قواطع الأدلة في الأصول

ج / 2 ص -259-       القول في الاستدلال
قد ذكرنا أن الاستدلال طلب الحكم بالاستدلال بمعانى النصوص وقيل: أنه استخراج الحق وتمييزه من الباطل ذكرهما أبو الحسن الماوردى وقيل: إنه معنى مشعر بالحكم المطلوب مناسب له فيما يقتضيه الفكر العقلى من غير وجدان أصل متفق عليه1.
واختلفوا في هذا فذهب جماعة إلى رد الاستدلال وقالوا: لا يجوز أن يكون المعنى دليلا حتى يستند إلى أصل وذكره القاضى أبى بكر وجماعة من المتكلمين وأما الذى يدل عليه مذهب الشافعى رحمة الله عليه هو كون الاستدلال حجة وإن لم يستند إلى أصل ولكن من شرط قربه من معانى الأصول المعهودة المألوفة في الشرع وقد ذهب طائفة من أصحاب أبى حنيفة إلى جواز الاستدلال وإن لم يستند إلى حكم متفق عليه في أصل وشرح ذلك أن يكون الثابت مصالح شبيه بالمصالح الثابته في أصول الشرع غير خارجة عنها وأفرط مالك في جواز القول بالاستدلال2 وجوز مصالح بعيدة عن المصالح المعهودة والأحكام المعروفة في الشرع وحكى عنه جواز القتل وأخذ المال بمصالح يقتضيها غالب الظن وإن لم يوجد لتلك المصالح مستندا إلى أصول وربما يقول أصحاب مالك يجوز اتباع وجوه المصالح والاستصواب قربت عن موارد النصوص أو بعدت إذا لم يصدمها أصل من الأصول الثلاثة الكتاب والسنة والإجماع واحتج من نفى الاستدلال على وجه القياس بأن الدلائل محصورة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة والقياس على أحدها والاستدلال الذى يذكرونه خارج عن هذه الأقسام ومن هذه الدلائل أجمع قد يصح أن يكون دليلا قال القاضى أبو بكر: إن المعانى إذا حصرتها الأصول وضبطتها المنصوصات كانت منحصرة في ضبط الشرع وإذا لم يشترط استنادها إلى الأصول لم تنضبط واتسع الأمر وصار الشرع مرجوعه إلى وجود الرأى من الناس من غير اعتماد واستناد إلى أصل شرعى فيرى كل إنسان وجها ويعتمد شيئا سوى ما يراه ويعتمد صاحبه ويصير إذا أهل الرأى في هذا بمنزلة الأشياء فيفعل كل إنسان ما يراه ويعتقده صلاحا في المعنى الذى سنح له فيصير ذلك ذريعة إلى أبطال أبهة الشروع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان "2/1113" إحكام الأحكام "2/161".
2 انظر البرهان "2/1113, 1114".

 

