قواطع الأدلة في الأصول ج / 1 ص -154-
القول في العموم والخصوص.
اعلم أن الكلام العام هو كلام مستغرق لجميع ما يصلح له هذا
هو المعقول من كون الكلام عاما.
ألا ترى أن قولنا الرجال مستغرق لجميع ما يصلح له لأنه
يستغرق الرجال دون غيرهم إذا كان لا يصلح لغيرهم وكذلك
لفظة من فى الاستفهام نحو قول القائل لغيره من عندك فلأنها
تستغرق كل عاقل عنده ولا يتعرض لغير العقلاء ولا لعقلاء
ليسوا عنده لأنها لا تصلح فى هذه المواضع لهم وكذلك قولنا
كل تستغرق كل جنس يدخل عليه ولا يتناول من لا يدخل عليه
لأنه لا يصلح له.
وقد قال بعض أصحابنا العموم كل لفظ عم شيئين فصاعدا وقيل
ما استقل لفظه بنفسه ولا يشتمل على مسميات بجنسه وقد
يستعمل فى شيئين ويستعمل فى جميع الجنس.
أما الأول فكقولك عممت زيدا وعمرا بالعطاء.
وأما الثاني فكقولك عممت الناس بالعطاء وإذا عرف حد العموم
فتبين أولا إثبات الصيغة للعموم فى اللغة والشريعة ثم نذكر
عقبه ما يتلوه من الفصول المذهبية والمسائل الخلافية أن
شاء الله تعالى.
مسألة للعموم صيغة مقتضية استيعاب الجنس لغة وشرعا.
وهذا قول جملة الفقهاء وكثير من المتكلمين.
وقال أبو الحسن الأشعري ومن تبعه أنه ليس للعموم صيغة
موضوعة في اللغة والألفاظ التى ترد فى الباب تحتمل العموم
والخصوص فإذا وردت وجب التوقف فيها حتى يدل الدليل على ما
أريد بها1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن هذه المسألة هي المعنون عنها في كتب الأصول بأنه
هل صيغ العموم حقيقة في العموم؟ فالعلماء الذين يعتد
برأيهم اتفقوا على أن صيغ السابقة تستعمل في العموم
واختلفوا هل استعمال هذه الصيغ في العموم حقيقة أو مجاز
على خمسة أقوال:
أحدها: الصيغ حقيقة في العموم مجاز في الخصوج / 1 ص - وإلى
ذلك ذهب الشافعي وجمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء واختاره
ابن الحاجب والبيضاوي......=
ج / 1 ص -155-
وتعلق
من ذهب إلى ذلك بوجوه من الكلام أقواها فى الجدال قولهم
أنه لو كان للعموم صيغة موضوعة لكان ذلك معلوما إما
بالبديهة أو بإخبار الواضعين كذلك لنا أما بمشافهة أو بنقل
عنهم أما بالتواتر أو بالآحاد أو أن يكون طريق ذلك الشرع.
قالوا: وليس الخلاف معكم فى أن ذلك معلوم شرعا لأنكم تدعون
العلم بالاستغراق من جهة اللغة قبل الشرع ومعلوم أن العلم
فى ذلك ليس من حيث البديهة وما شاهدنا الواضعين ليشافهونا
بذلك ولو تواتر النقل عنهم باستغراق ألفاظ العموم كعلمنا
من ذلك كما علمتم وأخبار الآحاد ليست بطريق العلم فبان أنه
لا طريق إلى العلم باستغراق ألفاظ العموم.
وقالوا: أيضا هذه الألفاظ التى يدعون فيها الاستغراق
تستعمل فى الاستيعاب وفيما دونه على وجه واحد فإنها ترد
والمراد منها البعض وترد والمراد منها الكل وليس حملها على
أحدهما بأولى من حملها على الآخر فوجب التوقف كما تقول فى
الأسماء المشتركة من اللون والعين وغير ذلك بل هذه الألفاظ
تستعمل فى أكثر هذه المواضع إلا فى البعض دون الكل.
ألا ترى أنه يقال أغلق الناس أبوابهم وفتح الناس حوانيتهم
وافتقر الناس وجاع الناس وجمع السلطان التجار وغير هذا
والمراد من كل ذلك البعض دون الجميع ولو كان اللفظ حقيقة
فى العموم لكان أكثر كلام الناس مجازا ببينة أنه إذا ثبت
استعمال الناس لهذه الألفاظ فى الخصوص فالظاهر من استعمال
الاسم فى الشىء أن يكون حقيقة فيه إلا أن يمنع مانع من
كونه حقيقة فيه وإذا كان حقيقة فى البعض وحقيقة فى
الاستيعاب كان الاسم من الأسماء المشتركة وقالوا: أيضا لو
كان لفظ العموم للاستيعاب والاستغراق لكان الاستثناء منه
نقصا ورجوعا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والثاني: الصيغ حقيقة في الخصوص مجاز في العموم.
والثالث: صيغ العموم مشترك لفظي بين العموم والخصوج / 1 ص
- وهو أحد قولين للأشعري.
والرابع: الوقف وعدم الجزم لشيء مما سبق من الحقيقة أو
المجاز وهو القول الثاني للأشعري ومختار القاضي أبي بكر
الباقلاني.
والخامس: صيغ العموم حقيقية في العموم في الأوامر والنواهي
ولا يدرى أهي حقيقة في العموم أو مجاز فيه إذا كانت في
الأخبار انظر نهاية السول 2/395 البرهان 1/32 المستصفى
2/35 إحكام الأحكام 2/293 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
2/209, 210.
ج / 1 ص -156-
فإن
قلتم لم يكن نقصا وقبيحا نقول لو لم يكن قول القائل ضربت
كل من فى البلد إلا بنى تميم نقصا وقبيحا لكان قوله ضربت
كل من فى الدار لم أضرب كل من فى الدار غير قبيح ولا
مناقصة وحين كان نقصا وقبيحا كان الأول نقصا وقبيحا وربما
تعلقوا بالاستثناء من وجه آخر فقالوا: لو كان لفظ العموم
يستغرق لجرى للاستثناء منه مجرى أن يعدد الإنسان أشخاص
الجنس ثم يستثنى منه شخصا نحو أن يقول: رأيت زيدا رأيت
عمرا رأيت خالدا هكذا إلى آخره ثم نقول إلا زيدا فإذا قبح
هذا وجب أن يقبح الأول لأنهما فى المعنى واحد على زعمكم
ولما حسن الاستثناء علمنا أن لفظ العموم غير مفيد للشمول.
وقالوا: أيضا لو كان لفظ العموم مستغرقا لكل الجنس لما حسن
أن يستقيم المتكلم به لأن الاستفهام طلب الفهم وطلب فهم ما
قد فهم بالخطاب عبث ومعلوم أن الإنسان إذا سمع رجلا يقول:
ضربت كل من فى الدار فإنه يحسن منه أن يقول: ضربتهم كلهم
أجمعين وأن يقول: ضربت زيدا فيهم وفى حسن ذلك دليل على ما
قلناه كما سبق وكذلك يحسن التأكد وإذا أفاد الشمول لما حسن
لأن التأكيد يفيد ما أفاده المؤكد وذكروا شبهة فى لفظ من
قالوا: لو كان لفظ من يفيد الاستغراق لاستحال جمعه لأن
الجمع يفيد أكثر مما يفيده المجموع وإذا كان لفظ من قد
أفاد الاستيعاب عندكم فلا يتصور أن يفيد جمعه شيئا زائدا
فينبغى أن لا يصح جمعه وحين صح جمعه دل أن لفظ من لا يفيد
الاستيعاب بنفسه والدليل على وجود الجمع فى كلمة من قول
الشاعر:
أتوا [بابى]1 فقلت: [من]2 أنتم
فقالوا: الجن قلت: عموا ظلاما
قالوا: ولأن اللفظ الذى
يقولون لو كان يفيد العموم وجب إذا حمل على الخصوص أن يكون
مجازا لأنه يكون مستعملا فى غير ما وضع له واللفظ إذا
استعمل فى غير ما وضع له يكون مجازا كسائر الألفاظ التى
استعملت فى غير ما وضع لها وربما يقولون ينبغى أن لا يجوز
تخصيص العموم الوارد فى الكتاب بالسنة لأنه إسقاط بعض ما
يثبت بالكتاب والسنة أو القياس فينبغى أن لا يجوز كما لا
يجوز النسخ وحين جاز دل على ما قلناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "باري".
2 ثبت في الأصل "منون".
ج / 1 ص -157-
وأما
حجة القائلين بالصيغة للعموم قوله تعالى فى قصة نوح عليه
السلام:
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي
وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ}
[هود: 45] فأخبر الله تعالى عن نوح أنه تعلق بعموم اللفظ
ولم يعقب ذلك بنكير بل ذكر جوابه له أنه ليس من أهلك أنه
عمل غير صالح فدل أن مقتضى اللفظ العموم وأن له صيغة يتعلق
بها فى الحجة وأيضا فإنه روى أنه لما نزل قوله تعالى:
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}
[الانبياء:98] قال عبد الله بن الزبعرى خصمت محمدا ورب
الكعبة فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قد
عبدت الملائكة وعبد المسيح فإن دخلوا النار فنحن ندخل كما
دخلوا فأنزل الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى
أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}1 [الانبياء:101] فاحتج على النبي صلى الله عليه وسلم بعموم اللفظ
إلى أن أخبر الله تعالى أن الملائكة والمسيح غير داخلان فى
عموم اللفظ ولو كان اللفظ لا يقتضى العموم لما احتج به
ولكان إذا احتج به أنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولأن
الله تعالى أخبر أنه أمر الملائكة بالسجود لآدم عليه
السلام فقال تعالى:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ
قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا
إِلَّا إِبْلِيسَ}
[الأعراف: 11] ثم أخبر ما قال لإبليس بترك السجود ورد
الأمر وهو قوله تعالى:
{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [صّ: 75] وقال:
{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف: 13] فلما أخبر تعالى عن مبادرة الملائكة إلى السجود دل
أنهم عقلوا من مطلق اللفظ الشمول إذ لولاه لتوقفوا ولم
يبادروا ولأن إبليس لما امتنع عن السجود واستكبر وعاقبه
الله تعالى وطرده لم يقل معتذرا إنى لم أعرف دخولى فى
اللفظ فإن الكلام للعموم والشمول بل عدل إلى شىء آخر فقال:
{خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12] فهذه القصة من أولها إلى آخرها تدل أن للأمر والنهى
والعموم والخصوص صيغة معلومة وقضية مفهومة لا يجوز خلافها
بمطلق اللفظ وبمحض الصيغة.
ويدل عليه أن إبراهيم عليه السلام لما سمع من الملائكة
قولهم:
{إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] عقل منه العموم ولذلك خاف الهلاك على لوط فقال: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] ولم يسكن قلبه حتى أخرج الملائكة لوطا وأهله من
المهلكين بضرب تخصيص واستثناء فقالوا:
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عزاه الحافظ السيوطي إلى أبي داود في ناسخه وابن المنذر
وابن مردويه انظر الدر المنثور 4/338.
ج / 1 ص -158-
الآية
فهذه الآيات دلائل معتمدة وبراهين ظاهرة ونهاية ما يقولون
على هذه الألفاظ هو أن هذه الألفاظ محتملة للعموم عندنا
وأن لم يكن للعموم صيغة ولأجل الاحتمال حسن موردها وصح
السؤال والجواب عن ما ذكرتم فيها ونحن نقول على هذا لو كان
فى هذه الألفاظ مجرد الصلاحية للعموم لأنها صيغة فيها لكان
السؤال بطريق الاستفهام وهو أن يقول القائل فى هذه القصص
الواردة فى الكتاب كلها هل دخل فلان فى الخطاب أو لا ثم
إذا عرف الدخول يبنى عليه ما يقوله.
فإن قالوا: أن هذه الألفاظ حملت على العموم لا بصيغتها لكن
لقرائن اقترنت بها.
قلنا لا قرينة تعرف وإنما وجد مجرد اللفظ عريا عن الدلائل
فمن زاد على القرائن فعليه البيان وقد استدل الأصحاب أيضا
بما نقل عن الصحابة من الاحتجاج بالعمومات فى مسائل كثيرة
غير أن فيما ذكرناه من الاحتجاج بالآيات غنية وكفاية.
ونستدل فى إثبات ألفاظ العموم فى اللغة فنقول.
الاستغراق معنى ظاهر لكل أحد والحاجة تمس إلى العبارة عنه
ليفهم السامع أن المتكلم أراده فجرى هذا مجرى السماء
والأرض والفرس والحمار وما أشبه ذلك فى ظهوره بين الناس
ومسة الحاجة إلى العبارة عنها فكما لم يجر مع هذا الداعى
الذى هو داعى الحاجة أن تتوالى الأعصار بأهل اللغة ولا
يضعوا لهذه الأشياء أسماء تختص لكل واحد منها مع أنهم قد
وضعوا الأسماء للمعانى ووضعوا للمعنى الواحد أسماء كثيرة
كذلك لا يجوز أن لا يضعوا للاستغراق أسماء مختصة وليس يجوز
من أمة عظيمة فى أعصار مترادفة أن يضعوا الأسماء الكثيرة
للمعنى الواحد ولا يضعون لمعنى ظاهر تشتد إليه حاجة الناس
أسماء تخصه.
فإن قيل ليس بممتنع أن يتفق ذلك من الأمم العظيمة أليس
العرب مع كثرتهم لم يضعوا للفعل الحال عبارة تخصه دون
الفعل المستقبل ولا وضعوا للاعتماد سفلا ولا للاعتماد علوا
ولا للكون الذى هو يمنة أو يسرة عبارة ولا وضعوا لرائحة
الكافور أو رائحة العنبر أسماء تخصها والحاجة إلى ذلك
شديدة والأمر فى ذلك ظاهر ثم قالوا: لا حاجة بالمتكلم إلى
وضع لفظ الاستغراق لأنه يمكن للمتكلم أن يعدد الأشخاص
الذين يريد أن يعلمهم بالذكر واحدا واحدا.
قالوا: ولأنهم يمكنهم أن يعبروا عن الاستغراق ويذكروه
بلفظه مع قرينة وشاهد.
ج / 1 ص -159-
حال أو
يدلوا على الاستغراق بالتعليل بأن يقول: كل من دخل دارى
ضربته لأنه دخل دارى فيعرف بالتعليل أنه يريد أن يعم كل من
دخل الدار.
والجواب أما الأول فلا يصح لأن الأشياء التى ذكروها غير
ظاهرة فيجوز أن لا يضعوا لها عبارات تخصها بخلاف معنى
العموم والشمول والمعتمد من الجواب أن تلك الأشياء أن لم
تكن لها أسامى مفردة فلها أسامى مركبة.
وبيانه أنه يقال اعتمد سفلا واعتمد علوا أو يقال قال يمنة
أو يسرة ويقال رائحة الكافور ورائحة العنبر إلى سائر
الروائح ويقال فى الماضى ضرب زيدا وفى المستقبل يضرب زيدا
وهذا بخلاف ما تنازعنا فيه لأنه ليس عند خصومنا فى اللغة
كلام موضوع ولا مركب منبىء عن الاستغراق من غير قرينة ولا
دلالة.
وأما قولهم أنه يعد الأشخاص واحدا واحدا.
قلنا هذا يطول وسبق فلا يجوز المصير إلى مثل هذا.
وقولهم أنه يفيد العموم والشمول بقرينة أو أمارة أو دلالة.
قلنا يبعد أن تضع العرب للشىء الواحد عددا من الأسامى ثم
يكتفون فى معنى الشمول والعموم بقرينة أو بإشارة مع اتساع
العبارات وضيق القرائن والأشارات وعلى أن العلم من حيث
الدلالة أو الإشارة ليس مما يصلح لجميع الناس بل هو شىء
خاص يقع للبعض دون البعض فلا يجوز أن يقع الاقتناع به فى
مثل هذا المعنى الظاهر وكذلك الجواب عن التعليل الذى ذكروه
وعلى أنه ليس كل معنى يعرف علته حتى يعلل بها.
ألا ترى أن الإنسان إذا أراد أن يخبر بأن كل من فى الدار
نائم أو ضارب أو آكل وغير ذلك مما لا يحصى كثرة لم يعرف
لذلك علة حتى يعلل بها.
قالوا: إنما يصح هذا الدليل الذى ذكرتم أن لو كانت الأسماء
مواضعة من أهل اللسان وأما الأسماء توقيف فليس يوجد فيها
هذا الدليل.
قلنا ومن يسلم لكم أن الأسماء توقيف وعلى أنا نقول الأسماء
بعضها على التوقيف وبعضها على الوضع وهذا هو الأولى فينبغى
إذا لم يوجد فى شىء توقيف واشتدت حاجتهم إلى وضع اسم له أن
يضعوا كلاما يكون أسماء له كما أن من أحدث آلة جديدة يجوز
أن يضع اسما لها ومن ولد له ولد يجوز أن يضع اسما له
فالشخص الواحد إذا جاز له ذلك فالأمم الكبيرة بذلك أولى.
ج / 1 ص -160-
دليل
آخر أن اللغة فائدتها إفهام المراد بالخطاب لأن المتكلم
يعلم ما فى نفسه وأن لم ينطق لسانه وإنما يريد بكلامه
إفهام غيره والإبانة له عن المراد الذى فى نفسه فما كان
كذلك وجدنا أهل اللغة وأرباب اللسان استعملوا فى أبياتهم
ألفاظا تعارفونها ووضعوا لكل شىء أرادوا الإبانة عنه سمة
ورسموا لكل معنى منه رسما يعلم به المراد ويقع به التمييز
بين الشىء وضده فلا يجوز إبطال ما أصلوه منها وإزالته عما
وضعوه عليه وحمل ألفاظهم على ما يؤدى إلى التعرى عن
الفائدة كما لم يجز ذلك فيما وجد فى أوائل كلامهم من مفرد
إلى الأسماء والحروف التى هى أدوات الكلام فهذه الأسماء
المفردة والحروف التى هى أدوات كلها مقيدة والأسماء
المركبة وكذلك الأفعال مبنية من الأسماء المفردة ومردودة
إليها وخالفوا بين السمات وزادوا ونقصوا من الحروف وفاوتوا
بين جهات الإعراب لاختلاف ما يوجد تحتها من المراد وقد
قالوا: فى باب الأسماء رجل وفى التثنية رجلان وفى الجمع
رجال وقالوا: فى المشتق مشرك ومشركان وقالوا: فى أبنية
الأفعال للواحد فى باب الأمر افعل وللاثنين افعلا وللجمع
افعلوا وكما قيل فى الإخبار عن الفعل الماضى فعل وفى
المستقبل يفعل وفيما يدخله التراخى سيفعل وقالوا: فيما
يستدعيه من فعل غيره استفعل وقالوا: فيما تكلفه من الفعل
من غير مطاوعة تفعل فلكما خالفوا بين الشىء والشىء فى
القصد خالفوا بين المصارف فى الشكل والهيئة لنعلم أنهم لم
يضعوا قسمة الألفاظ إلا على قسمة المعانى ولم يرتبوا هذه
الأسماء إلا على مراتب المسميات وإذا تقرر ما ذكرناه فكان
الأمر فى هذا مشهورا عند أهل المعرفة باللغة وبأن من قال
للفظ الجمع الذى ذكروه فى الأسامى والأفعال معنى.
وقالوا: تناوله للعدد الشامل للجنس وللبعض من ذلك أو
للواحد والاثنين على وجه واحدا فقد رام الجمع بين ما فرقوا
والتفريق بين ما جمعوا وحمل بعضها على البعض مع التفريق من
أهل اللسان ومن رام هذا فقد رام قلب اللغة وإبطال البيان
وإيقاع العلم فى اللبس والتشكيك وهذا فاسد قطعا بلا إشكال
ولا مرية.
قالوا: إذا لم يدع قلب اللغة ولا زعمنا أنه لا بيان فى
حملها لكن قلنا أن هذه الألفاظ التى ادعيتم لها العموم
محتملة فى وضعها معرضة أن يكون المراد بها الشىء وغيره
فإنها توجد والمراد بها العموم والاستغراق وتوجد أخرى
والمراد بها الخصوص والإفراد فإذا كان كذلك لم يجر القضاء
عليها بأحد وجهى الاحتمال إلى أن يقوم عليها.
ج / 1 ص -161-
دليل
المراد وهذا كسائر الأسماء المشتركة.
قلنا قد بينا أن العرب لم تقسم الألفاظ إلا على قسمة
المعانى ووجدنا صيغة للعموم صيغة امتاز بها عن صيغة الخصوص
ومراتب الأسماء مبنية على مراتب المسميات فلا بد لها من
معنى يمتاز بها عن غيرها وقد وجدنا لها ظاهرا يهيأ العلم
به فلم وجب التوقف فيه مع وجود سمة امتازت بها عن غيرها من
السمات ووضوح دلالة منها يصلح اللفظ لها فهل هذا إلا ضرب
الأسماء فى بعضها ببعض وتعكيس اللغة ودفع البيان منها وأما
الأسامى المشتركة فهى ألفاظ معدودة وكلمات يسيرة كقولهم
حيوان ولون وعين وأمثال ذلك وليس إذا لم يوجد فى اللغة إلا
أشياء يسيرة ظاهرة تصار إليه ومعان متعينة لها ما يجب أن
تتوقف عن سائر الأشياء التى لها ظواهر معلومة ودلائل
معروفة ولهذا إذا ذكر الحيوان واللون والعين لم يتبادر إلى
الفهم شىء من معانيها المشتركة دون شىء بل يكون فى موقف
واحد من التسابق إلى الفهم والبدار إلى المراد وأما لفظ
العموم فيتبادر منه إلى الفهم الشمول والاستغراق وهذا شىء
تبين لا خفاء به أصلا.
دليل آخر أن القائل إذا قال من دخل دارى ضربته حسن أن
يستثنى منه كل عاقل شاب والاستثناء يخرج من الكلام ما
لولاه لوجب دخوله تحته فإذا لولا الاستثناء لوجب دخول كل
عاقل تحت لفظة من فلو كانت لفظة من غير مقتضية للشمول
والاستغراق لما وجب دخول كل عاقل تحتها ولما صح الاستثناء
منها هذا دليل معتمد قالوا: ما أنكرتم أن يكون الاستثناء
يخرج من الكلام ما لولاه لصلح دخوله تحته فعلى هذا صح
استثناء كل عاقل لأنه يصلح دخوله كل عاقل تحته لأنه دخل
تحته حقيقة.
والجواب أنه لو جاز الاستثناء بهذا الوجه لحسن أن نقول
اضرب رجلا إلا زيدا أو رأيت رجلا إلا زيدا لأن كل رجل يصلح
دخوله تحت قوله ضربت رجلا فقد صلح دخول زيد فى اللفظ ولم
يصح استثناؤه فدل أن الاستثناء إنما يصح فى مسائلنا لدخول
المستثنى منه تحته حقيقة نبين ما قلناه أن الاستثناء يحسن
دخوله فى العشرة مثل أن يقول القائل لفلان على عشرة إلا
واحدا واثنين وإنما حسن دخوله على العشرة لأنه أخرج منها
ما لولاه لدخل فيها.
ألا ترى أنه لا يحسن استثناء كلها ولا استثناء ما لم يدخل
تحتها فكذلك هاهنا لما حسن الاستثناء بأن نقول أعط من دخل
دارى إلا الطوال منهم وكان هذا الاستثناء.
ج / 1 ص -162-
حقيقة
عرفنا قطعا أن المستثنى كان داخلا تحت الفظ المذكور وأما
تعلقهم فى حجتهم بفصل الاستثناء.
وقولهم أنه لو كان اللفظ الوارد فى العموم للاستيعاب
والاستغراق لكان الاستثناء نقضا ورجوعا.
قلنا لا يكون نقضا ولا رجوعا لأن ظاهر العموم عنده
الاستغراق إذا تجرد عن الاستثناء أو ما يجري مجراه وإذا
استثنى فلم تجرد.
ونقول أيضا أن لفظ العموم يقتضى استغراق ما دخل عليه وإذا
كان معه استثناء فهو داخل على ما عدا المستثنى ولا جرم هو
مستغرق له.
وأما قولهم أنه إذا عدد أشخاصا ثم استثنى شخصا واحدا منهم
لا يجوز فيجب أن يكون اللفظ العام كذلك.
قلنا هذا كما يلزمنا يلزمكم لأنكم تقولون أن لفظ العموم
حقيقة فى الاستغراق وحقيقة فى البعض لأنه اسم مشترك يتناول
الكل ويتناول البعض فيكون حقيقة فيها مثل اللون والحيوان
ثم قلتم إذا أراد الاستيعاب واستثنى يصح ولو أنه عدد
الأشخاص ثم أنه استثنى لا يصح وهذا لأن الاستثناء إنما
يحسن فى لفظ واحد يشمل أشخاصا ثم يستثنى بعض الأشخاص فأما
إذا تعدد الألفاظ فيصير كل لفظ كالمنفرد عن صاحبه فإذا
استثنى فيكون كأنه استثنى الكل من الكل وهذا لا يجوز لأن
الاستثناء حقيقة هو استثناء البعض من الكل.
دليل آخر وهو أن أهل اللغة فرقوا بين العموم والخصوص
وجعلوا أحدهما فى مقابلة الآخر فقالوا: مخرج هذا اللفظ
العموم ومخرج هذا الخصوص كما فصلوا بين الأمر والنهى وكما
وجب أن يكون لكل واحد منهما لفظ يخصه فكذلك العموم والخصوص
يدل عليه أنهم خالفوا بين تأكيد العموم والخصوص وجعلو
تأكيد أحدهما مخالفا لتأكيد الآخر فقالوا: رأيت زيدا نفسه
ولم يقولوا رأيت زيدا أجمعين وقالوا: رأيت القوم أجمعين
ولم يقولوا رأيت القوم نفسه وكما أن تأكيدهما مختلفان
فكذلك وجب أن يختلفا لأن من حق التأكيد أن يطابق المؤكد.
واعلم أن الفقهاء والمتكلمين قد استكثروا من الدلائل فى
هذه المسألة غير أنا اقتصرنا على أعداد منها معتمدة وأصح
الدلائل الدليل الأول من الآيات والدليل الثانى من حيث
اللغة والدليل الثالث من حيث صحة الاستثناء وقد حرر بعضهم.
ج / 1 ص -163-
فقال
استيعاب الجنس حد هو أحسن التعبير فيكون له صيغة يراد
بصيغته من غير قرينة كالفرد والتثنية.
أما الجواب عن كلماتهم أما الأول قلنا قد أجبنا عن هذه
الشبهة فى ابتداء باب الأوامر فلا معنى للإعادة.
والحرف أنهم يقولون أن لفظ العموم للاستيعاب ولما دونهم
فيدخل عليهم هذه الشبهة كما دخلت علينا وأن ارتكب منهم ما
ارتكب وقال إنها غير موضوعة للاستيعاب بحال فهذا محال لأنا
نعلم بالضرورة وبالنقل عنهم وفى مستعمل كلامهم أن لفظ كل
والجميع إذا استعملت فى الاستغراق لم يكن مجازا ولو لم
نعلم ضرورة يمكن أن ينقل بالتواتر أنهم أضافوا إلى هذه
الألفاظ أحكامها لا يصح إلا إذا كانت الألفاظ عامة نحو
الاستثناء والاستفهام وغير ذلك وذكرنا أيضا أن هذا الكلام
يدخل على من ادعى التوقف والاشتراك وقد سبق تقرير هذا.
وأما دليلهم الثانى قولهم أن هذه الألفاظ تستعمل فى
الاستيعاب وفيما دونه على وجه واحد قلنا أن عنيتم أن هذا
اللفظ يستعمل فى الاستيعاب وما دونه على الحقيقة فلا نسلم
ذلك وكذلك أن قالوا: أنه يستعمل فى كل واحد منهما من غير
قرينة لا نسلمه أيضا.
ونقول ليس استعمال لفظ العموم فيما دون العموم كاستعماله
فى الاستغراق فإن استعماله فى الاستيعاب بصيغة وفيما دونه
بقرينة تنضم إليه وهو من استعمال اسم الحمار فى البهيمة
والبليد واسم الأسد فى الحيوان المخصوص والشجاع وليس كثرة
الاستعمال دليل على الحقيقة ولا قلة الاستعمال بدليل على
المجاز إنما الحقيقة والمجاز يعرفان بوجوه آخر.
