضده" ومنهم من عبر "وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه" والمؤذنة بين هاتين العبارتين تتطلب القرق بين الضد والنقيض لورودهما فيهما وبيانه:
أن كل واجب كالقعود مثلا المطلوب بقولنا: اقعد له منافيان أحدهما ضدا والآخر يسمى نقيضا فالضد القيام - الحركة - والنقيض واحد وهو عدم القيام فالضد منافي وجودي والنقيض منافي عدمي وكل منهما يغاير الآخر "من الضد والنقيض لأن عدم القيام أعم من الخاص" لأن النقيض ينافي الواجب بذاته "فعدم القعود ينافي القعود بالذات والقيام ينافي القعود بواسطة عدم القعود فالقيام يحقق عدم القعود فنافى اقعد بواسطة عدم القعود" وهو عدم القعود إذ النقيضان هما الأمران "الوجوديان" الذي أحدهما وجوديا والآخر عدميا لا يجتمعان ولا يرتفعان "فكونهما لا يجتمعان ولا يرتفعان فهما متنافيان بذاتهما".
كالقعود وعدمه في مثالنا: بخلاف الضد كالقيام فإنه ينافيه بالعرض أي باعتبار أنه يحقق المنافي بذاته وهو النقيض أي: يحقق عدم القعود لأن الضدان هما الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان كالقعود والقيام فإنهما لا يجتمعان في شخص واحد في وقت واحد وقد يرتفعان ويأتي بدلهما الاضطجاع مثلا "فلتحقق النقيض لا بد من ترك أضداد المأمور به فتأمل إلا أن كل واحد من أضداد القعود يحقق النقيض لأنه فرد من أفراده فلم يكن التنافي بين الواجب وضده ذاتيا بل لأن أحدهما يحقق نقيض الآخر الذي ينافيه بالذات هذا إذا كان.........=

 

ج / 1 ص -125-       ...........................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= النقيض له أفراد هي أضداد الواجب يحققه كل واحد منها أما إذا لم يكن له إلا فرد واحد هو ضد الواجب لا يتحقق النقيض إلا به اعتبر ذلك الضد مساويا للنقيض كالحركة والسكون "نقيض الحركة عدم الحركة ولا يوجد لعدم الحركة أفراد إلا السكون لأن الشيء لا يكون إلا ساكنا أو متحركا ولم يكن السكون نقيض لأن السكون وجودي والشيء ونقيضه يكون عدميا فتأمل".
فإن السكون يساوي عدم الحركة لأن عدم الحركة لا يتحقق إلا بالسكون وأخذ مع ضده حكم النقيض فلا يجتمعان ولا يرتفعان إذ لا تجتمع حركة وسكون في وقت واحد لشيء واحد لا يرتفعان كذلك بل لا بد أن يكون الشيء متصفا بأحدهما ضرورة أن الشيء الواحد لا يخلو عن حركة أو سكون.
والناظر في هاتين العبارتين يجد بينهما فروقا ثلاثة:
أ - أن التعبير بقولهم وجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه لا يفيد إلا حكم النقيض في الوجوب "أي فإن ندب الشيء يستلزم حرمة نقيضه فهذه العبارة قاصرة لا تشمل ما ذكرنا" أما حكمه في الندب فلا "فهي غيرجامعة" بخلاف التعبير بقولهم الأمر بالشيء نهي عن ضده أو يستلزم النهي عن ضده فإنه يفيد حكم الضد فيهما "الوجوب والندب" لأن الأمر بالشيء بصفته عند عدم القرينة الصارفة يدل على الوجوب ومعها يدل على الندب والتعبير بالأمر يتناول الوجوب والندب والتعبير بالنهي يتناول التحريم والكراهة لأن النهي وهو طلب الكف عن الفعل إن كان جازما فهو للتحريم وإلا للكراهة وعلى هذا يكون الأمر بالشيء دالا على التحريم للضد إن كان الأمر للوجوب ودالا على كراهته إن كان الأمر للندب فيكون التعبير بقولهم: الأمر بالشيء نهي عن ضده مفيدا لحكم الضد إيجابا وندبا.
ب - أن التعبير بقولهم: الأمر بالشيء..الخ فإنه يفيد أن محل النزاع في هذه المسألة هو ضد المأمور به وليس نقيضه.
جـ - أما قولهم "وجوب الشيء الخ" فإنه يفيد الواجب محل النزاع بينهما وأن من العلماء من يقول: إن الأمر بالشيء ليس دالا على النهي عن نقيضه وهو باطل لأن الإجماع منعقد على أن نقيض الواجب منهي عنه لأن إيجاب الشيء هو طلبه مع المنع من تركه والمنع من الترك هو النهي عن الترك والترك هو النقيض فيكون النقيض منهيا عنه فالدال على الإيجاب وهو الأمر دال على على النهي عن النقيض لأنه جزؤه ضرورة أن الدال على الكل يكون دالا على الجزء بطريق التضمن.
"أي فالنقيض ليس محل النزاع بل الضد لأن الواجب ما يذم شرعا تاركه إلخ فالواجب طلب الشيء مع المنع من تركه فالمنع من الترك مدلول للوجوب فهو جزء من الوجوب لأن الوجوب دل عليه تضمنا فالنقيض هو الترك" وإن كان الأمر كذلك تعين أن يكون الخلاف في الضد فقط ووجب أن يكون التعبير عن ذلك النزاع بما يدل صراحة عن محله والذي يفيد ذلك قولهم: "الأمر بالشيء..الخ" لا الثانية فتأمل.
ورجعت الأولى بالرغم من أنها قاصرة بأن ما يستفاد من غير النص محمول على ما أفيد بالنص بالقياس..............  =