ج / 2 ص -260-       ورونقها ويذهب طراوتها وبهاؤها وينسكب ماؤها ثم مع ذلك يختلف ما يرونه من الاستصلاح والاستصوابات بالمكان والزمان وأصناف الخلق فتختلف أحكام الله تعالى نهاية الاختلاف ويكون حكم الله تعالى اليوم خلاف ما كان عليه أمس وحكم الإنسان خلاف حكم جاره وشريكه وهذا أمر يخالف ما عهد عليه قوانين الشرع وما درج عليه الأولون من هذه الأمة وما أرى القول به إلى مثل هذا فهو باطل وهذا لأن ما لا أصل في الشرع فهو في نفسه ما لا أصل له وأيضا يقولون إن معاذا رضى الله عنه لم يذكر إلا الكتاب والسنة والقياس فدل أن ما سوى ذلك باطل وأما دليل مثبتى الاستدلال هو أنا نعلم قطعا أنه لا يجوز أن يخلو حادث عن حكم الله تعالى منسوب إلى شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ببينة: أنه لم يرو عن السلف الماضين أنهم أغروا وأخلوا واقعة عن بيان حكم فيها لله تعالى وتقدس ونحن نعلم كثرة الفتاوى وازدحام الأحكام الأحكام وقد استرسلوا في بث الأحكام استرسال واثق بانبساطها على جميع الوقائع وقد قصدوا لإثباتها فيما وقع وتشوفوا في إثباتها فيما سيقع ولا يخفى على منصف أنهم ما كانوا يفتون فتوى من تقسيم الوقائع عنده إلى ما يغري عن حكم وإلى ما لا يغغرى عنه وإذا عرفنا هذا فنقول لو انحصرت مآخذ الأحكام في المنصوصات والمعانى المستشارة منها لما وسع القياس لكل ذلك فإنا نعلم أن المنصوصات معانيها لا تنسحب على كل المعانى ولو لم يتمسك الماضون بمعانى وقائع لم تعهد وأمثالها لكان يزيد وقوفهم في الأحكام على فتاويهم وجريانهم فيها قال الشافعى رحمه الله: من سير أحوال الصحابة - رضي الله عنهم - وهم الأسوة والقدرة لم ير لواحد منهم تمهيد قياس على ما يفعله القياسيون بل كانوا يخوضون في وجوه الرأى من غير التفات إلى الأصول كانت أو لم تكن فثبت بمجمع ما ذكرناه صحة القول بالاستدلال ومما يدل على صحة ما ذكره الشافعى رحمة الله عليه وتمسك به أنه إذا استندت المعانى إلى الأصول فالتمسك بها جائز وليست النصوص وأحكامها حججا وإنما الحجة في المعنى وأعيان المعنى ليست منصوصة وهى المتعلق بها بل نقطع بمحض خروج المعانى عن ضبط النصوص فدل أن المعانى حجة كافية ولو راعينا ردها إلى الأصول تنصرف الأصول عن كثير من المعانى ومن يتتبع كلام الشافعى لم يره متعلقا بأصل ولكنه يبنى الكلام في الأحكام على المعانى المرسلة فإن عدمها حينئذ شبه بالأصول.

 

ج / 2 ص -261-       عليه فيما قلناه ولو قال قائل: لم يصح عن أحد من السلف استعمال القياس على ما يعتاده أبناء الزمان من تمثل أصل واستتاره معنى فيه وربط فرع به كان ذلك حقا وصوابا.
فأما الكلام الثانى الذى قاله وزعمه أن القول بهذا يؤدى إلى خروج الأمر عن الضبط وانحلال أمر الشرع ورد الأحكام إلى أرآء الرجال فهذا لا يلزمنا لأنا نعتبر وجود معنى لا يدفعه أصل من أصول الشرع من كتاب أو سنة أو إجماع والجملة أنه يعتبر وجود معنى يناسب الحكم الذى يبنيه عليه من غير أن يدفعه أصل من كتاب أو سنة أو إجماع وقد قال بعض أصحابنا في العبارة: عن هذا إنه قد ثبتت أصول معللة اتفق القائسون على عللها فقال الشافعى رحمه الله: نتخذ تلك العلل معتصما ويجعل الاستدلال قريبا منها وإن لم تكن أعيانها حتى كأنها مثلا أصول والاستدلالات معتبرة بها واعتبار المعنى بالمعنى تقريبا أولى من اعتبار صورة بصورة لمعنى جامع فإذا قرب معنى المجتهد والمستدل فيما يجتهد إلى الشرع ولم يرده [إلى]1 أصل كان استدلالا مقبولا مثاله أن الرجعية المحرمة الوطء عند الشافعي رحمه الله عليه مباحة الوطء عند أبى حنيفة واستدل الشافعى بأنها متربصة الرحم وتسليط الزوج على شغل رحمها في الزمان الذى تؤثر فيه بالتبرئة متناقض ثم هذا يعتضد تبرئة بأن الزوج لو اعتزل امرأته قبل الطلاق مدة العدة. ثم طلقها لم يعتد بما كان منها عدة ولو كانت تحل قبل الطلاق وبعد الطلاق لما كان لاختصاص العدة بما يعد الطلاق معنى وهذا نوع استدلال ضمنى مستخرج من العدة ولم يطلب الشافعى لهذا أصلا يقيس عليه وذكر بعض متأخرى الأصحاب في هذا كلاما طويلا لم أر في حكايته فائدة فتركته وقد ترد المسألة من أولها إلى آخرها إلا القليل على طريقة المشايخ.
وأما نحن فعلى طريقة المحققين لا نرى الاعتماد على العدة وإن كان هو متعلقا حسنا من حيث الحكم وأقل غائلة في هذا التعليق على أصل الخصم أنه لا يجتمع العدة وشغل الرحم من الزوج فإنه قد صار مراجعا بالوطء ولهم على العدة كلام واقع على ما ذكرناه في الخلافيات وإنما المعتمد عندنا وقوع الطلاق وهويصرف فأجر عمله الإسقاط والإزالة فلابد أن يزيل شيئا وليس ذلك إلا ملك الحل وقد بينا وجه الاعتماد على هذا ومشيئة وقد أورد بعض أصحابنا أمثلة الاستدلال سوى هذا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل.

