قواطع الأدلة في الأصول ج / 2 ص -68-
القول في القياس وما يتصل به
اعلم أن أحكام الشرع مأخوذة من وجهين: وجه سمع ووجه معقول.
فأما السمع فعلى ثلاثة أضرب كتاب وسنة وإجماع وقد استقصينا
شرح أقسامها وأحكامها.
وأما المعقول فالقياس وقد قيل: إن القياس على ضربين عقلى
وشرعى.
فالقياس العقلى ما استعمل في أصول الديانات
والقياس الشرعى ما استعمل في فروع الديانات ومعنى ذلك ما
ورد التعبد من الأحكام.
وقد ذكر كثير من أصحابنا في ابتداء الكلام في القياس مسألة
في القياس العقلى وذكروا الخلاف في هذه المسألة بين
الأصوليين وبين عامة المجتهدين أهل الرواية وأهل السلامة
من الفقهاء فالأصوليين من المتكلمين وسائر من تبعهم أثبتوا
القياس العقلي وأمروا به وزعموا أنه معرفة أهم الأشياء
وزعموا في حده أنه رد غائب إلى شاهد ليستدل به عليه وأما
أهل الرواية وعامة أئمة الحديث وكثير من الفقهاء اختاروا
السلامة في هذا الباب وسلكوا طريقة السلامة ونهوا عن
ملابسة الكلام وطلبوا الحق بطريقة وزعموا له علم يحدث وفن
يخترع بعد انصرام زمن الصحابة والتابعين وأنكروا قول أهل
الكلام في أن أول ما يجب على الإنسان النظر. وقالوا: إن
أول ما يجب على الإنسان هو معرفة الله تعالى على ما ورد به
الإخبار ولو قال الكافر: أمهلونى لأنظر وأبحث فإنه لا يمهل
ولا ينظر ولكن يقال له أسلم في الحال وإلا فأنت معروض على
السيف ولا أعرف في هذا خلافا بين الفقهاء ونص عليه ابن
سريج وقد ذكرنا في كتاب الانتصار لأصحاب الحديث واخترنا
طريقة السلف وما كانوا عليه في هذا الباب ونقلنا عن عامة
الأئمة ما يوافق ما اخترناه وذكرناه أيضا أنا لا ننكر من
النظر بقدر ما أذن فيه الشرع على ما يوافق الكتاب والسنة
وهذا الكتاب إنما قصرناه على محض أصول الفقه وليست هذه
المسألة من باب أصول الفقه فلا معنى لذكرها فيها رجعنا إلى
الكلام في القياس الشرعى فنقول قبل أن نشرع في إثباته: ان
اثبات الشئ إنما يكون بعد معرفة معناه نذكر أولا الكلام
فيما أخذ منه القياس من حيث اللغة ثم نذكر حده أما الكلام
ج / 2 ص -69-
فيما
أخذ منه القياس فنقول في اللغة وفى قول بعضهم: مأخوذة من
الإصابة من قولهم: قست الشئ إذا أصبته فسمى القياس قياسا
لأن القائس يصيب به الحكم وقال بعضهم: إنه مأخوذ في اللغة
من المماثلة من قولهم: هذا قياس هذا أي ومثله وسمى القياس
قياسا لأنه الجمع بين المتماثلين في الحكم1.
وأما حد القياس فقال بعضهم: هو حمل معلوم على معلوم في
أيجاب بعض أحكامه بأمر يجمع بينهما وقال بعضهم: حمل شىء
على شيء في بعض أحكامه بوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن القياس في اللغة كما قال الآمدي والأسنوي: عبارة
عن التقدير ومنه قست الأرض بالقصة وقست الثوب بالذراع أي
قدرته به قال الأسنوي: يقال قاس الثوب بالذراع يقيسه قيسا
وقياسا إذا قدرته به.
والتقدير يستدعي التسوية وذكر الآمدي أنه يستدعي أمرين
يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة وإضافة بين شيئين لأن
التقدير معرفة قدر الشيء بشيء آخر مساوو له ولو بالتضعيف
ولكونه يستلزم المساواة يستعمل فيها المساواة مجازا لغويا
ولهذا يقال في اللغة: فلان يقاس بفلان ولا يقاس به أي:
يساويه أو لا يساويه.
وعلى هذا اكون المساواة لازمه للتقدير واستعمال القياس في
المساواة مجاز لغوي من إطلاق اسم الملزوم على اللازم.
وقال بعض الأصوليين: إنه حقيقة عرفية في المساواة.
القياس يطلق لغة على أمور ثلاثة:
أ- التقدير: تقول قست الثوب بالذراع أي: قدرته به.
ب- المساواة: وهي قد تكون حسية أو معنوية.
فالحسية مثل قولهم: قست النعل بالنعل ساويته به والمعنوية
كقولك: فلان لا يقاس بفلان أي لا يساويه في فضله وشرفه
والمساواة المعنوية هي المرادة للأصوليين إذا قالوا:
القياس مساواة أو فيه مساواة فرع الأصل في علة حكمه.
جـ- ويطلق على التقدير والمساواة معا - أي المجموع منهما
إذا قصد الدلالة على التقدير وثبوت المساواة عقيب التقدير
ومثال ذلك: قست النعل بالنعل أي/ قدرته به فساواه.
وعلى هذا فيكون القياس مشتركا لفظيا بين هذه الثلاثة
التقدير والمساواة والمجموع أو المركب من التقدير
والمساواة.
أنه حقيقة في التقدير فقط وتحته فردان:
1- استعلام القدر أي طلب معرفة قدر الشيء مثل: قست الثوب
بالذراع.
2- التسوية في مقدار مث: قست النعل بالنعل سويتها بها في
المقدار انظر إحكام الأحكام للآمدي"3/361" نهاية السول
"4/2" فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت "2/246" الصالح في
مباحث القياس عند الأصوليين للشيخ سيد صالح "5, 6, 7".
ج / 2 ص -70-
من
الشبه1 وهذان منقولان عن المتكلمين والفقهاء قالوا: حمل
فرع على أصل في بعض أحكامه بمعنى يجمع بينهما وقد بسط
بعضهم هذا الحد فقال: القياس طلب أحكام الفروع المسكوت
عنها من الأصول المنصوص عليها بالعلل المستنبطة من معانيها
ليلحق كل فرع بأصله حتى يشركه في حكمه لاستوائهما في
المعنى والجمع بينهما بالعلة ذكره على هذا الوجه القاضي
أبو الحسن الماوردى.
وقال بعض المتقدمين: هو اعتبار الشئ بغيره2.
وقال بعضهم هو موازنة الشئ بالشيء3.
وحكوا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما سئل عن ميقات
أهل المشرق فقال ما حاذاه من المواقيت؟ قالوا: قرن. فقال:
قيسوا به4. يعني اعتبروا به وهذان الحدان فيهما إجمال
لأنهما لا يعبران عن صفة القياس في أحكام الشريعة والمقصود
ها هنا هو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد ذكره الشيخ الآمدي وعزاه للقاضي عبد الجبار وأبطله
من وجهين:
الأول: أنه غير جامع لأنه يخرج منه القياس
الذي فرع معدوم ممتنع لذاته فإنه ليس بشيء.
الثاني: أن حمل الشيء على غيره وإجراء
حكمه عليه قد يكون من غير جامع فلا يكون قياسا وإن كان
بجامع فيكون قياسا وليس في لفظه مايدل على الجامع فكان
لفظه عاما للقياس ولما ليس بقياس انظر إحكام الأحكام
للآمدي "3/264, 265".
2 وقد ذكره الشيخ الآمدي وعزاه لأبي هاشم وأبطله بالوجهين
السابقين أيضا انظر إحكام الأحكام "3/264".
3 وقد عرفه البيضاي بأنه إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر
لا شتراكهما في علة الحكم عند المثبت انظر نهاية السول
"4/2".
وقد أورد الشيخ الآمدي عدة تعرفات للقياس:
أولا: إنه عبارة عن إصابة الحق.
ثانيا: أنه بذل الجهد في استخراج الحق.
ثالثا: إن القياس هو التشبيه.
رابعا: هو الدليل الموصل للحق.
خامسا: هو العلم الواقع بالمعلوم عن
النظر.
سادسا: قال القاضي أبو بكر: القياس حمل
معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عرفه أبوالحسين
البصري بأنه تحصيل حكم الأصل في الفرع لا شتباههما في علة
الحكم عند المجتهد انظر المعتمد "2/195".
4 أخرجه البيهقي في الكبرى في الحج "5/40, 41" ح "8913".
ج / 2 ص -71-
العبارة عن القياس في الأحكام الشرعية1 وهو على التفسير
الذي ذكرناه. وقد يقول القائل: قست الأرض معناه ذرعتها
بمقياس مهيئ للذرع وبينى وبين فلان قيس رمح أى قدر معتبر
بقدر رمح الحد الصحيح ما ذكرناه فيما سبق وقد قال بعضهم:
إن القياس فعل القائس وليس هذا بشيء لأنه لو كان ذلك صحيحا
لوجب أن يقال: كل فعل يفعله القائس من القيام والقعود
والمشي قياس وهذا لا يقوله أحد. فإن قال قائل: ما قولكم في
الاجتهاد وهل هو والقياس واحد؟ قيل: نقول أولا: إن
الاجتهاد مأخوذ من إجهاد النفس وكدها في طلب الزاد كما أخذ
جهاد العدو من إجهاد النفس في قهره وهل هو والقياس واحد
وهما مختلفان اختلفوا فيه فقال أبو علي بن أبى هريرة إن
الاجتهاد والقياس واحد ونسبة إلى الشافعي وقال أشار إليه
في كتاب الرسالة وأما الذي عليه جمهور الفقهاء هو أن
الاجتهاد غير القياس وهو أعم لأن القياس يفتقر إلى
الاجتهاد وهو من مقدماته وليس الاجتهاد يفتقر إلى القياس
واختلفوا في حده فقال بعضهم: هو بذل المجهود في طلب الحق
بقياس وغيره قالوا: والقياس ضرب من ضروب الاجتهاد وهو أخص
منه وقال بعضهم: الاجتهاد وهو طلب الصواب بالأمارات الدالة
عليه والقياس هو الجمع بين الفرع والأصل والحد الأول حسن
جدا وقيل إنه يدخل في باب الاجتهاد حمل المطلق على المقيد
وترتيب العام على الخاص وأمثال ذلك وليس بشئ من هذا بقياس
فإن قال قائل ما قولكم فلا الاستدلال هل هو قياس أم لا
قلنا: الاستدلال طلب الحق بدليل معانى النصوص وقيل استخراج
الحق وتمييزه من الباطل وقيل كل ما استخرج به الحق حتى
يمتاز به عن الباطل وقد حكى عن الشافعى رحمة الله عليه أنه
سمى القياس استدلالا لأنه فحص ونظر فإن قال قائل ما قولكم
في الأمارة هل هي قياس؟ قيل له: الأمارة من حيث اللغة هى
العلامة وقال بعضهم: الأمارة هى التي النظر الصحيح فيها2
يؤدى إلى الظن واعلم أن الأمارة قد تكون قياسا وقد تكون
غير قياس وللأمارة تقسيمات وستأتى من بعد وحين عرفنا
القياس وحده فنتكلم الآن في بيان كونه دليلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل: "الشريعة".
2 ثبت في الأصل "فيما" ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -72-
مسألة: ذهب كافة الأمة من الصحابة والتابعين وجمهور
الفقهاء إلى أن القياس الشرعى أصل من أصول الشرع:
ويستدل به
[على]1 الأحكام التي لم يرد بها السمع وذهب طائفة إلى
إبطال القياس وقالوا: لا يجوز أن يستدل به على حكم في فرع
وهذا قول إبراهيم النظام ومن تبعه وهو قول داود بن على ومن
تبعه من أهل الظاهر والقاشانى والمغربى والقيروانى وهو قول
الشيعة أيضا واختلف هؤلاء في طريق نفيه فقال بعضهم إن
التعبد بالقياس قبيح من حيث الفعل وإنما بطل القياس لأن
العقل مانع منه ولو لم يمنع منه جاز أن يرد الشرع به وقال
بعضهم: لا يقبح من حيث العقل ولكن الشرع منع منه ولو لم
يمنع كان جائزا وقال بعضهم: إنما بطل لأن الشرع لم يرد به
ولو ورد به كان جائزا وقال بعضهم: إنما بطل القياس لضعف
البيان الحاصل به وقال بعضهم إنما بطل لأن [الشرعيات]2
مصالح والمصالح لا يعلمها إلا الله عز وجل وهذا قول
النظام. وقال بعضهم: إنما بطل لأنه كان حجة ضرورة ولا
ضرورة في كون القياس حجة3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "عن" والصحيح ما أثبتناه.
2 كشط في الأصل.
3 قد ذكر المصنف الأدلة ولكننا نصوغها بطريقة أخرى للتسهيل
على القارئ:
اتفق الأصوليون على أن القياس حجة في الأمور الدنيوية لأنه
يفيد الظن بالحكم والظن كاف فيها واختلفوا في كونه حجة في
الأمور الشريعة:
1- فذهب الجمهور إلى أن التعبد به جائز عقلا ويجب العمل به
شرعا فقط.
2- وقال القفال الشاشي من الشافعية وأبو الحسين البصري من
المعتزلة: إن العمل به واجب شرعا وعقلا لا فرق في المذهبين
بين أن يكون القياس منصوص العلة وغير منصوصها ولا بين أن
يكون جليا ولا خفبا.
3- وذهب القاشاني والنهرواني وداود بن علي الأصفهاني إلى
أن التعبد بالقياس واجب شرعا في صورتين وفيما عداهما يحرم
العمل به ولا دخل للعقل في الإيجاب ولا في التحريم.
يقول الشارع: الخمر حرام للإسكار فيقاس النبيذ عليها.
الصورة الثانية: أن يكون الفرع بالحكم أولى من الأصل مثل
قياس الضرب على التأفف بجامع الإيذاء ليثبت له التحريم فإن
الضرب أقل بالتحريم من التأفيف لشدة الإيذاء فيه.
4- وقال ابن حزم الظاهري وأتباعه إن التعبد بالقياس جلئز
عقلا ولكن الشرع لم يوجد فيه ما يدل على وجوب العمل به.
5- وقال الشيعة الإمامية والنظام في أحد النقلين عنه أن
التعبد بالقياس محال عقلا انظر نهاية السول "4/7, 8, 9ط
فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت "2/310" المستصفى للغزالي
"2/234" المعتمد "2/214" المحصول "2/245" روعة الناظر
"251" أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير "4/17, 18".
ج / 2 ص -73-
وإذا
عرف هذا فنقدم أولا:
مسألة: بيان حسن التعبد بالقياس عقلا:
ولأنه لا مانع من حيث العقل ثم نذكر ورود التعبد من حيث
السمع ونقدم شبههم في الفصلين.
احتج من قال: إن التعبد بالقياس يجوز من حيث العقل قال:
لأن الشرعيات مصالح والمصالح لا تعلم إلا بالنصوص فأما
بالأمارات المفيدة للظنون لا تعرف لأنها ربما أخطأت وربما
أصابت ولا يجوز أن نتعبد الحكيم في المصالح بما يجوز أن
يخطئ المصالح وأيضا فإن القياس فعلنا ولا يجوز أن نتوصل
إلى المصالح بفعلنا.
ببينة: أنه لو جاز الحكم في الشرعيات
بالظنون عن أمارات لجاز أن نخبر أن زيدا في الدار إذا دلت
الأمارة على كونه فيها وحين لم نخبر دلت أن القول بالظن
باطل قالوا: ولأن جلى الأحكام الشرعية لا يعرف إلا بالنصوص
فلم يجز إثبات خفيها إلا بالنص أيضا لأن ما علم جليه بطريق
فخفيه لا يعلم إلا بذلك الطريق كالمدركات لا نعلم جليها
وخفيها إلا بإدراك قالوا: ولأنه لو كان للشرعيات علل لكانت
كالعلل العقلية في استحالة انفكاكها من أحكامها في كل حال
إلا ترى أن الحركة لما كانت علة تحرك الجسم استحال وجود
الحركة وليس الجسم المتحرك وإذا لم ينفك من أحكامها كان في
ذلك ثبوت الأحكام الشرعية قبل الشرع وقالوا ولأن العقل
كالنص في أنه يدل على حكم الحادثة فكما لا يجوز أن يتعبدنا
الله تعالى بالقياس المخالف للنص المعين لا يجوز أن
يتعبدنا بالقياس المخالف حكم العقل وكل حادثة فلها حكم في
العقل فإذا لا يجوز التعبد فيها بالقياس قالوا: ولأن
القياس لو كان صحيحا لكان حجة مع النص كالخبر حجة مع
الكتاب وحين لم يكن حجة مع النص دل أنه ليس بحجة أصلا
قالوا: ولأن أحكام الشرع لو كانت معلومة وجب أن يكون
جميعها معلولة كما كان جميعها حجة مشروعة ولما خرج بعضها
من التعليل إجماعا دل أن كلها خارج لأن صنعه السمع في
جميعها على السواء هذا بعض شبههم من حيث المعقول وسنبين ما
يدعون من السمع
ج / 2 ص -74-
المانع
منه ويدخل في ذلك تقرير بعض ما ذكرنا من قبل وتعلقوا بقوله
تعالى:
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 51] فأخبر الله تعالى أن الكتاب كاف فمن لم يكتف به إلا
بالقياس فقد خالف وقال تعالى:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ}
[المائدة: 44] والقياس الذى نستنبطه نحن من آرائنا ليس مما
أنزل الله تعالى بل ذلك مما ولده رأينا وإنما المنزل كتاب
الله وسنة رسوله فإنه ما كان ينطق عن الهوى إنما ما كان
ينطق عن الوحى وقال سبحانه وتعالى في صفة كتابه:
{تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقال:
{وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} فأخبر أن الكل بيانه في كتاب الله عز وجل إما في نصه أو في إشارته
أو أقتضائه أو دلالته فإن لم يوجد فالابقاء على الأصل
الثابت من وجود أو عدم فإن ذلك في كتاب الله تعالى قال
الله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ}
[الأنعام: 149] الآية فالله تعالى أمر بالاحتجاج بعدم نزول
التحريم في كتاب الله تعالى لثبوت الإباحة كالأصلية وقد
ذكرنا هذا من قبل فيصير على هذا كل تاأحكام من رطب ويابس
بيانه موجودا في كتاب الله تعالى فيبقى الرأى مستعملا
لتعرف الحكمة التي فيها علم المصلحة عاقبة وهى مما لا توقف
عليها بالرأى والإجماع لأن المصلحة في كل ما شرع الله
تعالى من الأحكام التي هى النجاة في الآخرة وبالآراء لا
تدرك مصالح الآخرة وإنما تدرك به المصالح العاجلة التي
يوقف عليها بالحواس والتجارب. فتعرف نظائرها بالقياس
وتعلقوا أيضا بقوله تعالى:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال:
{وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} والقياس لا يفيد العلم فيكون قولا باطلا وأما خبر الواحد فأصله
كلام النبى صلى الله عليه وسلم وهو يوجب العلم يقينا وإنما
دخل الشك والاحتمال في الانتقال الينا فلا يبطل أصل الخبر
بهذا الاحتمال وكان هذا بمنزلة النص المأول بالرأى من كتاب
الله تعالى على بعض ما يقتضيه لسان العرب فإنه حجة ولا
يوجب العلم لأنه في أصله موجب وأما القياس في الأصل محتمل
فلا يصير حجة مع الاحتمال. قالوا: وليس يدخل على هذا تعرف
جهة القبلة وبيان قدر مهر المثل وقيمة المستهلك حيث تعرف1
هذه الأشياء بالرأى لأن معرفة جهات البلدان من مصالح
الدنيا ومما يوقف عليه بالحواس وكذلك قيمة الشئ تعرف
بمعرفة النظائر وطريق العلم بها حس البصر وهذا كما أن الله
تعالى أخبرنا بإهلاك كثير ممن مضى من الأمم وأمرنا
بالاعتبار بها وذلك يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "يتعرف" وهذا هو الصواب.
ج / 2 ص -75-
بالرأى
لأن المقصود من ذلك معرفة هلاك مثله بمثل ذنبه وتلك
المعرفة إما بحس العين أو بحس الأذن وكان الاحتراز من مثل
سببه من مصالح الدنيا وحل ذلك محل الاحتراز عن تناول ما
يتلفه مما وقف على تلف مثله يتناوله ومثل الاحتراز عن سيف
يقع عليه لعلمه بقطعته. فلم تكن معرفة هذه الأشياء من
أحكام الشرع. قالوا: فالله تعالى قد أكرم الآدمى بالرأى
لكن ليستدرك به مصالح عاجلة ليبقى إلى جنبه المضروب له
بتدبيره وجعل طريق استدراكه للوقوف على نظير ما عمله سببا
من خير أو سوء وكان الرأى حجة للآدمى في أمثال هذا. فأما
الشريعة فما شرعت إلا الآخرة وتلك المصالح تثبت على خلاف
مصالح الدنيا فلا يكون الرأي فيها حجة ولأنا متى لم نصل
إلى تلك المصالح بحواسنا وهى طريق العلم لنا في الأصل لم
نقف على نظائرها بالرأى يلزمنا وجوب التأمل في معانى
النصوص لأن معانيها لغة من أمور الدنيا وهى مما يوقف عليها
بحاسة السماع من أهلها ولم يكن هذا من الشريعة في شئ فإن
قيل: فإنها كانت قبل الشرع وإنما أنكر استنباط المعنى الذي
يتعلق به حكم الشرع فإنه من أمور الآخرة فثبوت الحكم على
ما ثبت من حظر أو إباحة حق الله تعالى وليس هو من معانى
اللسان في شيء. قالوا: فتحمل الآيات الوارده بالأمر
بالتفكر والاعتبار على هذا القبيل وتحمل النصوص التي نهت
عن العمل بالرأى وألزمت اتباع الوحى على أحكام الشرع وعلى
هذا تحمل مشاورة النبى صلى الله عليه [وسلم]1 أصحابه فإن
الله تعالى أمره بها في تدبير الحرب وقد شاورهم فيها
والوقوف على جهة الغلبة من مصالح الدنيا وما هو بحكم شرعى
والنبى صلى الله عليه [وسلم]2 ما شاور أحدأ في حكم من
أحكام الشرع بحال. هذه الكلمات من الآية المذكورة كلمات
ذكرها القاضى أبو زيد في كتابه حجة لهم. رجعنا إلى ما
ذكرناه آية الأصوليين لبقاء القياس من الدلائل الشرعية في
المنع منه وتعلقوا من الكتاب سوى ما ذكرناه بقوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ}
[النساء: 59] ولم يقل إلى القياس فتضمنت الآية نفيه وقال
سبحانه وتعالى:
{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ
وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] والقياس مفترى وقال تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ
فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل.
2 زيادة ليست في الأصل.
ج / 2 ص -76-
قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ
تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] والقياس يحل ويحرم فصار مفتريا على الله تعالى وتعلقوا
بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] والقول بالقياس تقديم بين يدى الله ورسوله وتعلقوا
بالأخبار ومنها ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبى
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إن الله تعالى
لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس ولكن بقبض العلم بقض
العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رءوسا جهالا فأفتوا
بغير علم فضلوا وأضلوا"1 والفتوى بالرأي فتوى بغير علم لأن الظن لا يكون علما بحال وروى
واثلة بن الأسقع أن النبى صلى الله عليه [وسلم]2 قال:
"لم يزل أمر بنى إسرائيل مستقيما حتى حدث فيهم أبناء السبايا فأفتوا
برأيهم فضلوا وأضلوا"3.
وروى أبو هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله وبرهة بسنة رسول الله وبرهة بالرأى
فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا"4.
وروى عوف بن مالك الأشجعى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "تفترق أمتى على بضع وسبعين فرقة أضرها على أمتى يقيمون الأمور بآرائهم
فيحللون الحرام ويحرمون الحلال"5.
وروى أبو الدرداء رضى الله عنه أن النبى صلى الله عليه
وسلم قال:
"الحلال ما أحل الله والحرام ما حرم الله وما سكت عنه فهو عفو"6.
وأما الآثار عن الصحابة تعلقوا بما روى عن أبى بكر الصديق
رضى الله عنه أنه قال: أي سماء تظلنى وأى أرض تقلنى إذا
قلت في كتاب الله برأيى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: العلم "1/234" ح "100" ومسلم: العلم
"4/2058" ح "13/2673".
2 زيادة ليست بالأصل.
3 أخرجه ابن ماجة المقدمة "1/21" ح "56" في الزوائد: إسناد
ضعيف "عن عبد الله بن عمرو ابن العاص" بنحوه والدارمي:
المقدمة "1/62" ح "120" عن عروة بن الزبير بنحوه.
4 ذكره الحافظ الهيثمي في المجمع "1/184" وقال: رواه أبو
يعلى وفيه عثمان بن عبد الرحمن الزهري متفق على ضعفه.
5 أخرج الطبراني في الكبير "18/50- 51" ح "90" وعزاه
الحافظ الهيثمي في المجمع "1/184" إلى البزار –أيضا- وقال:
رجاله رجال الصحيح والحاكم في المستدرك "4/430".
6 أخرجه البيهقي في الكبرى "10/21" ح "375" والدارقطني:
سننه "2/137" ح "12" والحاكم في المستدرك "2/375" وذكره
الحافظ الهيثمي في المجمع "1/176" وقال: رواه البزار
والطبراني في الكبير وإسناده حسن رجاله موثوقون. انظر الدر
المنثور "4/279".
ج / 2 ص -77-
وعن
عمر رضى الله عنه أنه قال: إياكم وأصحاب الرأى فإنهم أعداء
السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وثقلت عليهم السنن أن
يعوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا1.
وعن علي رضى الله عنه [قال]2: لو كان الدين بالرأي لكان
باطن الخف أحق بالمسح من ظاهره3.
وعن ابن عمر رضى الله عنه أنه قال: اتهموا الرأى على الدين
فإن الرأى منا تكلف وظن وإن الظن لا يغنى من الحق شيئا.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه أنه قال: إن عملتم في دينكم
بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله تعالى وحرمتم كثيرا مما
أحل الله.
وأما الآثار عن التابعين روى عن ابن سيرين أنه قال: أول من
قاس إبليس وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس4.
وقال الشعبى ما حدثوك عن أصحاب محمد صلى الله عليه [وسلم]5
فأخبره وما أخبروك به عن رأيهم فألقه في الحش وفى رواية:
فبل عليه6.
وعن مسروق: لا أقيس شيئا إنما أخاف الله تعالى أن تزل قدم
بعد ثبوتها7 وفى هذا المعنى عن التابعين ومن بعدهم كثير.
وذكرنا أكثر من ذلك في كتاب الانتصار واستدل النظام فقال:
إن الله تعالى دلنا بموضع الشريعة على أنه منعنا من القياس
فإنه تعالى فرق بين المتفقين وجمع بين المتفرقين فأباح
النظر إلى الأمة وحرم النظر إلى شعر الحرة وإن كانت شوهاء
وأيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الحافظ ابن حجر في فتح البارئ من طرق الشعبي عن
عمرو بن حريث عن عمر فذكره وقال: فظاهر في أنه أراد ذم من
قال بالرأي مع وجود النص من الحديث لإغفاله التنقيب عليه
فهلا بلام وأولى منه باللوم من عرف بالنص وعمل بما عارضه
من الرأي وتكلف لرده بالتأويل وإلى ذلك الإشارة بقوله في
الترجمة وتكلف القياس والله أعلم انظر فتح الباري "13/302-
303" "باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس".
2 زيادة ليست بالأصل.
3 أخرجه أبو داود: الطهارة "1/41" ح "162".
4 أخرجه الدارمي: المقدمة "1/76" ح "189".
5 زيادة ليست بالأصل.
6 أخرجه الدارمي: المقدمة "1/78" ح "200".
7 أخرجه الدارمي: المقدمة "1/76" ح "191" بنحوه.
ج / 2 ص -78-
أباح
النظر إلى وجه الحرة وحرم النظر إلى شعرها مع اتفاقهما في
معنى الشهوة وربما يكون هيج الشهوة عن النظر إلى الوجه
أكثر منه عند النظر إلى الشعر وأوجب الغسل من المنى1 دون
البول وحرم الصلاة بالحيض2 دون الاستحاضة3 وأوجب على
الحائض قضاء الصوم دون الصلاة4.
ببينة: أن القياس ليس إلا تشبيه الشئ
بالشيء.
وقد زعمتم أن التفريق بين المتشابهين5 لا يجوز وقد وجد
التفريق بينهما في غير موضع من أحكام الشرع بدليل هذه
الصورة. بل قد ترك الشرع الأولى عند النظر في المعانى
بدليل أن المني نجاسته دون نجاسة البول وأوجب بخروجه الغسل
وأوجب بخروج البول الوضوء خاصة وأيضا فإن الله تعالى أوجب
الحد على من رمى محصنا بالزنا6 ولم يوجب على من رمى إنسانا
بالكفر والشرك شيئا7 والكفر فوق الزنا.
ببينة: أن الله تعالى جعل أحكام الشرع
متباينة كمقادير العبادات والعقوبات والكفارات ولم يشرعها
نظائر ليبين لنا أن الشرع باب لا مدخل للرأي فيه.
قالوا: ولأنه ما من فرع إلا ويشبه أصلين متضادي الحكم وذلك
يقتضى ثبوت حكمين في محل واحد على وفق الشبه وهذا باطل
فإذا القول بالشبه باطل.
قالوا: ولأن الإنسان لو قال لوكيله: أعتق عبدى سالما لأنه
أسودا أو بريعا لأنه أبيض لم يجز أن يعتق في الأول كل عبد
له أسود ولا في الثانى كل عبد له أبيض.
واحتج أبو زيد لهم أيضا فقال: إن أصل الشرع من أحكام الله
تعالى في الإيجاب والإسقاط والإحلال والتحريم وهى كلها
خالص حق الله تعالى لأنها حدود دينية وحق الله تعالى لا
ينبغى أن يثبت إلا بحجة فاصلة موجبة للعلم قطعا لأن الله
تعالى لا يشتبه عليه حق والرأى لا يوصلنا إلى ما عند الله
تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قول عامة الفقهاء انظر المغنى "1/197".
2 انظر المغنى "1/314".
3 انظر المغنى "1/324".
4 انظر المغنى "1/314".
5 في الأصل "المتشبهين" ولعل الصواب ما أثبتناه.
6 ذكره ابن المنذر إجماعا انظر الإجماع لابن المنذر "113".
7 قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه إذا قال الجل للرجل:
يابن الكافر وأبواه مؤمنان قد ماتا أن عليه الحد انظر
الإجماع لابن المنذر "113".
ج / 2 ص -79-
قال:
وأما أخبار الرسول صلى الله عليه [وسلم]1 فهى غير مختلفة
وهى في أصلها موجبة للعلم وأنما اختلفت الرواية على ما
سبق. قالوا: ولأن في منعنا2 من القياس أمرين بهما قوام
الدين ونجاة المؤمنين فإنا متى حجرنا عن القياس يلزمنا
المحافظة على النصوص والتبحر في معانى اللسان وفى المحافظة
على النصص إظهار قالب3 الشريعة كما شرعه وفى التبحر في
معاني اللسان إثبات حياة القالب فتموت البدع بظهور القالب
ويسقط الهوى عند حياة القالب وهذا لأن القالب لا يحيا إلا
باستعمال الفكر في معانى النصوص ومعانيها جمة وافرة لا
تنزف بأول الرأى وأول الفكر وقد تفنى الأعمار ومعانى
النصوص تبقى غير مستدركة فثبت أن في ترك القياس موت البدع
وسقوط الهوى فتموت البدع تماما من الدين وبسقوط الهوى
استقامة العمل وفيها الفوز والنجاة للناس فهذا الذي ذكرناه
احتجاج نفاة القياس وسنجيب بعون الله تعالى ونبتدئ بإثبات
كونه دليلا لله تعالى في أحكام الشرع من حيث المعقول ومن
حيث السمع وإنما نذكر من حيث العقل على طريق الرد عليهم
والمعتمد هو السمع وأما دلائلنا في إثبات القياس. قال
أولا: ونبين أن العقل يدل على التعبد به. فنقول: إن مرادنا
بقولنا: إن العقل يدل على ذلك هو أنا إذا غلب على ظننا
بأمارة شرعية علة حكم الأصل. ثم علمنا بالعقل أو بالحس
ثبوتها في شئ آخر فإن العقل يدل على قياس ذلك الشئ على ذلك
الأصل بتلك العلة أما جواز قيام أمارة شرعية على علة حكم
الأصل فهو أنا إذا علمنا أن قبح شرب الخمر تحصل عندشدتها
وينتفي عند انتفاء شدتها كان ذلك يقتضى الظن بكون شدتها
علة تحريمها ومعلوم أن الشدة ثابته في النبيذ وإنما قلنا:
إن العقل يدل على قياس النبيذ على الخمر لأن العقل يدل على
قبح ما ظننا فيه أمارة الضرر وأمارة الضرر التحريم الا ترى
أن العقل يقتضى قبح الجلوس تحت حائط مائل لعلمنا بثبوت
أمارة المضرة فإن قيل: كيف يجوز القطع على قبح ما وجدت فيه
أمارة التحريم والمضرة مع أن الأمارة تخطئ وتصيب قيل له:
كما يجب مثله في أمارة المضرة الحاصلة في القيام تحت حائط
مائل فإن قيل: العقل إذا انفرد يقتضى إباحة شرب النبيذ فلم
يجز الانصراف عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل.
2 ثبت في الأصل: "معنا ولعل الصواب ما أثبتناه.
3 ثبت في الأصل: "قالت" ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -80-
لأمارة. قيل له: هذا موجود في الجلوس تحت حائط مائل لأن
العقل يقتضى إباحة الجلوس في الأصل فيجب أن لا ينتقل عن
هذه الإباحة لأمارة تجوز أن تخطى وتصيب فإن قيل: إنما حسن
الجلوس بشرط أن لا يكون فيه أمارة التحريم والمضرة فلا فرق
بينهما هذا دليل المتكلمين من المعتزلة ذكرناه على ما
أورده أبو الحسين البصرى والأولى أن نذكر دليل العقل على
وجه لا يؤدى إلى مذهب من مذاهبهم فنقول قد ثبت القول بحجج
العقول في مواضعها فعلى هذا نقول: إن من قضية العقل أن كل
شيئين مشتبهين فحكمهما من حيث أشتبها واحد ولولا أن الأمر
في العقول كذلك لم يكن لنا سبيل إلى التمييز بين المتضادين
ولا عرفنا صادقا من كاذب ولا محقا من مبطل ولا كاملا من
ناقص ولا قصيرا من طويل ولذهب علم الحواس وبطلت فائدته
وذكر الله الأمثال في كتابه وضرب الشبه بين المثال والممثل
به وجرت عادة أهل العقل باستعمالها في كلامهم وابتذالها في
مخاطبتهم وجمعوا بالمعنى بين الشئ وغيره وألحقوا حكمه
بحكمه وهو كقول القائل إينما أتوجه ألقى سعدا وهو مثل
مشهور من أمثال العرب وهو لرجل من بنى سعد رأى من قومه هذه
الحكمة وسوء جوار فرحل عنهم وانتقل إلى قوم آخرين فرأى
منهم مثل ذلك فأرسل هذه الكلمة مثلا وذلك أن القوم الذين
صار إليهم لما كان معناهم في جواره معنى بنى سعد جعله منهم
وألحقة في الحكم بهم وأجرى سنته عليهم وهو معنى قوله كل
وبنو سعد وينو سعد قومى وعلى هذا يقا: خزيم الناعم: إذا
وصفوه بالترفة والنعمة وما فلان إلا سخيا [وهو كما يقال]1
هو الأمير إياد وصفوة بالبيان والفصاحة. ويقال: ما فلان
إلا كليب [بن واسق إذا وصفوه]2 بالعز والمتعة والسلطان3
إلا قارون إذا وصفوه بالثروة وأمثال هذا تكثر وعلى هذا
المعنى. قيل للرجل الشجاع: أسد وللبليد حمار وللذمى كلب
وكان متمم بن نويرة بعد ما نجع بأخيه مالك بن نويرة وهذا
الذي قتله خالد بن الوليد لا يرى قبرا إلا بكى فعوتب على
صنيعه. فقال:
وقالوا أتبكى كل قبر رأيته
لقبرثوى بين اللوى والدكادك4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بقدر كلمتين.
2 كشط في الأصل.
3 كشط في الأصل.
4 قال في القاموس: دكادك ودكاديك وأرض مدكدكة مدعوكة
ومدكوكة لا إسناد لها تنبت الرمث انظر القاموس المحيط
للفيروز آبادي "3/302".
ج / 2 ص -81-
فقلت لهم أن الأسى يبعث الأسى
دعونى فهذا كله قبر مالك
فهذا أعرابى من بنى
يربوع لا يعرف مذاهب الفقهاء في القياس ولا طريقهم في
الاعتبار وإنما جرى ذلك على حكم أرشده إليه عقله وسجية
هداه اليها طبعه حين رأى الشبه بين الكل في معنى واحد
وأمثال هذا تكثر فثبت أن الأمر في العقول الصحيحة على ما
قلناه من أن كل مشتبهين فحكمهما من حيث اشتبها واحد وصح أن
المعانى أدلة وأنها متى وجدت متفقة أو حيث اتفاق الحكم
ومهما كانت مختلفة أوجبت اختلافه.
ببينة: أنه إذا كان النظام ومن تبعه
يتبعون أدلة العقل في العقليات وبه يستدلون على إثبات
الصانع وعلى حدث العالم إلى سائر ما هو معروف فوجب ألا
يمتنعوا من ذلك في أحكام الشرع وفى فروع السمعيات فإنه إذا
استقل شئ بأعظم الأمرين كان قمنا1 أن يستقل بأيسرها وإذا
جاز أن يتعبدنا الله به في أصول الدين جاز أن يتعبدنا
ويجعله دليلا في فروعه. فإن قيل: القياس في العقليات لا
يتغير ولا يوجد فيه التفريق بين المشتبهات وقد وجد ذلك في
السمعيات على ما سبق بيانه.
والجواب: أن الأصول التي يقع إليها رد
الفروع في الشرعيات لا يتغير أيضا لأن الله تعالى قد أكمل
الدين وبين الناسخ والمنسوخ واستقرت الشرعية قرارها
فالسمعى والعقلى فيما تنازعنا فيه بمثابة واحدة وأما
التفريق بين المشتبهات فغير جائز عندنا أن يقع التفريق
بينهما من الوجه الذي يتعلق به الحكم فيهما وإن جاز أن يقع
ذلك من سائر الوجوه وإنما المعتبر في الجمع والفرق على
النكتة التي هي مناط الحكم ورباطه دون ما سواه وأما
المسائل التي ذكروها من التفريق الموجود بين المشتبهين
فالنص فرق بين المنى والبول والحيض والاستحاضة والحرة
والأمة وقد يمكن أن يوجد معنى الوفاق بين المنى والبول من
وجه وموضع الخلاف من وجه وذلك أن المنى والبول من حيث كانا
خارجين من مخرج واحد جاءت الشريعة فيهما بإيجاب الطهارة
فوجب التسوية بينهما في نوع الواجب ولم يقع التفريق بينهما
في أن يجعل في أحدهما الطهارة بالماء وفي الآخر الطهارة
[بالماء]2 وأما موضع الافتراق فهو أن أحدهما وهوالبول من
حيث كان يكثر خروجه من بدن الإنسان وتدوم البلوى والمحنة
فيه ورد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جدير انظر القاموس المحيط "4/261".
2 هكذا في الأصل ولعل الصواب "بالتراب".
ج / 2 ص -82-
الشرع
بتخفيف الطهارة عن صاحبه لئلا يشق عليه ولا يلحقه الضرر
المجحف وأما المنى فإن خروجه من بدن الإنسان نادر وأنما هو
في الفرط والحين فلما لم تكثر البلوى فيه وكان خروجه في
العادة بالشهوة واللذة التي تشيع في جميع البدن ولم يكن في
إيجاب الاغتسال ضرر قادح ورد الشرع بأعم الطهارتين
وأسبغهما وأما الأمر في وجه المرأة وشعرها. قلنا: الأصل أن
بدن المرأة كله عورة وأن عليها الستر وترك التبرج إلا أن
موضع الوجه منها موضع الحاجة والضرورة لأن إثبات عينها
والمعرفة بها عند المعاملات لا يقع إلا برؤية الوجه وأيضا
فإن مصلحتها في أسباب معاملتها لا يكمل إلا بذلك وأما
الشعر فلا ضرورة في إبرازه بحال فصار كسائر بدنها وإن
تعلقوا بالحرة والأمة في الشعر وصورة الحرة الشوهاء والأمة
الحسناء. فيقال لهم: إن القياس يقتضى الجمع بين الشيئين في
الحكم واختلافهما إذا اشتركا وافترقا في علته لا في صورته
فبينوا أولآ أن شعر الأمة والحرة اشتركا في علة التحريم
والإباحة حتى يكون ورود الشرع بالتفرقة بينهما ورودا بما
يمنع القياس. قال النظام: غرضي بما أوردته الإبانة عن أن
الشريعة قد شهدت بإبطال أماراتكم لأن الشريعة لو حرمت
النظر إلى شعر الحرة ولم تذكر الأمة قلتم إنما حرم ذلك خوف
الفتنة وذلك قائم في شعر الأمة الحسناء فوجب أن يحرم النظر
إليه وهذا من أقوى أماراتكم في القياس فإذا شهدت الشريعة
بإبطاله صح قولنا: إن وضع الشرع مانع من القياس. قال
النظام: ونبين هذا الفرق بين القياس العقلى والقياس الشرعي
فإن الأحكام العقلية لا تتفق مع التباين في العللل العقلية
ولا تختلف مع الاتفاق في العلل ونحن نقول: إن شعر الأمة
وشعر الحرة خارج على ما قلناه من اعتبار الحاجة. فإن
الجارية سلعة تباع وتشترى وبالناس حاجة إلى النظر إلى
وجهها وشعرها عند المعاملات فأعرض الشرع عن خوف الفتنة
لوقوع الحاجة بخلاف الحرة فإن الأصل أنها عورة فالشرع حرم
النظر سواء كانت شوهاء أو حسناء حسما للباب وسدا له وزيادة
احتياط للأمور وأما وجوب قضاء الصوم على الحائض وسقوط قضاء
الصلاة ففيه إجماع وعلى أنه ليس بمستنكر وقوع الفرقان بين
الصلاة والصوم. ألا ترى أن االمسافر يدع الصوم أصلا ولا
يجوز تركه الصلاة وإنما السفر تأثيره في إثبات القصر ثم
نقول إن الصوم ليس مما يتكرر في دوام الأوقات كالصلاة
وإنما هو في السنة شهر واحد وربما يمر عليها الشهر كله ولا
تحيض فيه فلم يكن في إلزامها الصوم كبير مشقة ولا كبير
مضرة أما الصلاة لو
ج / 2 ص -83-
كلفت
قضاءها لأيام حيضها لحقها حرج ظاهر ومشقة شديدة فرفع الله
تعالى القضاء عنها رفقا بها وتخفيفا عنها وأما القذف
بالزنا والقذف بالكفر فالفرق بينهما ظاهر لأن المقصود من
إيجاب الحد نفى العار عن المقذوف والكفر قد ينتفى عنه بقول
يبديه فيسلم من عاره والزنا لا يمكنه أن ينفيه عن نفسه
بالقول فلم يكن بد من إيجاب الحد لينتفى منه عاره وشينه.
ببينة: أن الكافر يفعل الكفر تدينا فلا
يتعير به بخلاف الزنا فإن المرء يفعله مستقبحا له فيلزمه
العار العظيم من النسبة إليه ويمكن الجواب عن هذه الشبهة
بجواب جدلى يدفع السؤال من أصله فيقال إنه ليس فيما قاله
سوى أنه أرانا أمثال أماراتنا وقد نفت الشريعة أحكامها
وذلك لا يمنع من كونها أمارة لأنه ليس من شرط الأمارة أن
تدل هى وأمثالها على حكمها على كل حال. بل قد تنجزم
دلالتها ولا تخرج عن كونها أمارة.
ألا ترى أن الغيم الرطب أمارة في الشتاء على المطر. ثم قد
نجد غيما أرطب من كل غيم في صميم الشتاء وتخلف المطر ولا
يدل ذلك على خروج الغيم الرطب عن كونه أمارة وكذلك وقوف
مركب القاضى على باب الأمير أمارة على كونه عند الأمير ثم
قد يوجد مركب القاضى على باب الأمير وليس القاضي هناك ولا
يدل ذلك على خروج ما ذكرناه عن كونه أمارة ونقول قولكم
الشرع جمع بين المختلفين وفرق بين المتفقين كلام باطل لأن
ذلك يوجب إحالة القياس في العقليات لأن العقل جمع بين
المتضادين في حكم واحد كاجتماع السواد والبياض في الحاجة
إلى محل وجمع بين مختلفين غير متضادين في الحكم كاجتماع
الأعراض والأجسام ففى الافتقار إلى محدث وأمثال هذا تكثر
وإذا كان مثل هذا يوجد فلا تخرج أماراتنا على الأحكام من
كونها أمارات لها لوجودنا أماراتها والأحكام مختلفة عنها
وهذا لأنه يجوز أن يفرق الله بين الأصول في الأحكام فيجعل
بعضها عقيما لا يثمر فرعا وبعضها مثمرا يستدل بمعانيها على
فروعها وثمارها وعلى أنا نزيد لما ذكرنا من أصل الطريقة
تقريرا لنبين به الكلام زيادة بيان وهو أنه لو لم يكن
لأحكام الشرع معان تجري في جميع ما وجدت فيه تلك المعاني
لم تكن تتعدى مواضعها التي وقعت فيها والأعيان التي خرجت
عليها ولم يجز أن يشارك عمرو الذي لم يحكم له أو عليه بها
زيدا الذي حكم له أو عليه ولما اتفقوا على أن في رجم ماعزا
دليلا على رجم غيره إذا زنى وفى بيع عبد مدبر
ج / 2 ص -84-
دليل
على جواز بيع مدبر غيره وفى قوله صلى الله عليه وسلم
لفاطمة بنت أبى حبيش:
"إذا أقبلت الحيضة فدع الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي"1 دليل على أن غيرها من النساء يكن أمثالها في هذا الحكم وفي قوله
صلى الله عليه وسلم لهند:
"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"2
دليل على غيرها وفى قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابى حين
قال له: هل على غيرهن قال:
"لا إلا أن تطوع"3.
دليل على سقوط ما وراءها عن كافة الناس وقد روى عن النبي
صلى الله عليه [وسلم]4: أنه خرج مرة وفى يده ذهب وحرير.
فقال:
"هذان حلال لإناث أمتى حرام عل ذكورهم"5
وإنما وقعت الإشارة منه في ذلك القول إلى ما في يده منهما
ثم كان الحكم متعديا إلى جميع الجنس فيهما فثبت أن المعانى
في الأحكام معتبرة وأنها إلى كل عين وجدت فيها متعدية. وهم
يقولون: إنما أثبتنا هذه الأحكام التي ذكرتموها في حق غير
من ورد فيهم بدليل آخر فيجوز أن يكون ذلك الدليل هو
الإجماع ويجوز أن يكون ذلك الدليل قوله صلى الله عليه
[وسلم]6: "خطابي للواحد خطابي للجماعة". وقالوا أيضا:
الكلام في العلل الظنية وكون الزنا مع الإحصان علة الرجم
علة مقطوع بها وكذا في سائر ما قلتم والاعتماد على ما سبق
طريقة ثانية في إثبات القياس
نقول: الضرورة داعية إلى وجوب القياس لأن النصوص متناهية
والحوادث غير متناهية ولابد أن يكون لله تعالى في كل حادثة
حكم إما بتحريم أو تحليل فإذا كانت النصوص قاصرة عن تناول
جميع الحوادث وكان التكليف واقعا بمعرفة الأحكام لم يكن
لنا طريق نتوصل به إلى معرفتها إلا القياس. ألا ترى: أنا
إذا تركنا القياس تعطلت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: الوضوء "1/296" ح "228" ومسلم: الحيض
"1/262" ح "62/333".
2 أخرجه البخاري: النفقات "9/418" ح "5364" ومسلم: الأقضية
"3/1338" ح "7/1714" واللفظ للبخاري.
3 أخرجه البخاري: الإيمان "1/130" ح "46" ومسلم: الإيمان
"1/40, 41" ح "8/11".
4 زيادة ليست بالأصل.
5 أخرجه أبو داود: اللباس "4/49" ح "4057" والنسائي:
الزينة "8/138" "باب تحريم الذهب على الرجال" وابن ماجه:
اللباس "2/1189" ح "3595" وأحمد: المسند "1/144" ح "938"
انظر تلخيص الحبير "1/64, 65" ح "13".
6 زيادة ليست بالأصل.
ج / 2 ص -85-
أحكام
الحوادث فصح قولنا: إن الضرورة داعية إلى استعمال القياس
والأصل أن الأسباب والمعاون التي بها يتوصل إلى الشئ
المأمور به في معنى المأمور به والمنطوق بذكره فيكون الأمر
الوارد بالجملة منطويا عليها وإنما يقع السكوت عنها
اختصارا للكلام واعتمادا على فهم المخاطب وهذا كالقبلة
أمرنا باستقبالها في حال الغيبة كان الاستدلال بالعلامات
الموصلة إليها لازما لنا ومعلوم أن من استؤجر لإيصال كتاب
إلى موضع كان عليه فعل ما يوصله إليه من سير وقطع مسافة
ومن استأجر أجيرا ليخبز له خبزا فقد انتظم ذلك إيقاد النار
وتسجير التنور وإن لم يجر ذكره في لفظ الإجارة وكذلك ها
هنا إذا لم يصل إلى معرفة أحكام الحوادث إلا بالقياس وجب
عليه استعمال القياس كما لزمنا حكم الحادثة يدل عليه أنا
إذا سلكنا هذا الطريق وصلنا به إلى الائتمار وإذا عدلنا
عنه لم نصل إليه بعلمنا أنه الواجب وقد أمرنا بنفقة
الزوجات وتقويم المتلفات وأورش الجنايات ولم يرد بتقديرها
توقيف ولا يجوز أن يكلف معرفته ما لا سبيل لنا إلى معرفة
فعلم أن طريقها الاجتهاد واستعمال أسبابه الموصلة إليها.
فإن قيل: لا ضرورة لأن العلة قد ارتجت بما يدل عليها قضايا
العقول في الحوادث على مما ذكروا في حجتهم قد بينا من قبل
أن العقل لا يدل على شئ بنفسه لا تقبيح ولا تحسين ولا
إيجاب ولا حظر وقد ذكرنا في هذا الباب ما فيه غنية وعلى أن
الدليل من حيث [إن]1 العقول متعارضة لأن قول من يزعم أن
العقل يدل على إباحة الأشياء في الأصل يعارضه قول من يزعم
أنه يدل على الحظر وبإزائها من يقول بالتوقف فإذا تعارضت
هذه الأقوال فعلى أيها يعتمد. ثم يقال لهم: ما ذهبتم إليه
من الرجوع إلا دلائل العقول مخالف لفعل النبى صلى الله
عليه [وسلم]2 فإنه صلى الله عليه وسلم كان يقف في الأمور
التي لا يجد فيها نصا ولا يردها إلى الإباحة بقضية العقل
وكذلك الصحابة كانوا يقيسون الأحكام بأدلة الشرع. ويقال
لهم: أيضا إنا قد وجدنا في الشرع مسائلا وأحكاما لا يتصور
الحكم فيها على قضايا العقول لأن ما قاله إنما يتصور في
الاشياء التي اختلفوا في تحليلها وتحريمها. فنقول: احملها
على قضية العقل في إثبات الإباحة وإذا وقع التنازع ففى أمر
العقود والفسوخ وإلزام كل واحد من المتعاقدين تسليم ما
يلزم منها وإسقاط ما يسقط كيف يحمل أمثال هذا على قضية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست بالأصل.
2 زيادة ليست بالأصل.
ج / 2 ص -86-
العقل
وكذلك في باب الأنكحة فلا يدرى كيف يتمشى هذا الأصل الذي
زعموه. فإن قالوا: يستصحب الحال فيما لا دليل فيه. قلنا:
استصحاب الحال في العقود مع الاختلاف متعذر متناقض لأنه ما
من حكم يتسصحب فيه حالة لإثباته إلا ويعارضه ما يوجب نفيه.
أنه إذا وقع الاختلاف في فسخ النكاح بالعيب. ألا ترى:
فالاستصحاب من أحد الجانبين يوجب الفسخ والاستصحاب من
الجانب الآخر يمنع الفسخ وكذلك إذا اشترى جارية ثيبة
ووطئها. ثم اطلع على عيب بها وأراد ردها فإن الاستصحاب في
أحد الجانبين يوجب الرد وفى الجانب الآخر يمنع الرد فثبت
أن الضرورة التي ادعيناها متحققة قطعا والذي قالوه خيرا من
كلامهم أن الفكر في معاني النصوص وأشارتها وقضاياها تغنى
عن القياس مجرد دعوى ونحن نعلم بطريق القطع وجود حوادث لا
تدل عليها النصوص بوجه ألا ترى أنا وجدنا حوادث اختلف
الصحابة فيها وقال كل أحد بخلاف ما قال صاحبه ولم يحتج أحد
منهم على الآخر بنص ولا بمعنى نص ولو كانت النصوص تتناول
جميع الحوادث لاحتجوا بها وإن رجعوا إلى قضية العقل فقد
سبق إبطاله وعلى أن تناول العقل حكم الحادثة إنما يقتضى
إثبات حكمة فيها ويغنى عمن سواه إذا لم ينقل عن العقل دليل
شرعى فعليهم أن يثبتوا أن القياس ليس بدليل شرعى يوجب
الانتقال عن قضية العقل هذا إذا كان القياس غير مطابق لحكم
العقل وأما إذا كان مطابقا له فما المانع أن يدل هو على
الحكم إيجاد مع العقل كما يدل العقل على الحادثة مع خبر
الواحد فبطل ما قالوه من كل وجه.
طريقة ثالثة في إثبات القياس:
فهو التمسك بإجماع الصحابة وذلك أنهم اختلفوا في أمر من
أمور الدين فصار كل واحد منهم إلى نوع من القياس فلم ينكر
صاحبه ذلك منه مع إنكاره عليه قضية حكمه كمسألة الجد1
والمشتركة وميراث ذوي الأرحام فإن الاختلاف بينهم في هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الكلوذاني: اعلم أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا
في توريث الجد مع الإخوة والأخوات فروى عن أبي بكر الصديق
وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عباس وعائشة وأبي
هريرة وأبي الدرداء وأبي الطفيل وأبي موسى وعمران بن حصين
وجابر بن عبد الله وعبادة =
ج / 2 ص -87-
المسائل مشهور واحتجاجهم فيها من طريق القياس مذكور كقول
ابن عباس لزيد: أتجعل ابن الابن ابنا ولا تجعل أب الأب أبا
وتشبيه زيد مثالا بالرأى في مسألة الأخوة مع الجد وذلك
مثال غصن الشجرة وجدول النهر وروى قريب في هذه المسألة عن
على وكقول من حاج عمر في توريث الأخ للأب والأم مع الأخوة
للأم في مسألة المشتركة1 هب أن أبانا كان حمارا ألسنا بنى
أم واحدة فرجع عمر إلى التشريك2 لما نبهه هذا الرجل على
موضع المساواة في السبب الذي يستحق به الإرث وروي أن
أبابكر رضى الله عنه ورث أم الأم ولم يورث أم الأب. فقال
له عبد الرحمن بن سهل لرجل من الأنصار وقد شهد بدرا: لقد
ورثت امرأة لو كانت هي الميتة لم يرثها وتركت امرأة لو
كانت هي الميتة ورثها. فأشرك عند ذلك أبو بكر رضي الله عنه
بينهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ابن الصامت وابن الزبير رضي الله عنهم أنهم جعلوا الجد
أبا وأسقطوا به جميع الأخوة والأخوات وإليه ذهب الحسن
وعطاء وطاووس وجابر بن زيد وقتادة وابن سيرين وأبو حنيفة
وعثمان البتى والمنزني وداود والعمل على هذا لوضوحه.
وروى عن على وابن مسعود وزيد بن ثابت أنهم وروثوا الإخوة
معه ثم اختلفوا في كيفية توريثهم فكان عليه السلام يقسم
المال بين الجد وبين الإخوة والأخوات ويجعله في ذلك بمنزلة
الأخ ما لم تنقصه المقاسمة من السدس فإن نقصته المقاسمة عن
السدس فرض له السدس وجعل الباقي للإخوة والأخوات.
وإلى قوله في جميع باب الجد ذهب الشعبي والنخعي والمغيرة
وابن أبي شعبة وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن بن صالح
وكان زيد وابن مسعود يقسمان المال بينهم وبينه مالم تنقصه
المقاسمة من الثلث فرض له الثلث وجعل الباقي للإخوة
والأخوات وبقول زيد في باب الجد أخذ الزهري والأوزاعي
والثوري ومالك وأحمد بن حنبل والشافعي وأبو يوسف ومحمد
وأبو عبيد وجمهور الفقهاء وأخذ بقول ابن مسعود في الجد كله
شريح ومسروق وعلقمة وجماعة من أهل الكوفة انظر المغنى
لموفق الدين "7/64" بداية المجتهد لابن رشد "2/88" نيل
الأوطار للشوكاني "6/61" حاشية البيجرمي على الخطيب
"3/278"الأشباه والنظائر للسيوطي "474" الأشباه والنظائر
لابن نجيم "298" المبسوط للسرخسي "29/180" الاختيار
للموصلي "4/179" التهذيب في الفرائض للكلوذاني- قيد الطبع
بتحقيقنا.
1 مسألة الشركة هي كل مسألة اجتمع فيها زوج وأم وجدة
واثنان صاعدا من ولد الأم وعصبة من ولد الأب والأم انظر
المبسوط للسرخسي "29/254" المغنى لموفق الدين "7/21" كشاف
القناع للبهوتي "4/415" بداية المجتهد "12/259".
2 أخرجه البيهقي في الكبرى "6/417" ح "12467".
ج / 2 ص -88-
بالسدس1 واتفقت الصحابة على الزيادة في حد الشارب2.
وقالوا: إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى وحد
المفترى ثمانون3. ثم قالوا: هو رأى رأيناه بعد رسول الله
صلى الله عليه [وسلم]4 وأوجبوا فيه الدية إذا أتلف بالضرب
واختلفوا في أم الولد: فقال علي: اجتمع رأيى ورأي عمر أن
لا يبعن ثم رأيت بيعهن وكتب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى
الأشعرى كتابا في تعليم القضاء [فقال فيه]5: الفهم الفهم
فيما يتحالج في صدرك مما ليس في الكتاب والسنة أعرف
الأشباه والأمثال. ثم قس الأمور وراجع الحق إذا علمته فإن
الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل6.
وعن ابن مسعود رضى الله عنه في قصة بروع بن واشق: أقول
فيها برأيى فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى ومن
الشيطان: لها مهر بمثل نسائها لا وكس ولا شطط7 وعن عمر رضى
الله عنه أنه قال: إنى رأيت في الجد رأيا فاتبعونى وقال له
مسروق أو غيره إن تتبع رأيك فرأيك رشد وأن تتبع رأى من
قبلك فنعم ذا الرأى8 يعنى أبا بكر رضى الله عنه أو غيره
كان وقال رضى الله عنه في قصة بروع بالرأى حسبها الميراث
لا مهر لها9. وقال ابن مسعود في دم بين اثنين عفا أحدهما
أرى هذا أحيا بعض النفس قال عمر: وأنا أرى ذلك واختلفوا
أيضا في مسألة الحرام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في الكبرى "6/385" ح "12343".
2 اعلم أن قدر حد الشرب فيه روايتنا ورواية عن أحمد:
إحداهما: أنه ثمانون وبهذا قال مالك والثوري وأبو حنيفة
ومن تبعهم لإجماع الصحابة.
الثانية: أن الحد أربعون وهو اختيار أبي بكر ومذهب الشافعي
والروابة الثانية عن الإمام أحمد انزر المغنى "10/329".
3 أخرجه مالك في الموطأ: الأشربة "2/842" ح "2".
4 زيادة ليست في الأصل.
5 زيادة ليست في الأصل.
6 أخرجه الدارقطني: سننه "4/206" ح "15" من حديث طويل انظر
تلخيص الجبير "4/215" ح "42".
7 أخرجه أبو داود: النكاح "2/244" ح "2116" والنسائي:
النكاح "6/98" "باب إباحة التزويج بغير صداق" وأحمد:
المسند "1/580" ح "4275".
8 أخرجه الدارمي: الفراشض "2/452" ح" 2916".
9 تقدم تخريجه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
ج / 2 ص -89-
فقال
أبو بكر وعمر رضى الله عنهما: هو يمين1 وقال على كرم الله
وجهه: هو طلاق [ثلاث]2. وقال ابن مسعود رضى الله عنه: طلقة
واحدة3.
وقال ابن عباس رحمة الله عليه: هو ظهار.
واختلفوا أيضا في مسألة المخيرة وخلافهم في ذلك معروف في
اختيارها نفسها4 أو اختيارها زوجها5. قال زاذان عن على رضى
الله عنه: سألنى عمر رضى الله عنه عن المخيرة. فقلت: إن
اختارت زوجها فهى واحدة وزوجها أحق بها وإن اختارت نفسها
فهي واحدة بائنة. فقال: ليس كذلك ولكن إن اختارت نفسها فهي
واحدة وهو أحق بها وإن اختارت زوجها فلا شيء فتابعته على
ذلك فلما خلص الأمر إلى عدت إلى ما كنت أرى. فقلنا له:
لأمر جامعت فيه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وتركت له
رأيك أحب إلينا من رأى انفردت به فضحك. وقال: أما أنه أرسل
إلى ا زيد بن ثابت فخافني وإياه. وقال: إن اختارت زوجها
فهى واحدة وهو أحق بها وإن اختارت نفسها فهي [ثلاث6]7 وهم
في هذه المسائل رجعوا إلى مجرد الرأى لأنهم لابد أن يكونوا
قالوا: عن طريق إذ لا يجوز أن يكونوا قالوا ما قالوا جزافا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في الكبرى في الخلع والطلاق "7/576" -
ح"15067".
2 في الأصل "ثلث" وانظر السنن الكبرى للبيهقي "7/576".
3 وروى الحافظ البيهقي في الكبرى "7/575"- ح"15061" عن ابن
مسعود -رضي الله عنه- أنه إن نوى به يمينا فيمين وإن نوى
طلاقا فطلاق. أخرجه البيهقي "15064" أنه إن نوى طلاقا تقع
طلقة واحدة. والله أعلم.
4 إذا اختارت نفسها فلا تون أكثر من تطليقة رجعية وبه قال
أحمد وهو قول ابن عمر وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمر وعائشة
رضي الله عنهم وروى ذلك عن جابر وعبد الله بن عمر. وقال
أبو حنيفة: هي ةاحدة بائنة وهو قول ابن شبرمة. وقال مالك:
هي ثلاث في المدخول بها لا تبيين بأقل من ثلاث إلا أن تون
بعوض انظر المغنى "8/267".
5 إذا خيرها زوجها فاختارت زوجها أو ردت الخيار أو الأمر
لم يقع شيء نص عليه أحمد وروى ذلك عن عمر وعلي وزيد وابن
مسعود وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وابن شبرمة وابن أبي
ليلى والشافعي وابن المنذر.
وعن الحسن تكون واحدة رجعية وروى ذلك عن علي ورواه إسحاق
بن منصور عن أحمد انظر المغنى "8/298".
6 في الأصل "ثلث"." ح "
"7 أخرجه البيهقي في الكبرى في الخلع والطلاق 566/7ح15027.
ج / 2 ص -90-
ونحن
نعلم أنهم يقولون عن نص فدل أنهم قالوا عن قياس وتتبع هذا
يطول والأمر في هذا أشهر من أن يحتاج معه إلى إكثار على
هذا المنهاج كان أمر التابعين في المحاجة والمقايسة ولم
يصح عن أحد منهم في ذلك إنكار وخلاف وهو ميراث الأمة إلى
زماننا فإن قالوا: يحتمل أنهم قالوا ما قالوا عن نص. ثم
يقولون: تعلقتم فيما صرتم إليه بالإجماع وأنتم لا تنقلون
فيه لفظا جامعا مانعا حتى يكون مرجوعكم إليه فيما تأتون
وتدرون وتصححون وتبطلون والأقاصيص المتفرقة لا ضبط لها
فكيف انضبط لكم ما يفسد منها؟ وما يصح ذكر هذا السؤال
الشيخ أبو المعالى على هذا اللفظ وذكر أن هذا سؤال مشكل.
والجواب: أن دعوى النص محال لأنه لا يتصور
من جهة العادات في عدد كبير يهتمون بنقل كلام من يعظمونه
حتى ينقلوا ما لا يتعلق به حكم شرعى أن يعملوا إظهار ما
اشتدت إليه الحاجة مما يتعلق به حكم شرعى ووقع فيه
الاختلاف ويفارق هذا ترك نقل ما اجتمعوا عليه لأجله فإنه
يجوز لأن الإجماع حجة وقد أغنى عن الخبر وليس كذلك إذا وقع
الاختلاف ووقعت الحاجة إلى المحاجة بالنص فلا يتصور أن
يكتموا الخبر إن كان هناك خبر.
وأما كلامهم الثاني: فقد حكم المورد له أنه سؤال كل ولا
أدرى وجه الإشكال في هذا السؤال وهذه الآثار صرحت المصير
إلى الرأى من الصحابة بالانضباط فيما اتفقوا عليه وقد دلت
هذه الآثار أنهم قالوا ما قالوه عن الرأى فإن قالوا: لم
يحك عنهم الاختلاف في الأقوال في هذه المسألة ولم ينقل
عنهم تصريح بعلة. قلنا: قد ذكرنا ونقلنا محاجتهم بضرب
الأمثلة وعلى أن التنبيه منهم على العلة والقياس قد وجد
وتعين مسألة واحدة. فنقول في مسألة الحرام: من قال منهم:
إنه طلاق ثلاث1. فقال:مطلق التحريم يقتضى غاية التحريم ومن
جعله طلقة واحدة2 اعتبر أقل ما ثبت ومن جعله إيلاء اعتبر
أن الزوج قد منع نفسه بهذا القول عن وطئها ومن جعله ظهارا3
أجراه مجرى ذلك من قبل تقييد التحريم بلفظ ليس بلفظ طلاق
ولا إيلاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا قول: علي وزيد بن ثابت وابن عمر والحسن البصري
والحكم بن مالك وابن أبي ليلى انظر الأشراف "1/152".
2 هو قول الزهري ورواية عن أحمد انظر المغنى "8/275"
الأشراف "1/152".
3 هو قول ابن عباس وسعيد بن أجبير وأبي قلابة وأحمد انظر
الأشراف "1/152".
ج / 2 ص -91-
وإذا
كان هذا الذى ذكرناه ممكنا ولم يكن ذكر نص ولأنهم قالوا
بغير طريق وجب القطع على أنهم أرادوا ما ذكرناه أو ما يجرى
مجراه وأيضا فإن الناس قد يقتصرون على الفتوى في كلامهم
ويعلم السامع الوجه الدال على الفتوى من نفس الفتوى وقال
بعضهم: إنهم قالوا في مسائل المواريث ما قالوه بالصلح أو
بأقل ما يجب وهذا ليس بشئ لأن المنقول في مسألة المواريث
إثبات الإرث ونفيه وتقديره في بعض المواضع فكيف يتصور
الصلح على هذا؟ وقولهم: إنهم أوجبوا أقل ما قيل باطل لأنه
لم يتقدم اختلافهم [في]1 أقوال هم قالوا بأقلها ولا اتفوا
على قول حتى يقال: إنه أقل ما قيل بل قالوا أقاويل متباينة
بعضها يخالف البعض وثبت ها هنا عما نقلوه عن الصحابة
والتابعين من ذم الرأى قلنا إنما قالوه في الرأى الفاسد
الذي لا [تعلق]2 له بأصل من الأصول أو قالوا ذلك في القياس
قياس الذي بخلاف النص ألا ترى أن عليا رضى الله عنه قال
حين قال: لو كان الدين بالرأى ولكنى رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يمسح على ظاهر قدميه3 والدليل على أن
المراد منهم بما قالوا أحد هذين الوجهين أنه ثبت عنهم
القول بالقياس واعتبار الأشباه والأمثال على ما ذكرناه
وعلى ما ذكرنا بأول قول التابعين. ألا ترى: أن ابن سيرين
قال: أول من قاس إبليس4 وإنما أراد به القياس الفاسد دون
الصحيح.
ببينة: أن إبليس كان قد اعترض بالقياس على
النص وما كان من القياس كذلك فإنا لا نجوزه ولا نعمل به
وكذلك قوله: ماعبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس يرد به
المقاييس الفاسدة وقد ورد النهى الصريح في الكتاب عن
السجود لها وذلك قوله عز وجل:
{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الذي
خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وكذلك الذي حكوه عن الشعبى إنما هو في القياس الخالى عن
أداة الأصول وقد كان ظهر في آخر زمان التابعين قوم يقدمون
الرأى على السنن فإنما أراد ذلك وكل ما نقل من أمثال هذا
يكثر وقد حمل جميع ما نقل من ذم الرأى من الصحابة
والتابعين على الرأي قبل طلب السنن وعندنا يجب طلب حكم
الحادثة من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست بالأصل.
2 في الأصل "يتعلق".
3 تقدم تخريجه.
4 تقدم تخريجه.