ويقال لهم أليس قولنا أمر يستعمل فى الشأن والفعل وليس
بحقيقة فيهما وقد كثر استعمال لفظ الأمر فى الشأن والفعل
كثرة استعمال لفظ العموم فيما دون الاستيعاب فإن قالوا:
إنا عرفنا كون استعمال الأسد فى الشجاع والحمار فى البليد
مجازا بطريق الضرورة فهل تعرفون استعمال لفظ العموم حقيقة
فى الاستيعاب فإذا استعمل فيما دونه فلا بد أن يكون مجازا
وليس كل مجاز يعرف ضرورة ولكن يعرف دليل يقوم عليه فإن
قالوا: أنتم لا تقولوا أن العموم إذا طبق يكون مجازا قلنا
قد ذهب جماعة من الأصوليين أنه يصير مجازا ووافقهم على ذلك
بعض أصحابنا.
ج / 1 ص -164-
وإن
قلنا لا تصير مجازا فلأن المجاز ما استعمل فى غير ما وضع
له والعموم والخصوص قد استعمل فى بعض ما وضع له فلهذا لا
يوصف بالمجاز عند أكثر الفقهاء واعلم أن الخلاف فى هذه
المسألة مع المتكلمين فينبغى إذا تكلمنا معهم أن نقول أنه
يصير مجازا وقد قال الأصحاب على قولهم أن أكثر ألفاظ
العموم تستعمل فى البعض قال يجوز أن يكون اللفظ حقيقة فى
معنى ثم يستعمل فى غيره أكثر.
ألا ترى أن الغائط حقيقة فى الموضع المطمئن ثم أكثر ما
يستعمل فى الخارج من الإنسان وكذلك الشجاع عن حقيقة فى
الحية ثم أكثر ما يستعمل فى الرجل البطل وكذلك العذرة
والمفازة إلى ما يشبه ذلك.
وأما تعلقهم بفصل الاستثناء فقد أجبنا عنه.
وأما قولهم أنه يحسن الاستفهام والتأكيد.
قلنا الاستفهام قد يكون طلبا لمطلق الفهم وإزالة الالتباس
وقد يكون طلبا لزيادة الفهم وزيادة الفهم فهم وهذا لأن
السامع قد يظن أن المتكلم غير متحفظ فى كلامه ويظن به
السهو فيستفهمه ويستبينه بمعنى أن كان ساهيا أزال سهوه.
ألا ترى أنه يحسن أن يقول الرجل ضربت فلانا فنقول أضربت
فلانا أو يقول: ضربت كل من فى الدار فنقول أضربتهم كلهم
فيقول: نعم ضربتهم كلهم فنجيبه باللفظ الأول فدل أن المراد
من الاستفهام هو الاستثبات لظن الغلط.
وأما التأكيد الذى تعلقوا به فيبطل تأكيد الخصوص مثل قول
القائل جاءنى زيد نفسه وكذلك تأكيد ألفاظ الفرد وذلك مثل
قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا
رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وكذلك قولهم ألف تام فقولهم ألف قد أنبأ عن التام.
فإن طلبوا فائدة التأكيد.
قلنا فائدته زيادة العلم وهذا لأن بالتأكيد يزداد الأمر
جلاء وبيانا فيزداد علمنا وقد يكون فى ذلك مصلحة لنا وأن
لم نقف عليها.
ألا ترى أن الله تعالى قد أكثر الأدلة على المدلول الواحد
وأن كان المقصود قد حصل بالدليل الواحد وأيضا يجوز أن يكون
التأكيد لإزالة مجاز أو احتمال مستعمل وعلى الجملة إذا جاز
وجود فائدة للتأكيد لا يوجد فى المؤكد بطل تعلقهم بهذا
الفصل.
وأما دليلهم الذى ذكروه فى كلمة من قولهم أنه يجمع بمنون.
ج / 1 ص -165-
قلنا
قولهم منون وأن كان لفظه لفظ الجمع فليس بجمع على الحقيقة
لأنه يستفاد منه ما يستفاد من قوله من عندنا وعند المخالف
ألا ترى أنه لو قال القائل من أنتم كان استفهاما عن
جماعتهم كما أن قوله منون استفهام عن جماعتهم وعند المخالف
أن ألفاظ العموم كلها مشتركة وليس فى اللغة لفظ يختص
بالاستغراق ولفظ منون عندهم مشترك بين الاستغراق والبعض
كلفظ من فلم تفد أكثر ما تفيده لفظ من فيثبت أن هذا الكلام
يلزمنا ويلزمهم فلم يكن فيه دليل علينا.
وأما الدليل الأخير الذى قالوه فقد أجبنا [عنه]1 واعلم أن
من المتكلمين من حمل لفظ الجمع على أقل الجمع وهو ثلاثة
وتوقف فيما زاد.
وقيل أنه قول أبى هاشم وذهب إليه من الفقهاء محمد بن شجاع
البلخى والدلائل التى أقمناها فى إثبات الاستيعاب واستغراق
اللفظ لكل ما يصلح له يبطل هذا القول وهذا لأنه إذا كان
لاستيعاب كل ما يصلح له فالثلاث وما زاد عليه فى الصلاحية
واحد فليتناول الكل تناولا واحدا فلم يجز أن يحمل على بعض
ما ينتظمه اللفظ دون البعض.
وتعلق من قال بالقول الثانى بأن دخول الثلاثة فى اللفظ
يقين وما زاد يحتمل فلا يثبت دخوله بالشك.
والجواب أن دعوى الشك محال فيما زاد على الثلاث لأن اللفظ
الموضوع للاستيعاب والاستغراق جميع ما يصلح له اللفظ
ويستحيل أن يقال أن بعض ما يصلح له اللفظ يقين وبعض ما
يصلح له مشكوك فيه وهذا لأنه لما يتناول كل الأعداد على
وجه واحد فلم يجز هذا التفريق بوجه ما.
فإن قالوا: أليس إذا قال لفلان على دراهم يقبل تفسيرها
بثلاثة ولا يقبل فيما دون الثلاثة.
قلنا هذا لا يقتضى الاستيعاب.
قالوا: ما قولكم إذا قال لفلان على الدراهم.
قلنا كذلك نقول ولكن إنما لم يحمل على الجميع لأنه لا
يتصور حمله على جميع الدراهم لأنه لا يتصور أن يكون أتلف
عليه كل درهم فى الأرض أو استقرض كل درهم فى الأرض فعدل عن
العموم لأنه لم يكن حمله على العموم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة في الأصل.
ج / 1 ص -166-
ومن فروع هذه المسألة:
أن أبا بكر الصيرفى قال إذا ورد لفظ العموم يجب أن يعتقد
العموم بنفس الورود.
وقال ابن سريج يتوقف الاعتقاد إلى أن يعرضه على دلائل
الشرع فإذا لم يجد الخصوص اعتقد العموم واحتج من ذهب إلى
القول الأول بأن لفظ العموم موضوع للاستغراق فإذا ورد وجب
أن تعتقد ما وضع له اللفظ كلفظ الخصوص وكلفظ الأمر والنهى
قال ولأن النظر لا يتناهى فيجوز أن لا يجد مخصصا فى النظر
ثم نجد فى النظر الثانى وما لا يتناهى لا يصار إليه قال
فلأن الذى صار إليه ابن سريج قول بالوقف وقد ذكرنا بطلانه.
وأما الدليل لما ذهب إليه ابن سريج هو أن اللفظ الموضوع
للاستغراق هو اللفظ المتجرد عن القرائن المخصصة ولا بد من
طلب التجرد ليحمل على المعنى الموضوع له اللفظ وهذا الطلب
يعرض للخطاب الوارد على دلائل الشرع لتعرف هل وجد هناك
دليل يخص اللفظ أو لا ثم إذا لم نجد فقد أصاب اللفظ المجرد
عن قرينة مخصصة فيحمل حينئذ على الموضوع له وهو الاستيعاب
ونعتقد ذلك وهذا مثل البحث عن عدالة الشهود ووجوب الحكم
هناك مثل اعتقاد العموم هاهنا.
وأما قولهم أنه وضع للاستيعاب.
قلنا بلى ولكن إذا تجرد عن قرينة والمقصود من العرض التوقف
إلى أن بعرض طلب هذا التجرد.
وأما قولهم أن العرض لا يتناهى.
قلنا ما لا يتناهى يقطع فى بدايته.
ألا ترى فى البحث عن عدالة الشهود لا يؤمن أن يطلع على جرح
عند إعادة البحث ولكن لا يعتبر ذلك لأنه لا يتناهى وكذلك
المجتهد إذا رفعت إليه حادثة يعرض الحادثة على الكتاب
والسنة لطلب النص ويبحث مرة واحدة وأن كان يجوز أن يجد
النص عند إعادة العرض ولكن لا يعتبر ذلك لما بينا وأما
الذى قالوا: أن هذا قول بالوقف فليس كذلك لأن الواقفية لا
يجعلون العموم صيغة يخصها أصلا وأما ابن سريج فيجعل العموم
صيغة إذا تجردت عن قرينة ويطلب التجرد وإذا وجدها لأن تحقق
صيغة العموم بها اعتقد العموم والله أعلم.
ج / 1 ص -167-
فصل ونذكر الآن ألفاظ العموم فنقول.
أولها ألفاظ الجموع وسواء فيها جمع السلامة وجميع التكسير1
كقوله اقتلوا المشركين واعمروا المساجد وهذا النوع أبين
وجوه العموم ثم بعد هذه الأسماء التى يدخلها الألف واللام
للجنس2 كقولك الحيوان والنبات والجماد يراد بها تعميم هذه
الأجناس ومن هذا الباب قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}
[المائدة: 38]:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] فلا سارق إلا وعليه القطع بالآية ولا زانى إلا وعليه
الجلد بالآية وقد قال بعضهم مثل هذا اللفظ لا يكون للعموم
وإنما يكون للعهد قال أبو هاشم يفيد الجنس دون الاستغراق
وأما عندنا هو العموم لأن نفس اللفظ وأن كان لفظا مفردا
ولا يدل على العموم ولكن دخل عليه ما يوجب عمومه وهو لام
الجنس وهذا لأنه لو لم يستغرق قولنا الإنسان جميع الجنس
لأفاد واحدا غيره يقينا وإذا قلتم بهذا فقد كان هذا
مستفادا بالاسم قبل دخول الألف واللام عليه فلا يبقى لدخول
الألف واللام فائدة فدل أن فائدتهما الاستغراق.
قالوا: أنه لو استغرق الجنس لجاز مع أنه لفظة واحدة أن
يؤكد كل وجميع كلفظ من نحو قوله كل من دحل دارى أكرمته ولا
يستقيم أن يقول الرجل رأيت الإنسان كلهم ولا أن يقول:
جاءنى الرجل أجمعون وأيضا فإنه يقبح الاستثناء.
ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول: رأيت الإنسان إلا المؤمنين
ولو كان للعموم فحسن ذلك.
قالوا: وأما قوله تعالى:
{وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}
هو على طريق المجاز ويحتمل أيضا أن الخسارة لما لزمت جميع
الناس إلا المؤمنين جاز هذا الاستثناء.
والجواب أن أصحابنا اختلفوا أن العموم من حيث اللفظ فى هذه
الصورة أو من حيث المعنى فالأولى أن نقول أن العموم من حيث
المعنى وذلك لأن الألف واللام لا بد أن تفيد التعريف وليس
التعريف إلا تعريف الجنس وإذا قلنا أن اللفظ يفيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان لإمام الحرمين 1/322 إحكام الأحكام 2/290
انظر نهاية السول 2/322.
2 المحصول 1/378 إحكام الأحكام 2/301 روضة الناظر 195 أصول
الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/207.
ج / 1 ص -168-
واحدا
من الجنس خرج الألف واللام من كونهما للجنس ولم يبق لهما
فائدة وإذا ثبت أنهما للجنس ثبت الاستغراق ولأنه إذا قال
الإنسان يفيد دخول كل من كان من جنس الإنسان فى اللفظ
ولهذا المعنى صح قولهم أهلك الناس الدينار والدرهم البيض
فيعنون كل واحد منهما بالجمع فدل أنهما يفيدان الاستغراق
ويقال هلكت الشاة وهلك البعير وهلك الحيوان ويراد به
العموم دل أنه مفيد له على الوجه الذى قدمنا وأما الألف
واللام إذا دخلا على الجمع فلا بد من كونه مفيدا للاستغراق
والدليل عليه حسن الاستثناء فإنه إذا قال اعط المسلمين
فإنه يجوز أن يستثنى كل من شاء منهم وكذلك إذا قال رأيت
الناس يجوز أن يستثنى أى إنسان أراد من الناس والاستثناء
يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه يدل عليه أنه إذا
قال رأيت ناسا يفيد أنه رأى من هذا الجنس ولا يفيد
الاستغراق فلا بد أن يفيد دخول الألف واللام فائدة ولا
فائدة إلا الاستغراق.
ومن ألفاظ العموم الأسماء المبهمة نحو من و ما والفرق بين
من و ما أن كلمة من عامة فيمن يعقل لأنك إذا قلت: من فى
الدار استقام الجواب بكل من يعقل ولا يستقيم الجواب عنه
بالشاة والثوب وإذا قلت: ما فى الدار ولا يستقيم الجواب
عنه بالعاقل1 لكن لا يعقل فنقول حمار أو شاة أو ثوب وما
أشبه ذلك ومن أسماء العموم الأسماء المبهمة نحو من و ما
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من بدل دينه فاقتلوه"2
"ومن أحيا أرضا ميتة فهى له"3 "وما أكلت
العافية فهى له صدقة"4.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/290 نهاية السول 2/322
المحصول 1/356 روضة الناظر 195 أصول الفقه للشيخ أبو النور
زهير 2/207.
2 أخرجه البخاري الجهاد 6/173 ح 3017 وأبو داود الحدود
4/124 ح 4351 والترمذي الحدود الحدود 4/59 ح 1458 والنسائي
تحريم الدم 7/95 باب الحكم في المرتد وابن ماجه الحدود
2/848 ح 2535 وأحمد المسند 1/368 ح 2555.
3 ذكره البخاري الحرث 5/23 باب من أحيا أرضا مواتا معلقا
وأبو داود الخراج 3/174 ح 3073 والترمذي الأحكام 3/653 ح
1378 وقال حسن غريب ومالك في الموطأ الأقضية 2/743 ح 26,
27 وأحمد المسند 3/414 ح 14648.
4 أخرجه النسائي في الكبرى 3/404 ح 5756 - 5758 والدارمي
البيوع 2/346 ح 2607 وأحمد المسند 3/414 ح 14648 والبيهقي
في الكبرى 6/244 ح 11814 وابن حبان 1136/موارد بلفظ
العوافي بدل العافية.
ج / 1 ص -169-
وأين
وحيث تعمان الأمكنة ومتى تعم الأزمنة وكل تعم الفرد النكرة
لقولنا كل رجل وكل زيد وكل الناس1 وكلما تعم الفعل2 لقول
القائل كلما فعلت فعلا يتناول الأفعال على العموم واعلم
أنه لا فرق فى ألفاظ العموم بين الأسماء المشتقة وأسماء
الأجناس وأسماء الصفات كقولك اعط المسلمين اعط الناس اعط
الطوال فكل ذلك يستغرق كل ما يصلح له.
وأما ألفاظ النكرات نحو قولك رجل فإنه عام على البدل غير
عام على الجمع.
وإنما قلنا أنه عام على البدل لأنه يتناول كل رجل على
البدل من صاحبه.
وقد قال عامة أهل العلم أن النكرة إذا كانت نفيا استغرقت
جميع الجنس كقولهم ما رأيت رجلا وما رأيت إنسانا وأما إذا
خرج على الإثبات فلا يقتضى الاستغراق وأما إذا قال رأيت
رجالا ولقيت ناسا فأقل ما يقتضيه ثلاثة من جماعتهم فإن قيل
أليس أن الله تعالى قال:
{إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ
نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] وهذا على العموم لأن الله تعالى لم يرد شيئا دون شيء
لأن قدرته عامة شاملة جميع الأشياء محيطة بها كلها.
قلنا قد قالوا: فى تأويل الآية وتخريجها وجهين أحدهما أن
فيها إضمارا والمعنى أما قولنا لكل شىء أو لشىء شىء فاكتفى
بذكر أحدهما لأن فيه دلالة على الأول.
والوجه الآخر أن عمومه من طريق المعنى لا من طريق اللفظ
وذلك لأن الأشياء متساوية فى قدرته فإذا أخبر عن نفوذ
قدرته فى بعضها فقد دل بالمعنى على نفوذ قدرته فى سائرها
وأما كلمة أى فقد قيل هى بمنزلة النكرة لأنها تصحب النكرة
لفظا ومعنى يقول القائل أى رجل فعل هذا وأى دار تريدها قال
الله تعالى:
{أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} [النمل: 38] وهى نكرة معنى لأن المراد بها واحد منهم.
وقد ألحق بعض الأصوليين هذا الباب ما يفيد العموم من جهة
المعنى وذلك يكون بأن يقترن باللفظ ما يدل على العموم وأن
كان اللفظ لا يدل عليه فمن ذلك أن يكون اللفظ مفيدا للحكم
ومفيدا لعلته ليقتضى شيوع الحكم فى كل ما شاعت فيه العلة.
ومن ذلك أن يكون المفيد لعموم اللفظ يرجع إلى سؤال السائل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام 2/290 المحصول 1/ 356 نهاية السول
2/325, 326 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير.
2 انظر نهاية السول 2/326 روضة الناظر 196.
ج / 1 ص -170-
ومن
ذلك دليل الخطاب المقتضى للعموم.
فالأول مثل قوله صلى الله عليه وسلم فى الهرة إنها ليست
بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات فاقتضى عموم طهارة
كل ما كان من الطوافين علينا وأمثال هذا تكثر وأما المقتضى
للعموم وما يرجع إلى السؤال نحو أن يسأل النبي صلى الله
عليه وسلم عمن جامع زوجته فيقول: عليه الكفارة فيعم ذلك كل
من أفطر وأما العموم مفهوم الخطاب نحو قوله صلى الله عليه
وسلم فى سائمة الغنم زكاة فدل هذا أن لا زكاة فى كل ما
ليست بسائمة.
مسألة: واختلف أصحابنا فى المجاز هل يتعلق به العموم على
وجهين:
فقال بعضهم لا يدخل فى العموم إلا الحقائق وقال آخرون
يدخل فيه المجاز كالحقيقة لأن العرب تتخاطب به كما تتخاطب
بالحقيقة واختلف الأصحاب أيضا أن لفظ العموم هل يتناول ما
يمنع دليل النقل من إجراء حكمه عليه كقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وكقول القائل اضرب كل من فى الدار ونحو ذلك لأن الله تعالى شىء
ويمنع العقل أن يكون خالق نفسه وكذلك يمنع العقل أن يكون
المأمور يضرب كل من فى الدار مأمورا بضرب نفسه فقال بعضهم
أن موضوع اللفظ يتناوله لأن الدليل يوجب إخراجه منه.
وقال آخرون بل هو خارج منه لسقوطه فى نفسه بما ذكرناه
وقالت هذه الطائفة أن اللفظ لم يتناوله أصلا فهذا هو
الكلام فى ألفاظ العموم ويلحق هذا الموضع ما صح فيه دعوى
العموم ما لا يصح وجملة ذلك أن العموم يصح دعواه فى نطق
ظاهر يستغرق الجنس لفظه كالألفاظ التى ذكرناها فيما تقدم
وأما الأفعال فلا يصح فيها دعوى العموم لأنها تقع على صفة
واحدة فإن عرفت تلك الصفة اختص الحكم بها وأن لم تعرف صار
مجملا فيما عرفت صفته مثل ما روى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه جمع بين الصلاتين فى السفر فهذا مقصور على ما ورد
فيه وهو السفر ولا يحمل على العموم وما لم تعرف مثل ما
يروى أنه عليه السلام جمع بين الصلاتين فى السفر فلا نعلم
أنه كان فى سفر طويل أو سفر قصير إلا أنه معلوم أنه لم يكن
إلا فى سفر واحد فإذا لم يعلم ذلك تعينه وجب التوقف فيه
حتى تعرف ولا يدعى هو العموم وكذلك القضايا فى الأعيان لا
يجوز دعوى العموم فيها وذلك مثل ما روى أنه صلى الله عليه
وسلم قضى بالشفعة للجار وقضى فى الإفطار بالكفارة وما أشبه
ذلك فلا يجوز دعوى.
ج / 1 ص -171-
العموم
فيها بل يجب التوقف لأنه يجوز أن يكون قضى بالشفعة لجار
بصفة تختص بها أو قضى بالكفارة بجماع أو بغيره فيما يختص
به المحكوم عليه فلم يكن دعوى العموم وقال بعضهم أن روى
أنه كان يقضى تعلق بعمومه لأن ذلك للدوام ألا ترى أنه يقال
فلان كان يقرى الضيف ويصنع المعروف وقال الله تعالى فى
إسماعيل عليه السلام وكان يأمر أهله بالصلاة والمراد به
التكرار.
فصل: وكذلك الخطاب الذى يفتقر إلى الإضمار لا
يجوز دعوى العموم فى إضمار.
مثل قوله تعالى:
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
يفتقر إلى إضمار فبعضهم يضمر وقت إحرام الحج أشهر معلومات
وبعضهم يضمر وقت أفعال الحج أشهر معلومات والحمل عليها لا
يجوز بل يعمل بما يدل عليه الدليل وهذا لأن العموم من
صفاته النطق فلا يجوز دعواه فى المعانى وعلى هذا قالوا: لا
يجوز دعوى العموم فى قوله لا صصصلاة لجار المسجد إلا فى
المسجد يعنى نفى الجواز والفضيلة وكذلك قوله لا صيام لمن
لم يبيت الصيام من الليل ولا يجوز دعوى العموم فيه لنفى
الجواز والفضيلة وكيف يجوز دعوى العموم على هذا الوجه وإذا
انتفى الجواز لا يتصور انتفاء الفضيلة لأنه لا بد من وجود
الجواز ليتصور انتفاء الفضيلة وعلى هذا قوله عليه السلام
لا نكاح إلا بولى قوله لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض فكذلك
قوله عليه السلام رفع القلم عن ثلاثة وقد جعل بعض الفقهاء
هذه الألفاظ مجملة وسيأتى من بعد الكلام فى المجمل وبعضهم
جعل هذه الألفاظ عامة فى كل ما يحتمله والله أعلم.
مسألة أقل ما يتناوله اسم الجمع عندنا ثلاثة.
وهو أيضا قول الأكثر من أصحاب أبى حنيفة وذهب طائفة من
الفريقين أن أقل الجمع اثنان وهو اختيار القاضى أبى بكر
محمد بن أبى الطيب من المتأخرين وهو أيضا قول محمد بن داود
من المتقدمين1 وإليه ذهب بعض من النحويين وتعلقوا بقوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ الآمدي اختلف العلماء في أقل الجمع هل هو
اثنان أو ثلاثة وليس محل الخلاف ما هو المفهوم من لفظ
الجمع لغة وهو: ضم شيء إلى شيء فإن ذلك في الاثنين
والثلاثة وما زاد من غير خلاف وإنما محل النزاع في اللفظ
المسمى بالجمع في اللغة.
فنقول: مذهب عمر وزيد بن ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر
والأستاذ أبي إسحاق......=
ج / 1 ص -172-
تعالى:
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ
نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ
شَاهِدِينَ} [الانبياء:78] ورد الكناية إلى الاثنين بلفظ الجمع وتعلقوا أيضا
بقوله تعالى:
{إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ}
[صّ: 21] الآية فاستعمل فى الاثنين لفظ الجمع وتعلقوا أيضا
بقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وإنما لهما قلبان وقد ذكرهما بلفظ الجمع وتعلقوا
بقوله عليه السلام الاثنان فما فوقهما جماعة1 والمعتمد لهم
شيئان أحدهما أن الجمع فى صيغة اللغة هو ضم الشىء إلى
الشىء وهذا فى الاثنين مثله فى الثلاث وإذا وجد الجمع
حقيقة فى الاثنين صح أن يتناوله اسم الجمع حقيقة.
والثانى أن الاثنين يقولان فى المخاطبة فعلنا كذا ويقولان
دخلنا وخرجنا وأكلنا وشربنا فإذا خاطبا خطاب الجمع دل
أنهما جمع مثل الثلاث سواء وأما دليلنا ما روى أن ابن عباس
احتج على عثمان رضى الله عنهم فى أن الأخوين لا يحجبان
الأم من الثلث إلى السدس بقوله تعالى:
{فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقال ليس الأخوان إخوة فى لسان قومك فقال عثمان رضى
الله عنه لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلى وتوارثه الناس
ومضى فى الأمصار فلو لم يكن ذلك مقتضى اللغة لما صح
احتجاجه وما أقره عليه عثمان وهما من فصحاء العرب وأرباب
اللسان.
فإن قيل روى عن زيد بن ثابت أنه قال الأخوان إخوة فصار
مخالفا لهما.
قلنا المراد بذلك أنهما كالإخوة فى الحجب.
والمعتمد هو الاستدلال من حيث اللغة فنقول الدليل على أن
لفظ الجمع لا يتناوله الاثنين أنه لا ينعت بالاثنين وينعت
بالثلاثة فإنه يقال رأيت رجالا ثلاثة ولا يقال رأيت رجالا
اثنين ويقال أيضا رأيت جماعة رجال ولا يقال رأيت جماعة
رجلين فإن كانت الجماعة لا تنعت بالاثنين بحال عرفنا أنه
لا يتناولها اسم الجمع بحال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وجماعة من أصحاب الشافعي رضي الله عنه كالغزالي وغيره
أنه اثنان ومذهب ابن عباس والشافعي وأبي حنيفة ومشايخ
المعتزلة وجماعة من أصحاب الشافعي أنه ثلاثة وذهب إمام
الحرمين إلى أنه لا يمتنع رد لفظ الجمع إلى الواحد انظر
إحاكم الأحكام 2/324 نهاية السول 2/394 المحصول 1/351.
1 إسناده ضعيف أخرجه ابن ماجه في إقامة الصلاة 1/312
الحديث 972.
ج / 1 ص -173-
ونقول
أيضا الأسماء سمات والسمات علامات لما وسم بها من الأعيان
فسمة الاثنين مخالفة لسمة الجماعة كما كانت سمة الواحد
مخالفة لسمة الاثنين وعلى هذا جرت العادة بالتفضيل فى
الأعداد.
وقيل آحاد ومثانى وجموع فكان هذا دليلا أن الجمع بعد
التثنية كما أن التثنية بعد الواحد وكذلك هذا الاختلاف فى
تفصيل عدد الأجناس قالوا: رجل ورجلان فإذا بلغ العدد ثلاثة
قالوا: رجال وقيل امرأة وامرأتان ثم تركوا هذا الاسم فى
الجمع قالوا: أيضا فدل أن سمة الاثنين متميزة عن سمة
الجماعة فى الوجوه كلها.
وأما الجواب عن دليلهم وتعلقهم بالآية الأولى والثانية فما
ذكرنا دليل على أن ذلك مذكور على وجه المجاز لا على وجه
الحقيقة وأما قوله تعالى:
{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] فقد قيل أن هذا الباب مخصوص لا يقاس عليه غيره وهو
باب مفرد فى ذكر ما فى الإنسان من الجوارح فقوله:
{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] وكذلك قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والمراد بذلك اليمين من كل واحد منهما ولو كان لزيد
خاتم ولعمرو خاتم لم يصلح أن نقول خذ خواتيمهما والمراد
خاتم واحد من كل واحد بل الصحيح أن نقول خذ خاتمهما فصار
هذا مخالفا لجوارح الإنسان فافهم هذا فإنه يأت جنس فى
العربية وقد قالوا: يوم أعشار وثوب أخلاق ولم يدل ذلك أن
الواحد اثنان.
وكان الحجاج يقول: يا غلام اضربا عنقه وخليا عنه ومن هذا
قوله تعالى:
{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [قّ:24] وأما الخبر الذى رووه فلا نعرف صحته وعلى أن المراد به أن
حكم الاثنين حكم الجماعة فى ثواب صلاة الجماعة وانعقادها
وهذا لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يحمل على تأويل
الاسم اللغوى.
وأما قولهم أن الجمع حقيقته الضم قلنا نعم ولكنه من ضم
ثلاثة بعضها إلى بعض وكذلك ما زاد عليه واللغة على ما وردت
لا على ما يدل عليه القياس.
ألا ترى أن الواحد يوجد فيه ضم بعض الأشياء إلى البعض لأنه
جوهر متركب من أشياء مختلفة ومع ذلك لا ينطلق عليه اسم
الجمع وقد نقض الأصحاب ما يصيرون إليه من الاشتقاق فى اسم
الجمع بفصل الدابة والجنين والقارورة وغير ذلك.