 

ج / 2 ص -262-       وقال: مثال الاستدلال ما قال أصحابنا: إن الخارج من غير السبيلين ليس بحدث1 لأنه لو كان حدثا لاستوى قليله وكثيره وحكمه وكذلك قالوا: لو كانت القهقهة حدثا ينقض الطهارة لاتفق في ذلك حال الصلاة وحال غير الصلاة.
ومثال ذلك أيضا ما قالوا في المتيمم إذا رأى الماء: إنه لا يكون رؤية الماء حدثا2 لأنه لو كان رؤية الماء حدثا لم يختلف موجبه في وجوب الغسل تارة والوضوء أخرى ومن ذلك قولهم في توسيع وقت الحج3: إنه لو كان مضيقا لكن المؤخر له عن عام وجوبه إذا أتى بعد ذلك يكون قاضيا لا مؤديا فلما كان مؤديا دل أنه موسع الوقت ومن ذلك أيضا ما قاله الشافعى: إنه لو كان اللعان شهادة لكان حكمه كيت وكيت على ما عرف.
ومنها ما استدل به الشافعى على إبطال علة الوزن. فقال: العلة الموجبة لتحريم التفاضل لو كان هو الوزن ما جاز إسلام الذهب والورق في سائر الموروثات على ما هو المعروف.
وعندي أن هذا كله قياس لاعتبار شئ بشئ بمعنى مستخرج.
ويجوز أن يقال: إنه قياس من حيث المعنى لا من حيث الصورة والدليل على أنه لم يخرج من قسم القياس أنه استند في كونه دليلا إلى غيره وما استند إلى غيره واعتبر به فلابد أن يكون غير خارج من قسم القياس.
ويجوز أن يقال: إنه نوع بحث يثير حكما شرعيا. وقد قالوا: إنه يجوز أن يوجد في الأحكام الشرعية ما لا أصل له بعينه وذلك نحو العمل القليل في الصلاة وما شاكله وذلك لأن الدليل لما دل أن كثير العمل يفسد الصلاة وأن قليله لا يفسدها ولم يثبت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فمذهب الشافعية أن الوضوء لا ينقص بالخارج من غير السبيلين انظر روضة الطالبين "1/72".
2 مذهب الشافعية إذا كان لعدم الماء أو الخوف في تحصيله أو الحاجة إليه فيبطل بتوهم القدرة على الماء قبل الدخول في الصلاة إذا لم يقارن التوهم مانع من القدرة فإذا قارنه مانع لم يبطل انظر روضة الطالبين "1/115".
3 فمذهب الشافعية أن الحج واجب على التراخي وقال أبو حنيفة ومالك في المشهور عنه وأحمد في أظهر الروايتين: إنه يجب على الفور ولا يؤخر إذا وجب انظر رحمة الأمة فياختلاف الأئمة "208".