 

ج / 1 ص -126-       ...............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أ - دلت على محل النزاع
ب - متناولة لحكم ضد الأمر إيجابا وندبا.
جـ - وما ورد عليه من أنها غير متناولة إلا الإيجاب من النص فيجاب:....=
= بأن ما ورود من غير النص محمول على ما فهم من النص بالقياس فتأمل.
وبعد أن حددنا محل النزاع والعبارة المصرحة في الدلالة عليه نذكر المذاهب:
أ - ذهب أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر الباقلاني في أول أقواله أن الأمر بالشيء المعين إيجابا أو ندبا نهي عن ضده الوجودي تحريما أو كراهة سواء أكان الضد واحدا كالتحرك بالنسبة للسكون المأمور به في قوله اسكن أو أكثر كالقيام وغيره بالنسبة إلى القعود المطلوب للآمر بقوله: اقعد ومعنى كونه نهيا أن الطلب واحد ولكنه بالنسبة إلى السكون أمر في المثال وبالنسبة للتحرك نهي كما يكون الشيء الواحد بالنسبة للآخر قريبا والثاني بعيدا "اسكن بالنسبة للسكون أمر وبالنسبة لعدم السكون نهي فالجهة منفكة فلا تنافي".
ومثل الشيء المعين في ذلك الواحد المبهم من أشياء معينة بالنظر إلى مفهومه وهو الأحد الدائر بينهما فإن الأمر به نهي عن ضده الذي هو ما عداها بخلافه بالنطر إلى فرده المعين فليس الأمر به نهي عن ضده منها "ضد المعين المأمور به منهي عنه وأما المطلوب الغير المعين نهي عن ضده في غير أفراده فليس الأمر بالكسوة نهي عن ضده في أفراده وهو الإطعام مثلا فاختيار واحد ليس نهي عن ضده منها بل من غيرها وأما المعين فالأمر به نهي عن ضده بلا خلاف".
ب - وذهب القاضي أبو بكر في آخر أقواله والإمام والآمدي وعبد الجبار وأبو الحسين إلى أن الأمر بالشيء المعين مطلقا يدل على النهي عن ضده استلزاما فالأمر بالسكون يستلزم النهي عن التحرك أي طلب الكف عنه.
جـ - ذهب إمام الحرمين والغزالي إلى أن الأمر بشيء معين مطلقا لا يدل على النهي عن ضده لا مطالقة ولا التزاما استدل أصحاب المذهب الأول:
بأن الشيء المأمور به لما توقف وجوده وتحققه في الخارج على الإقلاع عن جميع أضداده الوجودية وأنه يستحيل وجوده مع التلبس بأي ضد منها لأنها لا يجتمعان كأن طلب طلبا لترك جميع أضداده فالطلب واحد ولكنه بالنسبة إلى أي ضد يكون نهيا تحريما أو كراهة كما يكون الشيء الواحد قريب بالنسبة إلى شيء آخر "لدفع توهم اجتماع الوجوب والتحريم ويقال بأن اعتبارهما مختلف".
فيكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده وهو المطلوب يجاب عن ذلك:
بأن ترك جميع الأضداد "لوجود المأمور به" شرط عقلي لتحقيق الواجب ووجوده والشرط غير المشروط شرورة "إذا كان شرط الشيء في نفسه فيكون باطلا أي الشرط" فلا يكون طلب الواجب طلبا لشرطه لثبوت المغايرة بينهما وإنما يكون مستلزما له حيث قالوا وجوب الشيء يقتضي وجود ما لا يتم إلا به والشرط مما لا يتم الواجب إلا به فيكون وجوبه لازما بوجوب مشروطه "فاقعد لا تدل على الشرط بالوضع بل بالالتزام فالأمر بالشيء ليس نهي عن ضده بل يستلزم النهي عن ضده فتأمل"............=

 

