قواطع الأدلة في الأصول ج / 2 ص -35-
[مسألة استصحاب الحال]
مسألة: استصحاب حكم الإجماع أو غيره من الدلائل إن أمكن في
موضع الخلاف أو عند تغيير الحال:
ليس بدليل على الصحيح من المذهب وقال أبو ثور وأبو
داود وهو دليل وبه قال المزنى والصيرفى وابن سريج وابن
خيران من أصحابنا1. وقال بعض أصحابنا في تفسير استصحاب
الحال: أنه استصحاب حكم العموم فيما ورد به وحمله على جميع
الأزمان والأوقات مثل أن يقول: صلوا أو صوموا فيحمل ذلك
على حكم الصلاة والصوم في عموم الأوقات على الدوام
والاتصال فيستصحب حكمه إلى أن يدل الدال على رفعة ونسخه
وهذا التفسير ليس بصحيح وهذا الموضع نتفق عليه ولا يجوز أن
يسمى هذا استصحاب الحال لأن لفظ العموم دل على استغراقه
جميع ما يتناوله اللفظ في أصل الوضع في الأعيان وفى
الأزمان فأى عين وجدت ثبت الحكم فيها وأى زمان وجد ثبت
الحكم فيه يكون اللفظ دال عليه وتناوله بعمومه فيكون ثبوت
الحكم في هذه الصورة من ناحية العموم [لا]2 من ناحية
استصحاب الحال وإنما استصحاب الحال أن يدل الدليل في اثبات
حكم ثم يستصحب حكم ذلك الدليل في موضع من غير أن يكون لفظ
الدليل تناوله ودل عليه ويقال: تفسيرا استصحاب الحال هو أن
يثبت حكم في حالة من الحالات فيتغير الحال فيستصحب المستدل
ذلك الحكم بعينه في الحالة المتغيرة ونقول من ادعى تغيير
الحكم فعليه الدليل ومثال ذلك في المتيمم إذا رأى الماء
قبل الصلاة وجب عليه التوضؤ فيستصحب هذا الحكم بعد الدخول
في الصلاة ويقول من ادعى تغيير الحكم فعليه الدليل وقد
يكون ذلك في الدليل العقلى أيضا وذلك مثل ما اختلف الناس
في أن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظرأو الإباحة أو
الوقف وكل قول من هذه الأقوال قد انتحله فريق وزعم أن
العقل يدل عليه فالاستصحاب أن تستصحب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحكام الأحكام "4/185" امحصول "2/549" نهاية السول
"4/358" حاشية الشيخ المطيعي "4/358, 359" المستصفى
"1/224" روضة الناظر "139" أصول الفقه للشيخ محمد أبو
النور زهير "4/177".
2 ثبت في الأصل: لأن.
ج / 2 ص -36-
حكم
ذلك في موضع على ما كان عليه من إباحة أو حظر أو وقف إلى
أن يقوم الدليل الشرعى على خلاف ذلك الحكم فينقله عن حكمه
وقد قال الأصحاب: إنه لا خلاف في هذا الموضع أيضا ويجوز
الاستدلال بما ذكرناه حتى يقوم الدليل الشرعى على خلافه
وإنما الخلاف في الحكم إذا ثبت بدليل وقع الخلاف في
استدامته بحادث يحدث مثل ما ذكرنا في المتيمم ومثل المكفر
يدخل في الصوم عند عدم القدرة على العتق ثم يجد الرقبة
فقال قوم: يخرج من الصوم بالعتق وقال قوم: يمضى فيه ومثل
الحائض ثبت في حقها أحكام الحيض قبل العشر فإذا جاوزت
العشر لم تستصحب تلك الأحكام ولا يحكم بانقطاعها واستدل من
تعلق باستصحاب الحال بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال:
"إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين أليته فيقول أحدثت أحدثت فلا ينصرفن
حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا"1
فقد قضى استدامة الحكم وهو استصحاب الحال ويدل عليه أنه لا
خلاف أنه إذا تيقن الحدث وشك في الطهارة أو تيقين الطهارة
وشك في الحدث فإنه يأخذ باليقين ويطرح الشك فكذلك إذا عرض
الشك لوقوع الاختلاف في الحادثة لم يجز أن يرفع ما تقدم من
اليقين فيها واستدل أبو بكر الصيرفى وقال: إن ابتداء الحكم
ثبت بقيام الدليل عليه وفى موضع الخلاف لا يحكم بانتفاء
الحكم لعدم قيام الدليل على نفيه وبيان هذا أن المتيمم إذ
دخل في الصلاة فقد حكم الإجماع بصحة صلاته فإذا رأى الماء
في خلال صلاته اختلفنا في حكمه فقال بعض الناس: يخرج منها
وقال بعضهم: يمضى فيها والخروج حكم والمضى حكم وكل واحد
منهما يحتاج إلى دليل فإذا عدم الدليل على وجوب الخروج
وعدم الدليل على المضى تقابل الأمران وتساويا ولا يجوز أن
يحكم بأحدهما ووجب [إبقاء]2 الحال على ما كانت عليه وإذا
ثبت أن الخروج لا يجب وأن الحال باقية على ما كانت عليه
ثبت أن المضى في الصلاة وإتمامهاواجب وقال الصيرفى ولست
أقول إن الإجماع مستصحب ودل على بقاء الصلاة ووجوب المضى
فيها لأن الإجماع قد زال [عند]3 رؤية الماء فلا يستصحب
حكمه لكني أقول: لا يجب الخروج أو لا يخرج لعدم الدليل
عليه ووجب تبقية الحال على ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البيهقي في الكبرى "2/361" ح "337" والطبراني في
الكبير "11/222" ح "11556" من حديث ابن عباس نحوه.
2 كشط في الأصل.
3 ثبت في الأصل: عنه.