 

ج / 2 ص -263-       بالنص القدر الذى يفسد والقدر الذى لا يفسد وجب الرجوع إلى الاجتهاد.
وقال بعضهم: إن قدر ما يفسد الصلاة على التقريب ما إذا شاهد المشاهد لم يظن أنه في الصلاة وعلى الجملة فلا شك أن العمل في ذلك على ما ظن المصلى أنه قليل فلا يفسد أو كثير فيفسد وليس ذلك راجع إلى أصل بعينه من أصول الشرع وقد ألحق بعض أصحاب أبى حنيفه بهذا الباب انكشاف ساق المرأة فإنه يقول إذا انكشف ربع الساق فما فوقه فسدت صلاتها وإن كان قد انكشف ما دون الربع لا تفسد وذكروا لهذا التقدير وجها على التقريب وهو أن الناظر إلى ساق المرأة إذا كانت الساق مكشوفة إنما يبصر جانبا منها وللشئ اربعة جوانب فإذا رأى جانبا منها فيكون قد رأى الربع فجرى في هذا مجرى الكل في فساد الصلاة وهذا أيضا شئ قالوه على وجه التقريب من غير أن يستند إلى أصل وعلى هذا من مذهبهم مقادير النجاسات المعفو عنها وقدر ما ينزح من الدلاء من البئر عند وقوع الحيوانات فيها.
وقد قدر الشافعى أيضا في المتابعة بين الإمام والمأموم فقال: إذا سبق الإمام المأموم بركن واحد أو ركنين لم تفسد المتابعة وإن سبق بثلاثة أركان فسدت المتابعة1 وهذا تقدير على وجه التقريب ليس له أصل بعينه ولذلك قال في المسافة بين الإمام والمأموم إذا زاد على مائتى ذراع أو ثلاث مائة فسدت المتابعة وفيما دون ذلك لا تفسد وإن كان هذا تقديرا على وجه التقريب غير مستند إلى أصل بعينه وعلى هذا نفقة الموسر والمعسر ينظر في ذلك على حسب العادة فيعرف بذلك الموسر من المعسر ونجرى الحكم على ذلك وهو غير مستند إلى أصل بعينه.
وكذلك القول في جهة الكعبة ومقدار ما يعرف أنه على جهة الكعبة أو ليس على جهة الكعبة وكذلك ما يتوصل به إلى معرفة قيم المتلفات وإيجاب قدر القيمة حكم شرعي وقد تعلق بأمارة غير مستندة إلى أصل.
وقد قيل: إن الأمارة في هذا عقلية وهى النظر إلى عادات الناس.
ألا ترى أن من قوم الثوب بعشرة لو قيل له: لم قومته بذلك يقول: إن عادة الناس أن يبيعوا مثل هذا الثوب بعشرة ويمكن أن يسألوا على هذا فيقال إذا جعلتم الأمارة في هذا عقلية فهلا قلتم: إذا خرق زيد ثوب عمرو يكون الواجب تخريق ثوبه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر شرح المهذب "2/54".

 