ج / 1 ص -127-       ................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= واستدل اصحاب المذهب الثاني:
بأن المأمور به لما لم يتصور وجوده إلا بترك أضداده كان طلبه مستلزما لطلب تركها لما سبق ذكره في الإجابة عن دليل المذهب الأول فيكون تركها واجبا إن كان الأمر للإيجاب ومندوبا إن كان الأمر للندب وهو معنى كونها منهيا عنها غير أن النهي عن أضداد الواجب يكون نهي تحريم وعن أضداد المندوب يكون نهي كراهة أو تنزيه واستدل أصحاب المذهب الثالث بدليلين:
الأول: لو كان الأمر نهيا عن ضده أو متضمنا له لكان الأمر بذلك الشيء متصورا الضد ومتعلقا به لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه.
"فكيف يطلب الترك عن مجهول".
أماالملازمة: "الدليل اقتراني أو دليل استثنائي" فلأن الكف عن الضد هو مطلوب النهي فيكون الضد محكوما عليه بالحرمة أو بالكراهة والحكم على الشيء فرع عن تصوره وأما الاستثنائية فلأنا نقطع أن الأمر بالفعل قد يأمر به وهو غافل عن أضداده والكف عنها.
الثاني: لو كان الأمر بالشيء نهيا عن ضده أو مستلزما له لكان الأمر بالعبادة مخرجا للمباح عن كونه مباحا وللواجبات الأخرى عن كونها واجبة لكن التالي باطل فبطل المقدم وثبت نقيضه وهو المطلوب "أي سيترتب عليه قلب حقائق فيخرج المباح عن المباح ويقلب الواجب والمباح إلى الحرام وما أدى إلى باطل فهو باطل كاقرأ القرآن فينهى عن ضده من المباحات كالأكل والواجبات كالصلاة فلم يكن نهيا أو مستلزما للنهي عن ضده فيكون المباح والواجب حراما وهو باطل وما أدى إلى باطل فهو باطل" أما الملازمة فلأنه مما لا شك فيه أن أداء العبادة المطلوب بالأمر يتوقف على ترك جميع المباحات والواجبات المضادة لها "ليخرج ما لا يضاده كالصيام مع الصلاة وقراءة القرآن فالعبادة إما:
أ - تتضاد مع بعضها.
ب - توجد مع بعضها.
فتكون هذه المباحات والواجبات منهيا عنها ومحرمة إن كان النهي للتحريم أو مكروهة إن كان النهي للتنزيه ويلزم ذلك خروج المباح والواجب عن أصله من الإباحة والوجوب إلى الحرمة والكراهة أما الاستثنائية فلما فيه من مخالفة الأصل والخروج بالشيء عن وضفه الشرعي الذي وضع فيه.
ويجاب عن الدليل الأول بجوابين:
الأول: لا نسلم غفلة الآمر بالشيء حال أمره عن طلب ترك ما يمنع فعل المأمور به من جهة الجملة "الاستحضار التفصيلي مسلم ولكن الأمر غير مسلم" "الاستحضار الإجمالي أن يترك جميع الأضداد".
وإن كان غافلا عن تفصيله وهذا هو المراد من قولنا: الأمر يستلزم النهي عن ضده لأن الآمر لا يطلب الفعل المأمور به إلا إذا علم أن المامور متلبس بضده لا به "أي لا بالمأمور به لئلا يكون تحصيل حاصل فالضد يكون في العقل" وإلا لزم تحصيل حاصل وهو باطل وإذا.......=

 

ج / 1 ص -128-       ...............................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كان الحال كذلك لزم أن يكون الآمر متعقلا الضد وليس غافلا عنه وعلاوة على ذلك فإنا لو أخذنا في اعتبارنا أن الآمر هو الله تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ما تصورنا غفلة الآمر عن ضد المأمور به لا جملة ولا تفصيلا "هذه زيادة في الرد".
الثاني أن هذا الدليل منقوض بوجوب المقدمة "الآمر بالشيء يكون آمرا بالمقدمة قد يأمر به وليس في ذهنه هذه المقدمة وأنتم قلتم بذلك" حيث قالوا إن الخطاب الدال على إيجاب الشيء ويدل على إيجاب ما يتوقف عليه مع أن الآخر بالشيء قد يأمر به وهو غافل عما يتوقف عليه وحينئذ يكون قد حكم على المقدمة بالوجوب وهو غير متصور لها فما هو جوابكم هناك يكون جوابنا هنا "فهناك حكم على المقدمة بالوجوب وهنا حكم على الضد بوجوب الترك".
وعن الدليل الثاني:
بأنه لا مانع "حرمناها وقت التلبس بالمأمور به والتحريم المؤقت جائز كالصلاة في الأوقات المكروهة وصوم يوم الشك حرام مع أن الصيام واجب" من خروج المباحات بل الواجبات المضادة للمأمور به عن كونها مباحة أو واجبة من حيث إنها مانعة بأنها في هذه الحالة.......=
= منهيا عنها من جهة توقف وجود الواجب على تكرها وهذا لا يستلزم كونها منهية عنها من حيث ذاتها حتى يلزم خروج الواجبات والمباحات من أصلها من الوجوب والإباحة إلى الحرمة والكراهة على الإطلاق إذ من المعلوم المقرر أن الصلاة وهي واجبة تكون حراما في الأرض المغصوبة فإنها في ذاتها غير منهي عنها من هذه الجهة لم يستلزم خروجها عن أصلها من وجوبها في ذاتها وعدم النهي عنها.
واستدل أصحاب المذهب الرابع:
بأن الفعل الذي هو ضد المأمور به أمر ندب لا يخرج بفعله والتلبس به الذي يكون به ترك المندوب حال طلبه عن الجواز الذي هو أصله "أمر الندب نهى عن ضده نهي تنزيه فلم يخرجه عن الجواز فليس داخلا معنا ولكن أمر الإيجاب يقلب حقيقة الضد صل ركعتين قبل الظهر ضده الأكل فلا يخرج بفعل الأكل الخروج عن الجواز لأنه مخير في فعله وعدم فعله أي المندوب".
إذ لزم على ترك المندوب "ترك المندوب جائز ففعل الضد أي التلبس به جائز لأن التلبس بالضد ترك للمندوب" "بخلاف الفصل الذي هو ضد المأمور به أمر إيجاب فإنه يخرج بفعله الذي به يكون ترك الواجب من الجواز الذي هو أصله إلى الحرمة وهو المطلوب".
ويجاب بأنا لا نسلم بقاء ضد المندوب على أصله من الجواز حين يكون فعله محققا لترك المندوب "في تلك الحالة لأن الندب ما يثاب.الخ قترى فيه عدم ثواب حيث توقف عليه فعل ما يحقق الثواب ففعل الضد يجلب عدم الثواب فالأمر بالشيء نهى عن ضده ولكن لما توقف على ترك الضد ما يحقق ثواب كان منهيا عنه" بل يكون حينئذ مكروها لأن كل مفوت للمندوب يكون مكروها ولا شك أن الكراهة غير الجواز لأن الكراهة فيها ترجيح جانب الطرفين لا استوائهما فيكون الفعل مكروها والنهي عنه مستفاد من الأمر بضده نهى كراهة........=