ج / 2 ص -37-
كانت
عليه فقالوا: ولأن ما ثبت بالعقل من براءة الذمم يجب
استصحابه في مواضع الخلاف فكذلك ما ثبت بالإجماع وجب وأن
يكون كذلك هذا لأن الحكم إذا ثبت بدليل من دلائل الشرع لا
يجب استدامة الدليل لبقاء الحكم بل يبقى الحكم ويدوم إلى
أن يقوم الدليل على قاطع يقطعه ومسقط يسقطة فإذا لم يقم
الدليل على سقوطه بقى ثابتا على ما كان من قبل ومن ادعى
سقوطه فعليه الدليل ألا ترى: أن من ادعى النبوة وأقام
المعجز على ثبوته فإن تجدد إنكار منكر لنبوته لا يجب عليه
إقامة المعجز ثانيا بل النبوة على ثباتها بالدليل الذي
أقامه من قبل فيستمر الثبوت ولا يلتفت إلى قول المنكر ولا
حجة على المنكر في هذه الصورة إلا من جهة استصحاب الحال
وعلى هذا إذا عرفنا فراغ ذمة الإنسان يحكم أن الأصل فراغه
فلو ادعى عليه إنسان حقا فإن القول قول المنكر لأن الأصل
فراغ ذمته فصار استصحاب الأصل الذى عرفناه دليلا في دفع
دعوى المدعى عنه وكذلك إذا ثبت الملك لإنسان فنازعه منازع
يكون القول قول من في يده وإنما جعلنا القول قوله باستصحاب
الحال التي تقدمت فدل أن استصحاب الحال حجة في الأحكام
معمول بها وعلى هذا نقول من اشترى أخاه أو عمه لم يعتقه
عليه لأن الأصل بقاء ملكه الثابت بالشراء فمن ادعى زواله
فعليه الدليل.
فأما الدليل على أن استصحاب الحال ليس بحجة هو أن المستصحب
ليس له في موضع الخلاف دليل لا من جهة العقل ولا من جهة
الشرع فلا يجوز له إثبات الحكم فيه. دليله: ما إذا لم
يتقدم موضع الخلاف إجماع وإنما قلنا لا دليل له لأن دلائل
الشرع معلومة من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس ولم
يؤخذ شيء من هذا في هذه الصورة أما الكتاب والسنة فلا شك
في انعدامها ها هنا وكذلك القياس وأما الإجماع فقد كان
ثابتا لكنه قد زال وإذا انعدمت الدلائل فما قالوه إثبات
حكم بلا دليل وقد نذكر صورة حتى يتبين الكلام فنقول:
المستدل باستصحاب الحال في مسألة التيمم إذا رأى الماء في
الصلاة لا يخلو إما أن يشترك بين الحالتين في وجوب الوضوء
لاشتراكهما فيما يدل على وجوب الوضوء فإن قال ذلك فليس هذا
بدليل بل ينبغي أن يتبين للخصم اشتراك الموضعين فيما يدل
على وجوب الوضوء وإما أن يشترك بينهما في الحكم لاشتراكهما
في علته وهذا قياس وإما أن يشترك بينهما بغير دلالة ولا
علة فليس هو بأن يجمع بينهما بأولى بأن لا يجمع بينهما
وهذا لأن عدم الدليل لا يكون حجة فإن قالوا: إن حدوث
الحادث لا يغير الأحكام فحدوث الصلاة لا يغير حكم وجوب
الوضوء قيل له: لا
ج / 2 ص -38-
يمتنع
أن يختلف الشرع بحدوث الحوادث ولهذا يجوز أن يرد نص بإسقاط
الوضوء عن الرائى للماء في الصلاة مع وجوبه على من رآه قبل
الصلاة واستدل أبو زيد في هذه المسألة وقال: إن ثبوت الشئ
أو عدم الشئ غير موجب ثبوته ولا عدمه يعنى في المستقبل
ويجوز حال العدم ثبوت حالة موحدة ويجوز في حال ثبوت وجود
علة معدمة ألا ترى أن عدم الشراء لا يمنع وجود الشراء
وكذلك لا يمنع وجود سائر الأسباب وهذا لأن العدم ليس بشئ
فيستحيل أن يكون مانعا حدوث شئ وكذلك وجود الشئ ليس بعلة
لبقائة بل يبقى لعدم ما يزيله كالملك في باب البيع والحل
في باب النكاح وعلى هذا حياة الانسان لا يوجب بقائها ولا
يمنع نزيان الموت قال: وإذا ثبت هذا فمن أراد إثبات إدامة
الحالة الماضية في المستقبل ثبوته في الماضي وثبوته لا
يوجب بقائة كان محتجا بلا دليل يدل عليه أن الثابت لا يزول
إلا بدليل بالإجماع فإن كان الاختلاف في الزوال اختلافا في
دليله فالذي يدعى الزوال يدعى دليلا والآخر ينكره فلا يكون
إنكاره حجة على غيره كما أن دعوى هذا لا يكون دليلا عليه
فثبت أن مستصحب الحال متشبث بإنكاره الدليل بلا دليل فإن
قيل: الاحتجاج بالأخبار والنصوص صحيح وثبوت النص حجة لا
توجب البقاء أيضا فلا يمنع الانتساخ بنص آخر ومع ذلك بقى
الحكم قلنا: أما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا
يحتمل الحكم الانتساخ قطعا وإذا لم يتصور النسخ بعد رسول
الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ثبوته دليل بقائه وإن
تصور دعوى ناسخ له فلا يكون ثبوته من قبل بلا ناسخ دليلا
عليه قالوا: ومستصحب الحال متمسك بما كان لعدم الدليل على
زواله لا لدليل أوجب بقاؤه انتهى كلام أبو زيد وقال بعض
أصحابنا: إن الاحتجاج باستصحاب الحال يؤدى إلى التعارض
والتكافؤ في الأدلة لأنه ما من أحد يستصحب حال الإجماع
موضع الخلاف في صحة فعل أو سقوط فرض إلا ولخصمه أن يستصحب
حالة الإجماع في مقابلته وبيان ذلك أنه متى قال في التيمم