ج / 2 ص -264-       والجواب عنه: إن زيدا إذا خرق ثوبه يقابل بتخريق ثوب الجاني وقد أضر بنفسه لحين لم يتعرض من ماله التالف بماله ولا يجوز أن يضر الإنسان بنفسه من غير فائدة فإن قال قائل: فائدته التشفى. قيل له التشفى تبع لحسن تحريق ثوب الجانى فإذا لم يحسن التخريق لم يحسن التشفى ذكر هذا السؤال عبد الجبار الهمدانى في العمد وأجاب بما بينا.
وعندي إن هذا ليس بشئ لأن السائل يقول: إن التشفى حسن بدليل القصاص فإن اعتبار التشفى فيه قد حسن فليحسن ها هنا وإذا حسن التشفى وجب أن يحسن التخريق ويصير حسن التخريق لثوب الجانى تبعا لحسن التشفى والأولى أن يقال في هذا: إذا لم يجوز تخريق ثوب الجانى لانعقاد الإجماع أنه لا يجوز وإنما فرقنا بين النفس وبين المال بمحض اتباع الشرع وعلى أن الأصل المعلوم في الضمانات الواجبة للآدميين هو أن ينظر لما فيه صيانة حقوقهم عليهم وحفظها.
ألا ترى: أن في الأعيان القائمة وجب صيانتها وحفظها على أربابها بوجوب الاحتراز عما يؤدى إلى إهلاكها وإتلافها فإذا تلفت وجب أيضا ضمانها على ما يكون فيه حفظ حقوق الملاك عليهم بقدر الإمكان وذلك بإيجاب المثل في المثليات وإيجاب القيم في غير المثليات فيقوم المثل مقام المثل وتقوم القيمة مقام العين المقومة ويصير كأن المتلف باق لملاكه محفوظ عليهم وكأنه لم يتلف وهذا هو المعنى المعقول في إيجاب الضمان وأما الإتلاف في مقابلة الإتلاف فخارج عن هذا المعنى وفيه تقدير الإهلاك السابق ومقابلة إهلاكه بإهلاك مثله إلا أن الشرع ورد بالقصاص على خلاف هذا الأصل لغرض قائم فيه لا يوجد في الضمان من حيث المال وهو زجر الجناة وإحياء النفوس ومعلوم قطعا أنه يوجد في القصاص من الزجر والردع المؤدى إلى حياة النفوس ما لا يوجد في النفوس فصار القصاص ضمانا شرعيا للنفس لغرض مختص به وصارت الدية ضمانا قياسيا للنفس من حيث إن فيه إيفاء حق صاحب الحق عليه وحفظه له بقدر الإمكان وأن الدية قامت مقام نفسه في السلامة لصاحب الحق إن كانت الجناية في قطع اليد أو وارثه إن كانت الجناية بقتل النفس وسلامة العوض لمن يقوم مقام صاحب الحق ينزل منزلة سلامته لصاحب الحق فاستقام كون القصاص ضمانا بالشرع واستقام كون الدية ضمانا بالقياس ولم يجز الجمع بينهما لأن كلا الواجبين بدل النفس وإن اختلفت جهة إيجابهما ولا يجوز إيجاب واجبين عن متلف

 