 

ج / 1 ص -129-       في ذلك بوجوه فيها أن القائل به لا يخلوا أما أن يقول: أن الأمر بالشيء نهى عن ضده من حيث اللفظ ومن حيث المعنى فإن قلتم من حيث اللفظ فهذا مدفوع من حيث المشاهدة والمحسوس.
وهذا لأنا سمعنا الأمر من قوله لغيره افعل فكيف تسمع النهى من هذا اللفظ وهو ضده.
فإن قلتم من حيث المعنى فليس المعنى إلا أن الحكيم إذا أراد شيئا فقد كره ضده وإذا حسن شيئا فقد قبح ضده وهذا لا يوجب أن يكون الأمر بالشيء نهيا عن ضده لأن الله تعالى قد أمرنا بالشيء من غير أن يكره ضده كالنوافل فإنه تعالى أمر بها ولم يكره ضدها لأنه لو كره ضدها لم تكن النوافل نوافل بل كانت واجبات فمنها أن الأمر بالشيء لو كان نهيا عن ضده وجب أن يكون العلم بالشيء جهلا عن ضده والقدرة على الشيء عجزا عن ضده كما قلتم أن أرادة الشيء تكون كراهية لضده.
فيؤدي ما قلتم إلى أن يكون الشيء نصفه ضده لأن الكراهة ضد الأرادة فلو كانت الإرادة كراهة لضده لكان الشيء نصفه ضده وهو باطل.
ومنها أن الشيء إذا كان له ضدان مثل السواد فإن البياض والحمرة ضدان له فيجب إذا أراد السواد أن يكون كارها للحمرة والبياض والحمرة ضد البياض كما أنها ضد السواد فكان المحب إذا كره البياض لإرادته السواد أن يكون مريدا للحمرة لأن كراهية البياض إرادة للحمرة لأنها ضده ثم إذا كان مريدا للحمرة وجب أن يكون كارها للسواد والبياض جميعا لأنهما ضدان له فيجب على هذا أن يكون كل واحد من هذه الأضداد مرادا مكروها وهذا باطل وما أدى إليه يكون باطلا.
وأما حجتنا قلنا أن الأمر بالشيء أمر بما لا وصول إليه إلا به ولا يتم إلا بفعله مثل الأمر بالحج أمر بالسعى إلى مكان الحج قبله.
والأمر بالاستقاء أمر بإدلاء الدلو في.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وتنزيه لأن الأمر كان للندب.
ومن هذا العرض يتبين أن المذهب القائل: إن الأمر بالشيء إيجابا أو ندبا يستلزم النهي عن ضده تحريما أو كراهة هو المذهب الراجح انظر المحصول لفخر الدين الرازي 1/293 - 294 المستصفى للغزالي 1/81 المعتمد لأبي الحسين البصري 1/97 نهاية السول للأسنوي 1/222 شرح المنار لابن مالك ص 192 - 193 القواعد لابن اللحام ص 244 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/131.
مما ذكر شيخي: الحسيني الشيخ في محاضرته في كلية الشريعة جامعة الأزهر - قسم الأصول - الدراسات العليا.

 