إذا رأى الماء في صلاته إن صلاته لا تبطل لأنا أجمعنا على
صحة صلاته وانعقاد إحرامه ولا يجوز إبطال ما أجمعوا عليه
لا بدليل تعارض الخصم فنقول: أجمعنا على اشتغال ذمته بفرض
الإسلام فلا يجوز إسقاط ما أجمعوا عليه إلا بدليل فلا يكون
التعلق بأحد الإجماعين بأولى من التعلق بالآخر وما أدى إلى
مثل هذا يكون باطلا وأما الجواب عن الخبر قلنا نحن لا نمنع
من تعدى الحكم من حالة إلى حالة بدلالة وإنما نمنع لا
بدلالة وقول النبي صلى الله عليه وسلم دلالة
ج / 2 ص -39-
وأما مسألة الطهارة: فهناك
يقين الدلالة أو يقين الحدث ما زال وها هنا الإجماع قد زال
والأولى أن نقول إنه في موضع يقين الطهارة وشك الحدث إنما
أخذنا باليقين لأجل الخبر وأما في موضع يقين الحدث والشك
في الطهارة كان الأخذ باليقين قياسا على الصورة الأولى
وأما الذي استدل به الصيرفى فليس بشئ لأن نهاية ما في
الباب أنه يقابل الاحتمالان على ما ذكر لكن لا دليل على
بقاء الصلاة فإن قالوا: إذا ثبت يبقى قلنا: قد ذكرنا أن
ثبوته لا يكون دليل بقائه فبقى أنه يقول: انعدام الدليل
المبطل للصلاة وعدم الدليل لا يكون دليلا فإن قالوا: إذا
لم يقم دليل يوجب بطلان الصلاة فهنا قيل له من ادعى البقاء
وهناك منازع يمنع البقاء فلابد له من دليل يقيمه عليه ولا
دليل له على ما سبق فأما إذا عدم المنازع بقى على ما كان
أما عند وجود المنازع لابد من دليل يكون حجة عليه ولم يوجد
فإن رجعوا إلى قولهم أن الأصل ثبات الأحكام ودوامها قلنا
بلى ولكن ما لم تحدث هذه الحادثة فإما عند حدوث الحوادث
فلم قلت هذا وعلى أن قلنا: إن البقاء الذي وقع التنازع فيه
لابد من دليل يقام عليه ولم يوجد فأما قولهم إن دليل العقل
في براءة الذمم يجعل دليلا وحجة فكذلك دليل الشرع قلنا
إنما وجب استصحاب براءة الذمم لأن دليل العقل في براءة
الذمة قائم في موضع الخلاف فوجب الحكم به وأما ها هنا
فالإجماع الذي كان دليلا على الحكم قد زال في موضع الخلاف
فوجب طلب دليل آخر.
والجواب: المعتمد أنا لا نقول تثبت براءة
ذمته باستصحاب الحال ولا يحكم بكون الشئ له باستصحاب الحال
لكن يطلب من المدعى حجة يقيمها على ما ادعاه فإذا لم تقم
بقى الأمر على ما كان من غير أن يحكم بثبوت شئ والخلاف
واقع في ثبوت الحكم باستصحاب الحال وهذا لا نقوله في موضع
ما وقد قال أبو زيد: إن استصحاب الحال يصلح دليلا. لتبقيه
حكم قد كان ثابتا ولا يصلح دليلا لإثبات حكم لم يكن ثابتا
وربما نقول: هو حجة دافعة ولا يكون حجة مثبته وهذه العلة
تنقض ما سبق من كلامه من قبل والأصح على مذهبنا أن استصحاب
الحال لا يكون حجة في شئ ما وسائر ما ذكروه من الاستشهاد
خارج على ما بيناه وأما الذي تعلقوا به من النبى إذا أقام
المعجزة قلنا إذا ما أقام المعجزة ثبت كونه نبيا فيجب على
كل أحد الإيمان به فكان سقوط إمكان من ينكر ثبوته من هذا
الوجه لا من قبل دليل استصحاب الحال والله أعلم.
ج / 2 ص -40-
مسألة: النافي للحكم يجب عليه الدليل المثبت:
وقال أصحاب الظاهر: لا دليل عليه1 واستدل من قال: أنه لا
دليل عليه بقوله صلى الله عليه وسلم:
"البينة على
المدعى واليمين على من أنكر"2
والبينة حجة وقد جعلها على مدعى الثبوت لا على مدعى النفى
فثبت أن النافي لا دليل عليه.
ببينة: أن أهل العلم اتفقوا على قولهم: إن
القول في الدعاوي قول المدعى عليه ومعنى قولهم إن القول
قوله أنه لا دليل عليه ومعنى قولهم أنه لا يقبل دعوى
المدعى أن الدليل عليه وكذلك أجمعوا أن من أنكر النبوة لا
دليل عليه وإنما الدليل على من ادعى النبوة.
ببينة: أن أقوى الخصومات في البينات
والنبي صلى الله عليه وسلم: كان مثبتا والقوم كانوا نفاة
وما كان لهم حجة سوى أنه لا دليل على النبوة وإذا كان
الأمر على ما قلنا في النبوة وسائر الدعاوي كذلك ها هنا
يجب أن تكون الحجة على من أثبت الحكم لا على من نفاه
قالوا: ولأن معنى قولنا لا دليل على النافى هو أنه لا دليل
على المتمسك بالعدم لأن العدم ليس بشئ والدليل يحتاج إليه
لشئ هو مدلول عليه فإذا لم يكن العدم شيئا لم يحتج المتمسك
به إلى دليل حتى يدل عليه وأما دليلنا هو أن النفى لكون
الشئ حلالا وحراما حكم من أحكام الدين كالإثبات والأحكام
لا تثبت إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا نفى بعض المجتهدين حكما من الأحكام فقال: هذا الحكم
ليس ثابتا عندي فهل يطالب بدليل على هذا؟
اختلف الأصوليون في ذلك فقال فريق منهم: يطالب بدليل مطلقا
لأن نفى الحكم دعوى والدعوى لا تثبت إلا بدليل.