وأما الكلام الثانى الذى اعتمدوا عليه وهو الخبر عن فعل
اثنين بلفظ فقد يتفق اللفظان فى موضع الغنية عن التفريق
بينهما ولا يدل ذلك على الجمع فى المعانى.
ج / 1 ص -174-
كقولك
للمرأتين أنتما وهما وكذلك تقول للرجلين وكما تقول
المرأتان جعلنا كما تقول الرجلان وإنما كان كذلك لأن
السمات موضوعة للتمييز ورفع الاشتباه فإذا كان الكلام فى
أمر معلوم عند المخاطب وكان الإخبار عن حاضرة علم
بالمشاهدة استغنى عن التمييز ولفظ أنتما خطاب لحاضر وكذلك
لفظ فعلنا خطاب من المشاهدة وعمن يضاف إليه ممن هو معلوم
حالته فأما ما كان بخلاف ذلك مما يدخله الشبهة لا يقاس
عليه غيره ولا بد من سمة التمييز والكلام الأول بدون هذا
كاف والله أعلم.
فصل نقول فى ابتداء هذه المسألة أن التخصيص
تمييز بعض الحكمة بالحكم.
ولهذا يقال خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو كذا
وخص فلان بكذا وأما تخصيص العموم فهو بيان ما لم يرد
باللفظ العام ويجوز دخول التخصيص فى جميع ألفاظ العموم من
الأمر والنهى والخبر.
ومن الناس من قال لا يجوز فى الخبر كما لا يجوز فيه دخول
النسخ وهذا خطأ لأنا بينا أن التخصيص بيان ما لم يرد
باللفظ العام وهذا يصح فى الخبر كما يصح فى الأمر1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن في هذه المسألة قولان:
أولا: وهو قول جمهور العلماء فهم متفقون على أن التخصيص
جائز وواقع في الخبر وفي غيره من الأوامر والنواهي.
ثانيا: رأى شذوذ من العلماء أن التخصيص غير جائز في الخبر.
وقد استدل الجمهور على الجواز بالوقوع فقد وقع التخصيص في
الخبر كما وقع في الأمر والنهي والوقوع أوضح دليل على
الجواز.
أما وقوع التخصيص في الخبر فكقوله تعالى:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} وقوله تعالى:
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
وقوله تعالى في حق الريح:
{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا
جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} فإن العقل يقضي بأن هذه الأخبار ليس مرادا منها العموم ضرورة أن
الله لم يخلق ذاته ولا صفاته كما أن القدرة لم تتعلق بهما
لأن القدرة لا تتعلق بالواجب العقلي - وقد أتت الريح على
الأرض والجبال فلم تجعلها كالرميم وإذا كانت هذه الأخبار
غير مرادة على العموم يكون التخصيص قد دخلها فيكون التخصيص
واقعا في الخبر وأما وقوعه في الأمر فكقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} فإنه ليس كل سارق يقطع بل يقطع من سرق النصاب بشروط معلومة في
الفروع - وليس كل زان يجلد بل الذي يجلد هو الزاني غير
المحصن.
وأما وقوعه في النهي فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع الرطب بالتمر وأجاز ذلك في العرايا فكان....=
ج / 1 ص -175-
مسألة العموم إذا خص لم يصر مجازا فيما بقى بل هو على
حقيقة فيه.
والاستدلال به صحيح فيما عدا المخصوص ولا فرق عندنا بين أن
يكون التخصيص بدليل متصل باللفظ أو دليل منفصل وذهب قوم من
المتكلمين إلى أنه يصير مجازا متصلا كان الدليل المخصص أو
منفصلا.
وذهب جماعة من أصحاب أبى حنيفة إلى أنه يصير مجازا فى حال
دون حال اختلفوا فى تفصيل الحال فقال بعضهم أن خص بدليل
لفظى لم يصر مجازا متصلا كان الدليل أو منفصلا وأن خص
بدليل غير لفظى كان مجازا.
وقال آخرون يكون مجازا إلا أن يخص بدليل متصل وهذا يحكى عن
عيسى بن أبان وعن أبى الحسن الكرخى ومحمد بن شجاع وأما أبو
بكر الرازى فذهب إلى ما ذهبنا إليه1 وذهب من جعله مجازا
إلى المنع من الاستدلال بالعموم المخصوص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هذا النهي مخصوصا.
أما استدلال المخالفون فقد قالوا: إن تخصيص الخبر يوهم
الكذب في خبر الله تعالى وإيهام الكذب محال على الله تعالى
كالكذب سواء بسواء فما أدى إليه وهو تخصيص الخبر يكون
محالا انظر إحكام الأحكام 2/410 أصول الفقه للشيخ أبو
النور زهير 2/244, 245.
1 اعلم أن في هذه المسألة ثمانية مذاهب:
أحدها: العام بعد التخصيص مجاز في الباقي مطلقا سواء كان
متصلا أو منفصلا كان المنفصل عقليا أو لفظيا - وهذا القول
هو المختار للبيضاوي وابن الحاجب وهو المعروف عند جمهور
الأشاعرة.
والثاني العام حقيقة في الباقي مطلقا كان المخصص متصلا أو
منفصلا وهذا القول للحنابلة وبعض الحنفية ونقله بعض
العلماء عن كثير من الشافعية.
الثالث: العام حقيقة في الباقي إن كان المخصص له شرطا أو
صفة فإن كان المخصص له استثناء أو غاية أو كان لفظيا أو
عقليا وهذا القول للقاضي أبي بكر الباقلاني.
والرابع العام حقيقة في الباقي إن خص بمتصل وهو الشرط
والصفة والغاية والاستثناء مجاز إن خص بمنفصل سواء كان
لفظيا أو عقليا وهذا القول لأبي الحسين البصري من
المعتزلة.
الخامس: العام حقيقة في الباقي من حيث التناول ولكنه مجاز
من حيث الاقتصار عليه والإرادة وهذا المذهب للإمام أبي بكر
الرازي وبعض الحنفية.
والسادس: العام حقيقة في الباقي إن كان الباقي جمعا فإن
كان الباقي ليس جمعا كان العام مجازا فيه وهو لأبي بكر
الجصاص من الحنفية.......=
ج / 1 ص -176-
وأما
من ذهب إلى أنه يصير مجازا احتج فى ذلك وقال أن العموم فى
وضع اللغة للاستيعاب فإذا اختص فقد استعمل اللفظ فى غير ما
وضع له وإذا وجد حد المجاز لا بد أن يصير اللفظ مجازا.
قالوا: لا يجوز أن يقال أن أهل اللغة وضعوا اللفظ العام
للاستغراق مع فقد القرينة ووضعوه للخصوص عند وجود القرينة
وذلك لأنا لو اعتبرنا هذا لم يبق مجازا فى كلام العرب لأنه
يمكن أن يقال أن الألفاظ كلها وضعت مع وجود القرائن لما
تدل عليه القرائن فإن هذا رفع المجاز من الكلام أصلا لأن
القرائن كثيرة لا تخص فلا يمكن أن يحصروها حتى يضعوا
العموم مع كل واحد منهما لما يقتضيه.
ببينة أن العموم ضد الخصوص والخصوص ضد العموم فكيف يتصور
مع وجود ضد العموم أن يبقى العموم على حقيقته.
قالوا: وأما إذا كانت القرينة المخصصة متصلة باللفظ مثل
الاستثناء والشرط والصفة فإنما لم يصر مجازا لأن هذه
الأشياء الثلاثة من جملة الكلام الملفوظ الذى هو العموم.
وإذا صار من جملته فلا يكون لفظ العموم بانفراده حقيقة ولا
مجازا ويكون العموم مع الاستثناء أو الشرط أو الصفة
بمجموعة حقيقة فيما يقتضيه وبيان هذا أن القائل إذا قال
اضرب بنى تميم إلا من دخل الدار أو اضرب بنى تميم الطوال
أو اضرب بنى تميم أن كانوا طوالا فإنه لم يرد بعضهم وحده
لأنه لو كان كذلك ما كان قد أراد الاستثناء أو الشرط أو
الصفة شيئا لأن هذه الأشياء لم توضع لشىء يستقل فى دلالتها
عليه فيقال أن المتكلم قد أراد لها ذلك الشىء أو أراد
بالعموم وحده البعض ولأنه إذا أراد البعض بلفظ العموم لم
يبق شىء زائد بالاستثناء أو الشرط أو الصفة فثبت أنه عبر
عن البعض بمجموع الأمرين وإذا ثبت أن المتكلم لم يرد
بلفظه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والسابع العام حقيقة في الباقي إن كان المخصص له شرطا أو
صفة فإن كان المخصص له استثناء أو غاية أو كان المخصص
مستقلا مطلقا أو عقليا كان العام مجازا في الباقي وهذا
القول للقاضي عبد الجبار من المعتزلة.
الثامن العام حقيقة في الباقي إن كان له دليلا لفظيا سواء
كان متصلا أو منفصلا فإن كان المخصص له عقليا كان العام
مجازا في الباقي انظر نهاية السول 2/395 المحصول 1/396,
397 إحكام الأحكام 2/330 البرهان 1/410 المستصفى 2/54
المعتمد 1/262 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/255/256.
ج / 1 ص -177-
العموم
وحده الاستغراق ولا البعض ثبت أنه إذا كان مع هذه الأمور
لم يكن فأراد به حقيقة ولا مجازا وله إذا عنى البعض بمجموع
الأمرين وهما لا يفيدان بمجموعهما إلا ذلك البعض ثبت أن
ذلك حقيقة فيهما وأما فى القرينة المنفصلة فقد أراد
المتكلم بنفس لفظ العموم بعض ما يتناوله فيكون مجازا على
ما بينا ثم قالوا: أنه إذا ثبت أنه صار مجازا خرج من أن
يكون له ظاهر فلم يجز التعلق بظاهره ولأن العموم المخصوص
يجرى مجرى أن يقول الله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ثم يقول: لا تقتلوا بعض المشركين فكما يمنع ذلك من
التعلق بظاهر اللفظ كذلك غيره من التخصيص هذا حجة عيسى بن
إبان.
وقال بعضهم أن العموم المخصوص يجوز أن يكون فى الأدلة ما
يخصه ثانيا فامتنع التعلق به لجواز أن يدل عليه تخصيص آخر.
وقال بعضهم أن العلة المخصوصة لا يجوز التعلق بها كذلك
العموم المخصوص وأما حجتنا فتقول أن لفظ العموم يتناول ما
عدا المخصوص بأصل وضعه فلا يكون مجازا فيه وتصور موضعها
حتى يزول الإشكال فنقول قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] يتناول كل المشركين بعمومه وليس كلهم سوى آحادهم فهو
إذا عبارة عن كل واحد منهم ولهذا لو تركنا فظاهره مقارنة
قتل كل واحد من آحاد المشركين إلى أن يستوعبوا بالقتل وإذا
خرج بعض المشركين عن الآية بدليل دل عليه فيعلم قطعا أنه
تناول الباقين بأصل وضعه وإذا تناوله بأصل الوضع كان حقيقة
وهو مثل العشيرة إذا أخرج بعضها بالاستثناء فإنها تكون
حقيقة فى الباقى كذلك هاهنا.
ببينة أنه إذا كان اللفظ متناولا ما عدا المخصوص على ما
بينا فالمتكلم بالخطاب إذا كان حكيما فلا بد أن يعنى ما
يتناوله اللفظ إلا أن يدلنا على أنه ما عناه وهذا لأن
الحكيم إذا خاطب قوما بلغتهم فإنه يعنى بخطابه لهم ما يدل
عليه ذلك الخطاب عندهم وإلا كان ملبسا عليهم ولهذا المعنى
إذا أورد العموم ولم يدل دليل على تخصيصه حمل على ظاهره من
العموم لما ذكرناه اللهم إلا أن يقوم دليل يوجب تخصيصه
وإذا ثبت أنه قد عنانا بالخطاب ما عدا المخصوص ثبت أن
الحجة قائمة بالعموم فيما عدا المخصوص وليس يدخل على هذا
إذا خص العموم تخصيصا مجملا وهذا نحو قول الله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ثم قال أنا لم أرد بعضهم ولا يدرى من المعنى بذلك
البعض فإنه لا يجوز الاحتجاج بمثل هذا العموم المخصوص.
ج / 1 ص -178-
لأن كل
من جعل الآية حجة فى مثله يجوز أن يكون هو من البعض
مخصوصا.
فأما إذا كان المخصوص معلوما فقد بينا وجه كون العموم حجة
فى الباقى وقد ورد من الصحابة التعلق بالعموم المخصوص فإن
عليا رضى الله عنه قال فى الجمع بين الأنثتين المملوكتين
فى الوطء أحلتهما آية وحرمتهما آية وقد روى عن عثمان رضى
الله عنه مثل ذلك1 وعنيا بقولهما أحلتهما آية قوله تعالى:
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وعنيا بآية التحريم قوله تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} ومعلوم أن قوله تعالى:
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مخصوص منه البنت والأخت واحتج ابن عباس رضى الله عنهما فى قليل
الرضاع بقوله تعالى:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}
[النساء: 23] وقال قضاء الله تعالى أولى من قضاء ابن
الزبير وأن كان وقوع التحريم بالرضاع يحتاج إلى شروط وذلك
يوجب تخصيص الآية ولا يعرف لهؤلاء مخالف من الصحابة.
واستدلال الصحابة بالعمومات المخصوصة كثير لأنه لا يعرف
عموم يلحقه خصوص إلا فى الندب وعلى الشذوذ فإن عامة ما
ينطق به الصحابة والعلماء من بعدهم من العمومات فهى عمومات
مخصوصة وقد قال الأصحاب فى أصل المسألة أن إيصال التخصيص
بالعموم إيصال بيان اللفظ واتصال البيان باللفظ لا يجعله
مجازا ولا يخرجه من أن يكون حجة كالمجمل إذا اتصل به
البيان وإنما قلنا أن التخصيص بيان لأنه يبين أن اللفظ لم
يتناول المخصوص ولا شمله وهذا باق بلا إشكال والاعتماد على
الدليل الأول.
أما الجواب قلنا قولهم العام المخصوص لفظ مستعمل فى غير ما
وضع له.
قلنا لا كذلك بل هو مستعمل فيما وضع له فيما سبق وهذا لأن
لفظ العموم للاستيعاب إذا لم يقترن به دليل يوجب تخصيصه
فأما عند وجود قرينة مخصصة توجب تخصيصه فلا بل اللفظ عند
وجود القرينة موضوع لما وراء المخصوص.
وقولهم أن هذا يؤدى إلى رفع المجاز من الكلام لا يصح لأنه
إذا كان اللفظ مستعملا فى أصل ما وضع له اللفظ إلا أنه فى
البعض دون البعض.
فإذا قيل هو حقيقة فيه كيف يؤدى إلى رفع المجاز نعم لو
قلنا أن لفظ الأسد عند اتصال القرينة وضع للشجاع حقيقة كان
يؤدى إلى ارتفاع الكلام من الكلام لأنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ النكاح 2/538 ح 34.
ج / 1 ص -179-
مستعمل
فى غير ما وضع له فى الأصل ويلزم على ما قالوه لفظ العشرة
مع استثناء بعضها فإنه حقيقة فيما وراء المستثنى عند أصحاب
أبى حنيفة وأن كان قد استعمل لفظ العشرة فى غير العشرة ومع
ذلك لم يكن مجازا.
قيل أن لفظ العشرة من غير قرينة موضوع لهذا العدد فأما مع
قرينة الاستثناء موضوع لبعضها كذلك هاهنا والعدد الذى
قالوه يقال عليه هلا قلتم فى القرينة المنفصلة مثل ما قلتم
فى القرينة المتصلة وهو أن المتكلم ما أراد البعض باللفظ
العام خاصة لكن أراد باللفظ والقرينة فلا يكون اللفظ العام
مجازا مثل ما قلتم فى القرينة المتصلة وهذا جواب معتمد.
وأما الذى قالوا: أن العموم ضد الخصوص فليس بشىء لأنه أن
كان بينهما مضادة فهو فى المخصوص من اللفظ فأما فيما وراء
المخصوص فلا يتصور مضاده وأما الذى تعلق به عيسى بن إبان
فى منع التعلق بالعموم المخصوص فليس بشىء لأن قوله أن
العموم المخصوص ليس له ظاهر يخص دعوى بل له ظاهر فيما وراء
المخصوص على ما سبق.
وأما كلامه الثانى فقد جمع بين التخصيص المجمل والتخصيص
المفصل من غير علة وقد ذكرنا الفرق ونذكر بوجه أوضح مما
سبق فنقول أن الله تعالى إذا قال:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ثم قال لا تقتلوا بعضهم أو قال لم أرد بعضهم ولم يبين ذلك البعض
فمن أردنا قتله من المشركين يتناوله قوله:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} إذ هو مشرك ويتناوله قوله لا تقتلوا بعضهم لأنه بعض المشركين فلم
يكن بأن يدخل تحت أحد الظاهرين بأولى بأن يدخل تحت الآخر
فأما إذا عين البعض وقالوا: لا تقتلوا النساء ولا تقتلوا
أهل العهد أمكننا استعمال ظاهر الآية من غير ظاهر يعارضه
لأن من علمناه امرأة أو علمناه من أهل العهد أدخلناه تحت
التخصيص ومن علمناه رجلا لا عهد له علمنا خروجه من التخصيص
فإنه مراد بالآية وهذا لأن الأشياء المعلومة إذا خرج منها
أشياء معلومة كنا عالمين بما عداها وإذا خرج منها أشياء
مجهولة بقى الثانى مجهولا لأنه لا يدرى الذى خرج منها مما
لم يخرج ألا ترى أن العشرة معلومة فإذا علمنا أنه قد خرج
منها ثلاثة علمنا أنه قد بقى سبعة وإذا علمنا أنه خرج منها
عدد لا نعلمه لم ندر ما بقى منها.
وأما تعلقهم بالعلة المخصوصة فسنبين الفرق بين العلة
المخصوصة والعموم.
ج / 1 ص -180-
المخصوص فى مسألة تخصيص العلة.
وإذا عرفنا أن العموم المخصوص لا يصير مجازا حجة فى الباقى
فنقول قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة 5] عام مخصوص والاستدلال به جائز على ما سبق وكذلك قوله
تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فإنه عام فى كل سارق سرق قليلا أو كثيرا من حرز أو
من غير حرز فقيام الدلالة على اشتراط الحرز وقدر مخصوص لا
يمنعنا من العلم بوجوب قطع من سرق نصابا من حرز بالآية
وذهب بعض أصحاب أبى حنيفة إلى أنه لا يجوز التعلق بهذه
الآية لأنه قد شرط فى القطع شرط لا ينبىء عنه لفظ الآية
فلم يكن إيجاب القطع بمجرد قوله سارقا وهو الذى يتناوله
لفظ الآية وفى قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} يقتل الحربى لكونه مشركا وربما يقولون بعد قيام الدلالة على اشتراط
الحرز ومقدار المسروق ولا يمكن أن يستدل بالآية على قطع من
وجد فيه الشرطان إلا بعد أن يضم إلى الآية ما دل على
اشتراط الشرطين فثبت أنه لا يجوز التعلق بظاهر الآية.
والجواب أن كلا الكلامين ليس بشىء.
أما الأول فنقول أن كان اللفظ لا ينبىء عن النصاب والحرز
فلفظ المشركين لا ينبىء عن عدم العهد ولا عن الذكورة أيضا
لكن قيل أن قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
عام فى أهل العهد وأهل الحرب فمنع قتل أهل العهد بتخصيص كذلك قوله:
{وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ} عام فى السارق من حرز وغير حرز وكذلك سارق النصاب وما دونه ومنع
قطع السارق ما دون النصاب أو من غير حرز تخصيص وكلامه
الثالث يدخل عليه أيضا قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
لأنه لا يمكن قتل المشرك الذى هو غير المعاهد إلا بعد أن
يضم دليل الشرطين.
فإن قالوا: هناك قتلناه لأنه مشرك فحسب.
قلنا وهاهنا أيضا إذا سرق نصابا من حرز نقطعه لأنه سارق
فحسب وهذا لأنه يحتاج إلى إثبات الشرطين بدليلهما حتى لا
يقطع بعض السراق لا لتقطع من يجب قطعه مثل أنه قتل
المشركين.
إنما احتجنا إلى إثبات الشرطين حتى لا نقتل بعض المشركين
لا لنقتل من يجب قتله إلا أن البيان لذلك قد يرد بلفظ
النفي بأن يقول: لا تقطعوا من سرق من غير حرز وقد يرد بلفظ
الإثبات بأن يقول: الحرز والنصاب شرط فى القطع وكلا
القولين قضيته.
ج / 1 ص -181-
نفى
القطع عن السارق من غير حرز ولا نصاب فأما إثبات القطع عند
وجود الحرز والنصاب معلوم يتناول الآية إياه وقد جهد
المخالفون أن يفصلوا بين الاثنين بوجه ما ولا يمكنهم ذلك
فاعلمه فإنك تجده كذلك والله الموفق للصواب.
فصل.
ذهب أبو بكر القفال إلى أن تخصيص لفظ العموم يجوز إلى
الثلاثة ولا يجوز تخصيص اللفظ فيما دون الثلاثة إلا بما
يجوز به النسخ.
وذهب سائر أصحابنا إلى أنه يجوز تخصيص اللفظ العام إلى أن
يبقى واحد.
وذهب القفال إلى أن لفظ العموم دليل على الجمع بلفظه وأقل
الجمع ثلاثة فلا يجوز تخصيصه فيما دونه لأنه يخرج عن كونه
لفظا للجمع فينزل منزلة النسخ1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن في هذه المسألة أربع أقوال:
الأول: وهو المختار للبيضاوي وأبي الحسين
البصري وكثير من الفقهاء أنه يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى
من العام مقدار كثير غير محصور لا فرق بين أن يكون العام
جمعا كالرجال أو غير جمع كمن وما - ولا يجوز استعمال العام
في الواحد إلا إذا قصد به التعظيم كقوله تعالى:
{فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ}
القول
الثاني: يجوز أن يكون الباقي أقل المراتب التي يطلق عليها اللفظ الذي دخله
التخصيص فإن يكون غير جمع كالمفرد المحلى بالألف واللام
ومن ما صح أن يكون الباقي واحدا لأنه أقل مراتب الفرد وإن
كان الباقي أقل مراتب الجمع وقد سبق الخلاف فيها وهذا
هوالمختار للقفال الشاشي من الشافعية.
القول الثالث: يجوز أن يكون الباقي بعد
التخصيص واحد مطلقا سواء كان اللفظ الذي دخله التخصيص جمعا
أو غير جمع وهذا القول هو المعروف عن الحنفية.
القول الرابع: وهو لابن الحاجب ولم يعرف
عن غيره التفصيل الآتي:
أولا: في التخصيص بالمتصل: إن كان التخصيص بالمتصل:
إن كان التخصيص بالاستثناء أو بالبدل جاز أن يكون الباقي
بعد الإخراج واحدا نحو علي عشرة إلا تسعة وأكرم الناس
العالم.
وإن كان التخصيص بالصفة أو بالشرط جاز أن يكون الباقي
اثنين - نحو أكرم الناس العلماء - أو إن كانوا علماء -
وقصد من الناس محمدا وخالدا.
وثانيا: في التخصيص بالمنفصل.
إن كان العام محصورا وكان قليلا جاز التخصيص إلى أن يبقى
اثنان نحو: قتلت كل زنديق ولم يقتل إلا اثنين من
أربعة.........=
ج / 1 ص -182-
وحرفه
أن لفظ المشركين لا يحصل للواحد بحال ولا يجوز رد اللفظ
إلى ما لا يصلح له وكذا أن المنع من ذلك أما أن يكون لأن
الخطاب بهذا التخصيص يصير مجازا أو لأنه إذا استعمل فى
الواحد لم يكن مستعملا فى الجمع واللفظ للجمع فيكون قد
استعمل الخطاب فى غير موضوعه ولا يجوز أن نمنع الأول لأنه
لو كان كذلك لم يجر التخصيص بكل حال لأنه أن صار مجازا
بالتخصيص إلى أن يبقى واحدا يصير مجازا بالتخصيص أيضا وأن
بقيت ثلاثة ولا يجوز أن يمنع بالثانى لأن اللفظ العام
موضوع للاستغراق لا غير وأما الجمع تبع له فإن لم يجز
استعماله فى غير الجمع وجب أن لا يجوز استعماله فى غير
الاستغراق بل لا يكون المنع هاهنا لأنا بينا أن اللفظ
للاستغراق والجمع تبع له وهذه حجة فى نهاية الجودة وقد ظهر
فيها الجواب عما قالوه.
وقد قال الأصحاب أن التخصيص من العام كالاستثناء من
المستثنى منه والقرينة المتصلة كالقرينة المنفصلة لأن كلام
الشرع وأن تفرق فى المورد وجب ضم بعضه إلى بعض وبناء بعضه
على بعض ثم صح الاستثناء ما بقى من اللفظ شىء فكذلك
التخصيص.
وتحريره أن ما جاز تخصيص العام به إلى الثلاث جاز إلى ما
دونه كالاستثناء ولأنه لفظ من ألفاظ العموم فجاز تخصيصه
فيما دون الثلاث كمن وما فإن من عام فيمن يعقل وما فيما لا
يعقل ثم جاز أن يلحقها الخصوص إلى أن يبقى الواحد كذلك
هاهنا وقد سلم القفال ولم يسلمه من وافقه من المتكلمين
وهذا وأن قيل ولكن الاعتماد على الأول وأما النسخ فهو رفع
الحكم أصلا وأما التخصيص فليس رفع الحكم لكنه نوع بيان
اتصل بالآية على ما سبق تقديره ولأن النسخ بمنزلة استثناء
العشرة من العشرة والتخصيص بمنزلة استثناء البعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإن كان غير محصور نحو: قتلت كل من في المدينة أو كان
محصورا كثيرا نحو: أكلت الرمان جاز التخصيص إلى أن يبقى من
العام عدد قرب مدلوله قبل التخصيص ويعرف ذلك بكون الذي خرج
عددا قليلا أو بدليل آخر انظر إحاكم الأحكام 2/412 نهاية
السول 1/386 المحصول 1/399 روضة الناظر 210 المعتمد 1/236
أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/252.
ج / 1 ص -183-
فصل والكلام يقع الآن فيما يخص به العموم فنقول.
الذى يخص به العموم شيئان عقل وشرع.
فأما تخصيصه بالعقل فى قول جمهور العلماء والمتكلمين
وقالوا: هو مثل قوله تعالى:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] فدليل العقل قد خص هذه الآية لأنه تعالى غير خالق
لذاته ولا لصفات ذاته وكذلك قوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وقوله تعالى:
{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] فعلم بالمعقول أنه لم يؤت من جميع الأشياء وكذلك فى
الآية الثانية.
ومنع قوم من تخصيص العموم بالعقل لأن دليل العقل متقدم على
وجود السمع فأجازوا أن يتقدم دليل التخصيص على العموم
المخصوص1 وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه لما جاز التخصيص
بما لا يوجب العلم من أخبار الآحاد فلأن يجوز بما يوجب
العلم من دلائل العقل أولى.
والثانى أنه يستحيل اعتقاد الاستغراق فى قوله تعالى:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16] وكذلك فى قوله تعالى:
{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] وإذا استحال العموم ثبت الخصوص وأن تقدم العقل على بعض
السمع فلا شك أنه إذا خص بما قارنه من دليل العقل لا بما
يتقدمه ويقال لمن منع منه أتحمل قوله تعالى:
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
[الرعد: 16]وقوله تعالى:
{وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}
[الكهف: 84] على الاستيعاب فى كل ما يتناوله اسم الشىء.
فإن قالوا: هذا فهو جهل بالله تعالى وكذلك فى الآية هو جهل
منه بالاستثناء وأن قالوا: هو مخصوص فقد قيل ما قلناه.
وأما تخصيص العموم بالشرع فضربان.
أحدهما يتصل به.
والثانى ينفصل عنه.
وأما المتصل به فسنفرد له بابا.
وأما تخصيصه بالمنفصل منه2 فنقول هو على أربعة أضرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان 1/408 ونهاية السول 2/451 المستصفى 2/98
إحكام الأحكام 2/459 روضة الناظر 214 انظر المحصول 1/427
المعتمد 1/252.
2 المخصص المنفصل: هو ما استقل عن الكلام الذي دخله
التخصيص بحيث لا يحتاج إليه في النطق انظر أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 2/300.