ج / 2 ص -92-
السنة
أولا ثم يصير إلى القياس وكذلك الجواب عن الأخبار التي
تعلقوا بها عن النبى صلى الله عليه [وسلم]1 وعلى أنه ليس
في تلك الأخبار خبر ثابت غير خبر عبد الله ابن عمرو في قبض
العلم2 فإما سائر الأخبار فلا تعرف ولا نقل في كتاب يوثق
به فلا يجوز التعويل عليها. فإن قالوا: اعتمدتم على إجماع
الصحابة ولم يوجد إجماع الصحابة لأنكم نقلتم ما نقلتكم عن
نفر يسير فأين الإجماع؟ قلنا: نقلنا عن وجوههم ولم ينقل عن
واحد منهم خلاف ذلك وقد بينا أن القول المنتشر إذا لم يظهر
له مخالف يكون إجماعا فكيف في هذه الأقوال المنتشرة؟ فإن
قالوا: إنما تركوا إنكاره لأنه كان صغيرة وإنما تنكر
الكبائر. قلنا: كما يجب إنكار الكبائر يجب إنكار الصغائر
وعلى أنا بينا أنه لم تجر العادة فيما هذا سبيله أن يظهر
الخلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه [وسلم]3 على شئ
ونعلم أنهم قالوا ما قالوا عن الرأى فيكون منكراثم تطبق
الجماعة على ترك إنكاره. ألا ترى: أنه لما ظهر بينهم
الاختلاف والتنازع كيف أنكر بعضهم على بعض حتى صاروا إلى
التجاذب والتقاتل واعلم أن الاحتجاج بإجماع الصحابة دليل
في نهاية الاعتماد وهو مما يقطع العذر ويزيح الشبهة فليكن
به التمسك.
طريقة رابعة: وهى الاستدلال بالكتاب والسنة:
قال الله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}
[الحشر: 2] وقال تعالى:
{وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
[النساء: 83] فأمر بالاعتبار والإستباط والاعتبار اعتبار
الشئ بغيره وأجرى حكمه عليه يقال: اعتبر هذا بمقداره وقال
ابن عباس رضى الله عنه في الأسنان: اعتبر حكمها بالأصابع
في أن ديتها متساوية4 وقولهم: إن في هذه العبرة مغناة أن
فيه ما يقتضى حمل غيره عليه وأما الاستنباط هو استخراج
المعنى المودع من النص حتى يبرز ويظهر فإن قيل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست بالأصل.
2 تقدم تخريجه.
3 زيادة ليست بالأصل.
4 أخرجه أحمد: المسند "1/377" ح "2625" بلفظ "أن النبي صلى
الله عليه وسلم سوى بين الأسنان والأصابع في الدية".
ج / 2 ص -93-
الاعتبار الاتعاظ والانزجار وليس بمعنى القياس الذي يدعونه
وقيل: إن الاعتبار لا يدل على معرفة الشئ بغيره إنما هو
تبيين الشئ نفسه.
ببينة: أنه يقال للقائس معتبر لا لسانا
ولا عادة وإنما الذي يعرف معنى المعتبر هو الاتعاظ والتفكر
في نفس الشئ والجواب: أن وزن الاعتبار افتعال من العبرة
والعبرة أصلها في اللغة المثال ومنها يقال: أخذ السلطان
العشر على عبرة العام الماضي أى على مثاله ومن هذا تعبير
الموازين والمكاييل إنما هو تمثيل بعضها ببعض وتسويتها على
مثال واحد ومنه تعبير الرؤيا وهو تمثيلها بأمور تطابق
معانيها معاني الرؤيا وقيل هو تعديتها ونقلها من ظواهرها
إلى مواطن معانيها من قولك عبرت النهر أى صرت من أحد
العبرين إلى الآخر والعبر الشاطئ فثبت بما قلناه أن
الاعتبار هو إجزاء الشيء على مثال غيره وبطل بهذا ما زعموه
أنه معرفة الشئ نفسه والتفكير فيه وأما حملهم على الاتعاظ
والانزجار غاية الاعتبار فعلمنا أن معناهما مختلف وقد قال
الشاعر في الاعتبار:
واعتبر الأرض بأسمائها
واعتبر الصاحب بالصاحب
وظهر بهذا أن الاعتبار
هو ما قدمناه من اعتبار الشئ بغيره وأجرى حكمه عليه فإن
قيل: لو كان المراد ما ذكرتم من الأمر بالقياس لحسن
التصريح به وهو أن يقول:
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] فقلبوا الأرز على البر وهذا التصريح يكون فاسدا عند كل
عاقل فدل أنه ليس هو المراد. قالوا: وأما الاستنباط
المذكور في القرآن فهو استخراج الشئ من كونه باطنا ليظهر
فتحمله على الاستدلال بمعانى النصوص وقد يقال لمن استدل
على الشيء بما يخفى في النصوص: قد يستنبط هذا الحكم من هذا
النص.
والجواب: أما الأول: فإنما لا يجوز ما
قالوه لأنه اقتصار على ما تعلق له بالكلام في ظاهره فلم
يحسن لهذا لكن حسن مع هذا قوله: "فاعتبروا" لإن اشتمل على
ما يتعلق بالكلام الأول وعلى ما لا يتعلق به. ألا ترى: أن
النبى صلى الله عليه وسلم لو سئل عمن ابتلع حصاة في شهر
رمضان لم يحسن أن يقول: من جامع فعليه الكفارة ويحسن أن
يقول: من أفطر فعليه الكفارة وإذا قال ذلك دخل فيه من جامع
ومن بلع الحصاة وقد اعترض على الآية. فقيل: إن قوله:
"فاعتبروا" ليس على العموم لأنه لا يجب ما قلتموه في كل
موضع وإذا لم يجب في كل موضع فنحن نقول: نوجب الاعتبار
ج / 2 ص -94-
بالتفكر في معاني النصوص فهذا رجوع إلى ما سبق والجواب بما
قدمنا.
وأما الاستنباط فالاستدلال به أيضا صحيح والذي قالوه من
حمله على الاستدلال بمعانى النصوص. قلنا: الذي قلتموه
استنباط والقياس الذي اختلفنا فيه من وجوه الاستنباط أيضا
فيكون الاستنباط المذكور مشتملا على الكل وفى الباب آيات
كثيرة وأحسن ما يستدل به هاتان الآيتان وأما السنة فحديث
معاذ أن النبى صلى الله عليه [وسلم]1 لما بعثه إلى اليمن
قاضيا قال له: "بم تحكم؟" قال: بكتاب الله قال:
"فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: بسنة رسول الله قال: "فإن لم تجد في
سنة رسول الله؟" قال: أجتهد رأيى ولا آلو. قال: "الحمد لله
الذي وفق رسول رسوله لما يرضى الله ورسوله"2 وهذا نص [ثابت]3 وهم يقولون هذا خبر واحد لا يثبت به مثل هذا
الأصل وقد قالت الأصحاب: هو خبر واحد ولكن تلقته الأمة
بالقبول فصار دليلا مقطوعا به وتعلقوا أيضا بما روى أن
النبى صلى الله عليه [وسلم]4 قال لعمر حين سأله عن قبلة
الصائم:
"أرأيت لو
تمضمضت كان يضرك؟" قال: لا قال: "ففيم"5 إذا فجعل القبلة بغير إنزال قياسا على المضمضة بغير ازدراد والخبر
أيضا خبر واحد مثل الأول ويدل عليه قوله صلى الله عليه
وسلم للخثعمية:
"أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يقبل منك" قالت: بلى قال:
"فدين الله أحق أن يقضى"6.
وقال النبى صلى الله عليه [وسلم]7 في الهرة:
"إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات"8 فقد علل بعلة مؤثرة وهى التطواف علينا والعلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ليست بالأصل.
2 أخرجه أبو داود: الأقضية "3/302" ح "3592" والرتمذي:
الأحكام "3/607" ح "1327".
3 في الأصل "إن يثبت".
4 ليست في الأصل.
5 أخرجه أبو داود: الصوم "2/322" ح "2385" والدارمي: الصوم
"1/22" ح "1742" وأ؛مد: المسند "1/28" ح "139".
6 أخرجه النسائي: القضاء "8/200" "باب الحكم بالتشبيه
والتمثيل" وأصله في البخارى ومسلم بغير هذا السياق.
7 زيادة ليست بالأصل.
8 أخرج أبو داو: الطهارة "1/19" ح "75" والترمذي: الطهارة
"1/153" ح "92" وقال: حديث حسن صحيح والنسائي: الطهارة
"1/48" "باب سؤر الهرة" وابن ماجة: الطهارة =
ج / 2 ص -95-
ضرورة
الطواف وتعذر الاحتراز وقال صلى الله عليه [وسلم]1 في دم
الاستحاضة:
"إنها دم عرق"2
ولهذا الذي ذكرناه أمثال سواه فاقتصرنا على هذا القدر
وفيما نقلناه من الأخبار [في]3 تعليم استعمال القياس وقد
تعلق الأصحاب أيضا بالاجتهاد في القبلة. وقالوا: تعبدنا
الله تعالى بالاستدلال بالأمارات على جهة القبلة إذا اشتبه
علينا أمرها ونصلى إلى الجهة التي ظننا أن القبلة فيها
وهذا تعبد بالاستدلال بالأمارات فدل ذلك على حسنها
واعترضوا على هذا وقالوا من الناس من لا يجوز الاجتهاد في
طلب القبلة ومن اشتبهت عليه القبلة صلى إلى الجهات كلها.
قلنا: لا نسلم وإن سلمنا فالأمارات الدالة على القبلة
أمارات عقلية لا سمعية ونحن إنما منعنا الأمارات المظنونة
في الحوادث الشرعية ولسنا نمنع العمل بالأمارات العقلية
وفى المسألة دلائل كثيرة ذكرها الأصحاب أو غيرهم لكن
الاعتماد على الدلائل الأول والثانى والثالث وأمثلها
وأحسنها إجماع الصحابة وأما التعلق بما ذكرنا من دلائل
الكتاب والسنة فلا بأس بها لتكثر الدلائل فأما الاعتماد
عليها ابتداء فلا يصح لأن الأخبار آحاد وليس في نص القرآن
ما يدل على جواز القياس ولكن إن وجد يوجد من طريق
الاستدلال ولابد من دليل قطعى في إثبات القياس والظاهر
المحتمل لا يحتج به في القطعيات فالأولى ما ذكرنا. فأما
الجواب عن كلماتهم أما قولهم إن الشرعيات مصالح. قلنا: قد
أجبنا عن هذا في مواضع وبينا أن القول بالصلاح والأصلح قول
باطل وزعم لا يمكن تمشيته ثم يقال لهم ولم لا يجوز معرفة
المصالح بالظنون ويجوز أن يكون الفعل مصلحة إذا فعلناه
ونحن على صفة وإذا فعلناه على غير تلك الصفة لا يكون مصلحة
لنا فلا يمتنع أن يكون فعلنا الفعل ونحن نظن شبه الفرع
بالأصل هو المصلحة وإذا لم ينظر حتى نظن شبهة به أو بغيره
فاتتنا المصلحة يدل عليه أنا إذا دللنا على أن الله تعالى
قد تعبدنا بالقياس فإذا تعبدنا الله تعالى بذلك علمنا
بتعبده أن المصلحة أن يفعل بحسب ظننا. وقولهم: إن المصالح
لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "1/131" ح "367" ومالك في اموطأ: الطهارة "1/22" ح "13"
والدارمي: الطهارة "1/203" ح "736" وأحمد: المسند "5/348"
ح "22589".
1 ليست بالأصل.
2 تقدم تخريجه.
3 زيادة يستقيم بها المعنى.
ج / 2 ص -96-
يتوصل
إليها بالآراء والأمارات. قلنا: ولم هذا؟ لأن الأمارات
التي تستند إلى النصوص لنستدرك بها المصالح لأنها بمنزلة
النصوص ومن قال لا التي يستدرك بقول ليس بيدك إلا مجرد
الدعوى ويقال لهم أيضا إن المصالح تستدرك بالنصوص لكن منها
ما يستدرك بنص ظاهر جلى وبعضها يستدرك بنص خفى فيفتقر إلى
الاستدلال حتى يعلم المراد به والقياس من هذا القبيل وهذا
لما قلنا: إن الأقيسة لما استندت إلى النصوص صارت بمنزلة
النصوص.
فأما قولهم: إن الجلى من أحكام الشرعية لا يعرف إلا بنص
فكذلك الخفى منها. قلنا: ولم ينبغى أن يكون كذلك أليس ما
عدا الشرعيات يعلم حكمه بالإدراك والضرورة؟ ويعلم خفيه
بالاستدلال دون الإدراك وجلى الشرعيات يعلم بالنصوص
الظاهرة وخفيها يعلم بنص خفى وكثير الزعفران الواقع في
الماء يعلم بالإدراك وخفيه يعلم بخبر من شاهد وقوعه فيه.
فإن قالوا: إن ذلك يستند إلى المشاهدة. قلنا وكذلك أحكام
الفروع استندت إلى الأحكام الثابته بالنصوص.
جواب آخر: إن جميع الشرعيات [تعلم]1 عندنا بالنص ولكن
بعضها يعلم بظاهر وبعضها يعلم بالاستدلال بالنص وما علم
بالقياس هو مثل ما علم بطريق الاستدلال.
وأما قولهم: إن هذه العلل توجد وهى غير موجبة وهى قبل
الشرع فلو كانت موجبة لم ينقل عن موجبها كالعلل العقلية.
قلنا: العلل العقلية موجبة لأعيانها وكانت لازمة لمعلولها
والعلل الشرعية موجبة بالشرع فصارت طائرة على معلولها
فلهذا افترقا وهذا لأن الشرائع مصالح ويجوز أن يكون الشئ
مصلحة في زمان دون زمان ولهذا اختلف شرائع الأنبياء وصح
نسخها فيجوز أن لا تكون هذه العلة موجبة قبل الشرع لأنه لا
يكون مصلحة قبل الشرع وأما بعد الشرع تكون موجبة لأنها
مصلحة بعد الشرع هذا جواب المتكلمين والأولى أن نقول إنا
قد بينا أن العقل بعينه لا يوجب شيئا فلا يتصور هذا السؤال
على هذا القول وإن تمسكوا بالحسيات.
قلنا: لم جمعتم بين الحسية والشرعية من غير جامع وأيضا فإن
عنوان الحركة تحرك الجسم وذلك إنما وجب أن يكون الجسم معه
متحركا لأن كون الجسم إذا تحرك هو معنى كونه متحركا.
فالقول: إن فيه حركة وليس بمتحرك مناقضة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "يعلم".
ج / 2 ص -97-
وأما
قولهم: إن الحليم لا يقتصر على أدنى البيانين مع قدرته على
إعلامها. قلنا: في هذا الكلام تسليم أن القياس بيان ولا
يمتنع أن يكون فيه مصلحة زائدة وإن كان أدون بيانا من غيره
ولو وجب التعبد بأعلى وجوه البيان لوجب تعريفنا الأحكام
كلها بالكتاب أو بالضرورة أو كان ينبغى أن يقع الاقتصار
على النصوص الجلية المتواترة دون الآحاد لأنها أعلى بيانا
من الخفية.
وأما قولهم: لو كان القياس حجة لكانت مع النص.
قلنا: ولم وما قلتم دعوى وعلى أنهم إن قالوا إنه يكون حجة
مع النص على حكم الأصل فكذلك نقول يكون الخبر دلالة
والقياس أيضا دلالة مطابقة له فإن قالوا مع النص على خلاف
حكمه في الفرع فقد بينا ذلك في الخبر الوادد بخلاف قياس
الأصول وعلى أنه لا يمتنع أن يكون حجة إذا انفرد وإذا
عارضه النص كان النص أولى منه كما أن خبر الواحد حجة إذا
انفرد وإذا اجتمع مع الخبر المتواتر أو مع نص القرآن كان
أولى منه وأما تعلقهم بالآيات التي ذكروها فليس في شئ منها
دليل على ما قالوه.
ويقال لهم: لم قلتم: إن الحكم بالقياس حكم بخلاف ما أنزل
الله تعالى أو تقديم بين يدى الله ورسوله أو فيه آتباع ما
ليس لنا علم به فإن الدلائل القطعية قد قامت على صحة
القياس وهو في الحقيقة رد الفرع إلى أصله من الكتاب والسنة
والحكم به حكم بما أنزل الله عز وجل ورد إلى الله والرسول
واتباع ما لنا به علم. وقوله تعالى:
{وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]معناه إما على الجملة أو التفصيل وليس المراد منه على
التفصيل لأن كثيرا من الأشياء التي لا تعد لم نجد تناولها
الكتاب على التفصيل فدل أن المراد من تلك إما على هذه
الجهة أو على تلك الجهة والكتاب والسنة وإن لم [يشتملا]1
على بيان القياس على التفصيل فقد اشتملا على بيانه بالأجمل
ببينة: أنه قد وجدت أشياء كثيرة صارت
ببينة بالسنة وليس لها في الكتاب ذكر ولكن لما دل الكتاب
على الأخذ بقول الرسول صلى الله عليه [وسلم]2 ودل أنه لا
ينطق عن الهوى جعل كأن بيانه كان بالكتاب كذلك هاهنا لما
دل الكتاب والسنة على أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يشتمل".
2 زيادة ليست بالأصل.
ج / 2 ص -98-
القياس
دليل الله وكان رد القياس إلى أصول ثبتت1 بالكتاب والسنة
صار بما دل عليه القياس كما أن2 الكتاب والسنة دلا عليه.
فإن قيل: إن استقام هذا لكم في سائر ما أوردناه فما قولكم
في قوله تعالى:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ومعلوم أن القياس دليل ظنى فإن قلتم إن وجوب العمل
به كان بدليل قطعى فهذا لا يزيل الإشكال لأن القياس لما
كان ظنا فيستحيل أن ينتج الظن علما قطعيا وقولكم: إن
القياس يفيد العلم بوجوب العمل طبع محال. قلنا: الأقيسه لا
تفيد [العلم]3 بوجوب العمل بأعيانها وإنما يقع العلم بوجوب
العلم بالدلائل القطعية التي أقمناها عند وجود الأقيسة
وإذا قررنا على هذا الوجه سقط هذا السؤال وعلى أن الشرع قد
ورد باتباع كثير من الظنيات بدليل أن الحكام إنما يفصلون
الأحكام بالشهادات المقامة في مجالسهم وهى دلائل ظنية لا
قطعية وكذلك الأمارات المرجوع إليها في القبلة ظنية لا
قطعية وكذلك في تقويم المتلفات وأروش الجنايات وكذلك
التدابير في الحروب يجوز الرجوع إليها والاعتماد عليها
ومعلوم أن الرأى في الحروب والتدابير التي تقع بين الناس
ليس تفيد علما قطعيا وما زال الناس من قديم الدهر إلى
حديثه ومن أولهم إلى آخرهم ومن سلفهم إلى خلفهم يرجعون إلى
غالب الظنون ويعتمدون عليها وإذا حصرنا الأمور في
المنتفيات وحملنا الناس على ما يفيدهم العلم الحقيقى
بالأشياء فسد ما به قيام أمورهم وانسد ما به تقوم أكثر
مصالحهم والإنسان يبعث الواحد في أمر ما [ويرسل]4 رسولا في
شئ فيعتمد على تبليغه وفعله لما أرسله فيه ويسمع من
الإنسان بالخبر في إباحة شئ أو في تحريمه أو طهارته أو
نجاسته فيؤمر بالأخذ بقوله وقد كان النبى صلى الله عليه
وسلم يبعث الواحد في الأمور ويعتمد على ما يخبره به وكان
ذلك رجوعا إلى غالب الظن وأمثال هذا وقد ذكرنا في مسألة
الخبر الوحد فالقياس عندنا بمثابة ذلك.
وقولهم: إن الاحتمال في الأخبار في طرقها لا في الأقوال
المنقولة بل الأقوال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "يثبت".
2 ثبت في الأصل: "كمام".
3 ثبت في الأصل: "بالعلم".
4 ثبت في الأصل: "ويرسله".
ج / 2 ص -99-
المنقولة نص في المعانى التي اشتملت عليها.
قلنا إذا يمكن الاحتمال في الطريق لم يقع لنا العلم بصدد
ذلك القول عن النبى صلى الله عليه [وسلم]1. بل كانت نهاية
ما في الباب وجود غلبة ظنه ومع ذلك وجب الاعتماد عليه
والرجوع إليه فكذلك أمر القياس يكون كذلك يدل عليه أن الله
تعالى سمى هذا الدين شرعا وشرحا للصدور. فقال تعالى:
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ
مِنْ رَبِّهِ}
[الزمر: 22] ومعلوم أن القلب بصره بالغائب كبصيرة العين
بالحاضر ومعقول القلب بالرأى كمرئى العين بالبصر فإنا نعلم
أن الإنسان يكون حرجا صدره في حكم من الأحكام فإذا تأمل
فيه وعرف معناه ينشرح صدره بمعرفة معناه ويطمئن إليه قلبه
ويدخله النور والضياء والفسحة وهذا لأن الإنسان إذا قلد
الحاكى في شئ وإن كان الحاكى صادقا فألقى في قلبه بعض
الحرج ولم ينشرح صدره كل الانشراح فإذا عقل معنى الحكم تم
انشراح صدره وانفساحه والجملة أن في قبول فعل صاحب الشرع
على ما جاء به حسن الطاعة والانقياد لله عز وجل وفى المصير
إلى القياس وطلب المعاني من الأصول الواردة طمأنينة القلب
وانشراحها لوقوعها على حجتها ومعانيها المعقولة وما زال
طلب طمأنينة القلوب حسنا منذ قال إبراهيم عليه السلام
مجيبا لقوله صلى الله عليه وسلم ولقوله تعالى:
{أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ولهذا لهج الناس بطلب المعاني في الأشياء وسلكوا
طريق ذلك في مصالح دنياهم كذلك صح ذلك أيضا في مصالح دينهم
والذين فرقوا بين ما يرجع إلى مصالح الدنيا ومصالح الدين
ففرق باطل والرجوع إلى الرأى وغالب الظن في الموضعين. وهذا
لأن الفوز والنجاة جائز للعبد من الله تعالى وناجيا به غير
أن هذه الطاعات والشرائع المشروعة أمارات وعلامات لنيل تلك
السعادة ويجوز أن يجعل معنى يغلب عليه الظن علامة لنيل
الفوز والسعادة وليس هذا بمستنكر في عقل ولا شرع.
وأما قولهم: إن أحكام الشرع مختلفة فدل اختلافها أنها غير
معلولة قلنا من الأحكام ما يعقل معانيها ومنها ما لا يعقل
معانيها. ونحن إنما نستجيز القياس فيما نعقل معانيها ولا
نستجيز فيما لا يعقل معانيها ووجه انقسام الشرع إلى هذين
القسمين هو أن بعضها لا يعقل معانيه ليتحقق الإسلام لأمر
الله عز وجل وبعضها ما يعقل معناه ليتم شرح الصدور بتعليل
ما يعقل معناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل.
ج / 2 ص -100-
وأما
قولهم: إن حجج الله تعالى تكون موجبة قطعا. قلنا: هذا
الأصل غير مسلم في العمليات فإن الواحد حجة في العمل وهو
حجة من حجج الله تعالى من حيث العمل به وإن لم يكن مقتضيا
موجبه على وجه القطع والثبات ولا فرق بين الخبر والعلة
لأنه كما يحتمل تعليل المعلل للغلط كذلك الرواية تحتمل
الغلط وأما قولهم: إنه ما من فرع إلا ويشبه أصلين مختلفين.
قلنا: هذا ممنوع ومن أين قلتم إن كل فرع يشبه أصلين متضادى
الحكم. ثم ولئن سلمنا أنه يوجد الفرع الذي له شبه بأصلين
متضادى الحكم لكن الله تعالى قد جعل لنا طريقا إلى قوة
شبهه بأحد الأصلين فينبغى أن يراجع المجتهد النظر أو يبالغ
في النظر ابتداء حتى يظهر له ذلك وقد قال بعض القياسين:
إنه يجوز أن يكون حكم الله في الفرع هو التخيير فإذا اعتدل
الشبهات عند المجتهد فيكون المجتهد مخيرا يلحقه باى
الأصلين شاء فأما كلامهم الأخير. قلنا: نحن إنما نجوز
المصير إلى الاجتهاد بعد طلب الحكم في الكتاب والسنة فإذا
أعوزه ذلك حينئذ يصير إلى القياس والذى قالوا: إن حصر
أحكام الحوادث على معاني النصوص يتضمن الاستحثاث على
الإكثار من الأخبار والفكر في معانيها وفى ذلك إماته البدع
وإسقاط الهوى.
قلنا: نحن إنما نأمره أولا بطلب أحكام الحوادث في النصوص
فإذا لم يجد فيها حينئذ ينتقل إلى المعنى وعلى أنا قدمنا
أن في الأمر بطلب المعانى [انشراح]1 الصدر وانفساحه
وطمأنينة القلب وإصابة زيادة النور الداخل عليه من قبول
أحكام الله تعالى على طمأنينة القلب مع قبوله على الطوع
والانقياد وقد أبتلى الله تعالى عباده بطلب المعانى مرة
لتنشرح صدورهم وتضىء قلوبهم ويتجرد القبول والاستسلام مرة
ليظهر عطاؤهم المقادة واستسلامهم لأمر خالقهم وبارئهم
فيستعمل عقله مرة بطلب المعنى ليظهر له قدر نعمة الله
تعالى بما أعطاه من النفاذ في الأمور ومعرفة الله وحكم
الله ومعانيه الغامضة التي هى أمارات أحكامه وشرعه
فيقابلها بالشكر وينقاد ويستسلم مرة ويحبس عقله من توثبة
على الأمور ويصرفه عن عتوه وتجاوزه عن حده المحدود له
ليظهر حسن عبوديته وخضوعه وانقياده لمعبوده وهذا باب عظيم
وحكمة بالغة وتصريف من الرب للعباد وابتلاء منه لهم ليظهر
خفى أمرهم ومكنون سرهم ويتميز الخبيث من الطيب فيهلك من
هلك عن بينة ويحيى من حيى عن بينة والله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل: "أشراح".
ج / 2 ص -101-
تعالى
للعباد بالمرصاد وهو المستعان.
فإن قيل: أليس لو قال الإنسان لغيره: أعتق سالما عبدى لأنه
أسود لم يجز أن يعتق كل عبد له أسود.
الجواب: أنا نقول أولا: لو رودع بمثل هذا. فقال: أعتقوا
فلانا لأنه أسود وجب إعتاق كل عبد أسود
فأما في أمر العباد قلنا: هذا دليل عليكم لأن الإنسان إذا
قال: أعتقت عبدى لأنه أسود فإن كل عاقل يناقضه إذا لم يعتق
غيره من عبيده السود إلا أن يكون قد عرف من قصده أنه أعتقه
لأنه أسود مع شرط آخر لا يوجد في غيره وكذلك إذا قال
لوكيله: أعتق عبدى سالما لأنه أسود قال له العقلاء فعبدك
الآخر أسود فلم خصصت هذا بالعتق إلا أنه لا يجوز لوكيله
الإقدام على إعتاق كل عبد أسود لأن الشرع منع من ذلك إلا
بصريح القول ولأن الموكل لما جاز عليه البدوات والمناقضات
لم يجز الإقدام على إتلاف ماله إلا بصريح القول.
ألا ترى: أن الموكل لو قال هذا القول وأمر وكيله بالقياس
لم يكن للوكيل أيضا إعتاق كل عبيده السود وخرج على هذا أمر
الشارع لأنه لا يجوز عليه البدوات والمناقضات ولأنه لو أمر
بالقياس صريحا أجمعوا على أنه يجوز للمخاطب القياس فثبت
الفرق بينهما من كل وجه فهذا وجه الكلام في هذه المسألة
وقد طالت جدا لكن هذه المسألة أصل عظيم فلم يكن بد من
الكلام فيها على الإشباع والاستقصاء لئلا يدخلها وهم كاذب
من الإزراء بالقائسين والراجعين إلى الظنون والله الموفق
للصواب والمرشد إلى الحق بمنه وفضله.
وإذا عرفنا جواز القياس في الفروع وتعرف الأحكام من قبله
فأول ما نبدأ به بعد ثبوت جواز القياس الكلام فيمن يجوز له
الاجتهاد والقياس وإنما يقع الكلام في النبى صلى الله عليه
[وسلم]1 وفى الصحابة إذا اجتهدوا بحضرته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل.
ج / 2 ص -102-
مسألة: ذكر أصحابنا أنه كان يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم
أن يجتهد في الحوادث1 ويستعمل القياس ويحكم به
وكذلك ذكروا أنه يجوز الاجتهاد من الصحابة بحضرة النبى صلى
الله عليه وسلم ومن أصحابنا من قال لما كان يجوز للنبى صلى
الله عليه وسلم ذلك ولا كان يجوز ذلك لأحد من الصحابة
بحضرته2 وعلى هذين القولين اختلف أصحاب أبى حنيفة أيضا.
قال أبو زيد: والقصد عندنا أنه لم يكن له العلم بالرأى
ابتداء حتى ينقطع طمعه عن الوحى فيما ابتلى به وكان له
العمل برأيه بعد ذلك واستدل من أبى جواز ذلك بقوله تعالى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3, 4] فدل أنه لا يحكم إلا على وحى ويدل عليه قوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] لأنه كان صلى الله عليه وسلم يسأل عن أشياء ويتوقف فيها
إلى أن يرد النص كالظهار واللعان وغير ذلك ولو جاز
الاجتهاد ولم يكن للانتظار معنى والمعتمد لهم أن النبى صلى
الله عليه وسلم إذا أثبت الحكم بالاجتهاد كان للعالم أن
يخالفه ثم إذا خالفه فيكون للعامى التخيير في الاستفتاء
وهذا أمر قبيح لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذهب الأشاعرة والمتكلمين إلى أن الاجتهاد في حقه عليه
الصلاة والسلام جائز عقلا واختاره البيضاوي وذهب الجبائي
وابنه وأبو هاشم إنه محال انظر نهاية السول "4/530" فواتح
الرحموت "2/366" سلم الوصول شرح نهاية السول "4/530, 531"
المستصفى "2/355" المحصول "2/489" انظر إحكام الأحكام
"4/222" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/227,
228".
2 مسألة اجتهاد الصحابة بحضرة الرسول أو في غيبته اختلف
فيها الأصوليون في ذلك على أقوال:
1- اجتهاد الصحابة في عصر الرسول غير جائز عقلا وهو لبعض
الأصوليين.
2- اجتهاد الصحابة في عصر الرسول جائز عقلا - وهو مذهب
الجمهور والقائلون بالجواز اختلفوا على أقوال:
1- يجوز مطلقا للحاضر منهم مجلس الرسول والغائب عن مجلسه
وهو لمحمد بن الحسن والباقلاني.
2- يجوز للغائب من الولاة والقضاة ولا يجوز لغيرهم كما
لايجوز للحاضر في مجلس الرسول انظر نهاية السول "4/538,
539" سلم الوصول "4/538, 539" المحصول "2/494" فواتح
الرحموت "2/374" إحكام الأحكام "4/234" أصول الفقه للشيخ
محمد أبو النور زهير "4/234".
ج / 2 ص -103-
يقول
لديه أحد وأيضا لو جوزنا له الاجتهاد لوجب القطع على أن
العلة التي استخرجها هى علة الحكم ولا قطع مع الاجتهاد
وإذا لم يقطع جازت مخالفته.
ببينة: أن الأمة أجمعت على أن من استحل
مخالفة النبى صلى الله عليه وسلم يصير كافرا فإذا جوزنا له
الاجتهاد لم يكن تكفير مخالفه في الحكم لأن الاجتهاد طريقه
الظن فلا يجوز أن يكفر من يخالفه فيه فثبت أن الاجتهاد
ممتنع أصلا وهذا لأن المجتهد لا يؤمن عليه الغلط فكيف يحرم
مخالفة من لا يؤمن عليه الغلط ألا ترى أن الرأى في الحروب
لما لم يؤمن عليه الغلط كيف جاز مخالفته فإن النبى صلى
الله عليه وسلم أراد النزول في منزل يوم بدر فقال له
الحباب بن المنذر: أرأى رأيته أم وحى؟ فقال:
"بل رأى رأيته"
فقال: بل الرأى أن ننزل في موضع كذا أو أراد النبي صلى
الله عليه وسلم أن يعطى يوم الأحزاب قوما من الكفار شطر
ثمار المدينة لينصرفوا فقال الأنصار: أرأي رأيته أم وحى
فقال:
"بل رأى رأيته" فقالوا: لا نعطيهم إلا السيف والله ما كانوا يطعمون ذلك في
الجاهلية إلا بشرى أو بقرى فكيف وقد أعزنا الله تعالى
بالإسلام ولما دخل المدينة نهاهم عن تأبير النخل ففسد
ثمارها ذلك العام فأمرهم بالتأبير وقال:
"أنتم أعلم بأمر دنياكم وأنا أعلم بأمر دينكم"1 قالوا: ولأنه لا ضرورة له صلى الله عليه وسلم إلى الرأى لأن الوحى
له متوقع واستعمال الرأى لا يجوز إلا عن ضرورة
ببينة: أن الدين في الأصل لله تعالى فلا
يجوز شرعه برأى لا يؤمننا عن الغلط إلا عن ضررورة ولا
ضرورة لصاحب الوحى وهذا كتحرى القبلة لا يجوز إلا لمن بعد
عن الكعبة فأما من قرب فلا ضرورة له كذلك ها هنا يكون
الأمر كذلك قالوا: وأما الأمر بالمشاورة فكان من أمور
الدنيا ونحن إنما نجوز الاجتهاد في أمور الدين فأما في
أمور الدنيا فهو جائز وعلى أنه صلى الله عليه وسلم أمر
بمشاورتهم تطييبا لنفوسهم لأخذ برأيهم واستدل من قال: إنه
لا يجوز للصحابة أن يجتهدوا بحضرة النبى صلى الله عليه
وسلم هو أن الحكم بالاجتهاد حكم يغالب الظن فلا يجوز مع
إمكان الرجوع إلى النص وقد كان يمكنهم الرجوع إلى نص النبى
صلى الله عليه وسلم فصار اجتهادهم في هذا الموضع كاجتهاد
علماء الأمة في موضع النص وأما دليلنا فيتعلق أولا بقوله
تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] وهذا على العموم ويدل عليه قوله تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} فلو لم يجز لهم الحكم بالرأى لم يؤمر بالمشاورة لأن الذي ينال
بالمشاورة محض الرأي. وقولهم: إنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم: الفضائل "4/1836" ح "141/2363".
ج / 2 ص -104-
أراد
بذلك في أمور الدنيا. قلنا: قد كان النبى صلى الله عليه
وسلم يشاورهم في أمور الدين بدليل المفاداة يوم بدر
والمفاداة حكم شرعى وقد شاورهم في ذلك واختلاف أبى بكر
وعمر رضى الله عنهما في ذلك معروف مشهور وقد روى أن خولة
سألت النبى صلى الله عليه وسلم عن ظهار زوجها منها فقال:
"ما أراك إلا
وقد حرمت عليه" فقالت:
أشتكى إلى الله عز وجل فأنزل الله تعالى آية الظهار1 ويدل
عليه أن النبى صلى الله عليه وسلم شاور الصحابة في أمر
الأذان فاختلفوا عليه ثم إن عبد الله بن زيد رأى الرؤيا
على ما عرف وقد روينا أن النبى صلى الله عليه وسلم قال
لعمر رضى الله عنه حين سأله القبلة للصائم:
"أرأيت لو تمضمضت"2 وفي حديث الخثعمية
"أرأيت لو كان على أمك دين؟"3
قال تعالى:
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] وقد كان أذن لهم بالرأى ويدل على ما ذكرناه قصة داود
وسليمان صلوات الله عليهما على ما ذكر الله عز وجل وهو
قوله تعالى:
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] الآية وقال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وكانا حكما بالاجتهاد وهذا كله بمعنى وهو أنه كما
يجوز في العقول أن يكون مصلحتنا أن نعمل بالاجتهاد
بالأمارة تددل عليه مرة ونعمل بالنص مرة إذا وجد كذلك جاز
مثله في النبى صلى الله عليه وسلم وليس يحيل العقل ذلك في
النبى صلى الله عليه وسلم ويصححه فينا كما لا يصححه في زيد
ويمنع منه في عمرو لهذا يجب عليه وعلينا أن نعمل باجتهادنا
في مضار الدنيا ومنافعها وإذا ثبت أن العقل ا يمنع من
التسوية بيننا وبين النبى صلى الله عليه وسلم وبين الأمة
ولم يرد شرع يفرق بينه صلى الله عليه وسلم وبيننا صارت
الدلائل مستمرة على عمومها واستدل من جوز الاجتهاد للصحابة
بمحضر النبى صلى الله عليه وسلم بما روى أن النبى صلى الله
عليه وسلم أمر سعدا أن يحكم في أمر بنى قريظة4 والرسول صلى
الله عليه وسلم حاضرا وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم
أمر عمرو بن العاص أن يحكم بين نفسين على أنه إن أصاب فله
عشر حسنات. فقال: يا رسول الله أجتهد وأنت حاضر؟ قال:
"نعم"
ولأنه إذا جاز الاجتهاد في غيبة النبى صلى الله عليه وسلم
وخطأه لا يستدرك فلا يجوز بحضرة النبى صلى الله عليه وسلم
ولو أخطأ يستدركه النبى صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الحافظ السيوطي في الدر المنثور وقال: أخرج ابن
مردويه عن ابن عباس أن خولة... فذكره. انظر الدر المنثور
"6/180".
2 تقدم تخريجه.
3 أخرجه البخاري "4/77" ح "1852" وأحمد: المسند "1/295" ح
"1975".
4 أخرجه البخاري: الاستئذان "11/51" ح "6262" ومسلم:
الجهاد "3/1388" ح "64/1768".
ج / 2 ص -105-
وأما
الجواب عما ذكروه. قلنا: أما قوله تعالى
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
يُوحَى} [النجم: 3, 4] فلا دليل من هذه الآية في موضع الخلاف لأن الآية
نزلت في شأن القرآن ولأن الهوى عبارة عن هوى النفس الباطل
لا عن الرأى الصواب عن عقل ونظر في أصول الشرع أما قولهم
إن النبى صلى الله عليه وسلم قد توقف في أشياء قلنا: إن
كان قد توقف في مواضع فقد اجتهد في مواضع على ما سبق وعلى
أنه كان يجوز له أن يجتهد فيما له أصل من الكتاب فيحمل
غيره عليه فأما ما لا أصل له فلا سبيل إلى الاجتهاد فيه.
فأما الذى اعتمدوه من قولهم إنه لو جاز الاجتهاد له لجاز
لغيره مخالفته قلنا: نحن نقول: يجوز له صلى الله عليه وسلم
الاجتهاد وأما مخالفة غيره له حرام فإن قيل: كيف يحرم
مخالفة قول صدر عن اجتهاد؟ ويمنع مجتهد آخر عن الاجتهاد
فيه.
ببينة: أنه لا يتصور أن يحرم على غيره
المخالفة إلا بعد أن يكون الدليل قطعيا وإذا لم يكن للنبى
صلى الله عليه وسلم في نفسه قطعيا كيف يكون في غيره قطعيا.
قلنا: بلى قد يجوز صدور1 القول عن اجتهاد لكن يحرم على
غيره المخالفة لكونه نبيا في نفسه وإنما حرم المخالفة وإن
صدر عن الإجتهاد لأنه صلى الله عليه وسلم كان معصوما عن
الخطأ في الأحكام فإذا كان معصوما عن الخطأ محروسا عن
الزلل كان مصدورا منه محكوما بصحته مقطوعا بذلك فلذلك حرمت
المخالفة ومن استحل كفر ويجوز أن يصدر الحكم عن الاجتهاد
ثم ينضم إليه ما يوجب القطع بالصحة ويتضمن تحريم المخالفة
بدليل الإجماع الصادر عن الاجتهاد.
وأما قولهم: هل يقطع على العلة التي استخرجها أنها علة
الحكم قلنا نحن نقطع بذلك لأنه واجب علينا اتباعه وهو لا
يقطع بذلك لأنه مجتهد ولأنا نعلم أنها علة الحكم قطعا لما
قام لنا من الدليل أنه معصوم عن الخطأ.
وأما قولهم: إن الاجتهاد بحضرته حكم بالظن مع إمكان التوصل
إلى العلم قلنا: إذا اجتهد وأقر هو صلى الله عليه وسلم على
ذلك فقد وقع لنا بحضرته العلم بذلك ولأنه إن أخطأ يمنعه
منه على أنه يجوز الحكم بالظن مع أمكان العلم بدليل أنه لا
يجوز الحكم بخبر الواحد من إمكان الرجوع إلى قول جماعة يقع
الخبر بخبرهم والله أعلم.
وقد بينا اختلافهم في جواز الاجتهاد بحضرة النبى صلى الله
عليه وسلم وقد قال: بعضهم إذا أذن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "صدر" ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -106-
النبى
صلى الله عليه وسلم في ذلك والأولى أن يقال: إنه لا يجوز
لمن حضر النبى صلى الله عليه وسلم أن يجتهد قبل سؤال رسول
الله صلى الله عليه وسلم كما لا يجوز لأن للمجتهد أن يجتهد
قبل طلب النص كما لا يجوز لسالك1 في برية مخوفة أن يعمل
على رأيه مع تمكنه من سؤال من يخبره عن الطريق عن علم وإذا
سأل النبى يجوز أن يكله النبي صلى الله عليه وسلم إلى
اجتهاده ليس من ذلك مانع لا من حيث العقل ولا من حيث
الشرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت بالأصل: "ليسالك" وهذا أصوب.
فصل: وإذا عرفنا من يجوز له القياس فالكلام بعد
ذلك فيما يجوز فيه استعماله:
اعلم أن التعبد في جميع الشرعيات بالنصوص جائز ومن الممكن
أن ينص الله تعالى على صفات المسائل في الجملة فيدخل
تفاصيلها وهى فيها بالنص على صفات المسائل يجوز أن ينص على
جريان الربا كل مطعوم فيدخل في ذلك أنواع المطعومات وينص
على تحريم كل مسكر فيدخل فيه الخمر والنبيذ وكل ما يشبهه
فأما التعبد في جميعها بالقياس فلا يصح لأن القياس حمل فرع
على أصل بنوع شبه بينهما فإذا لم يكن أصل فكيف يتصور
القياس.
ببينة: أنه قياس الشيء على نفسه وهذا لا
يجوز وإذا علم أنه لا يجوز إثبات جميع الأحكام الشرعية
بالقياس.
فنقول: ليس القياس تتخصيص شئ دون شئ من الأحكام بعد أن لا
يكون جميعها ثابت بالقياس فعلى هذا قال الأصحاب: تثبت جميع
الأحكام الشرعية بالقياس على معنى أن لا يتخصص بشئ دون شئ
بل يجوز أن يستعمل القياس في كل حكم من أحكام الشرع.
ويتفرع على هذه المسألة المعروفة مع أصحاب أبى حنيفة وهى
مسألة استعمال القياس في الحدود والكفارات وفى المقادير
كلام على ما سنبين إن شاء الله تعالى.
ج / 2 ص -107-
مسألة: يجوز أثبات الكفارات والحدود بالقياس على مذهب
الشافعى رحمة الله عليه.
وعند أصحاب أبي حنيفه لا يجوز1. وقال أبو الحسن الكرخى: لا
يجوز تعليل الحدود ولا الكفارات ولا العبادات ولهذا منع من
قطع القياس بالقياس ومنع من إيجاب الحد على اللوطى بالقياس
ومنع من الصلاة بإيماء الحاجب بالقياس ومنع من إيجاب
الكفارة من قتل العمد بالقياس قال ولا فرق بين الكفارات
الجارية مجرى العقوبات وبين ما لايجرى مجرى العقوبات ومنع
أيضا من إثبات النصب بالقياس ولهذا الأصل لم يوجب الزكاة
في الفصلان وصغار الغنم وقد منعوا أيضا ثبوت كثير من هذا
بخبر الواحد ومنعوا أيضا من استعمال القياس في المقادير
والأصح على مذهبنا جواز القياس في المقادير أيضا ومنع أبو
الحسن الكرخى أيضا أن يعلل ما رخص فيه لنوع مساهلة كأجرة
الحجام وقص الشارب والاستصناع فيما جرت [به]2 العادة مثل
الخفاف والأواني وغير ذلك وقد تتبع الشافعى رحمة الله عليه
مذاهبهم وأبان أنهم لم يفوا بشئ مما ذكروه ونورد كلام
الشافعى رحمة الله عليه على وجهه. قال الشافعى رحمة الله
عليه: أما الحدود فقد كثرت أقيستكم فيها حتى تعديتموها إلى
الاستحسان وهو في مسألة شهود الزنا فإنهم أوجبوا الحد في
تلك المسألة وقضوا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمهور الأصوليون على أن القيلس يجري في الحدود والكفارات
والرخص والمقدرات كما يجري في غيرها من الأحكام الشرعية
واشتهر عن الحنفية الخلاف في ذلك فقالوا: إن الحدود
والكفارات والرخص والمقدرات لا تثبت بالقياس ولا يكون
القياس حجة فيها.
مثال القياس في الحدود: قياس النباش على السارق بجامع أخذا
المال خفية في كل فيقطع النياش كما يقطع السارق وقياس
اللائط على الزاني بجامع الإيلاج في فرج محرم مشتهى فيحد
اللائط كما يحد الزاني.
ومثال القياس في الكفارات قياس الأكل في نهار رمضان عمدا
على الجماع انتهاك حرمة الشهر في كل فتثبت الكفارة في
الأكل كنا تثبت في الجماع وقياس القتل العمد على القتل
الخطأ بجامع إزهاق الروح في كل لتثبت الكفارة في القتل
العمد كما تثبت في القتل الخطأ انظر نهاية السول "4/53"
سلم الوصول "4/35" المحصول "3/424" إحكام الأحكام "4/28"
فواتح الرحموت "2/317" المستصفى "2/334" انظر أصول الفقه
للشيخ محمد أبو النور زهير "4/50, 51".
2 زيادة ليست في الأصل.
ج / 2 ص -108-
أنه
استحسان وأما الكفارات فقد قاسوا الإفطار بالأكل فيها على
الإفطار بالوقاع وقد قاسوا قتل الصيد ناسيا على قتله عامدا
مع تقييد النص بالعمد في قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ
مِنَ النَّعَمِ}
[المائدة: 95] وأما المقدورات فقد قاسوا فيها ومما أفحشوا
في ذلك عدد الدلاء عند وقوع الفأرة في البئر ثم أدخلوا
تقديرا على تقدير فقدروا للحمامة غير تقدير العصفور
والفأرة وقدروا للدجاجة غير تقدير الحمامة وقدروا الحوض
بالعشر في العشر وأما الرخص فقد قاسوا فيها وتناهوا في
البعد فإن الاقتصار على الأحجار في الاستنجاء من أظهر
الرخص ثم اعتقدوا أن كل نجاسة نادرة أو معتادة مقيسة على
الأثر اللاصق بمحل النجو فانتهوا في ذلك إلى نفى إيجاب
استعمال الأحجار مع قطع كل منصف بأن الذين عاصروا رسول
الله صلى الله عليه وسلم فهموا هذا التخفيف منه في هذا
الموضع المخصوص لشدة البلوى فيه وكانوا على تحرزهم في سائر
النجاسات على الثياب والأبدان ثم قال الشافعى رحمة الله
عليه: من شنيع ما ذكروه في الرخص إثباتهم لها على خلاف وضع
الشرع فيها فإنها مثبته تخفيفا وإعانة على ما يعانية المرء
في سفره من كثرة أشغاله فأثبتوها في سفر المعصية فهذا الذي
ذكروه يزيدونه على القياس إذ القياس تقرير المنصوص عليه
قراره وإلحاق غيره به وهذا قلب لوضع المنصوص في الرخص
بالكلية قال الإمام رحمة الله عليه والمناقضات للقوم طبيعة
لا يمكن نزعها منهم بحيلة وما من أصل لهم في الأصول وفي
الفروع إلا ولهم في ذلك من أصولهم لفروعهم مناقض وهذا لأن
القوم لم يبنوا فروعهم على أصول صحيحة وإنما وضعوا المسائل
على أشياء تراءت لهم ثم تراءت لهم غيرها في مسائل أمثال
المسائل الأولة فحكمها بغير تلك الأحكام وراموا الفروق
بالخيالات وهيهات ثم هيهات ما أبعدهم عن ذلك فإن الآراء
مستعصية على ما لم يسندها إلى أصول صحيحه ومن أراد عد
مناقضاتهم جاوز الألوف وبلغ مبلغا ينتهى دونه الحد والعد
ولولا أنا آثرنا إثبات المسائل في الأصول والفروع والمعانى
وإلا جمعنا من ذلك ما يتحير معه الناظر وتعجب منه المناظر
ولو صرفنا إليه طرفا من العناية لم يعدمه طالبه رجعنا إلى
الكلام في أصل المسألة وحجة من أبى ذلك من أطلقه احتج من
منع دخول القياس في الحدود والكفارات وقال الحد شرع للردع
والزجير عن العاصي والكفارة وضعت لتكفير الإثم وما يقع به
الردع عن المعاصى ويتعلق به التكفير عن المآثم إلا الله عز
وجل لأن الإنسان يردع بالقليل من العقوبة وقد لا يرتدع
بالكبير فمقدار ما يقع
ج / 2 ص -109-
به
الردع لا يتصور أن يعلمه إلا الله عز وجل وكذلك ما يكفر
الإثم لا يعلمه إلا الله تعالى وربما عبروا عن هذا وقالوا
إن وجوب الحدود مصالح للعباد والمصلحة لا تثبت بالقياس
وأيضا فإن الحدود والكفارات تختلف بحسب المآثم والمآثم لا
تعرف بالقياس وكذلك المقادير مشروعة على مقادير معلومة
لمصلحة العباد وقد بينا أنه لا مدخل للقياس في معرفة
المصالح قالوا ولأن القياس موضع شبهة لآنه إلحاق فرع بأشبه
الأصلين فيبقى الأصل الآخر شبه والحدود تسقط بالشبهات فلا
يجوز إيجابها بدليل لا يخلو عن الشبة وأما دليلنا وهو أن
القياس دليل الله تعالى ودليل الله تعالى يجوز أن يثبت به
الحدود والكفارات دليله الكتاب والسنة ويقال أيضا إثبات
حكم شرعى بدليل من دلائل الله تعالى فجائز كما لو كان
الحكم سوى الحدود والكفارات والقياس على خبر الواحد قياس
معتمد لأن كل واحد من الدليلين لا يفيد إلا قوة الظن فإذا
جاز إثبات هذه الأحكام بخبر الواحد جاز بالقياس والحرف
المعتمد أن الدلائل التي قامت على صحة القياس قد قامت على
الإطلاق من غير تخصيص موضع دون موضع فصار القياس صحيحا
استعماله في كل موضع إلا أن يمنع منه مانع ولا مانع في
الحدود والكفارات فإن قبل وجد مانع قلنا: بينوا فإن تعلقوا
بالشبهة التي ذكرناها أخيرا في كلامهم وزعموا أن ما سقط
بالشبهة لا يجوز إثباته بدليل مطلوب لأن الظان معترف ببقاء
إمكان ما وراء ظنه فوجب أن يحصل الدرأ بذلك الإمكان فنقول
على هذا أن خبر الواحد داخل على هذا فإنه لا يفيد إلا الظن
ومع ذلك يجوز إثبات الحدود والكفارات به وأيضا فإنهم لم
يمنعوا من استعمال القياس في القصاص والقصاص يندرئ
بالشبهات قطعا ويدل عليه أن الحدود تثبت بالشهود عند
الحكام وشهاداتهم لا تفيد إلا الظن ومع ذلك جاز إيجاب الحد
بهما وكذلك الكفارة فسقط ما قالوه ثم المعتمد من الجواب هو
أن وجوب العمل بالقياس ليس بمظنون وقد ذكرنا هذا من قبل
ونعنى بهذا أنا جعلنا القياس حجة بالدلائل القطعية لا
بدلائل مظنونة وأما تعلقهم بقولهم إن الحد للزجر عن
المعصية والكفارة لتغطية المأثم وهذا لا يهدى إليه القياس
قلنا: ولم قلتم: إنه لا يهتدى إليه بالقياس1 بل القياس
يهتدى إلى كل ما يمكن استخراج معنى مؤثر منه ومسألتنا من
هذا الباب لأن المسألة مصورة في مثل هذا الموضع ونظيره أن
تستخرج معنى من الزنا إيجاب الحد فقياس اللواط وأيضا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "القياس" والصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -110-
يستخرج
معنى من السارق فقياس عليه النباش وكذلك في الكفارات بقياس
العمد على الخطأ في القتل ويقاس الغموس على اليمين في
المستقبل في إيجاب الكفارة وكذلك تقاس كفارة الظهار على
كفارة القتل في شرط الإيمان وإنما صح القياس في هذه
المواضع لأنا علمنا معانى صحيحة في هذه الأصول فصح قياس
الفروع عليها بتلك المعانى وقد علموا هم بمثل هذا في
القياس الأكل على الوطء إيجاب كفارة الفطر فإن قيل: هل يصح
إثبات حد مبتدأ بالقياس أو كفارة مبتدأه قلنا: لا طريق
يوصل القياس إلى إثبات حد مبتدأ وكذلك لا طريق يوصل إلى
إثبات كفارة مبتدأه بالقياس ولو كان الطريق يصح إثباته من
جهته لصح إثباته وأما في المسائل التي ذكرناها بالقياس
يمكن فوجب استعماله وعلى هذا القول في المقدير إذا عرف
معناها وثبت تأثيرها يجوز القياس عليها وعلى أنا قد بينا
أن كثيرا من أصحابنا قالوا: إن أثبات الأسامى التي يبتني
عليها الأحكام في الشرع يجوز بالقياس وقد بينا هذا من قبل
وقد ذكر أبو زيد فصلا يرجع إلى هذا الأصل. قال: وأما تعدى
الحكم ففصل عظيم الفقة عزيز الوجود وقاله فيما قال الشافعى
رحمة الله عليه: إن كفارة اليمين تجب بالغموس قياسا على
المعقود لأنه يمين الله تعالى مقصودة قال: وهذا التعليل لم
يقع لتعديه حكم المعقودة إليها بل لتعديه اسم اليمين
الثابت لغة وبيان ذلك أنا أجمعنا أن كفارة اليمين لا تجب
بغير اليمين واختلفنا في يمين الغموس أنها يمين حقيقة أو
يمين تسمية مجاز كبيع الحر وغيره فقلنا إنها ليست بيمين
حقيقة بل إنما تسمى يمينا على طريق المجاز ولا تجب كفارة
اليمين بما ليست بيمين. وقال: ولا يجوز إثبات اسم اليمين
وهو اسم لغوى بالقياس الشرعى بل يجب تعرفه من طريق لسان
العرب. فيقال: إن اليمين عقد على الخبر لتحقيق الصدق منه
وضعا وشرعا فلا يكون محله إلا الخبر المحتمل للصدق فإنها
ما لا يحتمل الصدق بحال فلا يكون محلا لليمين كالبيع شرع
لتمليك المال فما ليس بمال لا يكون محلا له. قال: ولذلك
أبطل أبو حنيفه قياس اللواط على الزنا في إيجاب الحد1 لأن
حد الزنا لا يجب إلا بالزنا فيكون التعليل واقعا لإثبات
الاسم اللغوى بالقياس. قال: وكذلك لا يجوز تحريم الثلث
الشديد بالقياس على الخمر من طريق إثبات اسم الخمر له
بالقياس لأن الخمر اسم لغوى. قال: وليس إيجاب الكفارة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أنه لايحد عند أبي حنيفة من أتى امرأة في موضع
مكروه أو عمل عمل قوم لوط ولكنه يعزر وزاد في الجامع
الصغير: ويودع في السجن انظر الهداية "2/390".
ج / 2 ص -111-
بالأكل
إلحاقا بالجماع بالقياس والكفارة ليست بكفارة جماع إنما هى
كفارة إفطار والأكل والشرب والجماع من حيث إيجاب الفطر باب
واحد لما ذكرنا أن الكفارة أنما تتأدى بالكف عن اقتضاء
بالشهوتين والفطر بالاقتضاء يقع من حيث انعدامم الكف بفعل
منه فكان الباب واحدا وأنما تختلف أسماء ما يقع به الفطر
كالقتل بأى آلة قتل به المقتول إذا استوت الآلات في إيجاب
ما يكون قتلا قال: وأما إيجاب الكفارة بجماع الميتة
والبهيمة إيجاب بالقياس لأنه ليس هذا الفعل والأفعال التي
ذكرناها من باب اقتضاء الشهوة واحد لأن المحل غير مشتهى
طبعا وكان بمنزلة الاستمتاع بالكف أو الإدخال في شق جدار
أو في شق إليه وإنما سمى هذا الفعل جماعا مجازا لأجل ما
يشبه الجماع صورة وإذا ثبت أنه ليس هذا الفصل وطء البهيمة
بابا واحدا فلو وجب الحد بوطء البهيمة أو الميتة لوجب
بالقياس وقد بينا أن اسم الجماع في هذا الفعل ساقط وإثبات
الاسم اللغوي بالقياس ساقط قال: كذلك قلنا: لا يجب القطع
على النباش لأن القطع في السرقة حد والنص ورد باسم السرقة
وعدم الاسم في النباش لأن السرقة اسم للأخذ مسارقا عن
صاحبه وهذا لا يتصور في الكفن لأن صاحبه ميت وقد سقط
القياس الشرعى لإثبات الاسم ولا قطع بالاجماع بدون اسم
السرقة وهذا لأن الأسماء ضربان حقيقة ومجاز وسبب الحقيقة
وضع الواضع وهذا لا يعرف إلا بالسماع وسبب المجاز استعارة
العرب لاسم آخر بطريق لا يعرف طريق استعمالهم اللغة
الشرعية والنظر في أصولها بل يعرف بالنظر في كلام العرب
قال: ومن هذه الجملة الكلام في أن ألفاظ الطلاق هل تصلح
كناية عن العتق أو لا؟ ولفظ التمليك حل يصلح كناية عن
النكاح أم لا؟ قال: ومن هذه الجملة تعليلهم الرقبة الواجبة
في القتل وقياسهم الظهار عليها بعلة أنه يجب في تكفير
وإنما لم يجز القياس في هذه الصورة لأن زيادة الوصف بمنزلة
زيادة القدر فصار تعريفنا للحكم الثابت نصا فامتنع ألا ترى
أنه لا يجوز الزيادة على صوم ستين يوما ولا إطعام ستين
مسكينا قال: وعلى هذا تخرج مسألة رد شهادة القاذف إذا تاب
فإنا نقول إن هذا حده الجلد وتحريم قبول الشهادة وقد دل نص
الآية على هذا فإذا عللتم لإخراج رد الشهادة من كونه حدا
وتعلقتم بالفسق فقد تعرضتم للحكم الثابت أيضا بالتنقيص وهو
تنقيض حد القذف عما أوجبه النص فلم يجز إثباته بالقياس
قال: وعلى هذا لا يقبل القياس في إيجاب التمليك في الإطعام
للكفارة لأن الخلاف وقع في قدر الواجب بنص التكفير فقلنا:
إنه الإطعام بلا قيد التمليك وقلتم:
ج / 2 ص -112-
إنه
واجب بهذا القيد فصار هذا مثل زيادة الإيمان في الرقبة
المطلقة في الظهار. قال: وعلى هذا قول من قال: إن الحرمة
بين المتلاعنين بلعان الزوج من هذا القبيل لأن اللعان واجب
بالرمى بنص الله تعالى وهى شهادات مؤكدة بالأيمان مزكاة
باللعنة محرمة للإجماع بعد التلاعن منها بالسنة وهى قوله
صلى الله عليه وسلم:
"المتلاعنان لا يجتمعان أبدا"1.
وكان إيجاب الحرمة بلعان الزوج وحده زيادة في الحكم قال:
والحرف في هذه المسائل كلها أن التعليل لتعديه حكم النص
إلى الفرع من غير تعرض للحكم نصا بوجه ما حتى لا يؤدى إلى
تغييره بإثبات زيادة فيه أو نقصان منه قال: ومن جنس ما
ذكرنا أن المنصوصات لا يقاس بعضها على بعض فمتى وجدنا في
الفرع نصا يمكننا العمل به من غير أن نقيسه على أصل آخر
يكون قياس ذلك الفرع على غيره فاسد على هذا لا يجوز قياس
قتل العمد على قتل الخطأ في الكفارة لا يجوز أيضا قياس قتل
المسلم في دار الحرب قبل الهجرة إلينا على المسلمين في
درانا في إيجاب الضمان وكذلك لا يجوز قياس المحصر على
الممتنع في إيجاب الصوم بدلا عن الهدى عند العدم وكذلك لا
يجوز قياس المطلقة التي لها مهر مسمى على التي طلقت قبل
الدخول بلا فرض مهر إيجاب المتعه لأن هذه الحوادث كلها
منصوص عليها فلم يجز قياس بعضها على بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود: الطلاق "2/282" ح "2250" انظر نصب
الراية الزيلعي "3/250".
فصل: وقد قال أبو زيد: إن شرط القياس أربعة:
إحداها: أن لا يكون الاصل مخصوصا بحكمة
آخر.
والثانى: أن لا يكون معدولا به عن القياس.
والثالث: أن يتعدى الحكم الشرعى بالنص
بعينه إلى فرع هو نظيره ولا نص فيه.
والرابع: أن يبقى الحكم في الأصل المعلول
بعد التعليل على ما كان قبل التعليل.
أما الأول فلأنه عنى متى ثبت اختصاص الحكم بنص آخر لم يجز
إبطال الخصوصية الثابته بالنص الآخر بالقياس لأن القياس
ليس بحجة معارضة للنص.
وأما الثانى فلأن حكم النص متى ثبت على وجه يرده القياس
الشرعى لكنه ترك لمعارضة النص أياه ومجيئه بخلافه لم يجز
إثباته في الفرع بالقياس كالنص إذا جاء نافيا للحكم لم يجز
إثباته به.
ج / 2 ص -113-
وأما
الثالث فلأن المقايسة هى المحاداة بين الشيئين فلا يتصور
ثبوتها في شئ واحد ومتى لم يتعد الحكم إلى الفرع بقى الأصل
وحده فلا يكون النظر لإثبات الحكم فيه مقايسة ويتبين أن
محل المقايسة حادثتان سوى بينهما بالمقايسة.
وأما الرابع فلأن النص فوق القياس فلم يجز استعمال القياس
ليغير حكمه بوجه ولأن الرأى مشروع حجة بعد النص فلم يبق
حجة حيث يثبت فيه النص.
قال ومثال الأول أن الله تبارك وتعالى شرط العدد في جميع
الشهادات وثبت بالنص قبول شهادة خزيمة بن ثابت وحدة وكان
مخصوصا بذلك وقد اشتهر من الصحابة بهذه الفضيلة فلا يجوز
إبطال هذا التخصيص بالتعليل وكذلك حل للنبي صلى الله عليه
وسلم تسع نسوة إكراما له فلا يجوز تعليله ولهذا ثبت بالنص
أن البيع يقتضى محلا مملوكا معلوما مقدورا على تسليمه وجوز
التسليم في الدين بالنص وجاء النص بشرطه بالأجل فلا يجوز
إبطال التخصيص بالتعليل ثم قال: وقد قال الشافعى رحمة الله
عليه: لما صح نكاح النبى صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة
على سبيل الخصوص بقوله:
{خَالِصَةً لَكَ}
[الأحزاب: 50] بطل التعليل قال وقلنا بل التخصيص في سلامة
البضع بغير عوض وفى اختصاصه في المرأة بألا تحل لأحد بعده
وهذا مما يكون على طريقة الكرامة فأما الاختصاص بلفظ الهبة
مع سهولة ذكر لفظ النكاح فلا كرامة فيه وكذلك المنافع جعلت
أموالا كالأعيان في التجارات ولم يجعل كذلك عندنا في
الاتلاف والغصب فصار كون مال المنافع معادلة مالية الأعيان
مخصوصة بالتجارات وعندنا لأن الأصل فيها أن ماليتها دون
مالية الأعيان بدرجات لأن المنافع أغراض لا تنفى زمانين
والأعيات جواهر تتبقى أزمنة وتفاوت ما بين الجوهر والعرض
بحيث لا يخفى وكذلك ما يبقى وما لا يبقى إلا أن الشرع سوى
فيهما في التجارات لحاجة الناس إلى المنافع حسب حاجتهم إلى
الأعيان لإقامة المصالح ويتعذر وصول المحتاج إلى المنافع
إلا بمال هو عين وهذه الضرورة غير ثابتة في الإتلاف لأنه
منتهى عنها والسبيل في ذلك أن لا يوجد فلم تلتحق المنافع
في حق الإتلاف بالأعيان قال: وكذلك جواز بيع المنفعة قبل
الوجود والملك ثابت لضرورة أنها لا تبقى موجودة فلا يمكن
بناء البيع على الوجود وهذه الضرورة معدومة في الأعيان
فصار حكمها مخصوصا بموضع الضرورة فهذه أمثلة الشرط الأول
قال: وأما أمثلة الشرط الثانى هو مما كان معدولا به عن
القياس فهو كأكل الناسى في الصوم فإنه معدول به عن القياس
وذلك لأن فيه بقاء القربة مع وجود ما يضاد فإن ركنه الكف
والأكل سواء كان ناسيا
ج / 2 ص -114-
أو
عامدا يضاد ركنه فصار الحكم بأنه يؤدى صومه مع عدم الركن
وهو الكف معدولا به عن القياس فلم يجز قياس المكره والمخطئ
عليه ولا قياس الصلاة والحج على الصوم وأما بقاء الصوم مع
الجماع ناسيا ولا نص فيه أنما كان لأن الجماع من جنس الأكل
من حيث تفويت الأداء والصوم تأدية بالكف عن قضاء شهوتى
بطنه وفرجه وذهاب الصوم عن استيفائهما بطريق الأداء الذى
هو ركن العبادة وكانا جنسا واحدا وإن اختلف الاسمان فالأكل
والشرب واحد في حق الإفطار.
فصل: واعلم أن هذا الذي ذكرنا اشتمل على مسائل
من الأصول معروفة:
منها أن
العلة التي لا تتعدى هل تكون صحيحة أم لا؟ وهل التعدية شرط
صحة العلة أو لا؟
ومنها: أن الأصل الثابت بخلاف قياس الأصول هل يجوز القياس
عليها أو لا؟.
ومنها: أن تعليل الأصل هل يوجب أن يكون الحكم ثابتا في
الأصل بالنص والعلة جميعا وهل يدل ثبوت الحكم في موضع لا
توجد فيه العلة على فساد العلة أو لا؟ وإذا عرفنا من هذه
المسائل يشير إلى طرف من الجواب عما قاله وقبل الشروع في
هذه المسألة نقول إنا وإن ذكرنا أن استعمال القياس في
الحدود والكفارات والمقادير جائز خلاف ما يقول الخصم ولكن
مع هذا لا ننكر أن يوجد في الشرع ما لا يتعلل ويلتحق بمحض
التعبد الذي ينحسم سلوك سبيل القياس فيه وعلى هذا فلا بد
من علامة وأمارة تعرف بها القسم الذي يجرى فيه التعليل من
القسم الذى لا يجرى فيه التعليل وهذا عويص عسر لكن مع هذا
نقول كل حكم يمكن أن يستنبط منه معنى مخيل من كتاب أو نص
سنة أو إجماع فإنه يعلل وما لا يصح فيه مثل هذا فإنه لا
يعلل سواء إن كان من الحدود أو الكفارات أو المقادير أو
الرخص ثم قد تنقسم العلل أقساما فقسم يعلل جملته وتفصيله
وهو كل ما يمكن أبدا معنى في أصله وفرعه وقسم يعلل بجملته
ولا يعلل تفاصيله لعدم المراد التعليل في التفاصيل.
ومنها قسم آخر: لا يعلل جملته لكن بعد ثبوت جملته يعلل
تفاصيله كالكتابة والإجارة وفروع تجمل الغافلة وقد يوجد
قسم لا يجرى التعليل في جملته ولا تفاصيله مثل الصلاة وما
تشتمل عليه من القيام والتعوذ والركوع والسجود وغير ذلك
وربما
ج / 2 ص -115-
يدخل
في هذا القسم الزكاة ومقادير الأنصبة والأوقاص وقد قيل
أيضا: إنه لا محال القياس في الأحداث وتفاصيلها والوضوء
وتفاصيله بل يتبع محض النص وقد قيل: إن الوضوء معقول
المعنى فإنه مشعر بالتنظيف والتنقية وقيل إن الصلاة يعقل
منها الخشوع والاستكانة والابتهال للمعبود وأما الشهادة
فقد قالوا: أصلها معقول المعنى وهو الثقة وحصول غلبة الظن
والمقصود من مزيد العدد زيادة الثقة ومما يعقل في الشهادة
أيضا أن شهادة النساء لا تقبل لما غلب عليه من الذهول
والغفلة ونقصان العقل فأصول هذه المعانى معلومة ولكن لا
سبيل إلى طرد التعليل في التفصيلات وأما أصل عقود
المعاملات معقولة المعنى إلا أن الشرع أثبت فيها أنواعا من
التعبدات يلزم اتباعها ولا يجوز تجاوزها وتعديها ولهذا
تقول من اشترى شاة من قطيع من الغنم على أنه بالخيار يأخذ
أيها شاء والبائع بالخيار يعطى أيها شاء لا يجوز1 وإن كنا
لا نعقل فيه معنى فاسد وبهذا يتبين أن المعنى الذى اعتمده
أصحاب أبى حنيفة في أن الجهالة إنما تفسد العقل لأنها
مؤدية إلى المنازعة باطل فإن هذه الجهالة لا تؤدى إلى هذا
ومع هذا لم يجز العقد وكذلك إذا قال: بعتك عبدى بما باع به
فلان أمس وكانا جاهلين بمبلغ الثمن فإنه يكون باطلا كذلك
إذا قال: بعتك هذا الثوب بزنة هذه السنجة أشار إلى سنجة
مجهولة القدر بطل البيع ولا منازعة في مثل هذا العقد
وللشارع تعبدات يلزم اتباعها في المعاملات كما يلزم في
العبادات فلا تسقط تلك التعبدات بإسقاط العباد ذلك فإن
كانت المعاملات أصلها جاريا في حقوق العباد لأن المعاملات
وإن كانت من حقوق العباد لكن يلزمهم اتباع الأوامر فيها
لأن الله تعالى أعلم بمصالحهم لأن أوامره كلها من حدود
الدين ولا يجوز الإخلال بها بوجه ما وأن وجدت الأوامر
والتكليفات صارت حدود الدين وكانت متبعة لا يجوز تركها ومن
جنس ما ذكرنا التذكية فإن الذبح معقول المعنى لما فيه من
تطيب اللحم وإزالة الخبيث من الطيب ورفع الخبث من المحل ثم
اختص بذابح مخصوص ومحل مخصوص تعبدا وكذا التضحية اختصت
بأجناس مخصوصة ووقت مخصوص والتفريعات على ما قلناه في
المسائل تكثر وقد ذكر الأصحاب أمثلتها في الخلافيات وربما
يأتى بعض ذلك من بعد وأما المسائل التي وعدنا ذكرها فنبتدى
بمسألة العلة إذا كانت غير متعدية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الشرح الكبير "4/29".