ج / 1 ص -130-       البير ونزعه والأمر بصعود السطح أمر بنصب السلم وقد بينا هذا من قبل وإذا كان الأمر بالشىء أمرا بما لا يتم المأمور إلا به فنقول أن فعل الشىء لا يحصل إلا بترك ضده مثل الحركة لا تحصل إلا بتركها السكون وكذلك السكون لا يحصل إلا بترك الحركة فصار الأمر بالشىء نهيا عن ضده معنى هذا الطريق ولهذا يكون الأمر بالإيمان نهيا عن الكفر لأنه ضده وكذلك الأمر باللبث فى المكان نهى عن ضده وهو الخروج والأمر بالقيام نهى عن القعود وأشباه هذا كثير وهذا هو المراد من قولنا أن الأمر بالشىء يكون نهيا عن ضده فإن أعجبهم عن استعمال لفظ النهى وهو الوفاق وأن لم يعجبهم هذا اللفظ وقالوا: إنما قلناه معنى تعينت المخالفة فى نفس التسمية ولا مبالاة بها بعد الموافقة فى المعنى وأن خالفوا فى اللفظ والمعنى جميعا كان خروجا عن المعقول فيكون باطلا.
والأولى أن نقول أن المسألة مصورة فيما إذا وجد الأمر وقضينا أنه على الفور فلا بد من ترك ضده عقيب الأمر كما لا بد من فعل المأمور عقيب الأمر وأما أن قلنا أن الأمر على التراخى فلا تظهر المسألة هذا الظهور فالأولى تصويرها فى الجانب.
وأما الجواب عما ذكروه فأما الأول فتعلقهم بالنوافل باطل لأن النوافل عندنا غير مأمور بها فإن عندنا ما ليس بواجب لا يكون مأمورا به ولئن تناوله الأمر يكون على طريق المجاز ثم نقول الأمر الذى يفيد الوجوب يكون نهيا عن ضده وأما الأمر الذى يفيد الاستحباب إنما يفيد النهى عن ضده بما يناسب الاستحباب والاستحباب أن يكون فعل الشىء أولى من تركه فالحكم فى ضده أن يكون تركه أولى من فعله.
وأما كلامهم الثانى ففى نهاية الضعف لأنه يجوز أن يجتمع العلم بالشىء والعلم بضده وكذلك القدرة على الشىء وضده فأما فعل الشىء وفعل ضده لا يتصور اجتماعهما والأمر يقتضى الفعل فهذا الوجه عمل في ضده بالنهى عنه.
وأما كلامهم الثالث الذى ذكروه فليس بشىء أيضا لأنا نجعل الأمر بالشىء نهيا عن ضده لا من حيث اللفظ ولكن من حيث المعنى وهو أنه لا يتوصل إلى فعل الشىء إلا بترك ضده وهذا المعنى فيما له ضد واحد وفيما له أضداد واحد فسواء كان له ضد واحد وأضداد فلا بد من ترك الكل حتى يفعل المأمور وأما النهى عن الشىء هل يقتضى الأمر بضده فإن كان الشىء له ضد واحد مثل الحركة والسكون.

 

ج / 1 ص -131-       فكذلك نقول أنه إذا نهاه عن السكون يكون الأمر بالحركة إذ ليس بينهما واسطة فأما إذا كان له أضداد فلا يكون النهى عن الشىء أمرا بها كلها لأنه يتوصل إلى ترك الشىء من غير أن يفعل جميع أضداده ولا يتوصل إلى فعل الشىء إلا بعد أن يترك جميع أضداده فافترقا لهذا المعنى ثم نقول أن هذا الأمر بالشىء نهى عن ضده صيغة حتى يصير في النهى الثابت معنى أن يكون أمرا بضده فإن الذى ادعيناه إنما ادعيناه في صيغة الأمر والنهى ولم ندع ذلك فيما ثبت معنى فسقط ما قالوه.
وادعى أبو زيد في هذه المسألة قولا ثالثا وقال أن الأمر بالشىء يقتضى النهى عن ضده على وجه الكراهة لا على وجه التحريم وهذا ليس بشىء لأن الأمر إذا كان بعد الوجوب فلا بد أن يقتضى الكف عن ضده على وجه التحريم حتى يستقيم حمله على الإيجاب.
وقد أجمع الفقهاء على أن الأمر يفيد الإيجاب ومع هذا لا يكون لما قاله وجه. والله أعلم.
مسألة الفرض والواجب واحد عندنا
وزعم أصحاب أبي حنيفة أن الفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به والواجب ما ثبت وجوبه بدليل مظنون1 وقالوا: لأن الواجب ليس على مرتبة واحدة ألا ترى أن الثابت بدليل مقطوع لا يكون في مرتبة ما ثبت بدليل مظنون بل يكون فوقه فى الرتبة وإذا كان اختلفا في الرتبة اختص كل واحد منهما باسم غير اسم صاحبه.
قالوا: ولأن الفرض في اللغة يدل على ما لا يدل عليه الوجوب لأن الوجوب يدل على اللزوم فإنه مأخوذ من السقوط على ما سبق ولا تأثير للساقط فى المحل ولأن الفرض مأخوذ من الجز والشق ومنه فرض القوس وفرضة الوادى فدل هذا الاسم على التأثير فى المحل وإذا أثر فى المحل أفاد زيادة لا يفيدها اسم الوجوب.
ونحن نقول أن حد الواجب والفرض واحد لأن حدهما جميعا ما لا يسع تركه أو ما لا يستحق الثواب بفعله والعقاب بتركه وإذا اتفقنا فى المعنى اتفقنا فى الاسم ولأنكم فرقتم بين الواجب والفرض بفرق ولا يدل عليه دليل والدليل على.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 1/76 جمع الجوامع 1/88 إحكام الأحكام 1/139 شرح المنار لابن مالك ص 195 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 1/55.