وقال فريق آخر: لا يطالب بالدليل مطلقا لأن نفي الحكم
استمرار للعدم الأصلي وهو غير محتاج إلى فاستمراره كذلك.
وقال فريق ثالث: إن ادعى أنه نفى الحكم ثابت عنده بالضرورة
لا يطالب بالدليل لأن عدالته توجب صدقه والضروري شأنه أن
لا يكون محل شبهة وإن ادعى أنه ثابت عنده بالعلم النظري أو
بطريق الظن طولب بالدليل لأن النظري أو الظني قد يشتبه
فيه. فالدليل يبين هل هو مثبت للعدم أو غير مثبت له لنزول
الشبه المستصفى "1/132" انظر نهاية السول "4/395" روضة
الناظر "139" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير
"4/181, 182".
2 أخرجه الترمذي: الأحكام "3/617" ح "1341" ولكنه قال:
واليمين على المدعى عليه والبيهقي في الكبرى "8/484" ح
"17288" والدارقطني في سننه "4/157" ح "8" انظر تلخيص
الحبير "4/229" ح "1".
ج / 2 ص -41-
بأدلتها وكل من ادعى في شئ من الأشياء حكما من إثبات أو
نفي فعليه إقامة الدليل عليه بظاهر قوله تعالى:
{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النمل: 64] ثم الدليل على ما قلناه من جهة التحقيق هو أن النافى
فيما نفاه لا يخلو من أحد الأمرين إما أن يدعى العلم بنفى
ما نفاه أو لا يدعى العلم بانتفائه بل إنما يخبر عن جهله
وشكه فإن كان يخبر عن جهله وشكه1 فالدليل عنه ساقط لأن أهل
النظر قاطبة لا يوجبون على من يدعى الشك والجهل دليلا ولا
يقال لمن جهل أو شك: لما جهلت أو شككت ولو رام المدعى لذلك
إقامة دليل عليه لم يمكنه ذلك إن كان النافى يدعى العلم
بصحة ما نفاه فقال: من أين علمت نفى ما نفيته باضطرار أو
باستدلال؛ ولا يمكنه دعوى الضرورة لأنه لو كان ضرورة
لشاركناه في ذلك وإن قال: بدليل علمت نفى ما نفيته سئل عن
ذلك هل هو حجة عقل أو سمع؟ فإن قال: سمع قلنا له: بين ذلك
فإن قال: بعقل قلنا له: بين ذلك فدل أنه لابد من دليل
يقيمه واعلم أنه لا خلاص لهم من هذه المطالبة إلا بدعوى
علم الضرورة وهذا باطل أو بدعوى جهله بانتفاء ما نفاه
فتزول عنه المطالبة أيضا لأنه لا مطالبة على الجهلة فأما
تمنى زوال الحجة مع دعوى وجود العلم بانتفاء المنتفى غير
متصور قال أبو زيد: قول القائل لا دليل لا يكون دليلا كما
أن قوله لا حجة ولا يكون حجة مثل قول الإنسان لا زيد ولا
عمرو ولا يكون زيد ولا عمرو فصار المتمسك بالنفى متمسكا
بعدم الدليل وعدم الدليل لا يكون دليلا يدل عليه إن دعوى
خصه أنه وجد الدليل يعارض قوله إنه عدم الدليل فلا يكون
قوله حجة على خصمه كما لا يكون قول خصمه حجة عليه قالوا إن
النافى متمسك بالعدم والعدم غير محتاج إلى الدليل فإن الشئ
الذي هو مدلول يحتاج له إلى الدليل فأما العدم فليس بشئ
فلا يحتاج إلى الدليل وهذا السؤال يفسد بما قلناه من قبل
وهو أن النافى يدعى العلم بانتفاء الشئ ودعوى العلم
بانتفاء الشئ لا يجوز إلا أن يكون عن دليل نعم دعوى الجهل
لا يحتاج إلى الدليل فأما دعوى العلم فلا يستغنى عن الدليل
بحال وأما دليلهم قلنا: إن لا دل فهو خارج على ما قلنا
لأنا لا نقول إن المدعى عليه إذا ادعى أنه لا شئ عليه أنه
ينتفى عنه الحق بإنكاره ونفيه. بل نقول: لا دليل على ثبوت
الحق عليه فلا يحكم بالثبوت ومعنى قولنا: إن القول قوله هو
أنه لا يقبل دعوى المدعى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "وشكله".