ج / 1 ص -184-
أحدها: تخصيصه بالكتاب.
والثانى: بالسنة.
والثالث: بالإجماع.
والرابع: بالقياس.
فأما تخصيصه بالكتاب.
فلا يخلو حال العموم من أن يكون ثابتا بالكتاب أو السنة
فإن كان بالكتاب فتخصيصه جائز بالكتاب مثل قوله تعالى:
{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] خص بقوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ}
[المائدة: 5] ومثل قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ
أَزْوَاجاً} [البقرة: 234] خص بقوله تعالى وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن
الطلاق 4 ومثل قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] خص بقوله تعالى:
{ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا
لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}1 [الأحزاب: 49].
وإن كان العموم ثابتا بالسنة فيجوز أن يخص بالكتاب لأنه
لما جاز أن يخص الكتاب بالكتاب فأولى أن يخص السنة
بالكتاب2 وأما النسخ فيستبين فى باب النسخ ونذكر الفرق بين
النسخ والتخصيص واعلم أنه كما يجوز التخصيص ببعض الكتاب
يجوز التخصيص بفحوى الكلام ودليل الخطاب من الكتاب أما
فحوى النص3 فهو جار مجرى النص وأما دليل الخطاب فيجوز
تخصيص العموم به على الظاهر من مذهب الشافعى4 لأنه مستفاد
من النص فصار بمنزلة النص ومثاله من الكتاب قوله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/457 إحكام الأحكام 2/465 المحصول
1/428 المعتمد 1/254 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
2/301.
2 انظر إحكام الأحكام 2/470 روضة الناظر 216 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 2/305.
3 أي مفهوم الموافقة وهو لا خلاف فيه بين علماء الأصول في
تخصيص للعام لأنهم متفقون على حجيته وعند تعارضه مع العام
يخصص به العام انظر نهاية السول 2/467 المستصفى 2/105 انظر
إحاكم الأحكام 2/478 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
2/316.
4 أي مفهوم المخالفة والحنفية لا يرونه حجة ولذلك لا
يخصصون به العام انظر نهاية السول 2/468 إحكام الأحكام
2/68 المستصفى 2/105 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
2/316.
ج / 1 ص -185-
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى
الْمُتَّقِينَ}
فكان عاما فى كل مطلقة ثم قال:
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا
لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] فكان دليله أن لا متعة للمدخول بها فيخص بها فى أظهر
قوليه عموم المطلقات وامتنع من التخصيص فى القول الآخر
وأما تخصيص عموم الكتاب والسنة بالسنة.
فإن كانت السنة متواترة فيجوز تخصيص العموم بها سواء كان
العموم فى الكتاب أو فى السنة وسواء كان العموم المخصوص فى
السنة ووروده بالتواتر أو بالآحاد لأن السنة المتواترة
كالكتاب فى إفادتها العلم فإذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب
جاز بالسنة المتواترة1.
وأما تخصيص الكتاب بالسنة أو السنة المتواترة بالآحاد.
فأخبار الآحاد ضربان.
أحدهما: ما اجتمعت الأمة على العمل به
كقوله عليه السلام:
"لا ميراث لقاتل"2
"ولا وصية لوارث"3
وكنهيه عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها وابنة أخيها
فيجوز تخصيص العموم به ويجوز ذلك ويصير كتخصيص هذا للعموم
بالسنة المتواترة لأن هذه الأخبار بمنزلة المتواترة
لانعقاد الإجماع على حكمتها وأن لم ينعقد الإجماع على
روايتها.
وأما الضرب الثانى: من الآحاد وهو مما لم
تجمع الأمة على العمل به فهو المسألة التى اختلف العلماء
فيها.
مسألة يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد عندنا وعند
الكثير من المتكلمين.
وقال بعض المتكلمين من المعتزلة لا يجوز وهو قول شرذمة من
الفقهاء.
وقال عيسى بن أبان أن كان قد خص العموم يجوز تخصيصه وأن
كان لم يخص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/456 انظر إحكام الأحكام 2/472
المحصول 1/429.
2 أخرجه الترمذي الفرائض 4/425 ح 2109 وابن ماجه الديات
2/883 ح 2645 والدارقطني سننه 4/96 ح 86 والبيهقي في
الكبرى 6/361 ح 12243.
3 أخرجه أبو داود الوصايا 3/113 ح 287 والترمذي الوصايا
4/433 ح 2120 وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه الوصايا 2/905
ح 2713 ونصب الراية 4/403.
ج / 1 ص -186-
لا
يجوز1 وتعلق من قال بذلك بأن الكتاب موجب العلم والعمل فلا
يجوز أن يخص بما يوجب العمل دون العلم ولأنه إسقاط بعض ما
تضمنه الكتاب فلا يجوز بخبر الواحد دليله النسخ.
وأما عيسى بن أبان فقال إذا خص العموم يصير مجازا على ما
سبق من قوله وخرج أن يكون له ظاهر فى قضيته فصار تخصيصه
بمنزلة بيان المجمل.
وأما إذا لم يخص منه شىء فهو باق على حقيقته وهو مفيد
للعلم ما يقتضيه فلا يجوز تخصيصه بخبر الواحد لأنه نوع ترك
فيكون ما يفيد العلم بما يفيد الظن.
وأما دليلنا فلأن خبر الواحد دليل موجب للعمل فما دل على
وجوب العمل فهو الدليل على جواز التخصيص به وهذا لأن العمل
بالدليلين واجب ولا يجوز ترك دليل إذا أمكن العمل به وإذا
قلنا بالتخصيص الذى ذكرناه عملنا بالدليلين وإذا قلنا لا
يجوز التخصيص تركنا دليل السنة.
وبيان الترك أنها دلت على شىء مخصوص وقد تركوه حيث لم
يخصوا بها العموم وأما إذا خصصنا العموم فلم نترك دليله
لأنه بدليله باق فيما وراء المخصوص.
فإن قالوا: تركتم القول بالاستيعاب فى العموم.
قلنا قد بينا أن اعتقاد العموم لا يجوز بنفس الورود ما لم
يعرض العموم على الأصول الثابتة بالكتاب والسنة ثم إذا
عرضنا ولم نجد دليلا مخصصا حينئذ نعتقد عمومه فإذا وجد فى
الأصول ما يخصه لم يكن هذا ترك القول بما يقتضيه العموم من
الاستيعاب بل هو فى الحقيقة بيان اتصل بالكتاب فظهر أنه
ورد مقتضيا حكمه فيما وراء المخصوص ويمكن أن يستدل فى
المسألة بإجماع الصحابة على تخصيص قوله تعالى:
{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فإن عمومه يقتضى إباحتها قبل الدخول وبعد فخصوه
بقوله عليه السلام: "لا
حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك"2
وكذلك خصوا قوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}
[النساء: 11] بقوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/459 إحكام الأحكام 2/472 المحصول 432
المستصفى 2/114 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/306.
2 أخرجه البخاري اللباس 10/276 ح 5792 ومسلم النكاح 2/1055
ح 111/1433 وأبو داود الطلاق 2/303 ح 2309 والنسائي الطلاق
6/118 باب الطلاق للتي تنكح زوجا ثم لا يدخل بها وابن ماجه
النكاح 1/621 ح 1932.
ج / 1 ص -187-
عليه
السلام:
"لا يتوارث أهل ملتين شتى"1 الخبر وكذلك قوله عليه السلام:
"إنا معاشر الأنبياء لا نورث"2 وخصوا قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] بنهيه عليه السلام عن قتل النساء.
وأما دليلهم فنقول استغراق العموم يقتضيه غالب الظن دون
اليقين فجاز أن يعارضه من أخبار الآحاد ما يوجب غالب الظن
دون اليقين وعلى أن خبر الواحد معلوم الأصل باليقين وهو
إجماع الصحابة رضى الله عنهم فإنهم أجمعوا على قبوله
والعمل به على ما سنبين من بعد فأجرى عليه حكم أصله كما أن
جهة القبلة معلومة وأن كان الاجتهاد عند إشكالها مظنونا
فأجرى عليه حكم أصلها وأجزأت الصلاة كذلك هاهنا وأما النسخ
فهو يقع الحكم بعد ثبوته فلا يجوز بدليل مظنون إذا كان
ثبوت المرفوع بدليل مقطوع به وأما التخصيص فليس برفع للحكم
إنما هو فى الحقيقة ما بيناه من اتصال بيان بالعموم فصار
بمنزلة اتصال بيان بمجمل الكتاب فيجوز بخبر الواحد.
وأما الذى قاله عيسى بن أبان فقد قاله من أصل اعتقده لا
يوافقه عليه فذكرنا بطلانه وضعف الدليل الذى استدل به
والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد والنسائي وأبو داود وابن ماجه والدارقطني
وابن السكن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه ابن
حبان من حديث ابن عمر ومن حديث جابر رواه الترمذي واشتغربه
وفيه ابن ليلى وانظر تلخيص الحبير 9713.
2 أخرجه البخاري الفرائض 12/8 ح 6730 ومسلم الجهاد 3/1379
ح 51/1758 بلفظ
"لا نورث ما تركنا فهو صدقة" وأبو داود الإمارة 3/142 ح 2968 والترمذي السير 4/158 ح 1610
والنسائي الفئ 7/117 كتاب قسم الفئ ومالك في الموطأ الكلام
2/993 ح 27 وأحمد المسند 6/163 ح 25178.
فصل وأما تخصيص السنة بالسنة فجائز.
وعن داود أنه لا يجوز3 لأن الله تعالى جعل رسوله صلى الله
عليه وسلم مبينا فلا تحتاج سنته إلى بيان وهذا ليس بشىء
لأنه إذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب جاز تخصيص السنة
بالسنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
3 انظر إحاكم الأحكام 2/469 المحصول 1/469 نهاية السول
1/429 نهاية السول 2/457 المعتمد 2/255 وأصول الفقه للشيخ
محمد أبو النور زهير 2/305.
ج / 1 ص -188-
وقوله
أن السنة بيان.
قلنا والكتاب تبيان قال الله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] فإذا جاز تخصيص الكتاب بالكتاب وأن كان تبيانا كذلك
يجوز تخصيص السنة بالسنة موجود كما وجد تخصيص الكتاب
بالكتاب فوجب القول به فى الموضعين.
وبيان وجود تخصيص السنة بالسنة قوله عليه السلام:
"لا تنتفعوا من الميتة بشىء"1 قد خص بما روى أنه عليه السلام قال فى شاة ميمونة:
"هلا أخذتم إهابها فدبغتموه"2 وأما تخصيص عموم الكتاب بالسنة بأفعال رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتخصيصه بها.
ومنع أبو الحسن الكرخى من أصحاب أبى حنيفة أن يخص عموم
القول بالفعل ولهذا لم يخص نهيه عن استقبال القبلة
واستدبارها بالغائط والبول باستقبال رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالمدينة بيت المقدس واستدباره الكعبة وقد خصت
الصحابة قوله عليه السلام فى الجمع بين الجلد والرجم بفعله
فى رجم ماعز والغامدية من غير جلد هكذا ذكره الأصحاب.
وعندى أن هذا بالنسخ أشبه وأيضا فإن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن الوصال ثم خص عموم نهيه بفعله فى حقه دون
غيره.
وأما تخصيص العموم بالإجماع.
فهو جائز لأن الإجماع حجة قاطعة3 وقد خص بالإجماع قوله
تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ}
[النساء: 11] بأن العبد لا يرث وإذا جاز أن يخص الإجماع
الكتاب جاز أن يخص به عموم السنة أيضا.
وأما تخصيص العموم به على ما قدمناه.
وأما إذا ظهر القول فى الحادثة من أحدهم ولم يظهر من أحد
منهم خلافة ولا وفاق معه فإن حصل إجماعا لانتشاره جاز
تخصيص العموم به.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في الكبرى 1/40 ح 94 انظر نصب الراية
1/120.
2 أخرجه مسلم الحيض 1/276 ح 100/363 وأبو داود اللباس 4/64
ح 4120 والترمذي اللباس 4/220 ح 1727.
3 انظر المحصول 1/430 المستصفى 2/112, 113 نهاية السول
2/456 البرهان 1/442 وإحكام الأحكام 2/477 انظر أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 2/304, 305.
ج / 1 ص -189-
وإن لم
يحصل إجماعا لعدم انتشاره فقد كان الشافعى رحمه الله يجعله
فى القديم حجة كالقياس وهو قول أبى حنيفة ومالك ثم رجع عنه
فى الجديد وصح أن يكون حجة فعلى هذا القول لا يجوز تخصيص
العموم به.
وأما القول القديم فقد اختلف أصحابنا فى تخصيص العموم به
فقال بعضهم يجوز لأنه حجة شرعية بمنزلة سائر الحجج وقال
بعضهم لا يجوز لأن الصحابى محجوج بالعموم فلا يخص بقوله
العموم وقد كانت الصحابة يتركون أقوالهم إذا سمعوا العموم
فى خبر النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر كنا نخابر
أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها بخبره1 ومثل هذا يوجد
كثيرا.
وأما تخصيص عموم الخبر بمذهب راويه.
فإنه أجازه أبو حنيفة لأنه أعرف بمخرج ما رواه من غيره مثل
ما روى عن أبو هريرة أنه أفتى بغسل الإناء من ولوغ الكلب
ثلاث مرات2 وقد روى غسله سبعا عن النبي صلى الله عليه
وسلم3 وخص روايته بمذهبه ببينة أن الرواى لا يترك ما رواه
عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عرف من النبي صلى
الله عليه وسلم تخصيص الكتاب أو نسخه وهذا فاسد عندنا لأن
روايته حجة ومذهبه ليس بحجة فلا يجوز تخصيص ما هو حجة بما
ليس بحجة4 ولأنه محجوج بالخبر فلا يجوز تخصيصه بقوله
كغيره.
ويبينه: أن مقتضى العموم معلوم وليس فى
مقابلته إلا حسن الظن بالراوى ومعنى حسن الظن بالراوى أنه
لولا أنه علم قصد الرسول صلى الله عليه وسلم ومراده من
العموم لم يخالف وهذا وأن كان كذلك إلا أنه مظنون وكون
العموم حجة فى جميع ما يسوغه العموم معلوم ولا يجوز ترك
المعلوم بالمظنون وعلى أن خلافه لو كان يعلم مقصد الرسول
صلى الله عليه وسلم كان ينبغى أن يتبين ذلك لكى يزيل عن
نفسه الإيهام بمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم والكلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم البيوع 3/1179 ح 106/1547 ولم يذكر أربعين
سنة وأحمد المسند 2/16 ح 4585.
2 عزاه الحافظ الزيلعي لابن عدي في الكامل انظر نصب الراية
1/131.
3 أخرجه البخاري الوضوء 1/330 ح 172 ومسلم الطهارة 1/234 ح
89/279 وأبو داود الطهارة 1/18 ح 71 والترمذي الطهارة
1/151 ح 91 والنسائي الطهارة 1/46 باب سؤر الكلب وابن ماجه
الطهارة 1/130 ح 363.
4 انظر المحصول 1/449 وإحكام الأحكام 2/485 نهاية السول
2/474 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/324.
ج / 1 ص -190-
الوجيز
فى هذا أن علينا أن نعتقد العموم فى قول الرسول صلى الله
عليه وسلم ونجعله حجة على كل من يخالفه وليس علينا أن
نتفحص عن قول من يخالفه أنه من أين قال بل يحتمل أنه عن
قياس فاسد ورأى باطل وخلاف من ليس بمعصوم عن الخطأ لا
يقابل قول من هو معصوم عن الخطأ وعلى هذا نقول قول ابن
عباس أن المرتد لا يقتل أن ثبت عنه لا يخص به عموم قوله
عليه السلام:
"من بدل دينه فاقتلوه"1 وأما تفسير الراوى لأحد محتملى الخبر يكون حجة فى تفسير الخبر
كالذى رواه ابن عمر أن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا
وفسره بالتفريق بالأبدان لا بالأقوال فيكون أولى لأنه قد
شاهد من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ما عرف به مقاصده
وكان تفسيره بمنزلة نقله والفرق بين تفسيره وتخصيصه بمذهبه
أن تفسيره موافق للظاهر غير مخالف له فأخذ به وأما مذهبه
مخالف فلا يخص به على ما سبق.
وأما التخصيص بالقياس.
فقد اختلف فيه مثبتوا القياس فذهبت شرذمة من الفقهاء وكثير
من المعتزلة إلى أن تخصيص العموم بالقياس لا يجوز لأن ظاهر
العموم أقوى من القياس فلم يجز أن يخص القياس والدليل على
أنه أقوى أنه دليل علمى والقياس دليل ظنى ولا شك أن العلمى
أقوى من الظنى ولأنه لما لم يجز النسخ بالقياس لا يجوز
التخصيص به ولأن العموم نص والقياس يستعمل مع عدم النص.
وقال عيسى بن أبان وهو الظاهر من مذهب أبى حنيفة أنه يجوز
أن يخص بالقياس عموم دخله التخصيص ولا يجوز أن يخص به عموم
لم يدخله التخصيص وذهب أبو بكر محمد بن أبى طالب الأشعرى
وجماعة من متأخريهم إلى أن العموم والقياس إذا تقابلا وجب
الوقف عن استعمال أحدهما لتكافئهما من حيث أن كل واحد
منهما صار حجة فعليه يتوقف حتى يقوم دليل يوجب ترجيح
أحدهما وأما الشافعى ومالك وأكثر الفقهاء ذهبوا إلى جواز
تخصيص العموم بالقياس لأنه دليل شرعي منصوب لمدارك الأحكام
فيخص به العموم كسائر الدلائل.
ببينة أن فى تخصيص العموم بالقياس استعمالا لدليلى العموم
والقياس جميعا فكان أولى من استعمال أحدهما وإسقاط الآخر
ولأن القياس يدل على الحكم من.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
ج / 1 ص -191-
طريق
المعنى والعموم يدل من طريق الاسم والمعانى والأسامى إذا
التقتا كان القضاء للمعانى على الأسامى.
والجواب عما ذكروه أما قولهم أن العموم أقوى من القياس لا
نسلمه وقولهم أنه يفيد العلم قلنا إنما يفيد العلم بأصل
وروده فأما فى محتملاته فلا نسلم ذلك بل هو مجرد ظاهر فى
الاستيعاب ويحتمل خلافه وعلى أنه لا يمتنع أن يخص الأقوى
بالأضعف كما يخص الكتاب بالسنة وأما تعلقهم بالنسخ فنقول
النسخ رفع حكم ثابت فامتنع بالقياس لضعفه وأما التخصيص
فمعرفة ما لم يرد بالعموم والقياس يجوز أن يدل على ذلك
تبيين الفرق أن عموم الكتاب يجوز تخصيصه بخبر الواحد على
ما قدمناه فلا يجوز نسخه به وأما قولهم أن العموم نص قلنا
صيغة العموم إنما يدخل فى النص إذا لم يخصها القياس فإن
خصها لم يدخل فيه.
وأما الذى قاله عيسى بن أبان فقد أجبنا من قبل وإذا ثبت
جواز تخصيص العموم بالقياس فيجوز بالقياس الجلى فأما
بالقياس الخفى فعلى وجهين قال بعض أصحابنا لا يجوز لقوة
الجلى وضعف الخفى وقال بعضهم يجوز لأن الخفى ألحق بالجلى
فى ثبوت الحكم فيلحق به فى تخصيص العموم1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الأسنوي قد نقل الانفاق على أن القياس القطعي
يخصص به العام من الكتاب والسنة المتواترة وأما القياس
الظني فهو محل الخلاف وقد اختلف الأصوليون في ذلك على
أقوال كثيرة أهمها ما ذكره البيضاوي وهوسبعة أقوال:
القول الأول: وهو المختار للبيضاوي ونقل عن الأئمة الأربعة
أنه يجوز تخصيص العام من الكتاب والسنة المتواترة بالقياس.
القول الثاني: لا يجوز مطلقا - وهو المختار للإمام الرازي
وأبي علي الجبائي من المعتزلة.
القول الثالث: إن خصص العام بمخصص قبل القياس جاز تخصيصه
بالقياس وإن لم يخصص العام قبل ذلك لا يجوز تخصيصه بالقياس
وهذا القول لعيسى بن أبان - غير أن الأسنوي قيد هذا القول
بما قاله عيسى بن أبان في الخبر وهو أنه لا بد أن يكون
مخصص العام قبل القياس قطعيا ولكن ظاهر كلام البيضاوي
وصاحب جمع الجوامع أن هذا الشرط غير مطلوب في تخصيص العام
بالقياس وقالوا في الفرق إن القياس أقوى من خبر الواحد فلا
يشترط في الأقوى ما يشترط في الأضعف وقد استدل عيسى بن
أبان بما استدل به في خبر الواحد.
القول الرابع: إن خصص بمتصل أو لم يخصص أصلا لم يجز في
تخصيصه بالقياس وإن خصص بمنفصل جاز تخصيصه به - وهذا لأبي
الحسن الكرخي.
القول الخامس: إن كان القياس جليا بأن قطع فيه نفي تأثير
الفارق بين الأصل والفرع كقياس........=
ج / 1 ص -192-
وأما
التخصيص بدليل الخطاب.
فيجوز تخصيص العموم به.
قال أبو العباس بن سريج لا يجوز وهو قول أكثر أهل العراق
لأن عندهم أنه ليس بدليل والكلام معهم يجىء أن شاء الله.
وعندنا هو دليل كالنطق فى أحد الوجهين وكالقياس فى الوجه
الآخر وأيهما كان يجوز التخصيص به.
وأما فحوى الخطاب.
فيجوز التخصيص به وقد بيناه.
ثم اعلم أن من تخصيص العموم بالقياس قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ثم خصت الأمة بنصف
الحد نصا بقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ
بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} ثم خص العبد بنصف الحد
قياسا على الأمة فصار بعض الآية مخصوصا بالكتاب وبعضها
مخصوصا بالقياس ومن ذلك قوله تعالى:
{وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
..} إلى قوله:
{فَكُلُوا مِنْهَا} ثم خص
منها بالإجماع تحريم الأكل من جزاء الصيد وخص عند الشافعى
تحريم الأكل من هدى المتعة والقران قياسا على جزاء الصيد
فصار بعض الآية مخصوصا بالإجماع وبعضها بالقياس على
الإجماع.
فهذا بيان ما قدمناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العبد على الأمه بجامع الرق ليثبت له تنصيف الحد في
الزنا كما ثبت له ذلك لأن الفارق بينهما هي الذكورة
والأنوثة وهي غير مؤثرة في الحكم - جاز تخصيص العام به وإن
كان القياس خفيا. بأن لم يقطع فيه بنفي تأثير الفارق كقياس
النبيذ على الخمر بجامع الإسكار ليثبت له التحريم كما ثبت
في الخمر حيث لم يقطع بنفي تأثير الفارق لجواز أن يكون
كونه خمرا هو المؤثر - لم يجز تخصيص العام به وهذا القول
لا بن سريج من الشافعية.
القول السادس: لحجة الإسلام الغزالي: العام والقياس
متعارضان في الفرد الذي دل عليه القياس فإن ترجح أحدهما
على الآخر عمل بالراجح منهما وإن تساويا لم يعمل بواحد
منهما فيه بل يتوقف عن العمل بواحد منهما فيه حتى يوجد
المرجح.
القول السابع: الوقف وعدم الجزم بشيء حتى يوجد المرجح
فيعمل به وهو لإمام الحرمين انظر المحصول 1/436 وإحكام
الأحكام 2/491 ونهاية السول 2/463 المستصفى 2/122 البرهان
1/428 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/311.
ج / 1 ص -193-
وأما التخصيص بالعادة والعرف1.
فقد قال أصحابنا لا يجوز تخصيص العموم به2 لأن الشرع لم
يوضع على العادة وإنما وضع فى قول بعض أصحابنا على المصلحة
وفى قولنا على ما أراد الله تعالى ولا معنى للرجوع إلى
العادة فى شىء من ذلك والله أعلم.
مسألة إذا ورد اللفظ العام على سبب خاص وكان مستقلا بنفسه
يجرى على عمومه ولا يستقل بنفسه.
وليس المعنى بالسبب السبب الموجب للحكم مثل ما نقل أن
ماعزا زنى فرجمه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العادة هي الأمر المتكرر وتعرف عند الحنفية بالعرف.
والعرف نوعان: قولي وعملي.
العرف القولي: هو ما ثبت باستعمال اللفظ في معنى خلاف
المعنى الذي وضع له لغة مثل لفظ الدابة.
العرف العملي وهو ما ثبت بالعمل والعفل لا بالاستعمال
اللفظي انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/317, 318.
2 اعلم أن المقصود بالعرف هنا هو العرف العملي حيث إن
العرف القولي لا خلاف أنه يخصص به العام.
والعرف العملي قد اختلف فيه الحنفية والشافعية فذهب
الحنفية إلى أنه كالعرف القولي يخصص به العام والجامع
بينهما أن كلا منهما يتبادر من اللفظ عند الإطلاق - غاية
الأمر أن منشأ التبادر في العرف القولي هو استعمال اللفظ
وذلك يعتبر فرقا مؤثرا في الحكم.
وأما الشافعية فقالوا: إن مجرد العرف العملي الذي لا يستند
إلى قرار من الرسول عليه الصلاة والسلام لا يكون مخصصا
للعام الوارد على لسان الشرع لأن أفعال الناس لا تكون حجة
على الشرع فإن استند إلى قرار منه عليه السلام يكون المخصص
هو الإقرار وسيأتي الكلام عليه.
مثال ذلك أن ينهى الشارع عن بيع الطعام بجنسه متفاضلا -
ويتعارف الناس على طعام خاص فيما بينهم كالبر أو الذرة
مثلا - فالطعام إذا أطلق في عرفهم يتبادر منه هذا النوع
بخصوصه فهل يكون العام مخصصا بهذا العرف أو لا يكون مخصصا
به في ذلك الخلاف.
انظر نهاية السول 2/469 انظر المحصول 451 انظر البرهان
1/445 إحكام الأحكام 2/486 انظر أصول الفقه للشيخ أبو
النور زهير 2/417, 418.
ج / 1 ص -194-
رسول
الله صلى الله عليه وسلم1 أو سها النبي صلى الله عليه وسلم
فسجد2 وإنما المعنى بالسبب مثل ما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال:
"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"3 فاقتضى الجواب أن يكون الماء طهورا فى جميع وجوه الانتفاع وكذلك
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن ابتاع عبدا
فاستعمله ثم وجد به عيبا فقال:
"الخراج
بالضمان"4 فكان قوله الخراج بالضمان عاما فى هذا الموضوع وفى غيره وكذلك
الرخصة فى العرية إنما وقعت بسبب فقراء لم يكن لهم ما
يشترون به الرطب فأجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالرخصة فى العرية فكان الجواب عاما فى الفقراء والأغنياء
واعلم أن من أشرط إجرائه على عمومه هو أن يكون اللفظ
المذكور يمكن أن يحمل على عمومه فيكون مفيدا من غير أن
يعلق بذلك السبب فأما إذا لم يفد ما لم يصر عن السبب فإنه
يكون مقصورا عليه وهذا كما روى أنه عليه السلام قال فى
جواب السائل حين سأله عن بيع الرطب بالتمر فقال أينقص إذا
جف قالوا: نعم قال فلا إذا5 [...]6لا يمكن أن يحمل على
ظاهره بدون السبب لأنه لا يستقل بنفسه فى الإفادة [...]7
على سببه.
وقال مالك يقصر على سبببه وهو اختيار المزنى والقفال وأبى
بكر الدقاق وقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسلم الحدود 3/1319 ح 17/1592 وأبو داود الحدود 4/144 ح
4422 وأحمد المسند 3/466 ح 15098.
2 أخرجه البخاري السهو 3/111 ح 1224 ومسلم المساجد 1/399 ح
85/570 وأبو داود الصلاة 1/270 ح 1034 والنسائي السهو 3/17
باب ما يفعل من قام من اثنتين ناسيا ولم يتشهد؟
3 أخرجه أبو داود الطهارة 1/21 ح 83 والترمذي الطهارة
1/100 ح 69 وقال حسن صحيح والنسائي المياه 1/143 باب
الوضوء بماء البحر وابن ماجه الطهارة 1/136 ح 386 ومالك في
الموطأ الطهارة 1/22 ح 12 والدارمي الطهارة 1/201 ح 728
وأحمد المسند 2/318 ح 7252.
4 أخرجه أبو داود البيوع 3/283 ح 3510 والترمذي البيوع
3/572 ح 1285 - 1286 والنسائي البيوع 7/223 باب الخراج
بالضمان وابن ماجه التجارات 2/754 ح 2243 وأحمد المسند
6/233 ح 25800.
