قواطع الأدلة في الأصول

ج / 1 ص -138-       باب القول فى النواهى.
اعلم أن النهى يقارب الأمر فى أكثر ما ذكرناه ونشير إلى ذلك على وجه الاختصار ونبين ما يخالف الأمر فيه.
فأما حقيقة النهى1 فهو استدعاء ترك الفعل بالقول ممن هو دونه وقيل هو قول القائل لغيره لا تفعل على جهة الاستعلاء.
فصل وله صيغة تدل عليه فى اللغة.
وقال أبو الحسن الأشعرى ومن تبعه ليس له صيغة وقد دللنا عليه وأبطلنا قوله من قبل.
فصل وصيغة النهى مقتضية للتحريم2.
وقال أبو الحسن ومن تبعه لا يدل عليه ولا على غيره إلا بدليل.
والدليل على أنه يقتضى التحريم أن قوله لغيره لا تفعل يقتضى طلب ترك الفعل لا محالة مثلما أن قوله لغيره افعل يقتضى طلب الفعل لا محالة وطلب الفعل لا محالة يقتضى الإيجاب كما ذكرنا فى مسألة الأمر فطلب ترك الفعل لا محالة يقتضى التحريم التحريم وقد سبق وجه الدليل فى هذا ويمكن أن يقال أن النهى لما كان لطلب الامتناع من الفعل والفعل لا يمتنع وجوده بكل إلا بالتحريم فكان مقتضيا للتحريم أى امتناع وجوده بكل حال من حيث الشرع يكون بالتحريم لأن السيد إذا قال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرفه الأسنوي بأنه هو القول الطالب للترك دلالة أولية انظر نهاية السول 2/293.
2 هذا هو قول الجمهور واختاره البيضاوي.
والقول الثاني: حقيقة في الكراهة مجاز فيما عداها.
القول الثالث: مشترك معنوي بين التحريم والكراهة فهي موضوعة للقدر المشترك بينهما وهو طلب الترك.
القول الرابع: مشترك لفظي بين التحريم والكراهة فهي موضوعة لكل منهما بوضع مستقل.
القول الخامس: التوقف وعدم الجزم برأي معين.
انظر إحاكم الأحكام 2/275, 276 المحصول 1/338 نهاية السول 2/293 المستصفى 2/418 القواعد لابن اللحام 251 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/181, 182.

 

ج / 1 ص -139-       لغلامه لا تفعل كذا ففعل استحق الذم والتوبيخ ولولا أنه اقتضى التحريم لم يستحق الذم والتوبيخ.
فصل والنهى يقتضى الترك على الدوام وعلى الفور1 بخلاف الأمر يقتضى فعل المأمور مرة واحدة ولا يقتضى الفور إلا بدليل.
وذكرنا الفرق من قبل ببينة أن من قال لغلامه افعل كذا ففعل مرة واحدة يعد ممتثلا آتيا للمأمور وإذا قال لا تفعل كذا لا يعد منتهيا إلا بعد الانتهاء على الدوام وهذا ظاهر للمتأمل.
فصل: قد ذكرنا أن الأمر بالشىء نهى عن ضده فأما النهى عن الشىء هل يكون أمرا بضده2 فإن كان له ضد واحد فهو أمر بذلك الضد كالصوم فى العيدين وأن كان له أضداد كثيرة فهو أمر بضد واحد من أضداده لأنه لا يتوصل إلى ترك المنهى عنه إلا به فأما إثبات الأمر بسائر الأضداد فلا معنى له وقد سبق هذا.
فصل إذا نهى الشارع عن أحد الشيئين كان ذلك نهيا عن الجمع بينهما.
ويجوز له فعل واحد منهما أيهما شاء3 وعند المعتزلة يكون منهيا عنهما4 فلا يجوز له فعل واحد منهما وزعموا أن النهى لا يرد إلا عن قبيح فإذا نهى عنهما ثبت قبحهما فيكونان جميعا منهيين وأن ورد بلفظ التخيير اللهم إلا أن تدل الدلالة على أن أحدهما إنما كان منهيا عنه إذا كان الآخر موجودا وذلك الآخر منهى عنه إذا كان هذا موجودا فيكون للتخيير هاهنا فائدتان يقال لا تأكل ولا تشرب وتدل الدلالة أنه إنما نهى عن الأكل بعد وجود الشرب وكذا إنما نهى عن الشرب بعد وجود الأكل فيكونان منهيين على طريق التخيير على هذا الوجه هذا مذهبهم فى هذا وأما عندنا فالأمر على ما ذكرناه والدليل على أن الأمر أمر بالفعل والنهى أمر بالترك ثم الأمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/294 إحكام الأحكام 2/284, 285 المحصول 1/338 فواتح الرحموت مسلم الثبوت 1/406 القواعد لابن اللحام 252 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/185.
2 انظر نهاية السول 2/310, 311 انظر المحصول 1/350 انظر روضة الناظر 47 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/192.
3 انظر المحصول 1/352 نهاية السول 2/311, 312 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/193.
4 انظر المعتمد 1/170.

 