ج / 2 ص -116-
مسألة: يجوز تعليل الأصل بعلة لا تتعداه عندنا وتكون علة
صحيحة1.
وقال أصحاب أبى حنيفة: هى باطلة وقد ذهب إليه بعض أصحابنا
وبين المتكلمين في ذلك خلاف مذهب أبو عبد الله البصرى إلى
ابطالها وأما عبد الجبار بن أحمد وحزبه يصححونها واستدل من
قال ببطلانها ذلك لأن هذا تعليل غير مفيد فيكون باطلا
وإنما قلنا غير مفيد لأن فائدة التعليل ليس إلا التعدية
فإن حكم الأصل ثابت بالنص فصار تعليل الأصل بحكم الأصل
مستغنى عنه بالنص فلا فائدة للتعليل في الأصل ولا فرع له
حتى تظهر فائدته فيه فثبت أن هذا تعليل غير مفيد وما لا
فائدة فيه يكون عبثا والعبث حرام يدل عليه أن ما لا فائدة
فيه لا يجوز أن ينصب الله عليه أمارة فإذا كانت العلة
قاصرة علمنا أن الله تعالى لم ينصب عليها أمارة وما لا
أمارة عليه لا يجوز أن يكون علة هذا حجة أبى عبد الله
البصرى وقد قال أيضا: إن الصلة الشرعية أمارة ولا أمارة
كالدلالة في أنها كاشفة عن شئ ولا يتصور دلالة ولا إمارة
ولا يكشف عن شئ والتعليل عن الأحكام والعلة القاصرة لا
يكشف عن حكمه في أصل ولا فرع فلم يكن أمارة ولا علة واحتج
أبو زيد في هذه المسألة بأن التعليل إنما يصار إليه بكونه
حجة زائدة بعد النص وحجج الله تعالى إنما تكون حججا لإيجاب
العلم أو لإيجاب العمل والتعليل بالرأى لا يكون موجبا علما
وإنما صير إليه لفائدة العمل فإذا لم يتعد لم يفد علما
فيما لم يتناوله النص ولا فيما تناوله النص أما فيما لم
يتناوله النص فلأنه لا فرع له وأما فيما تناوله النص فلأن
النص فوق التعليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اتفق الأصوليون على أن الوصف القاصر إذا ثبت عليته بنص
أو إجماع فإنه يكون علة الحكم ويصح التعليل به. واختلفوا
فيما إذا ثبت عليه بطريق من طرق الاستنباط كالسبر والتقسيم
أو المناسبة أو الدوران فهل يصح التعليل به أو لايصح؟ على
مذهبين:
المذهبد الأول: يجوز تعليل الحكم بالعلة القاصرة ولا كن لا
يعدى الحكم بها إلى محل آخر لعدم تحققها فيه وهذا هو
المعروف عند جمهور العلماء ومنهم الشافعي وأحمد وهو
المختار للبيضاوي.
المذهب الثاني: لا يجوز التعليل بها مطلقا -وهذا المذهب قد
نسب إلى جمهور الحنفية انظر نهاية السول "4/277" سلم
الوصول "4/277" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير
"4/158".
ج / 2 ص -117-
وإذا
ثبت بالنص لم يثبت بالتعليل.فإن قلتم:يثبت بالنص والعلة
جميعا لم يصح لأن التعليل لا يصح لتغير حكم النص فكيف يصح
لإبطاله؟ وهذا الذي قلتم يتضمن إبطال حكم النص لأن الحكم
كان ثابتا بالنص على الاستقلال فبطل ثبوته على هذا الوجه
حيث صار ثابتا به وبغيره. قالوا: وإذا لم يتضمن الإبطال
فلابد أنه يتضمن التغيير ولا يجوز تغيير حكم النص المعلول
بعلته وإذا لم يتغير بقى الأول بعيينه وهو ثبوت الحكم
بالنص وقصره عليه قال: وهذه الفائدة حاصلة متى لم يعلل
النص وعلق الحكم بعينه ولأن هذا التعليل لا يوجب الحصر لأن
تعليل النص بعلة خاصة لا يمنع التعليل بأخرى عامة كما يجوز
التعليل بعلتين إحديهما أكثر تعديا من الأخرى يدل عليه أن
عدم العلة لا يوجب عدم حكمها على ما سنبين فإذا لم يوجب
قصر الحكم على النص قالوا: ولا يجوز أن يقال: فائدته معرفة
الحكمة من المشروع لأن معرفة الحكمة لا تفيد عملا وقد بينا
أن التعليل للعمل ولأن الحكمة لا تكون بسبب الحكم وأما
حجتنا نقول إن الدليل الذى دل على صحة العلة لم يخص موضعا
دون موضع والأصل إنما يمكن تعليله صح تعليله ولأن الدليل
قام على العلة والتعدى نافى صحة العلة لأن صحة العلة
بدليلها وقد وجد الدليل من التأثير على ما عرف في مسألة
تعليل الربا في الدراهم والدنانير بالثمنية وهذا لأن
المسألة متصورة في علة تكون على هذا الوجه وقد عبر بعضهم
عن هذا وقال: العلة مستجمعة لشرائطها إخالة1 ومقايسة
وسلامة عن الاعتراضات في معارضات النصوص وهى على مساق
العلل الصحيحة وليس فيها إلا اقتصارها وانحصارها على محل
النص وحقيقة هذا تئول إلى أن النص يوافق مضمون العلة
ويطابقها وهذا بأن يؤكد العلة ويشهد على صحتها أولى من أن
يدل على فسادها وقد استدل عبد الجبار في هذه المسألة.
وقال: إن العة إذا دلت عليها الأمارة غلب على ظننا وجه
المصلحة وإن لم يتعد لأن وجوه المصلحة قد تخص نوعا واحدا
وقد يتعداه كما تقول في وجه القبح والحسن كلها. يدل عليه:
أن حقيقة كلام الخصم هو أن صحة العلة موقوفة على أن يجتاز
الإنسان إلى الخلاف في الفرع حتى يتعدى إليه فيعمل بهذا
أمر مستشنع مستقبح فأما دلائلهم فمجموع كلامهم يئول إلى أن
هذا التعليل لا يفيد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإخالة: هي المناسبة لأن المجتهد يخالو أي: يظن أن
الوصف علة.
واعلم أن الإخالة شرط لوجوب العمل دون الجواز حتى لو عمل
بها قبل ظهور التأثير نفذ ولم ينفسخ انظر حاشية التلويح
على التوضيح "2/69".
ج / 2 ص -118-
قلنا:
نقول: أولا إن المستنبط للعلة طالب لها وهو في حال
الاستنباط لا يدرى ما علة الحكم وهل هى متعدية أو لا؟ حتى
يقال له: لا تتكلف هذا البحث والطلب وإنما تعلم أن العلة
التي بحث عنها إلا بتعدى بعد استيفاء الطلب ونقول أجمعنا
على أن النص لو ورد بمثل هذه العلة تكون صحيحة ولو جاز أن
يكون الطلب لها عبثا لأنها ليست بطريق إلى الحكم لا في أصل
ولا في فرع لكان النص عليها عبثا وقوله إن النص يغنى عن
القياس قلنا: وقوع الغنى عن الشئ لا يفسده ألا ترى أنا قد
نستغنى بالقرآن في بعض الأحكام عن أخبار الآحاد وعن القياس
ولا يوجب ذلك فسادهما فإن قيل: خبر الواحد يمكن أن يكون
طريقا إلى الحكم الذى دل عليه القرآن ولا يمكن أن تكون
العلة القاصرة طريقا إلى الحكم أصلا قلنا: أنما تكلمنا
بهذا على قولكم إن النص مغنى عن التعليل فيفسد وهذا الكلام
الذي ذكرتم الآن هو الرجوع إلى ما قلتم أنه غير مفيد وقد
أجبنا عن هذا ويجب بجواب آخر وهو أن العلم بعلة الحكم
فائدة لأنا إذا علمنا ذلك لو ظننا صرنا عالمين أو ظانين
بما لم نكن عالمين به مما تتشوف النفس إلى معرفته ولا
يمتنع أن يكون لنا في ظن ذلك مصلحة وفائدة أخرى وهى أن
يمتنع من قياس فرع على هذا الأصل وقولهم إن هذا يوجد بمجرد
النص قلنا: لا وذلك لأن مجرد النص لا يمتنع من القياس عليه
لأنه يجوز أن يعلل بوصف آخر متعدى فيقاس به فرع من الفروع
عليه فإذا علمنا أن ما لا يتعدى هو العلة لأن الدليل دل
عليه رفضنا ما عدا ذلك الوصف فلم نقس على ذلك الأصل شيئا
وأما قولهم إن عدم العلة لا يوجب عدم حكمها. قلنا: هذا لا
يرد على ما قلنا: لأن صورة الخلاف في تعليل الدراهم
والدنانير بالثمنية1 ولم يكن له فرع فلابد أن ينحصر الحكم
في محل النص ولا يجرى في غيره فيفيد التعليل على ما سبق
وأما قولهم إن العلة لابد أن تكون كاشفة عن شئ قلنا: نبطله
بالعلة المنصوصة إذا كانت قاصرة تكون علة صحيحة ولا تكشف
عن شئ وعلى أن قولهم إن شرط صحة العلة أن تكون كاشفة عن
شيء. قلنا: إن عنيتم أنها تكشف عن الحكم فهو نفس الخلاف
وأن قلتم تكشف عن معنى الحكم وعلته فقد كشفت ويجوز أن
يتعلق به مصلحة وأما قولهم إن العلة دليل عامل فلابد له من
عمل. قلنا: هذا هو الكلام الأول وهو أنا هذا تعليل غير
مفيد وعلى أنا قد بينا فائدة هذا التعليل وإذا ثبت فائدة
عمله ويجوز أن يقال: إن الحكم ثبت بالنص والعلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "بالنميمة" والصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -119-
جميعا
وقولهم: إن هذا تغيير حكم النص قلنا: ليس فيه تغيير أصلا
لأن الحكم على ما سبق من غير تغيير وتبديل وقولهم إنه لا
يضاف إلى النص قلنا: يضاف فيقال النص مقيد لهذا الحكم
والعلة مقيدة له ويجوز أن يتوالى دليلان على حكم واحد ولا
تغيير لأن النص يدل على ما يتعلق الحكم بالنص ولا يدل على
عدم تعلقه بدليل آخر وهذا كالحكم يثبت بالكتاب وبخبر
الواحد فإنه يجوز ولا يقال: إن ثبوته بخبر الواحد يغير حكم
الكتاب بل لا يعرف تغيير بهذا.
مسألة: يجوز القياس على أصل مخالف في نفسه الأصول بعد أن
يكون ذلك الأصل ورد به الشرع ودل عليه الدليل.
والمحكى عن أصحاب أبى حنيفه أنهم لم يجوزا هذا القياس
وقد [ذكره] الكرخى ومنع من جوازه إلا بإحدى خلال ثلاث1:
إحداهما: أن يكون ما ورد به بخلاف الأصول
قد نص على علته نحو ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم
أنه علل طهارة سؤر الهرة أنها من الطوافين عليكم
والطوافات2. وقال: لأن النص على العلة كالتصريح بوجوب
القياس عنه.
والثاني: أن تكون الأمة مجمعة على تعليل
ما ورد به الخبر وإن اختلفوا في عليته.
والثالث: أن يكون الحكم الذى ورد به الخبر
موافقا للقياس على بعض الأصول وإن كان مخالفا للقياس3 على
بعض الأصول كالخبر الواحد بالتحالف في المتبايعين إذا
تبايعا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: خصال.
2 تقدم تخريجه.
3 في مسألة هل يجوز القياس على مايكون حكمه مخالفا للأصول
والقواعد الواردة من جهة الشرع كالعرايا أم لا؟ فيه خلاف.
ذهب جماعة من الشافعية والحنفية إلى جواز القياس عليه
مطلقا إذا كان حكم الأصل مخالفا لبعض الأصول والقواعد
كالعرايا ويجوز القياس عليه متى كان معقول المعنى سواء
وافق أصلا آخر أو لم يوافقه.
ومنهم من قال: متى كان حكم الأصل مخالفا لبعض الأصول
والقواعد امتنع القياس عليه مطلقا كان معقول المعنى أو
تعبديا نص على علته أو لم ينص عليها وافق أصلا آخر أو لم
يوافقه ومن هؤلاء الآمدي وابن الحاجب أما الكرخي فقد اشترط
الشروط التي ذكرها المصنف المحصول "2/429" انظر نهاية
السول "4/320" سلم الوصول "4/321" إحكام الأحكام "4/142"
المستصفى "2/347" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير
"4/169".
ج / 2 ص -120-
فإنه
يخالف قياس الأصول ويقاس عليه الإجارات لأنه يوافق بعض
الأصول وهو أن ما يملك على الغير فالقول قوله فيه في أنه
أى شئ ملك عليه وقالوا: إذا كان في الشرع أصل يبيح القياس
وأصل يحظره وكان الأصل جواز القياس وجب القياس وقالوا أيضا
يجوز القياس على الأصل المخصوص إذا كان أحد لم يفصل بينه
وبين المخصوص فيكون حكمه على ما خص من جملة القياس مثل
جماع الناسى وأكل الناسى وقال محمد بن شجاع البلخى من
أصحابهم: إذا كان الخبر الواحد بخلاف قياس الأصول غير
مقطوع به لم يجز القياس عليه فاقتضى قوله هذا أنه إذا كان
الخبر مقطوعا به جاز القياس عليه وقد قال أصحاب أبى حنيفة:
إن مثال الذي يمنع من القياس عليه انتقاض الوضوء بالقهقهة
في الصلاة1 وجواز التوضؤ بنبيذ التمر2 وجواز الثبات على
الصلاة فيما إذا سبقه الحدث3 وذكروا أمثلة سوى هذا وذهبوا
في تصحيح ما صاروا إليه إلى إثبات الشئ لا يصح مع وجود ما
ينافيه.
ببينة: أنه إذا جاز القياس على هذا الأصل
لم يكن فرق بين هذا الأصل وبين سائر الأصول فكان يخرج
حينئذ من كونه مخصوصا من جملة القياس قالوا وليس كما إذا
ورد النص معللا لأنه إذا كان معللا يصير كل ما وجدت فيه
تلك العلة كالمنصوص عليه وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد
أمرنا أن نقيس عليه كل ما شاركه في العلة فصار نصه عليه من
قياس الأصول وكذلك إذا كان شيئا لا يفصل أحد بينه وبين
المخصوص فإن الحكم في أحدهما يكون حكما في الآخر واحتج أبو
بكر الرازى لهم وقال: إن القياس لما وجب القول به وجب أن
يكون حكما ثابتا في جميع الأحوال حتى يخصه دليل يسقط حينئذ
حكم القياس في الموضوع المخصوص ويبقى حكمه فيما عدا
المخصوص على ما كان عليه وهذا معنى قول فقهائهم: إن القياس
على الأصل المخصوص من القياس لا ينفك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الهداية للميرغياني "1/16".
2 قال أبو حنيفة رحمه الله: يتوضأ بنبيذ التمر ولا يتيمم
بالصعيد وقال في كتاب الصلاة: يتوضأ بنبيذ التمر وإن تيمم
معه فهو أحب إلي. وقال أبو يوسف رحمه الله: يتيمم ولا
يتوضأ بالنبيذ بحال وقال محمد رحمه الله: يجمع بينهما
احتياطا - وروى أسد بن نجم ونوح بن أبي مريم والحسن عن أبي
حنيفة أنه رجع إلى قول أبي يوسف انظر الفتاوى الهندية
"1/21, 22".
3 مذهب الحنفية أنه إذا أصابه الحدث في ركوعه أو سجوده
نوضأ وبنى ولا يعتد بالتي أحدث فيها انظر الهداية "1/65".
ج / 2 ص -121-
عن أصل
يعارضه يكون ساقطا لأن من شرطه انفكاكه عن المعارض لأن
معارضة الدليل بالدليل توجب توقفه عن العمل قال أبو زيد في
هذه المسألة حكم النص إذا ثبت على وجه يرده القياس الشرعى
لكنه ترك بمعارضة النص إياه ومجيئه بخلافه لم يجز إثبات
ذلك الحكم في فرع بالقياس عليه لأن القياس جاء نافيا لهذا
الحكم فلم يجز إثباته كالنص إذا جاء نافيا لحكم لم يجز
إثباته به وأما دليلنا هو أن ما ورد به الخبر أصل يجب
العمل به فجاز أن يستنبط منه معنى ويقاس عليه دليله إذا لم
يكن مخالفا للأصول والمعتمد أن ما ورد به الخبر صار أصلا
بنفسه فالقياس عليه يكون كالقياس على سائر الأصول فقد
تعارض قياسان قياس على هذا الأصل وقياس على سائر الأصول
فكما يجوز أحدهما يجوز الآخر ثم على المجتهد أن يرجح أحد
القياسين على صاحبة ويجوز أن يرجح القياس على سائر الأصول
على القياس على هذا الأصل إذا كان هذا الأصل ثبت لا بدليل
مقطوع به لأن القياس على ما طريقه يفيد العلم أولى من
القياس على ما يفيد الظن فأما إذا كان هذا الأصل فقد صح
القياس عليه ولا ترجيح بما قلنا: لأن الكل ثبت بدليل يفيد
العلم فنطلب الترجيح بدليل آخر وهذا لأن أصول الشرع كلها
سمعية فعلى هذا لا فرق بين هذا الأصل وبين سائر الأصول
ويكون القياس على الكل واحد وقد قال الشافعى رحمة الله
عليه: في بعض كتبه ملزما إياهم على هذا الأصل الذى ذكروه
وهو أن المعدول من القياس لا يقاس عليه غيره قال: قد زعمتم
أن القهقهة في الصلاة تنقض الوضوء واعتقدتم أن هذا معدول
به عن القياس ثم زعمتم أنها تبطل صلاته ذات ركوع وسجود ولا
تبطل صلاة الجنازة ولا ينقدح لكم فرق معنوى ولكنكم اعتمدتم
قصة جرت في صلاة من الصلوات الخمس ورأيتم أن تقتصروا على
مورد النص. ثم قلتم: إن القهقهه تبطل صلاة النفل وإن لم
تجز القصة في النفل فليت شعرى ما الذى عن لكم من التخصيص
من وجه والإلحاق من وجه وقال أيضا في مساق هذا الكلام
اعتقدتم في التوضؤ بنبيذ التمر مع اشتمال كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم لو صح الحديث على التنبيه على ذلك فإن
صلى الله عليه وسلم قال:
"ثمرة طيبة وماء طهور"1. وهذا في الزبيب يوجد فيقال: زبيب طيب وماء طهور وقد قال: بعضهم
محتجا لنا في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود: الطهارة "1/21" ح "84" والترمذي:
الطهارة "1/147" ح "88" وابن ماجة: الطهارة "1/135" ح
"384" وقال: مدار الحديث على "أبي زيد" وهو مجهول عند أهل
الحديث: المسند "1/582" ح "4295".
ج / 2 ص -122-
هذه
المسألة: إنه إذا كان عموم الكتاب لا يمنع من قياس في
تخصيص فبأن يكون القياس على العموم لا يمنع من القياس على
أصل مخالف للعموم أولى لأن العموم أقوى من القياس عليه
فإذا كان العموم نفسه لا يمنع من قياس على أصل فإن أدى إلى
تخصيصه فوجود القياس على ما يثبت بالعموم أو بأصل من
الأصول كيف يمنع من القياس على أصل آخر فإنه أدى إلى تخصيص
الأصول أما الجواب عن دلائلهم قوله إنه إثبات الشئ مع وجود
ما ينافيه قلنا: ولم؟ قالوا: لأن القياس على الأصول يمانع
القياس على ما ورد بخلاف الأصول. قلنا: هلا كان القياس على
ما ورد بخلاف قياس الأصول يمانع القياس على الأصول. قالوا:
إذا كان القياس على ما يخالف الأصول يمنع أن يدل أمارة على
علة الحكم. قلنا: هذا دعوى لا دليل عليها وإذا جاز أن يدل
على علة هذا القياس النص جاز أن يدل عليه دلالة غير النص
فإن قيل: ما ورد بخلاف قياس الأصول وإن كان ورد بطريق يفيد
العلم وصار أصلا لكن لا يجوز أن يكون في القوة بمثل القياس
على سائر الأصول قلنا: وهذا دعوى أيضا وما أنكرتم أن يكون
الخبر الوارد بخلاف قياس الأصول قد غير الحكم عما كان عليه
من قبل لأنه لما كان ثبت بطريق معلوم صار أصلا في نفسه فلا
يمتنع أن يقع التنبيه على علة ويكون التنبيه على علة أقوى
من التنبيه على علة مطلوبة من سائر الأصول ثم يقال: لهم
أليس قد جاز أن يدل عليها النص وهو أقوى وأظهر من علة
الأصول فلم لا يجوز أن يدل عليهما دليل آخر ويكون أقوى من
دليل علة الأصول وأما قولهم إن القياس إذا كان دليل الله
وجب أن يثبت حكمه في جميع الأحوال حتى يخصه دليل قلنا: إذا
كان القياس دليل الله عز وجل فالقياس الذى وجد على الأصل
المخصوص قياس أيضا وجب أن يكون دليل الله تعالى فإن رجعوا
وقالوا إن القياس على سائر الأصول يمنع من هذا القياس فقد
أجبنا عن هذا وقلنا إنه ليس هذا القول باولى من قول من
يقول إن القياس على هذا الأصل يمنع من القياس على سائر
الأصول وقولهم إن القياس على المخصوص لا ينفك عن أصل
يعارضه قلنا: هذا قول المتفقهة الذين لا تمييز لهم فليس
لهم من الدرك ما يعرفون به الصحيح من السقيم ويميزون به
الخبيث من الطيب وإلا فوجود المعارض لا يمنع صحة القياس
لكن يقال: للمستدل سيره إلى الترجيح وإلى تقديم أحد
العلتين على الأخرى بنوع دليل وأما الذى قاله أبو زيد فليس
بشئ لأن القياس على سائر الأصول ليس يمنع من القياس على
هذا الأصل لكن يعارضه ثم لابد
ج / 2 ص -123-
من طلب
الترجيح على ما سبق وليس إثبات هذا الفرع بالقياس إثبات شئ
بالقياس يمنعه القياس بل الدليل الذى دل على كون القياس
صحيحا مطلق لهذا القياس مصحح إياه ذلك الدليل لم يخص أصلا
دون أصل ولا مانع فجاز القياس من غير تخصيص وما ينحسم به
القول في هذه المسألة أن التعليل قد يمنع بنص الشارع على
وجوب الاقتصار وإن كان لولا النص لأمكن التعليل وهو كقوله
تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50]
وقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أحلت لي ساعة من نهار ثم
عادت حرمتها كيوم خلق الله السموات والارض"1.
وقال لأبى بردة بن يسار وقد جاء بجذع من شعر "يجزيك ولا
يجزئ عن احد بعدك" فمهما منعنا نص عن القياس امتنعنا وكذلك
لو فرض إجماع على هذا النحو وهو كالاتفاق على أن المريض لا
يقصر وإن ساوى المسافر في الفطر فإذا لم يكن منع من هذه
الجهات فالمتبع في جواز القياس أمكنا به على الشرائط التي
ذكرنا من قبل والمتبع في منعه امتناعه وعدم تأبيه وقد قال
الشافعى رضي الله عنه في بعض كتبه: ولا يقاس على المخصوص
ويجوز أن يؤول فيقال أنه أراد هذا في الموضع الذى لا يمكن
القياس عليه والأصل فيما يجوز القياس عليه وما لا يجوز أن
ينظر إلى المخصوص ويمتحن فإن كان يتعدى معناه قيس عليه
غيره كقياس الخنزير على الكلب في حكم الولوغ وقياس خف
الحديد والخشب على خف الأدم على المسح عليه وإن لم يوجد في
المخصوص وجه يمكن القياس عليه كالجنين لا يقاس عليه الشخص
الملفوف في الثوب لأنه لا يعرف معنى في الجنين فقياس به
الملفوف عليه والله أعلم.
فصل
واعلم أن الفصل الآخر الذى أشار إليه مما مرجوعه إلى مسألة
إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات وهو قوله: إن الأصل
إذا علل ثبت الحكم في الفرع بالعلة وفي الأصل بالنص وقوله
إن الأصل لا يتغير عما كان عليه والتعليل لا يتعرض له أصلا
فهذا فصل لم أر أحدا من أصحابنا أورده ويجوز أن نسلم له
ذلك ويجوز أن نخالف فيقال: إن التعديه بالعلة لا يتصور إلا
بعد ثبوت العلة في الأصل المنصوص عليه وتحققها فيه ألا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: العلم "1/238" ح "104" ومسلم: الحج
"2/987" ح "446/1354" بنحوه.
ج / 2 ص -124-
ترى أن
الأشياء الستة لما عللت لم يكن بد من ثبوت الطعم عندنا
والكيل عندكم في الأصل. ثم تعدية كل واحد على اختلاف
المذهبين في الفروع وأقل ما في العلل أنها أمارات على
الأحكام فإذا علل الأصل فلابد أن يصير أمارة عليه ثم يتعدى
فيصير أمارة على الأحكام في الفروع وإذا ثبت أن الوجود
لابد منه في الأصل فنقول بعد هذا يجوز أن يقال: على ما
زعموا ويجوز أن يقال: إن الحكم في الأصل يثبت بالنص للمعنى
الذى تناوله التعليل وتصير العلة كالمنصوص عليها وقد ورد
النص في مواضع دالا على الحكم مع ذكر المعنى فأما في الفرع
يكون ثبوته بمحض المعنى وهذا جائز وروده مستقيم وجهه.
وأما في مسألة إزالة النجاسة فعندنا إنما يعلل التعليل في
تلك المسألة لأنا بينا أنه لابد من وجود العلة في الأصل:
ثم التعدية وإذا عللنا للطهارة بالأدلة فلا شك أن طهارة
الحدث تناولها النص ولم يوجد فيها الإزالة لأنه لا شئ يزال
فبطل التعليل بالإزالة وإذا بطل لم يقبل التعدية وقد ذكر
بعض أصحابنا فصلا في هذه المسألة أعنى مسألة النجاسة
وأودعه أصول الفقه الذى صنفه. فقال: الذي ذهب إليه جماهير
العلماء مع التزام القياس والقول به أن طهارة الحدث ليست
بمعقولة المعنى. وذهب أبو حنيفه ومتبعوه إلى أن إزالة
النجاسة معقولة المعنى1. وبنوا على هذا الفرق بين طهارة
الحدث إذا تعين الماء لها وبين إزالة النجاسة فإن الغرض
منها رفع عينها واستئصال أثرها فإذا رفع ذلك بأى مائع كان
وقع موقعه قال واضطرب متبعوا الشافعى في ذلك فمذهب
المتأخرين إلى أن طهارة الحدث مقعولة المعنى والغرض منها
النظافة والتنقى عن الأدران والأوساخ وأوضحوا ذلك بتخييل
يبتدره من يكتفى بظواهر الأمور فقالوا الأعضاء الظاهرة وهى
الوجه واليدان إلى المرفقين والقدمان وبعض الساق في المهن
والتصرفات تبدو وتظهر ويصادفها الغبرات وغيرها فورود الشرع
بغسل هذه الأعضاء في مظان مخصوصة ومواقيت معلومة ومحاسن
الشريعة تؤل في نهاياتها إلى أمثال ذلك والرأس مستورا
بالعمامة غالبا وقد تبدو الناصية والمقاديم من المستروح
إلى تحتية عمامته إلى هامته فلما كان ذلك أبعد اكتفى
بالمسح فيه وعضد هؤلاء ما ذكروه بقوله تعالى: في سياق آية
الوضوء
{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] ولا مسلك في نصب المظنونات إلى إثبات العلل أوقع
وانجع من إيماء الشارع إلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان لإمام الحرمين "21/911".
ج / 2 ص -125-
التعليل وقوله تعالى:
{لِيُطَهِّرَكُمْ} ظاهر في التعليل1 بما ذكرناه وأورد هؤلاء في هذا المعنى على أنفسهم
التيمم وأجابوا عنه وقالوا: إن التيمم أقيم بدلا غير مقصود
في نفسه ومن أمعن النظر ووفاه حقه تبين له أن الغرض في
إقامة التيمم مقام الوضوء إدامة الدربة في إقامة [وظيفة]2
الطهارة فإن الأسفار كثيرة الوقوع في أطوار الناس وإعوازا
لها فيه ليس بالنادر فلو أقام الرجل الصلاة من غير طهارة
ولا بدل عنها مرنت نفسه على إقامة الصلوات من غير طهارات
والنفس ما عودتها تتعود فقد تفضى النفس إلى ركونها إلى
هواها وانصرافها عن سراسم التكليف ومغزاه.
ويسأل عن هذا فيقال: لو كان المعنى هذا وجب أن يقال: إذا
توضأ وأسبغ وضوءه ثم عمد إلى تراب فيعفر به أو تطلى بالطين
وجب أن بنتقض وضوءه فإنه إذا وجب الوضوء بتوقع الغبار فلأن
يجب بتحقيقه أولى.
وقد أجابوا عن هذا وقالوا: إن الأصول إذا تمهدت على
قواعدها واسترسلت على حكم العرف المطرد فيها فلا التفات
إلى ما يندر ويشذ ويقل في الناس من يتطلى وينتضح
بالقاذورات فلا يعتبر هذا النادر الفارد3.
فإن قال قائل: ما بال الوضوء يختص بوقوع الحدث وقد أجمع
العلماء في الشرع أن الأحداث موجبة للوضوء وليست ملطخة
لأعضاء الوضوء وقد أجابوا عن هذا فقالوا غاية هذا السؤال
خروج وقت الوضوء عن كونه معقول المعنى وهذا لا ينافى كون
أصله معقولا قال الإمام جمال الإسلام رحمه الله: وعندي أن
هذا التعليل وتكلف الأسئلة ثم تكلف الجواب عنها شئ عظيم
والأصح أنه لا يتمشى تعليل صحيح في إيجاب الوضوء بل الأصح
أنه تعبد محض وتكليف من الله عز وجل لعباده من غير أن
يتطرق إليه تعليل ولئن أمكن على التعبد وجه من المعنى فإذا
لم يمكن تمشيته وطرده على المعنى المذكور فالأولى الإعراض
عنه والنظر فيما سواه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره إمام الحرمين بنصه انظر البرهان "2/911, 912".
2 ثبت في الأصل: "وصيفة" والصواب ما أثبتناه.
3 الفارد: أي المتفرد انظر القلموس المحيط "1/319".
ج / 2 ص -126-
فصل
إذا عرفنا من يجوز له القياس وما يجوز فيه القياس فنقول لا
شك أن القياس نظر شرعى لإثبات حكم شرعى إذا عرف أن النظر
الشرعى أقساما فنقول:
القياس على ضروب وقد جعلها ابن سريج ثمانية أقسام ومن
أصحابنا من زاد على ذلك ومجموع ذلك وجهان على ظاهر جلى
وخفى غامض فالجلي الواضح ما يعلم من غير معاناة فكر1
والخفى الغامض ما لا يتبين إلا بإعمال الفكر والروية2.
والجلى الواضح على ضربين:
المتناهى في الجلاء حتى لا يجوز ورود الشرع في الفرع
بخلافه مثل قوله تعالى:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وكقوله تعالى:
{مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] وقوله تعالى:
{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ
بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل
عمران: 75] وكقوله تعالى:
{وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}
[الزلزلة: 8] ونحو هذا فإنه لا يجوز في المعقول أن يرد
الشرع بتحريم التأفيف للوالدين وإباحة شتمهما وضربهما في
تجويز تجويز ذلك إبطال النص من أصله وغير جائز أن لا
يملكون من قطمير ويملكون ما فوق ذلك ولا أن يوفوا ثواب
الذرة ويحرموا ما فوق ذلك
والضرب الثانى من القياس الجلى دون هذا في الوضوح والجلاء
وكان بحيث يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القياس الجلى هو ماقطع فيه بنفى تأثير الفارق بين الأصل
والفرع من قياس الأمة على العبد فإن الفارق بينهما هو
الذكورة والأنوثة ونحن نقطع بأن الشارع لم يفرق في إحكام
العتق بين الذكر والأنثى وعرفه الآمدي بأنه ماكانت العلة
فيه منصوصة أو غير منصوصة غير أن الفارق بين الأصل والفرع
مقطوع بنفى تأثيره انظر نهاية السول "4/27" إحكام الأحكام
"4/3" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/45".
2 القياس الخفى هو مالم يقطع فيه بنفى تأثير الفارق بين
الأصل والفرع مثل: قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد
بجامع القتل العمد العدوان ليثبت وجوب القصاص في المثقل
كما وجب في المحدد فإن الفارق بينهما وهو كون أحدهما مثقلا
والآخر محددا لم يقطع بإلغاء تأثيره من الشارع بل يجوز أن
يكون الفارق مؤثرا ولذلك قال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا
يجب القصاص في القتل بالمثقل وعرفه الآمدي بأنه ما كانت
العلة في مستنبة من حكم الأصل انظر إحكام الأحكام "4/3"
أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/45".
ج / 2 ص -127-
ورود
الشرع في الفرع بخلاف ما في الأصل ومثال ذلك قوله صلى الله
عليه وسلم:
"لا يقضى القاضي وهوغضبان"1 ومعلوم بأوائل النظر أن ما يتأوى الغضب من جوع مفرط وألم مزعج
ونوم مذهل بمنزلة الغضب في المنع من القضاء وأبعد من هذه
تعليل ما كان من نحو قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أعتق
شركا له في عبد فإن كان موسرا قوم عليه العبد"2
قيمة عدل يعلم أن الجارية بمنزلة العبد لتساويهما في الرق
وجاز مع ذلك أن يرد الشرع بالمخالفة بين الغضب والآلام في
القضاء بين العبد والجارية في التقويم ومن الناس من زعم أن
هذا ليس بقياس ولكنه من معقول الكلام ومجرى الخطاب وإلى
هذا ذهب الكرخى ومن يتبعه من أصحاب أبى حنيفة وذكر عبد
الجبار الهمذانى قالوا: وإنما قلنا ذلك لأن القياس لا
يدركه من ليس بقائس وهذا يستدركه من ليس بقائس ويشترك في
استدراكه الخاص والعام ولو كان قياسا لاختص به أهل النظر
والاجتهاد ولأنه لو كان ما ذكروه من هذا قياسا لاحتاج إلى
أصل وفرع وعلة ولما جاز أن يكون الفرع أقوى من أصله وقد
علم كل أحد أن المعقول من قوله:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
أن الضرب والشتم أشد في المنع والتحريم من التأفيف والاصح
أن ذلك ثابت من جهة القياس لأن غير المذكور لما علم
بالمذكور على طريق الاعتبار فقد حصل معنى القياس وهذا لأن
تحريم الشتم والضرب غير معقول من اللفظ لأنه لو عقل باللفظ
لكان اللفظ موضوعا للمنع من الضرب والشتم إما في اللغة أو
في العرف ومن البين أنه غير موضوع للمنع من الضرب والشتم
في اللغة وكذلك في العرف لأن الناس لا يتعارفون هذا الاسم
كذلك المعين فصار المنع من الضرب والشتم باعتبارهم
بالتأفيف المنصوص عليه وبيان هذا أن الإنسان إذا سمع قول
الله عز وجل:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}
[الإسراء: 23] علم أن هذا الكلام خرج مخرج الأمر بالإعظام
لهما مع ما تقرر في الشرع من وجوب تعظيمهما وإذا علم هذا
علم أن الله تعالى إنما نهى عن التأفيف لأنه ينافي التعظيم
ولأنه إنما يفعل هذا القصد إلا استخفافا3 فعلم أنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: الأحكام "13/146" ح "7158" مسلم: الأقضية
"3/1342" ح "16/1717" والنسائي: القضاء "8/216" "باب النهي
عن أن يقضي في قضاء بقضاءين" بنحوه.
2 أخرجه البخاري: العتق "5/179" ح" 2521".
3 ثبت في الأصل "استخفاف" والصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -128-
إنما
نهى عن التأفيف لكونه أذى ويعلم أن الحكيم لا ينهى عن الشئ
لعلة ويرخص ما فيه تلك العلة وزيادة بل يكون ذلك بالحظر
والتحريم أولى فثبت ما قلنا وهو أن هذا من باب علم غير
المذكور من المذكور بطريق الاعتبار فيكون بطريق القياس ولا
ينكر سهولة مأخذ وقرب مسلك لهذا لأن هذا لا يخرجه عن كونه
على طريق القياس لأن مراتب القياس قد تتفاوت في الجلاء
والخفاء كما تتفاوت مراتب النصوص فمن ذلك ما يدرك بأول ما
يفرع السمع ومن ذلك ما يحتاج إلى تأمل وتفكر وهذا الاختلاف
لا يخرج ذلك عن كونه نصا وإنما يتميز النص من غير النص بما
كان مذكورا في اسمه والقياس ما لا حظ له في الاسم وإنما
أدرك معناه وأما الذى قالوه إن هذا لو كان قياسا لكان
يحتاج إلى فرع وأصل وعلة وقد وجدها هنا لأن التأفيف أصل
والضرب والشتم فرع والأذى علة وأما قوله إن غير القياس
يعرف ذلك أو هذا مما يشترك في معرفته الخاص والعام قلنا:
قد حققنا معنى القياس على ما سبق وهذا لأن هذا القياس في
نهاية الجلاء والانكشاف فلأجل هذا اشترك في معرفته الخاص
والعام ونقول إنه لا يعلم تحريم الشتم والضرب بهذا الخطاب
إلا بالمقدمات التي قلناها إلا أن هذه المقدمات لا تحتاج
إلى غامض محض فإن كثيرا من ذلك يعمله المكلف قبل الخطاب
مثل قولنا: إن الحكيم لا يرخص فيما فيه علة المنع وزيادة
ومثل قولنا: إن التعظيم مناف للأذى والاستخفاف وبعض ما
قلناه إنما يعلم الإنسان مقترنا بالخطاب وذلك قولنا: إن
هذا الخطاب خرج مخرج التعظيم فإذا كملت هذه المعانى لكل
أحد جاز أن يسمى كل أحد قائسا لأن كونه قائسا يمنع هذه
الأشياء فإذا وجدت كان قائسا كان عالما كان غير عالم
وأما قولهم إن الفرع لا يجوز أن يريد بيانه على الأصل
قلنا: الأغلب هذا الذى قلتم وغير ممتنع أن يوجد في بعض
المواضع بخلاف هذا كما نقول الروم أعقل من الزنج والترك
أشد بأسا من الهند وقد يوجد الواحد من الزنج أعقل وقد يوجد
الواحد من الهند أشد بأسا وإنما يطرد الأمر على ما قالوه
إذا كانت الدلالة واضحة بالأكثر على الأقل فأما إذا وقعت
بالأقل على الأكثر فإن الفرع يصير في التقدير أقوى من
الأصل وهذا كما نقول في الكفارة في القتل العمد فإنه أقوى
في الوجوب من الكفارة في القتل الخطأ وإن كان الخطأ هو
الأصل لأن النص تناوله وكما أن من يخرج الحنطة في صدقه
الفطر وقوته الشعير فإنه يكون ذلك أقوى في وجه الجواز من
إخراج الشعير وإن كان الأصل هو الشعير لمن قوته الشعير فإن
قيل: لو علم ما قلتم بالقياس الجلى يجوز أن لا
ج / 2 ص -129-
يعلم
ذلك العاقل إذا منعه الله تعالى من القياس الشرعى قلنا لو
منعنا الشرع النظر في المعانى أصلا لم يعلم ذلك فإن قيل
قوله تعالى
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] فإن ما اقتضاه اللفظ من الذرتين فما فوقهما إنما هو
قضية الاسم لا قضية المعنى لأنه ذرة وذرة إلى أكثر من ذلك
قلنا: قد يكون ذرة ونصف ذرة فلا يمكن التعلق بالاسم وهذا
الذى قلناه غاية ما يمكن أن يقال: في هذه المسألة لكن
الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظى وليس فيها فائدة معنوية
وبعد أن وافقونا في المعنى الذى قلناه فلا نبالى أن يسمى
ذلك قياسا او لا يسمى وإنما بالغنا في إثبات الذى ادعيناه
مع أنه ليس للخلاف فيه فائدة معنوية نصرة للشافعي فإنه قد
نص في موضع أنه قياس مع وصفه بالجلاء والظهور
وقد قيل: إن القياس الجلى ثلاثة أقسام:
أولها: ما عرف من ظاهر النص بعد استدلال
ولا يجوز إيراد التعبد به بخلاف أصله وقد بينا مثال ذلك.
والقسم الثاني: ما عرف معناه بظاهر النص
من غير استدلال لكن يجوز إن يرد التعبد فيه بخلاف أصله مثل
النهى عن التضحية بالعوراء البين عورها والعرجاء البين
عرجها فكانت العمياء قياسا على العوراء والقطعاء قياسا على
العرجاء وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم العوراء أو العرجاء
وإباحة العمياء والقطعاء ومثل هذا أيضا نهى المحرم أن يلبس
ثوبا مسه الورس والزعفران فكان الكافور والمسك على
الزعفران والورس وإن جاز أن يرد التعبد بتحريم الورس
والزعفران وإباحة المسك والكافور.
والقسم الثالث: ما عرف معناه من ظاهر نص
باستدلال ظاهر فعرف بمبادئ النظر مثل قوله تعالى في زنا
الإماء:
{فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
[النساء: 25] فجعل حدهن نصف حد الحرائر ولم يكن المعنى إلا نقصهن
بالرق وكان العبد قياسا عليهن في تنصيف الحد إذا زنوا
لنقصهم بالرق ومثاله أيضا قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أعتق شركا له في عبد"1 كما
بينا ومثاله أيضا قوله تعالى:
{إِذَا
نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا
إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وكان معنى نهيه تعالى عن البيع أنه شاغل عن الجمعة
فصار عقود المناكح والإجارات وسائر المعاملات والصنائع
نهيا عنها قياسا على البيع لأنه شاغله عن حضور الجمعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: "5/156" ح "2491" ومسلم: العتق "2/1139"
ح "1/1501".
ج / 2 ص -130-
وأما القياس الخفى: فهو
ما خفى معناه فلم يعرف إلا بالاستدلال.
وهو على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما كان معناه لا يجاء باستدلال
متفق عليه مثل قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ
وَعَمَّاتُكُمْ}
وكانت عمات الآباء والأمهات محرما قياسا على الخالات
لاشتراكهن في الرحم والمحرم ومثل قوله تعالى: في نفقة
الولد في صغره
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. وكانت نفقة الولد في عجزه عند كبره قياسا على نفقة
الولد لعجز لصغره لاشتراكهما في البعضية والمعنى في هذا
لائح لتردده بين الجلى والخفى وهو في أقسام الخفى بمنزلة
القسم الأول من أقسام الجلي.
والقسم الثاني: ما كان معناه غامضا لتقابل
المعنيين أو لتقابل المعانى مثل تعليل الربا في البر
المنصوص عليه إما بالطعم أو بالكيل أو القوت ولابد من
ترجيح أحد هذه المعانى على الآخر من طريق المعنى الذى يكون
دالا على التحريم.
والقسم الثالث: ما كان سببها لحاح يضمنه
ومعناه إلى الاستدلال ومثاله ما روى أن النبى صلى الله
عليه وسلم قضى أن الخراج1 بالضمان فعلم بالاستدلال أن
الخراج هو المنفعة فإن الضمان هو ضمان المبيع بالثمن ثم
الكلام في تلك المنفعة أنها عبارة عن ماذا يعرف في مسائل
الفقه وهذه ثلاثة أقسام من أقسام القياس الخفى واعلم أنا
إنما ذكرنا قياس المعنى فأما قياس الشبه فله باب يذكر فيه
و لابد من زيادة شرح ليحصل معرفة الصحيح من ذلك والفاسد
وسيأتى بمشيئة الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابو داود: البيوع "3/282" ح "3508" والترمذي:
البيوع "3/572" ح "1285" وقال: حسن صحيح والنسائي: البيوع
"7/223" "باب الخراج بالضمان" وابن ماجه: التجارات "2/754"
ح "2243" وأحمد: المسند "6/56" ح "24279".
فصل في أقسام طريق العلل الشرعية
اعلم أن
للعلل الشرعية طرقا كثيرة في الشرع وقد يكون ذلك من جهه
اللفظ وقد يكون من جهه الاستنباط فأما الطريق من جهه اللفظ
وقد يكون من جهه الصريح وقد يكون من جهة التنبييه فإما
الصريح مثل قول القائل: أوجبت عليك كذا لعلة كذا ومثل قوله
أوجبت عليك كذا لأنه كذا أو لأجل كذا أو لكى يكون كذا وها
دون الأول في
ج / 2 ص -131-
التصريح وروى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنما نهيتك لأجل الرأفة"1وقال
تعالى:
{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وأما الألفاظ المنبهة على العلة فضروب: منها: فوله صلى
الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصت به ناقته
"لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القايمه ملبيا"2 وهذا من
باب تعليق الحكم على علته بلفظ الفاء وقد تدخل الفاء على
العلة والحكم متقدم وقد تدخل الفاء على الحكم والعلة
متقدمة مثل قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] "ومثله قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] "وقال الله تعالى:
{فَإِنْ كَانَ الذي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ
بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] فهذا دليل على أن العلة في قيام وليه بالإملاء هو
أنه لا يتطيع أ يمل هو ومن هذا الضرب ما روى أن النبى صلى
الله عليه وسلم سهى وسجد3 وزنا ماعز فرجمه رسول الله صلى
الله عليه وسلم4 ومن ضروب التنبيه أن يسأل النبى صلى الله
عليه وسلم عن حكم شئ ويذكر السائل صفة ذلك الشئ: مما يجوز
كونها علة مؤثرة في ذلك الحكم فيجيب النبى صلى الله عليه
وسلم عند سماع تلك الصفة يدل أن العلة تلك الصفة ومثال هذا
قول القائل للنبى صلى الله عليه وسلم واقعت أهلى في نهار
رمضان وقول النبى صلى الله عليه وسلم في الجواب:
"أعتق رقبة"5
وقد يكون هذا في لفط الإفطار أن يثبت عن النبى صلى الله
عليه وسلم.
ومن ضروب التنبيه: أن لا يكون لذكر الوصف
فائدة لو لم يكن ععلة فمن ذلك أن يكون الوصف مذكورا بلفظ
أن كما روى أن النبى صلى الله عليه وسلم امتنع من الدخول
على قوم عندهم كلب.
فقيل له: إنك تدخل على آل فلان وعندهم هرة. فقال:
"إنها ليست نجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات"6. فلو لك يكن لكونها من الطرفين تأثير في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم: الأضاحي "3/1561" ح "1971" وأبو داود:
الضحايا "3/99" ح "2812" والنسائي: الضحايا "7/207" "باب
الادخار من الأضاحي".
2 أخرجه البخاري: الصيد "4/77" ح "1851" ومسلم: الحج
"2/866" ح "99/1206".
3 أخرجه البخاري: السهو "3/116" ح "1227" ومسلم: المساجد
"1/403" ح "97/573".
4 أخرجه البخاري: الحدود "12/138" ح "6824" ومسلم: الحدود
"3/1319" ح "17/1692".
5 أخرجه البخاري: النكاح "9/423" ح "5368" ومسلم: الصيام
"2/781" ح "81/1111".
6 أخرجه الدارقطني: سننه "1/63" ح "5" والبيهقي في الكبرى
"1/377" ح "1176" بنحوه.
ج / 2 ص -132-
طهارتها لم يكن لذكره عقيب حكمه بطهارته فائدة.
ومن ذلك: أن يوصف المحكم فيه بصفة قد كان يمكن الإخلال
بتركها فعلم أنها ما ذكرت إلا لأنها علة وذلك مثل قوله صلى
الله عليه وسلم:
"تمرة طيبة وماء طهور"1 ومن ضروب التنبيه قوله صلى الله عليه وسلم حسن سئل عن بيع الرطب
بالتمر قال:
"أينقص الرطب
إذا جف؟" قيل: نعم قال: "فلا إذا"2
فلو لم يكن نقصانه عند اليبس علة للمنع من البيع لم يكن
لذكره معنى.
ومن التنبية أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضى الله
عنه وقد سأله عن قبلة الصائم:
"أرأيت لو
تمضمضت بماء ثم مججته"3. فعلم أنه
إنما لم يفسد الصوم بالقبلة والمضمضة لآنه لم يحل ما
يتبعها من الإنزال والإزدراء.
ومن ضروب التنبيه قوله صلى الله عليه وسلم:
"لايرث القاتل"4
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لايقضى
القاضي"5 الخبر
ووجه التنبيه: أنه لما تقدم بيان إرث الورثة فلما قال:
"لا يرث القاتل" مفرقا بينه
وبين جميع الورثة على أن القتل علة في منع الإرث وكذلك في
اللفظ الثانى لما تقدم أمر القاضي بأن يقضى فإذا منع من أن
يقضى وهو غضبان علم أن الغضب علة في المنع منه.
ومن ضروب التنبيه قوله صلى الله عليه وسلم:
"فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم بعد أن يكون يدا بيد"6 فلما قال هذا البعد نهيه عن بيع البر متفاضلا دل أن اختلاف الجنس
العلة في أن يجوز7 البيع.
ومن ذلك قوله تعالى:
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 أخرجه أبو داود: البيوع "3/248" ح "3359" والترمذي
البيوع "3/519" ح "1225" وقال: حسن صحيح: والنسائي: البيوع
"7/236" "بابا اشتراء التمر الرطب".
3 تقدم تخريجه.
4 أخرجه أبو داود: الديات "4/187, 188" ح "4564" والدارمي:
الفرائض "2/478" ح "3080" وأحمد: المسند "1/61" ح "348".
5 تقدم تخريجه.
6 أخرجه مسلم "31211" ح "81/ 1587" وأبو داود: البيوع
"3/246" ح "3350" ولفظهما: "فإذا اختلفت هذه الأصناف
فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".
7 ثبت في الأصل "جواز" ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -133-
بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}
[المائدة: 89] فدل أن تعقيد اليمين علة المؤاخذة.
ومن ضروب التنبيه قوله صلى الله عليه وسلم:
"للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم"1 فإذا استأنف أحد السببين بذكر صفة من الصفات فقد ذكر الآخر وتلك
الصفة يجوز أن تؤثر في الحكم دل أنه علة.
ومن ضروب التنبيه قوله تعالى:
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}
[الجمعة: 9] لما أوجب علينا السعى ثم نهى عن البيع المانع
من السعى علمنا أنه إنما نهانا لأنه مانع من الواجب.
واعلم: أن هذه الوجوه ذكرها المتكلمون من الأصوليين
والكلام على مجال ونحن إذا بينا العلل الصحيحة ووجوه
تأثيرها في الأحكام عرف عند ذلك صحيح العلل من فاسدها وعلى
الجملة لا بأس بذكر هذه الضروب لأن هذه العلل علل من
النصوص وطلب الفوائد من النصوص واجب فإذا أمكن استفادة علة
من نص صاحب الشرع فلا مترك لها كما أنه إذا أمكن استفادة
حكم منه فلا معرض عنه وقد ذكرنا في مسألة علة الربا أنا
عللنا كون الطعم علة بالنص وجعلنا ذلك أحد فوائد النص
وذكرنا أن بيان التأثير غير واجب علمنا بعد أن ثبت لنا
كونه علة أحد فوائد النص لأن طلب الفوائد لما وجب وكان كون
الطعم علة إحدى فوائده سقط عنا بيان تأثيره وهذه طرقة حسنة
ذكرناها في الخلافيات ولا بأس بالاعتماد عليها وإن اخترنا
بيان التأثير فقد ذكرنا أن التأثير في الطعم وبلغنا غاية
الإمكان وكلتا الطريقتين حسنتان معتمدتان ومن الله العون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: المغازي "7/553" ح "4228" ومسلم: الجهاد
"3/1383" ح "57/1762" وابن ماجه: الجهاد "2/952" ح "2854"
والدارمي: السير "2/297" ح "2472".
"فصل"
إذا عرفنا أقسام القياس رجعنا إلى بيان ما يشتمل عليه
القياس فنقول:
إن القياس يشتمل على أربعة أشياء على الأصل والفرع والعلة
والحكم.
ونمثل مثالا لنعرف هذه الأشياء الأربعة فنقول إذا قسنا
الأرز على البر في جريان الربا والنبيذ على الخمر في
التحريم فالأصل هو البر أو الخمر والفرع هو الأرز أو
النبيذ والعلة الطعم أو الشدة والحكم جريان الربا ويقال
حرمة الفضل في الأول
ج / 2 ص -134-
وحرمة
الشرب في الثاني.
قال أبو زيد: لابد للقياس من أصول [بل]1 وهم شهود الله
تعالى على أحكامه فيما لا نص فيها ولابد من وصف جامع بين
الأصل والفرع وهو الشهادة ولابد من قائس وهو طالب معرفة
الحكم المحتاج إليه فشهادة الجامع بين الأصل والفرع ولابد
من حكم يثبت لديه ليحكم به وهو القلب ولابد من شهود وهو
الحكم المطلوب ولابد من صلاح الشاهد للشهادة كما في شهود
المعاملات صلاحهم للشهادة بالحرية والعقل والبلوغ2 كذلك
الأصل يجب أن يكون صالحا للتعليل ولابد من اعتبار الوصف
صالحاكما يعتبر لفظ الشاهد ولابد من اعتبار العدالة كما في
الشاهد والعدالة ها هنا هو التأثير ولابد من مشهود عليه
وهو البدن واللسان فاللسان يلزم الإقرار بحكم تلك الشهادة
والبدن يلزمه العمل به وهذا إذا حاج نفسه فأما إذا حاج
غيره فمثال المتناظرين مثل المتخاصمين في حقوق الناس
بالمجيب حقوق الناس بمنزلة المدعي والسائل بمنزلة المنكر
والقياس شهادة والأصل شاهد والمجيب مستشهد والحكم مشهود به
والسائل بلسانه وبدنه مشهود عليه والقلب منه حاكم عليه
وتأثير الوصف عدالة ظاهرة وهذا الذى ذكره هذا الرجل تكلف
شديد وليس يليق بالمحققين وقد دخل في أثناء هذه التفاصيل
ما لا يمكن تحقيق معناه على انفراده وقد نقلته على ما
أورده.
قال وقد خالفنا الشافعى رحمة الله عليه في بعض ما ذكرنا
على ما نذكر في تفاصيل هذه الحملة وما ذكرناه من الأشياء
الأربعة كاف في معرفة ما يشتمل عليه القياس لأن القياس
إلحاق فرع مجهول بأصل معلوم لحكم مطلوب بعلة جامعة والمثال
ما بينا أن البر أصل والأرز فرع والطعم علة والربا حكم
ولابد أن نفرد لهذه الأشياء الأربعة لكل منها فصلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 طمس في الأصل ولعله ما أثبتناه.
2 شروط الشهادة سبعة:
الحرية والبلوغ والعدالة وأن يكون متيقظا حافظا لما يشهد
به وأن يكون ذا مروءة وانتفاء الموانع انظر المغني "12/27,
28, 29, 30".
ج / 2 ص -135-
أما فصل: الأصل
فنقول: أعلم أن الأصل يستعمله الفقهاء في أمرين: في أصول
الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع فيقولون: هى الأصل وما
سوى ذلك من القياس ودليل الخطاب وفحوى الخطاب معقول الأصل
ويستعملون اسم الأصل في الشئ الذي يقاس عليه كالخمر أصل
النبيذ والبر أصل الأرز.
وحد الأصل: ما عرف حكمه بنفسه أو ما عرف
به حكم غيره ومن مثبتى القياس من جوز أن يكون القياس بغير
أصل وهذا قول من خلط الاجتهاد بالقياس.
والصحيح: أنه لابد له من أصل لأن الفرع لا يتفرع إلا عن
أصول لوقوع الفرق بين الأصول والفروع.
والأصل: ضربان معلول وغير معلول.
فأما غير المعلول فما لم يعقل معناه كأعداد الركعات
واختصاص الصيام بشهر رمضان وغير ذلك وقد سبق بيان هذه
القصة وأما المعلول فهو ما عقل معناه وهو ضربان متعد وغير
متعد.
فأما غير المتعد فهو ما عدم معناه في غيره فوقف حكمه على
نصه كتعلل الذهب والفضة أنهما أسمان فهذا لا يوجد معناها
في غيرهما فوقف الحكم عليها وعند أبى حنيفة وأصحابه لا
يكون غير المتعدية علة بحال وقد سبق الكلام في هذا الفصل.
وقد قال أبو زيد: في تقويم الأدلة في العبادة عن الخلاف في
هذه المسألة قال علماؤنا حكم العلة تعدية النص المعلل إلى
فرع لا نص فيه وقال أصحاب الشافعى حكم العلة تعلق حكم النص
بالوصف الذى يتبين علة.
قال: فعلى هذا العلة إذا لم تكن متعدية كانت فاسدة. قال:
فإما الذين قالوا إن حكم العلة هو تعلق الحكمية فقد شبهوا
هذه العلل بالعلة العقلية فإنها لا تعرف عللا إلا بتعلق
أحكامها بها فكذلك العلل الشرعية إذا كانت منقولة عن
الشارع قال والجواب عن هذا وهو الطريق في المسألة أن النص
لا يجوز تعليله بعلة تغير حكم النص بنفسه وإذا كان كذلك
وجب أن يبقى الحكم بعد التعليل على ما كان قبل التعليل وهو
أن يكون وجوبه مضافا إلى النص دون العلة فإنك متى قصدت
الإضافة إلى العلة كنت قد غيرت حكم النص عما كان قبل
التعليل ولأن العلة لما لم تشرع حجة إلا بعد النص
ج / 2 ص -136-
صارت
لغوا مع النص وإذا صارت لغوا لم يجز تعليق الحكم بها وإذا
ثبتتا بهذا تبين بهذا أن حكم العلة التعدية لا غير ونظيره
من العقود الحوالة ما لها حاكم سوى التحويل من ذمة إلى ذمة
ونحن قد أجبنا عن هذا وبينا صحة مثل هذه العلة وذكرنا
فائدتها فلا معنى للإعادة.
والحرف لنا: أن التعليل عندنا إذا أفاد حكم بصحته فيكون
لتعدية الحكم تارة ويكون لقصر الحكم على المنصوص عليه تارة
وقد سبق بيان هذا رجعنا إلى ما كنا فيه.
وأما التعليل المتعدى فوجود ومعناه في غيره كتعليل غير
البر والشعير في الطعم والكيل الموجود في البر والشعير فهو
أصل في نفسه وأصل لغيره فيجوز مثل هذا أن يكون أصلا للقياس
وسواء أجمع القائسون على تعليله وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أنه لو روعى انعقاد الإجماع على تعليله لبطل
القياس لأن نفاة القياس ممتنعون من تعليل الأحكام.
والثاني: أنه لو روعى انعقاد الإجماع على تعليله لروعى
انعقاد الإجماع على علته ولو روعي هذ لما استقر قياس إلا
بالإجماع وهذا مدفوع بالإجماع.
والجملة أن عندنا كل أصل يوجدد معناه في غيره جاز القياس
عليه سواء كان ما ورد به النص مجمعا على تعليله أو مختلفا
فيه وكذلك سواء كان موافقا لقياس الأصول أو مخالفا وكلا
الأصلين قد سبق وهذا الذى قلناه في الأصل الذى عرف بالنص
فأما ما عرف بالإجماع فحكمه حكم ثابت بالنص في جواز القياس
عليه على التفصيل الذى قلناه في النص.
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز القياس عليه ما لم يعرف النص
الذى أجمعوا لأجله وهذا غير صحيح لأن الإجماع أصل في إثبات
الأحكام كالنص فإذا جاز القياس على ما ثبت بالنص جاز على
ما ثبت بالإجماع وأما ما ثبت بالقياس على غيره فهل يجوز أن
يستنبط منه معنى غير المعنى الذى قيس به على غيره ويقاس
عليه غيره اختلف أصحابنا في ذلك: والصحيح أنه لايجوز لأنه
إثبات حكم في الفرع بغير علة للأصل وذلك لا يجوز.
ومثال هذا: أنا نقيس الأرز على البر بعلة الطعم فلو استخرج
من الأرز معنى لا يوجد في البر وقيس عليه غيره في الربا
فهذا محال لأختلاف الأصحاب وقد ذكرنا أن الصحيح أنه لا
يجوز لأن علة جريان الربا في الأرز الطعم فلو استخرج منه
معنى سوى
ج / 2 ص -137-
الطعم
وقيس عليه غيره أدى إلى ما ذكرنا وهو إثبات الحكم في الفرع
بغير علة الأصل وهذا لأن الفرع ما شارك أصله في علة حكمه
فإذا لم يشارك لم يكن فرعا وأما إذا قاس الأرز على البر
بعلة الطعم ثم قاس الذرة على الأرز بعلة الطعم فهذا لا
معنى له لأن الذرة والأرز جميعا فرعان للبر فإذا جعل الذرة
فرعا للأرز لم يكن هذا أولى بأن يجعل الأرز فرعا للذرة
وإذا لم يكن أحدهما أولى من الآخر وجب أن يكونا جميعا
فرعين للبر.
فإن قال قائل: ما قولكم في الأصل في حكم الربا أهو النص أم
البر؟ قلنا: قد اختلفت الفقهاء والمتكلمين في هذا:
قال بعضهم: الخبر هو الأصل للبر ولكل مطعوم ومكيل لأن
الحكم مأخوذ منه فصار أصل الكيل هو الخبر.
وقال بعضهم: الأصل هو الحكم المعلل لثبوت الربا لأنه
المطلوب في الفرع فكان هو الأصل في الفرع.
والصحيح: هو المذهب الثانى وتمامه أن الخبر أصل للبر والبر
أصل لكل ما يقاس عليه وهذا ظاهر حسن فليعتمد عليه إذا
عرفنا هذه الأصول التي يقاس عليها فنقول ما لا يثبت من
الأصول مأخذ هذه الطرق أو كان يثبت ثم نسخ فلا يجوز القياس
عليه لأن الفرع إنما يجعل فرعا لأصل ثابت فإذا كان الأصل
غير ثابت لم يجز إثبات الفرع من جهته.
وقال أبو زيد في هذا الفصل: مذهب علمائنا أن الأصول كلها
معلولة ولا يجب العمل مما جعل علة أوصاف الأصل إلا بدليل
يميز به بين علته وبين غيره من الأوصاف ومع وجود هذا أيضا
لا يجب العمل بها إلا بدليل يدل على كون الأصل شاهدا
للحال.
وحكى عن الشافعى رضي الله عنه أن الأول يجب وهو الذى يميز
الوصف الذى هو علة من غيره ولا يجب أكثر من هذا.
واستدل فيما اختاره وفسره وقال: مع هذا الذى ذكره الشافعى
يحتاج إلى دليل يدل على كون الأصل شاهدا يعمل بشهادته لأن
الأصول وإن كانت معلولة في الأصل بالدلائل الموجبة للقياس
فقد احتمل واحدا بعينه من بين الجملة أن لا يكون معلولا
وقد وجد بالإجماع نصوص غير معلولة فلا يكون حجة على الفرع
مع قيام هذا الاحتمال
ج / 2 ص -138-
حتتى
يقوم دليل يدل على كونه شاهدا للحال. كالرجل المجهول الحال
إذا شهد قبلت شهادته وإذا طعن الخصم في حريته لم يصر حجة
عليه لكونه حرا في الأصل إلا بدليل يوجب حريته في الحال
لأن حرية الأصل تحتمل التغيير بعارض فلم يكن حجة على غيره
بحال.
فإن قيل: أليس النبى صلى الله عليه وسلم قدوة أمته فما كان
له وعليه وقد احتمل أن يكون مخصوصا ومع ذلك صار فعله حجة
عل غيره أجاب وقال: إن الحجة في الابتداء فيه كونه نبيا
وما اختلف الحال في كونه مقتدى به على كل حال والخصوص ثبت
بدليله في بعض أحواله وأفعاله فبقى الباقى على عمومه كالنص
إذا خص منه شئ فإن الباقى يبقى على عمومه وأما هاهنا فإن
النص المعلول هو الشاهد بعلته وقد احتمل في نفسه أن لا
يكون معلولا بعارض كالشاهد هو حجة بشهادته واحتمل أن لا
يكون حجة بعارض رق أو غيره وإذا احتمل على هذا الوجه فلابد
من دليل.
قال: ومثال هذا أنا متى عللنا حرمة الفضل في الذهب بالذهب
بكونه موزونا احتجنا إلى بيان أنه معلول بهذا الوصف بدليل
يوجب له غير الدلائل المصححة للقياس وذكر في هذا فصلا
طويلا اقتصرنا على هذا القدر.
واعلم: أن هذا الذى ذكره ليس بشرط بعد أن يظهر تأثير الوصف
فمتى ظهر التأثير للوصف الذى جعل علة وامتاز بالتأثير عن
غيره من الأوصاف وقع الاكتفاء بذلك وأما قولهم إنه يحتمل
ألا يكون هذا الأصل معللا ويحتمل أن يكون معللا قلنا ما
استوى الاحتمالان لأن الأصل الذى نعرفه في الشرع أن كل أصل
أمكن تعليله جاز ألا يمنع مانع من تعطيله يدل عليه أن
الدلائل التي دلت على صحة التعليل دلت على تعليل كل أصل
لأن الدلائل لا تخصيص فيها فإن عرض عارض دليل أنه لا يعلل
أصل من الأصول لا يجب التوقف في سائر الأصول ألا ترى أن
العموم حجة وقد خص بعض العمومات ثم بأن خص بعض العمومات لا
يدل على أنه يجب التوقف في كل عموم حتى يدل الدليل أنه غير
مخصوص وأظهر من هذا أمر النبى صلى الله عليه وسلم فإن
الخصوصية في حقه محتملة ومع ذلك لا يعتبر هذا الاحتمال بل
اعتبر الأصل المعهود وهو أنه قدوة إلا أن يقوم الدليل على
خلافه في موضع وقولهم إنه لا خلاف في كونه مقتدى به وهذا
الوصف منه لا يحتمل غيره وفى مسألتنا وجد الاحتمال في هذا
الأصل أنه غير معلول قلنا نعم لا اختلاف أنه مقتدى به في
الجملة وكذلك الاحتمال عن إطلاق كونه قدوة
ج / 2 ص -139-
فأما
في كل شئ بعينه فيحتمل أنه مخصوص به ويحتمل أنه غير مخصوص
به فلا فرق بين الفصلين بوجه ومن هذا الأصل نقول: إن تحريم
الخمر معلول وهم يقولون: ليس بمعلول ويطالبون بإقامة
الدليل أنه معلول ونحن نقول الدلائل التي دلت على صحة
القياس لم تخص محلا دون محل وكل أصل أمكن تعليله بعلة
مؤثرة وجب تعليله والتأثير في تعليل الخمر بالشدة في نهاية
القوة يدل أنها المحرمة وإذا عرفنا وفرغنا عن هذا الأصل
بذكر الفصل الثانى وهو الكلام في فروع القياس فالفرع في
القياس ما ألحق بأصل أخذ حكمه منه وقد يكون الفرع على
نوعين فرع معنى معلول وفرع شبه متماثل وقد أنكر بعض
القائسين بأن يكون المشبه لأصله فرعا في حكمه فابطل فرع
الشبه وأثبت فرع المعنى ولم يجعل الفروع إلا ما شاركت
الأصل في المعانى دون الأشباه وعكس هذا آخرون وأثبتوا فرع
الشبه وأنكروا فرع المعنى وذهب الأكثرون إلى تصحيح كليهما
وأثبتوا فرع المعنى وفرع الشبه وسنبين الصحيح من ذلك واعلم
أن الذى يلزم في فرع المعنى أن يكون مشاركا لأصله في
المعنى الذى جعل علة الحكم.
وأما اختلافهما فيما عدا ذلك من المعاني لا يؤثر فقد تكون
الصلاة أصلا للحج في أحكام وورد النص عليها في الصلاة
لاشتركهما في معانى تلك الأحكام وإن اختلفا فيما عدا ذلك
من المعانى وكذا الحج مع الصلاة والذى يلزم من فرع الشبه
أن يجتمع الأصل والفرع في أكثر الأشباه وأغلبها وأقواها
ولا يلزم أن يجتمعا في جميع الشبه لأنه يكون هو ولا يكون
بينهما فرع ولا أصل وقد ذكر.
ومثال ذلك: إلحاق العبد بالحر في وجوب القصاص في النفس
والأطراف ووجوب الكفارة وكذلك إلحاق العبد بالأمة في تنصيف
الحد وإلحاق الجواميس بالبقر في الزكاة وقد يكون الشبه في
صورة الذات وقد يكون الشبه في حكم الذات والأمثلة التي
قلناها في العبيد والأحرار والبقر والجواميس لبيان الشبه
في صورة الذات.
وأما الأمثلة للشبه في حكم الذات كإلحاق الوطء بالشبهة
بالوطء في النكاح لاشتباههما في الأحكام وكذلك إلحاق
المكاتب بالحر وأما العبد في تمليك المال فإن ألحق بالحر
في ثبوت ملكه فبقياس الشبه في حكم الذات وليس يمتنع أن
نجمع بين الشبهين في الصورة والحكم فيحكم بكل واحد منهما
في موضعه بما يقتضيه ثم إذا عرف معنى فرع المعنى وفرع
الشبه يكونان متشاركين لأصلهما في صفة الحكم المطلوب بهما
من وجوب وإسقاط وتحليل وتحريم وإن اختلفا في طريق الحكم
بالمعنى والشبه
ج / 2 ص -140-
فيكون
في الأصل معلوما وفى الفرع مظنونا وسيأتى في ذلك فرع
المعنى وفرع الشبه وحين فرغنا من هذا الأصل وهو بيان الفرع
فنذكره بعده.