5 أخرجه أبو داود البيوع 3/248 ح 3359 والترمذي البيوع
3/519 ح 1225 وقال حديث حسن صحيح والنسائي البيوع 7/236
باب اشتراء التمر بالرطب وابن ماجه التجارات 2/761 ح 2264
ومالك في الموطأ البيوع 2/624 ح 22.
6 كشط بالأصل بمقدار كلمتين.
7 كشط بالأصل بمقدار كلمتين.
ج / 1 ص -195-
أورد
بعض أصحابنا أن الشافعى أشار إلى هذا فى الخبر المروى فى
بئر بضاعة وقال قوله صلى الله عليه وسلم:
"الماء طهور لا ينجسه شىء"1 مقصور على سبببه وقال فى قوله:
"لا قطع فى ثمر وكثر"2 أنه خرج على عادة أهل المدينة فى ثمارهم وأنها لم تكن فى مواضع
محفوظة وسائر الأصحاب قالوا: إنما قال الشافعى هذه الأدلة
دلت عليها فأما إذا لم يكن هناك دليل يدل على التخصيص
فمذهبه إجراء اللفظ على عمومه.
واحتج من قال بذلك بأن السؤال مع الجواب كالجملة الواحدة
بدليل أن السؤال هو المعتضى للجواب والمميز له وبدليل أن
الجواب إذا كان مبهما أحيل به فى بيانه على السؤال وإذا
ثبت أنها كالجملة الواحدة فيجب أن يصير السؤال مقدرا فى
الجواب فيخصص الحكم به.
ببينة: أن السبب لما كان هو الذى أثار
الحكم تعلق به تعلق المعلول بالعلة.
قالوا: ولأن من حق الجواب أن يكون مطابقا للسؤال وإنما
يكون مطابقا بالمساواة وإذا أجرينا اللفظ على عمومه لم يكن
مطابقا.
يدل عليه أن الخطاب جواب وليس بابتداء كلام وإذا جرينا على
ما قلتم كان ابتداء الكلام ولم يكن جوابا ألا ترى أن من
قال لغيره تغد معى فقال والله لا أتغدى يكون اليمين مقصورا
على التغدى معه حتى لو تغدى لا معه لم يحنث وإنما كان كذلك
لما بيناه قالوا: ولأن الراوى لما نقل السبب مع لفظ الجواب
فلا بد له من فائدة وليس فائدة النقل إلا اقتصار الخطاب
عليه فهذه كلماتهم فى المسألة.
وأما حجتنا نقول أولا كل لفظ وجب إجراؤه على العموم عند
تعريه عن سؤال خاص وجب إجراؤه على العموم وأن خرج على سؤال
خاص كما لو قالت امرأة لزوجها طلقنى فقال نساؤه طوالق أو
كل امرأة له طالق وهذا لأن الطلاق يقع بلفظ الزوج لا بسؤال
الزوجة فاعتبر عموم لفظ الزوج وخصوصه فكذا حكم الشريعة
يثبت بقول الشارع لا بسؤال السائل فاعتبر عموم لفظ الشارع
وخصوصه وهذا كلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الطهارة 1/17 ح 66 والترمذي الطهارة 1/95
ح 66 وقال حديث حسن والنسائي المياه 1/141 باب ذكر بئر
بضاعة وأحمد المسند 3/38 ح 11263.
2 أخرجه أبو داود في الحدود 4/134 - 135 الحديث 4388
والترمذي في الحدود 4/52 - 53 الحديث 1449 والنسائي 8/86
وابن ماجه 2593 والدارمي 2/174 والإمام أحمد في مسنده
3/463.
ج / 1 ص -196-
لا بأس
به إلا أن التعلق بمسألة الطلاق ضعيف لأن الكلام فى عمومه
يقبل التخصيص فى الطلاق لو قال نساؤه طوالق وكل امرأة له
طالق وقال عنيت بعض نسائى لم يصدق بخلاف خطاب الشارع لو
قام الدليل أنه عنى البعض يكون محمولا عليه على الخصوص وصح
ذلك والحجة المعتمدة أن الكلام فى جواب له صيغة صالحة
للسبب وغيره حتى يوجد الاستيعاب وقد قام الدليل لنا على أن
صيغة العموم لاستيعاب كل ما يصلح له فنقول اللفظ العام
الصادر عن الشارع أو عن حكم يجب إجراؤه على عمومه إلا أن
يمنع مانع ولا مانع من إجرائه على عمومه فيجرى وهذا لأنه
ليس من شرط الجواب أن لا يزيد على السبب نعم من شرطه أن لا
يقصر عن السبب أما أن يكون من شرطه ترك الزيادة على السبب
فلا ببينة أنه لا يلزم المجيب أن لا يجيب إلا بقدر السؤال
لا من حيث العادة ولا من حيث الشريعة ألا ترى أن الله
تعالى سأل موسى عليه السلام عما فى يمينه فقال
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} طه 17 فأجاب موسى
{قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى
غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} طه 18 فأجاب وزاد فثبت أن السؤال عن شىء خاص لا يوجب قصر اللفظ
عليه.
يدل عليه أن تخصيص العموم يكون بالمنافى ولا منافاة بين
السبب والخطاب فى شىء ما ولم يجريه التخصيص وهذه كلمات
معتمدة فليكن التعويل عليها لا على الأول.
وأما الجواب عن كلماتهم قولهم أن السؤال والجواب كالشىء
الواحد.
قلنا أن كان كذلك فهو فى قدر ما يكون جوابا عن السؤال وأما
فيما يزيد عليه فلا ثم يدخل عليه مسألة الطلاق ولو جعل
الجميع كالشىء الواحد لم يقع إلا على هذه المرأة على
الخصوص.
وأما قولهم أن السبب مشير للحكم فصار كالمعلول مع العلة.
قلنا ليس الكلام فى مثل هذا السبب وقد بينا هذا فى أول
المسألة حتى لو كان السبب المنقول هو المؤثر كان الحكم
متعلقا به.
وأما قولهم أن من حق السؤال أن يكون مطابقا للجواب.
قلنا أن أردتم بالمطابقة مساواة الجواب للسؤال فغير مسلم
أنه من شرط الجواب وقد بيناه وإن أردتم بالمطابقة انتظام
الجواب لجميع السؤال فذلك يحصل بالمساواة من.
ج / 1 ص -197-
غير
مجاورة وبالمساواة مع المجاورة كما فى سؤال موسى عليه
السلام عن عصاه وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ
بماء البحر.
وأما قولهم أن هذا الخطاب جواب وليس بابتداء كلام.
قلنا بل هو جواب وابتداء كلام على معنى جواب عما سئل عنه
وبيان أيضا لحكم ما لم يسأل عنه وهو صحيح غير ممتنع لم
بينا أن السؤال يقتضى جواب ما سئل عنه.
فأما أن يمنع الزيادة عليه فلا وقد ذكرنا وجه صحة هذا
مثالا ومعنى وأما إذا قال تغد معى فقال والله لا أتغدى
قلنا لا نعرف أن المسألة على مذهب الشافعى فعلى ما قالوه
وعلى أن الأيمان محمولة على العادة فى الفتاوى لا على
حقائق الألفاظ.
وأما قولهم أن الراوى نقل السبب ولا بد له من فائدة.
قلنا فائدته أن لا يجوز تخصيص ما وقع السؤال عنه من
العموم.
وقد قال بعضهم فى أصوله أن مذهب أبى حنيفة أنه يجوز وهذا
لا يعرف من مذهبه1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/476 المحصول 1/448 وإحكام الأحكام
2/488 روضة الناظر 205 القواعد لابن اللحام 363 أصول الفقه
للشيخ محمد أبو النور زهير 2/321.
فصل: إذا تعارض اللفظان من صاحب الشرع فلا يخلو
أما أن يكونا خاصين أو عامين أو أحدهما خاصا والآخر عاما
أو يكون كل واحد منهما عاما من وجه خاصا من وجه.
فأما إذا
كانا خاصين مثل أن يقول: اقتلوا المرتدة ولا تقتلوا
المرتدة أو صلوا ما لا سبب له عند طلوع الشمس ولا تصلوا ما
لا سبب له عند طلوع الشمس فهذا لا يجوز أن يرد إلا فى
وقتين فيكون أحدهما ناسخا للآخر فإن عرف التاريخ يكون
الثانى ناسخا للأول وأن لم يعرف التاريخ وجب التوقف2 وأن
كانا عامين مثل أن يقول: من بدل دينه فاقتلوه ومن بدل دينه
فلا تقتلوه وصلوا عند طلوع الشمس ولا تصلوا عند طلوع الشمس
فإن لم يمكن استعمالها وجب التوقف كالقسم الذى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 لاحتمال أن يكون كل منهما منسوخا من غير ترجيح انظر
المحصول 2/451 نهاية السول 4/449 المستصفى 2/140 أصول
الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 4/203.
ج / 1 ص -198-
قدمنا
وإن أمكن استعمالهما فى حالتين استعملا1 ومثال هذا ما قال
صلى الله عليه وسلم فى خبر الشهود:
"من شهد قبل أن يستشهد"2 وقال:
"شر الشهود من شهد قبل أن يستشهد"3
وقالوا: الأول محمول على ما إذا شهد ولم يعلم صاحب الحق أن
له شاهدا فإن الأول أن شهد وأن لم يستشهد ليصل المشهود له
إلى حقه والثانى محمول على ما إذا علم له الحق بشهادة فلا
يجوز للشاهد أن يبدأ بالشهادة قبل أن يستشهد.
وأما إذا كان أحدهما خاصا والآخر عاما مثل قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة: 3] مع قوله صلى الله عليه وسلم:
"حلت لكم ميتتان ودمان"4 ومع قوله صلى الله عليه وسلم:
"أيما إهاب دبغ فقد طهر"5 ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"فيما سقت السماء العشر"6 مع قوله صلى الله عليه وسلم:
"ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"7 قالوا: يجب فى هذا وأمثاله أن يقضى بالخاص على العام ولا فرق
عندنا بين أن يتآخر العام ويتقدم الخاص ويتآخر الخاص
ويتقدم العام أو يرد ولا نعرف التاريخ بينهما8.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 2/451 نهاية السول 4/455, 451 المستصفى
2/151 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 4/202.
2 أخرجه مسلم الأقضية 3/1344 ح 19/1719 وأبو داود الأقضية
3/303 ح 3596 والترمذي الشهادات 4/544 ح 2295 وابن ماجه
الأحكام 2/792 ح 2364.
3 النهي عن الشهادة قبل الاستشهاد أي طلبها أخرجه مسلم
والبيهقي في الكبرى 10/269 الحديث 599 202600.
4 أخرجه ابن ماجه الأطعمة 2/1101 ح 3314 وأحمد المسند
2/133 ح 5725 انظر نصب الراية 4/201 - 202.
5 أخرجه مسلم الحيض 7/277 ح 105/366 وأبو داود اللباس 4/65
ح 4123 والنسائي الفرع 7/151 باب جلود الميتة ومالك في
الموطأ الصيد 2/498 ح 17 والدارمي الأضاحي 2/117 ح 1985
وأحمد المسند 1/288 ح 1900.
6 أخرجه البخاري الزكاة 3/407 ح 1483 ومسلم الزكاة 3/675 ح
7/981 ولفظ الحديث عند البخاري وأبو داود الزكاة 2/111 ح
1596 والترمذي الزكاة 3/23 ح 640.
7 أخرجه البخاري الزكاة 3/318 ح 1405 ومسلم الزكاة 2/673 ح
1/979 وأبو داود الزكاة 2/96 ح 1558 والترمذي الزكاة 3/13
ح 626 والنسائي الزكاة 5/12 باب زكاة الإبل.
8 انظر نهاية السول 4/463.
ج / 1 ص -199-
وقال
بعض أهل الظاهر يتعارض الخاص والعام بكل وجه وهو قول
القاضى أبى بكر الباقلانى.
وقال كثير من المعتزلة إذا كان الخاص متقدما والعام متأخرا
فإنه ينسخ العام1 وإليه ذهب عامة أصحاب أبى حنيفة وقالوا:
فيما إذا كان الخاص متأخرا والعام متقدما فإن كان ورد
الخاص قبل أن يحضر وقت العمل بالعام فإنه يكون الخاص مقضيا
به على العام وأن ورد الخاص بعدما حضر وقت العمل بالعام
فإنه يكون نسخا وبيانا لمراد المتكلم فيما بعد دون ما قبل
لأن البيان لا يتآخر عن وقت الحاجة هذا مذهب المعتزلة
ويجوز أن يكون مذهب أصحاب أبى حنيفة على خلاف هذا ويذهبون
إلى مثل ما ذهب إليه الشافعى رحمه الله.
ورأيت عن أبى الحسن الكرخى أن المتآخر ينسخ المتقدم وسواء
فى ذلك كان المتآخر خاصا أو عاما.
وقد ذكر عيسى بن أبان فى الخبرين إذا تعارضا وأن كان
أحدهما عاما والآخر خاصا ولم يعرف تاريخ ما بينهما وجوها
من الترجيح.
منها أن يكون أحدهما متفقا على استعماله كخبر العشر فإنهم
قالوا: أن قوله فيما سقت السماء العشر متفق على استعماله
وخبر الأوساق متفق على استعماله.
ومنها أن يعمل معظم الأمة بأحدهما ونعيب على ترك العمل به
مثل الخبر فى ربا الفضل والخبر الآخر وهو قوله عليه
السلام: "لا ربا إلا فى النسيئة"2 فإن الصحابة عابوا على
ابن عباس فى ترك العمل بخبر أبى سعيد وهو الخبر الذى روى
فى تحريم ربا الفضل.
ومنها أن يكون الرواة لأحدهما أشهر.
واعلم أنا إذا بينا أن الخاص يقضى به على العام بكل حال
سقطت هذه الوجوه التى ذهب إليها فى الترجيح ويقال أن قوله
فى خبر الأوساق أن الأمة لم يتفقوا على استعماله فليس ذلك
أكثر من أنا تركنا العمل به وهذا لا يضعف الخبر وعلى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المعتمد 2/176.
2 أخرجه البخاري البيوع 4/445 ح 2178, 2179 ومسلم المساقاة
3/1217 ح 101/1596 والنسائي البيوع 7/247 باب بيع الفضة
بالذهب وبيع الذهب بالفضة وابن ماجه التجارات 2/758 ح
2257.
ج / 1 ص -200-
أن
قوله عليه السلام:
"فيما سقت السماء العشر"1 متفق على استعماله فى الأوساق الخمسة فما زاد فأما فيما دون
الأوساق الخمسة فلا واستعمال الأمة الخبر فيما وراء الأوسق
الخمسة لا يوجب ترجيحا وأيضا يقال لهم لم قلتم أن استعمال
الخبر من الأمة على الجملة يوجب ترجيحا للخبر وكلا الخبرين
ورد مورد الصحة ولا عذر لأحد فى ترك العمل بواحد منهما لأن
الدليل الذى دل على وجوب العمل بأحد الخبرين هو الدليل
الذى دل على وجوب العمل بالخبر الآخر ومتى طولبوا بمثل هذه
لم يمكنهم القيام بحجة فيما زعموه ويخص الفصل الذى ذكرناه
وهو إذا كان الخاص متقدما والعام متأخرا ونبين أن القول
بالنسخ للخاص المتقدم بالعام المتآخر باطل ونقيم الدليل
على مذهبنا فى بناء العام على الخاص والقول بقضاء الخاص
على العام.
مسألة العام المتقدم لا ينسخ الخاص المتقدم بل الخاص يقضى
عليه ويكون الحكم له فيما تناوله المتآخر2.
وعندهم الخاص المتقدم يصير منسوخا بالعام المتآخر وتعلقوا
فى هذا بأشياء منها:
أن اللفظ العام فى تناوله لآحاد ما دخل تحته يجرى مجرى
ألفاظ خاصة كل واحد منها يتناول واحدا فقط من تلك الآحاد
لأن قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] يجرى مجرى قوله اقتلوا زيد المشرك أو اقتلوا عمرا
واقتلوا خالدا ولو قال ذلك ثم قال لا تقتلوا زيدا لكان ذلك
ناسخا فكذلك ما ذكرنا ومنها أن الخاص المتقدم يتأتى نسخه
والعام يمكن أن يكون ناسخا له فكان ناسخا والدليل على أنه
يمكن أن يكون ناسخا لأنه يتناول ما تناوله الخاص مع الثانى
وهو متآخر فينسخه.
واستدل من قال بوقوع التعارض بين الخاص والعام أن العام قد
تناول ما تناوله الخاص وزيادة فتناوله لتلك الزيادة لا
يؤثر فى تناوله لما تناوله الخاص وإذا كان كل واحد منهما
متناولا لما تناوله صاحبه وجب أن يكونا متعارضين كالخاص
والخاص والعام والعام وهذا لأن تناول العام لزيادة تجرى
مجرى خبر آخر تناول تلك الزيادة ولو كان كذلك لم يؤثر فى
تعارض هذين فى هذا الشىء الواحد فثبت أنهما متعارضان
كالخبرين جميعا وفى ترك بناء العام على الخاص استعملا
للخبر العام وتركا للخاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 انظر المحصول 2/452, 453.
ج / 1 ص -201-
لأن فى
القول ببناء العام على الخاص ترك العام لأن العام لاستيعاب
كل ما يتناوله فإذا بنى على الخاص ومعنى بناء الخاص على
العام أنه يجعل كأنه لم يتناول ما ورد به الخاص فقد تركتم
العام لأن فى ترك القول بالاستيعاب ترك القول بالعموم
فاستوى الجانبان من هذا الوجه
وأما حجتنا فتقدم الدليل فى أن القول ببناء العام على
الخاص واجب على الجملة.
فنقول كل واحد من العام والخاص دليل يجب العمل به فلا يجوز
إطراحهما إذا أمكن استعمالهما والقول ببناء العام على
الخاص استعمال لهما جميعا وهو استعمال الخاص فيما يتناوله
بصريحه واستعمال له فيما وراء ما تناوله الخاص وعلى هذا
بطل القول بالتعارض لأن فى القول بالتعارض إنما ترك العمل
بهما أو ترك العمل بالخاص فثبت أن القول ببناء العام على
الخاص متعين.
فإن قالوا: لم لا تقولون بأن أحدهما ينسخ الآخر.
قلنا لا يمكن القول بالنسخ إلا بعد معرفة التاريخ وهذا
الدليل فى بناء العام على الخاص فى الجملة وهو إذا لم نعرف
تاريخ ما بين الخطابين أو كان العام متقدما والخاص متأخرا
فأما إذا كان الخاص متقدما والعام متأخرا فسنبين القول فيه
ببينة أنه لو كان بدل الخاص قياس لبنى العموم عليه والخبر
الخاص آكد من القياس وأقوى فلأن بنى عليه العام أولى وأيضا
فإن العام والخاص لو وردا معا يبنى العام على الخاص فكذلك
إذا وردا ولم يعلم تاريخ ما بينهما لأن الأصل أن كان شيئين
وجدا معا ولم نعلم تاريخ ما بينهما يجعل كأنهما وجدا معا
كمسألة الغرقى والهدمى إذا لم يعلم وقت موت واحد منهم يجعل
كأنهم ماتوا معا حتى لا يحكم بالميراث لواحد منهم من صاحبه
وأن كان بينهما سبب يوجب الإرث وهم ربما يعترضون على هذا
فيقولون لما اشتبه حال الميتين لم يورث أحدهما من الآخر
فكذلك إذا اشتبه حال الخبرين وجب أن لا يعترض بأحدهما على
الآخر وأن يرجع إلى أمر آخر والاستدلال فيما قصد
بالاستدلال به قائم وهذا لا يوجب مغمزا فيه وأما الدليل فى
أن العام المتآخر لا ينسخ الخاص المتقدم هو أن الخاص معلوم
دخول ما تناوله تحته ودخول ذلك تحت اللفظ العام مشكوك فيه
والعلم لا يترك بالشك وهم يقولون على قولكم هذا أن دخوله
تحت اللفظ العام مشكوك فيه ليس بذلك بل تناوله إياه ولما
سواه حتى يتم الاستيعاب معلوم أيضا لأنه صيغة موضوعة
للاستيعاب لغة وشرعا فكيف يقع.
ج / 1 ص -202-
الشك
فى تناوله لما ينسحب عليه الاستيعاب.
ونحن نقول المعنى بما ذكرناه من الشك هو أنه يحتمل أنه لا
يتناوله والخاص لا يحتمل أن لا يتناوله وهذا مسلم ونقرر
هذا الدليل بوجه آخر وهو المعتمد فنقول الخبر العام يتناول
ما تناوله الخاص على ما زعموا ولكن لا تعارض فى هذا
التناول لأن الخاص يتناوله بصريح لفظه من غير أن يكون فيه
احتمال أن لا يتناوله وأما العام فيتناوله لا بصريح لفظه
بل بظاهر عمومه ويحتمل إلا يتناوله وإذا لم يستويا فى
التناول لم يقع التعارض فوجب القضاء بما له الترجيح.
وإذا رجحنا سقط النسخ وتصور صورة ليكون الكلام أوضح فنقول
قول القائل لا تقتلوا اليهود يمنع من قتلهم أبدا وقوله من
بعد اقتلوا الكفار يوجب قتلهم فى حالة من الحالات.
والقول الأول يمنع من قتلهم فى تلك الحالة وإذا تمانعا على
هذا الوجه والخاص أخص باليهود وأقل احتمالا وجب القضاء به
والكلام الوجيز فى هذا الدليل أن القول بالنسخ من غير دليل
على النسخ باطل والقول بترجيح الخاص على العام فيما
تناولاه مانع من قيام دليل النسخ.
وأما الجواب عن كلامهم.
وأما الأول قلنا لو جعلنا الجملة كالآحاد المذكورة واحدا
واحدا لا متنع تخصيص كل عموم فى العالم كما ذكروا واحدا
واحدا لم يجز تخصيص واحد منهم من الأعداد المذكورة ثم نقول
اللفظ العام يجرى مجرى الآحاد المذكورة واحدا واحدا فى أصل
التناول ولا يجرى مجراها فى امتناع دخول التخصيص عليه ألا
ترى أن اللفظ الذى يذكر فيه الأعداد واحدا واحدا لا يجوز
أن يخرج شىء منه بالتخصيص بخلاف اللفظ العام.
وأما دليلهم الثانى قلنا مجرد احتمال النسخ لا يدل على
النسخ وكذلك المتآخر وعلى أنه كما أن الخاص المتقدم يحتمل
أن ينسخ فالعام المتآخر يحتمل أن يخص فلم يكن أحدهما أولى
من الآخر وعلى أنا بينا الدليل المانع من النسخ.
وقولهم أن المتآخر دليل النسخ قلنا وهل نوزعتم فى هذا
الموضع إلا فى هذا.
وأما اعتراضهم على دليلنا بقولهم أن فى بناء العام على
الخاص بترك القول بالعموم.
ج / 1 ص -203-
قلنا
لا فإنا عملنا بالعموم وراء المخصوص.
وقولهم أن الصيغة للاستيعاب.
قلنا إذا لم يقم دليل على التخصيص وها هنا قد قام وهذا لأن
التخصيص بيان يتصل بالخطاب فيظهر أن الخطاب بالعموم صدر
متناولا لما وراء المحل المخصوص فإن قالوا: كيف ثبت اتصال
البيان بشىء متقدم على الخطاب ولو جاز هذا لجاز الاستثناء
متقدما على المستثنى منه.
قلنا وأى شىء يمنع من أن يكو بيان الخطاب وتخصيصه بسبب
متقدم ألا ترى أن دليل العقل يجوز به تخصيص العموم وأن كان
متقدما على العموم وقد سبق ذكر ذلك وبيان مثاله أما
الاستثناء فكلام تكلم به أهل اللغة وهم لم يتكلموا
بالاستثناء المتقدم على المستثنى منه وعلى أن عندنا يجوز
ذلك وقد ذهب إليه كثير من الأصحاب وسنبين وروده.
أما الكلام الأخير الذى ذكره ففيما قلنا جواب عنه وقد بينا
ترجيح التناول فى هذا الجانب والمرجوح لا يعارض الراجح ولم
يستعمل فى هذه المسألة بإيراد الأمثلة فى المواضع التى
أجمع الفقهاء فيها ببناء العام على الخاص لأنهم يقولون قد
ورد أيضا بناء الخاص على العام وهو قوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] فهذا خاص فى الوالدين والأقربين ومع ذلك بنى على
عموم قوله لا وصية لوارث"1 والجواب عن هذا سهل والاعتماد
على ما سبق والله أعلم.
وأما إذا تعارض خطابان أحدهما خاص من وجه عام من وجه
والآخر عام من وجه خاص من وجه وتنافيا فى الحكم الذى ابتنى
عليهما فلا بد من التوقف حتى يظهر المرجح2.
وأمثال هذا كثيرة وتوجد فى قوله صلى الله عليه وسلم:
"من بدل دينه فاقتلوه"3 وقد ورد فى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 انظر نهاية السول 4/466 المحصول 2/453 أصول الفقه للشيخ
أبو النور زهير 4/203.
3 تقدم تخريجه.
ج / 1 ص -204-
معارضة
نهيه عليه السلام عن قتل النساء وأحدهما خاص فى النساء عام
فى الحربيات والمرتدين والآخر خاص فى المرتدين عام فى
النساء والرجال فينبغى أن يطلب فى هذا الموضع الترجيح
لأحدهما على الآخر وقد ذكر الأصحاب وجوها من الترجيح سترد
من بعد بمشيئة الله تعالى.
فصل: إذا ورد عقيب العموم تقييد بالشرط أو
باستثناء أو صفة أو حكم وكان ذلك لا [يتأتى إلا فى]1 بعض
ما تناوله العموم فالمذهب أنه لا يجب أن يكون المراد
بالعموم تلك الأشياء فقط.
وذهب بعض
الأصوليين إلى التوقف وهو اختيار أبى الحسين البصرى صاحب
المعتمد2.
ومثال التقييد بالاستثناء قوله تعالى:
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ
إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] وقوله:
{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} يتناول الكبيرة العاقلة وأول الآية عام فى الصغيرة والكبيرة
والعاقلة والمجنونة.
ومثال التقييد بالصفة قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ
فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}
إلى أن قال:
{لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1] تعنى الرغبة فى مراجعتهن وهذا خاص فى الرجعة وأول
الآية عام فى الرجعية والبائنة.
ومثال التقييد بحكم قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
ثم قال:
{وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا
إِصْلاحاً}
[البقرة: 228] وهذا لا يكون إلا فى الرجعية أيضا وأول
الآية عام فى البائنة والرجعية.
ومثال الشرط قوله تعالى:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ
إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ
وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فقوله تعالى:
{إِنِ ارْتَبْتُمْ} خاص وقوله:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} عام والتقدير واللائى يئسن من المحيض من نسائكم فعدتهن ثلاثة أشهر
وأن ارتبتم فالأول على عمومه وأن عقبه بشرط يخص البعض دون
البعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "ينافي" ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 وهو مذهب قاضي القضاة وقال صاحب المعتمد والأولى عندنا
التوقف في ذلك انظر المعتمد 1/283.
ج / 1 ص -205-
ووجه
ما ذكرنا أن اللفظ العام يجب إجراره على عمومه إلا أن
يضطرنا شىء إلى تخصيصه وكون آخر الكلام مخصوصا لا يضطر إلى
تخصيص أوله فإن ادعى المخالف لهذا ضرورة وقال أن الكناية
ترجع إلى جميع ما تقدم لأن قوله تعالى:
{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}
معناه إلا أن يعفوا النساء اللوائى طلقتموهن ولو أن الله
تعالى صرح بذلك دل ذلك أن النساء المذكورات فى أول الكلام
هن اللوائى يصح منهن العفو.
ألا ترى أن من قال من دخل الدار من عندى ضربته إلا أن
يتوبوا انصرف ذلك إلى جميع العبيد وجرى مجرى أن نقول إلا
أن يتوب عبيدى الداخلون الدار والجواب أن هذا كله لا يوجب
ضرورة لأن الضرورة المخصصة هى وجود التنافى بين ظاهر
العموم وبين الدليل المخصص ومعلوم قطعا أنه لا ضرورة فى
مثل هذا فى مسألتنا لجواز أن يريد المخاطب الاستيعاب من
أول الآية ثم يعقبه باستثناء أو صفة تخص تعيين من أريد
بالاستيعاب وهذا غير ممتنع بوجه ما فلم تثبت المنافاة وإذا
لم تثبت المنافاة يظل التخصيص وأجرى الكلام الأول على
عمومه وقد قال من يقول: بالوقف أن هذا العموم المقدم يقتضى
الاستغراق فظاهر الكناية يقتضى الرجوع إلى كل ما تقدم فليس
التمسك بظاهر العموم والعدول عن ظاهر الكناية بأولى من
التمسك بظاهر الكناية والعدول عن ظاهر العموم وإذا لم يكن
أحدهما بأولى من الآخر وجب التوقف والجواب عن هذا بالطريق
الذى سبق وهذا لأن اللفظ الأول ظاهر فى العموم وما نرى لما
ذكروا من الكناية ظاهرا يمكن التوقف فى الظاهر الأول.