ج / 1 ص -140-       بالفعل فى أحد شيئين لا يقتضى وجوبهما كذا الأمر بالترك فى أحد شيئين لا يقتضي وجوب تركهما وقد سبق هذا أيضا.
مسألة: النهى يدل على فساد المنهى عنه.
وهو الظاهر من مذهب الشافعى وعليه أكثر الأصحاب إلا أنهم اختلفوا فمنهم من قال يقتضى الفساد من جهة الوضع فى اللغة ومنهم من قال يقتضى الفساد من جهة الشرع ويمكن أن يقال يقتضى الفساد من حيث المعنى لا من حيث اللغة وقد ذهب إلى هذا المذهب أيضا جماعة من أصحاب أبى حنيفة ومن أصحابنا من قال أن النهى لا يدل على فساد المنهى عنه وحكى عن الشافعى رحمه الله ما يدل عليه وهذا اختيار أبى بكر القفال الشاشى وهو قول الكرخى ومن معه من أصحاب أبى حنيفة وهو أيضا قول أكثر المتكلمين ومنهم أبو على وأبو هاشم وأبو عبد الله البصرى1 الملقب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ الحسيني الشيخ: مطلق النهي عن الشيء سواء كان ذلك الشيء عبادة أو غيرها "كالنحاح" "مطلق النهي يشمل نهي تحريم ونهي تنزيه" لا يخلو عن حالة من اثنين:
الأولى: أن يكون النهي لأمر خارج عن المنهي عنه غير لازم له كالنهي عن الوضوء بماء مغصوب فإن إتلاف الماء المغصوب قد يحصل بغير الوضوء كالإراقة مثلا وأن الوضوء قد يحصل بماء غير مغصوب ومثله الصلاة في المكان المغصوب أو المكروه وكالنهي عن البيع وقت النداء للجمعة فإن النهي عنه لوصف خارج يمكن انكاكه عن البيع لأن البيع قد يوجد بدون الإخلال بالشيء بأن "الباء بيانية" يتبايعان في الطريق ذاهبين للصلاة والإخلال بالشيء قد يوجد بدون البيع بأن تكون في الطريق بغير بيع.
والنهي في هذه الحالة لا يؤثر شيئا في المنهي عنه فلا يفيد فساده ولا بطلانه إذا خالف المكلف وفعل المنهي عنه عند الأكثرين لأن المنهي عنه في الحقيقة الأمر الخارج فالصلاة لم يتعلق بها نهي وكذا الوضوء وإنما تعلق بالغصب ولا ملازمة بين غصب وصلاة ولا وضوء حتى يكون النهي عن الغصب نهيا عن الصلاة والوضوء والنهي عن البيع وقت النداء في الواقع ليس راجعا لذات البيع وإنما هو نهي عن تفويت الجمعة ولا ملازمة بين التفويت في الجمعة والبيع.
وذهب الإمام أحمد إلى أن النهي في هذه الحالة يدل على الفساد لأن ذلك مقتضاه فلا يعدل عنه "مطلق النهي يدل على الفساد".
ورد: بأن الأمر مراجعة من طلقت في حيضها دليل على صحته وعدم فساده فلو كان دالا على الفساد لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم المطلق في الحيض بالمراجعة لأن الأمر به لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق:
الثانية:
أ - أن يكون النهي راجعا إلى ذات المنهي عنه أو لأمر خارج عنه لازم له أو داخلا فيه عبادة.......=

 

ج / 1 ص -141-       ................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أو معاملة والمراد بذات العبادة والمعاملة ما يشمل جزءها وشرط صحتها فالنهي عن الصلاة بدون قراءة أو ركوع نهي عن ذات العبادة ونهي الحائض عن الصلاة وقت الحيض راجع إلى ذات العبادة والنهي عن بيع الحصاة وهو جعل الإصابة بالحصاة بيعا قائما مقام الصيغة وهو أحد التأويلين في الحديث راجعا إلى ذات العقد "فلا إيجاب ولا قبول فيه" "ويعلل رجوعه لذات العقد" لفقدان صيغته والنهي عن بيع الملاقيح وهو ما في بطون الأمهات من الأجنة راجع إلى نفس المبيع الذي هو ركن من أركان البيع وعلة النهي عدم تيقن وجود المبيع "وشروط المبيع العلم به عينا وقدرا وصفة".
ب - وأما النهي لأمر خارج لازم للعبادة أو المعاملة فكالنهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة "لا توجد صلاة مكروهة إلا في الوقت المكروه ولا يوجد الوقت المكروه إلا بالصلاة في هذا الوقت فالجهة مرتبطة من كل محل" كلما "تعبير عن التلازم" وجدت الصلاة في الأوقات المكروهة "أي الأوقات الموصوفة بالكراهة لا الوقت فقط" وكلما وجدت الأوقات المكروهة وجدب الصلاة المكروهة "أي لتكون الصلاة مكروهة فيه لا بد من التلازم وهذا دليل يتضمن دعوى التلازم" لأن الأوقات المكروهة لا شيء كذلك إلا الصلاة فيها والانشغال" إذ معنى كون الوقت مكروها أن الصلاة فيه مكروهة "لا الوقت مكروه فتأمل" وكالنهي عن الربا مثل النهي عن بيع درهم بدرهمين "الربا لا يوجد إلا بالزيادة ولا يكون ربا ومنهي عنه إلا بالزيادة" لاشتمال هذا العقد على الزيادة اللازمة بالعقد عليها لأن الزيادة أمر خارج عن ذات العقد "أي الصيغة لأنه داخل في المعقود عليه" إذ المعقود عليه من حيث ذاته قابل للبيع "للدرهم والدرهمين" "فالنهي للزيادة" وكونه زائدا أو ناقصا وصف خارج لازم لعقد بالفضل والنهي في هذه الحالة اختلف العلماء في دلالته على الفساد وعدمها على مذاهب كالآتي:
أ - قال بعض العلماء إن النهي لا يدل على الفساد مطلقا عبدة أو معاملة.
ب - وقال بعض آخر إنه يدل على الفساد مطلقا عبادة أو معاملة وهؤلاء اختلفوا في جهة الدلالة.
1- فقيل: 2 - وقيل يدل شرعا.
جـ - وقال أبو الحسين البصري إنه يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات.
د - وذهب الحنفية إلى أنه لا يدل على الفساد بل على الصحة مطلقا سواء كان عن الفعل لعينه أو لصفة خلافا "مفعول مطلق لمحذوف" لأبي حنيفة في القسم الأول حيث يرى أن المنهي عنه لعينه غير مشروع الأصل فيه أن ينفي لا أن ينهى عنه فالنهي عنه مجاز عن نفيه "النهي لذات الشيء عند أبي حنيفة في الواقع نفي لأنه ينفي أن يوجد ذلك البيع فهو حقيقة في النهي مجاز في النفي فهو إنشائي لفظا "خبري معنى" كلا تبيعوا الكلب والخنزير إنشائية لفظا "خبرية معنى" فهو إنشاء مستعمل في الإخبار" "ما دام المنهي عنه لعينه غير مشروع لا ينهى عنه بل ينفي".
الأدلة:
استدل الأولون: وهو المستدلون على عدم فساد المنهي عنه لغة وشرعا بما يأتي وإن كان لا.....=