الفصل الثالث: وهو القول في علة القياس
وفيه الكلام الكثير وقد وقع فيه الخبط العظيم ولابد أن
نعتبر في ذلك زيادة اعتناء ليظهر ما هو الحق من ذلك بعون
الله تعالى وتوفيقه.
واعلم أن العلة1 مأخوذة في اللغة من العلة التي هى المرض
لأن لهذه العلة تأثير بيان الحكم كتأثير العلة في ذات
المريض وقيل: سميت العلة علة لأنها ناقلة بحكم الأصل إلى
الفرع كالانتقال بالعلة من الصحة إلى المرض.
والأول أحسن لأنا بينا أن غير المتعدية من العلة تكون علة
وقيل إن العلة مأخوذة من العلل بعد النهل وهو معاودة شرب
الماء مرة بعد مرة لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر
بعد النظر.
وأما حد العلة: فقد قالوا: إنها الصفة الجالبة للحكم.
وقيل: إنها المعنى المثير للحكم2.
واعلم: أن علة الحكم شرط في صحة القياس ليجمع بها بين
الأصل والفرع وذهب بعض القائسين من أصحاب أبى حنيفه وغيرهم
إلى أن القياس يصح بغير علة إذا لاح بعض الشبه احتجاجا بأن
الصحابة حين قاسوا لم يعللوا وإنما شبهوا فجمعوا بين الشئ
والشئ لمجرد التشبيه من غير تعليل مثلما فعلوا بالجد
والإخوة وغير ذلك.
وذهب جمهور القائسين من الفقهاء والمتكلمين إلى أن العلة
لابد منها في القياس وهو ركن القياس ولا يقوم القياس إلا
بها والدليل على ذلك أنه لا يخلو إما أن يرد الفرع إلى
الأصل بسبب جامع بينهما أو بغير سبب ولا يجوز أن يكون بغير
سبب لأنه لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل اللغة ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 اختلف الأصوليون في تعريف العلة:
عرفها الرازي بأنها المعرفة للحكم انظر المحصول "2/311"
الأحكام "3/289".
عرفها الغزالي بقوله: الوصف المؤثر في الحكم لا بذاته بل
يجعل الشرع عرفها الآمدي بأنها الوصف الباعث على الحكم
انظر المحصول "2/311" الأحكام "3/289" نهاية السول "4/54,
55" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/61, 62, 63".
ج / 2 ص -141-
يكون
رده إلى أصل بأولى من رده إلى غيره فلا يتعين الأصل وإن
كان بسبب فلابد أن يكون ذلك السبب متعينا لأن السبب
المجهول لا يكون شيئا فلم يبق إلا أن يكون بسبب معين ثم
ذلك السبب المعين عندنا في الجمع هو العلة فإن سموه علة
فقد وقع الاتفاق وإن لم يسموه علة فقد وقع الاتفاق في أنه
لابد من جامع فالنزاع في الاسم مع الاتفاق في المعنى مصرح
وأما الصحابة فقد عللوا تارة وأرسلوا الشبه أخرى قال على
رضى الله عنه في حد الخمر: إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى
وإذا هذى افترى وحد المفترى ثمانون1. فقد ذكر التعليل.
وقالت الصحابة لأبى بكر -رضى الله عنهم-: "رضيك رسول الله
صلى الله عليه وسلم لدينا فرضيناك لدينانا" وأما إذا
أرسلوا إرسالا فهو تنبيه على القائس وليس بقياس وإذا ثبت
أنه لابد من العلة في صحة القياس فتقدم مسألة الطرد وكلام
الفقهاء في ذلك.
مسألة: أعلم أن الطرد ليس بحجة والتمسك به باطل:
وهو الذى لا يناسب الحكم ولا يشعر به2 وكذلك الاطراد لا
يكون دليل صحة العلة وبالغ القاضى أبو بكر محمد بن الطيب
في التغليظ على من يعتقد ربط حكم الله تعالى به وقال بعض
أصحابنا وطائفة من أصحاب أبى حنيفة أنه حجة3 ذكره الشيخ
أبو إسحاق في التبصرة عن أبى بكر الصيرفى وسمى أبو زيد
الذين يجعلون الطرد حجة والاطراد دليلا على صحة العلة
حشوية أهل القياس قال: ولا يعد هؤلاء من جملة الفقهاء
واحتج من قال: إن الطرد حجة بالأدلة التي دلت على أن
القياس حجة وقالوا إنها لم تخص وصفا دون وصف وهذا لأن علل
الشرع أمارات على الأحكام وليست
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 الطرد: مصدر بمعنى الاطراد ومعناه وجود الحكم مع وجود
الوصف الذي لا مناسبة بينه وبين الحكم لا باذات ولا بالتبع
في جميع الصور ماعدا الصورة المتنازع فيها انظر نهاية
السول "4/135" البرهان "2/788" المحصول "2/355" أصول الفقه
للشيخ محمد أبو النور زهير "4/115".
3 اختلف الأصوليون في كون الطرد مفيدا للعلية: فذهب أكثر
منهم الآمدي وابن الحاجب إلى أنه لا يفيدها ولا يكون حجة
وذهب جماعة منهم الرازي والبيضاوي إلى أنه مفيد للعلية
ويحتج به فيها نهاية السول "4/135" البرهان "2/788, 789"
أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/117".
ج / 2 ص -142-
من قبل
العلل العقلية فصح تعليقها بالصور وتصير تلك الصور أمارات
على الأحكام كالنصوص التي ترد في أحكام ولا يعقل معانيها
فهذه العلل مثل تلك النصوص في الأحكام.
واستدل من قال: إن الإطراد دليل صحة العلة قال: لأن عدم
الإطراد دليل على فساد العلة فالإطراد دليل صحة العلة ولأن
الإطراد والجريان هو الاستمرار على الأصول من غير أن يردها
أصل وهذا شهادة من الأصول في غير أن يردها أصل وهذا شهادة
من الأصول في غير أن يردها أصل وهذا شهادة من الأصول لها
بالصحة فوجب أن نحكم بصحتها.
ببينة: أنها إذا أطردت فقد عدم ما يوجب
فسادها فوجب أن نحكم بصحتها لأنه ليس بين الصحة والفساد
واسطة.
وأما دليلنا في أن الطرد ليس بحجة هو أنا اتفقنا على أن
الاحتكام على الشرع باطل ألا ترى أنه لو أحتكم المحتكم من
غير ذكر علة أصلا فيكون قوله باطلا وصفه المحتكم على الشرع
أن لا يكون لقوله الذي يقوله طريق معلوم ولا مظنون ونحن
نعلم قطعا أن أحكام الشرع مرتبطة إما بطريق علمى أو ظنى
ويستند إلى سبب وإذا خلا عن هذين الطريقين يصير مجرد
احتكام على الشرع من قائله والدليل على أن الظن لابد من
إشارة إلى سبب حتى يعمل به أن العلميات في الشرع لابد من
استنادها إلى طريق يوجب العلم فالظنيات لابد من استنادها
إلى سبب يفيد الظن ولأن من ادعى يظن أن وراء هذا الجبل
المطل علينا جيشا عظيما أو بحرا أو سباعا أو غير ذلك من
الأشياء فإنه لابد من استنادها إلى أسباب فإنه إذا لم يربط
بسبب كان مما ظنه مهموسا وفى قوله هاذيا ثبت أن الظن لابد
له من سبب ليعمل عليه والطرد لا يفيد علما ولا ظنا لأن
الحكم الذى ربط به إثباتا لو ربط به نفيا لم يترجح في مسلك
الظن احدهما على صاحبة فبطل التعلق به. فإن قيل: سلامته عن
النقض يفيد علية الظن كونه علما على الحكم قلنا هذا الذى
قلت هو طرد الطارد وهذا الطارد مطالب بتصحيح علة وطرده
لعلته لا يكون دليلا على صحة علته فإن فعله لا يكون دليل
صحة قوله ثم هذا المعترض يقول إن الإطراد في محل النزاع
وعندي أنه لا إطراد. فإن قال: المعلل قد طرد في غير محل
النزاع يقال له: جريانه في غير محل النزاع لا يوجب إطراده
في هذا الموضع الذى وقع فيه النزاع وهذا لأن الطارد منازع
في طرده فكيف يستدل بإطراده وإنما غاية دعواه أنه يقول إن
الدليل على صحة طردى دعواى بإطراده في صورة النزاع قال
القاضى أبو بكر لو جاز
ج / 2 ص -143-
التمسك
بالطرد لما عجز عنه أحد من طبقات الخلق لما كان من اشتراط
استجماع أوصاف المجتهدين معنى ثم قال فإن زعم زاعم أن شرط
الطرد أن يسلم عن العوارض والمبطلات ولا يهتدى إلى ذلك إلا
عالم فقال كيف لا يهتدى بأن يذكر علة ويطردها أين وجدت
قال: وإذا انتهى التصرف في الشرع إلى هذا المنتهى كان ذلك
استهزاء بقواعد الدين واستهانة بضبطها وتطريقا لكل قائل أن
يقول ما يريد ويحكم بما شاء ولهذا صرف علماء الشرع تبعتهم
إلى البحث عن المعانى المختلة المؤثرة.
ببينة: أنا جعلنا إجماع الصحابة هو الدليل
الأقوى في صحة القياس ولم يرو عن احد منهم أنه تعلق بطرد
لا يناسب الحكم ولا يؤثر فيه وإنما نظروا إلى الأقيسة من
حيث المعانى وسلكوا طريق المراشد والمصالح التي تشير إلى
محاسن الشريعة ولو كان الطرد قياسا صحيحا لما عطلوه لوما
أهملوه ولما تركوا الاعتلال به وكذلك سائر الأئمة االمقتدى
بهم من بعدهم وضرب الحليمى لذلك مثلا فقال من رأى دخانا
نائرا فظن أن وراءه حريقا كان مصيبا في ظنه ومن رأى غبارا
ثم ظن أن وراءه حريقا كان مختلا في ظنه نعم لو ظن أن وراءه
عسكرا أو سرحا كان مصيبا ونقول أيضا أنا قد بينا أن العلة
هى الصفة الجالبة للحكم ويجوز أن يقال: إن العلة هى
المقتضية للحكم فأما إذا لم نعتبر وجود ما يقتضى الحكم أو
وجود ما يجلب الحكم في الصفة التي جعلت علة لم تكن هذه
الصفة بأن يجعله علة بأولى من غيرها من الصفات فإن للاصل
صفات كثيرة وقد جعل أحدهما علة فلابد أن يكون لها اختصاص
أو مناسبة بالحكم الذى جعلت الصفة علة له حتى تكون جالبة
له أو مقتضية إياه وهذا لأن التغييرات الاتفاقية قد تقع
كثيرا فلا يقع الفرق بين التغير الاتفاقى وبين التغير
بالعلة إلا بما ذكرناه من وجود اختصاص ومناسبة بين العلة
والحكم.
فإن قال قائل: إن المناسبة والاختصاص في إنه يوجد الحكم
بوجود العلة ويعدم بعدمها أو المناسبة بالإطراد فقد أجينا
عن هذا من قبل ويدل عليه أن دوران الحكم معه وجودا وعدما
لا يدل على الصحة لأن الحكم كما يدور وجوده مع العلة فيدور
مع الشرط ألا ترى أن من قال: لعبده أنت حر إن كلمت زيدا
دار وجود العتق مع الكلام كما دار مع قوله أنت حر وهو علة
فدل أن هذا القدر لا يصلح أن يستدل به على صحة العلة
وسيعود الكلام في هذا من بعد فإن كثيرا من أصحابنا جعلوا
الإطراد والانعكاس دليلا وأما الجواب عن الذى ذكروه أما
تعلقهم بالأدلة التي دلت على صحة
ج / 2 ص -144-
القياس
قلنا: هذا الكلام دليل عليكم لأن الأدلة التي دلت على صحة
القياس على الأصول وهذا القياس يوجد ببعض الأوصاف ثم البعض
عن البعض لا يمتاز إلا بدلالة أخرى ألا ترى أن نصوص القرآن
دلت أن الأمة شهداء في الأصل ولم يدل أن كل لفظ فهم شهادة
بل دلت أنه يوجد منهم الشهادة وذلك يحصل ببعض الألفاظ ولا
يتميز ذلك عن غيره إلا بدليل ولأن كل وصف لو صلح علة
والأوصاف محسوسة مسموعة لشرك السامعون وأهل اللغة كلهم
الفقهاء في المناسبات ولما اختص القياس بالفقهاء علمنا أن
المقايسة مبنية على معان تفقه لا على أوصاف وأسامى تسمع
وقد ذكرنا هذا من قبل بلفظ آخر.
وأما قولهم: إن علل الشرع أمارات وليست بموجبات قلنا: لا
يسلم هذا الأصل على الإطلاق فإن الفقهاء وإن كانوا يطلقون
هذا ولكن معنى ذلك أنها لا توجب بذواتها شيئا بل يجعل
الشارع إياها موجبة وإن لم تكن بنفسها موجبة بل صارت موجبة
بالشرع لا يمنع أن يقوم الدليل على أن القياس إذا احتاج
صحته إلى علة فلابد أن تكون العلة مناسبة للحكم مؤثرة فيه
مقتضية إياه وقد دللنا أنه لابد من ذلك.
فإن قيل: ما قولكم في الشرع إذا نصب الطرد علما هل يجوز أم
لا؟ قلنا: يجوزقالوا إذا جاز من الشارع جاز من المعلل
قلنا: وإن جاز من الشارع لكنه لا يكون علة.
لكنه تعريف للحكم أو تجديد له ولو ذكر الشرع الحكم من غير
علة له قوبل بالقبول فإذا ذكره وذكر علما عليه قبل وصدق
أيضا وهذا لأن الشرع له التحكم علينا كما يشاء ولكن ليس
لنا التحكم على الشرع كما شئنا فتبين الفرق قطعا وباقى ما
ذكروه ليس بشئ ينبغى الاشتغال به وفيما ذكرناه من قبل جواب
عنه وقد ذكر القاضى أبو الطيب إن الإطراد زيادة دعوى
والدعوى لا تثبت بزيادة الدعوى قال: ولأن القياس الفاسد قد
يطرد ولو كان الاطراد دليل صحة العلة لم يقم هذا الدليل
إلا على الأقيسة الفاسدة فالأقيسة الفاسدة المطردة مثل قول
من يقول في إزالة النجاسات بغير ماء مائع لا يبنى عليه
القناطر ولا يصطاد منه السمك فأشبه الدهن ومثل من يقول في
الكلب أنه كلب فيكون نجسا كالكلب الميت ومثل من يقول في مس
الذكر مس ذكره فصار كما لو مس وبال ومثل من يقول في وطء
الثيب شرع من نافد فصار كما لو مشى في شارع أو أدخل من
يدخل في المدخل فصار كما لو أخرج رأسه من الروزنة وأدخل
رجله في الحف
ج / 2 ص -145-
ومثل
ما يقول في القهقهة اصطكاك الأجرام العلوية فلا ينقض
الطهارة كالرعد ولا يلزم الظراط لأنه اصطكام الأجرام
السفلية قال القاضى: وهذا مع سخفه ينتقض بما لو اصفع
امرأته وصفعته وقد قال قوم: من أصحاب أبي حنيفة: في مس
الذكر مس آلة الحرث فأشبه إذا مس اليدان وقال: طويل مشقوق
ينقض الوضوء كالقلم والبوق وقال: تعلق منكوس فأشبه الدبوس
وقال في السعى: بين الصفا والمروة إنه سعى بين جبلين فلا
يكون ركنا في الحج كالسعى بين جبلى نيسابور أو غيرها من
البلاد وهذه حكايات سخيفة والاشتغال بأمثالها هزو ولعب
بالدين ولولا أن هذا الإمام أوردها وإلا لم نوردها وأيضا
فإن المتأمل يتأمل هذه التحقيقات السخيفات التي لا يمكن
مناقضتها بشيء ويطردها ومباحثها1 طردا أو يعرف أن سائر
الطرد على مثالها وبمثابتها واللعب والضحك ليس من باب
الدين في شئ وقولهم إنه لا يوجد دليل بعده قلنا عدم تأثيره
ومناسبته للحكم دليل على فساده يدل عليه أن من ادعى النبوة
وقال الدليل على صحة دعواى عدم ما يفسدها لا يسمع منه ذلك
وكذلك كل من يدعى صحة شئ بهذا الوجه فثبت أن ما قالوه باطل
والله العاصم منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلمة غير مقروءة ولعل الصواب ما أثبتناه.
فصل: ويدخل في هذا الفصل القول في المركبات:
اعلم أنه ذكر أبو زيد بابا في أقسام الطرديات وقال:
الطرديات الفاسدة أربعة أنواع:
نوع منها يعرف فاسدها ببداءة العقول من غير تأمل في الأصول
كقولهم في قراءة الفاتحة فرض في الصلاة إن الصلاة عبادة
ذات أركان مختلفة لها تحليل وتحريم فوجب أن يكون من
أركانها ذو عدد سبع دليله الحج ومثل قولهم إن السبع أحد
عددى صوم التمتع فوجب أن لا يجوز الصلاة إذا قرأ دونها
دليله الثلاث وكقولهم إن الوطء فعل ينطلق مرة وينغلق أخرى
فلا يثبت به الرجعة كالقبلة وقال سمعت بعض شيوخنا يحتج
لإبطال النية في الوضوء بأن الوضوء فرض عين تقام في أعضائه
فلا تكون النية شرطا لأدائه دليله قطع اليد قصاصا أو في
السرقة وهذه علل تعرف فسادها ببداءة العقول لأنه لا مشابهة
بين الأصول في هذه الأصول وبين فروعها وهذا الضرب لا يوجد
له نظير
ج / 2 ص -146-
من
كلام السلف ولكنه شئ أحدثه حشوية أهل الطرد. قال:
والنوع الثاني: رد فرع إلى أصل لا يكاد
الفرع يمتاز عن الفرع إلا بضم ما هو علة الحكم إليه نحو
قولهم: إن مس الذكر حدث كما لو مس وبال فإنه لا زيادة فيما
جعله أصلا إلا البول لأنه حدث بالإجماع وقد عدم ذلك في
الفرع فسقط اعتباره لإيجاب الحكم في الفرع فلا يبقى بعده
إلا المس المختلف فيه وكذلك قولهم في إعتاق المكاتب عن
الكفارة إن إعتاق مكاتب عن الكفارة فصار كما لو رأى بعض
الدلائل لأنه لا زيادة في الأصل إلا أخذ بعض البدل وإنه
علة مانعة من التكفير وقد عدمت في الفرع فبقي العبرة لما
وراء هذه الزيادة وهو أنه إعتاق مكاتب وهذا مختلف فيه
وكذلك قولهم في شراء الأب لا يكون تكفيرا كما لو حلف بعتقه
إن اشتريه ولا زيادة في الأصل إلا اليمين بعتقه وهو علة
مانعة من التكفير بنية توجد عند الشرط عندنا وقد عدم هذا
في الفرع وليس وراء هذا إلا شراء الأب وهذا مختلف فيه.
قال:
وأما النوع الثالث: رد فرع إلى أصل بوصف
اختلف في كونه علة وظهر ذلك من العلماء لأنه لما ظهر
الاختلاف فيه حل محل الحكم المختلف فيه ووجب نقل الكلام
إليه لقولهم إن الكتابة الحالة لا تمنع التكفير عن العتق
وكانت فاسدة كالكتابة على القيمة فالخلاف ظاهر بيننا
وبينهم في الكتابة الصحيحة أنها هل تمنع الإعتاق عن
الكفارة أو لا فلم يصر عدم المنع دليلا علينا في فساد
الكتابة وعن ذلك قولهم: إن الأخ يجوز إعتاقه عن الكفارة
فلا يعتق بسبب القرابة دليله ابن العم وهذا فاسد لأن الأب
عندنا يجوز إعتاقه عن الكتابة ويعتق بالقرابة وعنده لما
عتق بالقرابة لم يجز عن الكفارة ومن ذلك قولهم إن رهن
المشاع باطل لأنه رهن لا يتبع للإنتفاع به ومن هذا الجنس
يكثر وقال:
والنوع الرابع: التعليل بعدم الوصف كقول
الشافعي: النكاح ليس بمال فلا يثبت بشهادة الرجال مع
النساء كالحدود وهذا فاسد لأن العدم لا يوجب حكما وهذه
العلل تذكر للإيجاب والعلل توجد ولا تعدم وكذلك قولهم: إن
الأخ لا يعتق على الأخ لأنه لا بعضية بينهما وكذلك قولهم
إن المرض لا يبيح التجلد لأن المرض معنى لا يفارق الحال
بالإحلال فأشبه الضلال وكذلك قولهم: المبتوتة لا يلحقها
الطلاق لأنه لا نكاح بينهما وإسلام الشئ في جنسه لا يجوز
لأنه لا يجمعهما صفة الطعم والثمنيه واعلم أنى ما ذكرت ما
أورده على طريق الاختصار ونحن نقول في الأنواع الثلاثة
التي قدمها
ج / 2 ص -147-
علل
فاسدة كما ذكروا للأصحاب كلام في المركبات وهى التي ذكرها
في النوع الثالث وقد رأيت من الأئمة في العصر الذى أدركته
من شغف بأمثال هذا وقد ملأ كتبه من ذلك ومن أمثال ذلك ما
قاله بعض أصحابنا في النكاح بغير ولى أنثى فلا تزوج نفسها
دليله إذا كانت بنت خمس عشرة سنة والخصم يعتقد في الأصل
أنها صغيرة فتكون علة المعلل مقيسة على الصغيرة عند الخصم
ولابد من كون الأصل متفقا عليه ولو اعتقد الخصم أنها كبيرة
لكانت تزوج نفسها والخلاف واقع في الكبيرة وطائفة من
الجدليين يصححون هذا ويقولون الحكم يتفق عليه في الأصل
والمعلل علل الأنوثة وهى تعليل صحيح فقاس على أصل مسلم
فتشعب المذاهب واختلافها ليس يضر ومثل هذا التعليل والدليل
لا يرضى به محقق لأن المخالف يقول بنت خمس عشرة فيما أذهب
إليه صغيرة ولو كانت فالقياس عليها باطل فإنه لو قال
ابتداء أنثى فلا تزوج نفسها كالصغيرة يكون قياسا لأن لمعلل
ذكر الأنوثة والصغر في الأصل والصغر على حاله مانع من
العقد بدليل الغلام فقد ضممت إلى الأنوثة في الأصل صفة
مستقلة بالحكم المطلوب فيكون مثاله ما يقول القائل في مس
الذكر مس ذكره فينتقض وضوءه كما لو مس وبال فيصير التعليل
باطلا لأن قياس الفرع على الأصل إنما يجوز بعلة الحكم في
الأصل فأما تغيير علة الحكم في الأصل فيكون باطلا.
قالوا: وهذا إذا كانت بنت خمس عشرة سنة صغيرة على ما نقول
نحن فأما إذا كانت كبيرة على ما يقولون فعندنا يجوز لها أن
تزوج نفسها والتقدير لا يخلو من هذين فالعلة مترددة بين
منع الحكم في الأصل على تقدير وبين سقوط العلة على تقدير
فلم تصح.
صورة أخرى من التركيب الذى قاله الأصحاب وهو قولهم في
البكر البالغة: بكر فيجبرها أبوها كبنت خمس عشرة سنة وهذا
أمثل من الأول فإن بنت خمس عشرة سنة إن ثبت صغرها فالقياس
على البكر الصغيرة جائز لأن الصغر لمجرده على مذهب
الشافعى1 لا يستقل بإفادة الإجبار بدليل الثيب الصغيرة فإن
قال الخصم ظني أن بنت خمس عشرة سنة صغيرة وإن كانت كبيرة
لا يجبرها أبوها على النكاح فهذا كلام صحيح غير أن هذه
الصورة تنفصل عن الصورة الأولى لأن في الصورة الأولى تبطل
العلة على تقدير الصغر والبلوغ جميعا وفى الصورة الثانية
لا تبطل على تقدير الصغر لكن يتوجه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر روضة الطالبين "7/53".
ج / 2 ص -148-
على
تقدير الكبر منع من الخصم ويضطر المعلل إلى رد القياس إلى
الصغيرة البكر فيلغوا تعيين خمس عشرة سنة.
فأما التركيب في الوصف فمثاله ما قال أصحابنا في قتل
المسلم بالذمى من لا يستوجب القصاص بقتل شخص بالمثقل لا
يستوجبه بقتله بالسيف كالأب في حق ابنه وهذا أيضا فاسد لأن
الخصم يقول: إن المثقل ليس كآلة القتل والقتل به لا يكون
عمدا محضا على ما عرف من مذهبهم فإن كان الأمر على ما
قلنا: فقد قست العمد على غيرالعمد وإن كان الأمر على ما
قلتم إنه عمد محض يوجب القود فأنتم بين منع وإطلاق وقد قال
بعض أصحابنا: في مسألة الثمار التي تؤبر وتبعيتها للأشجار
في مطلق التسمية ما يستحقه الشفيع من الشجرة يدخل تحت
تسميتها بالأغصان وهذا فيه معنى حسن وهو أن الشفعة في
وضعها لا تتعلق بالمنقولات فأشعر ثبوت أخذ الشفيع بكونها
معدودة من أجزاء الشجرة ملحقة بها.
فإن قال الخصم: سبب أخذها قطع ضرار مداخلة المشترى وكذلك
أثبتنا أخذ الثمار المؤبرة للشفيع فالوجه أن يقال الحكم
المطلوب ثابت والمناسبة كما قلنا هنا بين وتسويتكم بين
المؤبر لا يقدح في هذا.
ومثال هذا أيضا ما يقوله أصحابنا في مسألة قتل الحر بالعبد
من قياس النفس على الطرف ويقول الخصم: هذا تركيب لأن
مذهبنا أن طرف العبد لا يكون محلا للقصاص له وعليه محال
غير أنا إذا صححنا التعلق بالشبه على ما سنبين فهذا أقوى
شبه وقد تأيد هذا الشبه بكون الأطراف محلا للقصاص على
الجملة مثل ما تكون النفوس محلا للقصاص ولم يوجبه منع وهذا
من قوة الشبه كأنه مناقضة من الخصم.
فإن ناقض الخصم مناقضة ثانية ومنع كون طرف العبد محلا
للقصاص بخلاف طرف الحر فلا يمنع هذا من صحة القياس مع قوة
الشبه على ما زعمنا والتخبط لهم في قطع الأطراف عن النفوس
عظيم والرفق الذى يذكرونه في تنزيل الأطراف منزلة الأحوال
فرق بعيد مرامه عويص تصحيحه سهل إبطاله والجملة في
التركيبات أنه لا يتعلق بها محقق وطالب لمعنى وإنما التعلق
بها من باب أرباب الصور وبابه من لم يشم رائحة الفقه وعزيز
على أهل الدين أن يسمعوا بناء أحكام البارى عز اسمه على
مثل هذه التعليلات التي هى شبه الخرافات عند مقابلتها
بالعلل المعنوية والقواعد العقلية التي يشهد لها أصول
الشرع وتقوم يتصحيحها قوانين الملة وتناضل دونها براهين
معانى
ج / 2 ص -149-
الكتاب
والسنة فلا ينبغى للفقيه أن يشتغل بمثل هذه الأشياء فإنه
تضييع للوقت وحيد عن مسالك الفقه وترك لسبيل السلف الصالح
وجرأة على أحكام الله تعالى وجر المعللين إلى التلاعب
بالدين فإنه إذا دخل في أمثال هذا وسهل على نفسه ينجر شيئا
فشيئا إلى أمثال ما حكينا من العلل السخيفة ثم حينئذ ينسلخ
عن الفقه أصلا ويصير ضحكة عند المحققين ومعدودا من جملة
الهاذين المخرفين ونسأل الله تعالى أن يعصمنا من أشباه ذلك
وأمثاله بمنه وطوله وقد ذكر جماعة من أصحابنا جوابا من
الأصل المركب وسموه التعدية ولست أرى في ذلك معنى غير أنا
نذكر صوره لئلا يخلو الكتاب عن ذكر ذلك لو قال المعلل في
مسألة النكاح بلا ولى أنثى فلا توزج نفسها كبنت خمس عشرة
سنة فيقول المعترض المعنى في الأصل أنها صغيرة وأعدى ذلك
إلى منع استقلالها بالتصرفات فإذا قال المعلل دعوى الصغر
ممنوع فيقول المعترض كذلك الأنوثة ليست بعلة وقد أدعيت
أنها ععلة فقد ادعيت علة وعديتها إلى فروعك وادعيت علة
وأعديتها إلى فروعى فاستوى القدمان وآل الكلام إلى التزامك
إبطال علتى أو ترجيح علتك على علتى وأجابوا عن هذا وقالوا
معنانا نسلم الوجود وهو الأنوثة وإنما المنازعة لكم في
كونها علة وأما الذى ادعيت علة فلا أسلم وجوده فإن اشتغلت
بإثبات وجوده منتقلا إلى علة أخرى فالانتقال ممنوع لا سبيل
إليه ويستوى فيه السائل والمسئول وقد سلكوا أيضا في إبطال
التعدية مسلكا آخر وهو أن يقول لو ثبت معناك لقلت به ضما
إلى معناى فإن الحكم الواحد لا يمتنع ثبوته بعلتين وهذا قد
لا يجرى في بعض المركبات فأما إذا قلنا في البكر البالغة
بكر فتجبر على النكاح كما ذكرناه في بنت خمس عشرة سنة فإذا
ذكر المعدى الصغر لم يمكنا أن نقدر الصغر علة في الإجبار
فإن الثيب الصغيرة لا تجبر على النكاح عندنا قال الأستاذ
أبو إسحاق سبيل المركب إذا عورض بالتعدية أن يقول معناى
عندك دعوى غير مثبتة بما تثبت بمثله معانى الأصول أو قد
ثبت بدليله فإن قلت لم يقم عليه دليل فلست معللا بعد ولا
مقيما متمسكا في محل النزاع فمعارضتك إياى بالتعدية غير
متجه وإن اعترفت يكون معناى ثابتا فمعناك الذي أبديته ليس
مناقضا لمعناى وإنما يقدح المعارضة إذا جرت مناقضة في
المقتضى وهذا الذى ذكرناه أورده الأصحاب نقلته على ما
أوردوه وعندي أن الاشتغال بأمثال هذا تضييع الوقت العزيز
وإهمال العمر النفيس ومثال هذه التعليلات لا يجوز أن يكون
معتصم الفتاوى والأحكام ولا مناطا لشرائع الدين الرفيع
وهذا وأمثاله تعمية على المبتدئين وإيقاعهم في الأغلوطات
ج / 2 ص -150-
وحيد
بهم عن سنن الرشد ومسالك الحق وقد كانت أنواع هذا طريقا
مسلوكا من قبل يجرى النظار على سنتها ويجادلون ويناطحون
عليها غير أن زماننا الذى نحن فيه غلب عليه معانى الفقه
وقد جرى الفقهاء فيه على مسلك واحد فتناظموا في مسلك واحد
يطلبون الفقه المحض والحق الصريح وقد تناهت معانى الفقه
إلى نهاية أظن أن ليس بعدها مبلغ الحق لطالب ولعلها قاربت
في الوضوح الدلائل العقلية التي يدعها المتكلمون في أصول
الدين فالنزول عن تلك المعانى إلى مثل هذه الصور زلة في
الدين وضلة في العقل واالله العاصم بمنه نعم.
وقد ذكر أبوزيد من أقسام الطرديات: مسألة شهادة رجل
وأمراتين في النكاح وتعليل الشافعي فيها أن النكاح ليس
بمال1 وذكر لهذا أمثلة والعجب أنه يفهم منا هذا وقد سلكوا
مثل هذا المسلك قال محمد بن الحسن: لا ضمان في إتلاف ملك
النكاح لأنه ليس بمال وذكر أنه لا [خمس] في اللؤلؤ لأنه لم
يوجف عليه بخيل ولا ركاب وقال في الصائم يأكل الحصاة لا
كفارة عليه لأنه ليس بطعام وقال في ولد الغصب إنه أمانة
لأنه لم يغصب وقال أبو حنيفة في العقارات إنها لا تضمن
لأنه لم ينقلها اعتذر عن هذه المسائل وقال: إنما قال محمد
بن الحسن ما قال في هذه المسائل على سبيل الاستدلال لا على
سبيل التحليل ووجه ذلك ان حكم العلة لابد أن يتقدم إذا
عدمت العلة كما كان تعد وما قبل العلة فإن هذه المسائل من
هذا وإنما أبينا إضافة العدم إلى عدم العلة واجبا به لأن
العدم لا يقبل الإضافة وإذا بطلت الإضافة لم يكن علة وإنما
يبقى الحكم عند عدم العلة بعلة أخرى وأما الاستدلال بعدم
العلة على عدم الحكم صحيح إذا لم توجد علة أخرى تقوم بذلك
الحكم قال فمتى اختلفنا في ضمان الغصب لم يجب بدونه وكذلك
إذا وقع الاختلاف في ضمان ما هو مال لم تجب فيما ليس بمال
لأن الضمان بشرط المماثلة يجب وإذا كان الضمان مالا المتلف
ليس بمال تزول المماثلة وذكر في كل مسألة مما ذكرنا شيئا
من هذا الجنس وأما في الشهادة فالخصم يحتاج إلى أن يثبت أن
شهادة النساء متعلقة صحتها بالمال لتنعدم بعدمه ويحتاج إلى
أن يذكر أن العتق من حكم البعضية لا غير حتى ينعدم بعدم
[البعضية] وعلى أن غاية ما في الباب أن ما تعلق بالبعضية
ينعدم بعدم البعضية إلا أن عندنا في مسألة إذا ملك أخاه لا
يتعلق ما تعلق بالبعضية وإنما يقع ما تعلق بالمجزئة
والجواب أنا في هذه المسألة لا نعلق الحكم بمجرد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المهذب للشيرازي "2/40".
ج / 2 ص -151-
العدم
وقد ذكرنا معنى في المال يوجب سهولة شأنه وحرمان المسامحة
من الشرع فيه في الحجة وذكرنا في النكاح معنى يشعر
باستقصاء الشرع فيه وإنما يحتاج إلى اعتبار القوة في الحجة
ما لا يحتاج إليه المال وقول الشافعى إنه ليس بمال وقعت به
الإشارة إلى ما ذكرناه وكذلك ذكرنا في البعضية معنى يفيد
العتق وعلى أنا سلكنا طريقة متبينة في شراء الأخ أخاه أنه
لا يعتق ويستمر ملكه وذكرنا أن الأصل في الأب والأخ
وغيرهما انتفاء العتق وإنما العتق وقع في جانب الأب معدولا
عن الأصل المعهود بعلة [المجازاة] وهذ لا يوجد في الأخ
وأبطلنا المعنى الذى ذكر من الجانبين وقدمنا بحق هذه
الطريقة في كتاب الاصطلام فليكن الاعتماد عليه وقد انتهى
الكلام في الطرد وما يتبعه وحين فرغنا من الكلام فيه رجعنا
إلى ما كنا فيه في الأصل وهو الكلام في علة القياس.
"فصل"
قال المحققون من أصحابنا: إن العلة لابد من الدلائل على
صحتها لأن العلة شرعية كما أن الحكم شرعى وكما لابد من
الدلالة على الحكم لابد من الدلالة على العلة وقد قالوا
إذا ثبت حكم متفق عليه وادعى المستنبط أنه [تحلل بمعنى
أبداه] فهو مطالب بتصحيح دعواه في الأصل وذكر بعض أهل
الجدل أنه لا يسوغ هذه المطالبة لكن على المعترض أن يبطل
معناه الذى ذكره إن كان عنده مبطل له وهذا ليس بشئ والصحيح
هو الأول وذلك لأنا قد ذكرنا فساد الطرد وذكرنا بطلان
التحكم في الدين ولابد من علة مقتضية للحكم مناسبة له
مغلبة في الظنون أنها المثيرة هذا الحكم فإذا ادعى أنه
أصابها فهو مطاب بإبدالها فإذا [اقتصر] على محض الدعوى
كانت دعواه [العلة] بمنزلة دعواه الحكم.
ببينة: أن المعلل يدعى كون هذا الوصف علة
ولابد من إقامة البرهان على الدعوى وإن قال: لا يلزمنى
إقامة البرهان فهو إذا متحكم على الشرع بعلته فهو [كتحكمه]
بالحكم فإن قال هذا المعلل: إن الصحابة نصبوا علامات1 على
الأحكام فإنا أيضا ننصب من جنس ما نصبوه فبين ذلك وبرهن
عليه فإن قال الدليل على صحة العلة عجز المعترض عن
الاعتراض قلنا: ومن أين قلت إن عجز المعترض يدل على صحة
العلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "علاها" ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -152-
فالسائل مسترشد مستهدى يطلب دليل صحة العلة لينقاد لقضيتها
والأصل أن إقامة الدليل على المدعين ولو قال المدعى عليه
للمدعى الدليل على أنى محق عجزك عن إقامة البينة هل يسمع
هذا وهل تسقط عنه اليمين فهذا هوى بين وقد يقع العجز عن
الطعن في الباطل لعدم آلته وكم من حق مستور خفى في العالم
وكم من باطل ظاهر مجهور به.
وإذا ثبت أنه لابد من الدليل على صحة العلة وقد قال القاضى
أبو الطيب الدليل على صحة العلة من أربع طرق:
أحدها: لفظ صاحب الشرع بنصه أو ظاهره أو
شبهه.
والثانى: إجماع الأمة.
والثالث: التأثير.
والرابع: شهادة الأصول.
فأما لفظ صاحب الشرع فقد يكون في الكتاب وقد يكون في
السنة.
أما في الكتاب مثل قوله تعالى:
{إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}
[المائدة: 91] وهذا عبارة عن الإسكار الذى يحدث هذه
الأشياء التي ذكرها الله تعالى وقال سبحانه وتعالى:
{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وقال تعالى:
{وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء: 20] ثم قال:
{وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] والإفضاء اسم للوطئ وقال تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ
فَلْيَسْتَأْذِنُوا}
[النور: 59] وذكر مثال هذا.
وقد ذكرنا بعض ذلك من قبل وذكر من أمثال هذا والتنبية قوله
-عليه السلام-:
"أينقص الرطب إذا جف"1وقوله -عليه السلام-:
"لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"2
وقوله:
"نهى عن بيع
مالم يقبض"3 وقوله:
"إنها من الطوافين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 أخرجه البخاري: الديات "12/209" ح "6878" ومسلم: القسامة
"3/1302" ح "25/1676".
3 أخرجه البخاري: البيوع "4/409" ح "2136" ومسلم: البيوع
"3/1161" ح "36/1526" عن ابن عمر بلفظ: من ابتاع طعاما فلا
يبعه حتى يقبضه.
ج / 2 ص -153-
عليكم"1 وقوله:
" إنما هو دم عرق"2 وفى بعض
الروايات قال لبريرة:
"ملكت بضعك فاختاري"3. وقد ذكرنا من قبل نظائر هذا.
قال: وأما الإجماع فهو دليل مقطوع به فما أجمعوا عليه من
حكم أو علة وجب المصير إليه ومثاله قوله صلى الله عليه
وسلم:
"لا يقضى القاضي وهو غضبان"4
وأجمعوا أن النهى عن ذلك لأن الغضب يشغل قلبه ويغير طبعه
ويمنعه من التوفر على الاجتهاد وكذلك على مثال قوله تعالى
{فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9].
قال: وأما التأثير فهو أن يوجد الحكم بوجود العلة ويعدم
بعدمها وذكر نظائر لهذا منها الشدة في الخمر يثبت التحريم
عند وجودها وتزول بزوالهها وكذلك الرق في علة نقصان الحد
يوجد النقصان بوجوده ويكمل بزواله وذكر مسائل من أمثال هذا
وأورد كلاما طويلا فيما وجد تأثيره من هذا الجنس وفيما لا
يوجد تأثيره من هذا الجنس وبيان هذا يدل على صحة العلة أنه
يفضى إلى غلبة الظن لأنه إذا رأى الحكم يدور مع الشئ وجودا
وعدما غلب على ظنه أن هذا الشئ هو الأمارة على ذلك الحكم
وإذا وجد عند وجوده ولم يعدم عند عدمه لم يوجد عليه الظن.
قال: وأما شهادة الأصول مثل قولنا لا تجب الزكاة في أناث
الخيل لآنه لا تجب في ذكورها فالأصول شاهدة لهذا لأنها
مبنية على التسوية بين الذكور والإناث في وجوب الزكاة
وسقوطها وهذا طريق يفضى إلى غلبة الظن لأن الإنسان إذا علم
أن فلانا إذا أعطى بناته شيئا يعطى بنية مثلها فإذا سمع
أنه أعطى البنات غلب على ظنه إعطاء البنين مثلها فثبتت أن
شهادة الأصول دليل صحة العلة من هذا الوجهه وقال: ومن نظير
ما ذكرناه قول المعلل من صح صلاته صح ظهارة وكذلك قوله من
لزمه العشر لزمه ربع العشر في مسألة زكاة الصبى وكذلك قوله
ما حرم فيه النساء حرم فيه التفرق قبل التقابض وأمثال هذا
تكثر فالأصول تشهد لصحة هذا القليل وهذا الذى ذكرنا لمجموع
كلامه واعلم أن إقامة الدليل على صحة العلة فصل مشكل وقد
اختلف الأصوليون في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه.
3 أخرجه الدارقطني: سننه "3/290" ح "170" بلفظ:
"اذهبي فقد عتق معك بضعك" انظر نصب الراية "3/204".
4 تقدم تخريجه.
ج / 2 ص -154-
ذلك
أختلافا عظيما وإن وجدنا من الأصول في الشرع وهى الكتاب
والسنة والإجماع نوع دليل على صحة العلة من نص أو تنبيه أو
إشارة أو مفهوم صرنا إلى ذلك واستدللنا بذلك على صحتها
وقدمنا ذلك على غيره مما يدل على صحة العلة إذ النص ودليله
مقدم على كل دليل عندنا فإن قال قائل فإنكم لم تقولوا بهذه
الدعوى فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في دم الاستحاضة:
"فإنه دم عرق
انفجر"1. وقال صلى الله عليه وسلم لبريرة:
"ملكت بضعك فاختاري"2. وقال صلى الله عليه وسلم في أخبار الربا:
"كيلا بكيل ووزنا بوزن"3 فالأول يدل على أن سيلان الدم وخروجه من الباطن إلى الظاهر علة
انتقاض الوضوء والثانى يدل أن ملكها نفسها بالحرية علة
ثبوت الخيار والثالث يدل أن الكيل هو العلة ولم تقولوا بشئ
من ذلك.
الجواب: إن هذه الألفاظ لها معان غير ما ظننتموها وتعرف
بمخارج الألفاظ والتأمل فيها أما اللفظ الأول فقد كان
اشتبه على السائلة أن الدم الذى تراه ما حكمه وكانت تظن أن
ذلك دم حيض فذكر الرسول صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ
ليميز بين دم الحيض ودم الاستحاضة فإن دم الحيض دم يرخيه
الرحم ويخرج من جوفه في زمان مخصوص4 تعتاد النساء ذلك بأصل
بنيتهن وخلقتهن وأما دم الاستحاضة دم ينفصل من العرق لا من
الرحم5 ولا رخاء لذلك وإن كان في الظاهر ينفصل من المحل
الذى ينفصل منه دم الاستحاضة وكانت الإشارة منه صلى الله
عليه وسلم واقعة إلى هذا وعلى أن قوله صلى الله عليه وسلم
انفجر كلمة زائدة لا يعرف [ثبوتها] وأما الذى رووا من قوله
صلى الله عليه وسلم:
"ملكت بضعك
فاختاري"6 فعلى هذا الوجه لا يعرف هذا الخبر وعلى أنه يقال لهم هل تقولون:
إنها ملكت نفسها بالعتق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه.
3 أخرجه أحمد: المسند "2/311" ح "7189".
4 وهو لغة: السيلان: مأخوذ من قولهم: حاض الوادي إذا سال
وحاضت الشجرة إذا سال منها شبه الدم وهو الصمغ الأحمر.
يقال: حاضت المرأة تحيض حيضا ومحيضا فهي حائض وحائضة: إذا
جرى دمها وتحيضت أي: قعدت أيام حيضها عن الصلاة ويسمى أيضا
الطمث والعراك والضحك والإعصاد والإبار والنفاس والفراك
والدارس انظر القاموس المحيط "حيضا" لسان العرب
"مادة/سيل".
5 المستحاض من يسيل دمها لا من الحيض بل من عرق العاذل
وحيض جبل بالطائف وتحيضت قعدت أيام حيضها عن الصلاة انظر
القاموس المحيط "مادة حيضا".
6 تقدم تخريجه.
ج / 2 ص -155-
حتى
تصير كامرأة لا زوج لها فإنها هى التي تملك نفسها على
الإطلاق ونعلم قطعا أنها لم تملك نفسها كذلك فلابد من
تأويل وتأويله ملكت الفسخ لتملكى نفسك فاختارى ثم قام
الدليل أن زوجها كان عبدا وأن ملكها الفسخ كان في هذه
الصورة وأما قوله عليه صلى الله عليه وسلم:
"كيلا بكيل"1
فهو من صلى الله عليه وسلم إشارة إلى علة الخلاص عن الربا
وقد بينا في مسائل الفروع أن قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
تبيعوا الطعام بالطعام"2 يدل ذكر
الطعام أن الطعم علة وقوله صلى الله عليه وسلم:
"الثيب أحق بنفسها من وليها"3
يدل أن الثيابة علة وقوله صلى الله عليه وسلم:
"من باع نخلا مؤبرة فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع"4 دليل أن التأبير علة في كون الثمرة للبائع وقوله تعالى
{وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
[الطلاق: 6] يدل أن الحمل علة وقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ}
[المائدة: 38] يدل أن السرقة علة وقوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] يدل أن الزنا علة وقوله صلى الله عليه وسلم في النهى عن
بيع الطعام قبل القبض5 يدل أن عدم القبض علة وأمثال هذا
توجد كثيرا وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرطب "أينقص
إذا جف" نص في التعليل به وقوله: "أينقص إذا جف"6 تقرير وأبين باستفهام مثل قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] ومعنى الخبر إذا علمت له ينقص الرطب إذا جف فلا يجوز
البيع إذا ومن البينة على العلة قوله صلى الله عليه وسلم:
"العينان وكاء السه"7 فيكون الدليل دليلا أن بزوال الاستمساك علة لإنقاض الوضوء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 أخرجه مسلم: المساقاة "3/1214" ح "93/1592" بلفظ:
"الطعام بالطعام مثلا بمثل" وأحمد: المسند "6/429" ح
"27317" بلفظ مسلم.
3 أخرجه مسلم: النكاح "2/1037" ح "67/4121" وأبو داود:
النكاح "2/239" ح "2099".
4 أخرجه البخاري: البيوع "4/469" ح "2204" ومسلم: البيوع
"3/1172" ح "77/1543".
5 تقدم تخريجه.
6 تقدم تخريجه.
7 أخرجه أبو داود: الطهارة "1/51" ح "203" وابن ماجة:
الطهارة "1/161" ح "477" والدارمي: الطهارة "1/198" "722"
وأحمد: المسند "4/120" ح "16885".
ج / 2 ص -156-
"فصل"
وأما إذا أعوز الدليل من هذا الوجه ولم يكن بد من إقامة
الدليل فقد جعل بعض أصحابنا مجرد الاطراد والجرى دليلا وقد
ابطلنا ذلك وذكر كثير من أصحابنا وأصحاب أبى حنيفة أن
الاطراد والانعكاس دليل على صحة العلة وهو أن يوجد الحكم
بوجود وصف زائد وتزول بزواله فيدل أن لذلك الوصف التأثير
في الحكم ما ليس لغيره.
واستدل من قال إن هذا دليل صحة العلة بأن العلل الشرعية
علل ظنية وليس لها عمل إلا إفادة غالب الظن ونحن نعلم قطعا
أن الحكم إذا وجد بوجود وصف وانتفى بعدمه غلب على الظن أنه
العلة وهو كالشدة في الخمر فإنه يوجد التحريم بوجودها
وينعدم بعدمها دل أنها العلة.
قالوا: ومن أنكر أن هذا يفيد غلبة الظن فقد عاند.
ببينة: أن مثل هذا يعتمد عليه في المؤثرات
العقلية فكيف لا يعتمد عليه في المؤثرات الشرعية وإذا ثبت
وجود غلبة الظن ولم يبطل كونه علة بمسلك من المسالك ثبت
كونه علة وافاد الحكم الذى بنى عليه.
وقد قيل إن الحكم إذا ربط بالطرد والتنكيس فهو في العكس
أبين من جهة أن الطارد في محل النزاع مدعى الاطراد وهو
منازع فيه لا محالة وأما الانعكاس فهو متفق عليه لأن
الانعدام عند عدم الوصف متفق عليه واعلم أن الاستدلال بهذا
الدليل في نهاية الإشكال لأنا بينا أن الاطراد ليس بدليل
على صحة العلة وهى شئ يلزم المعلل بكل حال حتى إذا لم
يطرده والتزم ما ينقضه ظلت علته على ما سنبين من بعد.
ويقال للحنفى إذا قال: إن علة جريان الربا الكيل لم قلت إن
الكيل علة؟ قال: لأنها علة مطرده قال لأنى أتبعها الحكم
أين وجد الكيل فيقال هذا باتفاق بينى وبينك
فإن قال: باتفاق لم يسلم له ذلك وإن قال: لا باتفاق لكنى
أطرد العلة وأتبع الحكم الكيل أين وجد فيقال له ليسوغ لك
ذلك فإن قال: لا كفى الخصم شغله وإن قال: نعم فيقال له لم
ساغ لك ذلك فإن قال: لأنها علة الحكم يقال: له ولم قلت
إنها علة الحكم فيعود إلى ما بينا من قبل فهو يستدل على
صحة العلة بالجريان ويستدل على صحة الجريان بالعلة وهذا
فاسد. فإن قال: ساغ لى لأنها غير منتقضة يقال: معنى قولك
غير منتقضة أنك علقت الحكم بها في كل موضع وجدت فيه العلة
ج / 2 ص -157-
فكأنك
قلت إنما ساغ لى تعليق الحكم بها لأنى علقت الحكم أين
وجدت.
فإن قال إنما ساغ لى تعليق الحكم أين ودت لأنه لم يمنع من
ذلك نص ولا إجماع.
يقال له ولم إذا لم يمنع من ذلك نص ولا إجماع وجب تعليق
الحكم بها وما أنكرت أن يكون هاهنا مانع غير ما ذكرت لأن
وجوه الفساد تكثر به فإن قال: ليس هاهنا وجه فساد.
يقال: أبعد في وجوه الفساد فقد الدلالة على صحتها.
فإن قال: نعم
قيل: فدل على صحتها واترك حديث الجريان والاطراد وإن قال:
لا يعد ذلك من وجوه الفساد رجع الأمر إلى ما سبق وهو أن
مدعى صحة العلة لابد له من إقامة الديل على صحتها.
فإن قال: ما لا يوجد فيه وجه من وجوه الفساد فهو صحيح.
قلنا قد بينا. أن هذا عدم الدليل على الصحة والفساد وعلى
أنك إذا لم تدل على وجه الصحة فيجوز أن يكون فيه وجه فاسد
وانت لا تشعر لأن الفساد كما لا يثبت إلا بدليل الفساد
فالصحة لا تثبت إلا بدليل الصحة ولأن العدم لا يدل على شئ
ما بصحة ولا فساد.
فإن قال: لو لم تكن العلة صحيحة لأعلمنا الله تعالى ذلك.
قيل له يكفى في النفى فقد دليل الإثبات ولا يكفى في
الإثبات فقد دليل النفى.
ألا ترى: أنا ننفى صلاة سادسة لفقد الدليل على وجوبها ولا
نوجبها لفقد الدليل على نفيها فلا تثبت الصحة ها هنا لفقد
دليل الفساد وهذا لأن الأصل نفى صلاة ساسة فلا ينتقل عنه
إلا بدليل.
فإن قالوا: عجز الخصم عن إفسادها يدل على صحتها.
قيل الخصم قد يعجز عن إفساد الفاسد.
فإن قيل: أليس أن المعجزة إنما صارت حجة لعدم ما يعارضها
فقد صار عدم المعارضة دليلا على صحته فكذلك ها هنا عدم
المعارض يصير دليلا لصحة العلة قلنا: العجز إنما كان حجة
لا بما قلتم ولكن بوقوعها خارجا عن معتاد قدرة البشر إلا
أن الكفار تعنتوا وقالوا هو في مقدور البشر فقيل لهم ائتوا
بمثلها ليقطع تعنتهم ثم إذا انقطع تعنتهم
ج / 2 ص -158-
بعجزهم
فالحجة صحتها بما بينا وقد كان سبق بعض هذا الكلام غير أنا
ذكرنا في هذا الموضع على وجه السؤال والجواب ما يبين أن
الإجراء والطرد ليس بدليل الصحة العلة فكذلك العكس بل هذا
أبعد لأن الاطراد يلزم المعلل والانعكاس ليس بشرط لصحة عند
أكثر الأصوليين فإن كان الإطراد الذى هو شرط العلة لا يدل
على صحة العلة فالانعكاس الذى ليس بشرط لأن لا يكون دليلا
أولى ومن جعل ما ذكرناه دليلا يجيب عن هذا فيقول إن مجموع
الأمرين يفيد غلبة الظن في انتصاب الشئ علما على الحكم ومن
زعم أنه لا يفيد لابد أن ينسب إلى العناد وإن سلم فالقائس
غايته إظهار علم على الحكم بجهة تفضى إلى غلبة الظن.
وعندي: أن الإشكال لا يزول بهذا ويدخل على ما ذكروا فصل
الشرط الذى قدمنا فإنه يوجد عند وجوده ويعدم عند عدمه وليس
بعلة ومن يقول إنه علة ولا يفرق بين اشرط والعلة فهو مجازف
ولأن الشئ قد يوجد عند الشئ اتفاقا وينعدم عند عدمه اتفاقا
ولا يدل على أنه علة.
وقد حكى الإمام أبو المعالى عن الأستاذ أبى إسحاق أن
الدليل على صحة العلة إنما يكون بتقرير إحالته ومناسبته
للحكم مع سلامته عن العوارض والمبطلات ومطابقته الأصول
وعبر عن هذا فقال وأنا أقرب في ذلك قولا فأقول إذا ثبت حكم
في أصل وكان يلوح في سبيل الظن استناد ذلك الحكم إلى أمر
ولم يناقض ذلك الأمر بشئ فهذا هو الضبط الأقصى الذى ليس
عليه مزيد فإذا أشعر الحكم في ظن الناظر بمقتضى استناد
إليه فذلك المعنى هو المظنون علما وعلة لاقتضاء الحكم ثم
سأل على هذا سؤالا فقال فإن قيل: الإخالة مع السلامة هي
الدالة على صحة القياس إذا لا ما اعتمدتم عليه من إجماع
الصحابة.
قلنا: إذا أثبت الإخالة ولاحت المناسبة واندفعت المبطلات
التحق ذلك بمسالك نظر الصحابة فالدليل على القياس إجماعهم
لكن إجماعهم هو على مثل هذا القياس ثم سأل سؤالا فقال
المآخذ على هذا الوجه محصورة والوقائع غير محصورة فكيف
يستند ما لا نهاية له إلى المتناهى وقال إن هذا السؤال عسر
جدا.
قال الإمام جمال الإسلام: وعندي هذا السؤال ليس يدخل على
فصل الإخالة وإنما هو إشكال إن كان في مسألة القياس أنه
حجة أو لا وليس يتصور فرع يقع إلا ويستند ذلك إلى أصل
مناسب له ويكون معنى الأصل مؤثرا فيه وقد ذكر بعض
الأصوليين
ج / 2 ص -159-
فى
الدليل على صحة العلة طريق السبر والتقسيم وهو أن يبحث
الناظر عن المعانى في الأصل ويتتبعها واحدا واحدا وبين
خروج آحادها عن الصلاح للتعليل به إلا واحدا يرضاه.
واعلم أن الفصل اختلف فيه أهل الأصول وهو أن القائس إذا
خالفه قائس آخر في علة الأصل فأبطل هذا القائس علة خصمه هل
تصح علته؟ فبعضهم قال: يدل ذلك على صحة العلة مثل الحنفى
يبطل علة الكيل فتصح بذلك علته التي يدعيها لأن القائلين
بالقياس اتفقوا على أن إحدى العلتين صحيحة والأخرى باطلة
فإذا بطلت إحدى العلتين صحت الأخرى ضرورة وهذا الوجه في
تصحيح العلة ضعيف لأن البطلان ضد الصحة فكيف يكون دليل
الصحة ولأن الصحة لا تدل على الصحة مع تجانسها فكيف يدل
البطلان على الصحة مع تضادهما وهذا لأنه يجوز أن تكون
العلتان جميعا فاسدتين ويكون الصحيح العلة الثالثة ويجوز
أن لا يكون المنصوص عليه معلولا بعلة ما وأيضا فإن العلم
ببطلان إحدى العلتين لا يدل على صحة العلة الأخرى إذا توهم
البطلان قائم في العلة الأخرى ولأن شرط صحته العلة أن يكون
مخيلا مقتضيا للحكم الذي ربط به وإن بطلت العلة الأخرى لا
يثبت هذا المعنى لهذه العلة وقولهم إنهم اتفقوا على أن
إحدى العلتين صحيحة قلنا ليس على هذا الوجه بل كل فريق
يقول علتى صحيحة وعلة الخصم باطلة وإن بطلت علته لا يعترف
بصحة علة الخصم لأنه مقيم على اعتقاد بطلان علة الخصم سواء
صحت علته أو بطلت.
فإن قيل: قد اتفقوا أن هذا الأصل معلول وإذا اتفقوا أنه
معلول فلابد أنه إذا بطلت إحدى العلتين صحت الأخرى.
قلنا: إنما اتفقوا على أن الأصل معلول بعلة صحيحة لو وجدت
فإذا لم نجد علة صحيحة لا يكون معلولا ونقول أن بطلت علتي
ولم يدل البطلان على صحة علتك بقيت علتى صحيحة وعلتك غير
مدلول على صحتها فيكون الأصل من قبيل ما هو معلول إلا أن
تأتى بعلة وتدل على صحتها.
وذكر أبو زيد عن بعضهم أن العلة المخيلة ما يوقع في القلب
خيال الصحة وذلك بالملاءمة والصلاحية.
وتقسيم الملاءمة أن يكون على وفق ما جاء به الشرع من
المقاييس المنقولة عن السلف وعن الصحابة. قال: وعلماؤنا
قالوا ما لم يقم الدليل على أن الوصف ملائم
ج / 2 ص -160-
لا
يقبل التعليل ولا يلتفت إليه وإذا صار ملائما يعمل به إلا
بسبب العدالة وذلك بكونه مؤثرا في ذلك الحكم كالشاهد لابد
أن يأتى بلفظ الشهادة لأنه الملائم للشهادة ولابد بعد ذلك
من التعديل والتعديل هناك مثل التأثير ها هنا فإن عمل قبل
التأثير يصح وإن عمل قبل الملائمة لا يصح كالشهادة لو عمل
القاضى بها بلا لفظ الشهادة لا يصح واستدل في أن الإخالة
ما أوقع في القلب خيال الصحة لأن العلة ما تغير الحكم لعلة
المريض تغير وصفه والمغير لابد أن يكون لتغييره أثر لأن ما
لا يحس لا يعرف ثبوته بآثار محسوسة فما لا أثر له لا يكون
علة ثم هذا الأثر ليس مما يحس لكنه مما يعقل فيجب الرجوع
إلى القلب وشهادته تحكيمة كما قيل في أمر القبلة إذا اشتبه
ولم يبق عليها دليل يحس وجب الرجوع إلى القلب وشهادته فإذا
شهد القلب بصحته قبلت الشهادة وقد قال النبي صلى الله عليه
وسلم:
"الإثم ما
حاك في قلبك وإن أفتاك الناس"1
والاعتراض على هذا الفصل هو إن الإخالة بما يقع في القلب
تكون حجة يقع في قلبه ولا يكون حجة على غيره وكذلك في أمر
القبله إذا اختلفت الجهات بجماعة لا يكون قول بعضهم حجة
على البعض2.
قال: ولأن كل معلل يمكنه أن يقوله قد وقع في قلبى خيال
الصحة فيصير قوله معارضا لقول صاحبه فبطل دعوى الإخالة
بهذا الوجه.
وذكر أبو زيد أن الطريق الصحيح في تصحيح العلل أن يكون
الوصف ملائما للحكم.
ويستدل على الملاءمة بدليل يمكن الوقوف عليه بأن التمثيل
وهو أن يبنى عمل مثل ذلك الوصف في أصول الشرع وهذا لأن
الوصف مع صلاحه وملاءمته للحكم يحتمل أن لا يكون علة فلابد
من دليل عليه ولا دليل عليه سوى الاستشهاد بأصل صحيح ثابت
لترجيح جهة الصواب على جهة الغلط وذكر على هذا مسألة
الإفطار بالأكل وأنه يوجب الكفارة. والعلة إنه إفطار كامل
والاستشهاد عليه بالوطء وذكر مسألة السلم الحال وأن المفسد
له العجز عن التسليم والاستشهاد بكل عقد يوجد فيه العجز عن
تسليم المبيع.
وذكر مسألة حرمة المعاهدة وأن علة إثباتها البعضية
والاستشهاد عليه بالوطء الحلال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي: البيوع "2/320" ح "2533" وأحمد: المسند
"4/279" ح "18022".
2 انظر المغنى "1/470".
ج / 2 ص -161-
والوطء
بالشبهة وذكر هو غيره ممن ينصر طريقته كلاما طويلا في
الأصول التي صنفوها فجعلت فيه هذا القدر وهو الذى يفهم
ويقع في القلب من التطويل العظيم في كلامه وجعل يردد هذا
المحرف وهو أن ما لا يحس يعرف بأثره فيعرف صحة العلة ببيان
أثرها واستشهد بالشهادة في عامة كلامه في هذا الفضل وقال
عدالة الشاهد إنما تثبت بأمر دينه في منعه من ارتكاب ما
اعتقده حراما بدينه فيستدل به على منعه من الكذب الذى هو
حرام في دينه فكذلك عدالة الوصف الذى هو بمنزلة الشاهد على
الحكم إنما يعرف بأثره في إيجاد مثل هذا الحكم في موضع آخر
بالإجماع ليصير الأثر الموجود دليلا على نظيره ويكون
استدلالا بوجود معلوم ولا بعدم ولا بشيء لا يطلع عليه ولا
يجوز المحاجة به وهذا إنما يقوله على من يجعل دليله في صحة
العلة عدم قيام الدليل على فساده ويقول من يتعلق بذلك
الدليل على صحة العلة متعلق بمحض العدم.
قال ولأنا ذكرنا أن الحكم كما يوجد مع العلة ويطرد معه
فكذلك يوجد مع الشرط ويطرد معه فلابد من دليل آخر يميز بين
الشرط والعلة وذلك في بيان الأثر وأنه لا أثر للشرط في
إيجاب الحكم وللعلة أثر فهذا الذى ذكرت قدر ما وجدت من
كلام المحققين في بيان الدليل على صحة العلة.
واعلم: أن الاشتغال بدليل الإطراد بمجرده لا معنى له وكذلك
بدليل الإطراد والانعكاس وإن كان هذا أمثل من الأول وأوقع
في القلب ولأصحابنا العراقيين شغف عظيم بهذا ولعل بعضهم
يقول لا دليل فوق هذا ولكن الاعتراض الذى قلناه اعتراض
واقع.
وأما الاستدلال بشواهد الأصول فضعيف أيضا كثرة الشواهد لا
يكون فيها دليل كثير وهذا لأن الوصف هو المقتضى للحكم فلا
بد من بيان معنى في الوصف يدل على الاقتضاء حتى تصح العلة
وأما إبطال علة الخصم وطلب تصحيح العلة بهذا الطريق فضعيف
أيضا بما قد بينا فلم يبق في الدليل على صحة العلة سوى
الإخالة والمناسبة.
وقد ذكر أبو الحسين البصرى في أصوله أن مما يدل على صحة
العلة أن يكون الوصف مؤثرا في قبيل ذلك الحكم لأن العلة ما
يؤثر في الحكم وما لا يؤثر لا يكون علة.
قال: وهذا كالبلوغ يؤثر في رفع الحجر عن المال فكان أولى
أن يكون علة في رفع
ج / 2 ص -162-
الحجر
عن النكاح من الثيوبة لأن الثيوبة لا تؤثر في جنس هذا
الحكم الذى هو رفع الحجر1.
واعلم أنا بينا تأثير الثيابة في مسائل الخلاف في الفروع
وأوردنا ما فيه الكفاية ورجحنا اعتبار الثيابة على اعتبار
الصغر وتركنا إيراد ذلك في هذا الموضع واعلم أن مجموع ما
يحصل من معنى الإخالة والمناسبة وهو أن يقال دليل صحة
العلة وجود وصف مناسب للحكم مخيل مؤثر في إثباته متى عرض
الوصف على قواعد الشرع وقوانينه وأصوله فإذا وجد الوصف
بهذا الحد عرف صحته وهذا أمر لا يتم بالمكابرات والمعاندات
وإنما يعرف ذلك بعرضه على أصول الشرع وقواعده وبيان هذا في
الشدة المسكرة: فإنا نقول: إنها العلة في تحريم الخمر
ونقيس النبيذ على الخمر بهذا الوصف وهذا وصف مناسب للحكم
مخيل مؤثر في إثباته ونعنى بالتأثير إشعاره في القلوب
وقبولها لذلك الحكم بتلك العلة ووجود شاهد الأصل على ذلك
وكذلك الطعم مشعر بالتحريم بالوجه الذى ذكرناه في كتاب
الاصطلام وقد أبى بعض أصحابنا وجود معنى في الطعم يؤثر في
الحكم ويشعر وجعل يلوذ بالخير واللياذ بالخير وإن كان حسنا
لكنا ندعى إن علة الربا علة مستنبطة لا منصوص عليها وقد
استنبط الشافعى علة الطعم واستنبط أبو حنيفه علة الكيل
فلابد من إقامة الدليل على تصحيحه من حيث الإخالة
والمناسبة وفى هذا خطب عظيم ولا يمكن إقامة الدليل عليه
إلا بعد معرفة حكم النص ولابد من الإعراض عن الترجيحات لأن
الحاجة ماسة إلى إقامة الدليل على تصحيح العلة فلا معنى
للاشتغال بالترجيح وعندنا أن الكيل علة فاسدة وليس لها
مناسبة لحكم النص بوجه ما.
وأما الطعم فهو المخيل المشعر بثبوت حكم النص فذكر الترجيح
في مثل هذا يبعد فدل أنه لابد من ذكر دليل في نفس الطعم
وأنه علة وقد أوردنا وحققنا وليس هذا الكتاب لمسائل الفروع
وإنما هو لمسائل الأصول وعلى الأصل الذى أوردناه مسألة بيع
الفاسد فإن الفساد مشعر بانتفاء الحكم وفى مسائل النكاح
بغير ولى الأنوثة مشعرة ببقاء الولاية للمرأة في الأنكحة
والبكارة مشعرة بثبوت الإجبار وأمثال هذا يكثر فهذا هو
الأصول وعلى أمثالة هذه العلل ينبغى أن يقع الاعتماد من
الله المعونة والتوفيق بمنه.
وحين وصلنا إلى هذا الموضع فنقول قد بينا أن الاطراد ليس
بدليل لصحة العلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المعتمد "2/448, 449".
ج / 2 ص -163-
لكنه
شرط لصحة العلة وسيأتى هذا من بعد فأما الانعكاس ليس بشرط
ونذكر هذه المسألة في هذا الموضع.
مسألة: اعلم أن الانعكاس ليس بشرط لصحة العلة في قول أكثر
الأصحاب:
وهو قول جمهور من انتمى إلى الأصول من الفقهاء وهو أيضا
قول بعض المتكلمين وذهب بعض أصحابنا إلى أن الانعكاس شرط
فإذا ثبت الحكم بوجود العلة ولم يرتفع بارتفاعها بطلت
العلة وهو قول بعض المعتزلة1. ويعلق من ذهب إلى هذا بالعلل
العقلية. وقال: العلل الشرعية وإن كانت مظنونة ولكن ينبغى
أن تكون على مضاهاة العلل العقلية إلا في كون إحديهما
معلومة والأخرى مظنونة ثم العلل العقلية يجب انعكاسها كذلك
العلل السمعية ولأن العلل الشرعيه إنما تفيد الحكم لآنها
تفيد غلبة الظن فإذا وجد الحكم بوجود الوصف ولم ينعدم
بعدمه ولم يفد غلبة الظن فلا يبقى حجة.
وأما دليلنا نقول: العلة المنصوبة للإثبات فلا تدل على
النفى وكذلك إذا نصبت للنفى لا تدل على الإثبات.
فنقول علة منصوبة فلا يطلب منها إلا التأثير في ذلك الحكم
كالعلة المنصوص عليها لا يطلب منها إلا إثبات الحكم الذى
تناوله النص وهذا لأن المقصود من التعليل إثبات الحكم دون
نفيه فلا يعمل في النفى لأن العلة إنما تعمل فيما قصد
بالعلة.
ونقول أيضا إن العكس لو كان شرطا لكان لا يقتل إلا قاتل من
حيث كان القتل علة قتل القاتل أو لا يقتل إلا مرتد فإذا
كان الحكم الثابت بعلة تطرد مع ارتفاعها لوجود علة أخرى
تخلفها عند ارتفاعها دل ذلك أن الانعكاس ليس بشرط.
فإن قالوا: إن القتل قصاصا قد لنعدم بعدم القتل وكذلك
الفعل بالردة لنعدم بعدم الردة وإنما تقتل بعلة أخرى.