ج / 2 ص -42-
عليه
ويترك الأمر على ما كان عليه من قبل ثم يمينه تكون حجة
لقطع الخصومة وعلى أنه يمكن أن يقال: إن حجته في إنكاره
ونفيه الوجوب عن نفسه يمينه فإن سقطت البينة عنه لم يسقط
عنه اليمين التي تقوم مقامها في هذا الجانب فالله تعالى
جعل اليمين حجة في جانب المدعى عليه كما أن البينة حجة في
جانب المدعي وفى دعوى الأعيان يجوز أن يقال: إن اليد
للمدعى عليه حجة فيما يدعيه من كون الشئ ملكا له والحجة
مختلفة فيجوز أن تكون اليد حجة ويجوز أن تكون البينة حجة
وأحسن الأجوبة هو الجواب الأول وأما تعلقهم بمنكر النبوة
قلنا: من ينكر النبوة إذا قطع بالنفى وقال: لست بنبى فإنه
يجب عليه إقامة الدليل على نفيه وهو أنه يقول لو كنت نبيا
مبعوثا لكان معك دليل يدل على صدقك لأن الله عز وجل لا
يبعث رسولا إلا ومعه دليل يدل على صدقه ومهما لم أر معك
دليلا دلنى ذلك أنك لست بنبى وإن لم يقطع بالنفى وقال: لا
أعلم أنك نبى أو لست بنبى فهذا لا دليل عليه لأنه شاك
والشاك لا دليل عليه وأما في مسألتنا فصورة الخلاف في موضع
يقطع بالنفى ولا يجوز أن يقطع بالنفى إلا عن دليل يقتضيه
ويوجبه فإن قيل: أليس لو نفى صلاة سادسة لا يكون عليه
دليل. قلنا: لابد في نفيها من دليل يقيمه عليه وهو أن يقول
إن الله تعالى لا يقيد خلقه بفرض إلا وأن يجعل إلى معرفته
طريقا من جهة الدليل ولما لم نجد ما يدلنا على الوجوب دلنا
ذلك على أنه لا واجب وقد قال: بعض أصحابنا يقال: لمن زعم
أنه ليس على النافى دليل قلت هذا بدليل أو بغير دليل فإن
قال قلته بدليل فقد اعترف للنافى عليه دليل وإن قال: قلته
بلا دليل يقال: له مم يتفضل عمن يقول أنا أنفى صحة ما
تعتقده من هذا القول وأتمسك بأن النافى لا دليل عليه وهذا
فصل يعتمد في إظهار المناقضة عليهم في قولهم وسئل أبو زيد
سؤالا وأجاب عنه وهو فإن قيل: أليس أن ما يثبت بالدليل وهو
مما ينفى بلا دليل فقد أثبتم البقاء في هذه الصورة بلا
دليل؟ والجواب: أنه يبقى على ما قلته لكن بقاء يحتمل
الارتفاع والمحتمل لا يكون حجة في إثبات ما ليس ثابت
والحكم في حق الخصم غير ثابت فاحتيج إلى إثباته فما يكون
محمتلا لا يكون حجة في حقه ثم قال: على هذا مسائل منها
الصلح على الإنكار فإنه جائز عندنا غير جائز عند الشافعي
رحمة الله عليه لأن الله تعالى خلق الذمم بريئة عن الحقوق
فثبت براءة ذمة المنكر بالدليل الأصلي في براءة الذمم ولم
يقم دليل على شغل ذمته قال: وعدم الدليل حجة في
ج / 2 ص -43-
إبقاء
ما يثبت بالدليل عند الشافعى رحمة الله عليه فلم يجز شغل
ذمته بالدين فلم يصح الصلح. قال: وعندنا الصلح على الإنكار
جائز ونقول: قول المنكر ليس بحجة على المدعي كقوله المدعي
ليس بحجة على المنكر وعدم الدليل على شغل الذمة لا يكون
حجة للمنكر على المدعى كقول المدعي: إن المال ثابت لم يكن
حجة على المنكر وربما عبر عن هذا فقال: عدم الدليل ليس
بحجة لإبقاء ما ثبت بالدليل فيجوز شغل ذمته بالدين على
معنى أن المال يكون ثابتا في حق المدعي في ذمة المنكر وأما
البراءة تكون ثابته في حق المنكر خاصة وهذا لأن خبر كل
واحد منهما يكون حجة في حق نفسه دون خصمه ولما كان المال
في حقه ثابتا يكون خبره حجة شرعا مع اعتياضه وإن عارضه خبر
المنكر لأن تلك المعارضة ليس بحجة في حق المدعي فيبقى
الأمر على ما كان قبل المعارضة وهذا كما صح شراء من شهد
بالعتق ثم اشترى وإن كان العتق ثابتا في حقه وهذا يؤاخذ به
بعد الملك لأنه غير ثابت في حق البائع فصح بيع البائع
واعتياضه عن عبد كان ملكا له بخبر هو حجة في حقه لا غير
وإن عارضه لخبر المشتري لأنه ليس بحجة عليه وهذا لأنه لا
دليل وإن استند إلى أصل ثابت بدليل فذلك الدليل الذي أوجب
ثبوته لا يوجب بقاؤه بل البقاء لاستغنائه عن الدليل غير
أنه لما لم يكن واجب البقاء وكان مما يجوز زواله بما ينفيه
احتمل كل ساعة تأتى طرفان ما يزيله فيصير قول القائل وقد
طرأ ما يزيله محتملا للصدق كقوله لم يقم الدليل فلا يصير
حجة على جاحد منهما قال: ولأن الذي اعتمد عدم الدليل لبقاء
ما ثبت بدليله اعتمد معنى لا يمكنه الإثبات على خصمه فلا
يصير حجة عليه وإنما قلنا: لا يمكنه لأنه جائز بالاتفاق
تفاوت الناس في العلم بالأدلة ويجوز أن يعلم خصمه دليلا ثم
يبلغه ومن ادعى أنه علم كل شئ لا يناظره ويكون متعنتا
جاهلا وهذا كما كان يجوز في زمن النبى صلى الله عليه وسلم
أن يثبت حكم بدليله ثم ينسخ بدليل آخر فيبلغ الناسخ أقواما
دون أقوام فيكون من لم يبلغه الناسخ معذورا في العلم
بالمنسوخ ولا يكون جهله بالناسخ حجة على من بلغه الناسخ
فكذلك الحجج اليوم يجوز أن يبلغه حجة منها شخصا دون شخص
فلا يكون قوله دليل حجة على خصمه قال: ولهذا صح من الله
تعالى الاحتجاج بعد التحريم في إثبات الحل في قوله عز وجل:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ}
[الأنعام: 145] لأن الله تعالى هو المحرم ولا يخفى عليه
العدم كما لا يخفى عليه الوجود فثبت العدم على التابعين
أجمع بقول الله تعالى
ج / 2 ص -44-
فيلزمهم البقاء على الحكم الأول الثابت بدليله أعنى الحل
هذا كلام أبى زيد ذكره في أصوله الذي سماه: "تقويم الأدلة"
وهذا الذي قاله تكلف شديد وبنى على هذا الأصل مسائل أخر
وطول الكلام تطويلا كثيرا ولم أر كثير فائدة فيه وفى ذكره
ونحن نقول: إن عدم الدليل ليس بحجة في موضع ما والذي ادعاه
حكى الشافعى رحمه الله عليه من مذهبه فيما قاله لا ندرى
كيف وقع له ذلك والمنقول عن الأصحاب ما قدمناه.