مسألة المعطوف لا يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره مما
فى المعطوف عليه بل إنما يضمر مما فى المعطوف عليه بقدر ما
يفيد ويستقل به.
وعند أصحاب أبى حنيفة يضمر فيه جميع ما سبق مما يمكن
إضماره ومثال هذا الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد فى عهده"1 فعندنا يضمر ولا يقتل ذو عهده على معنى المنع من القتل وعندهم
يضمر ولا يقتل ذو عهد فى عهده بكافر2 فعلى هذا قالوا: أن
الكافر الذى لا يقتل به ذو العهد هو الحربى فيكون قوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الديات 4/179 ح 4530 والنسائي القسامة
8/18 باب القود بين الأحرار والمماليك في النفس وابن ماجه
الديات 2/887 ح 266.
2 انظر المعتمد 1/285.
ج / 1 ص -206-
لا
يقتل مؤمن بكافر المراد به الحربى.
واستدل من ذهب إلى هذا فقال أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لا يقتل مؤمن بكافر وعطف على ذلك قوله ولا ذو عهد فى
عهده بكافر ومعلوم أن ذا العهد يقتل بالذمى ولا يقتل
بالكافر الحربى فكان قوله لا يقتل مؤمن بكافر معناه بكافر
حربى لأن المضمر فى المعطوف هى المظهر فى المعطوف عليه
فإذا كان المضمر فى المعطوف مخصوص فى الحربى فيجب أيضا
تخصيص المعطوف عليه بالحربى قالوا: ولا يجوز أن يقال أن
الكلام يفيد ويستقل بإضمارنا قوله ولا يقتل فلا يزاد عليه
لأن الإضمار لا يقف على ما يستقل عليه الكلام بل يضمر فيه
جميع ما سبق.
ألا ترى أن الإنسان لو قال لا يقتل اليهود بالحديد ولا
النصارى كان معناه ولا يقتل النصارى بالحديد ولا يقتصر فيه
على إضمار القتل فقط وإن كان يستقل به.
وكذلك لو قال رجل لغيره لا تشتر اللحم بالدراهم الصحاح ولا
الخبز كان معناه ولا تشتر الخبز بالدراهم الصحاح وإنما كان
كذلك لأن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فى حكم
المعطوف عليه وحكم المعطوف عليه فى المثال الأول المنع من
القتل بالحديد لا المنع من القتل أصلا وفى المثال الثانى
حكم المعطوف عليه هو المنع من شراء الخبز بالدراهم الصحاح
لا المنع من الشراء بالدراهم على الإطلاق لأن المنع من
الشراء على الإطلاق غير مذكور فلا يتصور فيه مشاركة كذلك
هاهنا المنع من القتل ابتداء غير مذكور فلا يتصور المشاركة
فيه.
ودليلنا فى أن المعطوف إنما يضمر فيه من المعطوف عليه ما
يستقل به ويفيده وهذا لأن فقد استقلاله وعدم فائدته أوجب
الإضمار فلا يجب من الإضمار إلا قدر ما يستقل به ويفيده
ومعلوم أن قوله ولا ذو عهد فى عهده يستقل ويفيد بإضمارنا
قوله ولا يقتل فلا يراد لأنه تكون الزيادة إضمارا من غير
حاجة إلى الإضمار يدل عليه أنا إذا أضمرنا الكافر فى قوله
ولا ذو عهد فى عهده حتى يكون معناه وال يقتل ذو عهد فى
عهده بكافر ثم وجب بدليل أن يكون ذلك مخصوصا فى الحربى ولم
يجب أن يكون قوله لا يقتل مؤمن بكافر مخصوص فى الحربى.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو صرح وقال:
"لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد فى عهده بكافر" ثم علمنا بدلالة أن ذلك مخصوص فى الحربى لم يجب أن يكون أول الكلام
مخصوصا فى الحربى فإذا قام مثل هذه الدلالة يكون معنى
الأول لا يقتل مؤمن بكافر.
ج / 1 ص -207-
بحال
ومعنى الثانى ولا يقتل ذو عهد فى عهده بكافر ثم قام الدليل
أن المراد من الكافر فى قوله ولا ذو عهد فى عهده كافر حربى
وهذا غير مستنكر ولا مستبدع فجاز الحمل عليه كما يجوز إذا
ظهر وقام الدليل.
قالوا: أن العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه فى
حكمه وحكمه هو الذى عناه المتكلم بلفظه وإذا زاده دون ما
لم يعنه فلو كان الكافر المذكور فى المعطوف عليه عاما وفى
المعطوف خاصا لم يجعل العطف مفيدا اشتراكهما فيما قصده
المتكلم لأنه قصد بأول الكلام العموم وبآخره الخصوص.
قالوا: وليس كما لو أظهر وقام الدليل لأن الثانى يصير
بمنزلة كلام مبتدأ وهاهنا لا يمكن أن يجعل بمنزلة كلام
مبتدأ لأنه غير مستقل بنفسه واعترضوا على الكلام الأول بما
ذكرنا فى دليلهم.
والجواب أن الواو يوجب العطف فى اللفظ وجعلنا المعطوف
والمعطوف عليه مشتركين فى قوله لا يقتل وإذا اشتركا فى هذا
اللفظ أفاد العطف فائدته من الاشتراك ثم بعد ذلك يكون
الحكم بحسب ما يقوم عليه الدليل صار هذا كما لو أظهر قوله
ولا يقتل ذو عهد فى عهد بكافر ثم قام الدليل أن المراد
بالكافر فى قوله ولا ذو عهد فى عهده هو الحربى فلا يوجب
ذلك أن يكون المراد لا يقتل مؤمن بكافر هو الحربى فقد جاز
هذا الاختلاف مع وجود الواو العاطفة وكان العطف مفيدا
للاشتراك فى قوله ولا يقتل وأن اختلف الاختلاف الذى ذكرناه
وقوله أن ذلك مبتدأ قلنا إنما جعله مبتدأ لأنه يستقل بنفسه
وهاهنا إذا أضمرنا مما سبق قوله لا يقتل قد استقل فلا معنى
لإضمار الزيادة.
فإن قيل المتكلم إنما يقصد بالعطف اشتراكهما فى الحكم الذى
قصده دون العطف قلنا ولم فهل الخلاف إلا فى هذا فعندنا
يجوز أن يكون قصده اشتركهما فى اللفظ المذكور دون حكم
المقصود.
فإن قيل كيف يقصد لفظا بلا معنى قلنا صح القصد إلى
الاشتراط فى اللفظ وصار بمنزلة المصرح به ثم كل يفيد
فائدته وهذا لأن كلا الكلامين لم يخل عن فائدته.
ويمكن أن يجاب عن كلامهم الأول فيقال أن الكلام كان يكون
صحيحا على ما ذكروا أن لو كان قال ولا ذو عهد واقتصر عليه
فلما قال فى عهده وجب أن.
ج / 1 ص -208-
يفيد
هذه الزيادة فائدة محدودة وليس ذلك إلا المنع من قتله
ابتداء لعهده ونظير هذا أن لو قال القائل لا تقتلوا اليهود
بالحديد ولا النصارى فى الأشهر الحرم كان معناه لا تقتلوا
اليهود بالحديد ولا النصارى فى الأشهر الحرم أصلا ولا يكون
ولا تقتلوا النصارى فى الأشهر الحرم بالحديد.
ببينة: أنه لو قال بدل قوله ولا ذو عهد فى
عهده ولا رجل فى عهده لا قتضى أن لا يقتل رجل فى عهده بحال
ليكون قوله فى عهده يفيد فائدة محدودة كذلك فى قوله ولا ذو
عهد فى عهده يكون المعنى هذا أيضا.
واعلم أن الكلام للخصم ظاهر جدا وهذا الذى قلناه غاية
الوضع وتمشيته ممكنة والكلام الذى ذكرناه من قبل أحسن فى
التمشية وقد ذكرنا فى الخلافيات أن الخبر قد صح وروده
مطلقا برواية على رضى الله عنه من غير هذه الزيادة
واحتجاجى فى مسألة قتل المسلم بالذمى وعند ذلك لا نحتاج
إلى الخوض فيما قلنا والله أعلم.
فصل: إذا خرج الخطاب فى العموم مخرج المدح أو
الذم كقوله
تعالى:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خَاشِعُونَ}
[المؤمنون: 1, 2] إلى قوله:
{لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ}
[المؤمنون: 5, 6] فعموم هذا يقتضى مدح كل من حفظ فرجه إلا
على زوجته أو ما ملكت يمينه ويدل أن من وطىء زوجته أو ما
ملكت يمينه لم يكن مذموما فهل يصح دعوى العموم فى هذا.
أولا اعلم أنه لا خلاف على المذهب أنه إذا عارض هذا اللفظ
خطاب عام لم يقصد به المدح أو الذم فإنه يخصه ويقصره على
المدح والذم ولا يحمل على عمومه بل يقضى بعموم ذلك الخطاب
عليه ومثل هذا ما قلناه فى قوله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فهذه الآية قصد بها بيان الأعيان المحرمات ذوى العدد
وقوله:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
[النساء: 3] قصد بها بيان العدد وظاهرها يقتضى إباحة العدد
المذكور سواء كان من الأعيان المحرمات أو من غيرهن إلا أنا
قضينا بتلك الآية التى قصد بها بيان الأعيان المحرمات على
الآية الأخرى التى لم يقصد بها بيان الأعيان المحرمات
وإنما قصد بها بيان العدد كذلك هذا مثله.
وأما إذا تجرد اللفظ الواحد على سبيل المدح أو الذم ولم
يعارضه لفظ الخبر فهل.
ج / 1 ص -209-
يصح
ادعاء العموم فيه أم لا اختلف أصحابنا فى ذلك فمنهم من قال
لا يصح ادعاء العموم بل يقتصر على بيان المدح والذم فحسب
لأنه إنما قصد به مدح من حفظ فرجه وذمه إذا لم يحفظه لا
أنه قصد به بيان الحكم حتى يدعى عمومه1 والمذهب الصحيح أنه
يصح ادعاء العموم فى ذلك2 فعلى هذا يصح ادعاء العموم فى
هذه الآية التى ذكرناها ويصح أيضا ادعاء العموم فى قوله
تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا
يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] وأن كان قصد بالآية الذم لمن كنز المال.
والدليل على دعوى صحة العموم فى ذلك ما روى عن عثمان رضى
الله عنه أنه قال فى الأختين المملوكتين أحلتهما آية
وحرمتهما آية وعنى بآية التحليل قوله تعالى:
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 6]فقد حمل الآية على العموم مع أن القصد كان هو المدح
لمن حفظ فرجه عن الحرام لأن اللفظ إذا ورد عاما فإنه يحمل
على عمومه ولا يخص إلا بما يعارضه وينافيه فأما الذى
يماثله ولا ينافيه فلا يخصص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا منقول عن الإمام الشافعي حتى أنه منع من التمسك
بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في وجوب زكاة الحلي نصيرا منه إلى أن العموم لم يقع مقصودا في
الكلام وإنما سبق لقصد الذم والمدح مبالغة في الحث على
الفعل أو الزجر عنه انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/406/407
وقال الشيخ أبي الحسين البصري رحمه الله إنه مذهب بعض
الشافعية انظر المعتمد لأبي الحسين البصري 1/279 ونقله
أيضا ابن برهان عن الإمام الشافعي انظر نهاية السول
للأسنوي 2/372, 373.
2 وصححه الآمدي وابن الحاجب ونصره الشيخ أبي الحسين في
المعتمد وأجاب عما نقل عن الإمام الشافعي بقوله والجواب:
أن الذم إنما كان مقصودا بالآية لأنه مذكور فيها وهذه
العلة قائمة في العموم لأن اللفظ عام فوجب كونه مقصودا
وليس يمنع القصد إلى ذم من كنز الذهب والفضة من القصد إلى
عموم ذم كل من كنزهما انظر المعتمد 1/179.
وقال الآمدي وهو الحق من حيث إن قصد الذم أو المدح وإن كان
مطلوبا للمتكلم فلا يمنع ذلك من قصد العموم معه إذ لا
منافاة بين الأمرين وقد أتى بالصيغة الدالة على العموم
فكان الجمع بين المقصودين أولى من العمل بأحدهما وتعطيل
الآخر انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/407.
وهو مذهب الأحناف حيث قال مفتي الديار المصرية الشيخ بخيت
المطيعي رحمه الله وفي كتب الحنفية كالتحرير ومسلم الثبوت
أن العام في معرض المدح والذم كـ:
{إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي
جَحِيمٍ} يعم
استعمالا كما هو عام وضعا للشافعي انظر حاشية الشيخ بخيت
المطيعي على نهاية السول 2/373.
ج / 1 ص -210-
الآية
به وليس بين الخطاب العام وبين قصد المدح أو الذم بذلك
منافاة فبطل تخصيصه به ووجب حمل اللفظ على عمومه.
ببينة أن المدح إنما كان مقصودا بالآية أو الذم لا مذكور
فيها وهذه العلة قائمة فى العموم لأن اللفظ عام والعموم
مذكور فوجب كونه مقصودا وليس يمنع القصد إلى ذم من كنز
الذهب والفضة من القصد إلى عموم ذم كل من كنزهما.
فصل: هذا الذى ذكرناه هو بيان تخصيص العموم
بالدليل المنفصل. فأما تخصيص العموم بالدليل المتصل فنقول.
الدليل
المتصل أربعة: استثناء وغاية وشرط وتقييد.
فأما تخصيص العموم بالاستثناء.
فاعلم أن الاستثناء هو لفظ على صيغة إذا اتصل بالكلام
أخرج منه بعض ما كان داخلا فيه وقد حده بعض المتكلمين بأنه
إخراج جزء من كل1 والأول أحسن وهو مأخوذ من قولهم ثنيت
زيدا عن رأيه إذا أرددته عنه وتقول اثنيت عما كنت عليه إذا
رددت نفسك عن شىء كنت عليه وثنيت العود إذا رددته عن عوجه
وثنى الثوب ما عطف وكف من أطرافه.
ولا يصلح الاستثناء إلا إذا كان بالمستثنى منه فإذا انفصل
منه بطل حكمه.
وهو قول كافة أهل اللغة وجمهور أهل العلم وليس يعرف فيه
خلاف إلا ما حكى على جهة الشذوذ عن ابن عباس أنه جوزه
منفصلا وأجراه مجرى بيان المجمل وتخصيص العموم وقيد زمان
الجواز ببينة فإن استثنى بعدها بطل.
وعن بعض التابعين أنه جوز فى المجلس ولم يجوز إذا فارق
المجلس2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرفه البيضاوي بأنه: هو الإخراج بإلا غير الصفة ونحوها
المحترزات الإخراج جنس شامل للمخصصات كلها وقوله: بإلا
مخرج لما عدا الاستثناء وقوله: غير الصفة احتراز عن إلا
إذا كانت للصفة بمعنى غير وهي التي تكون تابعة لجمع منكور
غير محصور وقوله: ونحوها أي كحاشا وخلا وعدا وسوى انظر
نهاية السول 2/407 وعرفه الشيخ محمد بخيت المطيعي بأن
الاستثناء موضوع لأن يتقيد به المستثنى منه ويفاد بالمجموع
المركب مفهوم فيتعلق حكمه بما يصدق عليه انظر حاشية الشيخ
المطيعي على نهاية السول 2/412.
2 انظر البرهان 1/385 نهاية السول 2/410 انظر التلويح على
التوضيح 2/28 روضة الناظر 223 أصول الفقه للشيخ أبو النور
زهير 2/275
ج / 1 ص -211-
وقيل
أنه قول الحسن وطاوس وعطاء وحسبك فى الدليل اتفاق أهل
اللغة أن المنفصل لا يكون استثناء.
وأيضا فإنه غير مفهوم لأن من قال رأيت بنى تميم ثم قال بعد
شهر أو سنة إلا زيدا لم نفهم منه الاستثناء.
وهذا لأن قوله إلا زيدا أو إلا كذا كلام مبتور وتعلقه
بالمستثنى منه كتعلق الخبر بالمبتدأ وكتعلق الإجزاء بالشرط
فإنما يفهم عند اتصاله بالأول ويستقبح مع انفصاله.
ولأنا لو جوزناه منفصلا لم يوثق بيمين ولم يقع طلاق ولا
عتاق على وجه الثبات وكذلك لم ينعقد عقد على هذا الوجه
وهذه طامة كبيرة ومخرقة عظيمة.
وأما قول ابن عباس فلا يكون حجة مع مخالفة أهل اللغة ولعل
الآفة من الراوى والخطأ من الناقل.
فصل: ويجوز إذا اتصل بالكلام سواء تقدم عليه أو
تآخر عن أو تخلله.
فنقول إذا تقدم رأيت إلا زيدا جميع بنى تميم كما يقول: إذا
تآخر رأيت بنى تميم إلا زيدا.
ومنه قول حسان بن ثابت رضى الله عنه:
الناس ألب علينا فيك ليس لنا
إلا السيوف وأطراف القنا وزر1
فقد استثنى السيوف
والقنا من الوزر وتقديره ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف
القنا.
ونظير هذا قول الكميت:
وما لى إلا آل أحمد شيعة
وما لى إلا مشعب الحق مشعب2
وتقديره ما لى شيعة إلا
آل أحمد وما لى مشعب إلا مشعب الحق.
فصل ويجوز أن يخرج بالاستثناء أكثر الجملة وأقلها.
وقد شذ بعض أهل اللغة فمنع من استثناء أكثرها واختاره
الأشعرى وقيل أنه قول أحمد بن حنبل3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الشيخ محمد محيي الدين رحمه الله في حاشيته على
الألفية 2/235.
2 انظر شرح هاشميات الكميت ص 50 ص 117.
3 اعلم وفقك الله أن في هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
الأول: وهو لجمهور العلماء من الفقهاء والمتكلمين وهو
المختار للبيضاوي أن ذلك لا يحد........=
ج / 1 ص -212-
وقيل
من ذهب إلى هذا أنه يستقبح أن يقول الرجل لفلان على ألف
إلا تسع مائة وتسعة وتسعين.
والاستقباح يمنع من الاستعمال والمتروك استعماله متروك.
ببينة أن الاستثناء لاختصار الكلام أو الاستدراك ويبعد
كلاهما فى هذه الصورة ولأنه لو جاز استثناء الأكثر لجاز
استثناء الكل ولأن المستثنى فرع المستثنى منه ولا يجوز أن
يزيد الفرع على أصله وهذا القول مدفوع بالكتاب واللسان
والمعنى.
أما الكتاب قوله تعالى:
{قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ
مِنْهُ قَلِيلاً ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ}
[المزمل: 2, 4] وفى الزيادة على النصف استثناء الأكثر
وبقاء الأقل ولأن الله تعالى قال فى موضع:
{إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] وقال فى موضع:
{إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] فمرة استثنى المخلصين ومرة استثنى الغاوين ولا بد أن
أحد العددين يكون أكثر.
وأما اللسان فقول الشاعر.
أدوا التى نقصت تسعين عن مائة
ثم ابعثوا حكما بالعقل حكاما
وأما المعنى فهو أن حد
الاستثناء ما قلناه وذلك الحد موجود فى استثناء الأكثر
والأقل على وجه واحد كالتخصيص فإذا جاز جريان التخصيص فى
أكثر ما دخل تحت العموم فكذلك الاستثناء.
وأما دعوى الاستقباح فغير مسلم وإنما هو استثناء وليس
باستقباح.
وأما استثناء الجميع فإنما لم يجز لأنه تخصيص والتخصيص
يجرى فى البعض لا فى الكل ولأن استثناء الكل من كلامه نقص
لكلامه وإسقاط لفائدته بخلاف استثناء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بحد فلو بقي بعد الاستثناء واحد فقط كان الاستثناء
صحيحا.
الثاني: وهو للحنابلة يشترط أن يكون الباقي بعد الاستثناء
النصف أو أكثر من النصف فيجوز استثناء المساوي والأقل ولا
يجوز استثناء الأكثر من النصف كالثلثين.
القول الثالث: وهو أحد قولين للقاضي أبي بكر الباقلاني
ونقله الآمدي عن الحنابلة يشترط أن يكون الباقي بعد
الاستثناء أكثر من النصف فيجوز استثناء الأقل من النصف ولا
يجوز استثناء النصف كما لا يجوز استثناء أكثر من النصف
والقول الثاني ما نقل عن الحنابلة أولا انظر نهاية السول
2/411 إحكام الأحكام للآمدي 2/433 التلويح على التوضيح
2/29 المحصول 1/410 روضة الناظر 224 والمعتمد 1/244
البرهان 1/396 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/277.
ج / 1 ص -213-
الأكثر
فافترقا.
والذى قالوا: من الفرع والأصل فليس بشىء لأنهم أن عنوا
بالفرع أنه لا صحة له إلا به فيبطل بالتخصيص وعلى أن الفرع
قد يزيد على الأصل بدليل الحسيات والأمثال تكثر.
فصل وأما ألفاظ الاستثناء فالمستولى على الكل استعمالا هو
كلمة إلا ثم تليها ما يقل استعماله وهو سوى وعدا وحاشا
وخلا وجميعها فى حكم الاستثناء سواء.
مسألة اختلف أهل اللغة وأهل الفقه فى الاستثناء من غير
الجنس.
فمنعت منهم طائفة من طريق اللفظ والمعنى جميعا وهو قول
كثير من أصحاب الشافعى.
وهؤلاء جعلوه لغوا.
وقالت طائفة يجوز الاستثناء من غير الجنس لفظا ومعنى.
وقال بعضهم يصح من طريق المعنى دون اللفظ1 إذا كان معنى
الجنس يتفقان من وجه فيكون الاستثناء على هذا عائدا إلى
المعنى المتجانس لا إلى اللفظ المختلف فيقول لفلان على ألف
درهم إلا دينار فيستثنى من الألف بقيمة الدينار.
وهذا القول هو الأولى بمذهب الشافعى رحمه الله وهو قول
المحققين من الأصحاب.
واحتج من جوزه على الإطلاق بقوله تعالى:
{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ*إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30, 31] قال وإبليس لم يكن من الملائكة بدليل قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] وتعلق أيضا بقوله تعالى:
{فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:77] وبقوله تعالى:
{لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً ، إِلَّا قِيلاً
سَلاماً سَلاماً}
[الواقعة: 25, 26] وبقوله تعالى:
{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157].
وتعلقوا بقول النابغة فى القصيدة المشهورة:
وقفت فيها أصيلانا أسائلها
عيت جوابا وما بالريع من أحد2
إلا أوارى لأياما أثبتها
والنوى كالحوض بالمطلومة الجلد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/424/425 البرهان 1/398
المعتمد 1/243 روضة الناظر 224.
2 ديوان النابغة الذبياني ص 30.
ج / 1 ص -214-
وقال
غيره:
وبلدة ليس بها أنيس
إلا اليعافير وإلا العيس
فاستثنى الأوارى فى
الأول من قوله وما بالريع من أحد وفى الثانى استثنى
اليعافير وهى الظبا والعيس وهى الإبل من الأنيس.
وحكى سيبويه عن العرب ما رأيت اليوم أحدا إلا حمارا أو
ثورا.
وأما حجة من لم يجوزه على الإطلاق فظاهر وقالوا: الدليل
عليه أن الاستثناء إخراج بعض ما دخل فى الجملة وغير الجنس
غير داخل فى الجملة فلا يصح استثناؤه منها لأن غير الداخل
لا يتخيل استخراجه كما أن غير الخارج لا يتخيل إدخاله
ولأنه أحد ما يخص به العام فلم يصح فيما لم يدخل فى العموم
كالتخصيص بغير الاستثناء ولأنه يقبح أن تقول جاءنى الناس
اليوم إلا الكلاب أو رأيت الحمير إلا الناس ومن قال هذا من
أهل اللغة كان ملغزا فى الخطاب عادلا عن تبيين الصواب وهذا
لأن الاستثناء مع المستثنى منه يكون صحتها وارتفاع أحدهما
بالآخر بنوع من التمانع والتدافع ولهذا يقال أن الاستثناء
من المنفي إثبات ومن الإثبات نفى وإنما يتصور التمانع
والتدافع والتنافى فى الجنس الواحد لأن اللفظ الأول يدخله
والثانى يخرجه فيقع التنافى وأما في غير الجنس فلا يتصور
هذا فإن اللفظ الأول إذا لم يتناوله بالإدخال فلا يكون
الثانى مخرجا ولا يقع التنافى والتمانع فثبت أن الاستثناء
حقيقة لا يكون إلا من الجنس.
وأما الذى تعلقوا به أما الآية الأولى فالصحيح أن إبليس
كان من الملائكة ولهذا تناوله الأمر بالسجود ولو لم يكن من
الملائكة لم يتناوله الأمر بالسجود.
وأما قوله تعالى:
{كَانَ مِنَ الْجِنِّ}
[الكهف: 50] فقد قيل كان من قبيلة من الملائكة يسمون الجن
وعلى أن جميع ما نقلوه هو على طريق المجاز والكلام فى
الحقيقة.
وأما المذهب الثالث وهو صحة الاستثناء من طريق المعنى فهو
المختار على مذهب الشافعى رحمه الله تعالى وليس فيه نفى ما
قلناه أن الاستثناء من غير جنس المستثنى منه لا يكون حقيقة
لأن هذا الذى ادعيناه راجع إلى اللفظ وهو على ما ذكرناه
وإنما جوزنا الاستثناء حين جوزناه من طريق المعنى وسبب
جوازه اتفاق معنى الجنسين من وجه فيصير الاستثناء له إلى
المعنى المتجانس لأن اللفظ مختلف.
ولهذا قال الشافعى لو قال لفلان على ألف درهم إلا دينارا
أو مائة دينار إلا ثوبا.
ج / 1 ص -215-
فيكون
مستثنى بقيمة الدينار أو الثوب1 ولا يصح هذا المذهب إلا
إذا صححنا الاستثناء على الوجه الذى قلناه وأما أبو حنيفة
فقد ناقض وقال إذا قال لفلان على ألف درهم إلا دينارا يجوز
وكذلك إذا استثنى الحنطة أو الشعير قال ولو استثنى الثوب
لا يجوز2 وهذا تفريق لا يعرف.
وقد ذكروا فرقا ذكرناه فى مسائل الخلاف وأبطلناه عليهم.
وأما إذا استثنى من زيد وجهه ومن الدار بابها فاختلف
الأصحاب أنه استثناء الشىء من جنسه أو من غير جنسه والصحيح
أنه من جنسه لأن وجه زيد جزء من زيد مثل الواحد جزء من
العشرة وكذلك وجه الدار جزء منها فصار كما ذكرنا والله
أعلم.
مسألة إذا تعقب الاستثناء جملا قد عطف بعضها على بعض يرجع
إلى الجميع.
وقال أصحاب أبى حنيفة يرجع إلى ما يليه من الجمل.
وقالت الأشعرية هو موقوف على الدليل وقد خبط بعض أصحابنا
فى هذه المسألة حتى أداه خبطه إلى العدول عن مذهب الشافعى
إلى مذهب الخصم وقال إنما ينعطف الاستثناء على كلام يجتمع
فى غرض واحد فأما إذا [اختلفت]3 المقاصد فى الجمل وكل جملة
منها مستقلة بمعناها لا تعلق لها بما بعد فالاستثناء يرجع
إلى ما يليه من الجمل4 وزعم أن الواو فى مثل هذا الموضع
لاسترسال الكلام وحسن بظنه ولا يكون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المهذب 2/349.
2 انظر الاختيار لتعليل المختار 2/178.
3 في الأصل اختلف ولعل الصواب ما أثبتناه.
4 في هذه المسألة خمسة أقوال:
الأول: وهو لجمهور الشافعية واختاره
البيضاوي يرجع إلى الجمل كلها ولا يختص بالأخير وإلى ذلك
ذهب مالك من النحاة.