قلنا: فإذا كان وجوب القتل بعلة القتل من حيث انعدام وجوب
القتل عند عدم القتل فإذا حدث علة أخرى للقتل فينبغى أن
يحكم بتعارض ما يوجب القتل وما لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحكام الأحكام "3/338" المستصفى "2/344" البرهان
"2/842" نهاية السول "4/183".
ج / 2 ص -164-
يوجب
القتل ويسقط القتل لأن الدليل الشرعى دليل مثل الدليل
العقلى ثم الدليل العقلى يجوز أن لا يدل على وجود الحكم في
الموضع الذى وجد فيه الحكم ثم ينعدم ويثبت الحكم بدليل آخر
فكذلك الدليل الشرعى يجوز أيضا أن يكون كذلك بل هذا أولى
لأن الدليل العقلى قد صار دليلا بنفسه والدليل الشرعى إنما
صار دليلا بجعل جاعل فإذا لم يكن هذا شرطا في الدليل
العقلى ففى الدليل الشرعي أولى وقد ظهر بهذا الجواب عما
تعلقوا به وقد ظهر الذى قالوه لا يشرط في الدليل العقلى
وفى الحسيات أيضا ليس كل من نصب علما على إثبات شئ ينبغى
أن ينصب علما على ضده.
وأما قولهم إن قوة الظن تذهب بعدم الانعكاس دعوى لا دليل
عليها وعلى أنا بينا أن الدليل على صحة العلة الإخالة
والمناسبة وذلك قائم وإن لم ينعكس وهذا هو الدليل المعتمد
وإذا بقى الدليل على صحة العلة بقيت العلة مفيدة لحكمها ثم
إذا انعدمت العلة فيجوز أن يقوم دليل آخر على بقاء الحكم
ويجوز أن يدل دليل فينتفى لعدم الدليل.
ويقال أيضا إن العلة الشرعية أمارة فيجوز أن يدل على الحكم
الواحد أمارتان أيهما وجدت دلت عليه فإحدى الأمارتين وإن
عدمت بقى الحكم بالأمارة الأخرى ولم يدل ذلك على أن
الأمارة الأخرى لم تكن صحيحة1. والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان "2/842" المحصول "2/243" جوامع الجوامع
"2/287" إحكام الأحكام للآمدي "3/338" فواتح الرحموت
"2/203" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/102".
فصل: قد فرغنا من ذكر قياس المعنى فهذا قياس
الشبه2:
وقد اختلف العلماء في كونه حجة في الأحكام أو ليس بحجة.
مسألة:
اعلم أن ظاهر مذهب الشافعى رحمة الله أنه حجة وقد أشار إلى
الاحتجاج به في مواضع من كتبه وأقرب شئ في ذلك قوله: في
إيجاب النية في الوضوء كالتيمم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 الشبه جاءفي اللغة من معانيه الآتية:
الشَّبَه والشَّبِه والشبيه المثل والمثيل والجمع: أشباه
ونقول: أشبه الشيء الشيء ماثله وبينهما شبه وشبهه إياه
وشبهه به مثله به والشبه هو المشاركة بين اثنين في أمر من
الأمور حسيا =
ج / 2 ص -165-
طهارتان فكيف يفترقان وتابعه أكثر الأصحاب على ذلك غير أبى
إسحاق المروزى فإنه روى عنه أنه قال: ليس بحجة.
وقال الشافعى في أدب القاضى القياس قياسان:
أحدهما: ما كان في معنى الأصل.
والآخر: أن يشبه الشيء بالشئ من أصل ويشبه
[الشئ]1 من أصل [غيره]2 ثم قال: وموضع الصواب عندنا في ذلك
أن ينظر إن أشبه أحدهما في خصلتين وأشبه الآخر في خصلة
ألحقه بالذي أشبه في خصلتين3.
قال بعض أصحابنا: إن قوله هذا يدل على أنه حكم بكثرة
الأشباه من غير أن يجعلها على الحكم.
وقال بعضهم: إنما حكم بترجيح إحدى العلتين في الفرع بكثرة
الشبه.
وقال كثير من أصحاب أبى حنيفة أن قياس الشبه ليس بحجة
وإليه ذهب من ادعى التحقيق منهم وصار إليه القاضى أبو زيد
ومن تبعه وذهب إلى هذا القول أيضا:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أو معنويا والتشابه: هو الالتباس وعدم التميز بين
الأمور.
ويقولون: اشتبهت الأمور وتشابهت فلم تتميز فكان بخلاف
الشبه انظر لسان العرب مادة "شب" القاموس المحيط "4/286"
الشبه عند الأصوليون بطلاق بإطلاقين:
أحدهما: الطريق المثبت لكون الوصف علة وثانيهما: عليته
بهذا الطريق: وقد اختلف الأصوليون في تعريفه بالإطلاق
الثاني ونشأ عن ذلك اختلافهم في الشبه بالإطلاق الأول
فعرفه بعضهم بقوله: الوصف الشبهي: هو الذي لم تظهر مناسبته
بعد البحث التام ولكن عهد من الشارع الالتفات إليه في بعض
الأحكام. مثل الطهارة بالنسبة لتعيين الماء في إزالة
النجاسة فإنها وصف لم تظهر مناسبته لتعيين الماء ولكن عهد
عن الشارع اعتبار الطهارة بالماء في الوضوء.
وعرفه القاضي أبو بكر الباقلاني بأن الشبه هو الوصف
المقارن للحكم وكان مناسبا له بالتبع دون الذات وعرفه
بعضهم بأن الشبه هو الوصف الذي علم اعتبار جنسه القريب في
جنس الحكم القريب من غير مناسبة بالذات انظر إحكام الأحكام
"/3/423, 424, 425" نهاية السول "4/106, 107" فواتح
الرحموت "2/301, 302" المحصول "2/344, 345" جمع الجوامع
"2//286, 287" أشول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير
"4/100, 101" الصالح في مباحث القياس عند الأصوليين "329,
330, 331".
1 زيادة ليست في الأصل.
2 ثبت في الأصل"غيرهم".
3 انظر مختصر المزنى بهامش الأم "5/242".
ج / 2 ص -166-
القاضى
أبو بكر والأستاذ أبو منصور البغدادي1.
ثم اعلم أن الشبه ضربان:
أحدهما: في الأحكام.
والثانى: في الصورة.
فأما الشبه في الأحكام فقد ذهب عامة أصحابنا إلى جواز
التعليل به كوطء الشبهة مردود إلى النكاح في سقوط الحد
ووجوب المهد لشبة بالوطء في النكاح في الأحكام.
وأما الشبه في الصورة فكقياس الخيل على البغال والحمير في
سقوط الزكاة بصورة الشبه أو كقياس الخيل على البغال
والحمير في حرمة اللحم كقول القائل: ذو حافر أهلى وقد جعل
بعضهم مثل هذا القياس حجة لأن الشبه قد وجد.
قال: وإذا جاز أن يعلل الأصل بصفة من ذاته جاز أن يعلل
بصورة من صفاته ولأن العلل أمارات فيجوز أن يكون الشبه في
الصورة أماره على الحكم كما يجوز أن الشبه في المعنى أو في
الحكم أمارة على الحكم وهذا ليس بصحيح.
والصحيح أن مجرد الشبه في الصورة لا يجوز التعليل به لأن
التعليل ما كان له تأثير في الحكم بأن يفيد قوة الظن ليحكم
بها والشبه في الصورة لا تأثير له في الحكم وليس هو مما
يفيد قوة الظن حتى يوجب حكما.
وقد استدل من قال: إن قياس الشبه ليس بحجة بأن المشابهة في
الأوصاف لا توجب المشابهة في الأحكام فإن جميع المحرمات
يشابهه بعضها بعضا في الأوصاف ويختلف في الأحكام ولأن
المشابهة فيما لا يتعلق بالحكم لا توجب المشابهة في الحكم
لأن العلة هى الجالبة للحكم فيما لا يتعلق به الحكم لا
يجلب الحكم ولأن من جعل الشبه حجة لا يخلو إما أن يجعل
المشابهة بهذا في جميع الأوصاف حجة أو يجعل المشابهة في
بعض الأوصاف حجة فإن جعل المشابهة في جميع الأوصاف حجة
فهذا لا يوجد وإن جعل المشابهة في بعض الأوصاف حجة فإذا لم
يكن لذلك الوصف تأثير في الحكم فليس بأن يجعل المشابهة في
ذلك الوصف علة للمشابهة للحكم بأولى بأن يجعل المفارقة في
غيرها من الأوصاف علة للمفارقة في الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان "2/842" المحصول "2/345" جمع الجوامع
"2/287" إحكام الأحكام "3/338" فواتح الرحموت "2/301, 302"
أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/102" الصالح في
مباحث القياس "235, 236".
ج / 2 ص -167-
قالوا:
وأما المكاتب فنحن لا نقول: ألحق بالأحرار لمشابهته
بالأحرار فإن العبد يشبه الأحرار في معانى كثيرة ومغ ذلك
لا يلحق بالأحرار وكذلك الدواب تشبه بنى آدم في صفات خمس
ولا يلحق هذا الشبه ببنى أدم ولكن المكاتب حر يد أثبتت له
بحكم عقد الكتابة ورقيق رقبة فلحرية يده يستحق ما يستحق
الحر بيده ولرق رقبته لا يستحق ما يستحقه الحر برقبته.
والصحيح: أنه ثبت له أحكام الأحرار بالكتابة نظرا له ليصل
إلى الحرية مع بقاء الرق على الكمال.
وقد قال أيضا من يرد قياس الشبه أن مجرد الشبه صورة أوحكما
لا يشعر بمناسبة بين العلة والحكم لجواز افتراق المحلين في
الحكم.
وبيانه: أن من قاس الوضوء على التيمم في إيجاب النية بقوله
طهارة فليس في قوله طهارة ما يؤثر في إيجاب النية ويجوز
افتراق الوضوء والتيمم في حكم النية وغيرها فلا يدل نفس
وجوب النية في التيمم على وجوبها في الوضوء فلابد من
اجتماعهما في المعنى الذى يوجب نية الفعل إذا اتصف بكونه
طهارة حتى إذا اجتمع الفعلان في وصف الطهارة يجتمعان في
الحكم وعلى هذا من علل في منع قتل الحر بالعبد يقول قصاصا
وقاس على الطرف فيقال نفس قول قصاص لايدل على امتناع
الجريان ويجوز أن يمنع الحكم بين الطرف والنفس في ذلك
المعنى ليجتمعان في حكم النفى وأمثال هذا تكثر جدا يدل
عليه أنه ليس الشبه إلا اشتراك الشيئين في وجه من الوجوه
وإن اشتركا في وجه من الوجوه افترقا في كثير من الوجوه ومن
اكتفى بمجرد اشتراك في الشبه بوجه ما يعارض بمجرد افتراق
الشبه بوجه ما أو بوجوه شتى لأن وجوه الافتراق في الأشياء
أظهر من وجوه الاجتماع فدل على أن قياس الشبه بنفسه لا
يكون حجة.
ويقولون أيضا: قولك إن الفرع كالأصل في الحكم أبعلم تقول
هذا أم أبظن أو لا بعلم ولا بظن؟ فإن قلت: بعلم فأين العلم
وإن قلت بظن فأين الظن وهذا لأن العلم والظن لابد لهما من
مستند فاذكر المستند حتى يصح قولك إنه بعلم أو بظن وإلا
فهو هذيان وإن قلت لا بعلم ولا بظن فحكم الله تعالى لا
يثبت بالجزاف.
وإن قلت: تشابههمافى وجه يغلب على الظن تشابههما في الحكم
فهذا دعوى مجردة وإن كانت المشابهة في وجه يفيد ظنا
فالمفارقة في سائر الوجوه تبطل الظن
ج / 2 ص -168-
وتشوش
على الظان ظنه.
وقالوا أيضا: إن الأصل في القياس هم الصحابة والمنقول من
الصحابة النظر إلى المصالح والعلل المعنوية فأما مجرد
الشبه فلم ينقل عنهم بوجه ما.
وأما دليل من جعل قياس الشبه حجة فنذكر أولا الفرق بين
قياس المعنى وقياس الشبه والطرد ويمكن أن يقال: على
الإطلاق قياس المعنى تحقيق وقياس الشبه تقريب وقياس الطرد
تحكم.
ونقول: إن قياس المعنى ما يناسب الحكم ويستدعيه ويؤثر فيه
ويقتضيه وهو تعليق التخفيف بما يوجب التخفيف وتعليق
العقوبات بالجنايات وتعليق وجوب الحق بالايجابيات وأمثال
هذا تكثر وأما الطرد فعلى عكس هذا هذا فإنه تعليق الحكم
بما لا يناسب الحكم ولا يشعر به ولا يقتضيه وقد سبق بيان
هذين جميعا والكلام فيهما.
واما قياس الشبه فلابد وأن يكون في فرع يتجاذبه أصلان
فيلحق بأحدهما بنوع شبه يقرب من غير تعرض لبيان المعنى
ونعنى بالمقرب شبها يقرب الفرع من الأصل في الحكم المطلوب
ويجوز أن يقال قياس يشعر باجتماع في حكم من غير بيان
المعنى وقد استدل من جعله حجة بأن الشرع ورد باعتبار الشبه
في جزاء الصيد وباعتبار الأشباه في العدالة والفسق يعنى
اعتبار السدد في القول بالسداد في الأفعال وبذلك عدم
السداد في القول بعدم السداد في الأفعال وكذلك ورد الشرع
باعتبار الأشباه في الضيافة وأيضا فإن القياس ليس إلا
بمثيل الشئ بالشئ وتشبيهه به والشئ إنما يمثل بما يشتبهه
ويجانسه فيجب إلحاق الشئ بما يشابهه ويجانسه جريا على هذا
الأصل.
يدل عليه: أن التساوى في الذوات والأوصاف يوجبه التساوى في
الأحكام فإن المستويين ذاتا ووصفا يستويان في الحكم لتحقيق
التساوي.
ألا ترى أن المكاتب ملحق بالأحرار في كثير من الأشياء وليس
ذلك إلا باعتبار مجرد الشبه والمعتمد من الدليل أنا أجمعنا
أن قياس المعنى حجة ولا موجب لكونه حجة إلا أنه يفيد قوة
الظن أو يخيل في القلب أنه متعلق بذلك المعنى فإن طريق
العلم القطعى مسدود مردوم ومثل هذا المسلك يوجد في قياس
الشبه ولا يعرف هذا إلا ببيان المثال هذا قول تعالى القائل
في الوضوء: إنه يجب فيه النية إنه طهارة حدث فيجب فيها
النية كالتيمم أو يقول في مسألة المضمضة والاستنشاق: إنهما
لا يجبان في الغسل من الجنابة إنه غسل حكمى فلا يتعدى من
الظاهر إلى داخل الفم والأنف كغسل الميت
ج / 2 ص -169-
وكذلك
قوله القائل في زكاة الصبى زكاة فتجب على الصبى كزكاة
الفطر.
ويقول في مسألة تبييت النية صوم فرض فلا يتأدى بنية من
النهار كالقضاء ويقول في نفى القصاص عن الحر بقتل العبد
قصاص كالطرف وأمثال هذا لا تعد ولا تحصى كثرة.
فنقول في هذه الأقيسة إن هذه الأقيسة مغلبة للظن مفيدة
قوته في كون الحكم على ما نصب له المعلل فإنه يغلب على ظن
كل عاقل شبيهة الوضوء بالتيمم وشبيهة الغسل بالغسل والزكاة
بالزكاة والصوم بالصوم والقصاص بالقصاص.
ومن قال: إن هذا لا يفيد غلبة الظن فلا شك أنه معاند.
ونقول في قول الشافعى في الوضوء والتيمم إنهما طهارتان
فكيف يفترقان لمن يأتى هذا القياس أيغلب على ظنك كون
الوضوء مثل التيمم فإن كل واحد منهما طهارة عن حدث لا يعقل
معناه وقد غلب التعبد على كل واحد منهما؟ فإن قال: نعم
فهذا هو الذى قصدناه من وجود غلبة الظن وهو أيضا معنى شبه
التقريب الذى ادعيناه. وإن قال: لا يغلب على ظنى فلا شك
أنه معاند ولهذا الذى قلناه عسر الفرق بين الوضوء والتيمم
على المفرق بينهما ولهذا سوى الأوزاعي وهو أحد أئمة الدنيا
بينهما في نفس وجوب النية وعلى هذا جملة ما ذكرنا من
المسائل وكذلك قول القائل في مسألة ظهار الذمى من صح طلاقه
صح ظهاره فهذا مفيد لقوة الظن بقرب حكم الفرع من حكم الأصل
في الذى نصب له العلة لأن كل واحد منهما بملك النكاح وكل
واحد منهما يحرم البضع مع كون الزوج مالكا للبضع متمكنا من
التصرف فيه بالتحريم على وجه ينفرد بإثباته ومما يؤيد ما
ذكرناه من التعلق بقياس الشبه أن القياس إنما أطلقه الشرع
في أصل الأحكام لضرورة الحاجة فإنا قد ذكرنا أن النصوص
متناهية والحوادث غير متناهية ولله تعالى في كل حادثة حكم
لو لم يجز القياس أدى إلى التوقف في كثير من الأحكام
المطلوبة إقامتها بين الناس.
وإذا عرفت هذا الأصل فنقول: لابد من وضع الأقيسه على وجه
يسهل طلبها ووجودها ليتيسر بناء الأحكام عليها ولا يشتد
باب البحث على العلماء فيها فإذا قلنا: إن القياس الصحيح
هو قياس المعنى فهذا وإن وجد في كثير من الأحكام والأصول
ولكن ليس مما يسهل وجودها فإنا نعلم أن كثيرا من أصول
الشرع يخلو عن المعانى خصوصا في العبادات وهيئاتها
والسياسات ومقاديرها وكذلك شرائط المناكحات
ج / 2 ص -170-
والمعاملات ثم تلك الأصول لها فروع وتلك الفروع تتجاذبها
أشباه وإذا كانت المعانى تعدد في الأصول فكيف يسهل وجودها
في الفروع فلم يكن بد في استعمال القياس لكن مع الحيد عن
طريقة الطرد لأن غلبة الظنون لابد منها ولا ضرورة في
استعمال مجرد الطرد الذى لا يفيد ظنا أصلا فجعلنا غلبة
الأشباه والقياس المنصوب في هذه الجهة مع وجود ما يقرب في
الظن إلحاق الفرع بذلك الأصل وجعله في مسلكه وضمنه إلى
مسلكه حجة ثم ظهور الفرق يكون محصلة واحدة وهو عسر الفرق
على الفارق بين الوضوء والتيمم وزكاة الرأس وصدقة الماشية
وصدقة النبات وكذلك الفرق بين القصاص في الطرف والقصاص في
النفس ويعضد هذا الكلام بالأصل المعهود وهو أن الأقيسة
الشرعية أمارات وعلامات وليس بموجبات وفى الأمارات
والعلامات من سهولة المأخذ ما لا يوجد في الموجبات.
والقول الجامع: إن التأثير لابد منه إلا أن التأثير قد
يكون بمعنى وقد يكون بحكم وقد يكون بغلبة شبه فإنه رب شبه
أقوى من شبه آخر وأولى بتعليق الحكم به لقوة أمارته والشبه
قد يعارضه شبه آخر فربما يظهر فضل قوة أحدهما على الآخر
وربما يخفى ويجوز أن ترجع الشبهات إلى أصل واحد ويجوز أن
ترجع إلى أصلين فلا بد من قوة نظر المجتهد في هذه المواضع
وهذا كالعبد يشبه الحر من حيث إنه آدمى مكلف ويشبه الأموال
والسلع من حيث إنه مال مملوك والجص يشبه البر من حيث إنه
مكيل ويفارقه من حيث إنه ليس بمأكول وعلى عكس ذلك الرمان
والسفرجل يشبه البر من حيث إنه مأكول ويفارقه من حيث إنه
ليس بمكيل وكذلك الذرة وما يشبه ذلك.
وقد قال القاضى أبو حامد المروروزي في أصوله: إنا لا نعني
بقياس الشبه أن يشبه الشئ بالشئ بوجه أو أكثر من وجه لكن
نعنى أن لا يوجد شئ أشبه به منه ومثال هذا لا يوجد شئ أشبه
من الوضوء بالتيمم وكذلك في الزكاة والزكاة وكذلك القصاص
في الطرف والنفس فإنه لا يوجد شئ أشبه من القصاص في الطرف
بالقصاص في النفس أو على عكس هذا لأن إلحاق الشئ بنظائره
وإدخاله في مسلكه أصل عظيم فإذا لم يوجد شئ أشبه به منه لم
يكن بد من إلحاقه به وهذا الذى قاله القاضى أبو حامد تقريب
حسن وهو عائد إلى ما ذكرناه.
واعلم أن هذا الذى ذكرناه نهاية ما يمكن إيراده في كون
قياس الشبه حجة والذى ذكروه في نفى قياس الشبه كلمات مخيلة
والأولى أن يقال: إن من يتحرى طلب الحق
ج / 2 ص -171-
وطلب
إيراد معنى مناسب للحكم فينبغى أن يشتغل بذلك ويبذل غاية
مجهوده وعندي أن من طلب ذلك فلابد أن يجده إلا في أفراد من
المسائل وردت بها النصوص واتفقت الأمة على تعديها من
المعانى فأما عامة الأحكام فالشارع للحكم لم يخلها من
المعانى المؤثرة في تلك الأحكام وإن أعوز المجتهد وجود
المعنى حينئذ ينبغى أن يرجع إلى قياس الشبه على الطريقة
التي قدمناها فلا بأس بذلك وغير مستبعد من الشرع أن ننبه
بحكم على حكم ويمثل شيئا بشئ إما معنى أو حكما أو غلبة شبه
بسائر الوجوه والله أعلم بالصواب وقد ذكر الأصحاب على ما
ذكرناه أمثلة كثيرة ولا حاجة إلى الاشتغال بكثرة الأمثلة
بعد أن تبين أصل الكلام.
"فصل"
وأما إذا
جعل الاسم علة للحكم فقد قال الأصحاب: إن الاسم على ضربين:
اسم اشتقاق واسم لقب.
فأما الاسم المشتق فعلى ضربين:
أحدهما: مشتق من فعل كالضارب والقاتل اشتق
من الضرب والقتل فيجوز أن يجعل هذا الاسم علة معنى في قياس
المعنى لأن الأفعال يجوز أن تكون عللا في الأحكام.
والضرب الثانى: أن يكون مشتقا من صفة
كالأبيض والأسود مشتقق من البياض والسواد فهذا الاسم من
علل الأشباه الصورية فمن جعل شبه الصورة حجة قال: يجوز أن
يجعل هذا علة وحجة وقد قال: النبى صلى الله عليه وسلم في
الكلاب:
"فاقتلوا منها كل أسود بهيم"1
فجعل السواد علما على إباحة القتل.
وأما اسم اللقب فعلى وجهين:
أحدهما: مستعار كقولنا زيد وعمرو ولا
يدخله حقيقة ولا مجاز لأنه قد ينقل اسم زيد إلى عمرو واسم
عمرو إلى زيد فلا يجوز التعليل بهذا الاسم لعدم لزومه
وجواز انتقاله وإنما يوضع موضع الإشارة وليست الإشارة بعلة
كذلك الاسم القائم مقامها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود: الضحايا "3/107" ح "1845" والترمذي:
الأحكام والفوائد "4/78" ح "1486" وقال: حسن صحيح.
والنسائي: الصيد "7/163" "باب صفة الكلاب التي أمر بقتلها"
وابن ماجة: الصيد "2/1069" ح "3205" انظر نصب الراية
"4/313".
ج / 2 ص -172-
والضرب الثانى: اسم
لازم كالرجل والمراة والبعير والفرس فقد ذكر أالصحاب في
هذا وجهين: فمنهم من جوز التعليل ومنهم من لم يجوز تجويز
التعليل به.
والصحيح عندي: أنه لا يجوز التعليل بالأسامى بحال لأنها
تشبه الطروه وأما الأسامى المشتقة فالتعليل بموضع الاشتقاق
لا بنفس الاسم والله أعلم.
وإذا فرغنا من بيان العلة فقد اشتمل هذا الفصل على ما
يحتاج إليه الفقيه ولا يستغنى عنه بحال فنذكر بعد هذا
الكلام فى:
الفصل الرابع: وهو بيان الحكم
فالحكم هو ما تعلق بالعلة في التحليل التحريم الإيجاب
والإسقاط هو على ضربين مصرح به ومبهم.
فالمصرح به أن يقول فجاز أن يجب كذا أو يقول فوجب أن يجب
كذا وما أشبهته والمبهم أن يقول فأشبه كذا فمن الناس من
يقول إن ذلك لا يصح لأنه حكم مبهم.
ومنهم من يقول: إنه يصح وهو الأصح عند الجدليين لأنه
المراد به فأشبه كذا في الحكم الذى وقع السؤال عنه وذلك
بشئ معلوم بين السائل والمسئول فيجوز أن يمسك عن بيانه
اكتفاء بالمعلوم الموجود بينهما ومنها أن تعلق عليها
التسوية بين حكمين كقولنا في إيجاب النية في الوضوء طهارة
فاستوى جامدها ومائعها في النية كإزالة النجاسة فمن
أصحابنا من قال: إن هذا لا يصح لأنه يريد التسوية بين
المائع والجامد في الأصل في إسقاط النية وفى الفرع في
إيجاب النية وهما حكمان متضادان والقياس أن يستقى حكم الشئ
من نظيره لا من ضده ومنهم من قال: إن ذلك صحيح وهو الأصح
لأن حكم العلة هو التسوية بين المائع والجامد في النية
والتسوية بين المائع والجامد في النية موجودة في الأصل فصح
القياس عليه وإنما يظهر الاختلاف في التفضيل وليس ذلك بحكم
عليه حتى يضر فيه الاختلاف ومن حكم العلة أيضا أن يذكر
التأثير فنقول: في مسألة السواك للصائم تطهير يتعلق بالفم
من غير النجاسة فوجب أن يكون للصوم تأثير فيه دليله
المضمضة فهذا تعليل لهذا الحكم صحيح لأن تأثير الصوم في
المضمضة صحيح موجود وهو منع المبالغة فصح إثبات تأثيره في
الفرع وذلك بالمنع منه بعد الزوال واختلافهما في كيفية
التأثير لا يمنع من التعليل لأصل التأثير لأن الغرض إثبات
أصل
ج / 2 ص -173-
التأثير إلى هذا الموضع ذكره في التبصرة وهذه فصول عراقية
ليس تحتها كثير معنى غير أن كتب الجدل والأصول تزين بأمثال
هذا من غغير أن يعود بفائدة فقهية واعلم أن في بيان حكم
العلة مسألة خلافية ذكرناها من قبل وهى أن مذهب أصحاب أبى
حنيفة أن حكم العلة ثبوت حكم الأصل في الفرع بمعنى الأصل
وفى الحقيقة ثبوت مثل حكم الأصل مثل معنى الأصل وعندنا حكم
الأصل بها ثم إن وجدت تلك العلة في موضع آخر ثبت مثل ذلك
الحكم في ذلك الحكم في ذلك الموضع وإلا فلا يثبت وهذا
الخلاف هو الذى ذكرناه من قبل أن العلة القاصرة تكون علة
صحيحة وعنهم لا تكون علة صحيحة ثم أعلم أنه كما يجرى
الاختلاف في الحكم فيجرى الخلاف أيضا في علة الحكم
كاختلافهم في الإسلام هل هو علة العصمة أم لا؟ وكذك
الاستيلاء على مال الغير عندنا علة الضمان وعندهم ليس بعلة
ة قد يحجرى الهلاف في صفة العلة وهو علة وجوب الزكاة
فعندنا ملك النصصاب علة لوجوب الزكاة من غير اعتبار صفة
المعنى وعندهم ملك نصاب المغنى علة وقد يوجد الاختلاف في
لشرط وهو مثل الخلاف في الشهاددة في النكاح وعندنا هو شرط1
وعند مالك ليس بشرط2 وعلى هذا اخلافهم في عدالة الشهود في
النكاح
قال أبو زيد: في تققديم الأدلة جملة أقسام ما يختلف فيه
الفقهاء من الشرعيات رابعة أنواع الاختلاف في الموجب للحكم
أو صفته أهو مشروع أم لا؟ أو في شرط العلة أو صفتها أو في
حكم من الأحكامم أو صفته أو في حكم مشروع معلوم بوصف بلا
منازعة في محل هل هو مقصور عليه أو هو متعدى عنه إلى غيره
قال: و القياس لم يشرع حجة إلا لهذا النوع لما ذكرنا أنه
لا حكم له غير التعدية وة التعدية لا يتصور إلا في هذا
القسم الرابع ففسد فيما ععدا هذا لقسم لانعدام حكمه ولانه
لم يصادف محله فمحله أصل فيه حكم مشروع ليمكن التعدية فيما
لليس موجود ولا يكن تعديته كالحوالة حيث لا دين يلغو ولأن
الخلاف متى يحصل في الموجب للحكم أو شرطه ونفس الحكم فقد
وقع الاختلاف في أصل الشرع أكان أم لم يكن وهذا لا يهتدى
إليه القياس لأنه ليس إلينا نصب الأحكام ولا رففعها بارأى
ولا نصبب أسبابها لأن في نصب الأسباب نصب الأحكام ولا
شروطها لأن في نصب الشروط المانعة رفع الأحكام فإذا لم يكن
إلينا ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر روضة الطالبين "7/45".
2 انظر المعونة "2/745".
ج / 2 ص -174-
بالرأي
بطل تعليل مدعيها لأنه يعلل لنصب الشرع وبطل تعليل المنكر
أيضا لأن المنكر يقول لم يشرع أصلا وما لم يشرع لا يكون
حكما شرعيا حتى يمكن إثباته بالقياس وإنما يثبت بالقياس
قسم واحد هو شيء يثبت في محل الشرع فيستعمل القياس لتعدية
ثم ذكر الأقسام فقال أما قسم الموجب فنحو اختلافنا في
الجنس بانفراده هل هو علة محرمة للنساء أو لا؟ وهذا مما لا
يجوز فيه التكلم بالقياس بل على مدعيها إقامة الدلائل على
صحة ما ادعاه من نص أو دلالة نص أو إشارته أو اقتضائه لأنه
الثابت بذلك ثابت بالنص لا بالقياس وعلى المنكر الامتناع
لعدم الدليل كما نقول فيمن ادعى أن الوتر فرض عمل زائد على
الخمس وأنكره آخر لم يكن على المنكر أولا التمسك بعدم قيام
الدليل ولزم المدعى إقامة الدليل سوى القياس وكان بمنزلة
من ادعى أن فرض الفجر أربع ركعات وأنكره الآخر وكذلك إذا
اختلفنا أن السفر هو مسقط لشطر الصلاة أم لا؟ لم يصح
التكلم فيها بالقياس بل الذي يدعيه مسقطا يلزمه إثباته
وإنما يظهر الفقه في هذه المسائل بإفساد أدلة الخصم لا
لأنه يمكنه إفسادها إلا تفقد طرق الأدلة حتى يعلم بها أن
الأدلة جائزة وليست بعادلة قال وكذلك إذا وقع الخلاف في
الحربي يسلم أيكون إسلامه موجبا لجعل نفسه وماله مضمونين
مثل الأحرار بدارنا أم لا؟ فهذا لا يعرف بالقياس وكذلك
الخلاف أن العقل مثل الشرع أهو حجه قاطعة لعذر الكفار.
ما صفته فنحو اختلافنا في المال الذي سببب الزكاة أهو سبب
بصفة النماء أم دونها واليمين بالله سبب الكفارة بسبب أنها
مقصودة أو معقودة وقتل النفس بغير حق سبب الكفارة بصفة
الحرمة أو بصفة الإباحة مع الحرمة والإفطار سبب الكفارة
باسم الجماع أو باسم اقتضاء إحدى الشهوتين وهذا لأن وصف
الشىء منه فما لم يكن أصله مما يثبت بالقياس لم يكن وصفه
كذلك من قبل ما يثبت به. قال: وأما أصل الشرط فنحو
الاختلاف في شهود النكاح أنهم شرط أم لا؟ وكذلك الولى فأما
ثبوت الولاية للمرأة على نفسها فمما يعرف قياسا لأننا
وجدنا ثبوت نعنى الولاية حكما ثابتا مع البلوغ والحرية في
أصل مجمع عليه فصح القياس لتعدية إلى المرأة وكذلك إذا
اختلفنا في الزكاة أن التسمية هل هي شرط فيها أم لا؟ لم
يجز التكلم فيها بالقياس وكذلك قلنا: إن شرط نفوذ الطلاق
من جانبها النكاح أو العدة عنه وقال: خصمنا العدة ليست
بشرط النفوذ وبالعدة وحدها لا يصير محلا وكذلك إذا اختلفنا
في البلوغ عن عقل أهو شرط لوجوب حقوق الله تعالى التي
تحتمل النسخ والتبديل كالصلاة
ج / 2 ص -175-
والزكاة والصوم والكفارات ولزوم الإحرام وكذلك وجوب
العقوبات كحرمات الإرث بالقتل والحدود لم يكن للقياس فيه
مدخل وكذلك إذا أختلفنا في البلوغ بعد العقل أهو شرط لصحة
أداء ما لا يحتمل النسخ وهو الإسلام أو لا؟ ثم سأل على
نفسه سؤالا فقال فإن قيل: أليس اختلفنا في الطعام بالطعام
أن القبض في المجلس هل هو شرط في بيع أحدهما بالآخر أم لا؟
وتكلمتم بالقياس فيها فأجاب وقال: البقاء على الصحة بلا
شرط القبض حكم ثبت في أصل منصوص عليه من البيوع وهو بيع
العبد بالدراهم وكل ما عدا الطعام من السلع فصحت التعدية
بالتعليل إلى الفرع المختلف فيه ما لم يمنمعنا منه نص
بخلافه فيجب على مدعى الفساد لوجود النص إقامته قال: ولا
يلزم على هذا استعمال القياس في منع شرط التسمية في الزكاة
بالقياس على الناسى لأنا إذا أحللنا زكاة تارك التسمية
ناسيا على أنه في حكم المسمى بدليل النص كما يجوز صوم
الآكل ناسيا على أنه في حكم من لم يأكل بدليل النص ثم لا
يجوز أن يقاس عليه إذا ترك التسمية عمدا أوأكل في الصوم
عمدا لأنه معدول به عن القياس قال: فبهذا يظهر بيان الفقه
في طرق القياس.
وأما صفة الشرط فكشهود النكاح أهم رجال أو رجال ونساء وصفة
طهارة الصلاة أهى مرتبة أم غير مرتبة أم بفصة الموالاة أو
ليست بصفة الموالاة قال: أما الحكم فنحو اختلافنا في
الركعه الواحدة مشروعة صلاة أم لا؟ وصوم بعض اليوم مشروع
أم لا والأربع مشروعة على المسافر والمسح على الخف مشروع
أم لا وكذلك اختلافهم في القراءة هل تسقط بالإقتداء أم لا
والصوم عل يسقط بالجنون أم لا؟ ثم سأل سؤالا فقال فإن قيل:
اختلفنا في صوم يوم النحر مشروع أم لا وتكلمتم فيه بالقياس
وأجاب وقال: لا كذلك فإن كون اليوم سببا لصيرورة الصوم
مشروعا ثابت أصلا ووقع في استنساخه أنه يوم عيد فأنكرناه
لأنا أثبتنا كون اليوم سببا بالقياس وأما وصف الحكم فنحو
اتفاقنا على أن القراءة مشروعة على الشفع الثانى واختلفنا
أنها فرض أو لا واتفقنا أنها فرض في الأول واختلفنا أنها
فاتحة أم لا واتفقنا أن من حكم النكاح أن يملك الرجل طلاق
امرأته واختلفنا في وصفه أنه يملك مباحا والكراهة بعارض
ويملك مكروها والإباحة بعارض وهذا مذهبنا على ما بينا في
موضعه وكذلك يملك الطلاق مبينا قصدا إليه عندنا وعندي لا
يملك فهذا لا يعرف بالقياس وأنا لا نجده بعينه أصلا آخر
لتعديه إلى الفرع وكذلك إذا اختلفنا في ملك النكاح في حق
المتعة أهو خاص للرجل على المرأة أو
ج / 2 ص -176-
هو
مشترك بين الزوجين لا يعرف بالقياس لأنه غير موجود في أصل
آخر لتعدية إليه بل يعرف بالاستدلال بما ثبت بالنصوص وكذلك
إذا اختلفنا في حكم خبر الربا وهو قوله:
"والفضل ربا"1
أنه فضل ذات الحنطة أو فضل كيل لم يجز إثباته بالعلة لما
قلنا.
وكذلك إذا اختلفنا في حكم الرهن الثابت للمرتهن إذا تم
العقد بالتسليم إليه أهو في حكم يد الاستيفاء التي يتم
بالتسليم إليه أم هو حق بيع الدين إذا تم العقد باليد كما
يتم عقد الهبة باليد وحكمه وقوع الملك للموهوب له وهذا لا
يجوز إثباته بالقياس لأنا لا نجد حكم الرهن في عقد آخر
لتعديه إليه بالقياس وكذلك لا يجوز نفى هذا بالقياس لأن
الانتفاء من حيث لم يكن لايكون حكما شرعيا ليمكن تعديته
إلى غيره بالقياس على ما ذكرنا وكذلك إذا اختلفنا في وجوب
المهر بالنكاح بلا تسمية لم يكن للقياس فيه تدخل لأنا لا
نجده في غيره لتعديه إليه.
وكذلك إذا اختلفنا في وجوب المتعة بعد الطلاق وبعد الدخول
لأنا إنما اختلفنا في ذلك لاختلافنا في المتعة أوجب أصله
على نفى وحشة الطلاق أم عوضا عن ذلك النكاح واجبا بالعقد
مقام الساقط بالطلاق فهذا لا يعرف بالقياس وهذا لأن أحكام
الشرع بصفاتها لا تثبت أبدا إلا بالشرع فلا يمكن معرفتها
مشروعة بصفاتها إلا بالنظر من حيث المعانى التي تثبت
بالأسامى العربية لا يمكن معرفتها إلا بالنظر في كلام
العرب والتعرف من قبلهم.
وأما القسم الر ابع فنحو قولنا: إن المسح في الضوء يسن
تثليثه لأنه مسح قياسا على مسح الخف فهذا يمكن إثباته
بالقياس لأنا وجدنا مسحا في الوضوء وله فرض وسنة ووجدنا
حكم إقامة سنته بإفراده لا يتثليثه فعديناه إلى الفرع
وكذلك قولهم: الرأس عضو من أعضاء الوضوء فيسن تثليثه
وصيغته قياسا على الوجه فهذان القياسان في محليهما فيجب
طلب الفساد بطريق آخر وكذلك قولنا: صوم رمضان صوم عين
فيتأدى بنية الصوم كالنفل في غير رمضان وقولهم إنه صوم فرض
فيشترط فيه نية الفرض كالقضاء وكذلك قولنا: المديون لا
زكاة عليه لأن الصدقة تحل له فلا تجب عليه الزكاة كالمكاتب
وقولهم إن ملكه كامل فيلزمه الزكاة بغير المديون فهذا الذى
ذكرناه سياق كلامه واعلم أن أصلنا الذى يعرفه الأصوليون أن
كل ما يمكن إثباته بالقياس يثبت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أصله عند مسلم بلفظ
"الدينار بالدينار ولا فضل بينهما. والدرهم بالدرهم ولا
فضل بينهما" أخرجه مسلم: المساقاة "3/1212" ح "85/1588".
ج / 2 ص -177-
بالقياس من غير تخصيص وفى هذه المسائل التي ذكرناها في
بعضها ما يمكن إثباته بالقياس وفى بعضها ما لا يمكن إثباته
بالقياس وعلينا فيها أن نعرضها على الأصل الذى قدمناه فما
لا يمكن إثباته بالقياس وافقناه على زعمه وما يمكن إثباته
بالقياس أثبتناه وإن رغم أنف من رغم والله المعين على طلب
الحق والهادى والمرشد إلى الصواب.
"فصل"
وقد ذكر بعض متأخرى أصحابنا فصلا يتصل بهذا الذى ذكرناه
أحببت إيراده في هذا الموضع وأذكر ما يعتمد عليه من ذلك.
وقال قال الخائضون في هذا الفن رب أصل يتطرق إليه بالتعليل
من وجه ويتقاعد من وجه ونذكر من ذلك مثالا أو مثالين فمن
ذلك اختصاص القطع بالنصاب وهذا على الجملة متعلق بأمر ظاهر
فإن الناس يهجمون على ما يوجب التغرير بالأرواح ويخاطر
بالمهج بسبب التافه الوتح1 الحقير وإن فعل ذلك إنسان فإنما
يغرر بمال نفيس وتشهد له القواعد التي تستحث الطباع على
الهجوم على الفواحش فيها وانتصب مزجرة الحدود يزدجره عنها
وأما المحرمات التي لا ميل للطباع إليها لم يرد الشرع في
المنع فيها بالحدود فوقع الاكتفاء فيها بمجرد النهى مع
الوعيد بالعذاب الشديد في الآخرة.
ثم قال هؤلاء: لإن القياس وإن اقتضى الفصل في الجملة بين
التافه والنفيس ولكن مبلغ النفيس لا يعرف بالقياس وكان ذلك
موكولا إلى الشرع ونصاب السرقة منصوص عليه2. ومن أمثلة ذلك
النصاب في الأموال الزكاتية والأقيسة قد ترشدنا إلى اختصاص
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوتح: القليل التافه من الشيء. انظر: القاموس المحيط
"1/252".
2 اختلف الفقهاء في نصاب السرقة كا الآتي:
قالت طائفة: لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا
وهو قول عائشة وعمر وعثمان وبه قال الفقهاء السبعة وعمر بن
عبد العزيز والأوزاعي وابن المنذر وهو إحدى الروايات من
أحمد وهو قول مالك وإسحاق.
وقالت طائفة: لاتقطع إلا في خمس. وهو مروى عن عمر وبه قال
سليمان بن يسار وابن أبي ليلى وابن شبرمة والحسن.
وقالت طائفة: إلا في عشرة دراهم: وهو قول عطاء والنعمان
وصاحبيه. =
ج / 2 ص -178-
وجوب
الإرفاق بالأموال المحتملة لذلك المتهيئة لارتفاق مالكه
ليكون الإرفاق بمقابلة الاستمكان من الارتفاق ثم القدر
الواجب لا يهتدى إليه الرأى فاتبع الشرع والدليل على أن
الرأي لا يهتدى إلى ما قلناه أن الهمم تختلف بالخسيس
والنفيس فالفقير قد يستعصم القلس والقلسين والملك لا
يستكثر القناطير المقنطرة وكذلك هذا في النصب فإن القانع
بالبلاغ قد يجتزئ بالارتفاق بما ينقص عن النصاب وذو البسطة
والسعة لا يرفقه العشرون بل المائتان فلابد من الرجوع إلى
الشرع ويكون هو المتبع أبدا لا غير ثم قال:
نحن نقسم أصول الشريعة خمسة أقسام:
أحدها: ما يعقل معناه وهو أصل ويؤول
المعنى المعقول فيه إلى أمر ضرورى لابد منه وهذا مثل
القصاص فإنه معلل بتحقيق العصمة في الدماء المحترمة والزجر
عن التهجم عليها فإذا وضح للناظر المستنبط ذلك في أصل
القصاص تصرف فيه وعداه إلى حيث يتحقق أصل هذا المعنى فيه
وهذا هو الذى يسهل تعليل أصله والتحق به تصحيح البيع فإن
الناس لو لم يتبادلوا ما تأيد بهم لجر ذلك إلى الضرورة
ظاهرة فمستند البيع إذا زائل إلى ضرورة الراجعة إلى النوع
والجملة ثم قد تمهد في الشريعة أن الأصول إذا تمهدت
قواعدها فالنظر بتحقيق معنها في آحاد النوع ربما يعسر
فيعرض عنه قال: وهذا ضرب من الضروب الخمسة وعندي أن تعليل
إيجاب القصاص ما ذكر من حكمة وجوب القصاص وتعليل تجويز
البيع بما ذكر من حكمه تجويز البيع بعيد جدا وإنما السبب
لوجوب القصاص هو القتل والقتل مخيل في إيجاب القتل بعد أن
تأيد بالشرع والنص عليه وكون الإنسان مالكا للشئ مخيل مؤثر
بجواز تمليكه من غير قد تأيد بنص أيضا نعم يجوز أن يقال:
وجب القصاص بسبب القتل وجاز التمليك فيه بسبب تملكه للمحل
بحكمة الزجر أو الحكمة دفع حاجات الناس فأما تعليل أصل
وجوب القصاص بالزجر أم تعليل أصل جواز البيع بالحاجة فبعيد
وهذا لأن الأحكام في الشرع بأسبابها لا بحكمتها وفوائدها
وكان البيع لفائدة البيع والتعليل غير وإظهار الفوائد غير
ونحن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقالت طائقة: لاتقطع إلا في أربعة دراهم فصاعدا روى هذا
عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري.
وقال عثمان البتي: تقطع اليد في درهم فما فوقه.
وقال الخوارج: تقطع اليد في كل ماله قيمة.
انظر الأشراف "2/289, 290" المغنى "10/242, 243".
ج / 2 ص -179-
نعلم
قطعا أن الشرائع لفوائد وحكم لكن لا نقول إنها معللة بها
وهذا كالعبادات لا تعلل بعلى الثواب فإن كانت واجبة لفوائد
الثواب والأنكحة لا تعلل بعلة حصول النسل في العالم وإن
كانت مشروعة لفائدة النسل وكذلك الحدود واجبه لفائدة الزجر
الحاصل بها ولا تعلل بها والقصاص من جملة ذلك. قال:
والضرب الثاني: ما يتعلق به الحاجة العامة
ولا ينتهى إلى حد الضرورة وهذا مثل الإجازة فإنها مبنية
على مسيس الحاجة إلى المساكين مع قصور اليد عن تملكها وفي
نماكها ببدل على سبيل العارية فهذه حاجة ظاهرة غير بالغة
مبلغ الضرورة ولكن حاجة الجنس قد تبلغ ضرورة الشخص الواحد
من جهة أن الكافة لو منعوا عن ما يظهر الحاجة فيه للجنس
لنال آحاد الجنس ضرر لا محالة تبلغ مبلغ الضرورة في حق
الواحد وقد يزيد أثر ذلك في الضرر الراجع إلى الجنس على ما
ينال الآحاد بالنسبة إلى الجنس وعندي أن المنافع أموال وقد
قام الدليل على ذلك فالإجازة فيها كالبيع في الأعيان وقد
بينا ذلك في خلافيات الفروع. قال:
والضرب الثالث: مما لا يتعلق بضرورة حاققة
ولا حاجة عامة ولكنه قد يلوح منه غرض في جلب مكرمة أو نفي
ينقص بها ويجوز أن يلتحق بهذا الجنس طهارة الحدث وإزالة
الخبث وإن أجبنا عبرنا عن هذا فقلنا: مما لاح ووضح الندب
إليه تصريحا كالتنظيف فإذا ارتبط الرابط أصلا كلياته
تلويحا كان ذلك في الدرجة الآخرة والرتبة الثانية البعيدة
في القياس وجرى وضع التلويح منه مع الامتناع عن التصريح مع
حمل المكلفين على مضمونه مع الاعتضاد بالدواعي الجلية كما
سبق تقرير هذا في المسالك السابقة والصور الممثلة المخيلة
وهذه العبارات كلها تكلف صعب وحمل الطبع على ما بالمرء
غنية عنه ولا أرى وراءها كثير معنى والطهارات كلها تعبدات
وإن عللنا بالتنظيف فينبغي أن يكون على الندب لا على
الإيجاب وأما عامة العبادات وتوابعها تكليفات لا يعقل
معناها إلا القيام بالعبادة المحضة لله تعالى. قال:
والضرب الرابع: ما لا يستند إلى حاجة
وضرورة وتحصيل المقصود فيه مندوب إليه تصريحا ابتداء وفي
المسلك الثابت في تحصيله الخروج عن قياس كلي وبهذه المرتبة
يتميز هذا الضرب عن الضرب الثالث وبيان ذلك بالمثال أن
الغرض في الكتابة تحصيل العتق وهو مندوب إليه والكتاب
المنتهضة سببا في تحصيل العتق يتضمن أمورا خارجه عن
الأقيسة الكلية كمعاملة السيد عبده وكمقابلة ملكه بملكه
والطهارات قصاراها إثبات.
ج / 2 ص -180-
التسبب
وجوبا إلى ما لا يصرح بإيجابه وليس فيها اعتراض على أصل
آخر سوي ما ذكرناه من التصريح والتلويح وقد مثلناها موضع
الشرع بالنكاح لتحصين الزوجين قال:
والضرب الخامس من الأصول ما لا يلوح فيه
للمستنبط معنى أصلا لا مقتضيا من ضرورة وحاجة ولا استحثاثا
على مكرمة وهذا يندر تصويره حدا فإنه إن امتنع استنباط
معنى ضرورى فإنه لا يمتنع عليه كليا ومثال هذا القسم
العبادات البدلية والمحضة وأنه لا يتعلق بها الأعراض دفعية
ولا نفعية ولكن لا يبعد أن يقال: تواصل الوظائف يديم تروي
العباد على حكم الانقياد وتجديد العهد بذكر الله عز وجل
ينهي عن الفحشاء والمنكر وهذا يقع على الجملة. ثم قال:
فأما الضرب الأول وهو مما يستند إلى الضرورة فنظر القايس
فيه ينقسم إلى اعتبار آخر الأصل بعضها ببعض وإلى اعتبار
غير ذلك بذلك الأصل إذا اتسق له معنى فأما اعتبار الجزء
بالجزء مع استجماع القياس لشرائط الصحة فهو يقع في الطبقة
العالية من أقيسة المعانى ومن خصائص هذا الضرب أن القياس
الجزئي وإن كان جليا إذا صادم القاعدة ترك القياس الجزئي
للقاعدة الكلية ومثال ذلك أن القصاص من حقوق الآدميين
وقيامها رعاية التماثل عند التقابل في هذا القياس يقتضي أن
لا تقتل الجماعة بالواحد ولكن في طرده والمصير إليه هذه
القاعدة الكلية لان الاستعانة بالظلمة في القتل ليس بعسر
وفي درء القصاص عند وجود الإجماع خرم أصل الباب وحاصل
القول في هذا قوله إلى أن مقابلة الشئ بأكثر منه ليس يحرم
أمرا ضروريا هذا معنى تسميته لهذا جزئيا وإلا فالتماثل في
الحقوق التي للآدميين من الأمور الكلية في الشريعة غير أن
القاعدة التي سميناها في هذا الضرب مستندها أمر ضروري
والتماثل في التقابل أمر مصلحي والمصلحة أذا لم تكن ضرورة
جزء بالإضافة إلى الضرورة وهذا يعتضد فيما ضربناه مثلا من
القصاص بأمر آخر وهو أن يبقي القصاص على مخالفة الأعواض
أجمع فإن أعواض المتلفات مبناها على جبران الفائتات
كالمثلي إذا ضمن بالمثل وكالقيمة إذا وجبت جبرا للتقويم
المتلف والقصاص لا يجبر الفائت وإنما الغالب عليه أمر
الزجر وحظ مستحقه منه شفاء الغليل فلما خرج أصله عن مضاهاة
الأعواض هذا الخروج احتمل فيه الخروج عن قياس التماثل لدى
التقابل وإذا قسنا الأطراف عند وجود الاشتراك في قطعها على
النفوس كان واقعا جليا معتضدا بالمعنى الأصلي وهو الضرورة
مع أجتماع الأطراف والنفوس في كونها مصونة بالقصاص وذكربعد
هذا تخريج مسألة تمييز الفعلين واعلم أن هذا الذي ذكره
المشايخ في المسألة التي
ج / 2 ص -181-
أشار
إليها وعندي أن هذا غير معتمد وقياس الطرف على النفس وإن
كان جليا في الصورة ولكن افتراق النفوس والأطراف في
الأحكام غير ممتنع في الشرع فلابد من بيان اجتماع النفوس
والأطراف فة المعنى الذي يجب به القصاص على العدد في
مقابلة الواحد والذى أشار إليه من قوله: إن في نفى القصاص
عن الجماعة بقتل الواحد خرم القاعدة مثل هذا لا يصلح لبيان
السبب والأسباب لا تترك بأمثال هذا الكلام فإن حفظ الأسباب
لإيجاب الأحكام من أهم الأمور وكذلك قوله إن القصاص عوض
يخالف سائر الأعواض قد ذكرنا عندنا أن العوض الأصلى عندنا
هو المال في القتل أعنى بقولي: الأصلى هو العوض الذى يصح
على أصول الشرع قياسا وجاء الشرع وراء ذلك بعوض آخر وهو
القصاص فالدية عوض قياسى والقصاص عوض شرعى لغرض زائد لا
يوجد في العوض القياسى فخير ولى القتل بينهما لاختلاف
الغرضين ولم يجمع بينها لاتفاقهما في العوضية وهذه كلمات
قد حققناها في خلافيات الفروع ولا معنى لشحن أصول الفقه من
ذلك ثم تكلم على الضرب الثانى وهو فصل الإجازة بكلام طويل
يخالف القياس وهذا قد سبق بيانه من قبل وذكر تقريرا في
إلحاق المنافع بالأعيان ونحن قد دللنا أنها مال وأن العقد
عليها كالعقد على المال وقد ألحقت المنافع بالأعيان
الموجودة شرعا وجعل العقد عليها كالعقد على الأعيان وذكر
الضرب الثالث وأعاد فصل الطهارة بزيادة تقريرات وذكر
عبارات رائعة في ذلك والتعليل في ذلك بعيد جدا وذكر الضرب
الرابع وأعاد فصل الكتابة وحكى عن مالك أنه يوجب الكتابة
وعندي أن هذه النسبة إلى مالك خطأ وإنما القول بوجوب
الكتابة قول داود1 على الخصوص ومذهب مالك أن الكتابة
مستحبة وهو مذهب الكافة2 وجواز الكتابة خارج عن قياس سائر
العقود وإنما جوز لنوع نظر وإرفاق للعبد ولهذا لزم في حق
السادة ولم يلزم في جانب العبد لأن إلزام العقد في جانب
العبيد يخالف النظر لهم وترك إلزامه في جانب السادة يخالف
ما وضع عقد الكتابة لأجله ولأجل هذا الأصل جاز أن يبدل
كسبه مع أنه عبد سيده سيجه وتنجز العتق من سيده فدل أنه
مشروع محض النظر للعبيد وبهذا الوجه ندب السادة إلى فعل
هذا العقد وكره لهم تركه إذا طلب العبيد ذلك ولهذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قول عطاء وعمرو بن دينار انظر الأشراف لابن المنذر
"2/174".
2 وهو قول مالك والشعبي والحسن البصري وبه قال مالك
والثوري والشافعي انظر الأشراف "3/174" المعونة "2/1463".
ج / 2 ص -182-
الأصل
وجب الإتيان لأن العجز من العبيد في أداء الأموال على
التمام والكمال متوهم وأوجب حط بعض ذلك البذل عنهم ليتمحض
العقد مرفقا للعبيد بكل وجه وذكر تعلق أصحاب أبى حنيفه في
البيع الفاسد في الكتابة وهو تعلق معروف ثم. قال: وقال
الشافعى: لا يقبل هذا القياس فإن الكتابة الصحيحة خارجة عن
قياس المعاملات والفاسدة متفرعة عليها فإذا انحسم مسلك
القياس في الأصلين يعنى البيع الصحيح والكتابة الصحيحة
ويترتب عليه امتناع القياس في الفرعين وقال أصحاب أبى
حنيفة: إذا ثبتت الكتابة والتحقت بالمعاوضات المحضة فلا
ينظر بعد ذلك إلى خروجها عن قياس المعاوضات ولكنها تقضى
فيها وعليها بقضايا المعاوضات حتى يقول بشرط فيها من
التراخى وإعلام العوض واتصال الإيجاب بالقبول ما يشترط في
المعاوضات فاعتبار البيع الفاسد بالكتابة الفاسدة أولى من
النظر في التفاصيل بعد تسليم الأصل والفاسد في كل باب حايد
عن موجب أصله وكذلك فسد فإذا لم يمتنع إلحاق الفاسد
بالصحيح في الكتابة مع حيد الفاسد عن الحقة الصحيحة فلا
ينبغى أن يمتنع مثل ذلك في البيع والحاقة بالكتابة قال:
ونحن الآن نقول: هذا الجمع لا ينتظم في مناظم المعانى ولا
يجمعه قياس معنوى من قبل إن شرط المعنى انقداحه واتجاهه في
الأصل ثم إذا تقرر في الأصل معنى واطرد في الفروع فحينئذ
يجمع الجامع بالمعنى وليس معنا معنى متضمن لتنزيل الكتابة
الفاسدة منزلة الكتابة الصحيحة فإن الذى لا يتمارى فيه
الناظر من نظره أن الفاسد ليس مطابقا للشرع والأحكام تثبت
إذا جرت أسبابها موافقة للشرع ويتهون على الرشيد الفطن
تقرير خروج الكتابة الفاسدة في نزولها منزلة الكتابة
الصحيحة عن القياس المعنوي والاعتبار الكلى فإذا فعل ذلك
انحسم مطمع الخصم في قياس المعنى ولكن النظر إلى التشبيه
فإن علة الخصم انحسام المعنى واجتزاء بالشبه فقال البيع
الفاسد بالإضافة إلى الصحيح يشبهه الكتابة الفاسدة
بالإضافة إلى الصحيحة ولا يلتزم أبدا معنى في الأصل وآخر
في الفرع فالذى يدرأ ذلك النقض الصريح فإنا لم ننزل كل
فاسد منزلة الصحيح بدليل النكاح وأقرب من ذلك البيع فإن
فاسده من غير قبض لم ينزل منزلة صحيحة قال: والشبه لابد في
طرده فإذا لم يطرد وانتقض انحل ولم يبق له عمل وإذا سقط
الشبه طولبوا بالمعنى وإلحاق الفاسد بالصحيح قال: ومما
نذكره في هذا أيضا أن الكتابة الفاسدة في وضعها مخالفة
للبيع الفاسد على رأى المخالف فإن المكاتب بالكتابة
الفاسدة يتسلط على اكتسابه بنفس العقد تسلطا وينفذ تصرفاته
فيها على الصحة
ج / 2 ص -183-
نفوذها
في الكتابة الصحيحة وليس البيع الفاسد كذلك وإن اتصل به
القبض وقال من دقيق القول في ذلك أن تحصيل العتاقة موجود
الصفة ما يوجب القضاء لصحته فإن تعليق العتق على أداء
العوض الفاسد صحيح وإن فسد العوض ثم التعليق إذا صح فحقه
أن لا يرفع وأثر فساد الكتابة في دفع وجوب التعليق
والكتابة عقد أخذ من قياس بابين وعقدين أحدهما المعاوضة
والثانى تعليق القول والعتق أنفذ التصرفات وأغلبها فإن
مؤقته يتأيد ومبعضه يتم فالوجه استيلاء حكمه فلم يكتب معنى
التعليق صفة الفساد من فساد المعاوضة وإذا لم يفسد عتق
بجهته. ثم قال: وهذا منتهى كلام الفقهاء وأنا أذكر مسلكا
أصوليا يغنى عن جميع ذلك فأقول قد مهدت أن القوانين
المبنية على المكارم الكلية لا يجرى فيها تمهيد أصل قياسا
على أصل وإنما تجرى الأقيسة من الأصول على الأصول وإذا
لاحت المعانى قال: والمعنى المخيل في الكتابة هو الاستحثاث
على مكرمة من المكارم مثل الطهارات فالطهارة واجبة مكرمة
والكتابة مستحبة مكرمة قال: وإنما يظهر المعنى في
الضروريات والحاجات قال: فالبيع من الضرورات والكتابة من
المكرمات فكيف ينقدح بسببه فاسد هذا بفساد البيع وهذا
القائل مع هذا التطويل لم يخرج عن أشكال الكتابة فإن
الإشكال في الكتابة أنه لابد من أنعقاد الكتابة ليقع بها
العتق والفساد لم يخرج من انعقادها فينبغى أن لا يمنع أيضا
من انعقاد البيع وإذا انعقد وجب أن يفيد موجب لأن العقد لا
ينعقد إلا لموجبه فالملك موجب البيع والعتق موجب الكتابة
فإذا انعقدت الكتابة الفاسدة لإفادة موجبه فلينعقد البيع
الفاسد لإفادة موجبه وعلى الجملة ما ذكره للأصحاب في دفع
قياس البيع على الكتابة كان أبين وأظهر من الذى اعتمد عليه
واستخرجه بذكره.
وقد قال على هذا الإشكال الذى ذكرناه أن الوجه في دفعه
مسلكان:
أحدهما: أن يدعى أن الكتابة صحيحة في جهه
مقصودها أى في العتق.
والمسلك الثانى: وهو الأصل أن لا يلزم في
أقيسة المعانى النقض.
واعلم أن فضل الكتابة في البيع الفاسد في نهاية الإشكال
ولأنى أعرف في جملة مسائل الخلاف ما يقارب هذا الإشكال إلا
اليسير القليل ومن أراد دفع هذا الفصل فأولى الفصول أن
يبين فساد البيع ويبين أن الفاسد غير مشروع وإذا كان غير
مشروع لا يثبت بع حكم مشروع لأن الحكم المشروع لا يبتنى
إلا على سبب مشروع ثم الكتابة لا ترد على هذا لأن هذا أصل
من الأصول وقاعدة كلية من قواعد الشرع فلا يجوز
ج / 2 ص -184-
الاشتغال بإيراد النقض عليه وهذا كما أنه لا يجوز إيراد
النقض على الكتاب والسنة فلا يجوز إيراد النقض على مثل هذه
القواعد والأصول الثابته بالدلائل القطعية نعم وقد اعتنيت
في كتاب الاصطدام زيادة اعتناء في الكلام على هذا الفصل
واعترضت على كل ما قاله الاصحاب ثم اعتمدت في آخر الأمر
على فصل وهو نهاية الإمكان وأحببت إيراده في هذا الموضع
فقلت: الكتابة عقد عتاقة والعتق مبنى في الشرع على أنه يجب
السعى في تحصيله ويطلب وجوده بالتمسك بأدنى شئ يمكن التمسك
به من وجه ولهذا يكتفى في سببه ومحله بما لا يكتفى به في
سائر عقود الأملاك أما المحل فالدليل عليه أنه لو أعتق
جزءا من عبد وإن قل سرى إلى جميع الأجزاء مع ترك مباشرة
العتق في سائر الأجزاء واقتصاره على عتق هذا القدر وأما
السبب فلأن الشرع قد اكتفى به في تحصيله بمجرد القرابة
ويعقد من السيد مع عبده في الكتابة بأداء ماله إليه في
قوله إذا أديت إلى كذا فأنت حر وأيضا فإن الشرع حقق سببه
بتحصيله من غير وجود تحصيل لذلك من الإنسان. ألا ترى أن في
قوله أعتق عبدك عنى على ألف درهم فإن الشرع حكم بتحصيل
الملك فيما يعود إلى تحصيل العتق من غير أن يوجد من الذى
يعتق عليه بتحصيله ومثل هذا لا يوجد في حكم ما وأيضا فإنه
احتمل فيه من الغرر والخطر ما لا يحتمل في شئ من المواضع
وإذا عرف هذا الأصل في العتق منقول به في الكتابة باشر سبب
العتق وأخل بشرطه فيجعل الشرط المتروك كالمذكور فيما يرجع
إلى العتق كما جعل السبب المذكور في بعض المحل كالمفعول
الموجود وإن لم يفعله فيجعل هنا أيضا الشرط المتروك من
إعلام العوض وغيره كالمذكور والمشروط وكذلك جعل السبب
المتروك تحصيله كالمحصل في المسألة التي قلناها فأما سلامة
الاكتساب والأولاد وفك الحجر وغيره ابتاع في هذا العقد
فإذا اعتبر هذا العقد شرعا فيما هو الأصل لحق به الاتباع.
والحرف أن الإعتراض عن حكم الفساد في الشرع وقع لأجل العتق
كما حصل الإعراض عن باقى المحل في المعتق بعضه ويتبين صحة
هذا الجواب بأصلهم فإن عندهم البيع الفاسد لا يوجبه الملك
بنفسه وإذا أوجبه أوجب ملكا مستحق النقض والفسخ وأما عقد
الكتابة فيوجب العتق على ما يوجب الصحيح منها ووجب بها عتق
مستقر ينقضى ولا يرفع وليست هذه المفارقة عندهم إلا لأن
العقد عقد عتق وهذا الجواب نهاية الإمكان ولا يعرف معنى في
الكتابة ووقوع العتق بها عندنا وعندهم على الوجه الذى
قالوه وجعلهم ذلك أسوة الصحيح من كل وجه إلا لهذا المعنى
الذى قلت
ج / 2 ص -185-
ولابد
في قبوله من فضل نظر وتمام عناية وتأمل على الجهة الحسنى
والله المعين بمنه وعلى الجملة والفقه عزيز جدا وقد غلب
الجدليون غلبة عظيمة واقتنعوا بدفاع الخصوم ورضوا بعبارات
مزوقة فاضلة عن قدر الحاجات والعبارات قوالب المعانى فإذا
زادت على المعانى كانت من فضول القول والواجب على الفقيه
أن يكون جل عنايته مصروفا إلى طلب المعانى ثم إذا هجم
عليها فلا بأس أن يكسوها بالكسوة الحسنة ويبرزها عن خدرها
في أحسن مبرز فيصير المعنى كالعروس تترفل1 في حلية وجللة
فأما إذا اشتغل بالعبارات وأعرض عن المعانى وكان جل سعيه
في التهوين على الخصوم وإيقاعهم في الأغاليط بعبارته خفى
الحق والصواب فيما بين ذلك وجواب واحد يقام عليه برهان
يكشف عن الحق ويسكن إليه القلب ويزول به تلجلجه خير من ألف
جواب جدلى وإن كان يقع به دفاع الخصوم وإسكاتهم والله يعين
على ذلك بمنه وطوله إن شاء الله تعالى.
مسألة: تخصيص العلة
العمل أن نشرع في هذه المسألة بذكر طرف مما يفسد به العلة:
أعلم أنه قد ذكر الأصحاب ما يفسد به العلة وعدوا وجوها
عشرة وأكثر وذكروا:
الوجه الأول: وهو أن لا يدل الدليل على
صحتها.
والوجه الثانى: أن تكون العلة منصوبة لما
لا يثبت بالقياس كأقل الحيض وأكثره وإثبات الأسماء واللغات
وغير ذلك وقد ذكرنا اختلاف الأصحاب في ذلك.
والوجه الثالث: أن تكون العلة مشروعة من
الأصل لا يجوز انتزاع العلة منه مثل أن يقيس على أصل غير
ثابت كأصل منسوخ أو أصل لم يثبت الحكم به وكذا لو كان
الأصل قد ورد بتخصيصه الشرع ومنع القياس عليه مثل قياس
أصحاب أبى حنيفة غير الرسول على الرسول صلى الله عليه وسلم
في جواز النكاح بلفظ الهبه.
والرابع: أن يكون الوصف الذى علل به لا
يجوز التعليل به مثل أن يجعل العلة اسم لقب أو نفى شئ على
قول من لا يجيز ذلك أو شبها على قول من لا يجيز قياس الشبه
أو وصفا لم يثبت وجوده في الأصل أو في الفرع.
والخامس: أن لا تكون العلة مؤثرة في الحكم
وهذا قد سبق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: تمشى متبخترة انظر القاموس المحيط "3/374".
ج / 2 ص -186-
والسادس: أن تكون العلة منتقضته وهى أن توجد وبها حكم معها والكلام في هذا
سيأتى.
والسابع: أن يمكن قلب العلة وهو أن يعلق
عليها نقيض ذلك في الحكم ويقاس على الأصل والكلام يأتى في
هذا أيضا.
والثامن: أن لا توجب العلة حكم به الأصل
وذلك أن يفيد الحكم في الفرع بزيادة أو نقصان عما يفيدها
في الأصل فيدل ذلك على فسادها وذلك مثل أن يقول الحنفي في
إسقاط تعيين النية في رمضان لأنه مستحق العين فلا يفتقر
إلى التعيين كرد الوديعة وهذا لا يصح لأنه لا يفيد في
الفرع غير حكم الأصل لأنه يفيد في الأصل إسقاط التعيين مع
وجوب أصل النية ومن حكم النية أن يثبت الحكم في الأصل ثم
يتعدى إلى الفرع فينقل حكم الأصل إليه.
والتاسع: أن يعتبر حكما بحكم مع اختلافهم
في الوضع وهو الذى تسمية الفقهاء فساد الوضع والاعتبار
وذلك مثل أن يعتبر ما بنى على التخفيف على ما بنى على
التغليط وما بنى على التغليط على ما بنى على التخفيف وما
بنى على التضعيف والتأكيد بما بنى على خلافه وسيأتى هذا
أيضا.
والعاشر: أن يعارضها بما هو أقوى منها
فيدل ذلك على فسادها.
وهذه الوجوه ذكرها الشيخ أبو إسحاق رحمة الله تعالى في
اللمع أوردتها على سبيل الاختصار وحين أذكر وجوه الاعتراض
الصحيح على العلة ووجوه الاعتراض الفاسدة يدخل أكثر هذه
الوجوه في أثناء ذلك فأما المسألة التي قصدناها وهى مسألة
تخصيص العلة وهى داخلة فيما تفسد به العلة فنقول: اختلف
العلماء في تخصيص العلل الشرعية وهى المستنبطة دون المنصوص
عليها فعلى مذهب الشافعى وجميع أصحابه إلا القليل منهم لا
يجوز تخصيصها وهو قول كثير من المتكلمين وقالوا تخصيصها
نقض لها ونقضها يتضمن إبطالها.
وقال عامة العراقيين من أصحاب أبى حنيفة: يجوز تخصيصها
وأما عامة الخراسانيين فإنهم أنكروا تخصيصهاوذهبوا إلى ما
ذهبنا إليه.