وأما مسألة الصلح على الإنكار: فقد بينا وجه فساده في
مسائل الخلافيات وكم من أصول ذكروا لنا بنوا عليها مسائل
من الخلاف ولا نعلم صحة تلك الأصول على مذهب الشافعى رحمة
الله عليه وذكر أيضا مسألة الشفعة على هذا الأصل أو كان
جارا على أصلهم فأنكر المشترى أن يكون الشقص ملكا له قال:
عند الشافعى رحمة الله عليه لا يلتفت إلى إنكاره ويثبت له
حق الأخذ بالشفعة بظاهر ملكه قال: وعندنا ليس له حق الشفعة
حتى يقيم البينة أن الشقص ملكه والله أعلم.
"فصل"
وقد ذكر بعض أصحابنا في الحكم بأقل ما قيل وذلك أن يختلف
المختلفون في مقدر بالاجتهاد على أقاويل فيؤخذ بأقلها عند
إعواز الدليل وهذا على ضربين:
أحدهما: أن يكون فيما أصله براءة الذمة
فإن كان الاختلاف في وجوب الحق وسقوطه كان سقوطه أولى من
وجوبه لموافقته براءة الذمة الإ أن يقوم دليل على ثبوت
الوجوب فيحكم بوجوبه بدليل وإن كان الاختلاف في قدره بعد
الاتفاق على وجوبه كدية الذمى إذا وجبت على قاتله فقد
اختلفت الفقهاء في قدرها فقال بعضهم هى كدية المسلم. وقال
بعضهم: نصف دية المسلم وقال بعضهم: ثلث دية المسلم وهذا
مذهب الشافعي رحمة الله عليه وهل يكون الأخذ بالأقل دليلا
حتى ينقل عنه اختلف فيه أصحاب الشافعى رحمة الله على وجهين
أحدهما يكون دليلا والآخر لا يكون دليلا.
والضرب الثاني: أن يكون فيما هو ثابت في
الذمة كالجمعة الفائت فرضها اختلف العلماء في عدد انعقادها
فلا يكون الأخذ بالأقل دليلا لارتهان الذمة بها فلا تبرأ
الذمة بالشك.
ج / 2 ص -45-
وهل
يكون الأخذ بالأكثر دليلا؟!! على وجهين:
أحدهما: يكون دليلا ولا ينقل عنه إلا
بدليل لأن الذمة تبرأ بالأكثر إجماعا وبالأقل خلافا وجعلها
الشافعى رحمة الله عليه منعقدة بالأربعين لأن هذا العدد
أكثر ما قيل.
والوجه الثاني: لا يكون الأخذ بالأكثر
دليلا لأنه لا ينعقد من الاختلاف دليل والشافعى رحمة الله
عليه إنما اعتبر عدد الأربعين بدليل آخر1 ولست أرى في هذه
الكلمات كثير معنى لكنى نقلت على ما ذكر والله تبارك
وتعالى أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "4/380, 381, 382, 383" انظر حاشية
الشيخ محمد بخيت المطيعي "4/380, 381, 382, 383" انظر أصول
الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/183, 184, 185".
مسألة: فهذه مسألة الحظر والإباحة:
أوردنا في هذا الموضع لما بينا من شذوذها عن الأبواب
المتقدمة وعدم دخولها في باب القياس ومعرفة هذه المسألة
أصل كبير في مسائل كثيرة ولابد من تقديم مقدمة ينبنى عليها
ما يتلوها وهى أن الحظر والإباحة والحسن والقبيح. ثم يعرف
فاعلم أن الذي ذهب إليه أكثر أصحاب الشافعى رحمة الله عليه
أن التكليف يختص بالسمع دون العقل وأن العقل بذاته ليس
بدليل على تحسين شئ ولا بتقبيحه ولا حظره ولا إباحته ولا
يعرف حسن الشئ وقبحه ولا حظره ولا تحريمه حتى يرد السمع
بذلك وإنما العقل آلة يدرك بها الأشياء فيدرك به ما حسن
وقبح وأبيح وحرم بعد أن يثبت ذلك بالسمع وقد ذهب إلى هذا
المذهب من المتكلمين جماعة كثيرة وهم الذين امتازوا عن
متكلمى المعتزلة وذهب إلى هذا أيضا جماعة من أصحاب أبى
حنيفه وذهب طائفة من أصحابنا إلى أن العقل مدخلا في
التكليف وأن الحسن والقبح ضربان ضرب علم بالعقل وضرب علم
بالسمع وأما المعلوم حسنه بالعقل فهو العدل والصدق وشكر
النعمة وغير ذلك وأما المعلوم قبحه بالعقل فنحو الظلم
والكذب وكفر النعمة وغير ذلك وأما المعلوم حسنه بالشرع
فنحو الصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه ذلك وأما
المعلوم قبحه بالشرع فنحو الزنا وشرب الخمر وما أشبه ذلك
قالوا وسبيل السمع إذا ورد بموجب العقل أن يكون وروده
مؤكدا لما في العقل إيجابه وقضيته وزعموا أن الاستدلال على
معرفة الصانع واجب بمجرد
ج / 2 ص -46-
العقل
قبل ورود الشرع ودعا الشرع إليه وهذا مذهب المعتزلة بأسرهم
والذي ذهب إليه من أصحابنا أبو بكر القفال الشاشى والصيرفى
وأبو بكر الفارسي والقاضى أبو حامد وغيرهم وذهب
الحليمى أيضا من المتأخرين وذهب إلى هذا كثير من أصحاب أبي
حنيفة1 خصوصا العراقيون منهم واستدلوا في ذلك. وقالوا: إن
الله تعالى وبخ الكفار على تركهم الاستدلال بعقولهم على
وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في أنفسهم وغيرهم من
الخليقة وأصنافها من الآيات والعلامات فقال:
{لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
[آل عمران: 19] وقال:
{لِأُولِي النُّهَى} [طه: 54] وقال:
{أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 76] وقال:
{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 35] وقال تعالى:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] أي عقل وقال تعالى حاكيا عن أهل النار: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي
أَصْحَابِ السَّعِيرِ}
[الملك: 10] والآيات على هذا المعنى تكثر في القرآن فلو
كان العقل لا يدلهم على وجوب ذلك إذا رجعوا إليه لم يوبخوا
على ترك الاستدلال بها.