 

ج / 1 ص -142-       ..............................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يلزم إقامة دليل على دعواهم لأنهم نافون والنافي لا يلزم بإقامة الدليل فإن أقامه كان متبرعا بخلاف المثبت فإنه يلزمه الدليل لإثبات دعواه فالنافي لم يدع فلم يطالب بدليل".
لو دل النهي على الفساد لكان ناقصا بالتصريح بالمنهي عنه بكن الثاني منتف فانتفى الأول وهو الدلالة على الفساد وثبت نقيضه وهو عدم الدلالة وهو المطلوب "أتى بدعوى الخصم ورتب عليها وأبطل المرتب فتبطل دعوى الخصم وتثبت دعواه وهذا دليل الخلف" قوله "لكان ناقصا..الخ" رأى لو دل على الفساد لتناقض مع لا تكتب وإن كتبت صح "ما دام لم يدل على الفساد يثبت أنه ممكن أن:
أ - يدل على الصحة ب - لا دلالة له أي مجرد الكف عن الفعل ولذلك قال: عدم الدلالة ولم يقل الصحة"
أما الملازمة فظاهرة "فإن أقام عليها الدليل فهو متبرع ما دامت ظاهرة" لأن الدلالة على الفساد تناقض التصريح بالصحة من غير شك ولا مراء "قوله من غير شك..الخ" وجه كونها ظاهرة فكأنه قال فاسد صحيح وهو تناقض".
وأما الاستثنائية: فلأنه يصح لغة وشرعا أن يقول: نهيتك عن الربا لعينه ولو فعلت لعاقبتك لكنه يحصل به الملك "فصح مع النهي التصريح بالصحة".
ويجاب بمنع الملازمة "الجملة الشرطية" لأن قيام الدليل الظاهر وهو النهي على معنى وهو الدلالة على الفساد لا يمنع التصريح بخلافه بل التصريح يكون قرينة صارفة عن الحمل على الظاهر الذي يجب الحمل عليه عند التجرد عن القرينة "التصريح بالصحة مع النهي قرينة صارفة للنهي من الفساد إلى غير فلا تناقض" "أي من الدلالة على الفساد إلى غيره" "لولا القرينة لوجب حمل دلالته على الفساد".
واستدل قسم من أصحاب المذهب الثاني وهو القائل على دلالته على الفساد شرعا أما أنه لا يدل على الفساد لغة فلأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه أي عدم ترتب ثمرته وآثاره عليه وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعا إذ لو دل عليه لغة لكان في قول القائل لا تبع هذا ولو فعلت لعاقبتك "ولكن يترتب على الفعل أحكامه" تناقض وليس بتناقض اتفاقا "في اللغة" وأما أنه يدل على الفساد شرعا فلما يأتي:
أولا: لو لم تكن العبادة المنهي عنها فاسدة لكانت مأمورا بها "يقابل الفساد الصحة" "واجتماع النقيضين باطل" لأن الصحيح ما وافق الأمر لكنها وقت النهي ليست مأمورا بها وإلا لزم أن تكون مأمورة الفعل بالأمر ومطلوبة النهي بالترك وهو جمع بين الضدين "وقت النهي تكون مأمورا بها للصحة ومنهي عنها للفساد وهو باطل".
ثانيا: إن علماء الأمصار في جميع الأزمنة تمسكوا في استدلالهم على فساد الربا بمجرد النهي عنه من غير نكير عليهم من أحد فكان ذلك إجماعا وإذا ثبت دليل الفساد في النهي عن الربا وهو لأمر خارج لازم للعقد ثبت في غيره مما كان فيه النهي لذات العقد أو لأمر داخل فيه من باب أولى.
ثالثا: لو لم يفسد الفعل المنهي عنه لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته يدل عليها............=

 

ج / 1 ص -143-       [بمصلح المتكلمين]1 [واختلف هؤلاء]2 فيما بينهم فقال بعضهم أن كان فى فعل المنهى إخلال بشرط فى صحته أن كان عبادة أو فى نفوذه أن كان عقدا وجب القضاء بفساده وأن لم يكن فيه إخلال بما ذكرناه لم يجب القضاء بفساده.
وقال بعضهم أن كان النهى يختص بالفعل المنهى عنه كالصلاة فى المكان النجس اقتضى الفساد وأن لم يختص بالمنهى عنه كالصلاة فى الدار المغصوبة لم يقتض الفساد.
وقال بعضهم أن كان النهى عن الشىء المعنى فى عينه أوجب الفساد وأن كان المعنى فى غيره لا يوجب الفساد.
وأما المعروف عن طريقة أبى زيد فى هذه المسألة.
قالوا: النهى المطلق نوعان نهى عن الأفعال الحسية مثل الزنا والقتل وشرب الخمر ونهى عن التصرفات الشرعية مثل الصوم والصلاة والبيع.
والنهى عن الأفعال الحسية دليل على كونها قبيحة فى نفسها لمعنى فى أعيانها إلا أن يقوم دليل على ذلك.
وأما النهى المطلق من التصرفات الشرعية فيقتضى قبحا لمعنى فى غير المنهى عنه.
لكن متصلا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصحة "للمنهي عنه" "يترتب أمران:
أ - النهي إن لم يدل على الفساد يكون لحكمة.
ب- وما دام لم يدل على الفساد يكون صحيحا وحكمة الصحة غير حكمة النهي"
واللازم باطل لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضا "حكمة من الصحة وحكمة من النهي" وتساقطتا وكان فعله كلا فعل "فانقلب إلى كونه مباحا" فامتنع النهي عنه لخلوه عن الحكمة وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى "أي بعدم النهي" لفوات الزائل من مصلحة الصحة وهي مصلحة خالصة وإن كانت راجحة امتنعت الصحة لخلوها عن المصلحة ايضا بل لفوات الرجحان من مصلحة النهي وأنها مصلحة خالصة فيدل على الفسادهنا "إن تساوت الحكمتان تساقطتا ولم يدل على الفساد لأنه امتنع النهي لخلوه عن الحكمة لمعارضتها لحكمة الصحة فلم يصح النهي لخلوه عن الحكمة" "وهي أي الصحة مصلحة خالصة لم يتعارض مع حكمة النهي عند رجحان الصحة والفساد مصلحة خالصة أي لم يتعارض مع حكمة الصحة "عند رجحان الفساد"
انظر نهاية السول 2/295 انظر المحصول 1/349 انظر إحاكم الأحكام 2/275 انظر المعتمد 1/170 انظر القواعد لابن اللحام 253 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/185 ومما أملاه الشيخ الحسيني الشيخ في محاضرته في كلية الشريعة جامعة الأزهر قسم الدراسات العليا.
1 غير مقروءة في الأصل فلعل الصواب ما أثبتناه.
2 زيادة يقتضيها السياق ليست في الأصل.