ج / 2 ص -265-       واحد فأما في تخريق الثوب وقتل البهيمة فليس في مقابلة التخريق بالتخريق وقتل الدابة بالدابة غرض صحيح لأن نهاية ما في الباب أنه يوجد بذلك إتلاف مال عليه وفى أخذ الضمان يوجد هذا مثل ما يوجد إذا أهلكنا ماله عليه فإنا إن قدرنا أنه يتلف عليه بهيمته بإتلافه عليه بهيمة أو قدرنا أنه خرق عليه ثوبا بإزاء ما خرق وعليه ثوبه فإنه لا يجوز أن يعرض بهائمه فيتلف عليه أى بهيمة شاء أو يخرق أى ثوب شاء بل ينبغى أن يخرق ثوبا مثل ثوبه أو يتلف بهيمة مثل بهيمته وإذا فعل ذلك كان ذلك في المعنى وأخذ الضمان سواء وأما القصاص ففيه إتلاف نفسه وإزهاق روحه ولا شك أن فيه معنى زائد على الدية وقد لا يبالى الإنسان بإعطاء الدية بقتل عدوه فإذا عرف أنه يقتل إذا قتل انكف عنه فهذا هو المعنى الصحيح والحكمة المعقولة الشرعية وعلى مثل هذا يكون المعول في هذا وأمثاله وأمثال هذه المعانى تكثر في الشرع وقد يكون نظير هذا إيجاب الكفارة في القتل فإن الله تعالى لما خلق ليعبدوه على ما نص عليه فإذا قتل إنسانا فهو بالقتل قد أبطل عليه معنى التعبد والتعبد من العبد لله تعالى مقصود كلى من العباد فصح بنا إيجاب الضمان على هذا المعنى الذى يليق به وليس ذلك إلا الكفارة بإعتاق رقبة إذا قدر عليها لأن العبد مسلوب النفس بالرق فكأنه هالك عن صفة الآدمية وقد قدم الله حق السادة على حقه في كثير من المواضع فأوجب الله على القاتل عتق رقبة على معنى أنه يزيل عنه صفة الرق فيكون قد أحيا نفسا بقدر الإمكان فأقامه مقام النفس التي أتلفها لتعبد الله مكانها فيكون قد أقام الله عبدا يعبده مكان العبد الذى أهلك فيها فبهذا الوجه يضمن حق الله وصار الضمان كضمان النفس بالدية أو القود فعلى هذا يستوى فيه القتل عمدا وخطا لأن حق الله في جهتى العمد والخطأ مثلما يكون حق الآمى مضمونا في الجهتين أيضا ويستوى في هذا أيضا قتل المسلم والكافر والحر والعبد والبالغ والصبى وينظر إلى أصل ما كان عليه الخلقه وقد خلق الكل في الأصل. ثم يتصل بهذا الفعل أن الواجب باسم الكفارة والكفارة اسم معنوى وهو التغطية فيكون واجبا لتغطية الذنب ومحوه والذنب متى صار مغطا ممحوا التحق المذنب بمن لم يذنب فصارت الكفارة كفارة بهذا المعنى ولا نقول: إنه عبادة لأنه ليس القصد منها التقرب إلى المعبود. ولا نقول: إنه عقوبة لأنه ليس فيها أخذ أو تنكيل والعقوبات هى ما يختص بصفة الأخذ أو التنكيل فكان شيئا غير العبادة والعقوبة وهى أنها كفارة ومعناها أنها ماحية للذنب

 

ج / 2 ص -266-       مغطية له والشئ إذا أمحى ذهب ولم يبق وإذا غطى لم يبق له أثر وإذا كان كذلك استقام إيجابها على الكافر كما يستقيم إيجابها على المؤمن فهذا الذى ذكرناه وما يشبهه استدلالات حسنة ومعان بالغة مناسبة للأحكام المبنية عليها تعلق بقلب كل فقيه إن هذا هو المعنى الذى يبتنى عليه الحكم ومن هذا الباب أيضا ما نقول فيمن نفى وجوب الكفارة [بعيد بالوطء في الصوم]1 وإيجابها بالوطء وهو أنا نقول: إن الجماع محظور الصوم والأكل والشرب مناف للصوم لأن الصوم عبادة كف عن قضاء شهوة2 على خلاف النفس فينبغى أن يكون التعبد بالكف في زمان الفعل عبادة حتى يكون بخلاف هوى النفس فإنه إذا لم يكن زمان الفعل عادة لم يحصل الكف عبادة والنهار زمان الأكل والشرب عادة فكان الكف عنه في هذا الزمان عبادة تعم هو محظور العبادة لأن الحظر والتحريم للعبادة يكون متحققا في زمان الفعل عادة أو لا في زمان الفعل عادة وإذا ثبت أن الأكل والشرب مناف للصوم فيصير بفعله تاركا للصوم في المستقبل وترك الصوم لا يوجب الكفارة كتركه في الابتداء وأما الوطء لما كان محظور الصوم فيكون بالكف عن الأكل والشرب مقيما على فعل الصوم غير أنه يكون جانيا عليه بفعل المحظور وإيجاب الكفارة بفعل محظور الصوم لا يكون دليلا على إيجاب الكفارة بترك الصوم وانقطع إحدهما عن الآخر صورة ومعنى وبطل فهذا استدلالهم في إيجاب الكفارة في الوطء على إيجاب الكفارة في الأكل وهم يدعون على أنا أوجبنا الكفارة في الأكل والشرب بطريق الاستدلال لا بطريق القياس ومن وجوه الاستدلال ما نقوله في مسألة الاستيلاء فإن عندنا لا يملك الكفار ما استولوا عليه من أموال المسلمين بخلاف المسلمين إذا استولوا على أموال الكفار ملكوها.
وإنما قلنا: إن المسلمين يملكون أموال الكفار إذا استولوا عليها ويملكون رقابهم إذا أسروها لأن المشركين في معنى العبيد فإن حريتهم غير ثابتة ثبات تمكن واستقرار.
وأما أموالهم التي في أيديهم إنما هى للمسلمين وهى في أيديهم بمنزلة الغصب لأن الله إنما خلق الدنيا وما فيها من أصناف الأموال والقنيات لعبيده الذين يؤمنون به