وقال أبو منصور الماتوريدى السمرقندى القول بتخصيص العلة
باطل ومن قال بتخصيص العلة فقد وصف الله تعالى بالسفه
والعبث فأما أبو زيد فإنه قال بتخصيص العلة أو ادعى أنه
مذهب أبى حنيفة وأصحابه واختلف أصحاب مالك في ذلك أيضا
ج / 2 ص -187-
وقال
بعضهم بجوازه وأنكر بعضهم جوازه1 وقال بما ذهبنا إليه.
ومثال التخصيص في العلة ما صار إليه أصحاب أبى حنيفة فإنهم
قالوا: إن علة جريان الربا في الذهب والفضة هو الوزن
وجعلوا لذلك فروعا من الموزنات ثم جوزوا إسلام الدراهم في
الزعفران والحديد والنحاس مع اجتماعهما في الوزن يحكم
بتخصيص العلة فانتقضت العلة عندنا واحتج من أجاز تخصيص
العلة وقال: إن العلل الشرعية أمارات وليس بموجبات وإنما
صارت أمارات بجعل جاعل ونصب ناصب فجاز أن تجعل أمارات
للحكم في عين دون عين كما جاز أن نجعل أمارة في وقت دون
وقت وربما عبروا عن هذا وقالوا العلة أمارة على الحكم فجاز
وجودها في موضع ولا حكم كما جاز وجودها قبل الشرع ولا حكم.
ببينة: أن الدليل الشرعى الظنى يجوز أن
يكون دليلا في موضع دون موضع.
ألا ترى أن خبر الواحد يكون دليلا عند عدم نص القرآن
قالوا: ولأن تخصيص العلة المنصوصة جائز فكذلك العلة
المستنبطة وهذا لأن ما يجوز على الشئ وما يستحيل جواز على
الشئ لا يختلف بحسب اختلاف طرقه ولم يوجدفى العلتين إلا
اختلاف الطريق فإن الطريق في أحدهما النص وفى الآخر
الاستنباط وليس هذا مما يوجب الاختلاف بعد أن يكون كل واحد
علة ومما اعتمده الأصولين في جواز تخصيص العلة هو أن العلة
الشرعية أمارة بوجدها في بعض المواضع من دون حكمها لا
يخرجها عن كونها أمارة لأن الأمارة ليس يجب وجود حكمها
معها على كل حال وإنما الواجب أن يكون الغالب مواصلة حكمها
معها وليس يبطل هذا الغالب بتخلف حكمها عنها في بعض
المواضع.
والدليل عليه أن وقوف مركب القاضى على باب الأمير أمارة
لكونه في دار الأمير ولا يخرجه عن كونه أمارة على ذلك أن
لا يكون القاضى في بعض الحالات في دار الأمير ويرى مركوبه
على بابه. ألا ترى أنا نرى مرة مركوب القاضي على باب
الأمير ولا يكون القاضي هناك فإن رأينا مرة أخرى مركوبة
على باب الأمير غلب على ظننا كونه في داره ولم يمنع تخلف
المرة من وجود الظن وغلبته وكذلك الغيم الرطب في الشتاء
أمارة للمطر وقت يخلف في بعض الأحايين ولا يدل إخلافه في
بعض الأحايين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحكام الأحكام "3/351" المستصفى "2/336".
ج / 2 ص -188-
أو ليس
بأمارة.
قال أبو زيد في تقويم الأدلة: زعمت الطردية أن العلل
القياسية لا تقبل الخصوص نقضا لزعمهم أن الحكم متعلق بعين
الوصف فلم يجز وجوده بلا مانع ولا حكم معه وهذا غلط لغة
وشريعة وإجماعا وفقها أما اللغة فلأن النقض اسم لفعل يرد
فعلا سبق على سبيل المضادة كنقض البيان ونقض كل مؤلف ونقض
العقد كل قول بخلافه والخصوص بيان أنه لم يكن في العموم.
ألا ترى: أن نقض الخصوص العموم ونقيض النقض البناء
والتأليف وأما الشريعة فلأن التناقض غير جائز على الكتاب
والحجج كلها والخصوص جائز على عموم النص فتبين أنه لم يكن
دخل تحت الجملة ولم يرد به في الابتداء ألا ما بقى بعد
الخصوص إلا أنه نقض بعد الثبوت.
وأما الإجماع فلأن القائسين أجمعوا أن من الأحكام ما ثبت
بالنص بخلاف القياس فخص النص عن موجب القياس ولولا النص
لكان الحكم بالقياس بخلاف ذلك والشافعى يسميها مخصوصة عن
القياس ونحن نسميها معدولا بها عن القياس.
وأما الفقه فلما ذكرنا أن المعلل ما ذكر شيئا غير أن سماه
علة ويمكنه الثبات عليه من غير رجوع مع انعدام الحكم بأن
يضيف العدم إلى مانع ودليل قام عليه دون فساد العلة وإنما
عبروا عن هذا وقالوا إذا علمنا وصفا من جملة المنصوص أنه
علة ثم وجدناه في موضع ولا حكم معه فعلم ضرورة أن مانعا
يمنع من الحكم وهذا كما أن ما يضاد العبادات وجدناه مبطلا
للعبادة ثم إنا وجدنا أكل الناسى وهو مضاد للصوم لا يبطل
الصوم علمنا ضرورة أن مانعا منعه من العمل وكذلك وجدنا بيع
من هو من [أهل البيع مزيلا للملك]1 من البائع فإذا وجدنا
بيعا فيه خيار البائع ولا يزيل الملك مع [....]2 محله
علمنا ضرورة أن مانعا منعه من العمل.
ببينة: أنا نرى [فى العلل المحسوسة أنها]3
توجد ولا يوجد الحكم لمانع لها من العمل فإن النار علة
الاحتراق والنار توجد ولا إحراق لمانع منعها من العمل فإن
النار لم تحرق إبراهيم صلوات الله عليه وكذلك لا تحرق
الطلق4 ولا يحرق الذهب والفضة فإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 كشظ في الأصل
3 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
4 هو دواء إذا طلى به منع حرق النار انظر القاموس المحيط
"3/251".
ج / 2 ص -189-
جاز
هذا في العلل الحسية فلأن يجوز في العلل الشرعية أولى.
وأما دلائلنا في منع تخصيص العلة فنبدأ بما ذكره الأصوليون
من المتكلمين قالوا: معنى قولنا لا يجوز تخصيص العلة هو أن
تخصيصها يمنع من كونها أمارة وطريق إلى الحكم وإذا بينا أن
تخصيصها يمنع من كونها طريقا إلى الحكم فقد تم ما أردناه.
وبيان أنه يمنع: أنا إذا قلنا علة تحريم بيع الذهب بالذهب
متفاضلا كونه موزونا.
قلنا: إن بيع الرصاص بالرصاص متفاضلا لا يجوز مع وجود
الوزن فالقائل لذلك لا يخلو إما أن يقول نص أو يقول ذلك
بعلة تقضى إباحة هى أقوى من علة بتحريم بيع الذهب بالذهب.
فإن قال علمت ذلك بعلة وهى أنى أقيس الرصاص على أصل مباح.
فيقال له: بأي معنى تقيس فإن ذكر وصفا من أوصاف الرصاص
وقاسه على سائر الأصول التي يجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا
فإنا إنما نعلم حينئذ حرمة بيع الذهب باذهب متفاضلا بالوزن
وبعدم ذلك الوصف الذي جعله علة للإباحة فتبين أنا نعلم بعد
التخصيص أنا لا نعلم تحريم شئ بكونه موزونا فقد وأنت جعلت
العلة هي الوزن فإن قال: الخصم الأمر كما قلتم غير أنى لا
اشترط نفى ذلم الوصف في كون الوزن علة يقال: له سلمت أن
العة ليست هى الوزن فقط فهو الذي نريده فإنه لابد من
اعتبار نفى وصف آخر. فنقول لك: هلا اشترطت نفى ذلك الوصف؟
فإنك إذا لم تشترط أوهمت أن العة هي الوزن فقط وقد سلمت
فساد كون ذلك علة فقط.
فإن قال: أنا لا أشترط غير أن لا أسمية جزءا من العلة وإن
كان التحريم لا يحصل بدونه.
يقال له: قد ناقضت في هذا الكلام لأنك قد اشترطته في
التحريم. ثم نقضت ذلك بقولك لا أسمية جزءا من العلة مع أنك
وافقت في المعنى وخالفت في الاسم.
فإن قال: علمت إباحة بيع الرصاص بنص
يقال له: هل علمت علة إباحته. فإن قال: علمت فالقول في ذلك
قد تقدم وإن قال: لا أعلم علة إباحته. فمعلوم أن علة ذلك
مقصورة على الرصاص لا يتعداه لأنها لو تخطته لوجب في
الحكمة أن ينصب الله تعالى علمنا على ذلك. لنعلم ثبوت
حكمها فيما عدا الرصاص وإذا كان كذلك لم يعلم تحريم بيع
الذهب بالذهب إلا لأنه موزون وأنه ليس برصاص. فيبطل بهذا
الوجه أيضا أن تكون العلة هى الوزن فقط فثبت أن
ج / 2 ص -190-
التخصيص يخرج العلة عن كونها أمارة والذى يبين هذا أيضا أن
الإنسان لو استدل على طريقة في برية بأميال منصوبة ثم رأى
ميلا لا يدل على طريقه وعلم أنه لا يدل على طريقه لأنه
أسود. فإنه لا يستدل بعد على طريقه بوجود ميل دون أن يعلم
أنه غير أسود فقد صح بما أردناه أن تخصيص العلة يخرجها عن
كونها أمارة على الحكم ثم الذي يؤيد صحة هذه الطريقة العلل
العقلية فإن تخصيصها لا يجوز بالإجماع والعلل الشرعية مع
الشرع كالعقلية مع العقل. فلما لم يجز تخصيص العلة العقلية
كذلك العلة الشرعية.
فإن قالوا: إنما لم يجز تخصيص العلة العقلية لا لإن
الدلالة دلت على تعليق الحكم بها بل لأنها موجبة بنفسها
فلا يجوز أن لا يتبعها حكمها إذا وجدت وأما العلة الشرعية
أمارة والأمارات يتبعها حكمها وقد لايتبعها.
قالوا: ولا نسلم أن العلة الشرعية مع الشرع كالعقلية مع
العقل [ويمكن]1 أن يجاب عن هذا فيقال: إن العلل الشرعية
موجبة أيضا مثل العلل العقلية ولا فرق عندنا [بين]2 العلل
الشرعية والعلل العقليه. فإن العلة قط لا تكون علة بنفسها
إنما تكون علة بالشرع ولولا الشرع لو لم يعرف ثبوت [شيء
و]3 لا انتفاؤه ولا تحليل شئ ولا تحريمه بالعقل بحال وعلى
قول من يقول: إن العقل موجب يقال: لهذا السائل أيضا إنكم
تقولون إن الشرائع مصالح والعلل الشرعية وجوه المصالح
ووجوه المصالح موجبات أيضا فلا يجوز تخصيصها أيضا كما
سلمتم من العلل العقلية.
وقد قال الأصحاب: إن العلل الشرعية وإن صارت عللا بالشرع
إلا أنها بعد ما صارت عللا بمنزلة العقلية في وجوب الحكم
بوجودها فوجب أن تكون بمنزلتها في أن تخصيصها يوجب فسادها.
دليل آخر: وهو أن العلة طريق في إثبات الحكم في الفرع فإنا
إذا علمنا أن الوصف علة الأصل ودل الدليل على التعبد
بالقياس. فإن الوصف يكون طريقا إلى العلم بحكم الآخر لأن
طريق العلم بالشئ أو الظن له لا يجوز حصوله في أشياء.
فيكون طريقا إلى العلم أو الظن بأحدهما ولا يكون طريقا إلى
ذلك في الآخر والدليل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
3 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -191-
على أن
الطريق لا يختلف فإن من ظن أن زيدا في الدار بخبر رجل بعيد
من الكذب. فإنه لا يجوز أن يخبره ذلك الرجل بكون عمرو في
الدار. ثم لا يظنه صادقا وإذا وجب ذلك في الأخبار فلأن يجب
ذلك في الأمارات التي دل عليها الدليل أولى.
دليل آخر ثالث للفقهاء وهو: أن وجود العلة مع عدم حكمها
مناقضة والمناقضة من آكد ما يفسد به العلة لأنه يفضى إلى
العبث والسفه.
والدليل على أن هذا مناقضة أن العقلاء يعدونه مناقضة مفسدة
حتى العوام منهم لأن قائلا لو قال: سامحت فلانا لأنه بصرى
ثم لم يسامح غيره من البصريين يقول له الخواص والعوام زعمت
أنك سامحت فلانا لأنه بصر فهذ بصري فهلا سامحته؟
فإن قيل: لو اعتذر عن هذا فهلا سامحته فإن قيل: لو اعتذر
عن هذا وقال: لم أسامح فلانا وإن كان بصريا لأنه عدوى صح
عذره ولم يكن لأحد أن يلزمه نفى اللعداوة في غلبة الأولى.
قيل له: يجوز أن يلزم ذلك. فيقال: هلا قلت سامحت فلانا
لأنه بصري ولأنه صديقي.
فإن قيل: [العلة]1 المؤثرة لا يتصور انتقاضها. قلنا: إذا
ورد عليها النقض دل أنها ليست بمؤثرة.
فإن [قالوا: إن الحكم]2 في صورة النقض ثبت بخلاف هذا الحكم
بعلة أخرى لا بهذه العلة قلنا: وإذا [....]3 علة أخرى من
علة والانتقال من علة إلى علة أمارة ضعف [الحكم.... جواز]4
صوم غير رمضان بالنية قبل الزوال وقال صوم يتأدى بنية
متقدمة على وقت الشروع فيه فيتأدي بنية متأخره عن وقت
الشروع فيقال بنتقض بالقضاء فمن يقول بتخصيص العلة يقول في
القضاء منع مانع من الجواز
فإذا قيل له: ما المانع؟ يقول: المانع هو أن الإمساك موقوف
على الصوم المشروع في ذلك الوقت وهو النفل فلا يجوز رد
تنفيذه على صوم آخر بخلاف صوم رمضان فإنه يوقف الإمساك على
الصوم المشروع فيه وهو صوم الفرض. فيجوز تنفيذه عليه وهذه
علة أخرى سوى العلة الأولى وقد تطلب هذه العلة. فمن ارتكب
مثل هذه المناقضة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 كشظ في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
3 كشظ في الأصل.
4 كشظ في الأصل.
ج / 2 ص -192-
ولم
يبال بمثل هذا الانتقال. قلنا: من ضعفه على ضعف غيرته وقلة
تصيرته في معنى الفقه والجملة أن النقض لا يلزمه إلا
الضعف.
وقد قيل: أيضا إن من لم يبال بانتقاض علته يلزمه القول
بتكافئ الأدلة وهو ساقط بالاتفاق.
وبيان ذلك: أن من قال في محاولة تحليل النبيذ هو مائع فيحل
شربه كالماء والمعلل غير مبال بلزوم الخمر نقصا لأنه يقول
بتخصيص العلة فللمعترض أن يقول مائع فيحرم كالخمر ولا
يبالى بالنقض بالماء لأنه يقول بتخصيص العلة فيتكافأ
الدليلان وليس أحدهما بأولى من الآخر وقد اعترضوا على هذا
وقالوا بطلان هذين التعليلين إنما كان لوقوعهما طردين
خارجين عن مسلك المعانى والأشباه المعتبرة والنطق بمثل هذا
باطل.
ونحن نقول: إنما قلتم معنى مبطل وما قلناه أيضا معنى مبطل
فبطلت العلة من وجهين. وقد قال: أصحابنا إن القول بتخصيص
العلة يؤدى إلى ما ذكرناه من تكافئ الأدلة يؤدى أيضا إلى
أن يتعلق بالعلة الواحدة حكمان متضادان وذلك أنه إذا وجدت
العلة في أصلين واقتضت التحليل في أحدهما دون الآخر لم
ينفصل من علق عليهما التحليل في الفرع اعتبارا بأحد
الأصلين ممن علق عليها التحريم في ذلك الفرع اعتبارا
بالأصل الآخر فيتكافأ الدليلان ويستوى القولان وهذ لا يجوز
وفى المسألة كلام كثير ونحن رأينا الاعتمادد على هذه
الدلائل الثلاثة وهى أقوى ما يعتمد عليها وقد أيد ما قلنا
قول الله تعالى:
{وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ
اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] والنقض من الاختلاف فدلت المناقظة على أن الدليل ليس
من عند الله تعالى وما لا يكون من عند الله لا يكون حجة في
حكم الجواب
قلنا: أما قولهم: إن العلل الشرعية أمارات بجعل جاعل.
قلنا: من تعنى الجاعل إن عنيت المعلل فلا نسلم أنها صارت
علة بجعل الجاعل.
بل هى علة شاء المعلل أم أبى وقد يقصد المعلل إثارة حكم
فيظهر العلة المؤثرة بغير ذلك الحكم وإن عنيت بجعل الشرع
فمن أين لكم أن الشرع جعل هذا أمارة في موضع دون موضع؟ ثم
نقول: الأمارة المعتبرة لنا الحكم عليها الأمارة اللغوية
للظن وبالنقض يذهب قوة الظن أو يقال: هو أمارة بشرط أن لا
ينتقض كما هو أمارة بشرط أن لا يعارضها نص كتاب أو نص خبر
وأما تعلقهم بالعلة المنصوبة قلنا: من
ج / 2 ص -193-
أصحابنا من قال: لا يجوز تخصيص العلة المنصوص عليها1 لا
يجوز تخصيص العلة المستنبطة ومتى وجدناها مع عدم الحكم
علمنا أنها بعض العلة غير أنا لا نقول: إن العلة الشرعية
منقوضة لأن الشرع لا تناقض في كلامه فإذا كان مخصوصا علمنا
أنه لم ترد كل العلة وأما المعلل يجوز أن يناقض. فإذا أطلق
التعليل ودخل التخصيص وهو مناقضة كما بينا علمنا أن ما
ذكره ليس بدليل أصلا إن سلمنا أن تخصيص العلة التي نص
عليها يجوز ولا يجوز تخصيص العلة المستنبطة فالفرق بينهما
أن العلة المنصوصة دليل صحتها النص فحسب وقد وجد فصحت وأما
العلة المستنبطة فدليل صحتها التأثير أو الجريان على ما
سبق وبالتخصيص بطل الجريان ويبطل التأثير أيضا لأنه تبين
أنه ليس بأمارة أو تبين أنه لا يفيد قوة الظن وإنما صارت
العلة علة لقوة الظن فإذا فات الظن فاتت العلة.
وأما كلامهم الذي اعتمدوا عليه: قلنا: لا ننكر أن توجد
الأمارة في بعض المواضع من غير حكمها لكن إذا علمنا انتفاء
حكمها في بعض المواضع العلة من العلل شرطنا في كونها أمارة
انتفاء تلك العلة وانتفاء الموضع الذي لم يوجد حكم العة
فيه حكمها ولا يكون العلة المذكورة طريقا إلى الحكم إلا
إذا علمنا انتفاء ما شرطنا انتفاؤه وعلى أن بطلان العلة
لمكان التخصيص أثبتناه بوجود المناقضة في كلامه أو لفوات
التأثير الذى هو المعتمد في صحة العلة وفى المواضع التي
استشهدوا بها في الحسيات ليس الموجود بكلام حتى يكون
مناقضا وأما على قولنا: إن التأثير يفوت بالتخصيص فإنما
أردنا بالتأثير قوة الظن وكذلك نقول في تلك المواضع إن قوة
الظن تفوت خصوصا إذا تكرر رؤية دابة القاضى على باب الأمير
من غير أن يكون القاضى ثم وكذلك إذا تكرر وجود الغيم ولا
مطر والإشكال مع ما قلناه قائم لأنه تمكن دعوى زوال
الأمارة في الغيم الرطب وفي الموضع الآخر بوجود الإخلاف
مرة أو مرتين فكذلك في مسألتنا وجب أن لا تزول الأمارة
بوجود التخصيص في موضع أو موضعين إلا أنا نقول: لابد أن
تضعف الأمارة بما ذكرنا ولابد من توفر القوة من كل وجه لأن
هذا ظن يثير حكما شرعيا فلا بد من بلوغه نهاية القوة وأن
لا يتوهم في الظن قوة وراء قوته حتى يصح تعليق الحكم
الشرعى به وذلك بوجود الإطراد حتى لا يخلف هذه الأمارة في
موضع ما. فإذا اختلف لم يتوفر للحكم القوة من كل وجه وهذا
جواب حسن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحكام الأحكام "3/315".
ج / 2 ص -194-
اعتمدته وهو بمحل الاعتماد.
فإن قال قائل: أليس أنكم لم تجعلوا الإطراد على صحة العلة.
قلنا: الدليل الأصلى في صحة العلة هو التأثير إلا أن
الإطراد شرط لما ذكرنا وهو أولا يضعف الظن فوجب ترك تعليق
الحكم به وأما الذى ذكره أبو زيد فليس فيه كبير دليل.
وقد بينا دلائل سوى ما ذكرناه وبينا وجه تأثير التخصيص في
العلة [وأنا نقول: إن تخصيص العام المطلق لا يجوز كما لا
يجوز تخصيص العلة المطلقة أن كل واحد منهما دليل]1 والذي
تعلق به من جواز تخصيص العموم.
فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: أنا نقول: إن تخصيص العام من أدلة
الشرع والدليل إذا اختلفت عدالته بطلت شهادته وإنما يجوز
تخصيص العام المقيد ويتبين عند وجود علم التخصيص أنه كان
مقرونا في الابتداء ولا يكون ذلك نقضا لدلالته وإنما كان
النقض أن يقال: كان مطلقا مقيدا. وهذا الجواب فيه نظر على
المذهب.
والجواب الثاني: إن لفظ العموم لفظ لغوى
يجوز أن يشتمل على كل ما يصلح أن يكون أسما له ويجوز أن
يشتمل على بعضه.
ألا ترى: أن أهل اللغة يستعملون ذلك على كلا الوجهين ولهذا
نقول إذا ورد في الابتداء لابد من النظر في الأدلة. ثم إذا
لم نجد مخصصا يعتقد عمومه فصار اللفظ العام محتملة لا
يستقر قرار المراد بنفسه إلا بعد السير والنظر في الأدلة
فلم يمتنع بذاته على المخصوص به.
واما المعنى فشئ له مقصود خاص. فمتى قام الدليل على صحته
بالتأثير استقر المراد به. فلا يجوز أن يختلف المعنى
المؤثر وهذا اختلف تغيرت صفته وأذا تغيرت صفته تغيرت سمته.
وعندي أن الجواب بحرف واحد وهو أن العام كان حجة فيما
يتناوله بنفس تناول اللفظ له وذلك التناول فيما وراء
المخصوص لا يبطل بالتخصيص وأما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبتت العبارة في الأصل هكذا:
[وقد بينا دلائل سوى ما ذكرنا وبينا وجه تأثير التخصيص في
العلة والذي تعلق به من جواز تخصيص العلوم فالجواب عنه
وجهين: أحدهما: أنا نقول إن تخصيص العام المطلق لا يجوز
تخصيص العلة المطلقة؛ لأن كل واحد منهما دليل. أحدهما: أنا
نقول إن تخصيص العام...إلخ].
فعدلنا العبارة بعلمنا الضعيف الحقير. طالب العلم/ محمد
فارس.
ج / 2 ص -195-
العلة
كانت حجة بالتأثير المفيد لقوة الظن وهذا يبطل ويفوت
بالتخصيص وعلى هذا يظهر الجواب عن العلة المنصوصة أيضا لأن
صحتها بالنص لم يضره التخصيص الواقع عليه.
وأما المستنبطة فصحتها بالتأثير وشرطها الجريان لئلا تضعف
قوة الظن الواقع بها فيمتنع تعليق الحكم به وعلى أن طائفة
من أصحابنا سووا بين العلتين في المنع من التخصيص وعلى
التسليم قد ظهر الجواب ظهورا قويا وقد سلم أبو إسحاق
المروزى وأبو العباس بن القاص وفرقا بشئ طويل على ما هو
سمت كلام المتقدمين وحرف الجواب ما قدمنا وفيه بلاغ ومقنع.
وقد قال بعضهم: إن الشافعى في إنكاره تخصيص العلة مناقض
لأنه قال بتخصيص العلة في مسائل كثيرة: منها أنه يقول: إن
الواجب على متلف اللبن مثله قياسا على إتلاف كل ماله مثل.
ثم خص هذا الأصل في المصراة فأوجب في اللبن المستهلك فيها
صاعا من تمر ومنها: أنه علل تحريم الخمر للشدة وقاس عليها
تحريم النبيذ وللخمر ثلاث أحكام التحريم والتفسيق والحد
وطرد علته في الفرع في الحد ولم يطرد في التفسيق. فإنه لم
يرد شهادة شارب النبيذ ولم يحكم بفسقه وأيضا فإنه خص علة
الزنا في مسألة العرايا.
وجوز العقد من غير وجود المماثلة كيلا أو كذلك قد خص ضمان
الجنين بالغرة مع مخالفته سائر أجناسه وكذلك الدابة على
العاقلة خص من بين المواضع ولا يوجد لها نظير في موضع ما
وأمثال هذا كثير وما زال الفقهاء يقولون خص بموضع كذا
بدليل كذا وقل ما يوجد أصل من أصول الشرع لم يخص منه موضع.
والجواب وبالله التوفيق: أنا لا ننكر وجود مواضع في الشرع
وتخصيصها بأحكام تخالف سائر أجناسها بدليل شرعى يقوم عليه
في ذلك الموضع على الخصوص فيقال إنه موضع يمتاز من سائر
المواضع يختص بالحكم من غير أن يتعرض لع معنى أصلا فيكون
ذلك مسلما لذلك الدليل ولا يصدم أصل ولا يصدم هو أصلا ولا
يطلب له معنى قبل ما يطلب سائر المواضع وهذا مثل عوض اللبن
في المصراة ومثل مسألة الميزابنه ومسألة تحمل العقل ومسألة
الجنين وأمثال هذا فكما لا يقول أنه يقاس عليها من غيرها
المواضع بمعنى لا نقول أنه تخصيص به أصل عرف بمعنى والقول
الملخص في الباب: أن ما تخص به العلة المعنوية إذا عرف
معناها ولابد للمخصص من فارق معنوى من
ج / 2 ص -196-
الموضعين فهذا التخصيص ممنوع منه لأنه إذا افترق الموضعان
بعلة معنوية مؤثرة في التفريق تبين لنا أن المعلل في نصبه
العلة التي خص منها هذا الموضع لم يستوف الحجة ولم يكمل
نظره في بيان العلة لأنه لم يكن له غير استثناء المعنى
الذى خص به الموضع المذكور ونظيره من جعل الوزن علة
بانفراده في تحريم النساء ثم قال: يجوز أن يسلم الدراهم في
الزعفران والحديد والرصاص وبين معنى مؤثرا في جواز ذلك خص
هذا الموضع في الجواز مع وجود الوزن في الجانبين فحين
ذكرنا معنى مؤثرا في جوازه دل أنه بجعله مجرد الوزن علة لم
يستوف النظر ولم يدرك تمام الحجة وكذلك من جعل الطعم علة
في تحريم الربا ثم قام للدليل أن الطعم مؤثر مع الجنس حتى
أن الحنطة بالشعير يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا مع وجود
علة الطعم فيها دل أنه لم يستوف النظر فإن لم يبين المعلل
معنى مؤثرا في الجنسين فنبين عند ذلك أن الجنس محل وشرط
وليس بعلة وكذلك نقول وقد ذكرنا في مسألة علة الربا إنه لا
تأثير للجنس بوجه ما وأن التأثير للطعم على الخصوص فمن عرف
الأصل الذى قد بيناه سهل له الكلام هذا لأن التخصيص عمله
في تفويت قوة الظن بالأمارة وإنما يفوت مثل ما يستند
المخصوص منه إلى معنى فأما إذا لم يستند إلى معنى أصلا فلا
يفوت بذلك قوة الظن وهذا مثل من يقول إن اللبن من ذوات
الأمثال لأن المثل أعدل الواجبين وكونه أعدل منه للقيمة لا
يشكل على ناظر فبأن استثنى لبن المصراة من هذا الأصل بنص
خصه لا يفوت قوة الظن في سائر المواضع وكذلك إذا قلنا: إن
غير الجانى لا يوجد بضمان الجناية فإذا خص هذا الأصل
بإيجاب الدية على العاقلة وتحميلهم إياها وسلم ذلك النقض
لا يفوت قوة الظن في سائر المواضع وعلى عكس هذا إذا قال:
إن الوزن علة الربا ثم قال: إسلام الدراهم في الموزونات
تجوز ورام التفريق بين الوزن والكيل في أن الكيل بانفراده
يحرم النساء والوزن بانفراده ولا يحرم النساء في هذه
الصورة وفرق بما ذكروا من أن الوزن في أحدهما يشبه الكيل
والوزن في الآخر لا يشبه الكيل أو قال: إن الوزن في أحدهما
وزن الأثمان وفى الآخر وزن المثمنات ثم كان قد جعل أصل
الوزن علة فعلى القطع نعلم أنه يزول قوة الظن في كون الوزن
علة وقد ذكر بعضهم الكتابة الفاسدة في مسألة البيع الفاسد
من هذا الجنس وقال: إذا قلنا: إن البيع الفاسد ليس بسبب
شرعى فلا يفيد الملك الشرعى فإذا ألزم الخصم عليه الكتابة
فيقال للملزم أتعرف بخروج الكتابة الفاسدة عن قاعدة
المعانى أم تدعى جريانها على سمت المعاني؟
ج / 2 ص -197-
فإذا
ادعى جريانها على المعنى فلا شك أنه لا يمكنه الوفاء به
وإن سلم أنها خارجة على قاعدة المعانى الشرعية وصار يطلب
فارقا معنويا بين البيع الفاسد والكتابة. فقال للمعلل: إن
النقض إنما يلزم المعلل من جهة أنا نطالبه بطرد المعنى في
كل موضع يوجد فيه فإذا سلمت أن النقض خارج حائد عن مسلك
المعانى لم يدخل على الأصل المعنوى ولم يبطل به ذلك المعنى
ولا فات به قوة الظن وهذا مثل إيجاب الدية على العاقلة لا
يرد نقضا على الأصل الذى قلناه من قبل وهذا لأن الشاذ لا
يورد نقضا على الأصول الكلية بل يترك الشاذ على شذوذه
ويحكم بخروجه عن المنهاج المستقيم على قواعد الشرع بدليل
دل على ذلك ولا يحكم بمصادمته أصلا كما لا يحكم بمصادمته
أصل أياه وعلى هذا مسألة المزابنة وجعل الخرص سببا لمعرفة
المماثلة والخلاص به عن الربا وعلى هذا مسألة الجنين
وإيجاب الغرة من غير أن يعرف للجنين حياة ومن غير أن يبلغ
بالواجب ضمانات النفوس ومن أحكم ما قدمناه سهل عليه الخروج
عن مثل هذه المسائل واعلم أن هذه المسائل ليست ترد على
الأصل الذى قدمناه وقد اختار أبو زيد في هذه المسائل جواز
القول بتخصيص العلة واستدل بما قدمناه ثم سأل على نفسه
سؤالا فإن قيل: لو جاز القول بتخصيص العلة ما اشتغل أهل
النظر بالجواز من النقوض كما في العمومات ولاكتفوا بقولهم
كانت علتى توجب كذبا فخصصها بدليل وبالإجماع لا يكتفى بذلك
وأجاب وقال: إنما لم يكتفوا لأن دعواهم أن هذا الوصف علة
قول بالرأى ويحتمل الغلط فإذا وجدنا الوصف ولا حكم معه
واحتمل عدم الحكم لفساد العلة واحتمل لمانع ولم تثبت جهة
الانعدام لمانع بنفس الدعوى حتى تقيم عليه الدلالة بإظهار
المانع في تلك الحادثة دون هذه وأما النظر فلا يحتمل الغلط
فلا ينبغى لإنعدام الحكم مع وجود النص إلا الخصوص الذى
يليق بكلام الشرع فلم يحتج إلى أن يثبت هذا الوجه ثم قال:
وفرق ما بيننا وبينهم في الخروج عن المناقضة أنا خرجنا عن
المناقضة بمعنى فقهى وهم خرجوا بلفظ سمعى إلا أن الدفع
باللفظ يسير لآنه ظاهر محسوس والمعنى عسر لأنه باطن معقول
فمالت النفوس بهواها إلى الظاهر الميسر ولعمرى لو أنصفوا
وعدلوا أنفسهم على ترك المعنى الفقهى بسبب الحرج الذى
يلحقهم لشكروا من تحمل المشقة وجاهد هواه حتى وصل إليه
وذكر في هذا كلاما طويلا ولا حاجة إليه ونحن قد بينا
الدلائل المعتمدة في منع تخصيص العلة فيبقي أن يكون الكلام
على ذلك والله أعلم.
ج / 2 ص -198-
"فصل"
قد ذكر بعض أصحاب أبى حنيفة أنه يجوز تعليل الحكم بالعلة
التي لم بثت الحكم فيها في الأصل قالوا كما يجوز أن يثبت
الحكم في الأصل بالنص ويستخرج معنى من الأصل ويعدى إلى
الفرع وهذا مثل من يقول في أن الشهادة على السرقة لا تقبل
عند تقادم العهد بأنه حد من حدود الله تعالى كحد الزنا
وليست العلة في الأصل هذا لكن العلة في الأصل توهم الطعن
في شهادتهم لأنهم لما لم يشهدوا فقد اختاروا الستر فإذا
شهدوا بعد ذلك فالظاهر أنه حملهم على ذلك طعن وهذا لا يوجد
في البينة على السرقة لأنه لا بد من الدعوى ولكن قاسوا
السرقة على الزنا في المعنى الذي يثبت به الحكم في الأصل.
وأما عندنا فالتعليل بمثل هذا باطل لأن إقامة الدليل على
صحة العلة لابد منه على ما سبق من قبل ولا يمكن إقامة
الدليل على صحة هذه العلة لأن التأثير لا يوجد بحال فإنه
إذا لم يمكن الحكم به ثبت في الأصل بتلك العلة فكيف يوجد
تأثيرها ولا يجوز أن يستدل على صحتها بفساد ما عداها لأن
العلة الأخرى صحيحة لم يفسد ما عداها ولا يمكن أن يستدل
على صحتها عليها بأن الحكم يوجد بوجودها في الأصل وينتفى
بانتفائها لأنا نعلم أنها لو وجدت في الأصل بدون العلة
الأخرى لم يثبت لها الحكم وإذا لم يثبت لها الحكم لم ينتف
بانتفائها فدل أنه لا دليل على صحة العلة وإذا لم يدل
الدليل على صحتها فبطل بهذا الوجه والله المعين بمنه.
"فصل"
وحين ذكرنا في العلل وأوردنا ما يصح منها نذكر الآن:
وجوه الاعتراض الصحيح على العلل الشرعية ووجوه الفاسد من
ذلك:
اعلم أن العراقيين من أصحابنا ذكروا أن ما يعترض به على
القياس من وجوه.
أحدها: الاعتراض بأن الحكم الذي نصبت له
العلة لا يجوز إثباته بالقياس.
الثاني: الاعتراض عليه بأن ما جعله أصلا
لا يجوز أن يكون أصلا.
والثالث: الاعتراض بأن ما جعله علة لا
يجوز أن يكون علة.
والرابع: الاعتراض بالممانعة في الأصل.
ج / 2 ص -199-
والخامس: الاعتراض بالممانعة في الوصف.
والسادس: الاعتراض بعلة تصحيح العلة.
والسابع: الاعتراض بالقول بموجب العلة.
والثامن: الاعتراض بعدم التأثير.
والتاسع: الاعتراض بالنقض.
والعاشر: الاعتراض بالكسر.
والحادى
عشر: الاعتراض بفساد الوضع.
والثانى
عشر: الاعتراض بالقلب.
والثالث
عشر: الاعتراض بالمعارضة.
قالوا: إن أول ما يبدأ به السائل من الاعتراض أن ينظر في
المختلف فيه هل يجوز إثباته بالقياس فيمنع من القياس إن
كان لا يجوز أثباته بالقياس ثم ينظر في الأصل هل يجوز أن
يعلل ثم ينظر في العلة هل يجوز أن يكون مثله علة ثم يذكر
الممانعة في الأصل إن لم يكن ملما ثم يطلب تصحيح العلة في
الأصل ثم يقول بموجب العلة إن أمكنه ثم ينقض ومن الناس من
يقدم النقض على موجب العلة ثم يأتى على ما بقى من عدم
التأثير والكسر وفساد الوضع ثم يأتى القلب والمعارضة.
قالوا: وإن خالف ما ذكرناه وبدأ يغير ما قلناه جاز وإن كان
قد ترك الأحسن إلا في الممانعة والنقض فأنه لا يجوز أن
ينقض ثم يمانع لأن التناقض يعرف بوجود العلة وأما المانع
فيمنع وجود العلة فإذا مانع بعد المناقضة فقد رجع فيما سلم
وهذا لا يجوز ثم قد ذكروا لكل واحد من هذه الاعتراضات
أمثلة ثم نذكر طرفا من ذلك فذكروا في وجه الاعتراض بان
المختلف فيه لا يجوز إثباته بالقياس أمثلة:
منها: أن يستدل على أمر طريقة العادة والوجود بالقياس.
ومنها: إثبات اللغة بالقياس وعلى هذا قول بعض أصحابنا1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إثبات اللغة بالقياس:
قال ابن جنى: جمهور أهل الأدب على أن القياس يجري في
اللغات ووافق أهل الأدب في ذلك بعض الأصوليين كالإمام
الرازي والبيضاوي وخالف ذلك جمهور الشافعية والحنفية منهم
الآمدى وابن الحاجب فقالوا: لاتثبت اللغة بالقياس ولا يكون
حجة فيها. وسنحرر محل النزاع: =
ج / 2 ص -200-
وقالوا: مثال الأول من يعلل في أن التسمية من الفاتحة أو
يعلل لنفيها من الفاتحة.
ومثال الثانى: إثبات الحيض للحامل بالقياس.
ومثال الثالث: إثبات اسم الخمر للنبيذ وإثبات اسم السارق
للنباش.
وقال بعض أصحاب أبى حنيفة: إن التعليل لإثبات كون الفراق
والسراح1 صريحين تعليل لإثبات اللغة بالقياس ولا يصح وكذلك
التعليل لإثبات أصل مثل المساقاة لا يصح لأن الأصول لا
تثبت بالقياس وكذلك قالوا: إن الحدود والكفارات لا يجوز
إثباتها بالقياس وكذلك الأبدال لا يجوز إثباتها بالقياس
مثل استدلال الشافعى رضى الله عنه أن المحصر ينتقل إلى
الصوم عند عدم الهدى.
ونحن نقول في الأول وهو مسألة الفراق والسراح أن التعليل
لإثبات حكم بالقياس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المستفاد من اللغة: إما أن يكون حكما وإما أن يكون لفظا
فإن كان المستفاد منها حكما مثل رفع الفاعل ونصب المفعول
فلا خلاف أن القياس لا يجري في مثل ذلك لأن رفع الفاعل أو
نصب المفعول ثبت من اللغة بالاستقراء والتتبع لكلام العرب
فكان ذلك شبيها بالقاعدة الكلية والقاعدة الكلية لاتختص
بالفرد دون فرد آخر وإن كان المستفاد منها لفظا فلا يخلو
إما أن يكون علما أو صفة أو اسما أو جنسا.
فإن كان اللفظ علما أو صفة فلا خلاف كذلك أن القياس لايجري
فيها أما العلم فلأنه وضع للذات ولم يوضع للمعنى حتى يمكن
انتقال هذا المعنى من محل إلى محل آخر فامتنع القياس فيه
لعد الجامع.
وأما الصفة مثل العالم والجاهل الكريم فلأنها واجبة
الاطراد بمقتضى الوضع في كل من جد فيه المعنى كالعلم
والجهل والكرم حيث كان الاطراد ثابتا وصفا فالقياس فيها
لاحاجة إليه.
أما إن كان اللفظ المستفاد من اللغة اسم جنس فلا يخلو إما
أن يكون له معنى يمكن ملاحظته في غير جنسه أو لايكون له
كذلك فإن كان الثاني فلا يمكن جريان القياس فيه لعدم
الجامع ولأن الواضع وصفة لكل من تحقق فيه المعنى مثل
الذكورة والبلوغ في الرجل والقياس لا حاجة إليه لوجود
الاطراد وضعا.
وإن كان الأول أي: له معنى يمكن ملاحظته في غير جنسه فهو
محل النزاع مثل: لفظ الخمر مثلا فإنها وضعت للمتخذ من عصير
العنب إذا غلا وقذف بالزبد لمعنى فيه هو المخامرة وهذا
المعنى يدور مع التسوية وجودا وعدما فعصير العنب عند
المخامرة يسمى خمرا وعند عدمها لا يسمى ذلك.
فإذا وجد هذا المعنى وهو المخامرة في غير الخمر كالنبيذ
مثلا فهل يجوز إطلاق اسم الخمر عليه أو لايجوز في ذلك
الخلاف المتقدم انظر نهاية السول "4/44, 45" سلم الوصول
"4/44, 45" اصول افقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/53,
54".
1 ثبت في الأصل "الصراح".
ج / 2 ص -201-
والحكم
هو وقوع الطلاق بهذا اللفظ من غير نية.
ونقول في الثاني: إن إثبات الأصول والجمل يجوز بالقياس كما
يجوز إثبات التفاصيل.
وأما الحدود والكفارات فقد بينا الكلام فيها.
وأما الأبدال فعندنا يجوز إثباتها بالقياس إذا أمكن
إثباتها على الشريطة التي قلناها وقدمناها من قبل.
وأما الاعتراض بأن من قاس عليه لا يجوز أن يجعل أصلا.
فمثاله: أن نقيس على اصل منسوخ مثل صوم عاشوراء فإنه لا
يجوز القياس عليه وكذلك إذا قاس غير الرسول على الرسول صلى
الله عليه وسلم وكذلك القياس على أصل مركب وقد ذكرنا
الكلام فيه وقد قال أصحاب أبى حنيفة: إن القياس على
المخصوص من الأصل لا يجوز وقد بينا من قبل جوازه إذا أمكن
القياس عليه وذلك بأن عرف له معنى يمكن قياس غيره به عليه
وأما الاعتراض بأن يقول ما جعلته علة لا يجوز أن يجعل علة
فمثال هذا أن يقول جعلت الاسم علة أو جعلت الشبه علة. أو
يقول: جعلت صورة المسألة علة أو يقول جعلت نفى صفة علة أو
يجعل الاختلاف أو الاتفاق علة والصورة في هذه الأشياء
معلومة. وأما مثال قولنا: إنه جعل الاختلاف علة هو قول
القائل في زكاة ما لا يؤكل لحمه حيوان مختلف في جواز أكله
فيطهر جلده بالذكاة كالضبع والتعليل للكلب.
وأما مثال جعل الاتفاق علة فهو مثال ما قاله الأصحاب في
المتولد بين الظباء والغنم حيوان منفصل من حيوان يجب فيه
الذكاة بالإجماع فأشبه المتولد بين السائمة والمعلوفة.
واعلم أما قد بينا من قبل أنه لابد من إقامة الدليل على
صحة العلة. فكل علة يمكن إقامة الدليل عليه بالوجه الذى
قلنا فتلك العلة صحيحة وما لا فلا.
وأما الاعتراض بأن ما جعله حكما للعلة لا يجوز أن يجعله
حكما فمثاله أن نقول في حكم العلة فأشبه ولا يبق الحكم
فيه. ومنها أن نقول: فاستوى ولا يصرح بالحكم وقد أخبرنا
اختلاف الأصحاب في هذا من قبل
وأما الاعتراض بالممانعة في الأصل فمثاله أن يقول القائل
في موت أحد المتعاقدين في الإجارة عقد على المنفعة فبطل
بموت المعقود له كالنكاح. فيقول السائل: لا نسلم أن النكاح
يبطل بالموت بل يتم وقد يكون المنع بأحد القولين للشافعى
وبإحدى
ج / 2 ص -202-
الروايتين عن أبى حنيفة وقد ذكر بعض أصحاب أبى حنيفه منع
الأصل بالقياس الذى يخالف الاستحسان على مذهب أبي حنيفة
وهذا منع باطل لأن المذهب عندهم هو الاستحسان والكلام في
هذا الأصل يكثر وسنبين من بعد.
وأما الاعتراض بمنع الوصف فمثاله أن يقول القائل في
الاستئجار على الحج فعل يجوز أن يفعله الغير عن الغير
فيجوز الاستئجار عليه1. فيمنع السائل ويقول لا يجوز عندي
أن يفعله الغير عن الغير
فإن الحج يقع عن النائب وكذلك قول القائل في الترتيب
الوضوء عبادة يبطلها الحدث فيكون التريب من شرطها. فيقول
السائل: عندي لا تبطل الصلاة بالحدث إنما تبطل الطهارة به
ثم الصلاة تبطل ببطلانها.
وأما الاعتراض بطلب تصحيح العلة وهذا قد بينا من قبل وقلنا
إن المطالبة صحيحة وذكرنا وجه تصحيح العلة ومثاله قول
القائل في تحريم النبيذ إنه شراب مسكر ومشتد يدعو قليله
إلى كثيره كالخمر فإذا طولب بتصحيح العلة وجب عليه تصحيحها
على ما عرف.
وأما الاعتراض بالقول بموجب العلة ومثال ذلك ما يقول
الحنفى في مسألة بيع الغائب عقد معاوضة فلا يبطل بعدم
الرؤية وإنما يبطل بالجعالة وسنبين بعد هذا في هذا الفصل
ما يتصل به.
وأما الاعتراض على العلة بعدم التأثير. ومثاله ما نقول في
الثيب الصغيرة حرة سليمة ذهبت بكارتها بالجماع فلا يجوز
نصر رضاها كالبالغة. فيقول المخالف: ذهاب البكارة لا تأثير
له في الأصول ألا ترى أن في المال وفى الولاية على الغلام
لا فرق بين الثيب والبكر وقد بينا أن إثبات العلة واجب
وسبيل المجيب أن يبين التأثير في مثال آخر وذلك قول القائل
في الاستنجاء أنه لابد فيه من العدد فيقول عبادة تتعلق
بالأحجار لم يتقدمها معصية فوجب فيها التكرار كرمى الجمار.
فيقول السائل: لا تأثير لقولك لم يتقدمها معصية لأن ما
تقدمته معصية وما لم يتقدمة معصية نحو باب العدد سواء. ألا
ترى أن الاستنجاء لا فرق فيه بين أن يتقدمه معصية أو لا
يتقدمه معصية في أن العدد معتبر فيه عندكم. وكذلك في رمى
الجمار
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاستئجار على الحج غير جائز في إحدى الروايتين عن أحمد
وهو مذهب أبي حنيفة وإسحاق. وهناك من قال: يجوز وهو
الرواية الثانية عن أحمد وهو مذهب مالك والشافعي وابن
المنذر انظر المغنى "3/180" رحمة الأمة في اختلاف الأئمة
"211".
ج / 2 ص -203-
وقد عد
المشايخ المتقدمون هذا السؤال في نهاية القوة وأبطلوا به
العلة. ونحن نقول إن مثال هذه العلل من نوع الطرديات
والصور ولا يجوز تعليق الحكم بها بوجه ما. وقد ذكر
الجدليون في هذا النوع من السؤال كلاما كثيرا وكتب الجدل
مملوءة من ذلك ولم أر للإتيان بذلك كبير فائدة لأنا إذا
قلنا بطرد كل وصف لا يخيل في الحكم ولا يناسبه سقط أمثال
هذه الأوصاف إذا دخلت في العلل.
وأما الاعتراض بالنقض فهو: أن توجد العلة في مسألة ولا حكم
ومثاله: قول القائل في مسألة الأجرة عقد على المنفعة فلا
يجب فيه تعجيل العوض بنفس العقد كالمضاربة فيقول السائل
ينتقض بالنكاح وسنبين الكلام في النقض وجوابه.
وأما الاعتراض بالكسر1 فقد سموه نقضا من حيث المعنى.
ومثاله: ما يقول القائل في بيع ما لم يره المشترى مبيع
مجهول الصفة عند العاقد فلا يصح بيعه. دليله: إذا قال:
بعتك عبدا. فيقول السائل ينكسر بالنكاح وذلك أن يتزوج
امرأة مجهولة الصفة عند العاقد ومع ذلك جاز النكاح. قالوا:
والكسر سؤال مليح والاشتغال به ينتهى إلى بيان الفقه.
وأما الاعتراض ببيان فساد الوضع فهو أن يتعلق بما يوجب
التخفيف تغليظا وبما يدل على التغليظ تخفيفا. ومثاله: قول
الحنفى في قتل العمد إنه كبيرة فلا يوجب كفارة كالرده.
فيقول السائل: علقت بها لحكم التخفيف وهو سقوط الكفارة وقد
يذكر بلفظ إفساده: ومثاله: قول الحنفى في النكاح بلفظ
الهبة: لفظ ينعقد به نكاح النبى صلى الله عليه وسلم فينعقد
به نكاح أمته فيقول السائل هذا اعتبار فاسد لأن الله تعالى
خص النبى صلى الله عليه وسلم بهذا اللفظ. فقال تعالى:
{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فمن جمع بينه وبين غيره بالتعليل فسد اعتباره لأنه
تعليل منصوب لإبطال التخصيص الثابت بالقرآن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اختلف الأصوليون في تعريف الكسر فعرفه الإمام الرازي
والبيضاوي بأنه عدم تأثير أحد جرأي العلة ونقض الجزأ
الآخر.
ومعنى هذا أن العلة تكون مركبة من جزأين:
أحدهما: لا تأثير له أي يوجد الحكم بدونه.
وثانيهما: منقوض أي يوجد ويتخلف الحكم
عنه.
وعرفه الآمدي وابن الحاجب: بأنه اختلف الحكم عن الحكمة
التي قصدت منه انظر نهاية السول "4/204, 205, 206, 207"
سلم الوصول "4/204, 205, 206, 207" إحكام الأحكام "4/123"
أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/138".
ج / 2 ص -204-
واما
الاعتراض بالقلب: فمثاله ما يقول القائل في أنه يعتبر
الصوم شرطا لصحة الاعتكاف لبث في مكان مخصوص فلا يكون قربة
بنفسه. دليله: الوقوف بعرفة فيقلب السائل فيقول وجب أن لا
يكون الصوم شرطا في صحته. دليله ما قاسوا عليه.
وأما الاعتراض بجعل المعلول علة والعلة معلولا فمثاله: قول
القائل في ظهار الذمى من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم فيقول
السائل لا يصح ظهار المسلم لأنه صح طلاقة ولكن يصح طلاقه
لأنه يصح ظهاره.
وأما الاعتراض بالمعارضة قالوا: قد يكون لعلة مبتدأة وقد
يكون بالمعارضة في علة الأصل.
فأما المعارضة بالعلة المبتدأة. فمثاله أن يقول القائل في
إزالة النجاسة بغير الماء طهارة تراد للصلاة فلا يصح بالخل
كالوضوء فيعارض السائل فيقول هذا معارض بمثله فأقول عين
تصح إزالتها بالماء فيصح إزالتها بالخل كالطيب عن ثوب
المحرم.
وأما المعارضة في علة الأصل فتكون بالفرق ومثال هذا يكثر
وقال بعض أصحابنا: الفرق أفقه شئ يجرى في النظر وبه يعرف
فقه المسألة فهذا الذى ذكرناه جملة ما ذكره مشايخنا من
وجوه الاعتراض على العلة وبعضهم يزيد وبعضهم ينقص وقد نقلت
على ما وجدت في الجدل الذى صنفه بعض المتأخرين وقد استكثر
الأصحاب في ذكر الأمثلة لهذه الأسؤلة ولا يعتقد صحة هذه
الاعتراضات فإن هذه اعتراضات أرباب الظاهر اقتنع بها من
يقتنع بظاهر من الكلام وقل وقوفه على حقائق المعانى ولابد
من تنحل الأسئلة ووجوه الاعتراضات حتى يعرف الصحيح من ذلك
ويعرف الفاسد ويذكر وجه الجواب الصحيح من الأسؤلة ويذكر
الاعتراضات الفاسدة أيضا ووجه فسادها والله المعرف على ذلك
والموفق له بمنه.
فصل: اعلم أن الاعتراض على العلة ينقسم إلى
الصحيح والفاسد:
فالصحيح
يكون بالممانعة وهى السؤال الأول ويكون بفساد الوضع ويكون
بالمعارضة ويكون بالمناقضة فهذه أربعة من وجوه الأسؤلة وهى
أسؤلة صحيحة وأحسنها سؤال الممانعة وسؤال المعارضة.
ج / 2 ص -205-
وأما
المناقضة فقد قال كثير من المحققين أنه لا مناقضة على
العلة المؤثرة وكذلك فساد الوضع وسنبين وجه الكلام في جميع
ذلك ونبين كيف يوجه ذلك.
أما الممانعة فاعلم أنها أوقع سؤال على المعلل وقيل: إنها
أساس المناظرة وبها يتبين الجواب والمجيب من السائل
والملزم من الدافع والسائل منكر فسبيله أن لا يتعدى عن دفع
حجة الخصم عن نفسه ما أمكنه وعلى هذا ثبتت الخصومة في
الدعاوى الواقعة.
ثم الممانعة أقسام:
أولها: منع ما يدعيه الخصم أنه علة
فإن من الناس من يتمسك بما لا يصح أن يكون علة فيجعله عله
وهذا مثال ما يتمسك المعلل بالطرد وقد بينا أن الطرد لا
يصلح أن يكون علة أو يتمسك بالنفى وقد ذكرنا أن النفى لا
يصلح أن يكون علة كذلك قول الحنفى في مسألة تبييت النية
إنه صوم عين. فيقول السائل: إنه صوم عين لكنه صوم فرض
فيقول السائل: لم قلت: إن الصوم العين متى كان فرضا يصلح
أن يكون علة في هذا الحكم وكذلك من قال من أصحابنا في هذه
المسألة: إنه صوم فرض فيقول السائل: هو وإن كان صوم فرض
ولكنه عين. فلم قلت: إن صوم الفرض متى كان عينا يصلح أن
يكون علة لهذا الحكم وكذلك من يعلل في نفى الكفارة عن غير
الوطء في الصوم. فنقول: إن الكفارة متعلقة بعين الجماع فلا
يشارك غير الجماع الجماع في إيجابها كالقضاء في الحج والحد
فيمنع السائل ويقول لا أسلم أن الكفارة متعلقة بعين الجماع
وإنما هى متعلقة بإفطار كامل لا بالجماع ومن ذلك قول
القائل في مسألة الثيب الصغيرة ثيب يرجى مشاورتها فيقول
الخصم يرجى مشاورتها برأى قائم أو برأى يحدث أو بأيهما
كان. فإن قال: بأيهما كان يبطل بالمجنونة فإن حدوث رأيها
غير مأيوس عنه وإن قال برأى قائم لم يجد في الفرع ويتبين
بهذا حرف المسألة فإن القاطع هو رأى قائم لا رأي سيحدث من
علة أو مانع لا يوجب حكما قبل الحدوث والرأى هو القاطع فلم
يجز أن يتعجل القطع على الرأي ونحن نجيب عن هذا فنقول: وإن
لم يوجد رأى في الحال. ولكن يوجد سبب حدوث الرأى فقام سبب
الرأى مقام حقيقة الرأى.
وأما المجنونة فقد ذكرنا في المسألة على وجوه يخرج فصل
المجنونة وربما يقولون قولكم فلا يجوز تزويجها كرها أيش
تعنون به إن قلتم نعنى بدون رأيها ولها رأى
ج / 2 ص -206-
معتبر
شرعا فلابد أن تقولوا رأى معتبر ثم لا تجدونه في الفرع
ويتبين عند ذلك حرف المسألة وهذه ممانعات عائدة إلى محض
الفقه وبهذا السؤال يتبين المحقق من الفقهاء من غيره. ثم
وهذه الممانعة بعد أن يقع التسليم لأصل القياس في أنه معلل
فإن الأحكام لابد أن تنقسم إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل
فمن استمسك بأصل فلابد أن يثبت كونه معللا إلا أنه يقال:
هذا إنما يتبين كون الأصل معللا بأن يتجه للشيء معنى يصلح
كونه علة أو يدل الدليل على أنه علة فالسؤال الصحيح هو
الأول ومتى أثبت المعلل صلاحية كون الوصف علة فقد ثبت أن
الأصل معلل ويتبين الجواب عن المطالبة وخرج المعلل عن
السؤال وهذا أيضا بعد أن يسلم الحكم في الأصل فإنه ربما
يمنع السائل الحكم في الأصل وإذا اتجه السائل منع الحكم في
الأصل لفابد للمسؤل من إنبائه والنبأ مقبول من المسئول. بل
أن يقول السئول إن لم يسلم الفرع فهذا الفرع مبنى على
تسليم هذا الأصل فإن لم تسلمه أنبأته بالدليل.
والقسم الثاني: من المنع: ما يتجه في
العلل المركبة وقد ذكرنا وجه ذلك وقد سبق أن المركبات هى
من الطرديات التي لا تصلح للاعتماد عليها إلا في بعض
الوجوه وهي التي تؤل إلى المعنى.
والقسم الثالث: منع الحكم1 وهو عائد إلى
القول بموجب العلة ومثاله أن يقول الحنفى في مسألة بيع
الغائب عقد معارضة فلا يشترط في صحته رؤية المعقود عليه
فيمنع السائل فيقول: عندي لا يشترط رؤية المعقود عليه أنما
يشترط إعلامه وكذلك يقول شفعوى المذهب في مسألة مسح الرأس
المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل. فيقول: لا أسلم
أن الغسل يسن تثليثه إنما يسن إكماله إلا أن إكمال الغسل
بالتكرار يكون لضيق المحل ولإكمال المسح الاستعانه لسعة
المحل وقد يمانع الحنفى في هذه العلة الحكم من وجه آخر.
فيقول في هذه العلة: عندي يسن تثليث المسح لأن المفروض قدر
ربع الرأس وعندي يسن مسح جميع الرأس فكان التثليث مسنونا
وزيادة ومن منع الحكم قول القائل في مسألة بيع الطعام
بالطعام مالان جمعهما علة ربا الفضل فيشترط القبض بينهما
إذا بيع أحدهما بالآخر كالذهب بالذهب فيقول الخصم القبض
ليس بشرط في الأصل وإنما الشرط هو التعيين حتى لا يكون
دينا بدين فرجع إلى حرف المسألة وهذا مثال المنع في الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحكام الأحكام "4/98, 99".
ج / 2 ص -207-
والقسم الرابع: يقع
الوصف1 فإن التعليل قد يقع بوصف مختلف فيه مثل قول الحنفى
في مسألة الإيداع من الصبى له مسلط على الاستهلاك فمنع.
ويقال: ليس بمسلط والإيداع ليس بتسليط وكذلك شفعوى المذهب
يقول في يمين الغموس معقودة فيمنع السائل ويقول: لا أسلم
أنها معقودة.
ويقول الحنفى في مسألة الجنس: إن الجنس حد وصفى علة تحريمه
الفضل فيقول السائل لا أسلم أن الجنس علة بل هو شرط بمعنى
أو يحل على ما عرف.
قال القاضى أبو زيد:
أقسام الممانعة الصحيحة أربعة:
أولها: الممانعة في نفس الحجة التي يذكرها
المجيب أهو حجة أم ليس بحجة؟
ثم في نفس الوصف الذى يدعيه المجيب علة
موجودة أم لا؟
ثم في شروطه.
ثم في كينونته واجب العمل به.
ثم بعد ذلك يحتاج إلى مدافعة الحجة لا الممانعة قال:
أما الممانعة في نفس الحجة فما مر من قبل أن كثيرا من وجوه
حجج الناس يرجع إلى دليل فإذا ثبت أنه من جملة ما هو صالح
دليلا فلابد من إثبات الوصف في الأصل والفرع لأنه ركنه. ثم
شروط الصحة لأنها تكون سابقة على دليل وجوب العمل به. ثم
دليل التأثير الذى يجب به العمل ثم العلة عامة عندنا وكل
هذه الممانعات بالإنكار ومطالبة دلالة العلة.
قال: وللممانعة في الشرط فقد ذكرنا شروط التعليل قال:
ومانع الشرط من شرط يكون ثابتا بالإجماع. فيقول: قد عدم في
الفرع أو الأصل وهذا مثل قول الشافعي في السلم الحال أنه
أخذ عوض البيع فيثبت حالا ويؤجلاه كالثمن في البيع فيقول
السائل لا خلاف أن من شرط التعليل أن لا يغير حكم النص وأن
لا يكون الأصل معدولا به عن القياس بحكمه الذى صار به
الدليل دليلا والممانعة والتأثير لأن مجرد الوصف بلا تأثير
ليس بحجة فلا يصلح للاحتجاج حتى يتبين تأثيره وإن قال في
موضع الخلاف ليس بشرط عندي فنقول: المعترض عندي هو شرط فلا
يصلح الاحتجاج به على من لا يراه دليلا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام "1/109".
ج / 2 ص -208-
وأما
القول لموجب العلة فهو سؤال صحيح إذا أخرج مخرج الممانعة
وقد بينا نظيره ولابد أن توجه القول بالموجب من شريطة وهى
إلى مسند الحكم الذى نصب له العلة إلى شئ مثلما يقول حنفي
المذهب في ماء الزعفران: ما خالطه طاهر بالمخالطة لا تمنع
صحة التوضؤ. فيقول السائل: المخالطة لا تمنع إنما المانع
أنه ليس بماء مطلق وكذلك يقول شفعوى المذهب في مسألة تمكين
العاملة البالغة جنون أحد الواطئين لا يوجب درأ الحد من
الموصوف بالعقل كجنون الموطؤة.
فيقول السائل: بل أقول بموجبه فإن عندي الجنون غير مانع
فما المانع خروج الوطء عن كونه زنا ففى مثل هذه المواضع
يتوجه هذا السؤال.
فأما مع إثباته الحكم من نفى أو إثبات لا يستقيم إلا أن
ينتقل السائل إلى مذهبه وقد قال جماعة من الأصوليين: إن
القول الموجب ليس بسؤال ولا تبطل به العلة لأنه إذا صحت
العلة وحكمها متنازع فيه فلأن تصح العلة وحكمها متفق عليه
أولى وسبيل صحته أن يكون الخروج على مسلك المنع والجملة في
القول بموجب العلة أن السائل إذا أمكنه القول بموجب العلة
مع الاستقرار على الخلاف في الحكم فيتبين به أن المعلل لم
يدل في موضع الخلاف ومثاله أن يعلل المعلل في الاعتكاف
فيقول لبث في مكان مخصوص فكان من شرطه نعنى ما دليله
الوقوف. فيقول: إن أقول من شروطه معنى ما هو النية فعلى
المعلل أن يستدل في موضع الخلاف.
فصل: وأما السؤال بفساد الوضع:
فاعلم أنه سؤال يمكن إيراده على الطرود ويضطر به المعلل
إلى إظهار التأثير وإذا ظهر التأثير بطل السؤال وهذا طريق
سلكه كثير من أصحابنا المتقدمين وأورد كثير من الأصوليين
يرد عند اختلاف موضوع الأصل والفرع وذلك مثل أن يكون الأصل
مبتنيا على التخفيف كالتيمم والمسح على الخفين ويكون الفرع
مبتنيا على التغليظ كالوضوء وغسل الرجلين ويروم القائس أن
يثبت في الفرع حكما مخففا أو يكون الأصل مبتنيا على
التغليط ويكون الفرع مبتنيا على التخفيف كالتيمم والمسح
على الخفين ويروم القائس أن يثبت في الفرع حكما مغلطا وقد
يأتى فساد الوضع أيضا من اختلاف موضوع العلة والحكم وهو أن
يكون مبتنيا على التغليط والآخر على
ج / 2 ص -209-
التخفيف وقد يأتى فساد الوضع أيضا من وجه آخر وهو أن يتقدم
حكم الفرع على حكم الأصل ومثاله الوضوء إذا قيس على التيمم
في اشتراط النية وذلك أن الوضوء وجب بمكة والتيمم بعد
الهجرة فلا يجوز أن يكون شرط ما يقدم وجوبه مستفادا مما
تأخر وجوبه لأن الدليل لا يجوز تأخره عن المدلول عليه
وكذلك في مسألة الأصل إذا قاسوا الثمن على المبيع فهو فاسد
وضعا لأن البيع شرع في المبيع لإيجاب الملك شرط لا ابتداء
وفى الثمن لإيجاب الملك ابتداء في الذمة على المشترى
للبائع فلما كان البيع لإيجاب الملك واليد في العين
للمشترى كان شرطه قيام الملك في المحل.
قال أبو زيد: فساد الوضع من الشهادة يجرى مجرى فساد الأداء
وهو قبل النقص لأنه إنما يشتغل باطراده بعد صحته علة
كالشهادة إنما يشتغل بتعديل الشهادة بعد صحة الأداء وهو
أقوى من النقص لأن الوضع إذا فسد لم يبق إلا الانتقال
والنقص مجلس يمكن الاحتراز منه في مجلس آخر.
قال: وبيان فساد الوضع أن الشافعي متى علل لوجوب الفرقة
بعد إسلام أحد الزوجين أنها فرقة وجب لاختلاف الدين فأشبه
الفرقة بالردة كان فاسد الوضع لأن الاختلاف إنما يثبت فيما
نحن فيه بإسلام المسلم منهما وقد كان الاتفاق ثابتا قبله
وإنما حدث الاختلاف بالحادث من الدين وهو الإسلام والإسلام
في الشرع جعل عاصما للأملاك والحقوق لا مبطلا وكان الوصف
ثابتا على الحكم
قال وكذلك الطعم إذا جعل علة لأنه به القوام فهذا فاسد في
الوضع لأن المال خلق بذله لحاجته إليه وأشد الحاجات حاجة
البقاء فيزيد هذا على ابتذاله وسعة وجه كسبه لا أن يزيد
تضييعا حتى أكل طعام الغنيمة قبل أن يخمس بخلاف سائر
الأموال. قال: وكذلك من علل لحرمة نكاح الأمه بوجود طول
الحرة فإنه مستغن عن تعريض خبر منه للرق فلا تحل له كما لو
كان تحته حرة قال وهذا يفسد وضعا لأنه يثبت حجرا عن النكاح
نسب الحرية والشرع جعل الحرية مؤثرة في الإطلاق دون الحجر
وكذلك اعتبار الحجر عن تسليم الثمن بالعجز عن تسليم المبيع
في ثبوت حق الفسخ فإن البيع شرع لنقل الملك في العين واليد
للبائع ليعمل العقد عليه فلم يصح العقد قبل أن يقدم ملكا
ويدا ولما كان الشراء لإيجاب الثمن ابتداء في ذمة المشترى
لا في عين اشتراط في صحته قيام ذمة قابلة لثمن يجب فيها
بحيث يقبل النقص بمثلها من غير بشرط القدرة على التسليم
بالمثل لأنه لا قدرة إلا بملكه ولم يشترط للجواز قيام
ج / 2 ص -210-
الملك
ولا يد في عين مثله ولما لم تكن القدرة على التسليم شرطا
للجواز ابتداء لم يوجب العجز عن التسليم خللا فصار فاسدا
وضعا لما فيه من اعتبار ما لم يجعل شرطا لصحة عقد بما جعل
شرطا.
قال: وكذلك إذا قال قائل في الأثمان: إنها أموال فتتعين في
التبرعات فتتيعن في المعاوضات فهذا فاسد وضعا لأن التبرعات
ما شرعت لإيجاب الأموال في الذمة. بل للإتيان بعين ماله
والمعارضات شرعت لإيجاب الأثمان في الذمم لأن المتعارف بين
الناس فعلا هو المتعارف شرعا والمتعارف في الأثمان بين
الناس هو العقد بلا إشارة في الأثمان. بل بمجرد التسمية
وهى موجبه في الذمة فلما كان الإيجاب في الذمة كانت الذمة
محل هذا الإيجاب فلم تصح الإضافة إلى عين كما لو أضاف هبة
الألف إلى ذمته فإنه لا يصح وإذا عرف هذا صار اعتبار البيع
بالهبة في التعيين وإثبات المحل فاسدا وضعا وقد أجبنا عن
هذا وأمثاله في الخلافيات.
وقد ذكر بعض متأخرى أصحابنا أن حاصل القول يحصره نوعان:
احدهما: أن يبين المعترض أن القياس موضوع
على خلاف ما يقتضيه ترتيب الأدلة ومثال ذلك أن يقول: إن
التعليل على خلاف الكتاب أو على خلاف السنة ومن هذا أيضا
أن يقول إنه بالقياس حاول الجمع بين شيئين فرق الشرع
بينهما أو فرق بين شيئين جمعت الشريعة بينهما.
والملخص في هذا النوع أن يكون القياس يخالف وضعه موجب
متمسك في الشرع هو مقدم على القياس فإذا كان كذلك فيكون
القياس فاسد الوضع.
والنوع الثاني: أن يكون الوصف مشعرا بخلاف
الحكم الذى ربط به وهذا زائد في الفساد على فساد الطرد لأن
الطرد مردود من جهة أنه لا يناسب الحكم ولا يشعر به فالذى
لا يشعر به ويخيله خلافه يكون أولى بالرد ومثاله ما ذكرناه
وهو ذكر وصف يشعر بالتغليظ في روم تخفيف أو على العكس من
ذلك.
قال: وإذا اعتبر القائس القصاص بالدية في الثبوت على
الشركاء أو اعتبر الدية بالقصاص في السقوط أو قاس الحد على
المهر في طلب الثبوت أو قاس المهر على طلب الحد في محاولة
السقوط فقد ذهب جماعة من الجدليين إلى فساد هذا القياس لأن
العقوبات تدرأ بالشبهات.
وأما الواجب بالجنايات يثبت مع الشبهات فاعتبار أحدهما
بالآخر في السقوط أو
ج / 2 ص -211-
الثبوت
يكون فاسدا في الوضع وقد منع بعضهم قياس الرخص على الوظائف
التامة وكذلك قياس الوظائف التامة على الرخص وقد أجابوا عن
السؤال من كل هذه الوجوه بإظهار التأثير والإخالة في
القياس والجمع بين الفرع والأصل أو الجمع بين العلة
والوصف.