 

ج / 1 ص -132-       أنه لا دليل عليه أنه لو قلت: [قلمكم قال]1 هذا الفرق وقال الواجب ما ثبت بدليل مقطوع به والفرض ما ثبت بدليل مظنون لم يكن عنه خلاص وأما الذى تعلقوا به من قولهم أن ما ثبت بهذا الدليل مخالف فى الرتبة ما ثبت بذلك الدليل فوجه الجواب المعتمد عنه أن الكلام فى الواجب العملى وهو الذى تتكلم فيه الفقهاء فيما بينهم وأما العلم ليس له تعرض أصلا والواجب عملا تستوى مراتبه سواء كان ثبوت الشىء بدليل قطعى يوجب العلم أو بدليل اجتهادى يوجب الظن والعقاب فى كل واحد عند تركه عملا مثل العقاب في صاحبه وكذلك واحد لا يسع تركه صاحبه إذا استويا من هذا الوجه استغنى عن التفريق الذى ذكروه.
وأما كلامهم الثانى قلنا إذا تراجعنا اللغة فلفظ الوجوب أدل على اللزوم من لفظ الفرض لأن الفرض اسم مشترك يكون بمعنى الإنزال مثل قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85] أى أنزل ويكون بمعنى البيان مثل قوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] ويكون بمعنى التقدير يقال فرض القاضى النفقة أى قدر ويكون بمعنى الإيجاب كقوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} [البقرة: 197] أى أوجب فالإلزام أحد معانى الفرض وأما الوجوب له معنى واحد وهو السقوط وقد اقتضى الإلزام من حيث هذا المعنى الواحد فكان هذا الاسم أخص فى الإلزام من لفظ الفرض فلا أقل أن يستويا وأما التأثير فى المحل فلا معنى له لأن الإلزام على الإنسان لا يظهر له تأثير فى المحل حسا بوجه ما فلا معنى لاعتباره.
مسألة الفعل بوصف الكراهة لا يتناوله الأمر المطلق
وذهب أصحاب أبى حنيفة إلى أنه يتناوله والخلاف تظهر فائدته فى قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] فعندنا هذا لا يتناول الطواف بغير طهارة ولا الطواف منكوسا وعلى مذهبهم يتناوله فإنهم وأن اعتقدوا كراهية هذا الطواف ذهبوا إلى أنه دخل فى الأمر حتى يتصل به الإجزاء الشرعى وعندنا يدخل ولا جواز لمثل ذلك الطواف واعلم أن هذا المثال على أصلهم يتصور وأما عندنا أن ذلك طواف مكروه بل لا طواف أصلا لأنه قام الدليل عندنا أن الطهارة شرط فى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا ما استطعنا إثباته والذي في الأصل رسم هكذا "فلم لم قالب" ولعل الصحيح ما أثبتناه أو "فلم لو قال".

 

ج / 1 ص -133-       الطواف.
مثل كونها شرطا فى الصلاة وكذلك قام الدليل أن الطواف الشرعى هو الطواف على هيئة مخصوصة لا يوجد إذا طاف منكوسا وأما هم زعموا أن الطواف حقيقة دوران حول البيت وذلك موجود سواء طاف بطهارة أو بغير طهارة وسواء طاف مستويا أو منكوسا قالوا: وأما وجود الكراهية الشرعية لا يدل على عدم دخول المفعول فى الأمر بدليل الصلاة فى الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء فإن الأول داخل فى الأمر.
والثانى فى الإطلاق.
وأما حجة ما صرنا إليه أن الأمر يفيد الوجوب حقيقة والندب والإباحة مجازا فما ليس بواجب ولا مندوب إليه ولا مباح لا يتصور أن يتناوله الأمر وأما الصلاة فى الأرض المغصوبة فنتكلم فى هذه المسألة ابتداء حتى يظهر الواجب فنقول مذهبنا ومذهب أكثر أهل العلم أن الصلاة فى الأرض المغصوبة جائزة1 وذهبت المعتزلة غير النظام إلى أنها لا تجزىء2 وهو قول داود وأهل الظاهر وقيل أنه مذهب أحمد بن حنبل3 رضى الله عنه.
واحتج من قال أنها لا تجزىء بأن الصلاة طاعة بإجماع المسلمين والصلاة فى الدار المغصوبة معصية لأن الصلاة تشتمل على القيام والركوع والسجود والقعود وهذه الأشياء تصرف فى الدار المغصوبة وشغل لأماكنها وأهويتها ومنع لرب الدار لو حضر من التصرف فيها منزل منزلة وضع ساج فيها وربما يعبرون عما قلنا فيقولون الكون فى هذه البقعة محرم معصية والأكوان التى تقع فى الصلاة لا بد أن تقع طاعة ونقول الكون فى هذه البقعة محرم منهى عنه والأكوان التى تقع فى الصلاة لا بد أن تكون مأمورا بها ويستحيل وقوع الشىء الواحد مأمورا به منهيا عنه وأيضا فإنهم أجمعوا أن من شرائط الصلوات الخمس أن ينوى بها المصلى أداء الواجب وما يدخل فيه أداء الواجب نحو أن ينوى كونها ظهرا أو عصرا والصلاة فى الدار المغصوبة لا يتأتى فيها ذلك لأنه لا يصح أن ينوى الإنسان أداء الواجب بما يعلم أنه ليس بواجب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الشيخ موفق الدين بن قدامة رواية ثانية عن أحمد وقال وهو قول أبي حنيفة ومالك والقول الثاني للشافعي انظر المغني 1/722 المجموع 3/164.
2 انظر المجموع للنووي 3/164.
3 ذكره الإمام موفق الدين بن قدامة رواية ثانية ونصرها انظر المغني لموفق الدين بن قدامة 1/722.