 

ج / 1 ص -144-       بالمنهى عنه فيتبقى صفة المشروعية عن المنهى من وجه مع تصوره فى نفسه وبقاء حقيقته وربما يعبرون عن هذا فيقولون يخرج عن المشروعية بوصفه ويبقى مشروعا بأصله وبيان هذا قد ذكروه فى مسائل الخلاف.
وأما حجة من يقولون أن النهى لا يقتضى فساد المنهى عنه قالوا: الحال لا يخلوا أما أن يكون النهى مقتضيا فساد المنهى عنه من حيث لفظ النهى ووضعه لغة ومن حيث الشرع أو من حيث النظر إلى معناه.
فأما الأول فباطل لأن النهى طلب ترك الفعل والأمر طلب الفعل لغة وهذا لايدل على فساد ولا على صحة لأن الفساد والصحة أمران شرعيان لا يعرفان من حيث اللغة بحال ولا يدل عليهما من جهة اللفظ بوجه ما.
وأما الثانى فهو باطل أيضا لأن الفساد من حيث الشرع لا يعرف إلا بنقل ولا نقل عن السماع فى فساد المنهى عنه بالنهى شرعا ولو كان لعثرنا عليه بالبحث وقد بحثنا فلم نجده يدل عليه أنا رأينا مناهى وردت فى الشرع ولم تقتض فساد المنهى عنه والدليل عليه الصلاة فى الأرض المغصوبة فإنها منهى عنها وليست بفاسدة وكذلك البيع وقت النداء وكذلك الطلاق فى حال الحيض منهى عنه ومع ذلك هو واقع محكوم بصحته ووقوعه وكذلك البيع فى آخر وقت الصلاة منهى عنه وهو جائز وكذلك الإحرام محكوم بالنهى عنه وهو منعقد وقد قال بعض من نصر هذا القول أنه لابد من معرفة معنى الفاسد والصحيح فإن فى معرفة معناه زوال معظم الشغل فى المسألة.
قالوا: ومعنى الفاسد أنه لايقع موقع الصحيح فى الحكم بحال حتى استعمل فى الصلاة والصيام أفاد أن القضاء واجب وإذا استعمل فى العقود أفاد أن التمليك لايقع بها وإذا استعمل فى الإيقاعات من الطلاق والعتاق أفاد أن لاعضل وإذا استعمل فى الشهادة أفاد أن الحاكم لا يحكم بها وأما معنى الجواز فعلى الضد من هذا فيفيد استعماله فى الصلاة والصيام سقوط القضاء وفى العقود وقوع الملك وفى الإيقاعات حصولها وفى الشهادة يفيد أن القاضى بها إذا عرفنا معنى الفساد والجواز ليس فى المنهى دليل على أنه إذا فعل المنهى لا يقع موقع الصحيح فى الحكم لأنه من حيث صيغته ليس إلا طلب ترك الفعل ومن حيث المعنى يدل على كراهة الناهى لفعل المنهى عنه أو يدل على القبح لأن الناهى إذا كان حكيما فلا بد أن يكون المنهى قبيحا وإلا.

 

ج / 1 ص -145-       لم يحسن النهى بقبح المنهى وكراهة الناهى له لا يدل على فساده من حيث الحكم بدليل المسائل التى قدمنا.
ويدل عليه أن الذبح بالسكين المغصوب منهى عنه وكذلك التوضؤ بالماء المغصوب وقد وقعا مواقع الصحيح فثبت أن النهى لا يدل على الفساد لا من حيث الصيغة ولا من حيث الشرع ولا من حيث المعنى.
قالوا: ولأن النهى إذا أفاد الفساد لكان ما لا يفسد من الأفعال القبيحة لا يكون منهيا عنه على التحقيق لأن اللفظ المستعمل فى غير ما وضع له يكون مجازا ولا يكون حقيقة.
وقد قال بعضهم أن لفظ النهى لغوى والفساد معنى شرعى ولا يجوز أن يكون اللفظ اللغوى موضوعا له لأن أهل اللسان قد تكلموا بهذا ولم يعرفوا شرعا ما يدل أنه لا يجوز أن يقتضيه لفظ النهى قال ولا يجوز أن يكون الفساد من حيث القبح لأن قبح الشيء لا ينافى ثبوت الحكم لا محالة لأن الحكم قد نهى عن الشيء لنوع مفسدة معلق به وأن وقع موقع الصحيح فى الحكم وذلك أن يتشاغل به عن واجب مثل البيع مع تعين السعى إلى الجمعة أو مع تعين التحريم عليه أو تعين إنقاذ غريق أو حريق وإذا أكن هذا لم يأمن أن يكون النهى عن البيع أو الطلاق وغيرهما كان لغرض سوى أن أحكامها لا تثبت وإذا جاز ذلك لم يقتض صحة الفساد وأما أبو زيد فالذى يحضرنى من كلامه فى هذه المسألة هو أن النهى لا يصح عن غير المتكون لأن النهى يرد والمراد به انعدام الفعل مضافا إلى اختيار العباد وكسبهم فلا بد من أن يكون المنهى عنه ليكون العبد مبتلى بين أن يكف عنه باختياره فيثاب عليه وبين أن يفعله باختياره فيعاقب عليه فثبت أن النهى لا يتصور إلا من متكون من العبد قالوا: ولهذا لا يصح أن يقال للأعمى لا تبصر وللأدمى لا تنظر لأنه لا يكون منه ويجوز أن يقال للبصير لا تبصر كذا وكذلك للسميع لا تسمع كذا لأنه يتكون منه وربما يعبرون عما قلنا فيقولون أن النهى لطلب الامتناع من المنهى عنه فلا بد من تصور المنهى عنه حتى يتحقق النهى عنه فعلى هذا المنهى عنه الصوم فى يومى العيد وأيام التشريق والبيع أيضا هو المنهى عنه مع الشرط الفاسد وكذلك الصلاة عند غروب الشمس والصوم اسم لفعل مخصوص وكذلك الصلاة والبيع اسم لقول مخصوص وهو الذى جعل سببا للملك شرعا فوجب تصور الصوم والصلاة والبيع بعد النهى