فقد قال أبو زيد وكثير ممن تبعه: إن هذا السؤال لا يرد إلا
على الطرد والطرد ليس بحجة.
وأما العلة التي ظهر تأثيرها وقام الدليل على صحتها فلا
يرد هذا السؤال ونحن نقول: نعم وإن كان الطرد ليس بحجة على
ما سبق وإظهار التأثير لابد منه ولكن السؤال ينفى وهو أن
يقول السائل: لا يجوز أن يدل الدليل على صحة مثل هذه العلة
أو يقول لا يجوز أن يظهر له تأثير فلابد في الجواب من نقل
الكلام إلى ذلك وبيانه أن الدليل قد قام على صحة هذه العلة
فبهذا الوجه صححنا هذا السؤال.
فصل: وأما الاعتراض بالنقض:
فهو سؤال يبطل به العلة والنقض أن توجد العلة في موضع دون
حكمها وقد ذهب معظم الأصوليين إلى أن النقض سؤال صحيح تبطل
به العلة ولكن من ألزم عليه نقض فعليه تعليل تلك المسألة
التي نقضت علته بيان الفصل بينها وبين المسائل التي يدعى
اطراد العلة فيها1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من قوادح العلة: النقض ومعناه في اللغة: الحل والإبطال.
وعند الأصوليين: هو مجرد الوصف المدعى كونه علة في محل مع
تخلف الحكم عنه.
اتفق الأصوليين على أن النقض إذا كان واردا على سبيل
الاستثناء لا يقدح في كون الوصف علة في غير الصورة
المستثناة ولا يبطل عليته.
فإن كان النقض ليس واردا على سبيل الاستثناء فقد اختلف
الأصوليين في كونه قادحا أو غير قادح على مذاهب كثيرة
أشهرها ما يأتي:
الأول: لا يقدح النقض في العلية مطلقا
سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة وسواء كان التخلف لمانع
أو لغير مانع وهذا المذهب هو المعروف عن الحنفية ويسمونه
تخصيص العلة.
الثاني: يقدح النقض مطلقا وهو مذهب
الشافعي ومختار الإمام الرازي.
الثالث: يقدح النقض في العلل المستنبطة
ولا يقدح في العلل المنصوصة وهو المختار عند أكثر الشافعية
ولا فرق بين الموضعين بين أن يكون التخلف لمانع أو لغير
مانع.
الرابع: هو المختار عند البيضاوي: -يقدح
النقض إذا كان التخلف لغير مانع ولا يقدح إذ كان التخلف
لمانع ولا فرق في ذلك بين العلل المنصوصة والعلل المستنبطة
انظر البرهان "2/855".
إحكام الأحكام "4/118" نهاية السول "4/146, 147, 148"
المحصول "2/361" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير
"4/131, 132, 133".
ج / 2 ص -212-
قال
أبو زيد: النقض لا يرد على العلة المؤثرة لأن تأثيرها لا
يثبت إلا بدليل يجمع عليه ومثل ذلك الدليل لا ينقض وإنا
تجئ المناقضة على الطرد لأن أصحاب الطرد إنما جعلوا العلة
علة باطرادها فإذا لم تطرد بطلت.
قال: وأما المؤثرة لا يرد عليها النقض ولكن يرد عليها
الخصوص فيبين المعلل أن الذى جاء ناقضا في الظاهر لا يدخل
تحت ما جعله المعلل علة من حيث المعنى وبيان ذلك بطرق
أربعة من حيث اعتبار معنى الوصف الذى هو ركن العلة ثم
باعتبار معنى دلالة التأثير الذى صار الوصف به حجة يجب
العمل بها ثم باعتبار الحكم الذى وقع التعليل لإثباته ثم
بالغرض الذى قصد المعلل التعليل لأجله وأثبت الحكم بقدره.
أما الوصف فنحو قولنا: إن وظيفة الرأس المسح فلا يثلث
كوظيفة الخف ولا يلزم الاستنجاء بالحجارة لأن تلك الوظيفة
ليست بمسح بل هى إزالة النجاسة الحقيقية.
ألا ترى أن الإزالة بالماء أفضل منها لأنها أتم ولو كانت
الوظيفة مسحا لكره التبديل بالغسل كما في [وظيفة]1 الرأس.
قالوا: كذلك قولنا في الدم السائل: إنه نجس خارج فأشبه
البول ولا يلزم الدم إذا لم يسل لأنه طاهر وليس بخارج لأن
الخروج بالانتقال من مكان باطن إلى مكان ظاهر وتحت كل جلدة
رطوبة وفى كل عرق دم فالذى هو على رأس الجرح ظهر بزوال
الجلدة عنه وقد كانت سترة له ولم ينتقل عن مكانه إلى مكان
طاهر من بدنه خلقه فهو مثل رجل ظهر بفتح الباب أو بنقض
البناء وآخر ظهر بالخروج عن الباب فالأول ليس بخارج
والثانى خارج.
وأما التأثير وبيان دفع النقض به قال هو مثل قولنا في
مسألة تثليث المسح:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كشط في الأصل.
ج / 2 ص -213-
مسح
وإيراد الخصم الاستنجاء عليه ووجه دفعنا ذلك بالتأثير وهو
أن صفة المسح إنما صار علة لمنع التثليث لأنه قد ظهر أثره
في نفسه من حيث التخفيف لأنه إذا قوبل المسح بالغسل كان
المسح في نهاية التخفيف وكذلك ثبت التخفيف له قدر التأدية
ببعض المحل وهذا المعنى معدوم في الاستنجاء لأن الأصل
المأمور مسح موضع النجاسة بإزالتها فيكون على وصف التغليط
مثل الغسل ولا يتأدى أيضا ببعض محل النجاسة مثل ما يتأدى
فرض مسح الرأس ببعض المحل.
قال: وكذلك المسألة الثانية. فإن النجاسة الخارجة إنما
كانت حدثا لأنها أوجبت تطهرا في نفسها.
ألا ترى: أنه يجب غسلها إذا سالت عن رأس الحرج كما وجب
الغسل إذا سال البول عن رأس القضيب فلما ساوت النجاسة
البول في إيجاب الحقيقة ساوت في الحكمية ولا يلزم النجاسة
التي لم تسل لأنها تصير كالبول في إيجاب الطهارة في محلها
فكذلك في غيره فيتبين بدلالة التأثير أنها لم تدخل تحت
التعليل بل يزيد قولا بانعدام الحكم إذا انعدم دلالة
التأثير.
وأما الحكم وبيان الدفع به فنحو قولنا: فيمن نذر صوم يوم
النحر أنه يوم فلا يفسد النذر بالإضافة إليه قياسا على
سائر الأيام ولا يلزم إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها لأن
الفساد بالإضافة إلى الحيض والحيض صفة لها لا لليوم.
قال: وكذلك على قولنا: إن الغصب سبب ملك بدل أصل المال
فيكون سببا لملك الأصل قياسا على البيع ولا يلزم المدبر
لأنا عللنا لنجعل الغصب سبب ملك ولم نعلل لبيان المحل الذى
يعمل فيه وفى المدبر الغصب سبب للملك إلا أن التدبير منع
عمله كما لو باعه.
قال: وكذلك قولنا: إن الكتابة عقد يحتمل الفسخ فلا يوجب ما
يمنع التكفير به كالإجارة ولا يلزم إذا أدى بعض البدل لأن
المنافع أحد العوض عن العتق لا الكتابة وهو معنى قول أهل
النظر إن العلة المنصوبة للجملة لا تنقض بالإفراد.
وأما الغرض بوجه الدفع به نحو قولنا: إن التأمين يخافت به
لأنه ذكر ولا يلزم التكبيرات من الإمام لأن غرضنا أن يجعل
كونه ذكرا علة بشرع المخافتة وإنما وجب الجهر لعلة أخرى
وهى أنها شرعت إعلاما والعلة مع كونها علة قد يجب ضد حكمها
بمعاوضه أخرى أولى منها.
ج / 2 ص -214-
قال:
وكذلك قولنا في الدم السائل: إنه حدث لأنه نجس خارج فأشبه
البول ولا يلزم دم الاستحاضة لأن الغرض أن يجعل النجس
الخارج علة لنقض الطهارة وهو علة ناقضه للطهارة في
الاستحاضة بعد الوقت ولكن امتنع النقض في حال لعلة أخرى
مانعة وهى أنها مخاطبة بالأداء فيجب أن تكون قادرة ولا
قدرة إلا بسقوط حكم الحدث فسقط ومنع العلة أن يمنع من
عملها لدفع ضرورة العجز في الإمكان فلا يخرج من كونه علة
تأخر العمل إلى مدة كالبيع بشرط الخيار ثلاثة أيام وأهل
النظر لقبوا هذا الدفع بأنه لا يفارق حكم أصله ونحن لقبنا
بالغرض لأن الغرض أوجب القصر على تلك الجملة وهى أن العموم
لم يدخل تحت التعليل.
قال: وجملة الحد في الخروج عن المناقضة أن المعلل متى
أمكنه الجمع بين حكم علته وهذا الذى جاء مناقضا لم يكن
نقضا ومتى لم يمكنه يكون نقضا كما في تناقض الدعاوى وهذا
لأن الجمع بين النقيضين لا يتصور وبهذه الوجوه من البيان
يمكن الجمع بينهما من غير رجوع عن الأول وذكر بعد هذا
كلاما آخر في آخر الفصل لا يحتاج إليه فهذا سر ما ذكره في
تقويم الأدلة في دفع النقض وبيان قوله إن النقض لا يرد على
العلل المؤثرة. ونحن نقول: إن سؤال النقض بناء على أن
تخصيص العلة لا يجوز وإذا لم يجز تخصيصه على ما سبق ذكره
فلابد أن يكون النقض مبطلا للعلة وقولهم: إن العلل إذا
كانت مؤثرة لا تنقض.
قلنا: بالنقض يتبين فقد تأثير العلة وهذا قد سبق بيانه.
ببينة: أن الناصب للعلة بنصبه العلة قد التزم طردها وادعى
أن هذه العلة متى وجدت فالحكم يتبعها فإذا لم يف بقوله
ووجد علة مناقضة بطلت علته لعدم وفائه بدعواه وصحة ما
يزعمه.
فأما دفع النقض فقد اشتغل الجدليون بدفع النقض بمجرد اللفظ
وليس ذلك بشيء والأولى أن يدفع النقض ببيان أنه لم يرد على
المعنى الذى جعله علة إن كانت العلة معنوية وإن كان قد
وقعت له ضرورة إلى جواز العلة حكمية واستقام تعلقه به من
الوجوه التي سبقته فسبيل دفعه أن يدفع ببيان أنه لا يرد
على ذلك الحكم الذى تعلق به فإن ورد ولم يمكنه دفعه انتقضت
علته وبطلت وقد يوجد موضع يظن المتناظر أن يوجه النقض وهو
مما ليس يتوجه وقد قيل: إن الإثبات المجمل لا ينقض بمنفى
مفصل والنفى المفصل لا ينقض بإثبات مجمل والنفى المفصل
ينقض بإثبات مفصل
ج / 2 ص -215-
وكذلك
الإثبات المفصل ينقض بالنفى المجمل يعنى المطلق ومثال
الأول: أن يقول القائل في قتل المسلم بالذمى محقون الدم
على التأبيد فيثبت بينهما القصاص كالمسلمين فينقض تاآخر
بما إذا قتله خطأ وهذا لا يرد نقضا لأن نفى القصاص في موضع
الخطأ لا يمنع من صحة التعليل من المعلل بقوله فوجب أن
يكون بينهما قصاص فلا ينتفى حكم العلة بما يقوله من قول
الخطأ فلم يكن نقضا.
وأما مثال الثانى: إن يقول المعلل مكلفا فلا يثبت بينهما
قصاص فإذا نوقض بالمسلمين انتقض لأن ثبوت القصاص بينهما في
موضع يمنع صحة التعليل بقوله فموجب أن لا يجرى القصاص وقد
احترز بعضهم من النقض بقول المعلل: أنا أقول في الأصل مثل
ما أقوله في الفرع ومثاله أن يقول قائل في مسألة المسلم
يقتل ذميا هل يقتل فنوجب القود كالمسلم إذا قتل مسلما
فينتقض بالخطأ فيقول أنا أقول في الفرع مثل ما قلته في
الأصل وإنما أوجب القصاص في العمد دون الخطأ وقد أشار أبو
زيد في كلامه إلى هذا الاحتراز وهذا الاحتراز باطل لأن
العلل ما صرح به المعلل دون ما أضمره وكذلك الحكم وقد علل
بالفسخ وصرح بالحكم بوجوب القصاص وقد ورد النقض على هذا
ولم يعلل لاستواء المسلم والكافر في حكم القتل حتى يدفع
النقض به فليس هذا الدفع بشئ وقد دفع بعضهم النقض بذكر
الأحرار في الحكم مثال أن يقول القائل محقونا الدم على
التأبيد فوجب أن يثبت بينهما القصاص إذا قتل أحدهما صاحبه
عمدا فإذا نوقض بالخطأ وقال: قد احترزت بقولى في الحكم
فإذا قتل أحدهما صاحبه عمدا وقد قيل أيضا: إن هذا ليس بدفع
لأن المعلل قد حكم بأن علة القصاص كونهما محقونى الدم على
التأبيد فحسب وأنه لا مزيد على العلة التي ذكرتها فإذا
قال: وجب أن يوجب القصاص إذا كان عمدا فقد اعترف بانتقاض
العلة لأن اقتران الحكم يوجد من الموضعين والحكم يتبع
العلة في أحد الموضعين دون الآخر.
فإن قال هذا المعلل: لا يمتنع أن يكون حقن الدم على
التأبيد يؤثر في إيجاب القصاص في العمد دون الخطأ.
قيل: إن كان ذلك يؤثر في أحد الموضعين لمعنى يختص به
أحدهما فينبغى أن نذكر ذلك المعنى في جملة العلة لأن له
تأثيرا في غيجاب القصاص وإن لم يكن لذلك المعنى تأثير
وكانت الأوصاف المذكورة تؤثر في أحد الموضعين دون الآخر لا
لأمر يفترق
ج / 2 ص -216-
لأجله
الموضعان فقد اعترف أن العلة تقتضى الحكم في موضع دون موضع
مع وجوده تتميما على السؤال والجواب الصحيح عن السؤال أن
الشرط المذكور في الحكم متأخر في اللفظ يتقدم في المعنى
لأن معنى القياس أنهما محقونا الدم على التأبيد قتل أحدهما
صاحبه عمدا لأن صفة العمدية مؤثرة في القصاص فإذا قلنا:
على هذا الوجه يتم الدفع وقد دفع بعضهم النقض بوجه آخر وهو
أن يحذف الحكم حذفا. فيقول في الثيب الصغيرة: إنها مجبرة
الزواج فأشبهت الكبيرة فلو قال: المعلل فلم تجبر على
النكاح ينتقض بالثيب المجنونة والثيب الأمة. فإذا قال:
فأشبهت الكبيرة نوقض بها بين المسألتين فيقول إنما شبهت
الصغيرة بالكبيرة فعلى أن أقول في الثيب الصغيرة ما أقول
في الثيب الكبيرة وفى اليب الكبيرة لا تجبر على النكاح إذا
لم تكن مجنونة أو مملوكة وأجبرت إذا كانت مملوكة أو مجنونة
فلم ينتقض قولى فأشبهت الكبيرة وإنما عللت لهذا وهذا دفع
حسن غير أن بعض الجدليين قد قال: إنه لا يجوز التعليل ما
لم يصرح بالحكم وقد ذكرنا هذه المسألة من قبل وبينا جوابه
وأحسن وجوه الدفع هو الدفع بالمعنى كما تقدم وجهه.
وقد قال أبو زيد في موضع من كتابه: إن النقض يلجئ إلى
إظهار التأثير والقول به مثل من يقول في النية في الوضوء
وقياسه على التيمم طهارة الصلاة فإذا نقض طهارة النجاسة
فلابد من ذكر التأثير ليتخلص عن النقض وهو أن يقول طهارة
حكمية أى حصولها عرف حكما وشرعا لا حقيقة وكذلك قول من قال
إن النكاح ليس بمال فلا يثبت بشهادة النساء مع الرجال وهذا
يبطل بالبكارة فلا تجد بدا من الرجوع إلى طلب التأثير وهو
أن الأصل أن لا شهادة للنساء لنقصان عقلهن وكثرة غفلتهن
لكن جوز في باب المال لكثرة حاجة الناس إليه وتكرر
المعاملات فيه في الأسواق وغيرها فجوز شهادة النساء مع
الرجال حتى لا يضيق الأمر على الناس ولا يقعوا في الحرج
العظيم وهو معدوم فيما ليس بمال فلم يقبل فيه هذه الشهادة
وهذا كما تثبت الولادة بشهادة النساء وحدهن لضرورة أن
الرجال لا يحضرونها ولم تكن حجة فيما يطلع عليه الرجال
لعدم الضرورة وكذلك قول القائل في أن الزنا لا يوجب لحرمة
المصاهرة لأنه وطء رجمت عليه والنكاح عقد حمدت عليه. فإن
قال المعلل فوجب أن لا يشارك هذا في حكم هذا بطل بوجوب
الاغتسال والمهر. فإن قال: في حكم المصاهرة. يقال: ولم قلت
فإن قال: لأن الصهرية نعمة والزنا حرام فقد رجع
ج / 2 ص -217-
إلى
بيان التأثير ولا يبطل هذا بالوطء في النكاح الفاسد لأن
الصهرية هناك إنما ثبت لما فيه من جهة المحل.
قال: ونحن نقول: إن لزنا معصية والمصاهرة كرامة ولا تضاف
الكرامة إلى العاصى ولكن تثبت الصهرية لحراثة الواد في هذا
المحل على ما عرف وبينا في موضعه ولا معصية من حيث الحراثة
فإنه أمر مشروع بسببه.
قال: وكذلك قوول القائل: إن الغصب عدوان فلا يكون سببا
للملك كالقتل فإذا نقض بالاستيراد أحد الشريكين جارية
بينهما يقول إنما أوجبنا الملك في هذا الموضع للشريك لماا
فيه من تأويل الحل شرعا لا من حيث العدوان فقد رجعوا إلى
تأثير العلة.
قال: ونحن نقول: إنما أوجب الملك في الغصب لأنه سبب ملك
البدل وهذا حكم شرعى ليس بعدوان.
وكذلك ققول القائل في مسألة المنافع إن المنافع أموال
فتضمن بالإتلاف. دليله الأعيان فإذا نقض هذا بالمتلف إذا
كان معسرا. قال: هناك يضمن لكن الاستيفاء يتأخر إلى
الميسرة فهذا رجوع إلى التأثير وها هنا المتلف ضامن لكن
الاستيفاء يتأخر بعذر العجز والعدوان موجب ضمان المثل فلا
يمكن الاستيفاء إلا بعد القدرة على المثل وعندنا الأعيان
أجود من المنافع مالية وليسا بمثلين وعنهم مثلان ويرجع
اللكلام إلى هذا.
وكذلك قول القائل في إسلام الهروى في المروى أسلم مذروعا
في مذروع كما لو أسلم الهروى في المروى. فيقول الخصم يبطل
هذا بما إذا شرط شرطا فاسدا. فيقول المعلل إنما بطل بالشرط
الفاسد لا بالوصف الذى ققلنا فيكون هذا رجوعا إلى حرف
المسألة فإن عنده الجنس ليس بعلة محرمة وعندنا علة محرمة
فيكون الفساد بالعلة المحرمة لا بالذرع ومرجع الكلام إلى
أن الجنس علة أم لا؟ ويبل الطرد فهذا كلام يحسن ونحن لا
نرى لللرطد صحة ولابد من بيان التأير غير أن ورود النقض في
موضعه يخل بالتأثير ففإنما كام وروده من هذه الجهة ولابد
من معرفة بطلان القول بنخصييص العللف ن أيراد المعللل شرع
لذلك والله المعين بمنه.
ج / 2 ص -218-
"فصل"
وقبل أن نصل إلى سؤال المعارضة قد بقيت بقية فيما يرجع إلى
القول بموجب العلة وتفسيره التزام ما أوجبته العلة وقد
ذكرنا مثاله وصورته وقد ذكر في تقويم الأدلة أنهم إذا
قالوا في صوم النفل: قربة لا يجب المضى في فسادها فلا يجب
القضاء في إفسادها قياسا على الوضوء.
قلنا لهم نقول بموجب العلة فإنه لا يجب القضاء بإفسادها بل
وجب بالشروع.
فإن قيل: فلا يجب بالمشروع والإفساد.
قلنا: ولا يجب بالشروع المضاف إلى عبادة لا يمضى في
فاسدها. بل بالشروع في عبادة تلزم بالنذر ولابد من اعتبار
إضافة الحكم إلى ما ذكرنا من الوصف لأن الأوصاف تذكر عللا
وبما ذكر من الوصف لا تصير العابدة محلا يلتزم بالشروع فيه
بل بوصف آخر فلابد من رجوعه إلى نصب العلة في بيان أن
الشروع ليس بسبب للإلزام الذى فيه النزاع.
قال: وكذلك قولهم في إسلام المروى في الهروى: إنه جائز
لأنه أسلم مذروعا في مذروع. فيقول: من حيث إنه مذروع في
مذروع يجوز العقد ويعلق الجواز بهذا الوصف لا بنفي تعلق
الفساد بأمر آخر.
ألا ترى: لو شرط شرطا فاسدا ولم يقبض رأس المال في المجلس
كان العقد فاسدا فكذلك عندنا صفة الجنس بأنه علة مفسدة وهو
كالشرط الفاسد في الإفساد فيلزمه الرجوع إلى بيان أن الجنس
ليس بعلة محرمة وكذلك قول من قال في المطلقة الرجعية: إنها
مطلقة فيحرم وطؤها كالمطلقة بمال.
فيقال: [لا]1 من حيث إنها مطلقة محرمة ولكن من حيث إنها
منكوحة محللة كما لو ابانها ثم تزوجها وكان قيام النكاح مع
الطلاق المحرم محللا فيضطر إلى الرجوع إلى بيان ضلل في
النكاح أوجب التحريم وهو حرف المسألة.
قال: وكذلك قولهم في المبتوتة: لا يلحقها الطلاق لأنها
منقطعة النكاح. فنحن نقول: الطلاق لا يلحقها من حيث انقطاع
النكاح ولكن من حيث العدة الواجبة عن النكاح التي هى أثره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل يقتضيها السياق.
ج / 2 ص -219-
قال:
وكذلك إذا قالوا: في تحرير الكافر عن كفارة اليمين إنه
تحرير في تكفير فأشبه كفارة القتل وعندنا لا يجوز لأنه
تحرير في تكفير ولكن من حيث أنه ائتمر بالأمر كما يجوز إذا
كسا مساكين ولا يجوز بالكسوة في كفارة القتل فيضطر إلى
الرجوع إلى بيان أن المطلق يحمل على المقيد أو لا؟
قال: وكذلك إذا قال: إن السرقة توجب الضمان لأنه أخذ مال
الغير بلا تدين ولا تأويل كالغصب. فيقال إنا نقول إن هذه
العلة موجبة للضمان لكنا نقول إن القطع ينفيه كما ينفيه
الإبراء فيضطر إلى بيان أن القطع لا ينفى الضمان وهو حرف
المسألة.
قال: وقد يجئ هذا السؤال على أكثر العلل الطردية لأن
اصحابهم تعلقوا بأوصاف محتملة أن لا تكون عللا فهذا السؤال
يردهم إلى القول بالتأثير وفى هذا السؤال تكلف عظيم ومن
يجعل الطرد حجة يستجيز أن يكون بمجرده أمارة على الحكم فلا
يرضى بمثل هذا السؤال لأنه يقول: إن علتى صحيحة بوجود
الإطراد وصلاحيته علة من حيث إنه لم يقم دليل على فسادها
أو لأنه صالح أمارة وعلل الشرع أمارات وهذا القدر لى كاف
ولا ينافى بمثل هذا السؤال لأنه يقول: أنا أعلم منك ولا
نثبت الحكم بهذه العلة بل نثبته بعلة أخرى ومرجه هذا
السؤال ليس إلا هذا القدر لكني مع منعك أجعله علة ولا
احتاج إلى إقامة دليل على كونه علة ولا إلى إظهار تأثير
لها سوى الوفاء بالإطراد الذى ضمنته وسوى وجود المعنى في
الأصل وصلاحية كونه أمارة شرعا وأما من يقول إن الطرد لا
يكون حجة وهو الذى نختاره ولابد من كون العلة مؤثرة فمتى
طولب بالدلالة على صحة العلة فهو لا يترك إقامة الدليل
عليها ويظهر تأثير العلة مناسبة الحكم وإخالته فلا معنى
لهذا التكلف الشديد واستخراج السؤال بهذا الاستقصاء بل
المطالبة كافية والله المعين بمنه.
"فصل"
فالسؤال الرابع من الأسئلة الصحيحة المعارضة وقبل أن نشرع
فيه نقول: قد ذكر كثير من أصحابنا سؤال عدم التأثير1. ولست
أرى لذلك وجها بعد أن يبين المعلل التأثير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من قوادح العلة: تأثير العلة في الحكم ومعناه: انتفاء
الحكم عند النتفاء الوصف في نفس المحل الذي ثبت عليه الوصف
فيه. فعدت التأثير معناه وجود الحكم بدون الوصف الذي ثبتت
عليه فيه. وقد اختلف الأصوليون في عدم التأثير من حيث كونه
قادحا في العلية أو غير قادح فيها على مذاهب ثلاثة:
الأول: يقدح مطلقا سواء كانت العلل
مستنبطة أو منصوصة.
الثاني: لا يقدح مطلقا لافي العلل
المنصوصة.ولافي العلل المستنبطة.
الثالث: لا يقدح في العلل المنصوصة ويقدح
في العلل المستنبطة. نهاية السول "4/183, 184" المحصول
"2/375" البرهان "2/1022" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور
زهير "4/132, 133".
ج / 2 ص -220-
لعلته
وقد ذكرنا أن العلة الصحيحة ما أقيم الدليل على صحتها
بالتأثير بالوجه الذى قدمناه.
وقد ذكر مشايخ اصحابنا في سؤال عدم التأثير وتصحيحه كلاما
كثيرا وعدوه سؤالا قويا واقعا على المعلل. وقالوا: إذا
أورد السائل هذا السؤال فيجب أن ينظر المعلل فإن وجد له
تأثيرا في الحكم بين التأثير وإن لم يجد له تأثيرا فله أن
يجيب ويقول إن له تأثيرا في طرد العلة والمأخوذ على طرد
العلة لا العكس وعلل الشرع من شرطها الاطراد دون الانعكاس
بل إذا كانت مطردة منعكسة تترجح به العلة ومثاله ما يحتج
به في زكاة الحلى فيقول إنه مال مصروف من جهة النماء إلى
غير جهة النماء بوجه مباح يسقط عنه الزكاة كما لو جعل مال
التجارة للقنية فقالوا قولكم لوجه مباح لا تأثير له في
الأصل فإنه إن كان بوجه محظور يسقط الزكاة أيضا فإنه لو
كان له إبل سائمة فصيرها معلوفة بعلف مغصوب تسقط عنه
الزكاة وإن كان بوجه محظور والمعلل يقول له تأثير في الطرد
والعكس غير مأخوذ على بل إذا كانت تطرد يكفى فأجيب عنه
أيضا فقيل إن عدم التأثير هو نقض لعكس العلة ولا يلزم نقض
العكس.
وبيان هذا: أنى إذا قلت: مال مصروف من جهة النماء إلى غير
جهة النماء بوجه مباح فإذا ادعيت عدم التأثير صار كأنك قلت
لى: إذا عللت بهذه العلة تصير كأنك عللت بعكسه وقلت إن
المال إذا كان مصروفا من جهة النماء إلى غير جهة النماء
بوجه محظور يجب فيه الزكاة ثم نقضت هذا العكس بالإبل
السائمة إذا جعلها معلوفة بعلف مغصوب أو جعلها عوامل في
قطع الطريق فإنه مال مصروف من جهة النماء إلى غير جهة
النماء بوجه محظور والزكاة ساقطة فيكون هذا نقضا لعكس
العلة ونقض عكس العلة لا يقدح في العلة بعد أن سلم الطرد
والأصل في الجواب عن هذا السؤال أن التأثير إذا ذكر للعلة.
فيقول القائل: لا تأثير له غير مسموع والعكس الذى يورده
ج / 2 ص -221-
السائل
فسبيل المعلل أن يبين المعنى فيه ويخرجه على المعنى الذى
اعتمده.
وأما الكلام في المعارضة1 فقد قال: أبو زيد ليس للسائل بعد
الممانعة إلا المعارضة ونحن قد بينا الممانعة قبل المعارضة
سؤالين واقعين وهو النقض وفساد الوضع وذكرنا وجه توجههما
على العلة.
واعلم أن المعارضة قد تكون بعلة أخرى وقد تكون بعلة المعلل
بعينها فالمعارضة بعلة المعلل تسمى قلبا2 وتسمى مشاركة في
الدليل.
ومثاله أن يقول المخالف3: عضو4 من أعضاء الطهارة فلا يكفى
في إيصال الماء إليه ما يقع الاسم عليه5 دليله الوجه.
فيقول خصمه: وجب أن لا يكون مقدرا بالربع قياسا على الوجه
وسائر الأعضاء. ويقول القائل: في الاعتكاف لبث في مكان
مخصوص فلا يكون بمجرد قربة6 قياسا على الوقوف بعرفة فيقول
خصمه7: وجب أن لا يكون الصوم شرطه دليله الوقوف بعرفة.
واختلف أصحابنا في هذه المعارضة فمنهم من قال: هذه
المعارضة غير صحيحة لأنها معارضة في غير الحكم الذي علله
فلا يلزم الجواب عنه.
ألا ترى: أنه إذا استأنف قياسا في حكم آخر لم تكن معارضة
وأيضا فإن أوصاف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المعارضة في اللغة على سبيل الممانعة فيعم النقض
والمعارضة وسائر المقابلات. وفي الاصطلاح: إثبات السائل
حقيقة أو حكما بأن يكون ماادعاه بديهيا انظر الولدية في
آداب البحث والمناظرة للآمدي ص "92".
2 وتسمى معارضة على سبيل القلب لقلب المعارض ذلك الدليل
على المعلل بأن يقيم على نقيض مدعاه أو مايستلزمه وزيادة
دليل المعارض بما يفيد تقريرا وتفسيرا لا تبديلا ولا
تغييرا لا تقدح في كون معارضته قلبا كذا في التلويح انظر
الولدية في البحث والمناظرة للآمدي ص "99".
3 أي: الأحناف.
4 أي: الرأس.
5 فمذهب الحنفية مسح ربع الرأس انظر الهداية للميرغيناني
"1/12".
وأما مذهب الشافعية ما ينطلق عليه الاسم ولو لبعض شعره أو
قدره من البشرة انظر روضة الطالبين "1/53".
6 فمذهب الحنفية أنه يشترط في الاعتكاف أن يقترن بالصوم
انظر الهداية للميرغيناني "1/142".
7 أي: الشافعية ومذهبهم لأنه لا يشترط الصوم في الاعتكاف
على المشهور انظر روضة الطالبين "2/393".
ج / 2 ص -222-
علة
المعلل لا تصلح للحكم الذى ذكره القلب1.
وقال أبو علي الطبرى: القلب من ألطف ما يستعمله المناظر
وهو معارضة صحيحة لأن المعلل لا يمكنه الجمع بين علته وبين
موجب قلبه فصارا متعارضين وأنزل ذلك منزلة المعارضة من أصل
آخر وقد استدل المخالف في المنع من نقض البناء لرد الساجة
بأن في الرد إضرار والضرر والضرار منفى في الشرع. فيقال
له: في المنع من الرد أو إطلاق المنع إضرار يعنى لصاحب
الساجة فإن منع الملك من المالك ضرر فيتعارض الضرر والضرار
فتحصل المشاركة في نفس ما جعل المعلل دليلا لنفسه وكذلك
يستعمل مثل هذا في مسألة الملتجئ إلى الحرم فإن المخالف
يقول وجب أن يصير آمنا في نفسه. فيقول الخصم له: وجب أن
يصير آمنا على نفسه حتى لا يلحقه الفوات والذى قاله من دفع
القلب بأن المعارضة وجدت في غير الحكم الذى علل له المعلل
فليس بشئ لأن الجمع بين موجبى التعليل إذا تعذر تبين وجود
المعارضة وأما قوله: إن الأوصاف ليست بمؤثرة في القلب.
قلنا: قد تكون مؤثرة وقد تكون مثل أصل العلة من المعلل على
أن بينا أن طلب التأثير واجب فإذا بين المعلل التأثير فيجب
أن يطلب من القالب التأثير أيضا وعلى هذا ينبغى أن يصحح
ماله التأثير وإذا قلب التسوية فقد اختلف فيه الأصحاب
والأصح أن لا يكون متوجها لأنه لا يمكن فيه التصريح بحكم
العلة ويقال في توجيه سؤال القلب: إنه إذا علق على العلة
ضد ما علقه المعلل من الحكم فلا يكون تعليق أحد الحكمين
أولى من الآخر فبطل تعليقهما بها وهو على أضرب:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن القلب هو ربط النعترض حكما مخالفا لحكم المستدل
بعلة المستدل.
ينقسم القلب إلى:
أولا: قلب يكون الغرض منه إبطال مذهب
المستدل صراحة .
ثانيا: قلب يكون الغرض منه إبطال مذهب
المستدل ضمنا. أي بطريق اللزوم.
ثالثا: قلب يكون الغرض منه إثبات مذهب
المعترض صراحة.
وقد اختلف الأصوليون في القلب:
فذهب أكثر الأصوليون ومنهم البيضاوي إلى أن القلب يكون
قادحا في العلية ويقبل من المعترض.
وذهب قليل منهم إلى أنه غير مقبول انظر نهاية السول
"4/210, 211,. 212" المحصول "376" أصول الفقه للشيخ محمد
أبو النور زهير "4/140, 141, 142, 143".
ج / 2 ص -223-
أحدهما: أن يكون الحكمان مفصلين.
والآخر: أن يكونا مجملين.
والثالث: أن يكون أحدهما مجملا والآخر
مفصلا.
أما المفصلان فضربان:
أحدهما: أن تناقضا بأنفسهما حتى يقول
المعلل وجب أن يجوز.
والآخر يقول: وجب أن لا يجوز وهذا شئ لا
وجود له.
وإنما إذا لم يتناقضا بأنفسهما بل بواسطة مثل أن يقول في
استيفاء القصاص بغير حق قتل على جملة القصاص فيجوز بالآلة
التي وقع القتل بها كما لو قتل بالسيف وقد بينا توجه هذا
السؤال لأن أحد الحكمين إذا ثبت انتفى الآخر فليست العلة
بأن تدل على أحد الحكمين بأولى من أن تدل على الآخر.
وأما إذا كانا مجملين:
فيجوز أن يقول
أحدهما: وجب أن يكون من شرط هذه العبادة
معنى ما.
والآخر أن يقول: وجب أن لايكون من شرطها
معنى من المعانى وهذا أيضا لا وجود له.
وأما إذا كان أحدهما مجملا والآخر مفصلا فضربان:
أحدهما: أن يكون المجمل على حكم التسوية
نحو أن يقول القائل وجب أن يستوى حكم كذا وكذا وقد بينا.
والآخر: أن لا يكون على وجه التسوية مثل
تعليل المعلل في الاعتكاف لبث في مكان مخصوص فكان من شرطه
اقتران معنى من المعانى دليله الوقوف فيقول الخصم وجب أن
لا يكون الصوم من شرطه وهذا سؤال متوجه لما بينا من قبل
بأن اعترض على قلب وجه من وجوه الفساد فسد القلب وصح
التعليل المعلل ومن القلب أيضا جعل المقلوب علة وجعل العلة
معلولا ومثاله في ظهار الذمي فإن أصحابنا قالوا: من صح
طلاقه صح ظهاره فقلبوا وقالوا في الأصل إنما صح طلاقه لأنه
صح ظهاره ونظائر هذا تكثر.
وقد قيل: إن القلب نوعان:
أحدهما: جعل الأسفل أعلى وجعل الأعلى أسفل
كقلب الإناء بجعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله.
ج / 2 ص -224-
والقلب
الآخر: أن يجعل باطنه ظاهره وظاهره باطنه مثل قلب الجراب.
فمثل الأول أن يجعل المعلول علة والعلة معلولا وهو مبطل
للتعليل لأن العلة واجبة والمعلول هو حكم الواجب به كالفرع
من الأصل فلم يجز أن يكون الحكم علة والعلة حكما فلما
احتمل الانقلاب دل على بطلان التعليل ومثاله كثير من ذلك
أن يقول القائل في مسألة إيجاب الرجم إن الكفار جنس يجلد
أبكارهم مائة فيرجمهم قياسا على المسلمين فيقال في الأصل
جنس رجم ثيبهم فجلد أبكارهم وكذلك في قول القائل: إن
القراءة تكررت فرضا في الأوليين فتكررت في الأخرتين
كالركوع والسجود فيستعمل في الأصل على الوجه الذ بينا وقد
أجابوا عن هذا وقالوا: هذا القلب لا يضر لأن الشئ يصح أن
يكون دليلا على الشئ وذلك الشئ يكون دليلا عليه كما في
العقليات فإن يجوز أن يقال: بوجوده فيجوز رؤيته ويقال يجوز
رؤيته فيكون موجودا وكذلك تكون النار دليلا على الدخان
والدخان دليلا على النار.
ويتأيد هذا الجواب بقول من قال: أنا أجعل أحد الحكمين
دليلا على الآخر ولا أخرج الكلام مخرج التعليل وهذا كلام
صحيح إذا ثبت أن الشيئين نظيران شرعا فيدل ثبوت أحدهما على
ثبوت الآخر أنهما كانا كالتوأمين فإن عتاق أحدهما إنما كان
يدل على عتاق الآخر وأما القلب الآخر فهو أن نجعل العلة
شاهدا لك على خصمك وهو من قلب الجراب فإنها كانت لخصمك
عليك ظاهرا فانقلبت وصارت لك على خصمك وقد كان ظهرها أليك
فصار وجهها أليك وإنما توجه هذا السؤال لأن العلة لما شهدت
لك وعليك في حكم واحد فصار أحدهما يعارض الآخر ويفضى كل
واحد منهما [إلى] صاحبه فبطلا جميعا وذكروا لهذا نظيرا
وقالوا في قول من قال من أصحابنا إنه صوم فرض فيشترط لصحته
نية العين قياسا على صوم القضاء. فيقال في قلبه: صوم فرض
فلا يشترط له نيه التعيين بعد التعيين قياسا على قضاء
رمضان فإن صوم رمضان متى تعين لم يشترط بعده نية التعيين
إلا أنه يتعين بعد الشروع وهذا يتعين قبل الشروع والملخص
من القلب بذكر ما هو الوصف في الحكم الذى علل له دون الحكم
الذى قاله خصمه وقد ذكر والعكس عند ذكر القلب وجود عكس حكم
العلة بقلبها وهو ضد الطرد ونظيره. قول القائل: جنس يجلد
أبكارهم مائة فيرجم بينهم وعكسه العبيد كما قال المخالف في
الصوم: إنه عبادة يلتزم بالنذر فتلتزم بالشروع
ج / 2 ص -225-
كالحج
وعكسه الوضوء وهذا مما يقوى الاستدلال بالحكم ويدل أنه
نظير حيث استويا طردا وعكسا وثبوتا وسقوطا.
وأما المعارضة بعلة أخرى فنوعان:
أحدهما: معارضة في حكم الفرع.
والآخر: معارضة في علة الأصل.
أما المعارضة في حكم الفرع فالصحيح في ذلك أنه إذا ذكر
المعلل علة في إثبات حكم في الفرع أو نفى حكم فيعارض خصمه
بعلة أخرى توجب ضد ما يوجب علة المعلل فتتعارض العلتان
فيمتنعان في العمل إلا أن يترجح إحدى العلتين على الأخرى
فحينئذ يعمل بالعلة الراجحة. وهذا المعارضة تجئ على كل علة
يذكرها المعلل مثاله ما يقول في تكرار مسح الرأس1: إن هذا
ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه. فيعارض الخصم فيقول
مسح الرأس [مسح]2 فلا يسن تثليثه كالمسح على الخفين3.
وأما المعارضة في علة الأصل فهو أن يبين في ألصل علة سوى
علة المعلل. وتكون تلك العلة معدومة في الفرع ويقول: إن
الحكم ثبت بهذه العلة التي ذكرتها في الأصل لا بالعلة التي
ذكرتها. مثاله ما يقول الحنفى في تبييت النية إن هذا صوم
عين فيتأدى بالنية قبل الزوال كالنفل4. فيقال: ليس المعنى
في الأصل ما ذكرت لكن المعنى في الأصل النفل بناء على
السهولة والخفة فلما بنى أمر على الخفة والسهولة له جاز
أداؤه بنية متأخرة عن الشروع بخلاف الفرض فإنه لم يبن على
السهولة والخفة فلا يجوز بنية متأخرة وهذا هو الفرق الذى
جعله كثير من فقهاء الفريقين أقوى سؤال وظنوه فقه المسألة
وبه تمسك المناظر من فقهاء [غزنة] وكثير في بلاد خراسان
زعموا أن الفقه هو الفرق والجمع وعند المحققين هذا ضعف
سؤال يذكر وليس مما تتبين العلة التي نصبها المعلل بوجه
لأن نهاية ما في الباب أن الفارق بين الفرع والأصل يدعى
معنى في الأصل عدم ذلك المعنى في الفرع ولم يتعرض للمعنى
الذى نصبه المعلل. ويجوز أن يكون الأصل معلولا بعلتين وكل
علة موجبة للحكم بانفرادها ووجدت إحدى العلتين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مذهب الشافعية انظر روضة الطالبين "1/59".
2 زيادة ليست بالأصل.
3 وهو مذهب الأحناف انظر الهداية "1/14".
4 انظر الهداية للميرغياني "1/127".
ج / 2 ص -226-
فى
الفرع وعدمت الأخرى وإحدى العلتين كافية لوجوب الحكم
والحرف أن يقال بأن وجد في الأصل معنى لا يوجد في الفرع من
أن ينبغى أن تفسد هذه العلة.
ببينة: أنا ذكرنا يعنى في الفرع ووجد هذا
المعنى في الأصل وهو ذكر معنى في الأصل وعدم ذلك المعنى في
الفرع والعدم لا يكون حجة والعلة الموجودة لا تعارض بما
عدم في العلة ويعتبر مما ذكرنا بعبارة أخرى فيقول ليس فيما
ذكر من الفرق إلا وجود علتين في الأصل ووجدت إحدى العلتين
في الفرع ولم توجد الأخرى فيقول إذا وجدت إحدى العلتين في
الفرع وجب وجود حكمها فيه ولم يلزم انتفاؤه لانتفاء العلة
الأخرى لأن انتفاء العلة لا يقتضى انتفاء حكمها إذا خلفتها
علة أخرى وأيضا فإن الفارق بين مفارقة الأصل والفرع ووجود
المفارقة دليل صحة العلة فإن الأصل يكون مفارقا للفرع في
بعض الوجوه ولولا تلك المفارقة لم يمكن الجمع بينهما ببعض
الوجوه مفيدا للحكم لأن الشئ لا يدل على نفسه ولأن القياس
إلحاق فرع بأصل فلابد من وجد المفارقة بينهما ليكون أحدهما
أصلا والآخر فرعا.
وصورة هذا أنا نقيس الأرز والذرة على الحنطة والشعير في
حكم الربا وعلى قطع نعلم وجود المفارقة بينهما في أوصاف
كثيرة والمفارقة في تلك الأوصاف لم تمنع صحة القياس.
وقد ذكر بعضهم نوعا آخر من الفرق وهو أن يبين الخصم في
الأصل علة غير علة صاحبه ويعديه إلى فرع آخر واختلفوا فيه
وسموا هذا فرق تعدية فبعضهم حكم بصحته وبعضهم بفساده مثاله
ما يقول الحنفى في نكاح الأخت في عدة الأخت معتدة عن طلاق
فيمنع زوجها عن نكاح أختها دليله المعتدة عن طلاق بائن
فيقول خصمه ليس المعنى في الأصل أنها معتده بل المعنى أنها
منكوحة لأن عندنا الطلاق البائن لا يقطع النكاح وفى هذه
الصورة لا يمكن كل واحد من الخصمين أن يقول بالمعنيين
صاحبه فيعارض كل واحد من المعنيين فيبطلان ويبقى الأصل بلا
معنى فلا يكون حجة.
واعلم أنه إذا فرق على هذا الوجه فلابد أن يبين المعلل صحة
علته وفساد علة الخصم فإذا بين ذلك بطل السؤال والفرق مع
التعدية في مسألة الثيب الصغيرة وإجبار البكر البالغة أبين
ولابد من الرجوع إلى حرف المسألة وبيان الإخالة في الوصف
الذى يدعيه المعل علة فثبت أن الفرق اعتراض فاسد وكذلك
أراه الحكم مع
ج / 2 ص -227-
عدم
العلة اعتراض فاسد فإن الحكم ثبت بعلل.
ألا ترى: أن ملك اليمين يثبت بالشراء والارث والهبة وأسباب
أخر فثبوت الملك بلا شراء لا يدل على أن الشراء ليس بعلة
الملك فكذلك ثبوت الحكم بدون علة جعلها المعلل علة لا تدل
أن ما جعله من العلل ليس بعلة بل هو علة وغيره علة فإن
وجدت هذه العلة يثبت الحكم وإن وجد غيرها وابعد من هذه
يثبت الحكم أيضا وقد ذكرنا من قبل طرفا من هذا1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الفرع نوعان: أحدهما: اعتبار ما في الأصل من الخصوصية
جزءا من العلة وثانيهما: جعل خصوص الفرع مانعا من ثبوت
الحكم فيه.
فالنوع الأول: يعتبر قادحا في العلية في رأي من لم يجوز
تعليل الحكم الواحد بعلتين ولا يعتبر قادحا على رأي من جوز
ذلك. والنوع الثاني من الفرع وهو جعل خصوصية الفرع مانعا
فإنما يعتبر قادحا مطلقا سواء تخلف الحكم عن العلة أو لغير
مانع أما إذا قلنا: إن تخلف الحكم عن الوصف لمانع لا يقدح
في العلية فلا يكون النوع الثاني قادحا انظر نهاية السول
"4/231, 232, 233, 234, 235, 236, 237" أصول الفقه للشيخ
محمد أبو النور زهير "4/146, 147".
فصل: ونقول: إن العلل قد لا يجتمع كونها عللا
لتنافى أحكامها:
فالمتنافية
أحكامها لابد أن يكون أصلها أكثر من واحد ويستحيل أن يكون
أصلها واحدا لأنه لو كان أصلها واحدا على وجه واحد لكان قد
اجتمع في الأصل حكمان متنافيان وذلك محال.
ومثال التنافى في العلتين المردودتين إلى أصلين: وجوب
النية في التيمم ونفى وجوبها في إزالة النجاسة ورد الوضوء
إلى إزالة النجاسة بعلة أنها طهارة بالماء ورده إلى التيمم
بعلة أنها طهارة عن حدث فالتنافى موجود في هاتين العلتين
لتنافى حكمهما وإنما تحقق التنافى لاختلاف الأصلين فأما مع
الاتفاق الأصلى فلا يتصور وقد يمتنع كون العلل عللا لوجه
سوى تنافى الحكمين وذلك بأن لا يكون في الأمة من علل ذلك
الأصل بعلتين. بل تكون الآمة قد افترقوا فكل فريق منهم
علله بعلة واحدة وهذا كتعليل من علل تحريم التفاضل في
الربا بالطعم2 وتعليل من علل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 وهو قول الشافعي وإحدى الروايات عن أحمد انظر المغنى
"4/126".
ج / 2 ص -228-
بالكيل1 وتعليل من علل بالقوت2 وليس واحد من هؤلاء من
يعلله بجميع هذه العلل فوجب القول بتنافى هذه العلل فمن
علل في القليل من البر بأنه مطعوم جنس فأشبه الكثير فإذا
رد الخصم: وقال: المعنى في الكثير أنه مكيل جنس فلا يمكن
للمعلل أن يقول بالمعنيين جميعا كما ذكرنا فلابد من بيان
الترجيح وبيان التأثير لإحدى العلتين دون الأخرى حتى تصح
العلة المؤثرة وتبطل الأخرى.
واعلم: أن بعض الجدليين ذهب إلى أن المعارضة غير مقبولة من
السائل لأنه ينتهض مستدلا والذى يقتضيه رسم الجدل أن يحصر
السائل كلامه كله في الاعتراض المحض يدل عليه أن العلة لا
تكون مخيلة صحيحة ألا بعد إقامة الدليل على صحتها وإذا
انتصب السائل لذلك تصور بصورة البانيين المبتدئين لا بصورة
الهادمين المعترضيين وهذا فصل تعلق به طائفة من الجدليين
وهو باطل عند ذوى التحقيق من جهة أن المعارضة اعتراض وإنما
قلنا إنه اعتراض لأن العلة التي يتمسك بها المجيب لا تكون
حجة ما لم يسلم عن المعارضة فإن المعارضة توجب وقوف الحجة
بدليل البينات وبدليل أن القرآن إنما صار حجة عند سلامته
من المعارضة وإذا ثبت أن المعارضة تمنع ثبوت الحجة وكان
إيراد المعارضة اعتراضا صحيحا لأن الدليلين إذا تعارضا في
محل واحد بحكمين مختلفين فلا يكون أحد الحكمين أولى من
صاحبه وأيضا فإنه إنما يعتمد في القياس قوة الظن وإذا
تعارض الدليلان ولم يظهر ترجيح يفوت قوة الظن لأن الظن إذا
قابله مثله يقع بينهما التعارض تفوت الحجة من كل واحد
منهما حتى يترجح أحد الظنين على صاحبه فيصير القوة له على
الآخر ويكون الحكم له.
فإن قال: قائل إن السائل وأن قصد الاعتراض ولكنه قد أتى
بصورة الدليل المبتدأ فيكون ممنوعا من ذلك.
قلنا: صورة الأدلة ما امتنعت من السائلين من حيث إنها تسمى
أدلة وإنما امتنعت إذا كان السائل مضربا عن قصد الاعتراض
آتيا بكلام مبتدإ لا معترضا وقد بينا أن بهذه المعارضة
معترض.
ببينة: أنه لما سمع منه اعتراض لا يستقل
في نوعه كلاما مفيدا فإذا كان يستقل في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو قول النخعي والزهري والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي
وإحدى الروايات عن أحمد انظر المغنى "4/125".
2 وهو قول مالك انظر المغنى "4/127".
ج / 2 ص -229-
نوعه
كلاما مفيدا ويقدح في كلام الخصم اعتراضا أولى أن يقبل.
فالجواب عن المعارضة: أن يعترض عليها المجيب بمسلك من
المسالك المذكورة في الاعتراضات الصحيحة أو يبين ترجيح
علته على علة صاحبه فإن لم يتأت له واحد من المسلكين كان
منقطعا وأن يرجح المجيب علته فللسائل أن يبين ترجيح علته
فيعارض الترجيح بالترجيح كما عارض العلة بالعلة ومن نزق1
السائل وقلة فهمه أن يتشوف إلى الازدياد على قصد المساواة
فإنه إذا فعل ذلك يكون على منهج المبتدئين لا على منهج
المعترضين فيكون حينئذ منسوبا إلى الجهل بمراسم الجدل ولم
يقبل منه قصده إلى شئ ورأى المساواة فإن ذكر المعلل ترجيحا
واحدا وذكر السائل ترجيحين فهو محاور ليتبوأ القصد وإن
عارض ترجيح واحد ولكنه أوقع من ترجيح المسئول فهذا لا يقبل
منه فإنه قد لا يوجد غيره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النزق هو: السفه بعد حلم. انظر القاموس المحيط للفيروز
آبادي "3/276".
"فصل"
وقد يزعم بعض أصحابنا أن الفرق اعتراض صحيح واستدل في ذلك
بأن شرط صحة علة الخصم خلوها عن المعارضة فإذا عارض معارض
امتنعت صحتها.
قال: وحقيقة هذا الكلام راجعة إلى أن المعلل لا يستقر
كلامه لما لم يبطل بمسلك السبر كل ما عدا علته مما يقدر
التعليل به فإذا علل ولم يسبر بعوض معنى الأصل فكأنه طولب
بالوفاء بالسبر ويتبع كل ما سوى علته بالنقض والإبطال. ثم
قالوا: هذا راجع إلى تعليل الأصل بعلتين لا يجوز.
واعلم أن هذا باطل أما قوله: إن شرط صحة التعليل خلوها من
المعارضة فليس بشئ لأن المعارضة إنما تكون قادحة إذا وجدتا
في حكمين على التضاد واما إذا أدركته علتان لحكم واحد فلا
يكون قادحا ولا يسمى معارضة.
وقوله: إنه لا يصح تعليل المعلل ما لم يبطل كل ما عدا علته
فقال لهذا القائل: ومن قال هذا؟ ولأى معنى يجب؟ وإنما وجب
عليه أن يذكر علة مخلة في الحكم مناسبة له. ثم إذا وجد لها
فرعا ألحقه بالأصل الذي استنبط منه العلة في الحكم2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 السبر معناه البحث والاعتبار والتقسيم معناه: جمع
الأوصاف التي يظن كونها علة في الأصل والترديد بينها. =
ج / 2 ص -230-
فأما
السبر والتقسيم وإبطال كل علة سوى العلة المذكورة فليس بشئ
وقد نسب هذا إلى أبى بكر الباقلانى ومن كلف المعلل هذا أو
رام تصحيح العلة من نفسه فقد أعلمنا من نفسه أن الفقه ليس
من بابته1 ولا من شأنه وإنما دخل فيه مدعيا له وقد بينا من
قبل بطلان قول من يطلب تصحيح العلة بهذا الطريق وبلغنا فيه
شفاء يثلج الصدر.
وقولهم: إنه التزم ذلك من يقول إنه التزم ذلك وأبى في
تعليل المعلل إبطال كل علة سوى علته فهذا من الترهات
والخرافات وكذلك قول من يقول: إن تعليل الأصل لا يجوز
بعلتين وقد بينا هذا من قبل وذكرنا جوازه ومتى يمتنع في
شرع أو حكم أن يكون على الحكم الواحد دلائل وهذا أيضا فإن
سبق فلا معنى للإعادة وهذا لأن الجامع لم يلتزم بجمعه
مساواة الفرع والأصل في كل القضايا وأنما مغزاه ومقصده
اجتماع الفرع والأصل الذى يبغيه فإذا استتب له ما يريده من
ذلك لم يلزمه سواه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هل السبر والتقسيم يفيد العلية قطعا أو يفيدها ظنا؟.
يكون السبر والتقسيم مفيدا للعلية قطعا إذا كان حصر
الأوصاف التي يظن كونها علة قطعيا بأن ردد فيه بين النفي
والإثبات وكان الدليل الذي دل عليه إلغاء ما عدا الباقي
قطعيا كذلك. ومثل هذا النوع من السبر والتقسيم يكون حجة في
العقليات والشرعيات من غير خلاف.
وفيما عدا ذلك يكون مفيدا للعلية ظنا كم إذا كان كل من حصر
الأوصاف والدليل المثبت للإلغاء ظنيا أو كان أحدهما ظنيا
والآخر قطعيا ومثل هذا النوع من السبر مختلف فيه:
فأكثر الشافعية يقولولن: يكون حجة على المتناظرين: المستدل
والمعترض لأنه يفيد الظن بالعلية والعمل بالظن واجب على
الجميع.
وقليل منهم يقول: هو حجة علىالمستدل وليس حجة على المعترض
لأن ظن العلية إنما يدركه المستدل فقط فظنه لا يكون حجة
على خصمه ما دام لم يوجد عنده الظن بالعلة.
وذهب فريق ثالث إلى أنه لا يكون حجة على واحد منهما لأن
الوصف الباقي بعد الإلغاء يجوز أن يبطل كما يبطل غيره من
الأوصاف لأن علية الباقي تثبت بالظن والظن قابل الخطأ.
وفصل إمام الحرمين فقال: إن أجمع على أن حكم الأصل معلل
كان الوصف الثابت بالسير والتقسيم الظني علة وكان حجة على
الجميع لأن عدم العمل به يؤدي إلى إبطال الإجماع والإجماع
لا يجوز إبطاله وإن لم يوجد إجماع على تعليل حكم الأصل لم
يكن حجة عليهما لجواز إبطال الوصف الباقي كما بطل غيره دون
أن يوجد مانع من ذلك. انظر نهاية السول "4/128, 129, 130"
سلم الوصول "4/128, 129" المحصول "2/353" أصول الفقه للشيخ
محمد أبو النور زهير "4/111, 112".
1 أي لا يصلح له انظر القاموس المحيط "1/38".
ج / 2 ص -231-
ببينة:
أن كل سؤال استمكن المعلل من الاعتراف بمقتضاه مع
الاستقرار على مقصده من العلة فليس هو بقادح وإنما
الاعتراض القادح ما يرد مناقضا لمقصود المستدل نعم يجوز أن
يمكن من إبطال الجمع بأن يحرم ما جاء به المعلل زاعما أنه
مناسب مخل فيبين أن الذى تعلق به غير متبع بالحكم فيكون
هذا سؤالا واقعا يستغنى به عن الفرق.
وحكى الشيخ أبو المعالى عن القاضى أبى بكر أن الفرق سؤال
صحيح واحتج في ذلك بأن السلف الذين تبعناهم في أمر القياس
والاحتجاج به قد كانوا يفرقون ويجمعون وثبت اعتبارهم
بالفرق حسب ثبوت تعلقهم بالجمع وقد نقل ذلك في وقائع جرت
في مجامع من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم منها القصة
المعروفة في إجهاض المرأة وإلقائها الجنين واستشارة عمر
الصحابة رضى الله عنهم في ذلك. فقال عبد الرحمن ابن عوف:
إنما أنت مؤدب ولا أرى عليك شيئا. فقال علي: إن لم يجتهد
فقد غشك فإن اجتهد فقد أخطأ أرى عليك الغرة فكأن عبد
الرحمن حاول تشبيه تأديبه بالمباحات التي لا تعقب ضمانا
وجعل الجامع أنه فعل ما له أن يفعله فاعترض عليه على وتشبث
بالفرق وأبان أن المباحات المضبوطة ليست كالتعزيرات التي
يجب الوقوف فيها دون ما يؤدى إلى الإتلاف.
قال: ولو تتبعنا معظم ما خاض فيه الصحابة من المسائل علمنا
أنهم كانوا يفرقون ويجمعون. ثم قال: بعد هذا ولا يبين مدرك
الحق إلا بتفصيل نبديه وبه يتبين المختار ويدرك الحق في
الفرق. فنقول رب فرق ملحق للجامع بالطرد وإن كان لولاه
لكان الجمع مؤثرا مخيلا.
فما كان كذلك فهو مقبول لا محاله غير معدود من الفروق التي
لا تقبل ومن آيه هذا القسم أن الفارق يعيد جمع الجامع
ويزيد فيه عليه ما يوضح بطلان أثره مثال ذلك أن الحنفى إذا
قال في البيع الفاسد معاوضة جرت على تراضى فيصير الملك كما
في البيع الصحيح فيقول الفارق المعنى في الأصل أنه معاوضة
جرت على وفق الشرع فنقل الملك بالشرع بخلاف البيع الفاسد
فإنه ينتقض هذا الكلام مبطلا إخاله المعلل وما ادعاه من
إشعاره بالحكم مقبول ومن خصائصه إمكان البوح فيه بالغرض
على سبيل الفرق بأن يقول السائل لا تعويل على التراضى على
البيع الشرعى في الطرق الناقلة للملك قال: ومما يقع مدانيا
لهذا أن الحنفى إذا قال: طهارة بالماء فلا تفتقر إلى النية
كإزالة النجاسة
ج / 2 ص -232-
فالفارق بعيد [فى] كلامه ويقول المعنى في الأصل أنه طهارة
عينية بالماء والضوء طهارة حكمية ومقصودة أن يجزم فقه
الجامع ويلحقه بالطرد وهذا الأول وذكر مثالا آخر في مسألة
مع ملك ثم قال: إن الفرق إذا بطل فقه الجمع فلا شك في كونه
اعتراضا والفرق والجمع إذا ازدحما على فرع في محل النزاع
فالمختار فيه عندنا اتباع الإخالة فإن كان الفرق أخيل بطل
الجمع وإن كان الجمع أخيل سقط الفرق وإن استويا أمكن أن
يقال هما كالعلتين المتناقضتين إذا ثبتتا على صيغة التساوى
وإن أمكن أن يقال: إن الجمع مقدم من جهة وقوع الفرع بعده
غير مناقض له والجامع يقول لم ألتزم انسداد مسالك الفرق
جملة.
قال: وحاصل القول في مذاهب الجدليين يئول إلى ثلاثة مذاهب:
أحدها: رد الفرق ورد المعارضة أيضا في الأصل والفرع جميعا.
والمذهب الثانى: وهو منسوب إلى ابن سريج وهو اختيار
الأستاذ أبى إسحاق أن الفرق ليس بسؤال على حالة واستقلاله
وأما المعارضة في الفرع فمقبولة وهى سؤال متوجه.
والمذهب الثالث وهو الصحيح: أن الفرق مقبول1 وليس الغرض
منه مقابلة علة الأصل بعلة الغرض منه مناقضة الجمع ثم
المقبول منه ينقسم إلى ما يبطل الجمع ويلحقه بالطرد أصلا
ومنه ما لا يبطل فقه الجمع بالكلية ولكنه يشترط على فقه
آخر مناقض لقصد الجامع ثم ذلك ينقسم إلى زائد في الإخالة
على العة وإلى مساو لهما.
قال: والقول الوجيز: إن قصد الجمع ينتظم بفرع وأصل ومعنى
يشتمل على ذكر أصل وفرع وهما يفترقان وهذا يقع على نقيض
غرض الجمع ومن ضرورته معارضة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الآمدي: اعلم أن سؤال الفرق عند أبناء زماننا لا
يخرج عن المعارضة في الأصل أو الفرع إلا أنه عند بعض
المتقدمين عبارة عن مجموع الأمرين حتى أنه لو اقتصر على
أحدهما لا يكون فرقا ولهذا اختلفوا فمنهم من قال: إنه غير
مقبول لما فيه من الجمع بين أسئلة مختلفة وهي المعارضة في
الأصل والمعارضة في الفرع ومنهم من قال بقبوله واختلفوا مع
ذلك في كونه سؤالين وسؤالا واحدا؟ فقال ابن سريج: إنه
سؤالان جوز الجمع بينهما لكونه أدل على الفرق وقال غيره:
بل هو سؤال واحد لاتخاذ مقصوده وهو الفرق وإن اختلفت
صيغته. ومن المتقدمين من قال: ليس سؤال الفرق هو هذا وإنما
عبارة عن بيان معنى في الأصل له مدخا في التعليل ولا وجود
له في الفرع فيرجع حاصله إلى بيان انتفاء علة الأصل في
الفرع وبه ينقطع الجمع انظر إحكام الأحكام "4/138, 139"
البرهان "1060".
ج / 2 ص -233-
الأصل
والفرع ولكن الغرض منه مضادة الجامع بوجه فقهى أو بوجه
تشبيه إن كان القياس من نفس التشبيه فعلى هذا لو سمى مسمى
الفرق معارضة لم يكن متعديا ولكن ليس الغرض منه الإتيان
بمعارضين على الطرد والعكس بل المقصد منه فقة ينتظم من
معارضات يشعر بمفارقة الفرع للأصل على مناقضة الجمع فهذا
سر الفرق ومن وفر حظه من الفقه وذاق حقيقته أستبان أن
المعارضة الكبرى التي عليها يتنجاز الفقهاء وهو الفرق
والجمع والجامع أبدا يأتى ما يخيل اقتفاء الجمع والفارق
يأتى بأخص منه مع الاعتراف بالجمع له الذى أبداه الجامع
وبين الفارق الفرع والأصل إذا افترقا في الوجه الخاص كان
الحكم بافترقهما أوقع من الحكم بالجمع الذى أبداه
باجتماعهما في الوصف ثم يتجاذب الجامع والفارق أطراف
الكلام هنا سرد كلامه مع اختصاره اخترته لئلا يطول ونحن
نقول أما الذى حكاه عن أبى بكر الباقلانى فقد حاول شيئا
بعيدا لأن الفرق والجمع على الوجه الذى نخوض فيه ما نقل عن
الصحابة أصلا وإنما كانوا يتتبعون التأثيرات ومن تأمل فيما
نقل عنهم علم مغزاهم في كلامهم وتيقن أنهم كانوا ينقلون
المعاني المؤثرة والذى نقل عن عبد الرحمن بن عوف أنه أشار
إلى عمر مؤدب وإن ما فعله حق فهو معنى صحيح والذى أشار
إليه على في وجوب الضمان عليه معنى هو ألطف من المعنى
الأول وإن كان لم يصرح به فقد بينا أن المراد من كلامه أنه
وأن كان مباح التأديب ولكنه مشروط بالسلامة لأنه أمر ليس
بحتم بل هو جائز فعله وجائز تركه ولم يكن على حد مضبوط في
الشرع وتقدير قدره فيطلق فعله بشرط السلامة فليس هذا
الكلام من الفرق والجمع الذى نحن فيه بسبيل ولا ندرى كيف
وقع هذا الخبط من هذا القائل وأين وقع الفرق فنحن لا ننكر
الفرق بالمعانى المؤثرة وترجيح المعنى على المعنى وإنما
الكلام في شئ وراء هذا وهو أن المعلل إذا ذكر علة قام له
الدليل على صحتها بالوجوه التي قلناها فإذا فرق فارق بين
الأصل والفرع بمعنى أبداه فإن كان فرقا لا يقدح في التأثير
الذى لو كان المعلل في الحكم فيكون الفرق فرق صورة ولا
يلتفت إليه وإن فرق معنى مؤثر في حكم الأصل فنهاية ما في
الباب أن الحكم في الأصل يكون معللا بعلتين مؤثرتين وإحدى
العلتين وجدت فرعا أثرت فيه وألحقته بالأصل والأخرى لم تجد
فرعا يؤثر فيه فكيف يقدح هذا في الجمع الذى قصده المعلل
وأن يبقى الفارق معنى مؤثرا في التفريق بين الفرع والأصل
فالذى يقدح هو بيان معنى مؤثر في الفرع يفيد خلاف الحكم
الذى أفاده المعنى الأول فلابد لهذا من اسناده إلى أصل
فحينئذ يكون
ج / 2 ص -234-
معارضة
ولا يكون الفرق الذى يقصد بالسؤال ونحن قد بينا أن
المعارضة قادحة والتقسيم الذى قسمه في الفرق يبين أن الفرق
على ما يقتضيه بعض التأثير ليس بصحيح بل إنما يصح الفرق
على وجه يكون فيه إبداء سقوط فقه المعلل من العلة لكن
أخرجه على صيغة الفرق والمثال الذى ذكره من مسألة البيع
الفاسد ليس مما يتكلم فيه من شيء لأن البيع الذى لا يمكن
إثبات المشروعية فيه لا يكون مفيدا للملك عند أحد من
العلماء وهم لا يعتمدون على مجرد المعنى الذى ذكره لكن
يثبتون وصفا من المشروعية في البيع الفاسد الذى وقع فيه
الاختلاف فيقولون هو مشروع بأصله غير مشروع بوضعه فلهذا
أوجبوا الملك ونحن ننفيها من كل وجه فنقول لا يفيد الملك
لأن المشروع من الملك لا يثبت إلا بسبب مشروع فعلى هذا يقع
تنازع الخصوم وتجالب المعانى وأما مسألة النية في الوضوء
فعندنا قولهم طهارة بالماء علة باطلة ما لم يثبتوا المعنى
المؤثر في ذلك وقول من قال من أصحابنا طهارة حكمية أيضا
باطلة مل لم يبين التأثير على الجملة لا يتصور بوجهه سؤال
الفرق معنى بيان علة أخرى في الأصل للحكم نعم إذا عكس ذلك
المعنى في الفرق وبين تأثيره في الحكم على خلاف ما توجبه
العلة وبين أصلا له فحينئذ تكون معارضة وقد بينا الكلام في
المعارضة ونحن لا نبالى بغضب من يغضب بسبب إفساد الفروق
على ما يعتاده المتفقهة الذين لا يرجعون إلى تحقيق ورضوا
بصور ينتصبون للذب عنها والدفع عن حزبها ويتصالحون عليها
من الجانبين ويظنون أن ذلك هو المطلوب في المسائل في الفقه
منهم كبعد الإنسان من مناط الثريا والذى ادعاه هذا الذى
حكينا قوله أن فيما قلته بيان سر المسألة فلا ينكشف من سره
إلا الذى قدمناه ومن حاول توجيه سؤال الفرق إلا معارضة
المعنى في الفرع بمعنى آخر وتمسكة بأصل آخر فقد رام شيئا
بعيدا وطلب ما لا يوصل إليه بحيلة ما فليفهم المعترض وجوه
الاعتراضات على النمط الذى قلناه وليعلم أن السؤال الصحيح
على العلة المؤثرة الممانعة المعارضة ويورد النقض وفساد
الوضع على بيان أن الوصف غير مؤثر ويظهر الوجه الذى قلنا
عدم تأثيره بتوجه هذين السؤالين والله ولى المعونة في
التمييز بين الحق والباطل منه وقد ذكر الأصحاب فيما يتصل
بالفرق كلاما طويلا كثيرا ونحن إذا لم نره صحيحا إلا في
المعارضة بجانب الفرع لم نر لذكر ذلك فائدة فاعترضنا عن
جميعه وذكروا أيضا كلاما كثيرا وأمثلة في وجوه الاعتراضات
الفاسدة وفيما ذكرناه كفاية فلا معنى لتسويد البياض وإملال
الناظر فيما لا يعود بفائدة والله العاصم بمنه.