الثاني: وهو للحنفية يختص بالأخير ولا
يرجع إلى غيره من الجمل وهو قول أبي علي الفارسي من
النحويين.
الثالث: وهو للمرتضى من الشيعة - يتوقف
على تقوم القرينة المعينة لأحد الأمرين لأن الاستثناء
الواقع بعد الجمل مشترك لفظي بين رجوعه للكل ورجوعه إلى
الجمل الأخيرة والمشترك لا يعمل به في أي فرد من أفراد
بقرينة.
الرابع: وهو للقاضي أبي بكر الباقلاني
والغزالي من الشافعية - يتوقف لعدم العلم بمدلوله فإنه لا
يدري أهو موضوع لرجوعه إلى الكل أو لرجوعه للجملة الأخيرة
فقط.............=
ج / 1 ص -216-
للعطف1
ثم زعم إذا قال وقفت على بنى فلان دارى وحبست على بنى فلان
ضيعتى وجعلت على خدمى وموالى بهيمتى إلا أن يفسق منهم فاسق
ولا يظهر اختصاص الاستثناء فى هذه الصورة بالجملة الأخيرة
ولا يظهر أيضا انعطافه على الجمل أيضا فيكون الأمر موقوفا
على المراجعة والبيان منه قال والسبب فى هذا أن ميثاق
الخطاب فى الجمل كلها واحد ولكن الجمل منفصلة فى الذكر على
معنى أن كل جملة مستقلة بنفسها فيجوز أن يعود الاستثناء
إلى ما يليه ويجوز أن يرجع إلى جميع الجمل فوجب التوقف إلى
أن يأتى البيان ويقوم الدليل على واحد من الأمرين.
وعندى أن الأولى أن يقال أنه إذا ذكر جملا وعطف بعضها على
بعض ولم يكن فى المذكور إجراما يوجب إضرابا عن الأول وصلح
رجوع الاستثناء إلى الكل فإنه يرجع إلى الكل.
وممكن أن يعبر عن هذا فيقال إذا لم يكن الثانى خروجا من
قصة إلى قصة أخرى لا يليق بالأول ونظير هذا أن نقول اضرب
بنى تميم والأشراف هم قريش إلا أهل البلد الفلانى وهذا
لأنه لما عدل عن الأول إلى مثل هذا وأحدهما لا يليق بالآخر
أو أحدهما قصة والآخر قصة أخرى هل أنه استوفى غرضه من
الأول لأنه لا شىء أدل على استيفاء الغرض بالكلام من
العدول عنه إلى نوع آخر من الكلام وعلى هذا إذا قال من
استقامت طريقته فأكرمه ومن عصاك فاضربه إلا أن يتوب
والاستثناء ينصرف إلى ما يليه وعلى هذا قيل أيضا إذا قال
أكرم ربيعة واضرب بنى تميم إلا الطوال منهم ينصرف إلى ما
يليه أيضا.
وقد ورد القرآن بانصراف الاستثناء إلى جميع المذكور وورد
بانصرافه إلى ما يليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الخامس وهو لأبي الحسين البصري من المعتزلة إن كان بين
الجمل تعلق وارتباط في الحكم أو في الاسم بأن يكون حكم
الأولى مضمرافي الثانية أو يكون ضمير المحكوم عليه في
الأولى موجودا في الثانية مثل: أكرم الفقهاء والزهاد إلا
المبتدعة وأكرم الفقهاء وأنفق عليهم إلا المبتدعة فإن
الاستثناء يرجع إلى الجميع وإن لم يكن بينهما تعلق وارتباط
اختص بالأخيرة فقط انظر نهاية السول 2/431 إحكام الأحكام
للآمدي 2/438 المحصول 1/412 انظر البرهان 1/388 المعتمد
1/245 التلويح على التوضيح 2/30 روضة الناظر 226, 227
المستصفى للغزالي 2/174 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
2/286, 287.
1 غير مقروءة في الأصل.
ج / 1 ص -217-
وورد
فيه الخلاف فالأول قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله إلى قوله:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فهذا الاستثناء ينصرف إلى جميع المذكور بالإجماع.
وقال تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة
مؤمنة إلى قوله:
{إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] فهذا يرجع إلى أقرب ما يليه وهو الدية ولا ينصرف إلى
التحرير وإنما قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إلى قوله تعالى:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 , 5] فهذا موضع الخلاف وعندنا ينصرف إلى جميع ما تقدم
وعندهم ينصرف إلى ما يليه وهو قوله تعالى:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] فأما من قال أن الاستثناء ينصرف إلى ما يليه من الجمل
المذكورة فاحتج بوجوه من الكلام.
أحدها أن أول الكلام مطلق فله حكم إطلاقه وآخر الكلام
مقيدا بالاستثناء فله حكم تقييده وهذا كقوله تعالى:
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي
حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ}
[النساء: 23] فقد انصرف هذا التقييد إلى الربائب وبقى
الأول على إطلاقه وهذا معنى ما روى عن الصحابة فى هذا
أبهموا ما أبهم الله.
ببنية: أن أول الكلام لما كان عاما
والاستثناء المذكور فى آخر الكلام يحتمل أن ينصرف إلى جميع
ما تقدم ويحتمل أن ينصرف إلى ما يليه فلم يجز إبطال صفة
العموم عن أول الكلام بالشك وربما يقول: أن أول الكلام عام
فمن ادعى تخصيصه فعليه الدليل كسائر العمومات.
وحجة أخرى بأن الاستثناء إنما يرد إلى ما تقدم إذا كان لا
يستقل بنفسه لأنه إذا لم يستقل بنفسه لم يقدر فوجب تعليقه
بما تقدم ليستقل ويفيد.
ألا ترى أنه إذا استقل بنفسه لم يعلق بما تقدم.
قالوا: وإذا علقناه بالذى يليه فقد استقل وأفاد فلا يعلق
بما زاد عليه لأن تعليقه بما زاد على ذلك يجرى مجرى تعليق
المستقل بنفسه بغيره لا من ضرورة.
دليل آخر لهم قالوا: الاستثناء من الجمل كالاستثناء من
الاستثناء وإذا كان الاستثناء من الاستثناء يرجع إلى ما
يليه ولا يفتقر فى إثبات استقلاله إلى أكثر من ذلك فكذلك
الاستثناء من الجمل يكون كذلك.
قالوا: وليس هذا كما لو عقب الجمل بشرط حيث يرجع إلى جميع
ما تقدم لأن.
ج / 1 ص -218-
الشرط
وأن تقدم فهو فى معنى التقدم لوجوب تقدم الشرط على الجزاء
والإنسان إذا قال اضرب ربيعة وبنى تميم أن قاموا معناه أن
قام بنو تميم وربيعة فاضربهم وليس كذلك الاستثناء الذى
اختلفنا فيه لأنه ليس من حقه وجوب تقديمه فلهذا لم ينصرف
إلى جميع ما تقدم.
قالوا: وكذلك الاستثناء بمشيئة الله تعالى لأن لفظه لفظ
الشرط ولأن من حق الاستثناء بمشيئة أن يوقف جميع الجملة.
وأما الاستثناء بإلا فيدخل على بعض دون البعض.
ألا ترى أنه لو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا أن شاء الله لم
يقع شىء1 ولو قال لامرأته أنت طالق إلا ثلاثا لم يصح2
وإنما يصح إذا قال أنت طالق ثلاثا إلا واحدة أو اثنين3 وقد
استدلوا بمسألة وهى أنه لو قال لفلان على عشرة دراهم وعشرة
دنانير إلا دينارا ينصرف الاستثناء إلى ما يليه وأن كان
يجوز الاستثناء للجنس من غير الجنس على قول بعض.
وقد قلتم أن الأصح جواز استثناء الجنس من غير الجنس من حيث
المعنى ومع ذلك فى هذه الصورة لم ترد فالاستثناء إلى جميع
ما تقدم.
وذكروا كلاما يختص بآية الرمى وقالوا: أن الاستثناء لم
ينصرف إلى جميع المذكور بالإجماع إلا أنه لم ينصرف إلى
الجلد ولو كان من حقه أن ينصرف إلى جميع ما تقدم لانصراف
إلى الجلد أيضا.
ببينة: أنه إذا لم ينصرف إلى جميع ما تقدم
فمن حقه أن ينصرف إلى ما يليه لأنه لا قائل يقول: أنه لا
ينصرف إلى ما يليه ولا ينصرف إلى جميع ما تقدم.
وأما أبو زيد فقد سلك فى آية القذف مسلكا آخر وزعم أن رد
الشهادة حد وقال هو عقوبة مؤلمة مثل الجلد عقوبة مؤلمة وهو
معطوف على الجلد ومفوض ذلك إلى الإمام الذى يلى إقامة
العقوبات فيكون فى حكمه وإذا كان عقوبة لم يسقط بالتوبة
وزعم أن الواو هاهنا للنظم وليس للعطف والتشريك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره موفق الدين بن قدامة رواية عن أحمد وقول طاوس
والحكم وأبي حنيفة والشافعي انظر المغني 8/382.
2 وذكر الموفق أنه لا يصح في اللغة اتفاقا انظر المغني
8/307, 312.
3 ذكره ابن قدامة عن ابن المنذر إجماعا انظر المغني 8/311.
ج / 1 ص -219-
وأما
دليلنا قال الأصحاب وربما نسبوا إلى الشافعى أن الجملة
التى عطف بعضها على بعض بواو العطف تجرى مجرى الجملة
الواحدة لأن واو العطف فى الأسماء المختلفة يقوم مقام واو
الجمع فى الأسماء المتماثلة ولا فرق عند أهل اللغة بين
قولهم أكرم العرب إلا الطوال منهم وبين قولهم أكرم مضر
وربيعة وقحطان إلا الطوال منهم وكذلك لا فرق عندهم بين
قوله اضرب بنى ربيعة وتميما إلا الطوال وبين قولهم بنو
تميم وربيعة اضربوهم إلا الطوال منهم وإذا صار الجميع
كالجملة الواحدة انصرف الاستثناء إلى الكل.
قالوا: على هذا أن واو العطف تجرى مجرى واو الجمع فى
اشتراك الاسمين فى الحكم مثل قول القائل اضرب فلانا وفلانا
أو أكرم فلانا وفلانا.
أما من أين قلتم أنه يجرى مجرى واو الجمع فى انصراف
الاستثناء إليها هذا مجرد الدعوى ثم نقضوا ذلك بالجملتين
المتباينتين وهو قوله أكرم ربيعة واضرب بنى تميم إلا
الطوال وإنما ينصرف الاستثناء إلى بنى تميم خاصة ثم قالوا:
فى قوله ربيعة وبنو تميم اضربوهم إلا الطوال منهم إنما
انصرف الاستثناء إليها لأن الاستثناء ينفصل بقوله اضربوهم
وفيه اسم الفريقين فينصرف الاستثناء إليهما.
وأما إذا قال اضرب بنى تميم وربيعة إلا الطوال فلم يتصل
الاستثناء باسم فيشمل الفريقين وقالوا: أيضا أن الواو قد
تكون للعطف وقد تكون للنظم على ما بينا.
ومعلوم أنه إذا قال الرجل أكرموا من يزورنا وقد حبست على
أقاربى دارى هذه واشتريت عقارى الذى تعرفونه من بيت فلان
وإذا مت فأعتقوا عبيدى إلا الفاسق منهم فإن الواو فى هذه
المواضع يفيد أن يكون للعطف وجعل الجملة بمنزلة الجملة
الواحدة فدل أنها للنظم.
وقوله إلا الفاسق ينصرف إلى ما يليه.
الجواب أنا نقول أن الجمل المعطوف بعضها على بعض تصير
بمنزلة الجملة الواحدة إذا لم تكن فى الآخر ما يدل على
الإضراب عن الأول لأنه إذا لم يكن إضرابا عن الأول
فالإتيان بحرف العطف بين الجملتين والتعقيب بالاستثناء
الذى أصل رده إلى الكل يدل على أنه لم يتم غرضه من الكلام
الأول.
والدليل على أنه لم يضرب عن الأول بالثانى أنه فى الخطاب
أضاف إلى الحكم الأول حكما آخر مبتنيا على السبب الأول
وهذا فى آية القذف ظاهر.
ج / 1 ص -220-
ونظيره
من الكلام قول القائل ادخل البلد الفلانى وسلم على بنى
هاشم واستأمرهم وكذلك يقول: سلم على بنى تميم وربيعة.
وبيان أنه لم يتم غرضه من الكلام الأول إضافته إلى الاسم
الأول لمعنى آخر فصار الكلامان من هذا الوجه مع حرف العطف
كالجملة الواحدة فينصرف الاستثناء إليها كما ينصرف إلى
الجملة.
وقولهم أن الواو للنظم قلنا الأصل أن الواو للعطف والتشريك
فإذا أمكن استعماله فى هذا لم يستعمل فى غيره.
يدل عليه أن صرف الاستثناء إلى بعض المذكور ليس بأولى من
البعض بحق الصيغة ألا ترى أن كل واحد من الجملة المتقدمة
يصح ذكرها موصولا بالاستثناء فإذا جمع بين الكل فى الذكر
وأتبعها بالاستثناء كان ابتدار الاستثناء إلى الكل ابتدارا
واحدا يوجب أن ينصرف إلى جميعها انصرافا واحدا وهذا كاللفظ
العام إذا ورد وجب إجراؤه على عمومه وسحبه على كل ما يصلح
له نظمه لأن بعض المسميات ليس بأولى من البعض إذ الكل
يبتدر إلى اللفظ ابتدارا واحدا وهو الذى قلناه هو المعتمد.
ومعنى دليل آخر أن الاستثناء فى مسألتنا كالشرط والاستثناء
بمشيئة الله فى أنه لا يستقل بنفسه فلما وجب رجوع الشرط
والاستثناء بمشيئة الله إلى جميع ما تقدم فكذلك لفظ
الاستثناء فى مسألتنا وهذا إلزام عظيم على الخصم والعذر
الذى قالوه فى نهاية الضعف لأنه يقال قولكم أن حق الشرط هو
التقدم هلا خصصتم الشرط بما يليه وقدرتموه تقدير المتقدم
عليه على الخصوص حتى يكون التقدير فى قوله اضرب بنى تميم
وربيعة أن دخلوا الدار اضرب بنى تميم وأن دخل الدار ربيعة
فاضربهم.
والحرف أنه ينبغى أن يتقدم الشرط والاستثناء بمشيئة الله
تعالى على الجملة الأخيرة فثبت ما ذكروه من حق التقدم ولا
ينصرف إلى جميع الجملة المتقدمة.
وأما الجواب عن كلماتهم أما قولهم أن المطلق على إطلاقه
والمقيد على تقييده قلنا ومن يسلم أن الجملة الأولى مطلقة
والثانية مقيدة وهذا لأنه ليس واحدة منهما تخالف صاحبتها
فى الإطلاق والتقييد بل الجمل كلها فى الصورة مطلقة وفى
المعنى مخصوصة بدليل قام عليه.
وقوله أن الاستثناء يحتمل أن ينصرف إلى الجميع ويحتمل أن
ينصرف إلى الواحد الذى يليه فلا يثبت تخصيص ما يستيقن من
الألفاظ المطلقة العامة بالشك قلنا لا عام.
ج / 1 ص -221-
هاهنا
لأنا قد بينا أن الجميع قد صار بمنزلة الجملة الواحدة
فلأنه أن كان فى انصرافه إلى الجملة الأولى شك فكذلك فى
انصرافه إلى الجملة التى تليه شك أيضا لأنه يحتمل أن ينصرف
الاستثناء إلى ما تقدم ذكره ولا ينصرف إلى ما يليه ألا ترى
إلى ما روى فى بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:
"ليس على المسلم فى عبده ولا فى فرسه صدقة إلا صدقة الفطر"1 وقوله إلا صدقة الفطر ينصرف إلى الأول.
وقال عامة أهل التفسير فى قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً}
[النساء: 83] أنه استثناء من قوله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا
بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] فهذا موضع الاستثناء بقوله إلا قليلا.
والجواب المعنوى أنه لاشك فى واحد من الردين سواء رد إلى
ما يليه أو إلى ما تقدم بل الموجود فى الكل احتمال الرد
إليه وصلاحية الرجوع عليه وهذا القدر كاف فى رد الاستثناء
إلى المذكور.
فإن قيل كيف تستوى الجملة الأولى والجملة الثانية وفى
الجملة الثانية لم يقع فصل بينهما وبين الاستثناء وأما فى
الجملة الأولى قد وقع الفصل بينهما وبين الاستثناء بالجملة
الثانية ووقوع الفصل مانع من رد الاستثناء إليها.
قلنا قد أجبنا عن هذا بقولنا أن الجميع قد صار بمنزلة
الجملة الواحدة ثم نقول بجواز أن يقع فصل بين الكلامين
بواو النسق ثم يرد الآخر منهما على الأول دون ما يليه
ويعطف عليه بإعرابه ما عداه كقوله تعالى:
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] فمن قرأ بفتح اللام تسبق الأرجل على الوجه وقد قطع
بينهما ذكر مسح الرأس وقال تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ
الْعَظِيمَ}
[الحجر:87] فقد فتح النون ورده بعد واو النسق على أول
الكلام ثم ينتقض هذا الذى ذكروه بالشرط والاستثناء بمشيئة
الله.
وأما قولهم أنه إنما يرد الاستثناء إلى ما سبق ليفيد.
قلنا ينتقض هذا بالشرط والاستثناء بمشيئة الله تعالى فإنه
غير مقيد ولا مستقل بنفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الزكاة 3/383 ح 1464 ومسلم الزكاة 2/676 ح
9/982 10/982 وأبو داود الزكاة 2/110 ح 1595 والنسائي
الزكاة 5/25 باب زكاة الخيل.
ج / 1 ص -222-
وإنما
يفيد إذا علق بما تقدم وقد أفاد بتعليقه بما يليه دفع ذلك
رجع إلى جميع ما سبق.
وعلى أنا نقول أن هذا الذى قلتم يمنع أن يكون الرجوع إلى
الجملة الأولى بحق الإفادة ولا يمنع أن يرجع بدليل آخر
يقوم عليه ونحن لا نرده إلى الجملة الأولى للإفادة بل إنما
رجع لدليل آخر قام عليه وأما تعلقهم بالاستثناء من
الاستثناء قلنا إنما يرجع إليهما لأن العشرة إثبات
والاستثناء منها يكون نفيا والاستثناء من النفى يكون
إثباتا ولو رجع الاستثناء إليها لكان نفيا وإثباتا وهذا
متضاد.
فإن قيل قلتم رجع إلى الثانى دون الأول قلنا لما رجع إلى
ما يليه وأمكن ذلك وتعذر رجوعه إلى ما سبق للتضاد الواقع
فصرناه على ما يليه لأجل القرب اللفظى وأما هاهنا قد أمكن
رجوعه إلى كل ما سبق بما بيناه ولا تضاد ولا تنافى فرددناه
إلى الجميع.
وأما المسألة التى أوردوا من قولهم لفلان على عشرة دراهم
وعشرة دنانير إلا دينارا قلنا يحتمل أن يقال ينصرف إليهما
جميعا ويحتمل أن ينصرف إلى الدنانير على الخصوص لأن
الاستثناء من غير جنس المستثنى منه مجاز على ما سبق فإن
كان حقيقة معنى فهو مجاز لفظا لكان رده إلى ما يكون اللفظ
فيه حقيقة أولى.
وأما قولهم فى آية القذف فى أن التوبة لا تنصرف إلى الجلد
قد أجبنا عنه فى مسائل الخلاف وكذلك عن طريقة أبى زيد
والكلام فى ذلك بالفقه أقرب منه بأصول الفقه فتركنا ذكره
والله أعلم.
فصل: قد ذكرنا تخصيص العموم بالاستثناء.
وأما تخصيص العموم بالشرط1.
فهو موجب لتخصيص المشروط فيه إلا أن يقع موقع التأكيد أو
غالب الحال فينصرف بالدليل عن حكم الشرط وهذا مثل قوله
تعالى:
{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] وليس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشرط لغة: هو العلامة ومنه أشراط الشاعة أي علاماتها
انظر القاموس المحيط للفيروزآبادي 2/ وعرفه صاحب جمع
الجوامع بأنه ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده
وجود ولا عدم انظر جمع الجوامع 2/20 نهاية السول 2/437
أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/292.
ج / 1 ص -223-
الخوف
بشرط مخصص للفعل بحاله وإنما هو للتأكيد كقوله تعالى:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}
[النساء: 23] وليس كونهن فى حجورهم بشرط مخصص وإنما ذكر
لأنه أغلب الأحوال1.
وإذا أوجب الشرط تخصيص المشروط فيه لم يثبت حكم المشروط
إلا بوجود الشرط فيوجد بوجوده ويعدم بعدمه ومثال هذه
الطهارة التى جعلها الله تعالى شرطا فى صحة الصلاة بقوله
تعالى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] وكقوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي اتفق القائلون بالمفهوم على أن كل خطاب خصص
محل النطق بالذكر لخروجه مخرج الأعم الأغلب لا مفهوم له
وذلك كقوله تعالى:
{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ}
وقوله: {وَإِنْ
خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ
أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} وقوله صلى الله عليه وسلم "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها
فنكاحها باطل" وقوله صلى الله عليه وسلم
"فليستنج بثلاثة أحجار" فإن تخصيصه بالذكر لمحل النطق في جميع هذه الصور إنما كان لأنه
الغالب إذ الغالب أن الربيبة إنما تكون في الحجر وأن الخلع
لا يكون إلا مع الشقاق وأن المرأة لا تزوج نفسها إلا عند
عدم إذن الولي لها وإنابة من يزوجها وأن الاستنجاء لا يكون
إلا بالحجارة وكذلك الحكم في كل ما ظهر سبب تخصيصه بالذكر
كسؤال سائل أو حدوث حادثة أو غير ذلك مما سبق ذكره من
أسباب التخصيص وعلى هذا فلو لم يظهر سبب يوجب تخصيص محل
النطق بالذكر دون محل السكوت بل كانت الحاجة إليهما وإلى
ذكرهما مع العلم بهما مستوية ولم يكن الحكم في محل السكوت
أولى بالثبوت وبالجملة لو لم يظهر سبب من الأسباب الموجبة
للتخصيص سوى نفي الحكم في محل السكوت فهل يجب القول بنفي
الحكم في محل السكوت تحقيقا لفائدة التخصيص أو لا يجب! إن
قلنا إنه لا يجب كان التخصيص بالذكر عبثا جليا عن الفائدة
وذلك مما ينزه عنه منصب آحاد البلغاء فضلا عن كلام الله
تعالى ورسوله وإن قلنا بموجب نفي الحكم لزم القول بدلالة
المفهوم في هذه الصورة.
والوجه في حله أن يقال: إذا لم يظهر السبب المخصص فلا يخلو
إما أن يكون مع عدم ظهوره محتمل الوجود والعدم على السواء
أو أن عدمه أظهر من وجوده فإن كان الأولى فليس القول
بالنفي أولى من القول بالاثبات وعلى هذا فلا مفهوم وإن كان
الثاني فإنما يلزم من ذلك نفي الحكم في محل السكوت أن لو
كان نفي الحكم فيه من جملة الفوائد الموجبة لتخصيص محل
النطق بالذكر وليس كذلك وذلك لأن نفي الحكم في محل السكوت
عند القائلين بمفهوم المخالفة إنما هو فرع دلالة اللفظ في
محل النطق عليه فلو كانت دلالة اللفظ في محل النطق على نفي
الحكم في محل السكوت متوقفة عليه بوجه من الوجوه كان دورا
ممتنعا انظر إحاكم الأحكام 3/146.
ج / 1 ص -224-
يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] فجعل عدم الرقبة شرطا فى جواز الصيام وجعل العجز عن
الصيام شرطا فى جواز الإطعام وعلى هذا قوله تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] أوجب إطلاق العموم استغراق ما انطلق عليه اسم المشرك
فى قتله ومثاله فإذا قال اقتلوا المشركين أن كانوا حربيين
وقاتلوهم حتى يعطوا الجزية أن كانوا كتابيين صار هذا1
الشرط مخصصا لعموم الأسماء.
واعلم أن من حق الشرط أن يكون مستقبلا لحكم مستقبل ولا
يجوز أن يكون ماضيا لحكم ماض ولا أن يكون مستقبلا لحكم ماض
لأنه إذا قال لا أكرم زيدا أمس إلا أن يقدم عمرو اليوم
امتنع اجتماع الشرط والمشروط لأنه أن أكرم زيدا بالأمس فهو
قبل وجود الشرط وأن لم يكرمه حتى يقدم عمرو فإن المشروط من
إكرام زيد بالأمس فلما امتنع اجتماعهما بطل حكم الشرط فبطل
حكم المشروط.
وأما أن كان الشرط ماضيا لحكم مستقبل كقوله أن كان زيد قدم
فأكرم عمرا فهذا على ضربين.
أحدهما أن يكون الشرط قد وجد قبل الأمر فيكون المأمور
مخاطبا بالأمر المشروط ويكون الشرط الماضى تضليلا وليس
بشرط فلا يخص به العموم لأنه لم يتقدمه أمر يختص بالشرط.
والضرب الثانى أن يكون الشرط لم يوجد فلا يجوز أن يتعلق
الحكم بوجوده بعد الأمر لأنه معقود على ماض وليس معقود على
مستقبل.
وأما تخصيص العموم بالغاية.
فالغاية كالشرط فى تخصيص العموم بها مثل قوله تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ
الْآخِرِ} إلى
قوله:
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [لتوبة: 29] فجعل إعطاء الجزية غاية فى قتالهم قبلها والكف عنهم
بعدها فصارت الغاية شرطا مخصصا.
وقد يتعلق الحكم المشروط بغاية وشرط فلا يثبت إلا بعد وجود
الغاية والشرط مثل قوله تعالى:
{وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] فجعل انقطاع الدم غاية والغسل شرطا فصارا معتبرين فى
إباحة الإصابة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "صارت هذه" ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 1 ص -225-
والتخصيص واقعا باجتماعهما ولا يقع بوجود أحدهما.
وأما التخصيص بالتقييد.
مثل قوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
[المجادلة: 3] وكقوله تعالى:
{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}
[المجادلة: 4] فلما قيد الرقبة بالإيمان والصيام بالتتابع
خص عموم الرقاب وعموم الصيام فلم يجز من الرقاب إلا
المؤمنة ومن الصيام إلا المتتابع وكان لولا التقييد
الإجزاء بكل رقبة مؤمنة كانت أو كافرة وكل صيام متتابعا
كان أو متفرقا وصار التقييد الشرعى تخصيصا لكل عموم ورد به
السمع.
ويجوز تقييد العموم بشرطين وأكثر1 وإذا زيدت شروط تقييده
كان أضيق لتخصيص عمومه ويجوز أن يجمع فى تقييد العموم بين
شرط وصفة وغاية فإذا قال إذا قدم زيد صحيحا إلى رمضان فأعط
عمرا درهما كان قدوم زيد شرطا وصحته صفة وإلى رمضان غاية
ودفع الدرهم إلى عمرو حكما يلزم بمجموع الشرط والصفة
والغاية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الشرط قد يأتي متعددا على سبيل الجمع نحو: إن
كان زانيا أو محصنا فارجمه فيحتاج إليهما للرجم وأما على
سبيل البدل نحو: إن كان سارقا أو نباشا فاقطعه فيكفي واحد
منهما في وجوب القطع انظر نهاية السول 2/441 إحكام الأحكام
2/455, 456 المحصول 1/424 المعتمد 1/240 أصول الفقه للشيخ
أبو النور زهير 2/294, 295.
فصل: ومما يدخل فى باب العموم القول فى ألفاظ
الشارع فى حكايات الأحوال.
فعند الشافعى رحمه الله أن ترك الاستفصال فى حكايات
الأحوال مع الاحتمال يجرى مجرى العموم فى المقال2.
ومثال ذلك ما روى أن غيلان بن سلمة الثقفى رضى الله عنه
أسلم وتحته عشر نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أمسك أربعا وفارق سائرهن"3 ولم
يسأله عن كيفية العقد عليهن هل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 في هذه المسألة خالف الإمام أبو حنيفة الإمام الشافعي
فقال: إن كان العقد عليهن في وقت واحد فعليه أن يجدد عقد
النكاح على أربع منهن أي أربع وقع عليهن اختياره.
وإن كانت العقود مرتبة فعليه أن يمسك الأربع الأول ويفارق
ما عداهن لأن العقود الأولى صادفت محلا قابلا للعقد فكانت
صحيحة أما ما عداها فلم يصادف محلا قابلا للعقد فكان باطلا
انظر نهاية السول 2/367, 368, 369 إحكام الأحكام للآمدي
2/345 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/232.