 

ج / 1 ص -146-       ليتحقق النهى عنه شرعا قالوا: ولا يجوز أن يقال أنه تصور صورة الإمساك وصورة أفعال الصلاة وصورة الإيجاب والقبول لأن الصوم إنما صار صوما بصورته ومعناه وكذلك الصلاة وكذلك البيع والمعنى فى الصلاة والصوم كونه صلاة وصوما فى حكم الله تعالى والمعنى فى البيع كونه مفيدا للملك فإذا لم يوجد هذا المعنى فى هذه الأشياء لم توجد هذه الأشياء أصلا وقد بينا أنه لا بد من تصور المنهى عنه ليصبح النهى.
والحرف أن الذى يحقق موجودا ليس بصلاة ولا صوم ولا بيع قالوا: والفسخ ينزل من النهى فى طرف مناقض له لأن النهى إعدام الشيء بفعل العبد فأما الفسخ فهو إعدام الشىء مشروعا لينعدم فعل العبد لا نعدامه مشروعا والنهى لا لا نعدام المشروعية بل لينعدم الشىء بفعل العبد مع بقاء المشروعية.
قالوا: أما كون المنهى عنه محظورا فلا ينافى المشروعية لأنه يجوز أن يكون الشيء مشروعا من وجه محظورا من وجه فصار المفعول مشتملا على حظرية ومشروعية وإنما أثبتنا المشروعية مع الحظر لأجل الضرورة على ما سبق فإن قلتم أن نص الشارع على هذا لا يجوز مثل أن نقول حظرت عليك هذا الشىء وشرعته لك فلا يجوز وعلى أنه يجوز أن ثبت بطريق ما لا يثبت بطريق التنصيص وهذا كالأمر بالشىء نهى عن ضده وكذلك النهى عن الشىء أمر بضده إذا كان له ضد واحد فصار الشرع من مقتضيات النهى ضرورة والحظر من مقتضيات الأمر ضرورة وأن كان لا يجوز ذلك بطريق التنصيص وعلى أن الشىء الواحد يجوز أن يكون مشروعا من وجه محظورا من وجه بدليل المسائل التى قلناها وكذلك وطء الأب جارية ابنه ووطء أحد الشريكين الجارية المشتركة.
وقال بعضهم القبح صفة قائمة بالمنهى فكان تابعا فلا يجوز إثباته على وجه يبطل به ما أوجبه واقتضاه.
وبيان هذا أن النهى أوجب القبح فإذا أثبتناه على وجه يفسد به المنهى عنه وفى فساد المنهى عنه فساد النهى على ما سبق.
كما أثبتناه على وجه يبطل به ما اقتضاه وأوجبه فعملنا بالأصل وهو النهى على ما يتصور معه المنهى وعملنا بالمقتضى وهو الفسخ بقدر الإمكان وهو أن نجعل المنهى عنه غير مشروع بوصفه لأن القبح وصف يبطل المشروعية من حيث الوصف فأبقينا.

 

ج / 1 ص -147-       المشروعية فى أصله لئلا نبطل أصل النهى فهذا غاية الإمكان فى إظهار العمل بالدليلين.
فإن قلتم كيف يحتمل المشروع وصف الصلاة.
قلنا قد يحتمل بدليل المسائل التى قدمناها ولأن العبرة بالدليل لا بالاستبعاد وخرجوا على هذا الأصل مسائل مثل مسألة البيع الفاسد ومسألة صوم يومى العيد وأيام التشريق وكذلك الصلاة فى الأوقات المنهى عنها وقد ذكرنا وجه كلامهم فى ذلك فى مسائل الفروع ولا معنى لذكرها هنا.
وأما حجتنا فى المسألة قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أدخل فى ديننا ما ليس فيه فهو رد"1 روته عائشة رضى الله عنها وغيرها والخبر فى الصحيحين والمنهى عنه ليس بداخل فى الدين فيكون مردودا باطلا وسؤالهم على هذا هو أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم فهو رد أى غير مقبول ولا يثاب عليه.
والجواب أن الظاهر من قوله رد هو بمعنى الإبطال والإعدام كما يقال رد فلان على فلان ماله أى أعدم يده وقوته أو ثبت يد المردود عليه وأوجده وإذا كان الظاهر هذا لم يجز أن يحمل عليه إلا بدليل ولأنا أجمعنا على أن النهى يقتضى حرمة المنهى عنه وحظره ولهذا المعنى إذا ارتكبه يأثم وإذا صار محظورا لا يبقى مشروعا لأن المشروع هو المطلق فعله فى الشرع وهذا أدنى درجات المشروعية والمحظور هو الممنوع عنه فى الشرع فيستحيل أن يكون الشىء الواحد محظورا ومشروعا ببينة أن الله تعالى قد نص على التحريم فى الربا بقوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] والمحرم ما يجب الامتناع عنه وإذا وجب الامتناع عنه لم يجز أن يكون مشروعا لما بينا أن أقل درجات المشروع هو الندب أو الإباحة إذا لم يكن عقد الربا مشروعا لم يثبت الملك المشروع لأن الملك المشروع لا يثبت إلا بالعقد المشروع وتحقيق ما ذكرنا فإن البياعات والأنكحة وسائر العقود ما عرفناها إلا بالشرع فإنه لولا الشرع لم يعرف شىء من هذه العقود وقد شرع الله تعالى هذه العقود على شرط مخصوص فى محل مخصوص من فاعل مخصوص فما وراء ذلك غير مشروع أصلا وهذا لأن الأصل لما كان هو عدم المشروعية فإذا شرع عقدا على وجه فما كان على.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في الصلح 5/355 الحديث 2697 ومسلم في الأقضية 3/1343 الحديث 17/1718.