 

ج / 1 ص -134-       قالوا: وعلى هذا نقول أيضا لا تجوز صلاة من ستر عورته بثوب مغصوب واختلفوا فيمن ستر عورته بثوب مملوك ثم لبس عليه ثوبا مغصوبا فمنهم من أجازها لأن [فى]1 الثوب الثانى [زيادة]2 وفى الثوب الأول كفاية لستر العورة وهو مملوك وقال آخرون لا تجوز لأن قيامه وقعوده وتصرفه فى كلا الثوبين وزعموا أيضا أن المودع أو الغاصب إذا طولب برد الوديعة أو المغصوب فتشاغل بالصلاة مع اتساع الوقت لم تجز صلاته.
وإن كان الوقت ضيقا ويخشى أن تشاغل بالرد أن تفوته الصلاة لم تبطل صلاته أن لم يستضر صاحبها بالتأخير ضررا شديدا وتبطل أن استضر بالتأخير ضررا شديدا وقالوا: لمن صلى وهو يرى من يغرق أو يهلك وهو يرجو أن يخلصه فسدت صلاته والوجه فى ذلك أجمع أن صلاته فى جميع هذه المواضع قبيحة قالوا: ولا يلزم إذا آمن فى الدار المغصوبة حيث يصير مؤمنا لأن ذلك ليس بتصرف فيها فيكون غصبا لها فلم يلزم أن يكون قبيحا غير طاعة قالوا: وليس يلزم إذا صلى فى أرض إنسان غير أن يقصد غصبها ولا زرع فى الأرض لأن العادة جارية أن مالك الأرض لا يكره أن يصلى المارة فى أرضه وكذلك العادة جارية بأن من أذن لغيره فى الدخول فى داره أنه لا يكره أن يصلى فيها فنزل ذلك منزلة صريح الإذن.
قال أبو الحسين البصرى صاحب المعتمد مستدلا فى هذه المسألة أن صحة الصلاة فى الدار المغصوبة إما أن يراد بها أنها داخلة تحت التعبد أو يراد بها أنها تقوم مقام ما دخل تحت التعبد والأول باطل لأن التعبد لا يتناول القبيح المكروه والثانى يكفى فى نفيه أنه لم يدل دليل على أنها تقوم مقام ما دخل تحت التعبد وإذا لم يدل الدليل على ذلك لم يسقط به التعبد الواجب عليه3.
وأما حجتنا [فقد]4 ذكر بعض أصحابنا أن بعض ما يحتج به فى هذه المسألة إجماع الأمة فإنا نعلم أن المكلفين الذين خوطبوا بالصلاة من شرق الأرض ومغربها ما كان يخلو عصر من الأعصار من فعل بعضهم الصلاة فى الأرض المغصوبة ولو كان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة يستقيم بها المعنى.
2 زيادة ليست في الأصل يستقيم به المعنى.
3 انظر المعتمد 1/172.
4 زيادة ليست في الأصل.

 

ج / 1 ص -135-       من أهل الاجتهاد من لا يجوز ذلك لم يجز فى مستقر العبادات أن لا يظهر خلافه مع كثرة وقوع ذلك وعموم البلوى به ولجرى بينهم تناظر وتشاجر فى ذلك كيف وأهل القدوة الذين هم أهل القدوة فى الشريعة والأعلام فى معرفة الأحكام أطبقوا على القول بجواز ذلك فلا يعتد بخلاف من خالف فى ذلك لأنه خالف محدث ولم ينقل عن أحد من السلف ذلك وعندى أن هذه الحجة ضعيفة لأنهم يقولون بالإجماع وقد بينا خلاف ذلك.
وقولهم أنه لم ينقل عن أحد من السلف ذلك قالوا: كما لم ينقل الفساد لم ينقل الجواز ولعلهم أن سئلوا عن ذلك أفتوا ببطلان صلاته قالوا: والظاهر ذلك لأن الدليل مضى فى هذه المسألة فما كنا نظن بسلفنا الصالح أنهم يتركون مثل الذى قدمناه وأقمناه إلى ما دليل عليه بل هو مجرد دعوى ونستدل بوجه آخر يعتمد عليه فنقول الصلاة غير منهى عنها لأن النهى وأن ورد ولكنه ينصرف إلى فعل الغضب لا إلى فعل الصلاة.
ألا ترى أن بعد الخروج عن الصلاة هو فاعل للغصب غير فاعل للصلاة.
ألا ترى أنه لو صلى فى مكان من الدار لا يخرج من أن يكون غاصبا لغير ذلك المكان من بقاع الدار.
قالوا: على هذا أن المعقول من الغضب هو الاستيلاء على مال الغير على وجه العدوان وهو بالصلاة شاغل ملك غيره بالعدوان فيصير بغير الصلاة غاصبا فكيف لا يكون النهى منصرفا إليها وصلاته عن الغصب.
الجواب يقال لهم هل يجوز بين أن يكون الإنسان فى فعل واحد مأمورا من وجه منهيا من وجه مطيعا من وجه عاصيا من وجه فإن قالوا: لا قلنا الدليل على جوازه المشروع والمعقول.
أما المشروع فإن المريض الذى يستضر بالصوم فإذا صام فإنه لم يختلف أحد أن صومه يقع وهو مأمور بالصوم من وجه منهى من وجه ولولا أنه مأمور به من وجه لم يتصور وقوعه موقع الصوم المعروض عليه وهو منهى عنه من وجه وهو لتضمنه إضرارا بنفسه.
وأما المعقول فإن السيد إذا قال لعبده احمل هذه الخشبة إلى موضع كذا واسلك بها طريق كذا فحمل الخشبة وسلك طريقا غير الطريق الذى قال فإنه يكون مطيعا من.