ببينة: أن الله تعالى لم يخل شيئا من
العالم عن دلالة على وحدانيته ولم يترك خلقه سدى مع إكمال
عقولهم وإزاحة العلل عنهم وتمهيد الأسباب التي يصح بها
معارفهم فلو لم يجب عليهم الاستدلال بعقولهم بالنظر في هذه
الأشياء لخرج الأمر في ذلك عن وجه الحكمة ولبطلت فائدة
العقول التي أعطاهم وصاروا بمنزلة البهائم التي لا تحتاج
إلى تكليف وحين لم تعط آلته ولم يجعل لها استطاعة وهم في
هذا الكلام كثيرا ثبوتا إلى طرف من ذلك واقتصرنا عليه لأن
المسألة من باب الكلام أما الدليل على القول الأول وهو
الصحيح وإياه نختار ونزعم أنه شعار أهل السنة قوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ولم يقل حتى نركب فيهم عقولا فلما كان العذاب غير
واقع إلا بالخطاب دل أن الإيجاب غير واقع إلا به وقال
تعالى حكاية عن الملائكة في خطابهم مع أهل النار:
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}
[الزمر: 71] وقال:
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ}
[الملك: 8] في آى غير هذا مما هو في معناه فدل أن الحاجة
إنما لزمتهم بالسمع دون العقل وقد ورد نص القرآن بهذا وهو
قوله تعالى:
{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فدل أنه لا حجة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر التلويح على التوضيح "1/173 إلى 190" البرهان
"1/87, 88, 89" انظر نهاية السول "1/82, 83, 84" حاشية
الشيخ محمد بخيت المطيعي "1/82, 83, 84".
ج / 2 ص -47-
بمجرد
العقل بحال. وقال تعالى:
{أَنْ
تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ
جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} [المائدة: 19] ونحن نعلم قطعا أن الكفار كانت لهم عقول ولهذا توجه
التكليف عليهم فلو كانت الحجة توجهت عليهم بعقولهم لم يكن
لهذه الآيات معنى أصلا فإن قالوا: ورد الشرع بما ورد به
مؤيدا لما في العقل وذلك لأن العقل لايدل على من آمن وجبت
له الجنة خالدا مخلدا أبدا ولا يدل أن من كفر وجبت له
النار خالدا مخلدا فإن هذا مما لا يهتدى إليه العقل وإذا
كان الوعد والوعيد على هذا الوجه ثبت بالسمع فلهذا في هذه
الآيات التي ذكرتم أضاف ما أضاف إلى السمع وإلى ما أراد به
الرسل.
والجواب: أنه ليس فيما قلت انفصال عمن
ذكرناه لأن الله تعالى بين أن الحجة لا تتوجه إلا بالرسل
وبين أن التوبيخ لحقهم في النار لبعث الرسل وبين أن عذرهم
انقطع بالرسل وهذا في قوله تعالى:
{فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ}
[المائدة: 19] وعندهم أن الحجة متوجهة في الإيمان بالله
بمجرد العقل والتوبيخ لاحق إياهم بغير رسول والعذر منقطع
بغير نذير ولا بشير وأما الآيات اللاتى ذكروها فنحن نقول:
إن العقل آلة التمييز وبه تدرك الأشياء ويتوصل إلى الحجج
وإنما الكلام في أنه بداية هل يستقل بإيجاب حله وتحريمه
وأما قولهم: إنه لا يجوز في الحكمة خلق الإنسان تكميل عقله
وتركه سدى وعندنا أن عدم جواز هذا لا يعرف بالعقل أيضا ثم
نقول ومن يوافقكم أن الإنسان إذا خلقه الله تعالى وركب فيه
العقل فإذا لم يلزمه الاستدلال به تركناه سدى وعطلنا فائدة
العقل فإن الله تعالى إنما أعطاه العقل ليستدل به في الأمر
والنهى إذا خوطب يميز به بين الحسن والقبيح إذا ورد بالسمع
بهما فإذا كان كذلك فلم يخلق سدى لأن السمع قد ورد
بالتكليف وإدراك ذلك بالعقل فقد وصلت فائدته وثمرته فبطل
ما قالوه فإن قيل لو كان الاستدلال على التوحيد لا يجب
بمجرد العقل لكان يجوز ورود الشرع بإسقاطه وإباحة الكفر
وإيجابه وحين لم يجز هذا عرفنا أن الوجوب كان بالعقل قيل
له: قد وردالشرع بإباحة الفاظ عند الضرر إذا قالها الإنسان
باختيار منه يكون كفرا ألا ترى أنه إذا كان مكرها فإنه
يرخص له في أنه يقولها إذا كان لا يعتقدها بقلبه ولا يكون
قوله ذلك كفرا. وكذلك يرد مثل هذا في الأفعال وذلك مثل
السجود للصنم وعباده الشمس والقمر وغير ذلك فإنه إذا فعل
هذه الأشياء تقية من عقوبة الكفار وكان مع ذلك مطمئن
بالإيمان لم يكفر فإن قيل: إنما يلزمكم
ج / 2 ص -48-
ورود
الشرع بأن يعتقد فيه الإنسان ما هو من خلاف أوصافه قلنا لا
يجوز لاستحالته في نفسه وبيان ذلك أن الأمر لا يلزم إلا
بمعرفة الأمر على أوصافه فإذا أمرنا لاعتقاد فيه على خلاف