 

ج / 1 ص -148-       غير ذلك الوجه بقى على العدم وإذا بقى على العدم لا يصلح لثبوت حكم شرعى.
فإذا قالوا: أن قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] يتناول كل ما يسمى بيعا فيجب أن لايوجد بيع ما إلا وهو داخل تحت الأية فإذا وردت السنة بزيادة شرط أو تسمية محل فلا يخرج العقد من كونه بيعا لظاهر الأية فإذا كان بيعا دخل تحت المشروعية.
قالوا: وعلى أن صحة البيع تعرف بالفعل ولو لم يرد شرع بالبيع لكنا نعرف بالعقل أن من كان له ملك فى شيء فجعله لغيره يصير لذلك الغير وإذا عرف بالعقل لم يكن عدم ورود المشروع دليلا على انعدامه.
والجواب أما الأية قلنا معنى الأية:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} على ما ورد به بيان السنة.
والدليل عليه أنه لايحل إلا على ذلك الوجه الذى وردت به السنة ولأنه تعالى قد قال عقبه:
{وَحَرَّمَ الرِّبا} وعندهم الربا عقد منعقد مقيد للملك على ما ينعقل غير الربا ويفيده.
وأما قولهم أن صحة البيع تعرف بالعقل.
قلنا هذا محال لأن البياعات عقود شرعية بإجماع الأمة والعقود الشرعية لا تعرف إلا بالشرع ثم نقول أن سلم لكل مسلم أن البيع وإفادته الملك كان يعرف بالعقل لكنا لم نترك العقل بل رددنا إلى الشرع وقد صارت البياعات شرعية بإجماع الأمة.
ألا ترى أن جواز الإقدام على البيع وغيره كان يعرف بالعقل والأن قد ارتفع ذلك حتى لا يجوز الإقدام على عقد ما إلا إذا كان على مايوافق الشرع وإذا صارت شرعية ظهر ما قلنا أن ما لم يرد به الشرع بقى على عدم المشروعية ولا يجوز أن يفيد حكما شرعيا بحال.
واعلم أن هذا الذى قلناه ظاهر فى البياعات والأنكحة وسائر العقود وهو فى العبادات أظهر وذلك لأن المفعول عبادة فإذا كان منهيا عنه لم يكن عبادة ولأن العبادة ما يتناوله المتعبد من المعبود والمنهى عنه لا يتناوله المتعبد فلا يكون عبادة.
ويمكن أن يقال ما لا يتناوله المتعبد لا يسقط التعبد وإنما قلنا أن المنهى عنه لا يتناوله المتعبد لأن التعبد ما يتناول ماله صفة زائدة على حسنه والمنهى عنه لا يكون حسنا فكيف تثبت له صفة زائدة على الحسن وجميع ما ذكرناه فى كلامهم يمكن.

 

ج / 1 ص -149-       إخراجه على طريق السؤال على هذه الطريقة وسنجيب عن الكل.
واحتج بعض أصحابنا بأن النهى ضد الأمر ويقتضيه والأمر يدل على إجزاء المأمور به فيجب أن يدل المنهى على عدم اجزائه وإلا لم يكن ضده ولا يقتضيه وقد قالوا: على هذا أن الأمر لما دل على أجزاء المأمور به فالنهى الذى هو ضده لا يدل على إجزاء المنهى عنه فقد ثبتت المخالفة والمضادة من هذا الوجه ونحن وأن قلنا أن المنهى عنه يجزىء فلا نحكم لإجزائه لمكان النهى وقالوا: على قولنا أن المنهى عنه لو كان مجزئا لكان طريق الشرع والشرع أما إيجاب أو ندب أو إباحة والنهى نفى جميع هذا.
قالوا: لا يمتنع أن يثبت الإجزاء مع انتفاء هذه الوجوه.
ألا ترى أنه يجوز أن تقول إذا فعلتم ما نهيتكم أجزأكم عن الغرض أو نقول إذا بعتم ما نهيتكم عنه وقع به الملك فإذا جاز هذا تصريحا جاز وأن لم يصرح به.
ونحن نجيب عن هذا فنقول ما قلتم من التصريح على ما قلتم لا يجوز وأن ورد على ذلك فيكون النهى [مجازا]1 ولا يكون له حقيقة وإذا ثبت هذا الأصل الذى قلناه خرجت عليه المسائل من مسألة البيع الفاسد ومسألة صوم يومى العيد وأيام التشريق وقد ذكرنا وجه ذلك فى الفروع.
وأما الجواب عن كلماتهم أما الأول فقد قسموا وقالوا: النهى يدل على فساد المنهى عنه بصيغة النهى وبمعناه أو شرعا هذا تقسيم باطل لأنا بينا وجه فساد المنهى عنه فينبغى أن يكون الكلام على ذلك ويمكن أن يقال بصيغته لأن صيغته تدل على عموم المشروعية لأن المشروعية [بأمر وإباحة]2 والنهى نفى ذلك ويمكن أن يقابل بمعناه لأنه قد دل النهى على قبح المنهى عنه وحظره وهذا مضاد للمشروعية.
وقولهم يجوز أن يكون الشىء مشروعا من وجه ومحظورا من وجه.
قلنا قد ورد النهى عن نفس الشىء مطلقا فصار محظورا مطلقا وإذا صار محظورا مطلقا لم يبق مشروعا بوجه ما.
وقولهم أن النهى ليس إلا طلب الكف عن الفعل قلنا بلى ولكن قد دل على الفساد بالوجه الذى قلنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل [مجاز] بالرفع.
2 ما بين المعكوفين غير مقروء في الأصل.