3 أخرجه الترمذي النكاح 3/426 ح 1128 وابن ماجه النكاح
1/628 ح 1953 والبيهقي في الكبرى 7/294 ح 14041 وابن حبان
1277 - 1278/موارد.
ج / 1 ص -226-
عقد
عليهن على الترتيب أو عقد عليهن دفعة واحدة فكان إطلاقه
القول من غير استفصال واستبراد حال دليلا دالا على أنه لا
فرق بين أن تتفق العقود عليهن معا أو يوجد العقود متفرقة
عليهن فإن قال قائل يجوز أن النبي صلى الله عليه وسلم علم
كيفية الحال فلهذا لم يسأل وأطلق الجواب وأيضا فإن كان
الرسول عليه السلام لم يقف على الكيفية فى هذه الحادثة ولا
يعرف استبهام الكيفية فى كل حادثة تنقل على هذا الوجه.
والجواب المطلق إنما يمكن حمله على العموم إذا كان مبتنيا
على استبهام الحادثة.
والجواب أن دعوى معرفة النبي صلى الله عليه وسلم لكيفية
العقود من غيلان بن سلمة وهو رجل من ثفيف ورد عليه ليسلم
والتعرف لأمثال هذه المواقعات يبعد من الآحاد من الناس
فكيف يلائم حال الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا غاية
البعد.
والذى ذكر ثانيا فنحن إنما ندعى العموم فى كل ما يظهر فيه
استفهام الحال ويظهر من الشارع إطلاق الجواب فلا بد أن
يكون الجواب مسترسلا على الأحوال كلها وعلى أن وجه الدليل
واضح من خبر غيلان بن سلمة فى الأحوال كلها فإن النبي صلى
الله عليه وسلم قال أمسك أربعا فأجملهن ولم يخصص فى
الإمساك أوائل عن أوآخر أو أوآخر عن أوائل وفوض الأمر إلى
اختيار من أسلم ولذلك قال لفيروز الديلمى وقد أسلم على
أختان: "اختر أيهما شئت
وفارق الأخرى"1 فقد علق على اختياره على الإطلاق من غير تعرض لأولى وأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الطلاق 2/280 ح 2243 والترمذي النكاح
3/427 ح 1129 - 1130 وقال هذا حديث حسن وابن ماجه النكاح
1/627 ح 1951 وأحمد المسند 4/284 ح 18063.
فصل
وإذا وردت صيغة مختصة فى وضع اللسان برسول الله صلى الله
عليه وسلم فالذى صار إليه أبو حنيفة وأصحابه أن الأمة معه
فى ذلك سواء ولهذا تعلقوا فى مسألة النكاح بلفظ الهبة
بقوله تعالى:
{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا
لِلنَّبِيِّ} فالخطاب يختص به والأمة عندهم كالنبى صلى الله عليه وسلم فى موجبه
وقد أوقفهم بعض أصحابنا فى هذا2 وقال من ذهب إلى هذا إن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 في هذه المسألة قولان:
الأول: وهو قول عامة الأصوليين من الشافعية والحنفية أن
الخطاب لا يتناول الأمة.
القول الثاني: أن خطاب الرسول خطاب لأمته وهذا القول منقول
عن أبي حنيفة وأحمد بن......=
ج / 1 ص -227-
الأصل
أن النبي صلى الله عليه وسلم وأمته فى الشرائع على التسوية
والتماثل كما أن الأصل أن الأمة بعضها مع البعض فى الشرع
سواء فإن جرى تخصيص فى بعض المواضع فإنما صدر ذلك عن دليل
خاص دل عليه وقد روى أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم قال له فى بعض الأمور إنك لست مثلنا أنه قد غفر الله
لك ما تقدم من ذنبك وما تآخر فغضب وقال إنما أرجو أن أكون
أخشاكم لله تعالى ثم ذكر كلاما عن النكاح وغيره وقال فى
آخره:
"فمن رغب عن سنتى فليس منى"1 وقال تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فدل أنه صلى الله عليه وسلم قدوة الأمة فى كل شىء.
وقد وجدت أحكام خاصة لأفراد من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم مثل ما روى أن خزيمة ابن ثابت كان مختصا
بشهادتين2 وكذلك قال للبراء بن عازب فى الأضحية تجزيك ولا
تجزيء عن أحد بعدك3 ورخص للزبير فى لبس الحرير عن حكة به4
ولم ينقل أحد أنه يجوز لغيره ونحن نقول أن رجعنا إلى صورة
اللفظ فلا ارتياب أنه مختص بالرسول صلى الله عليه وسلم ثم
بعد هذا يقال ما ظهرت فيه خصائص الرسول عليه السلام
كالنكاح والمغانم فإذا ورد خطاب مختص به صلى الله عليه
وسلم فهو مخصوص به وعلى هذا ينبغى أن نص بأصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم أنهم اعتقدوه وإنما صرنا إلى هذا لأن
الصيغة خاصة واختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم فى الباب
معلوم فحمل الخطاب على أنه خاص له فأما ما لم يظهر فيه
خصائصه وورد خطاب من الله تعالى يختص به فينبغى أن يكون
الأمر على ما قاله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حنبل رضي الله عنهما وأصحابهما انظر إحكام الأحكام
للآمدي 2/379 نهاية السول 2/358 البرهان 1/367 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 2/224, 225.
1 أخرجه البخاري النكاح 9/5 ح 5063 ومسلم النكاح 2/1020 ح
5/1401 والنسائي النكاح 6/48 ح باب النهي عن التبتل وأحمد
المسند 3/295 ح 13540.
2 أخرجه البخاري الجهاد 6/26 ح 2807 وأبو داود الأقضية
3/306 ح 3607 والنسائي البيوع 7/265 باب التسهيل في ترك
الإشهاد على البيع وأحمد المسند 5/223 ح 21696.
3 أخرجه البخاري الأضاحي 10/5 ح 5545 ومسلم الأضاحي 3/1553
ح 7/1961 وأبو داود الضحايا 3/96 ح 2800 وأحمد المسند
4/372 ح 18717.
4 أخرجه البخاري الجهاد 6/118 ح 21919 ومسلم اللباس 3/1646
ح 25/2076 وأبو داود اللباس 4/49 ح 4056 والترمذي اللباس
4/218 ح 1722.
ج / 1 ص -228-
وهذا
لأنه قدوة الأمة فإذا وضعنا الخطاب على التخصيص الذى
يقتضيه ظاهرة وقطعنا الأمة عنه مع جريان عادة أهل اللسان
فى خطاب الواحد ويريدون به الجماعة يؤدى إلى خرم قاعدة
الاقتداء به وقد أمر الله صلى الله عليه وسلم تعالى
باتباعه فى مواضع كثيرة من القرآن وربما يؤدى قطع المشاركة
فى الأحكام إلى نفرة القلوب عنه وتباعدها منه فالأولى ما
ذكرنا والله أعلم بالصواب.
وأما إذا خصص الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من أمته
بخطاب فقد ذكر بعضهم خلافا فى هذا وقال من العلماء من صار
إلى أن المكلفين قاطبة يشاركون المخاطب ومنهم من قال لا
يشاركون فمن قال بالأول صار أن الأصل أن جميع الأمة فى
الشرع سواء بلا تخصيص لواحد من بين الجماعة وقد جرت عادة
أهل اللسان أنهم يخاطبون الواحد ويريدون به الجماعة وهذا
فى كلام كثير.
وأما من قال بالثانى فقد ذهب إلى صورة الصيغة وهى مختصة
بالواحد من بين الجماعة فلا يجعل للتعميم إلا بدليل والأول
أولى لأنا وأن كنا إذا نظرنا إلى مقتضى الصيغة كان موجبا
للتخصيص ولكن إذا نظرنا إلى ما استمر الشرع عليه فذلك
يقتضى المشاركة والمساواة ألا ترى أن اللفظ الذى يخص به
أهل عصر يكون مسترسلا على الأعصار كلها ولا يخص به أهل
العصر الأول كذلك هاهنا.
مسألة: ومما يتعلق بباب العموم والخصوص مسألة المطلق
والمقيد.
اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقا لا تقييد له يحمل على إطلاقه
وأن ورد مقيدا لا مطلق له حمل على تقييده وأن ورد مطلقا فى
موضع ومقيدا فى موضع ينظر فى ذلك فإن اختلف السبب واختلف
الحكم جميعا مثل ما ورد من تقييد الصيام بالتتابع فى كفارة
القتل وإطلاق الإطعام فى الظهار لم يحمل أحدهما على الآخر
بل يعتبر كل واحد منهما بنفسه لأنهما لا يشتركان فى لفظ
ولا فى معنى1.
وإن كان ورودهما فى حكم واحد وبسبب واحد مثل أن يذكر
الرقبة مطلقة فى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/3 روضة الناظر 230 المحصول
1/457 التصريح على التوضيح 1/63 حاشية الشيخ بخيت المطيعي
2/496 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/333.
ج / 1 ص -229-
كفارة
القتل ومقيدة فى كفارة الظهار كان الحكم للمقيد وبنى
المطلق عليه ويصير كأن الوارد حكم واحد استوفى بيانه فى
أحد الموضعين ولم يستوف بيانه فى الموضع الآخر1.
وأما إذا ورد المطلق والمقيد فى حكم واحد وبسببين مختلفين
مثل ما وردت الرقبة مطلقة فى كفارة الظهار ومقيدة بالأيمان
فى كفارة القتل فعندنا يحمل المطلق على المقيد.
واختلف أصحابنا فيما يوجب الحمل فمن أصحابنا من قال يحمل
المطلق على المقيد بنفس الورود ومنهم من قال من جهة
القياس2.
وأما إذا اتفق السبب فاختلفوا فيه فقال بعضهم يحمل المطلق
على إطلاقه والمقيد على تقييده مثل ما اختلف بالسبب ومنهم
من قال يحمل المطلق على المقيد فى هذه الصورة أما دليلهم
قالوا: أن المطلق خطاب على حاله والمقيد خطاب على حاله
وربما يقولون نص على حدة ونص على حدة فهما نصان مختلفان
فلا يحمل أحدهما على الآخر بل يعمل كل واحد منهما على ما
يقتضيه إذ كل واحد منهما موجب للعمل بنفسه وبصيغته قالوا:
وعلى هذا سواء كان المطلق أو المقيد فى سببين مختلفين أو
سبب واحد يدل عليه أنا نعقل من كلام صاحب الشرع ما يعقل
بعضنا من كلام البعض لأن الله تعالى خاطبنا بما يخاطب به
العرب بعضهم مع البعض ثم الواحد منا لو أطلق كلامه إطلاقا
ثم قيده ثانيا تقييدا فإنا نحمل المطلق على المقيد بل يجرى
كل واحد منهما على سببه وقضيته ألا ترى من قال لامرأته أن
دخلت الدار فأنت طالق ثم قال أن دخلت الدار راكبة فأنت
طالق فإنها تطلق إذا دخلت الدار راكبة وتطلق إذا دخلت
الدار غير راكبة.
وكذلك إذا قال الرجل لغيره أعتق عبدا واحدا من عبيدى وقال
لآخر أعتق عبدا واحدا أبيض من عبيدى فإن الأول يملك أن
يعتق أى عبد شاء والثانى لا يملك إلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/457 إحكام الأحكام للآمدي 1/4 التصريح
على التوضيح 1/63 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/333,
334.
2 انظر المحصول 1/459 إحكام الأحكام للآمدي 3/5 روضة
الناظر 231 التصريح على التوضيح 1/63 حاشية الشيخ بخيت
المطيعي 2/499 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/335.
ج / 1 ص -230-
إعتاق
عبد أبيض ولا يحمل المطلق على المقيد فكذلك ما جاء من
الشرع يكون كذلك وهذا المعنى معقول وهو أن المطلق ضد
المقيد فيكون فى حمل المطلق على المقيد نسخ المطلق لا نسخ
الحكم رفعه وأنتم قد رفعتم المطلق وحكمه بالمقيد وحكمه.
وبيان رفعه أن قضية المطلق أجزأ كل ما يسمى رقبة وقد ارتفع
هذا الإجزاء والرفع نسخه ببينة أن التعبير بمقتضى الآية
نسخ فالرفع لأن يكون نسخا أولى.
قالوا: ولهذا لا يشترط فى قضاء رمضان من التتابع لأنه ورد
مطلقا بقوله تعالى:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] ولم يحمل على صوم اليمين ولا على صوم الظهار وكذلك
عندكم لا يحمل الصوم فى كفارة اليمين على الصوم فى كفارة
القتل والظهار.
قالوا: وأما فى الشهادة فإنا لا نقول يحمل المطلق فيها على
المقيد بالعدالة لكن شرطنا العدالة فى الشهادة التى لم يرد
فيها النص تقييدا بالعدالة بدليل آخر وهو قوله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ
بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] والأمر بالتثبت يمنع القبول وكذلك فى زكاة الغنم إنما
شرطنا السوم بدليل آخر وهو قوله عليه السلام لا زكاة فى
المعلوفة ولا فى المحمولة وكذلك إنما قيدنا الميراث
المذكور فى آخر سورة النساء بما قيد به الميراث المذكور فى
أولها من تأخيره عن الدين والوصية بالإجماع لا يحمل المطلق
على المقيد قالوا: ولا يجوز أن يقال أن المطلق عام وحمله
على الرقبة المؤمنة تخصيص لأن دعوى العموم باطلة فى قوله:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[النساء: 92] من وجوه منها أن قوله:
{رَقَبَةٍ} اسم لرقبة واحدة لأنها نكرة فى الإثبات فتخص ولا تعم والعام ما
يشتمل على مسميات كثيرة فأما الذى يشتمل على مسمى فرد ومحل
وبلد فمحال أن يدعى فيه العموم ببينة أنه لا شك أنه اسما
مفردا.
ألا ترى أنه يجمع فيقال رقبة ورقبات كما يقال رجل ورجال
وعبد وعبيد ودعوى التخصيص فى اسم المفرد محالا ولأن إثبات
التقييد فى الرقبة المطلقة زيادة على النص والزيادة على
النص لا يجوز أن يدعى أنه تخصيص بوجه ما لأن التخصيص نقصان
والنقصان زيادة على النص والزيادة على النص لا يجوز أن
يدعى أنه تخصيص بوجه ما لأن التخصيص نقصان والنقصان ضد
الزيادة ونقيضها فكيف نجوز أن يدعى فى الشىء معنى ضده
ونقيضه والدليل على أنه زيادة أن صفة الإيمان لا تشتمل
عليها اسم الرقبة فإن الرقبة اسم للبنية بأجزائها والإيمان
ليس من إقرار بوجه ما وإنما هو.
ج / 1 ص -231-
معنى
يعتقده ويكتسبه بقلبه وكذلك لو كفر وما كان من هذا الوجه
لم يتصور أن يشتمل عليه اسم الرقبة.
قالوا: ولا يجوز أن يدعى العموم فى أوصاف الرقبة لأن
الأوصاف غير مذكورة فلا يجوز دعوى العموم فيها وما هو
المذكور يقع اسما على الرقبة الواحدة وتخصيص المسمى الواحد
محال.
قالوا: وليس كالمعيبة والسليمة لأن العيب نقصان جزء من
أجزاء البنية فلا تكون رقبة مطلقة وأما الكافر فرقبة مطلقة
مثل المؤمنة لأن الكفر والإيمان ليس من أجزاء البنية فعلى
هذا لا يكون شرط السلامة زيادة على النص بل يكون اعتبارها
اعتبار ما يقتضيه النص.
وأما صفة الإيمان لما كان سببا وراء ما يقتضيه اسم الرقبة
فيكون زيادة محضة وإذا بدا أنه زيادة لم يجز إثباتها
بالقياس لأن بالقياس لا يجوز الزيادة على النص لأنها نسخ
على ما سنبين فى باب النسخ ونسخ القرآن بالقياس لا يجوز
ولأن القياس إنما يجوز استعماله فى غير موضع النص وهذا
استعمال القياس فى موضع النص لأن كفارة القتل منصوص عليها
وكفارة الظهار منصوص عليها وقياس المنصوص عليه على المنصوص
عليه باطل كما لا يجوز قياس السرقة على قطع الطريق لإثبات
قطع الرجل مع اليد وكذلك قياس التيمم على الوضوء باطل فى
إدخال الرأس والرجل فى التيمم وكذلك قياس كفارة القتل على
كفارة الظهار باطلة فى إثبات الإطعام والإطعام كفارة مثل
الرقبة والصيام.
ببينة أن التقييد بالإيمان زيادة على حكم قد قصد استيفاؤه
بالنص فلم يجز كما لا يجوز فى هذه الصورة التى بيناها
قالوا: وأما قول من قال من أصحابكم يقيد بنفس ورود المقيد
ويحمل عليه بلا قياس ولا دليل يدل عليه فكلام باطل وزعم
محال لأن ظاهر المطلق يقتضى أن يجرى على إطلاقه فلو خص
بالمقيد مجرد كون هذا مطلقا وكون الآخر مقيدا كان هذا مجرد
ميل باطل وينتهى بمحال لأنه لا يكون أن يقيد بأولى من أن
لا يقيد به.
ببينة أنه يجوز أن يكون حكم الله تعالى فى أحدهما الإطلاق
وفى الآخر التقييد وأيضا كما لا يجوز أن تكون المصلحة
الشرعية فيهما التقييد يجوز أن يكون المصلحة الشرعية فيهما
الإطلاق ويجوز أن يكون المصلحة فى أحدهما الإطلاق بينما
الآخر.
ج / 1 ص -232-
التقييد يدل عليه أنه لو جاز أن يقيد أحدهما بمجرد أن
الآخر مطلق من غير أن يكون بينهما وصلة لا لفظية ولا
معنوية ولكن بمجرد أن هذا المقيد وجب أن يقيد الآخر ومثله
من هذا أيضا أن يكون لأحدهما بدل لأن للآخر بدلا أو يثبت
التخصيص فى أحد العموم لأن الآخر مخصوص.
قالوا: وقول بعضكم أن القرآن كله كالكلمة الواحدة يقيد
بعضه مما يقيد به البعض الآخر مثل قوله تعالى:
{وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] لا يصح لأن قولهم أن القرآن كالكلمة الواحدة أن
أرادوا بذلك أن كله حق ولا غرر فى شىء منه ولا اختلاف هذا
صحيح.
وإن أرادوا أن كله كالشىء الواحد حتى يقيد البعض منه بما
يقيد به البعض فهذا كلام لم يقل به أحد وكيف يكون كالكلام
الواحد وقد أنزله الله تعالى على سبعة أحرف وقيل معناه سبع
جهات أمر ونهى ووعد ووعيد ومتشابه وقصص ومثل ولأن اسم
القتل لا ينطلق على الظهار فلا يستعمل فيه حكمه إلا بمعنى
يوجب قياسه عليه كالبر لما كان اسمه لا ينطلق على الأرز لم
يستعمل فيه حكمه إلا بمعنى يوجب قياسه عليه وهو أما الكيل
أو الطعم على حسب ما اختلفوا فيه.
فأما حجتنا نقول فى المطلق والمقيد إذا وردا فى حادثة
واحدة أن التقييد زيادة فى أحد الخطابين ورد من الشارع
فوجب الأخذ بها دليله الزيادة فى الاحتياط فإنه يجب الأخذ
بها كذلك هاهنا وإذا وجب الأخذ بهذه الزيادة لم يكن بد من
حمل المطلق عليه لأنا إذا لم نحمل المطلق عليه كان تركا
لوصف التقييد.
فإن قالوا: وإذا حملنا المطلق على المقيد كان تركا لوصف
الإطلاق قلنا لا يكون تركا بل يكون قولا بتخصيص عموم وأما
إذا لم يحمل المطلق عليه كان تركا لصفة التقييد أصلا فإن
قوله عليه السلام:
"فى سائمة الغنم زكاة"1 إذا
لم يحمل عليه الخطاب الذى ورد فى إيجاب زكاة الغنم تعطلت
صفة السوم والغنم ولم يبق لها فائدة ولا بد فى هذا الدليل
من الرجوع إلى أن القول بدليل الخطاب واجب وأنه حجة شرعية
وسيأتى هذا من بعد.
ونقول أيضا إذا أجرينا المطلق على إطلاقه اعترضنا به على
المقيد وإذا اعتبرنا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الزكاة 3/371 - 372 وأبو داود الزكاة 2/98
ح 1567 والنسائي الزكاة 5/19 باب زكاة الغنم وأحمد المسند
1/16 ح 73.
ج / 1 ص -233-
المقيد
واعتبرنا التقييد فى إثبات الحكم اعترضنا على المطلق ولا
بد من واحد منهما والثانى أولى لأن الأمر المقيد صريح فى
وصف التقييد أعنى السوم أو وصف الإيمان فيما إذا قال إذا
جنيتم فأعتقوا رقبة ثم قال إذا جنيتم فأعتقوا رقبة مؤمنة
واللفظ مختص بهذا الوصف.
وأما المطلق فظاهر فى المعلوفة وليس بصريح فيها وكذلك فى
المثال الثانى ليس بصريح فى الكافرة فكان الاعتراض بالصريح
على الظاهر وبالنص على العام أولى لأن الخاص مقدم على
العام والصريح مرجح على الظاهر هذا هو الكلام فى المطلق
والمقيد إذا ورد فى حادثة واحدة والذى ذكروا من المثالين
فى مسألة الطلاق والعتاق فلا يعرف ذلك على مذهبنا وإنما هو
على مذهبهم.
وأما الدليل فى الفصل الثانى وهو إذا ورد المطلق والخطاب
المقيد فى شيئين مختلفين مع إيجاد الحكم وهو المسألة
المعروفة ومثال ذلك فى كفارة القتل وكفارة الظهار فوجه
الكلام فى هذه المسألة أن يدل على أن قوله:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة 3] لفظ عام يشتمل على جميع الرقاب والتقييد بالإيمان
تخصيص وإذا ثبت هذا صح بالقياس لأنا بينا أن تخصيص العموم
بالقياس جائز والدليل على أنه لفظ عام أن قوله:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[المجادلة 3] صالح لكل رقبة لأن الرقبة اسم لكل شخص له
رقبة إلا أنه اختص بالعبيد من حيث العرف فهو إذا صالح
للمؤمنة والكافرة والمعيبة والسليمة والعاقلة والمجنونة
وإذا صلح لكل الرقاب كان عاما فى كل الرقاب إلا أنه لفظ فى
كل الرقاب من حيث البدل على معنى أنه لا يتعدد الرقبة
الداخلة فى الأمر بالتحرير غير أنه ما من رقبة توجد وتسمى
رقبة إلا ويتناولها اللفظ ويشتمل عليها الأمر حتى لو قصدها
فيحررها تخرج عن عهدة الأمر فصار معنى قولنا من حيث البدل
أنه متناول لكل الرقاب لا من حيث يدخل جميع الرقاب فى
الأمر بالتحرير ولكن من حيث استرسال الأمر على الرقاب بوصف
التناول وقيام البعض مكان البعض فيكون عاما من حيث المعنى
أن لم يكن عاما من حيث صورة اللفظ ويمكن أن يقال أنه عام
فى الأوصاف لأنه على أى وصف كانت الرقبة فهى رقبة.
وقولهم أن الوصف غير مذكور فلا يمكن دعوى العموم فيه قلنا
الأوصاف لا تنفك الرقاب عنها بل هى من صورة الرقاب فصارت
كالمذكورة فصح دعوى العموم فيها.
ج / 1 ص -234-
ثم
الدليل الواضح على أنه لفظ عام أنه يحسن منه الاستثناء
بإلا وهو أن يقول: أعتق رقبة إلا أن تكون كافرة أو ذمية أو
معيبة أو يقول: أعط هذا الدرهم فقيرا إلا أن يكون كافرا
والاستثناء بعض ما يتناوله اللفظ ولولا أنه عام لم يتصور
فيه الاستثناء لأن الاستثناء تخصيص إلا أنه دليل يتصل
باللفظ والذى يتكلم فيه تخصيص بدليل منفصل عن اللفظ وإذا
استويا فى معنى التخصيص فإذا قيل هذا اللفظ أحدهما قبل
الآخر وقد ظهر هذا الذى قلناه الجواب عن قولهم أنه اسم فرد
فهو وأن كان اسم فرد ولكنه عام فى الأوصاف أو نقول هو وأن
كان اسم فرد فى الصورة لكنه اسم عام فى المعنى على ما
ذكرنا من قبل بالتخصيص إنما يصح لعمومه من حيث المعنى كما
صح الاستثناء بهذا الوجه ونزيد ما قلناه إيضاحا فنقول
التخصيص على وجهين تخصيص بإخراج بعض المسميات من اللفظ مثل
قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فإن تخصيصه بإخراج بعض ما تناوله اللفظ من المسميات.
والوجه الثانى من التخصيص هو إفراد بعض ما يصلح له اللفظ
عن البعض وأن شئت قلنا تعيين بعض ما يتناوله الاسم المبهم
ونظيره قول الرجل رأيت زيدا فهذا اسم مبهم يصلح اللفظ لكل
من يسمى زيدا فإذا قلت: رأيت زيدا العالم فقد أفردت بعض من
يصلح له اللفظ عن البعض وعنيت بعض من يتناوله الاسم
المبهم.
وإذا ثبت أن ما قلناه من حمل المطلق على المقيد بالقياس
ومنع إجزاء الرقبة الكافرة تخصيص لفظ عام شامل لمسميات
كثيرة بالوجه الذى قدمنا سقط قول أن تقييد الرقبة بالإيمان
زيادة فى النص بل هو نقصان لأن التخصيص يكون نقصانا ولا
يكون زيادة.
وقولهم أن اسم الرقبة للبنية بأجزائها قلنا نعم ولكن
الإيمان والكفر وصف لهذه البنية فقال رقبة مؤمنة ورقبة
كافرة كما يقال معيبة وسليمة وكما لا يتصور إلا أن تكون
معيبة أو سليمة لا يتصور إلا أن تكون كافرة أو مؤمنة وقد
قال الطبرى فى أصوله لا يجوز أن لا يعتقد الكفر ولا
الإيمان فيخلو عنهما وهذا هوس لأنه إذا لم يعتقد الإيمان
يكون كافرا ولا أن تكون لا مؤمنة ولا كافرة كما لا يتصور
أن تكون لا معيبة ولا سليمة وعلى أنه يدعى أن الإيمان
والكفر من أجزاء البنية لكن ادعينا أنهما وصفا البنية
وادعينا العموم من حيث الأوصاف ولهذا جاز الاستثناء.
ج / 1 ص -235-
وإذا
جاز أن لا يكون من أجزاء البنية وصح استثناء الرقبة بهذا
الوصف جاز أيضا أن لا يكون من أجزاء البنية ويصح تخصيص
الرقبة بهذا الوصف.
واعلم أن فصل الاستثناء يهدم كل كلام لهم فى هذه المسألة
ولا يتصور لهم رد وكلام عليه والجواب إنما لا يدعى أن
الكفر من أجزاء الرقبة أو الإيمان لكن يدعى أن الكافر رقبة
وتناول اللفظ إياه من هذا الوجه لا من وجه الذى قلتم وقد
بينا دعوى العموم فى هذه المسألة ولم نحتج إلى أن نبين أن
الزيادة فى النص لا تكون نسخا وتركنا الكلام فيه إلى أن
نبلغ إلى مسائل النسخ وأما المسائل التى أوردوها فإنا لم
نجز استعمال القياس فى هذه المسائل لأن الإجماع منع منه.
وأما مسألة التتابع فى قضاء رمضان أو فى صوم كفارة اليمين
فإنما لم نحمل المطلق على المقيد فى ذلك لأن المحل قد
تجاذبه أصلان أعنى صوم المتعة حيث نص فيه على التفريق وصوم
الظهار حيث نص فيه على التتابع فلم يكن إلحاقه بأحدهما
أولى من إلحاقه بالآخر على حاله.
والكلام فى مطلق له أصل واحد فى المقيد وحين بلغ هذا
الكلام فى هذا الموضع فقد انتهت المسألة والذى قالوا: أن
قياس كفارة الظهار على كفارة القتل قياس المنصوص عليه على
المنصوص عليه قد أجبنا عن هذا فى الخلافيات فلا معنى
للإعادة ثم الكلام فى العموم والخصوص ونتبع القول فى هذا
القول فى مفهوم الخطاب ودليله لأنه لائق بفصل المطلق
والمقيد وقد انبنى الكلام عليه فى بعض فصوله والله الموفق
للصواب. |