ج / 2 ص -235-
"فصل"
ولما ذكرنا توجه سؤال المعارضة فلابد أن نذكر الكلام في
الترجيحات ونبين وجوه ذلك فنقول: أولا إن:
تعارض العلتين على ضربين:
أحدهما: أن تتعارضا في حق المجتهدين
فلا يوجب التعارض فسادهما لأن كل واحد منهما مكلف باطل ما
أداه إليه اجتهاد.
والضرب الثانى: إن تعارضا في حق مجتهد واحد فيوجب التعارض
فسادهما إلا أن يوجد ترجيح لإحدى العلتين على الأخرى.
ثم اعلم: أن الترجيح لا يقع بين دليلين موجبين للعلم لأن
العلم لا يتزايد وإن كان يجوز أن يكون بعضه أقوى من بعض
وكذلك لا يقع الترجيح بين دليل موجب للعلم وبين دليل موجب
للظن لأن المفضي إلى الظن لا يبلغ رتبة الموجب للظن ولو
رجح الدليل المفى إلى الظن بكل ترجيح لكان الدليل الموجب
للعلم مقدما عليه ثم متى تعارضت العلتان المقربتان للظن
فلا شك أن العلة القياسية لا تفيد الظن فإذا لم يكن بد من
ترجيح إحديهما على الأخرى فنقول:
الترجيح يكون من وجوه:
أحدها: أن تكون إحديهما منتزعة من أصل
مقطوع به والأخرى منتزعة من أصل غير مقطوع به فالمنتزعة من
المقطوع به أقوى وأولى لأن مثلها أولى فتكون أقوى1.
والثاني: أن تكون إحديهما عرفت بنطق
والأخرى عرفت بمفهوم واستنباط فما عرفت بالنطق أقوى فيكون
المنتزع منه أقوى2.
والثالث: أن تكون إحديهما عموما لم يخص
وأصل الأخرى يكون عموما قد دخله التخصيص فالمنتزع مما لم
يدخله التخصيص أولى لأن ما دخله التخصيص أضعف فإن من الناس
من قال: قد صار مجازا بدخول التخصيص فيه3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "4/514" سلم الوصول "4/514" فواتح
الرحموت "2/324" البرهان "2/1285" المحصول "2/474" إحكام
الأحكام "4/371" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير
"4/218".
2 انظر نهاية السول "4/514" أصول الفقه للشيخ محمد أبو
النور زهير"4/218".
3 انظر المحصول "2/463".
ج / 2 ص -236-
والرابع: أن يكون أصل إحدى العلتين قد نص بالقياس عليه وأصل الآخر لم ينص
بالقياس عليه فما ورد النص بالقياس عليه يكون أولى.
والخامس: أن يكون أصل إحديهما من جنس
الفرع فقياسه عليه أولى من القياس على ما ليس من جنسه.
والسادس: أن تكون إحديهما مردودة إلى أصل
واحد والأخرى مردودة إلى أصول فتكون المردودة إلى أصول
أولى.
ومن أصحابنا من قال: هما سواء والأول أصح لأن ما كثرت
أصوله يكون أقوى.
والسابع: أن تكون إحديهما صفة ذاتية1
والأخرى صفة حكمية فالحكمية تكون أولى ومن أصحابنا من قال:
الذاتية أولى لأنها ألزم والأول أصح لأن الحكم بالحكم أشبه
فيكون الدليل عليه أولى:
والثامن: أن تكون إحداهما منصوصا عليها
والأخرى غير منصوص عليها فالعلة المنصوص عليها أولى لأن
النص أقوى من الاستنباط2.
والتاسع: أن تكون إحداهما نفيا والأخرى
إثباتا فالإثبات أولى لأن النفى لا يكون علة على الأصح3.
والعاشر: أن تكون إحداهما اسما والأخرى
صفه فتكون الصفة أولى من الاسم لأن الأصح أن الاسم [لا
يمكن]4 أن يكون علة.
الحادى عشر: أن تكون إحداهما أقل أوصافا
والأخرى أكثر أوصافا ومن أصحابنا من قال: القليلة الأوصاف
أولى لأنها أسلم ومنهم من قال: التي كثرت أوصافها أولى
لأنها أكثر شبها بالأصل5.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان لإمام الحرمين "2/1278- 1279" نهاية السول
للآسنوي "4/519" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير
"4/222".
2 انظر نهاية السول "4/514" سلم الوصول "4/514" البرهان
"2/1285" المحصول "2574" إحكام الأحكام "4/371" أصول الفقه
للشيخ محمد أبو النور زهير "4/218".
3 انظر المحصول "484" نهاية السول "4/517" المحصول "2/466"
إحكام الأحكام "4/382" البرهان "2/1289" أصول الفقه للشيخ
محمد أبو النور زهير "4/221".
4 ثبت في الأصل "لا يكون" ولعل الصواب ما أثبتناه.
5 انظر البرهان "2/1286, 1287" المستصفى للغزالي "2/402".
ج / 2 ص -237-
والثاني عشر: أن تكون إحداهما أكثر فرعا من الأخرى فمن أصحابنا من قال: ما كثرت
قفروعها أولة لأنها أكثر فائدة ومنها من قال: هما سواء1.
الثالث عشر: أن تكو إحداهما متععدية
والأخرى واقفة بالمتعدية أولى لأنها مجمع على صحتها
والواقفة مختلفف في صحتها2.
الرابع عشر: أن تكون إحداهما تطرد وتنعكس
والأخرى تطرد ولا تنعكس فالتى تطرد وتنعكس أولى لأن التي
تطرد وتنعكس تكون أقوى في الظن ولأن الاطراد ليس بدليل
لصحة العلة وأما الاطراد والانعكاس فدليل على ما سبق3.
الخامس عشر: أن تكون إحداهما تقتضى
احتياطا في الغرض والأخرى لا تقضى احتياطا فالتى تقتضى
الاحتياط أولى لأم القلب يكون عليه أسكن.
السادس عشر: أن تكون إحداهما تقتضى الحظر
والأخرى تقتضى الإباحى فمن أصحابنا من قال: هما سواء
والأصح التي تقتضى الحظر أوللى لأنها أحوط4.
السابع عشر: أن تكون إحداهما تقتضى النقل
من الأصل إلى الفرع الشرعى والأخرى تقتضى التبقية على
الأصل فالناقلة أولى ومن اصحابنا من قال: المتبقية أوى
والأول أصح لآنها تفيد حكما رشعيا لا تفيده هذه
الثامن عشر: أن تكون إحداهما توجب حدا
والخرى تسقطه أو إحديهما توجب العتق والأخرى تسقطه فمن
أحابنا نت قال التي توجب العتق تسقط الحد أولى لأن العتق
مبنى على الإيقاع والتكميل والحد من على الاستنباط والدرأ
ومن اصحابنا من قال: لا يترجح بما بينا لأن إيجاب الحد
وإسقاطه والعتق والرق في الحكم الشرع على السواء5.
التاسع عشر: أن تكون إحديهما يوافقها عموم
والأخرى لا يوافقها عموم فما يوافقها العموم أولى ومن
أصحابنا من قال: لا يكون أولى والأول أصح لأن العموم دليل
بنفسه فإذا انضم إلى القياس يقويه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى للغزالي "2/405" نهاية السول "4/519, 520"
أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/222".
2 انظر إحكام الأحكام "4/375" المحصول "2/486" المستصفى
"2/404".
3 انظر إحكام الأحكام "4/375".
4 المحصول "2/468".
5 المحصول "2/484".
ج / 2 ص -238-
العشرون: أن بكون مع إحديهما قول صحابى ولا يكون مع الأخرى فالتى معها قول
الصحابى أولى لأن قول الصحابى حجة في قول بعض العلماء فإذا
انضم إلى القياس قواه ففالأقوى أولى1.
الحادى والعشرين: أن تكون إحديهما تعم حكم
أهلها والأخرى تخص حكم أصلها كتعليل البر بالطعم يعم ثبوت
الربا في جميع البر قليله وكثيرة وتعليله بالكيل ينفى ثبوت
الربا فيما رر يكال من ابر ومن التعليل منه فرجح التعليل
بالطعم لأنه عم حكم أصله على التعليل بالكيل لأنه خص حكم
أصله.
الثانى والعشرين: أن تكون إحديهما مأخوذة
من أصل متفق على تعليله والأخرى مأخوذ من أصل مختلف في
تعليله فتكون المأخوذة من أصل متفق على تعليله أولى.
الثالث والعشرون: أن تكون إحديهما تدخل
فروعها في فروع الأخرى فيكون الأعم أولى وهذا مثل تعليل
الربا بالطعم يكون أولى من التعليل بالقوت لأن القوت يدخل
في الطعم والطعم لا يدخل في القوت.
الرابع والعشرين: أن تكون إحديهما تفيد
حكما هو أزيد من الآخر كالندب والإباحة فرجح الندب على
الإباحة وكذلك الوجوب والندب.
الخامس والعشرون: أن تكون إحديهما موافقة
للأصول والأخرى مخالفة لها.
فهذا جملة ما ذكره العراقيون2 من أصحابنا في الترجيح ذكرها
القاضى أبو الطيب والقاضى أبو الحسن الماورددى والشيخ أبو
إسحاق الاشيرازى.
واعلم بعد هذا أت الترجيح في اللغة عبارة عن إثبات الرجحان
وهو الزيادة لأحد المثلين على الآخر صفة3. فقال: هذه
الدراهم راجحة إذا مالت كفة الدراهم على كفة السنجاات صفة
وهى صفة الثقل فرجحان أحد العلتين ععلى الأخرى زيادة قوة
إحدى العلتين وتلك القوة رجحان.
قال أبو زيد: ولنا انضمام علة إلى علة أخرى لا توجب رجحان
تلك العلة وقد قال بعض أصحابنا: يترجح بذلك إلا أن الأول
أصح لأن الشئ لا يتقوى إلا بصفة توجد في ذاته وإنما يغير
انضمام غيره إليه لا يقوى الدليل عليه المحسوسات فكذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان "2/1282".
2 ثبت في الأصل: "ذكرها" ولعل الصواب ما أثبتناه.
3 انظر القاموس المحيط "1/221".
ج / 2 ص -239-
العلة
لا يتصور تقويها بانضمام علة أخرى إليها وإنما تتقوى بوجود
صفة فيها ولهذا قلنا: إن الشهادة لا ترجح بكثرة العدد حتى
أن شهادة الأربع تساوى شهادة الاثنين هذا قد منعه بعض
أصحابنا ولهذا الأصل قلنا: إن صاحب النصيب القليل وصاحب
النصيب الكثير في الشفعة على السواء لأن كل جزء من العرصة1
والشقص علة تامة في الاستحقاق بالشفعة فلا يترجح أحدهما
بزيادة نصيبه لأنه انضمام علة إلى علة أخرى. قالوا: ولهذا
لا يصير صاحب الكثير أولى بالاستحقاق من صاحب القليل ولكن
ثبت استحقاقه بقدر النصيب ولا يقال إن لصاحب الكثير طرفا
في الاستحقاق ولصاحب القليل طريقا واحدا فيوجب أن يقدم
صاحب الكثير الذى له طرق كثيرة في الاستحقاق فدلت هذه
المسألة أن نضمام علة إلى علة لا يوجب رجحان العلة. قالوا:
ولهذا نقول إذا ماتت المرأة وتركت ابنى عم أحدهما زوج لها
وأحدهما أخ لأم فإن صاحب القرابتين لا يترجح في الاستحقاق
على الآخر بل يكون لابن العم الذى هو زوج نصف المال
بالزوجية والباقى بينه وبين ابن العم الآخر نصفان وكذلك في
المسألة الثانية يكون لابن العم الذى هو أخ لأم سدس المال
والباقى بينهما نصفان بالعصوبة لأن الأخوة والزوجية علة
على وحدة فانضمامها إلى العصوبة لا يوجب رجحان العصوبة
والأصل ما بينا أن انضمام علة لا يوجب زيادة قوة في العلة
قالوا: وإنما تترجح العلة بزيادة التأثير والعلة تصير علة
بالتأثير فما كان أكثر تأثيرا يكون أولى بالعمل وضرب لهذا
مثلا في طول الحرة وذكر ما بينا لهم في تلك المسألة وزعم
أن الذى قالوا: أكثر تأثيرا وذكر أيضا مسألة غصب المنافع
وحكى عن أصحاب الشافعى أنهم قالوا: لم يجب ضمان المنافع إذ
أتلفت لم يجبر لأن التضمين يضمن إيجاب زيادة على المتلف في
الضمان وفيه إلحاق الضرر ولكن مع هذا الإيجاب أولى لأن فلى
الإيجاب إبطال من بعض حق المتلف وفى الامتناع من الإيجاب
إلحاق الضرر بالمظلوم وإلحاق الضرر بالظالم أولى فكان
الإيجاب أولى من الامتناع منه قال: إلا أنا نقول: إن
الامتناع عن إيجاب الضمان مع كون المتلف متقوما مشروع
بدليل إتلاف الحربى والباغى وأما القضاء بزيادة في الضمان
غير مشروع فكان الامتناع من إيجاب الضمان أولى ولأن في
الامتناع عن القضاء بإيجاب الضمان تأخير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الفيروز آبادي "والعرصة كل بقعة بين الدور واسعة ليس
فيها بناء انظر القاموس المحيط " "2/307".
ج / 2 ص -240-
إلى
الآخرة وفى القضاء بزيادة الضمان إبطال الحق أصلا ورأسا
فالتأخير أهون من الإبطال فكان التأثير فيما قلناه أكثر
فيكون أولى ونحن نقول: إن انضمام العلة إلى العلة يجوز أن
يقال: ترجح العلة لأنها تزيد قوة الظن والحكم في المجتهدات
بقوة الظن فإذا زادت قوة الظن ظهر الترجيح.
ببينه: أن الفائدة بالترجيح ليست ألا وجود
قوة الظن بإحديهما دون الأخرى وحد الترجيح يقوى الظن
الصادر عن إحدى الأمارتين عند تعارضهما.
ببينة: أن العلة المنتزعة من أصول تكون
أقوى من العلة المنتزعة من أصل واحد وكذلك العلل المنتزعة
من أصول وكلها يدل على حكم واحد تكون أقوى من العلة
الواحدة المنتزعة من أصل واحد يدل عليه أن العلة المنتزعة
من الأصول دون العلل المنتزعة من أصول وكلها دالة على حكم
واحد فإذا ترجح الأول فالثانى أولى وهذا لأن في الفصل
الأول ثبوت العلة بكثرة أصولها وفى الفصل الثانى بكثرتها
في نفسها وكثرة أصولها فيكون أحكم وأقوى ويصير كأن العلل
شهد بعضها لبعض في القوة فيكون ذلك أولى من العلة المتجردة
عن شهادة شئ لها أصلا.
وأما مسألة الشفعة ومسألة طول الحرة ومسألة إتلاف المنافع
فقد ذكرنا في الخلافيات لهذه المسائل طرقا لا يأتى عليها
شئ فيما ذكروه فاستغنينا عن إعادة شئ من ذلك لأن من نظر في
هذه الأصول وأحكمها لابد أن ينظر في تلك الفروع ومن نظر في
تلك الفروع لابد أن ينظر في هذه الأصول فإن الكلام في
الفروع والأصول أخذ بعضها برقاب بعض وهى كأنها مشتبكة وصحة
البعض فيها منوطة بصحة البعض.
"فصل"
وقد ذكر بعض متأخرى أصحابنا عند ذكر الكلام في ترجيحات
الأقيسة بعضها على بعض مقدمة تشتمل على ذكر مراتب الأقيسة
وسمى البعض قياس المعنى وسمى البعض قياس الشبه وسمى البعض
قياس الأدلة ونحن رأينا أن نذكر طرفا من ذلك ونتكلم على
بعض ما يكون موضع الكلام عليه. قال: ونحن نرسم مراسم في
الاختلاف وننزل كل مرتبة منزلتها ونرى أن مداركها على
حقائقها مشرقة على طرق المعانى وإذا عسر الوفاء باستيعاب
الأقيسة المعنوية في هذا المجموع فالوجه أن نتخير اصلا من
أصول الشرع يشتمل على مجامع القول في وجوه الإخالة ونبين
وجوه الترتيب فيها
ج / 2 ص -241-
وما
يقع في الرتبة العليا والرتبة التي تليها إلى استيعاب
مدارك القول ومعانيها ثم نقيس النظر على ما نرسمه منها ما
يدانيها فليقع الكلام في القصاص وما يقتضى إيجابه ويجب
اندفاعه قال: أوجب الله تعالى القصاص في كتابه زجرا للجناة
وكفا لهم فأشعر بذلك نفى قوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
[البقرة: 179] واتفق المسلمون على هذه القاعدة ولم ينكرها
من طبقاتهم منكر. ثم قال أئمة الشريعة: كل مسلك يطرق إلى
الدماء السفك ويخرم قاعدة الزجر فهو مردود فإن المقصود
المتفق عليه من القصاص صيانة الدماء وحفظ المهج مما يخالف
هذا ولو قدر ثبوته كان مناقضا لهذا الأصل فلا سبيل إلى
قبوله وإثباته وإذا تمهد هذا فكل معنى يستند إلى هذه
القاعدة ويوافقها من غير اختلاف في مجراه فهو على المرتبة
العليا من أقيسة المعانى وهذا مثل في القول في القتل
بالمثقل1 فلا شك أن من نفى القصاص في القتل بالمثقل2 مناقض
للقاعدة من جهة أن القصد بهذه الالات التي اختلف فيها ثابت
وهو ممكن لا عسر في إيقاعه ثم ليس القتل بها مما يندر فإذا
لم يتعسر ولم يندر كن نفى القصاص عن القتل بها مضادا لحكم
الشريعة في القصاص وإذا ناكر الخصم العمدية في القتل سفه
ولم يستفد منه إيضاح عسر القتل ولئن تشبث بتعبد في آلة
القصاص كان ذلك في حكم العبث فإن تقدير التعبد مع ما تمهد
من الحكمة يناقض الحكمة المرعية في العصمة فليفهم الفاهم
مواقع التعبد وإن تمسك بصورة من العكس وقال الجرح الذى لا
يغلب إفضاءه إلى الهلاك إذا هلك أوجب القصاص كان هذا غاية
في خلاف الحق فإن الحرج لاختصاصه بمزيد الغور وإمكان
السريان إذا اقتضى القصاص حسما لمادة الجناية وردعا
للمعتدين فكيف يستجير لما رد عليه إسقاط القصاص بالقتل
الذى يقع بالأسباب التي تقتل لا محالة فهذا على قياس
المعنى لا حاجة في ربطه بالقاعدة التي تكلف نظر أو تحرير
أو تقريب وتقرير ويخالف ما وقع في هذه الرتبة مائل عن الحق
على قطع وليس القول في ذلك دائرا في فنون الظن وما يكون
بهذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أن يضربه بغير محدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به
عند استعماله انظر المغنى "9/322".
2 قال الحسن وروى ذلك عن الشعبي وقال ابن السيب وعطاء
وطاوس: العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة: لا قود في
ذلك إلا أن يكون قتله بالنار وعنه في مثقل الحديد روايتان
انظر المغنى "9/323".
ج / 2 ص -242-
الصفة
لا يتصور أن يعارضه معارض هذا كلامه في هذا الفصل.
وعندي أن هذا الكلام بهذا التقرير حائد عن نكثه الخلاف في
مسألة القتل بالمثقل لأن الخلاف بيننا وبين الخصم أن سبب
القود هل وجد في مسألة المثقل أم لا؟ فالخصم يقول: لم يوجد
لأنه يدعى شبهه في السبب ونحن ندعى أن السبب قد وجد وأنه
لا شبهة وإذا كان موضع الخلاف هذا ومنه نشأ ما نشأ فتقرر
وجه الحكمة في إيجاب القود وبيان وجودها في هذا المحل لا
ينفع وإنما ينبغى أن يكون الكلام في بيان السبب ونفى ما
يدعونه من الشبهة ثم إذا ثبت ذلك وعرف استمر وجوب القصاص
بالسبب المعهود في الشرع للفائدة التي ذكرناها وأما التعبد
في آلة القصاص فلست أعرف أن أحدا من المخالفين ذكر هذا
اللفظ في آلة القصاص وإنما ادعوا الشبهة عند وجود القتل
بالمثقل في استيفاء القصاص قالوا: إنه آلة القتل حسا وشرعا
بدليل المرتد ومن حيث المعنى ادعوا أن القتل به أيسر وأسهل
فكان أولى وليس المذكور للذب عن المخالفين ولكن يبين وجه
كلامهم في المسألتين حتى يكون كلامنا على هذا ونحن قد
ذكرنا في خلافيات الفروع فساد دعواهم الشبهة في القتل
وقلنا: إن اعتبار المماثلة في الاستيفاء من كل وجه ممكن
مشروع وقد ذكرنا ودللنا على ذلك بدلائل تزيل الإشكال وتنفى
الشبهة فليكن الاعتماد على ذلك وقد ذكرنا أن الفعل يصير
قتلا بتفويت الحياة وتفويت الحياة بالمحدد والمثقل واحد
والخصم يدعى شبهة عدم القتل إما بعدم الحرج أو بعدم آلة
القتل ومتى عرف حد القتل سقط دعوى شبهة عدمه وسقط أيضا
قولهم إن آلة القتل لم توجد لأن آلة الشئ ما يوجد به الشئ
فلا يتصور بغير آلة القتل وأيضا فإن القتل فعل محسوس
والفعل المحسوس متى وجد لا يتصور أن لا يوجد من وجه بل إذا
وجد من وجه ما يصير موجودا من كل الوجوه والمسألة في نهاية
الظهور على المخالفين لكن من هذا الوجه لا من طريق بيان
فائدة القصاص وقد بينا أنه إنما ينطر في وجوب القصاص إلى
سبب القصاص لا إلى حكمة القصاص.
ثم ذكر المرتبة الثانية وقال: هى مشتملة على قياس معتضد
بالأصل لكن الجامع لابد له من مزيد تقرير وتقريب وقد يعن
للخصم تخيل فرق وإن كان إفساده هينا مثال ذلك أنه قد ثبت
وجوب القصاص على المشتركين في القتل وهذا مستند إلى قاعدة
الشرع في تحقيق العصمة
وزجر الجناة فإن الاستعانة في أمثال هذا ليس بالعسير
والقتل على الاشتراك غالب الوقوع فاقتضى معنى القصاص في
الأصل إيجاب القصاص على
ج / 2 ص -243-
الشركاء وهذا يتطرق إليه الكلام قليلا من جهة أن كل واحد
منهم بالانفراد ليس بقاتل وقتل غير القاتل مخالفة لموضوع
الشرع في تخصيص القتل بالقاتل وفيه وجه آخر وهو أن إمكان
القتل بالاستعانة دون إمكان القتل بالمثقل وعن هذا تردد
بعض العلماء في إيجاب القصاص على المشتركين في القتل وقال
بعض أصحابنا إن قتل الشركاء في القتل الواحد خارج عن
القياس وإنما هو ثابت بقول عمر رضى الله عنه لو تمالأ عليه
أهل صنعاء لقتلتهم به1 قال: والمسلك الحق عندي أن
المشتركين يقتلون2 بحكم قاعدة القصاص ولا نظر إلى خروج
آحادهم عن الاستقلال بالقتل إذا كان يظهر بسبب درء القصاص
عنهم هرج ظاهر ومفسدة عظيمة ولا نظر مع هذا إلى انحطاط
مكان الاشتراك قليلا عن الانفراد بالقتل فإنه يعارض ذلك أن
المنفرد لا يستمكن استمكان المشتركين فيعتدل المسلكان وإذا
تمهدت هذه القاعدة فنقول في الطرف إلحاقا له بالنفس أنه
صين بالقصاص على المنفرد فليصن بالقصاص على المشتركين
كالنفس وذكر بعد هذا كلاما طويلا ومد النفس مدا عظيما وصار
في آخر الكلام إلى الفرق بين المشتركين في السرقة
والمشتركين في اليد بما ذكره المشايخ في الفرق وكل ذلك
موجود في مسائل الفروع ولم أر لذكر ذلك وجها هاهنا فتركته
واعتماده على ما اعتمد عليه من قتل الجماعة بالواحد من جنس
ما اعتمد عليه في القتل بالمثقل والكلام عليه بمثل ما
تكلمنا به في تلك المسألة وهو أن الأحكام إنما تناط
بالأسباب لا بالحكم وكل ما أشير إليه حكمه وجوب القود
بالحكمة في الواجب لا يجب الواجب إنما يجب بالسبب الواجب
ونحن بينا طريقين أحدهما: أن كل واحد منهما قاتل بمعونة
غيره ببينة: أنه لا جزء من النفس إلا ولكل واحد من
المشتركين فيه عمل في تفويته إلا أنه وجد معونة غيره ومن
استعان بغيره في شئ فقد تمهد في الشرع أنه يجعل فعل المعين
فعل المستعين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ: العقول "2/871" ح" 13".
2 أي: إذا كان واحد منهم إذا انفرد بفعله وجب عليه القصاص
وهو قول عمر وعلي والمغيرة ابن شعبة وابن عباس وبه قال
سعيد بن المسيب والحسن وأبو سلمة وعطاء وقتادة وهو مذهب
مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبي ثور وأصحاب
الرأي ورواية عن أحمد.
وهنا من قال: إنهم لا يقتلون به وتجب عليهم الدية وهو قول
ابن الزبير والزهري وابن سيرين وحبيب بن أبي ثابت وعبد
الملك وربيعة وداود وابن المنذر وحكاه ابن أبي موسى عن ابن
عباس وروى عن معاذ بن جبل وابن الزبير وابن سيرين والزهرى
ورواية عن أحمد انظر المغنى "9/366".
ج / 2 ص -244-
فيجعل
كل واحد كأنه قاتل من هذا الوجه ويمكن أن يقال: إنهم إذا
اشتركوا جعلوا بمنزلة الشخص الواحد حكما والسبب أنا إذا لم
نجعل كذلك أدى إلى ما قال: من الهرج وسفك الدماء وإذا
جعلوا كالشخص الواحد حكما وقد تحقق السبب منه فيقابل
بالقصاص وعلى كلا المعنيين وجب القود في الطرف على الجماعة
أيضا إذا قطعوا طرفا واحدا1. وإما فصل السرقة فإنما لم
يجعل كل واحد كأنه تفرد بسرقة النصاب لأن المقصود من
السرقة تحصيل المال فإذا سرق نصابا واحدا فالنصاب يقصد
لتحصيله ولم يحصل مقصود كل واحد وهو تحصيل نصاب كامل حتى
يجعل صاحبه معينا له في تحصيل مقصوده ويجعل فعله كفعله
وأما هاهنا فإن المقصود لكل واحد من المشتركين في القتل
والقطع هو إهلاك هذا الإنسان في القتل وإهلاك اليد في
القطع وقد حصل مقصود كل واحد منهما وقد أعانه صاحبه في
تحصيل مقصوده وفعل المعين فعل المستعين فيصير كل واحد
منهما كالمنفرد بالقتل والقطع ويجعل كل واحد منهما قاطعا
قاتلا ولأن الاشتراك في سرقة نصاب واحد يندر فإسقاط القطع
عنهما لا يؤدى إلى المفسدة العظيمة فلم يجعلوا كلهم كالشخص
الواحد وأما هاهنا فإن اجتماع القوم على قتل واحد يوجد
غالبا بل الأصل أن الواحد يقاوم الواحد وإنما يعجز في رده
إذا اسعان بغيره فلو أسقطنا القود يؤدى إلى المفسدة
العظيمة فطلبنا سببا لإيجاب القود عليهم فكان ذلك بأن نجعل
الجماعة بمنزلة الشخص الواحد حكما وهذا فرق بين وخرج على
ما ذكرناه إذا قطعا وتميز فعلاهما الذى عده مشكلا لأنا
إنما ادعيناه في الموضع الذى وجد لفعل كل واحد منهما عمل
في جميع اليد وفى هذه الصورة لم يوجد فلم يمكن أن يجعل كل
واحد قاطعا بجميع اليد وهذا بخلاف النفس في هذه الصورة لأن
التميز لا يتصور في النفس لأن الإهلاك بتفويت الحياة ولا
يتصور تميز فعل كل واحد فعل صاحبه في تفويت الحياة فصار
فعل كل واحد منهما عاملا في جميع ما تفوت به الحياة مثل ما
إذا لم يتميز فعلاهما وأما في اليد فيتصور تميز فعل كل
واحد منهما عن صاحبه في قطع اليد وحين يتميز في صورة ولا
يتميز في صورة يقع الفرق المعنوى على الوجه الذى قدمناه
وقد يلزم عليه تعدد الكفارة إلا أنا ندعي هذا في القصاص
ولأن القصاص إذا وجب على كل واحد تبعته الكفارة فهذا ينبغى
أن يكون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قول مالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور ورواية عن أحمد
وهناك من قال: لا تقطع يدان بيد واحدة انظر المغنى
"9/370".
ج / 2 ص -245-
وجه
الكلام في المسألة لا الذى قاله والله أعلم.
قال: والمرتبة الثالثة فمثلها بالقول في المكره على القتل
وفيه ثلاثة مذاهب:
أحدها: أن القصاص على المكروه دون
المكره1.
والثاني: وهو قياس بين أن القصاص على
المكرة دون المكره وهو مذهب زفر2.
والثالث: أن القصاص عليهما وهو مذهب
الشافعى3.
وأبعد المذاهب عن الصواب هو إيجاب القصاص على المكره دون
المكره فإنه زعم أن فعل المكره منقول إلى المكره وكأنه آلة
له وهذا ساقط له مع المصير إلى أن النهى عن القتل يستمر
على المكره القاتل فكيف يتحقق كونه آلة مع تكليف الشرع
إياه ومن ضرورة كونه آلة انقطاع التكليف عه فتخصيص المكره
بالتزام القصاص مع ما ذكرناه لا أصل له ووجه مذهب زفر في
القياس لائح وهو إذا رأى المحمول ممنوعا ولم ير الإكراه
أثرا في سلب المنع والنهى والمباشرة تغلب على السبب إذا
استقلت وارتبط بها التكليف والتصريف من الشارع والذى
يختاره اصحاب الشافعى يبتنى على ما ذكرناه لزفر من استقلال
المباشرة وهذايقتضى إيجاب القصاص على القاتل المحمول ولكن
لم ير هؤلاء إحباط الإكراه وإسقاط أثره بالكلية فإنه يوقع
القتل غالبا والإكراه من أسباب الضمان فبعد تعطيله وإخراجه
من البين وبعد إحباط المباشرة فالوجه تنزيلهما منزلة
الشريكين ولا شك أن فعل كل واحد من الشريكين يضعف فعل
صاحبه من جهة أنه يخرج عن كونه قتلا. ثم لم يسقط الاشتراك
القصاص عنهما فإذا لم يسقط القصاص عن الحامل والمحمول لضعف
ما صدر عنها أما ضعف المباشرة فمن جهة كون المباشر محمولا
وأما ضعف الإكراه فمن جهة كون المكره المحمول منهيا
واستمرار التكليف عليه يوهن أثر الإكراه وليس أحدهما أولى
بالضعف من الثانى فلا سبيل إلى تخصيص القصاص بأحدهما
فنزلناهما منزلة الشريكين ولكن القول في هذا ينحط عن القول
في الشريكين من جهة اختلاف السبب والمباشرة وخروج كل واحد
منهما عن قياس بابه ثم إنه يتعارض مذهب أبى حنيفة وزفر
والترجيح لزفر ومذهب إيجاب القصاص عليهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أنه يقتل المباشر دون المكره وهو قول أبي حنيفة انظر
المغنى "9/330".
2 انظر المغنى "9/331".
3 قال الإمام النووي: "فإذا أكره على القتل وجب القصاص على
الآمر وفي المأمور قولان أظهرهما: وجوب القصاص أيضا انظر
روضة الطالبين "9/35" الأشراف "3/76".
ج / 2 ص -246-
منسوب
إلى جميع نكتتى المذهبين مع امتناع إسقاط القصاص عنهما
جميعا. قال: وإيجاب القصاص على شهود الزنا إذا رجعوا بعيد
فإن فرض رجوع المدعى واعترافه فلا وجه لوجوب القصاص على
الشهود والطريق القطع بتغليب المباشرة وإن فرض الكلام في
استمراره على دعوى الاستحقاق فهذا ينحط في مرتبة الاجتهاد
عن شهود الزنا فإن المدعي على خيرته قال: ولو ذهبنا نستقصي
هذه المسائل لطال الكلام وإنما غرضنا التنبيه ولم يوجب
الشافعى عقوبة في هذا المساق أبعد من إيجابه حد الزنا على
المرأة إذا نكلت عن اللعان1 بعد لعان الرجل فإن هذا سفك دم
بقول المدعى وهو في مسلك القياس يدانى إيجاب القصاص بقول
المدعي في لوث القسامة ولولا الخبر لما اقتضى قياس ذلك
قال: واللعان أبعد من القسامة من جهة أن الشرط في القسامة
ظهور اللوث عند الحاكم وهذ غير مشروط في اللعان غير أن
المعتمد في القسامة الخبر الصحيح والمعتمد في اللعان نسبته
إلى شيئين. أحدهما: أنه لا يجد بد من الخروج عن قانون
الحجج فالإستمساك بظاهر القرآن اقترب وهو قوله تعالى
{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}
[النور: 8] وحمل العذاب على الجنس بعيد وبالجملة نفى إيجاب
الحد وتغليب حقوقها اقترب إلى مأخذ الشريعة عندي قال: ومن
عجيب الأمر أن قول الشافعى اختلف في أن القصاص هل يجب
بأيمان القسامة ولم يختلف قوله في وجوب الحد على المرأة مع
تعرض الحد الواجب لله للسقوط بما لا يسقط به القصاص وسبب
هذا أن خبر القسامة ورد في الغرم وآية اللعان اشتملت على
ذكر العذاب وهو الحد فهذا عبرة في أمثال ما ذكرنا من قواعد
الشرع ونحن نختم بأمر بدع يقضى الفطن العجب منه فالمرتبة
الأولى تكاد تقضى بالقطع والمرتبة الثانية أعنى اللعان
والقسامة لا يستقل المعنى فيها ولم نر شبهها مرتبة في
القياس من حيث لم نرها مستقلة فهذه جملة كافية في التنبيه
على المراتب وضابطها القرب من القاعدة والبعد منها هذا سرد
كلامه في هذا الفصل ونحن قد تكلمنا على ما جعله في المرتبة
الأولى والثانية.
وأما هذه التي سماها المرتبة الثالثة فاعلم أن ما صار إليه
في مسألة المركه على القتل من الكره والمكره بمنزلة
الشريكين في القتل فليس بشئ لأن مباشرة جملة الفعل محسوسا
وجد من المكره فإذا جعلنا المكره شريكا له في المباشرة
فأما أن نجعل ذلك لأنا نجعل المكره آلة له أو لأنه سبب
سببا يفضى إلى القتل غالبا فإن جعلنا شريكا له فإذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر روضة الطالبين "8/349".
ج / 2 ص -247-
صار
المكره آلة للمكره في بعض القتل وجب جعله آلة له في جميعه
لأن الذى يجعله آلة له في بعض القتل موجود في كله وإن
جعلنا شريكا بالتسبب فباطل أيضا لأن التسبب للقتل ومباشرة
الفعل فعلان مختلفان وينفصل أحدهما عن الآخر وكل واحد من
المكره والمكره يستقل بما فعله فكيف نجعلهما شريكين في
القتل وإذا لم يكن التسبب إلى القتل قتلا عند هذا القائل
فمتى يتصور أن يجعله شريكا للمكره في القتل فالقضاء بأنهما
شريكان في القتل كلام قاله بعض المشايخ من غير تأمل في
عائلته والذى قال: إن الخصم يحكم بنقل الفعل فهم لا يرتضون
هذه اللفظة وإنما يقولون إن المكره آلة للمكره وليس للمكره
فعل أصلا فيما يعود إلى النيابة على محل الفعل لأنه في ذلك
يصلح أن يكون أله المكره ووجه كونه آلة وهو استعماله في
فعله على اختيار نفسه يحمله عليه مثلما يستعمل السيف في
قطعه على اختيار نفسه بتحامله عليه ويقولون هذا في الإثم
لا يتصور لأن الإثم بجنايته على دينه وهو بجنايته على دينه
لا يصلح أن يكون آلة للمكره وإنما في جنايته على محل الفعل
صورة يصلح أن يكون آلة له وأما نحن نقول إن الحكم بكونه
آلة للمكره مع بقاء اختياره وإمكانه الصبر والكف إلى أن
يقبل ورود الشرع بذلك باطل وجعل المكره والمكره شريكين في
القتل باطل لكنه يجب القود على المكره بمباشرة القتل وعلى
المكره بالتسبب للقتل ويقول: كل واحد منفرد بفعله من القتل
والتسبب من غير مشارك والقود واجب على المكره بالمباشرة
وعلى المكره بالتسبب لأن التسبب أخذ شبها من القتل والقتل
أخذ شبها من التسبب أما الأول فلأنه يفضى إلى إزهاق الروح
غالبا وأما الثاني فلأن القتل بإزهاق الروح غالبا. وأما
الثاني: فلأن القتل بإزهاق الروح وأزهاق الروح لا يدخل تحت
قدرة العباد فلا يكون منه إلا التسبب فلما أخذ كل واحد
منهما شبها من صاحبه جعلناهما علتين صحيحتين في إيجاب
القتل غير أنا نعتبر في التسبب أن يكون مفضيا إلى القتل
غالبا حتى يأخذ شبها من القتل ويخرج على هذا حفر البئر في
بئر المسلمين ويعتبر أيضا أن يكون معتبرا في أحكام الشرع
حتى يخرج عليه الإمساك ويظهر الاعتبار في المال وإذا عرف
هذا بطل قول زفر وسقط ما حمده هذا القائل وعلى هذا الأصل
الذى مهدناه ينبنى وجوب القود على شهود القصاص وشهود الرجم
إذارجعوا وسواء في وجوب القصاص رجع المدعي أم لم يرجع بعد
أن تم رجوع الشهود وذلك التفريق الذى قال: ليس بمذهب ولا
هو صحيح على المعنى بعد أن يكون المشهود على قتله قد قتل
فأما إذا أقمنا الدليل على أن السبب موجب للقتل صار مثل
القتل
ج / 2 ص -248-
وعلى
القطع نعلم وجود السبب القوى من الشهود فيكون علة لوجوب
القود عند رجوعهم مثل القتل من الولى يكون علة لوجوب القود
عند رجوعه فإذا أوجب القتل على الولى عند رجوعه واعترافه
وإن قام الشهود على شهادتهم فيكون التسبب علة لوجوب القود
على الشهود إذا رجعوا وإن كان الولى مقيما على زعمه وإن
قتل بحق وبأمثال هذا الكلام تعرف مقادير الرجال ويظهر
مراتبهم والفقه أعز علم خاض فيه الخائضون ومنه مدارك
الأحكام وهو البحر ذو التيار وفيه المغاصات على دور
المعانى فلا يقع عليها إلا من أيد بنور من الله تعالى ومنه
قيل: إن العلم نور يقذفه الله تعالى في قلوب من يشاء من
عباده وقد كنا ذكرنا في خلافيات الفروع أن شهود القصاص
قتله حكما ودللنا عليه وهذا الذى ذكرناه هاهنا أحسن.
وأما مسألة إيجاب الحد على المرأة إذا نكلت عن اللعان فهو
يبتنى على أن اللعان حجة شرعية لتحقيق الزنا على المرأة
ولعانها حجة شرعية لدفع الحد عنها وكذلك الأيمان في
القسامة حجة شرعية على تحقيق القتل على المدعى عليه نعم
يجوز أن يقال: إن هذه الحجة لا تشبه سائر الحجج ونحن لم
نعرف الحجج في جميع المواضع إلا بالشرع البحت والتعبد
الخالص من غير خلط وإذا كان اللعان حجة سقط استبعاد إيجاب
الحد على المرأة ومن نظر في كلمات اللعان وتأملها عرف أنه
ما وضع إلا لتحقيق الزنا على المرأة وما وضع في الشرع
لتحقيق شئ فلابد أن يتحقق وإذا تحقق الزنا عليها سقطت
الاستبعادات والإنكارات جملة وأما اختلاف القول في القسامة
واتحاد القول في مسألة اللعان فيجوز إن يقال: إنه لاتحاد
الواجب في الزنا واختلاف الواجب في القتل ويجوز أن يكون له
ما قاله والله أعلم.
واعلم أنا ننكر مراتب المعانى وأن يكون بعض المعانى أوضح
من البعض لكن لا على هذه الوجوه التي قالها والإخالة
والتأثير قد يترتب فإنا نعلم أن الإخالة في الطعم لتحريم
البيع دون الإخالة في شدة التحريم المسكر والإخالة في
الثيابة لإيجاب الإذن والإخالة للبكارة في إفادة الإجبار
مثل الإخالة في الطعم أو دونه بيسير إلا أن كل واحد من
المعانى له علقة بالقلب وإشعار بالحكم الذى علق به وقد سبق
من هذا ما فيه غنية.
ج / 2 ص -249-
"فصل"
قال هذا القائل الذى حكمنا منه ما حكينا في قياس المعنى
ونحن الآن نذكر مراتب قياس الشبه فنقول: محال هذا القسم
عند انحسام المعنى المخيل الثابت فإذا لم نجد معنى للحكم
الثابت أو صادفنا تخيل غير صحيح على الشبه فالوجه رد النظر
إلى التشبيه ثم مراتب الأشباه تنقسم إلى القريب والبعيد
انقسام مراتب المعنى فالواقع في المرتبة العليا هو الذى
يسميه الأصوليون في المعنى الأصل ولا يريدون به المعنى
المخيل وهذا إذا وقع كان في المرتبة العليا وقد سبق
الاختلاف أنه هل يسمى قياسا أو هو متلقى من اللفظ والنفى
والوجه عندنا في ذلك أن يقال: إن كان في اللفظ إشعار من
طريق اللسان فلا نسميه قياسا كقوله صلى الله عليه وسلم:
"من أعتق شركا له في عبد قوم عليه"1 فهذا وإن كان في العبد فإنه يستعمل في الأمة وقد يقال للأمة عبدة
وأما إذا لم يكن لفظ الشارع مشعرا في وضع اللسان بما ألحق
به فهو قياس معنى وقد يكون مفضيا إلى العلم مثل قياس عرق
الكلب بلعابه في التعبد برعاية العدد والتعفير فأما إذا
زال العلم وكان الظن هو المستفاد ولم يفسد عند السبر
والعرض على الأصول فإن لم يفد غلبة الظن فهو الطرد المردود
عند المحققين والإشتباه بين طرفى قياس المعنى والطرد فالذى
لاح من كلام الشافعى رحمه الله أن أقرب الرتب من المرتبة
المعنوية إلحاق الزبيب بالتمر في الربا وأبعد منه قليلا
بحيث لا يخرج من المرتبة إلحاق الأرز بالحنطة والذرة
بالشعير. ثم يلى هذه المرتبة إلحاق الوضوء بالتيمم في
النية ولهذا قال الشافعي مستبعدا طهارتان فكيف يفترقان قال
ونحن نقول في هذا: إن كل شبه كلى يعتضد بمعنى فهو بالغ في
فنه2 وذلك إذا كان المعنى لا يستقل بنفسه مخيلا مناسبا
وبيان ذلك بما وقع المثال به أن التيمم ليس فيه غرض ناجز
وقد بينا من كلى الشريعة أنها مبتنية على استصلاح العباد
فإذا لم يلح صلاح ناجز ظهر من المآخذ الكلية أنها صلاح في
العقبى وهو التعرض للثواب ولا سبيل إليه إلا بقصد التقرب
فإذا وجدنا الطهارة كذلك متفقا عليه. ثم كان المختلف فيه
غير معقول المعنى ظهر وقع الشبه في الافتقار إلى النية
المحصلة لغرض العقبى فليجعل الناظر هذا معتبرا في المرتبة
الأولى من الأشباه المظنونة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: العتق "5/179" ح "2522" ومسلم: العتق
"2/1139" ح "1/1501".
2 لم نستطع قراءتها إلا هكذا ولعل هذا هو الصواب.
ج / 2 ص -250-
ولم
يبلغ مرتبة العلم للاختلاف الواقع بين الطهارتين في أحكام
وشرائط قال: وإلحاق المطعومات التي لا تقدر بكيل ولا وزن
طريقة الشبه عندنا فإن مسالك الإخالات مفسدة فلا يبقى إلا
التشبيه ثم سبيل هذا التشبيه النظر إلى مقصود المنصوص عليه
وقد لاح أن المقصود هو الطعم وبطل اعتبار الفوت لمكان
الملح وسقط اعتبار القدر لأنه في الجنسين والجنس الواحد
على وتيره واحدة والحكم مختلف فلاح النظر إلى المقصود وأنه
العلة وهذا مع الاعتراف أنه غير مستند إلى معنى معقول وهذا
ينحط عما يتعلق بغرض في العقبى كما ذكرناه في القسم الأول
ولولا ما ثبت عندنا من الاضطرار إلى تعليل المنصوصات في
الربا لما لاح لنا فيها معنى ولا شبه ولكن إذا اضطررنا
إليه لإجماع القائسين وجدنا اتباع المقصود أقرب مسلك وهذا
واقع في المرتبة الثانية.
واعلم أن الذى قاله هذا القائل ليس على ما ظنه في هذه
المسائل وليس على ما رتبه أما إلحاق الأمة بالعبد في مسألة
العتق وإلحاق العبد بالأمة في الحد المنصف عن الحر فقد سبق
الكلام في ذلك فلا معنى للإعادة.
وأما مسألة النية في الوضوء ومسألة الربا فليس الأمر على
ما زعمه في المسألتين أما النية في الوضوء فليس وجوبها
بالجهة التي ظنها من فضل التقرب به إلى الله تعالى لأن
تخفيف التقرب إلى الله تعالى وهو لا يثبت مستقلا بنفسه
يبعد جدا وإنما الوضوء محض تعبد وسبيل التعبد أن ينظر فيه
إلى الحد الذى ورد الشرع فيه فلا يتجاوز عنه والشرع أمرنا
بالوضوء للصلاة لقوله تعالى
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] يعنى فاغسلوا للصلاة مثل قول القائل: إذا جاء الشتاء
فتأهب أى للشتاء وإذا قدم فلان فاستعد إلى قدومه فعندنا
يجب الوضوء للصلاة وهذا هو معنى قولنا: إن النية واجبة
فيها إلا أن الدليل قد قام أن الوضوء لفعل لا يستباح إلا
بالوضوء ينزل منزلة الوضوء للصلاة وإذا ثبت ما قلنا: عرف
محل الخلاف فعندهم التيمم يجب للصلاة والوضوء لا يجب
للصلاة وفرقوا بما عرف وهو أن الماء مفيد للطهارة بطبعه
لأنه خلق لذلك فإذا استعمل أفادها بذاته ولم يفتقر إلى
إرادة الصلاة وأما التيمم فلا يفيد الطهارة بذاته لأنه لم
يخلق لذلك وإنما يفيدها بالشرع والشرع جاء بكونه مفيدا
للطهارة إذا أراد به الصلاة فهذا فرق القوم. وأما عندنا
قالوا: طهارة شرعية لا حسية.
ألا ترى: أنها تجب في موضع ليس فيه تطهير المحل من شئ
محسوس وإذا كان طهارة شرعية فيتبع مورد الشرع والشرع يأمر
به للصلاة فتكون طهارة شرعية إذا أريد
ج / 2 ص -251-
به
الصلاة وإذا لم يرد به الصلاة لا يكون طهارة أصلا بمثل ما
سلموا في التيمم ومن نظر في هذا عرف أنه المعنى الصحيح
والدليل المعتمد وأما ما سواه فليس فيه طائل وأما مسألة
علة الربا فليس الأمر على ما زعم أنه ليس فيه معنى مخيل
مؤثر يدل على حكم النص والكلام في مسألة علة الربا لا يمكن
إلا بعد معرفة النص فإن1 التعليل له فعندنا حكم النص تحريم
بيع المطعوم بجنسه غير متساويين في معيار الشرع والتحريم
أصل والإباحة تعارض دليلا وهو المماثلة في معيار الشرع
وعلة الطعم مخيلة في الحكم الثابت بالنص لأنه مشعر بشرف
المحل لما تعلق به من القوام وشرف المحل مؤثر في التحريم
لأنه لما تعلق به القوام والبيع ابتذال جعل الأصل فيه
الحظر ليظهر شرف ما تعلق به من القوام وليكون مبقيا مصونا
عند مالكه فيستعمله في قوام حياته في وقته وهذا كالإيضاح
فإن الأصل فيها الحرمة لأن قوام النسل بها فجعل الشرع
أصلها على الحرمة وصانها عن الابتذال والامتهان ثم أباحها
بعارض دليل وهذا أصل كبير وعليه أسئلة للمخالفين أجبنا عن
ذلك في كتبنا وإنما أشرنا إلى هذا القدر في هذا الموضع
ليعلم بطلان قول من زعم: أنه ليس فيه معنى مخيل وأما كون
الطعم مقصودا في المحل فليس يشعر بتحريم العقد.
ألا ترى: أن من علق الإباحة بهذا الوصف يكون مثل من علق
التحريم به في أن الوصف لا يدل على واحد منهما والشبه يعود
مثل هذه المسألة التي أجمع القائسون على الخصوص فيها
بالتعليل بترك ذلك خالية على المعنى الذى يدل على الحكم
فالمعنى موجود لكن العاثر عليه يعز نعم يجوز أن يجعل كون
الطعم مقصودا في المحل أولى من الكيل لكن ليس الكلام في
الترجيح لأنه لابد أولا من تصحيح العلة ثم إذا عارضها علة
يطلب من المعلل تصحيحها فإذا صحت فحينئذ يصار إلى الترجيح
فأما أن يبدءوا أولا في كلامه بإظهار الترجيح ويشتغل به
فليس هذا من دأب أهل المعانى في شئ وإن اشتغل بإبطال علة
الخصم فلا يصح علته بهذا أيضا وقد سبق بيانه وعلى أن الخصم
يقول ليس حكم النص عندي ما قلتم إنما حكم النص وجوب
المماثلة وربما يقول حرمة الفضل قدرا وعلى اللفظ الأول
معولهم قالوا: والمؤثر في المماثلة بالكيل والجنس ولهم في
هذا كلام طويل عريض والذى قال: إن النبى صلى الله عليه
وسلم أباح الفضل عند اختلاف الجنس ويوجد الكيل والوزن عند
اختلاف الجنس واتفاقه على وتيرة واحدة فهم يزعمون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل [فأما].
ج / 2 ص -252-
أن
الجنس مؤثر في إثبات المماثلة التي هى حكم النص مثل تأثير
الكيل وذلك لا يوجد عند اختلافه وعلى أن هذا الكلام إن صلح
إنما يصلح للترجيح وقد بينا أن الكلام فيه باطل إلا بعد أن
يقوم المعلل بتصحيح العلة ويعارض أيضا بعلة صحيحة ثم حينئذ
يكون الكلام في الترجيح فليفهم الفقيه كل ما أشرنا إليه
وليكن معوله عليه وتمسكه به وليعض عليه بناجذه فإنه من
الأعلاق النفسية وقلما يظفر به بمثله وقد قال الصاحب في
بعض ما نقل عن رسائله: وإذا كان الذهب بناقده فما أعزه صير
في الكلام مضى هذا ورجعنا إلى نقل كلام من كافأ نقل كلامه
قال: ومن أبواب التشبيه ما يتعارض فيه المعنى والشبه على
التناقض كالتردد وهو في أن قيمة العبد هل تضرب على العاقلة
أو لا فالذى يقتضيه القياس المعنوى عدم الضرب والذى يقتضيه
الشبه الضرب اعتبارا بالحر ومما يلحق بهذا القول في تقرير
أروش أطراف العبيد بالسبب الذى يقدر به أطراف الأحرار
فالذى يقتضيه القياس المعنوى نفى التقدير واعتباره ينقص من
القيمة نظرا إلى المملوكات وهذا مذهب ابن سريج والرأى
الظاهر للشافعى رحمه الله أنها تتقدر معتمدة الشبه وهذا
أولى من الأول لأن الشارع أثبت للحر بدلا حتى لا يهدر إذا
قتل خطأ ثم قاس أطرافه بجملته بمعاني لا تنتهى أفهام
المستنبطين إلى ضبطها وكان من الممكن أن لا تقدر أروش
أطراف الحر فإنا وجدنا في جراحات الأحرار حكومات غير مقدرة
فلو اقتضى شرف الحر تقدير ديته فهذا لا يطرد في أطرافه
فلما تأصل في الطرف تقدير وطرف العبد من العبد كطرف الحر
من الحر اعتبر به ولم يلتفت إلى خروج قيمة العبد عن
التقدير وعلى هذا خرج أطراف البهائم لأنا لم نتحقق فيها
أنها تقع من البهائم مواضع أطراف الأحرار من الأحرار فأما
في العبد علمنا قطعا أن أطراف العبيد من العبيد مثل أطراف
الأحرار من الأحرار وفقا ومنفعة.
قال: وأما ضرب القيمة على العاقلة فالأولى في ذلك سلوك
المعنى وأن لا تضرب على العاقلة لبعد تحميل العاقلة عن
مدارك العقول فلا جرم أن يكون الضرب على العاقلة في حق
الأحرار خاصة.
قال: ومما يعده الفطن فزعا من هذا إلحاق القليل من الدية
بالكثير في الضرب على العاقلة ونحن نرى ذلك في المسألة
الأعلى من جهة الشبه ومن جهة أن أصل الضرب ثابت وهو جرى في
القليل عند كثرة الشركاء جريانه في الكثير وليس هذا مبتنيا
على صرف الإجحاف والإضرار عن المحمول عنه فإن الدية محمولة
عن الموسرين مثل حملها
ج / 2 ص -253-
عن
الفقراء وكان الضرب ثابتا في الشرع مسترسلا على الأقدار من
غير اعتبار مقدار والذى قاله هذا القائل في الفصل لا بأس
به ويجوز أن يعول عليه وهو كلام الأصحاب وقد قرره وأحسن
تقريره وأورده بألفاظ حية فليؤخذ بها ثم ذكر في آخر كلامه
سؤالا فأجاب عنه والسؤال. فإن قيل: إذا تعلق المتعلق بوجه
شبه ونوقش فيه فكيف وجه تقريره فإن قال: المتعلق بالشبه
أنه يفيد غلبة الظن ونوزع فيه كيف يبين وجه وجود غلبة الظن
أجاب عن هذا السؤال وقال: لاشك أن غلبة الظن لا تحصل إلا
مستندة إلى سبب يقتضيها ولابد من ذكره وبه يتميز الشبه من
الطرد فالشبه مستند إلى مأخذين هما الأصل وبعدهما أمر ثالث
ينبه عليه:
فأحدهما: جريانها على مقتضى الشبه وهذا
كإلحاق اليسير بالكثير في الضرب على العاقلة والمستند فيه
ضرب حصة الشركاء مع تناهيها في القلة وينضم إليه بطلان
اعتبار المواساة المشروعة بسبب خيفة الإجحاف فيخرج بما
ذكرناه أن ضرب العقل لا ينتهى إلى توقيف في قلة ولا كثرة
وليس هذا المعنى مخيل مناسب ولكنه متلقى من أصل الوضع
بالمسلك الذى ذكرناه.
والوجه الثانى: وهو الذى يدور عليه معظم
الأشباه وهو أن يثبت معنى على الجملة في قصد الشارع ولا
يدخل في الإمكان ضبطه بعبارة وهذا كعلمنا بأن الشارع قد
أرش أكثر بنصف الدية بنسبة لها مخصوصة من الجملة فهذا مما
نعلمه ونطلع عليه على الوجه الذى لأجله قدر النفس لهذا
التقدير غير معلوم وإذا تمهد هذا كان اعتبار يعد العبد يد
الحر شبها صحيحا فإن عنائد1 العبد من جملته كعنائد الحر من
جملته فالشبه في هذا راجع إلى معنى معلوم من قصد الشارع
ولكن لا سبيل إلى التنصيص عليه وإذا اتجه هذا النوع كان
بالغا جدا مقدما.
قال:
وأما الأمر الثالث: فهو اعتبار المقصود
وهذا لا استقلال له إلا أن تضطر إلى التمسك بعلة للمنصوص
عليه ومثال ذلك الأشياء الستة في الربا فلو هجم ناظر عليها
ولم يتقدر عنده وجوب طلب علة أو علم للحكم لم يعثر على فقه
قط ولا شبه. فإن قيل: الفقه مناسب حاز مطرد سليم على السبر
والشبه يتلقى من أمثله أو تخيل معنى جمل والرأى لا يقضى
بواحد منهما في نصب الطعم علما ولكن إذا ثبت طلب العلم
وانحسم المعنى المستور والمجمل فلا وجه إلا أن يقال إذا لم
يثبت الحكم لأعيان هذه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حمع عند وهو العرق إذا سال. انظر القاموس المحيط
"1/315".
ج / 2 ص -254-
الأشياء ثبت لمعانيها ومعانيها هى المقصودة منها ثم ينصب
على ذلك شاهدان أحدهما من قبل التمثيل وهو اختلاف الحكم
باتحاد الجنس واختلافه والمقصود في الجنسين مختلف والكيل
على وتيرة واحدة فدل هذا أن المقصود هو العلم على الحكم
والشاهد الثانى قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تبيعوا
الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل"1 فهذا
معاندة الأشباه وإذا عرف هذا فلا حاجة إلى تكلف التمييز
بينهما وبين الطرد.
واعلم أنا تكلمنا من قبل على فصل الشبه وبينا الموضع الذى
يكون حجة فيه فليعتمد على ذلك وإذا قرر على هذا الوجه الذى
بيناه فعلى القطع2 نعلم وجود قوة الظن وأما رجوعه إلى
مسألة الربا فلا أرى لذلك وجها وجعل الطعم علة بمجرد كونه
مقصودا في المحل لا وجه له بحال اللهم إلا أن يقول هذا
القائل: إن الطعم ليس بعلة لكنه علم منصوب على الحكم ويقال
له من نصبه؟ وما الدليل على نصبه في هذا الحكم؟ وما الفصل
بينه وبين من يقول: إنه منصوب على ضد هذا الحكم؟ إذ ليس من
المناسبة في التحريم ما ليس له ذلك في التحليل وأما اختلاف
الجنس لا يدل أن العلة هى الطعم وإنما يقول الخصم: إن
الجنس مؤثر مثل الكيل في الحكم المنصوب له العلة فإذا عدم
فات الحكم وأما عندنا فنحن نقول: إن الطعم علة مؤثرة
بالوجه الذى بينا إلا أنه أباح الفضل عند اختلاف الجنس
ووجود الطعم لأن الطعم عندنا علة والجنس محل أو شرط بالشرع
والعلل يطلب تأثيرها فأما الشرط فلا يطلب له تأثير بدليل
سائر الشروط فصار الطعم مؤثرا لأنه علة والجنس شرطا شرعيا
غير مؤثر لأنه شرط محض وليس بعلة ولهذا قلنا لا يحرم
النساء بانفراده لأن الشرط بانفراده لا عمل له قال هذا
القائل: ونحن نختم هذا الفصل بمسألة يتعارض فيها شبهان
فنقول اختلف العلماء في أن العبد هل يملك؟3 ومأخذ الكلام
فيه من طريق الشبه وأما من يقول إنه يملك فيشبهه بالحر فإن
العبد خلق آدميا مختارا طلوبا لما يصلحه دفوعا لما يضره
لبيبا أريبا فطنا وهو في هذا كالحر فهذا شبه خلقى غير عائد
إلى الصور وإنما هو راجع إلى المعانى التي يتهيئ بها
الإنسان لمطالبة ومأربه وأما من منع كونه مالكا شبهه
بالبهائم من جهة أنه مسلوب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 ثبت في الأصل هكذا "العع" ليس لها معنى ولعل الصواب ما
أثبتناه.
3 اعلم أن العبد لا يمكلك شيئا إذا لم يملكه سيده في قول
عامة أهل العلم وقال أهل الظاهر: يملك انظر المغنى
"4/256".
ج / 2 ص -255-
القصد
والاختيار مستوعب المنافع باختيار مالكه حتى كأنه لا
اختيار له والتعلق بهذه الأشياء أقرب فإن القائل الأول
تمسك بالأمور الخلقية ومن منع من الملك تمسك بمأخذ الأحكام
وكان هذا القول أقرب وأصوب فإن الرق حكم غير واجب إلى صفات
حقيقية خلقية فإن حاصلة سقوط استبداد شخص في أمور نفسه
وتهيؤه لتصرف غيره وهذا يناقض صفات المالكين فإن حكم
المالك الاستقلال ثم أقام الشرع طالبا للملوك فيما يسد
حاجته ويكفى مؤنته والحاجة التي لا يتصور الكفاية فيها
أثبتها الشرع للمملوك بإذن مالكه وهو حق المتمتع في النكاح
فإن قيل: السيد إذا ملك عبده فالحق لا يعدوهما فإن كان
استغراق السيد لحقه يمنعه من صفة المالكين فإذا ملكه
المولى وجب أن يملك قلنا: التمليك لم يخرجه عن كونه مملوكا
محتكما فلا يجتمع معه الملك وهذا لأنه مملوك في نفسه فلا
يكون مالكا وأما إذا ثبت للسيد حق استقلال بأن كاتبه
فيتصور له ملك على حسب ما يليق به على ما عرف.
واعلم أن المعتمد في نفى ملك العبد كونه مملوكا ولو كان
أهل الملك لكان أول ما يظهر فيه الأهلية ملكه نفسه ولو ملك
نفسه عتق فصار الملك مضادا لثبوت الملك فهذه وجوه نفى
الملك له.
"فصل"
ثم ذكر سؤال المطالبة وجوابه عنها على ما عرف من الجدليين
ونحن قد ذكرنا من قبل وبينا وجه الجواب وذكر الترجيحات وقد
سبق وجوه ذلك وذكر العلة القاصرة مع العلة المتعدية إذا
تعارضتا قال: وحاصل ما قيل ثلاثة مذاهب:
أحدهما: وهو اختيار الأستاذ أبى إسحاق
ترجيح العلة القاصرة.
والثانى: وهو المشهور ترجيح العلة
المتعدية.
والثالث وهو اختيار القاضى أبى بكر: أن
إحديهما لا تترجح على الأخرى بالقصور ولا بالتعدى1.
قال: وهذا إنما يرد إذا لم نر تعليل الأصل بعلتين أصلا
وإذا اتفق القائسون أن الصحيحة إحداهما ولا يجوز تعليقه
بهما جميعا وأما الذى رجح المتعدية فكلامه ظاهر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق تخريج هذه المسألة.
ج / 2 ص -256-
وهو أن
العلل تزاد لفوائدها والفائدة للمتعدية لأن النص يغنى عن
القاصرة فليكن التمسك بالمتعدية أولى وأما من رجح القاصرة
قال: لأنها متأيده بالنص وصاحبها أمن من الزلل في الحكم
العلة فإذا دل الدليل على صحة العلل حينئذ تطلب الفوائد
قال: والترجيح بحكم للعلة بعيد والترجيح الحقيقى يكون بما
ينشأ من مثار الدليل عليها لأنه يفيد زيادة قوة الظن فأما
الترجيح بالنظر إلى الفوائد فلا وجه له لأنه ليس مما يرجع
إلى زيادة قوة الظن. وقد قيل: إن هذه المسألة تقديرية وهى
غير واقعة في الشرعيات فإن قال قائل: أن أبا حنيفة قد علل
الربا في التقدير بالوزن وهو معتد إلى كل موزون وعلل
الشافعى بكونهما جوهرى النقدين وهذا مقتصر على محل النص
فما قولكم في ذلك قلنا علة الوزن باطلة عند الشافعى كبطلان
علة الكيل وعلة الثمنية صحيحة وقد قام الدليل عليها
والترجيح إنما يكون بعد أن تصح العلتان جميعا بقيام الدليل
عليهما. فإن قيل علة الشافعي في تثبيت الخيار للمعتقة تحت
العبد قاصرة وقد قدم ثبوتها1 على العلة المتعدية لأبى
حنيفة قلنا هذا باطل من أوجه:
منها: أن ما اعتمده أصحاب أبى حنيفة من تعليل الخيار باطل
في نفسه فلا ينتهى القول إلى مقام الترجيح.
ومنها: أن الرأى الظاهر أن لا يعلل خيار المعتقة تحت العبد
كما حققنا في الفروع ومنها أن من يثبت الخيار للمعتقة تحت
الحر يزعم أن قصة بريرة كانت واقعة والزوج حر فيكون الأصل
على هذا ما ورد فيه النص ويكون غيره فرعا فكيف يعلل الأصل
ويقاس على الفرع حتى يقال إنها متعدية أو غير متعدية؟
واعلم أنا أما التقطنا كلمات له في هذه المسألة ولم نحكمها
على الوجه.
وعندي أن المتعدية والقاصرة سواء بعد أن يقوم الدليل على
صحتها وإن طلب الترجيح بوجه آخر.
وأما مسألة خيار المعتقة فقد ذكرنا في كتابى "النكاح" أن
النكاح وقع لازما وقد استبرأ قبل لزومه على اختلاف التارات
والحالات ولا دليل يدل على ثبوت الخيار عند العتق وأبطلنا
ما يزعمونه من الدليل وإذا بطل ذلك بقى النكاح لازما على
ما وقع لأن الباقى بعد الثبوت هو الثابت ابتداء فإذا ثبت
لازما بقى لازما وذكر فصلا آخر فيما يرجع إلى الترجيح قال:
وإذا تعارض قياسان واعتضد أحدهما بمذهب صحابي فمن يقول: إن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل هكذا "متهوها" ولعل الصةواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -257-
مذهب
الصحابى حجة عد هذا من انضمام دليل إلى أحد القياسين وهذا
يقتضى تقديم المذهب الذى يدل عليه القياس ويدل عليه قول
الصحابى ويقع الكلام في أن هذا هل يسمى ترجيحا أو لا؟ وإذا
كنا لا نرى التعلق بمذهب الصحابى فلا أثر له في الترجيح
وقوله كقول بعض علماء التابعين ومن بعدهم وإن لم يكن قوله
بانفراده حجة لكن إذا انضم قوله إلى القياس وقد شهد النص
بمؤيد علم في هذا الفن الذى نصب فيه القياس أفاد انضمامه
زيادة قوة في الظن قال الشافعى: قول زيد أرجح من قول معاد
رضى الله عنهما وإن كان قد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:
"أعلمكم
بالحلال والحرام معاذ"1 وذلك لأن
شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد أخص في الفرائض
وأدل على اختصاصه بمزيد الدرك فيها وكذلك مذهب زيد مع
انضمام قياس إليه أرجح من مذهب على مع انضمام قياس إليه
وإن كان قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أقضاكم علي"2 وهذا أبين
مما قدمناه في معاذ فإن شهادة الشارع له بمزية البصيرة في
القضاء يشير إلى التفطن لقطع المشاجرات وفصل الخصومات
والتهدى إلى تمييز المحق من المبطل والشهادة بمزية العلم
في الحلال والحرام وقع في مض الاجتهاد والشهادة بمزية
العلم في الفرائض أخص من الجميع فهذه إذا ثلاث مراتب وإذا
لم يكن في الواقعة قياس واجتمعت هذه المذاهب الثلاث فالقول
في تقليد من يقلده يأتي في غير هذا الموضع. فإن قيل: إذا
اعتضد أحد المذهبين بقول أبى بكر وعمر رضى الله عنهما فما
قولكم فيه؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر -رضي الله عنهما-"3 قلنا هذا عندنا اعم من الشهادة لعلى بمزيد في
العلم في القضاء فإنا نجوز أن النبى صلى الله عليه وسلم
أشار بهذه على الاستحثاث على اتباعهما في الخلافة وإبداء
الطاعة فإذا انضم إلى المراتب الثلاث في الشهادات الصحيحة
مرتبة رابعة فأولاها بالتعلق أخصها وهى الشهادة لزيد
ويليها الشهادة لمعاذ ثم تلى الشهادة لمعاذ الشهادة لعلى
ثم يلى ما ذكرناه ما ذكر صلى الله عليه وسلم في أمر أبى
بكر وعمر رضى الله عنهما ثم قال الشافعى: قول علي في
الأقضية كقول زيد في الفرائض وقول معاذ فى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي: المناقب "5/664" ح "3790" وقال حسن غريب
وابن ماجه: المقدمة "1/55" ح "154" وأحمد: المسند "3/266"
ح "12909".
2 تقدم تخريجه انظر الحديث السابق.
3 أخرجه الترمذي: المناقب "5/609" ح "3662" وقال: هذا حديث
حسن وابن ماجه: المقدمة "1/37" ح "97" وأحمد: المسند
"5/447" ح "23307".
ج / 2 ص -258-
التحليل والتحريم إذا لم يتعلق بالفرائض كقول زيد في
الفرائض فهذا الذي وجد من زيادة فائدة فيما نقله في أصوله
وأما سائر ما نرجح به العلل قد ذكرنا الكلام فيه ثم أعلم
أنه قل ما يوجد علتان متعارضتان وقد قام الدليل على صحتهما
ثم يصار إلى الترجيح في ذلك بل أكثر الكلام إنما يقع في
طلب التأثير الذى به تصح العلة فإن اتفق ما قلناه من تعارض
العلتين وقد قام الدليل على صحتهما ووقعت الحاجة إلى
الترجيح فالوجه ما قدمنا وحين فرغنا من هذا نذكر الكلام
بعد هذا في التعلق بالاستدلال ونبين عند ذلك الفرق بينه
وبين التعليل وبين قرينه كل واحد منهما ووجه ترجيح أحدهما
على صاحبه ثم نذكر بعده الكلام في السبب والشرط والفرق بين
العلة وبينهما وهذان الفصلان أعنى الكلام في الاستدلال
والكلام في السبب والشرط ومعرفة الفرق بينهما وبين العلة
مما يجب الاهتمام بذلك لكثرة ما تقع الحاجة إليه في
المسائل وسنذكر ذلك جميعه بعون الله تعالى وتوفيقه ونبرأ
إلى الله عز وجل من حولنا وقوتنا ونعتصم ونلوذ بحوله وقوته
فإن الكل منه وبه وإليه. |