 

ج / 1 ص -150-       والأولى أن لا ندعى الفساد بصيغة النهى لكن نقول إنما جاء الفساد من حيث معنى النهى وذلك المعنى على ما سبق.
وأما قولهم أن معنى الفاسد كذا ومعنى الجائز كذا.
قلنا قد قام الدليل أن القضاء يجب بأمر جديد فكيف يكون معنى الفاسد مع أنه يجب قضاؤه والقضاء لا يجب بالأمر الأول بحال وليس هذا بشيء.
وقولهم أنه يجوز أن النهى عن الشىء لنوع مفسدة تتصل بالمفعول وأن كان هو فى نفسه جائز.
قلنا النهى عن نفس الشىء لا يكون إلا لمفسدة فى عينه فلا يتصور أن يكون جائزا وهذا لأنه إذا ورد النهى عن نفس الشىء فإن كان عبادة انتفى منه التعبد وأن كان من عقود المعاملات انتفى منها الإطلاق والإباحة وما لا يكون مباحا لا يكون مشروعا وإذا لم يكن مشروعا لم يبن عليه حكم الشرع.
وأما قولهم أن النهى صيغة لغوية والجواز والفساد شرعيان.
قلنا وأن كان النهى لغة لكن عرفنا أن أهل اللسان عقلوا أن ذلك لما لا يتصل به المطلوب بالفعل والأمر لما يتصل به المطلوب بالفعل ثم قد ذكرنا أن النهى إنما نفى الشرع بالوجه الذى سبق ذكره.
وأما المسائل التى تعلقوا بها فنقول أولا أن الأصول الممهدة من الشرع لا تنتقض لأنه ما من أصل من أصول الشرع إلا وقد وجدنا له موضعا فى الشرع مخالفا له غير أن ذلك لا يعد نقضا لذلك الأصل المشروع الموضوع وإنما عدل فى ذلك الموضع عن ذلك الأصل بدليل يقوم عليه من إجماع ونص أو غير ذلك.
ببينة: أن النهى فى اقتضاء الفساد كهو فى اقتضاء التحريم وقد يعدل به من التحريم إلى التنزيه ولا يخرج النهى من أن يكون دالا على التحريم فكذا تصور النهى فى بعض المواضع عن الفساد لوجود القرائن المانعة من الفساد لا يدل على أن النهى فى وضعه لا يدل على الفساد وأمثال هذا يكثر ثم نقول أن النهى إذا ورد عن نفس الشىء حقيقة فلا بد أن يوجب فساد المنهى عنه.
فأما إذا كان النهى واردا عن نفس الشىء لكن عن معنى آخر غيره وأضيف إلى الشىء مجازا عن ذلك المعنى فإنه لا يوجب فساد المنهى عنه وعلى هذا تخرج المسائل أما الصلاة فى الأرض المغصوبة فالنهى ليس عن الصلاة لكن عن شغل أرض.

 

ج / 1 ص -151-       الغير وهذا يوجب النهى عن التعدى فى أرض الغير بلا صلاة وقد بينا هذا فيما سبق فلا نعيد وكذلك الطلاق فى حال الحيض فإن النهى ليس لنفس الطلاق لكن لإلحاق الضرر بالمرأة ولهذا يوجد الطلاق فى حال الحيض ولا يكره إذا لم يؤد إلى الضرر وهو أن يطلق فى حال الحيض قبل الدخول وكذلك الوطء فى حال الحيض إنما نهى عنه لا لنفس الوطء [بل]1 لمباشرة الأذى وقد ورد النص بهذا المعنى وعلى هذا البيع وقت النداء إنما نهى عنه للاشتغال به عن السعى إلا ترى [أنه]2 لو اشتغل بشىء آخر غير البيع كان النهى متناولا إياه وأما فى سائر ماورد به النهى فقد تناول نفس الشىء فإن النهى عن البيع بالخمر نهى عن نفس البيع وكذلك بيع الدرهم بالدرهمين وكذلك النكاح بغير شهوة وعلى هذا النهى عن صوم يومى العيد وأيام التشريق بدليل أنه لا يتصور وجود النهى إلا عند نقل هذه العقود.
والحرف أنه لا يتصور ارتكاب البيع بالخمر إلا عند مباشرة بيع الخمر ولا يتصور ارتكاب الربا إلا عند بيع الدرهم بالدرهمين وكذلك فى البيع بشرط فاسد لا يوجد ارتكاب ذلك النهى إلا عند وجود البيع وكذلك فى صوم يومى العيد لا يوجد ارتكاب النهى إلا عند فعل الصوم بالنية مع الإمساك حتى لو أمسك ولم ينو الصوم فإنه لا يكون مرتكبا للنهى وفى المسائل التى أوردها يتصور ارتكاب النهى من غير وجود تلك العقود أصلا وهذا جواب معتمد فى غاية الظهور وفيه غنى عن خبط كثير من الأصحاب فيها وأما الإحرام مجامعا فينعقد لا على ما ينعقد إذا أحرم من غير مجامع لأنه ينعقد فاسدا ولأنه لا يفيد المقصود من الخروج عن المفروض عليه والنقص عن عهدته فليكن سائر العقود الفاسدة كذلك النهى لا يفيد المطلوب من الملك فى البيع والحل فى النكاح والخروج عن عهدة النذر فى صوم يومى العيد وأيام التشريق خلاف ما يقوله الخصم فإنهم قالوا: إذا نذر صوم هذه الأيام وفعلها خرج من عهدة النذر فإن قالوا: أليس قد انعقد الإحرام مع هذا كله فهلا قلتم أنه لا ينعقد أصلا قلنا انعقاده على الفساد وإلزامه أفعاله يجرى مجرى نوع معاقبة من الشرع والمؤأخذات من الشرع على أنواع فيجوز أن يقال يكون هذا الأصل وإيقاع المرء فى عهدة أفعال الحج ليفعلها ولا يسقط بها الحج عن ذمة ولا يثاب على فعلها نوع معاقبة من الله تعالى له.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة يستقيم بها المعنى.
2 ريادة ليست في الأصل.