 

ج / 1 ص -136-       وجه عاصيا من وجه.
ألا ترى أنه يحسن أن يقول العبد أن كنت عصيتك فى سلوك هذا الطريق فقد أطعتك فى حمل هذه الخشبة إلى موضع كذا ويقول لهم أيضا هل يجوز أن يشتمل الفعل الواحد على معنيين مختلفين فى حكم الشارع فإن قالوا: لا.
قلنا الدليل على جواز ذلك أن من وقف على جبل مغصوب بعرفات فقد اشتمل وقوفه على ما هو طاعة وهو الوقوف بعرفة وعلى ما هو معصية وهو استعمال جبل الغير وكذلك إذا توضأ بماء مغصوب فإن حركاته فى الوضوء اشتملت على شيئين مختلفين على استعمال ماء الغير وهو معصية وعلى فعل الوضوء وهو طاعة وكذلك إذا ذبح بسكين مغصوب فإن فعله اشتمل على استعمال سكين الغير وهو معصية وعلى ذبح الشاة وهو مباح جائز وإذا نوى الإنسان الصوم ونام فى نهاره فإنه فى حال نومه فاعل للصوم وفاعل للنوم وهذه المسائل كلها مسلمة ولم ينقل عن المخالفين منع شىء منها وأقواها مسألة صوم الشيخ والمريض اللذين يستضران بالصوم ومسألة الوضوء بالماء المغصوب والوقوف على جبل مغصوب فإذا ثبت ما قلناه فنقول إذا صلى فى أرض مغصوبة فنقول النهى فى شغل أرض الغير والأمر بالصلاة فهو مأمور بهذا الفعل من حيث أنه صلاة منهى عنه من حيث أنه شغل ملك الغير والجواز من حيث أنه صلاة لا من حيث أنه شغل ملك الغير وإن شئت عبرت عن هذا بالطاعة والمعصية فقلت: أنه مطيع من حيث الصلاة عاص من حيث شغل ملك الغير وهو مثل مسألة المريض إذا صام والوضوء بالماء المغصوب والوقوف على جبل مغصوب وهو مأمور مطيع من حيث فعل الصوم وفعل الوقوف وفعل الوضوء عاص منهى عنه من حيث الإضرار بنفسه واستعمال مال الغير وجبل الغير وهو لأن شغل ملك الغير ينفصل عن الصلاة والصلاة تنفصل عن شغل ملك الغير فإذا انفصلا حسا فيجوز أن نجعل فعله فيهما كفعلين منفصلين فيكون مطيعا بأحدهما عاصيا بالآخر والدليل عليه المسائل التى قلناها والحرف فى هذه المسألة أنا وجدنا فعلا من حقه أن يكون طاعة وقد وقع قبيحا ومعصية ومع ذلك أجزأ عن الطاعة وكان طريق جوازها ما ذكرنا كذلك هاهنا وأما فصل النية التى قالوا: بها فنحن إذا فصلنا الطاعة عن المعصية استقام فيه النية وقد نقل بعض المتأخرين من أصحابنا عن القاضى أبى بكر الباقلانى كلاما غير مفهوم فى هذه المسألة وهو أن صلاة الإنسان فى الأرض المغصوبة.

 

ج / 1 ص -137-       لا بد أن تقع مأمورا بها ولكن يسقط الأمر بالصلاة عندنا كما يسقط الأمر بأعذار نظرا من الجنون وغيره وهذا هذيان فأعرضنا عنه والله أعلم.
مسألة إذا قال الصحابى أمرنا بكذا فإنه ينزل منزلة القول المقول فى الأمر1.
وقال داود وأصحابه لا ينزل منزلة ما لم يقل اللفظ2 وقال لأنه يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لفظا فى الندب والرواى ظن منه معنى الوجوب فيقبل على ما ظن ونحن نقول قول الصحابى أمرنا بكذا مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم أمرتكم بكذا ومثل قوله أمركم الله بكذا والذى قالوه باطل لأن الأمر عندنا لا يكون أمرا إلا إذا أفاد الوجوب فأما إذا أفاد الندب فإنه لا يكون أمرا فليس ما قالوه بشىء والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي والظاهر مذهب الشافعي وذلك لأن من كان مقدما على جماعة وهو بصدد امتثال أوامره ونواهيه فإذا قال الواحد منهم: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فالظاهر أنه يريد أمر ذلك المقدم ونهيه والصحابة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هذا النحو فإذا قال الصحابي منهم: أمرنا أو نهينا كان الظاهر منه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه انظر إحكام الأحكام 2/138.
2 عزاه الآمدي إلى جماعة من الأصوليين والكرخي من أصحاب أبي حنيفة واستدلوا بأن ذلك متردد بين كون مضافا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبين كونه مضافا إلى أمر الكتاب أو الأمة أو بعض الأئمة وبين أن يكون قد قال ذلك عن الاستنباط والقياس وأضافه إلى صاحب الشرع بناء على أن موجب القياس مأمور باتباعه من الشارع انظر إحاكم الأحكام 2/137, 138.