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا ثبت في الأصل "وجوب الكفارة بالوطء في الصوم بعيد".
2 الصوم لغة: الإمساك يقال: صام النهار إذا وقف سير الشمس انظر الصحاح "5/1970" لسان العرب "4/2529" وشرعا: إمساك عن الفطر على وجه مخصوص انظر مغني المحتاج "1/420".

 

ج / 2 ص -267-       ويعملون ما خلقهم له من عبادته وجعل سائر الأملاك معاونات لهم على إقامة طاعاته فمن كفر وعبد غيره فلا شئ له يستعين به على كفره وعبادة غيره فما حصلوه في أيديهم واحتووا عليها فهى غصب في أيديهم وسبيله أن يرد إلى من يسعتين به على طاعة الله ولهذا سمى المال المأخوذ من المشركين فيئا.
ويقال: أفاء الله مال المشركين أى رده علينا بعد أن كان المشركون غصبونا إياه وما هذا وصفه فهو مردود على صاحبه فصار ملك المسلمين أموال الكفار بهذا الوجه وهذا لا يوجد في الكفار إذا أخذوا أموال المسلمين لأنها أموال في أيدي ملاكها وعليها حماية الإسلام وإذا كانت في حماية الإسلام لم تزل بغلبة أهل الشرك عليها وصارت أموالهم كرقابهم فهم أحرار حقيقة وأملاكهم لهم حقيقة وأما الكفار فيهم فهم في المعنى عبيد المسلمين وأموالهم التي في أيديهم للمسلمين فالكل يكون فيئا لأنهم عبيد أبقة ردوا إلى مواليم وأملاكهم غصوب أعيدت إلى ملاكها فهذه الأمثلة التي ذكرناها في الاستدلال أمثلة حسنة يشهد الشرع والعقل بصحتها ومن عرف قواعد الشرع وقوانينها شهد له قلبه وما أدركه من معانى الشريعة بصحتها ولم يرده أصل مجمع عليه من كتاب أو سنة أو أجماع فيجوز أن يسمى أنواع هذا استدلالا فإن الأمثلة التي ذكرناها من قبل حكاية عن بعض المتأخرين من أصحابنا فإنها هي أقيسة حكمية منقولة من الأصحاب غير هذا القائل العبارة عنها فسماها استدلالا على أنا نقول لا غيره بالاسم فإن سموا استدلال قياسا والقياس استدلالا فالوجه الذى قدمناه لأن جميع ذلك طلب الحكم من معانى النصوص والكل نوع بحث عن معنى مناسب للحكم صحيح على السبر فهذا صحيح ولا مبالاة بأى اسم سمى وحين وصلنا إلى هذا الموضع فنذكر الاستحسان وهل يجوز أن يكون حجة على ما ذكره أصحاب أبى حنيفة؟ أو لا؟.