 

ج / 1 ص -152-       لارتكابه النهى وفعله الحج على وجه المعصية فلم تدخل هذه المسألة على الأصل الذى قلناه.
وأما طريقة أبى زيد فاعلم أن معتمده فى طريقته هو أن النهى لا يتحقق إلا مع تصور المنهى عنه فقد قال الأصحاب أنه متصور لولا النهى فلتصوره لولا النهى صح النهى والنهى يعمل عمله على ما قدمناه ويمكن أن يعبر عن هذا فيقال أن النهى لإعدام الشىء شرعا لا لإعدامه حسا فلما أنه متصور حسا صح النهى عنه ولما أن النهى قضيته نفى المشروعية عن المنهى عنه على ما سبق انعدم شرعا.
وقولهم أن المنهى عنه هو الصوم المعلوم والبيع المعلوم فى الشرع وأما مجرد الإمساك فليس بصوم ولو كان صوما فهو صوم لغة لا شرعا فوجب الحكم بتصور الصوم حقيقة والبيع حقيقة حتى يصح النهى وجوز الأصحاب من هذا ما قلناه أنه قد يتصور لولا النهى فهذا لا يدفع الإشكال فليس مما يقنع به الخصم ويمكن أن يجاب فيقال الصوم الذى هو فعل العبد ليس إلا النية مع الإمساك وهذا متصور من العبد وقد صح النهى لتصوره منه وأما خروجه عن كونه صوما شرعا ليس لمعنى من قبله لكن لعدم إطلاق الشرع ذلك أو يقال لعدم قبول الشرع إياه لنهيه عنه والصوم لا يكون صوما إلا بفعل العبد واتصال أمر الشرع به فصار المفعول صوما من حيث النظر إلى فعل العبد وصح النهى لذلك ولم يكن صوما من حيث النظر إلى إطلاق الشرع كذلك أوامره به وليس غرض الحكيم من كلامه إلا تحصيل النهى فإذا تحقق النهى بما قلناه حتى إذا ارتكبه كان عاصيا لارتكابه النهى فاعلا ما منع منه وحظر عليه والمنهى عنه ما يعاقب على فعله وقد وجد بما فعله العبد على وسعه وطاقته وليس فى وسعه الصوم إلا بهذا الذى وجد منه وإذا ثبت تحقق النهى يسقط ما قالوه جملة وهذا لأن الصحة والفساد معنيان متلقيان من الشرع وليس إلى العبد ذلك وإنما العبد ذلك إيقاع الفعل باختياره فإن وقع فعله على وفق أمر الشرع صح شرعا وانبنت عليه الأحكام الشرعية وإذا وقع على خلاف أمر الشرع كان الأمر باطلا ولم يبتن عليه الأحكام الشرعية ولهذا أبطلنا صوم الليل مع تحقق الإمساك الحسى فيه عن المفطرات وكذلك إمساك المرأة عن المفطرات فى حال حيضها متحقق حسا وصورة ولكن لما لم يوافق أمر الشرع لم يثبت له الحقيقة الشرعية.
ونقول أيضا ذكر الصوم والبيع وغير ذلك فى النهى ليس لتحقيق هذه العقود.

 

ج / 1 ص -153-       ولكن ذكرها لتعريف مايعمل فيه النهى من الإبطال الشرعى وهذا كالنهى عن بيع الحر وعن بيع الخمر وعن بيع الملاقيح والمضامين [و]1 ليس ذلك لتحقيق البيع ولكن لتعريف ما وقع القصد إلى إفساده وإبطاله.
وإن قالوا: فالصوم والبيع لا يكون منهيا عنه إذا قلنا هو منهى عنه لأن عمل النهى ظهر فيه من فساده وإبطاله ولكن ذكره لم يدل على تحقيقه فى نفسه لأنه لتعريف ما يبطل ويفسد على ما ذكرنا وأما كلامهم على فصل القبح والحظرية فضعيف جدا ومتى سلم أن المفعول محظور لا بد أن يخرج عن كونه مشروعا وقولهم محظور من وجه مشروع من وجه.
قلنا هذا محال لأن الحظرية بالنهى والمشروعية بإطلاق الشرع وإذا لم يتصور اجتماع المنع والإطلاق فى شىء واحد لم يتصور أيضا اجتماع حكمهما فيه.
وأما وطء أحد الشريكين الجارية المشتركة.
فنقول أنه محظور من كل وجه إلا أنه سقط الحد وثبت النسب لوجود الملك فى بعض الجارية لوجود حق الملك للأب فثبت ما ثبت من سقوط الحد وثبوت النسب لوجود نفس الملك أو لوجود نفس حق الملك لا لأجل أن الوطء صار مشروعا من وجه وكذلك الوطء فى النكاح الفاسد لا نقول أنه مشروع بوجه إذا سقط الحد وثبت النسب لاختلاف العلماء.
وفى مسألة ما إذا زفت إليه غير امرأته لأجل الاشتباه الذى وجد فيه وهذا لأنه لما أقدم على الوطء على قصد أنه حلال له وهو موضع يشتبه فيه الأمر فلم يستحق عليه الحد الذى هو عقوبة وثبت النسب احتياطا فهذا وجه الكلام فى هذه المسألة وقد بسطنا الكلام فيها زيادة بسط لوقوع الحاجة إليه فى كثير من المسائل والله المرشد للحق والهادى إلى الإصابة بمنه وعونه تم باب الأوامر والنواهى.
وقد قال بعض أصحابنا أن النهى يكون بمعنى النفى فى كثير من المواضع وضرب لذلك أمثلة غير أن ذلك غير مرضى فى هذه المسألة لأنه يؤدى إلى الحكم بكون المنهى مجازا فى نفسه إذ النهى والنفى بابان مختلفان وإنما ينبغى أن نتكلم فى هذه المسألة مع تبقية النهى على حقيقته وقد ذكرنا بغاية المجهود بعون الله وتوفيقه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من الأصل.