ما هو به كان قد وجب الاعتقاد فيه على ما هو به ويستحيل
وجود أمر بمأمور هذا وصفه ويكون متناقضا ولا يمكن اعتقاد
المتناقض ونحن وإن قلنا: إن العقل لا يوجب شيئا ولا يحرمه
ولكن نقول إنه آلة الدرك والتمييز والمستحيل لا يدرك فسقط
عنه الدرك والأولى أن نقول: إنما عرفنا أن الله عز وجل لا
يكلفنا بما قلتم من اعتقاد الكفر ومعرفته على خلاف ما هو
به الشرع قال الله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} وأفحش الفواحش الكفر وقال تعالى:
{مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا
قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [مريم: 35]. وهذه مسألة كلامية فالأولى هو الاقتصار على هذا القدر
والمبالغة في مثل هذا النوع لا يؤمن فيه من المعفوات وأن
يقال على الله تعالى ما لا يجوز وإنما ذكرنا القدر الذي
ذكرناه لأنه كان من مسألة عظيمة في أصول الفقه ولأن مرجع
ما يصير أليه أهل السنة في هذه المسألة إلى الآيات التي
ذكرناها. وهو أيضا أصل كبير ولعله يحتاج إليه في مسائل من
الفقه فذكرنا هذا القدر لئلا يكون الفقيه أجنبيا عنه ويعرف
طرفا منه والله تعالى يهدى ويرشد ويوفق بمنه.
مسألة: إذا عرفنا الأصل الذي قد بيانه
رجعنا إلى المسألة المقصودة المختصة بأصول الفقه فنقول:
اختلف العلماء في الأعيان المنتفع بها ما حكمها قبل ورود
الشرع قال كثير من أصحابنا: إنها على الوقف لا نقول إنها
مباحة ولا محظورة وهو قول الصيرفى وأبو بكر الفارسي وأبى
على الطبرى وبه قال أبو الحسن الأشعرى ومن ينتمى إليه من
المتكلمين وقال بعض أصحابنا إنه على الحظر إلا أن يرد
الشرع بإباحتها وهو قول بعض البغداديين من المعتزلة وقال
القاضى أبو حامد المروزى وأبو إسحاق المروزى وحكى ذلك أيضا
عن ابن سريج أنها على الإباحة أيضا وهو قول أصحاب أبى
حنيفه وإليه ذهب أكثر المعتزلة1. واحتج من ذهب إلى الإباحة
بقوله تعالى:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ
وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] وهذا لتحريم الإباحة دل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "4/352" انظر حاشية الشيخ محمد بخيت
المطيعي "4/353" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور
زهير "4/174".
ج / 2 ص -49-
أن
الله تعالى خلق الأشياء على الإباحة حيث أنكر على من يعتقد
التحريم واستدلوا من حيث المعقول وهو أن الانتفاع بالعين
أكلا في المأكول وشربا في المشروب وركوبا في المركوب ولبسا
في الملبوس منفعة ليس فيها وجه من وجوه القبح فكان حسنا
والعقل يجوز فعل المستحسنات وإنما قلنا: إنه منفعة لأنا
نعلم قطعا أن أكل الفاكهة منفعة وشرب الماء كذلك وكذلك كل
ما أشبهه وأما قولنا: إنه انتفى عند وجوه القبح لأنه انتفى
عنه اتصال مضرة يأخذ وهذا النوع من الفعل لو كان قبيحا
لكان وجه قبحه اتصال ضرر منه بغيره لأنه ليس في نفسه بكذب
ولا جهل ولا كفر لمنعم إنما يبقى وجه قبحه أن يظلم به غيره
ويتصل منه ضرر بذلك الغير ولا شك أن هذا منتف فثبت حسنه من
هذا الوجه قالوا: ولا يجوز أن يقال: إنه يجوز أن يكون
قبيحا فإذا لم نأمن كونه قبيحا لم يجز فعله وذلك لو كان
قبيحا ومفسدة لوجب في الحكمة تعريفنا كونه مفسدة أو نصب
أمارة عليه فلما لم يوجد ذلك علمنا أنه ليس فيه مفسدة ولا
قبح أصلا.
ببينة: أنا إذا لم نعلم وجه قبح جاز لنا
هذا الانتفاع كالتنفس في الهواء لما لم يعلم قبحه جاز لنا
ذلك وقرروا هذا الكلام من وجه آخر وهو أن النفع بالعين
يدعو إلى الفعل فإذا خلا من وجوه القبح وخلا من أمارة
الضرر والمفسدة حكم بحسنه وعلى هذا التقرير يقولون: إن
المعتبر هو الأمارة والدليل وعلى أن المعتبر هو أمارة
الضرر والمفسدة أن العقلاء لا يلومون من امتنع من الفعل
لتجويز الضرر إذا كان هناك أمارة ويلومون من امتنع لمجرد
التجويز إذا لم يكن عليه أمارة الا ترى أنهم يلومون من
امتنع من أكل طعام شهى لتجويز كونه مفسدة إذا لم يكن عليه
أمارة بأن يقول هو مسموم ولا يلومونه إذا امتنع من أكله
إذا كانت هناك أمارة تدل على ما قاله وكذلك يلومون من
امتنع من القيام بجنب حائظ لخوف سقوطه إذا لم يكن هناك
أمارة ولا يلومون إذا امتنع وهناك أمارة من ميل أو فساد
أساس وما أشبه ذلك فثبت أن المعتبر وجود الأمارة على كونه
مفسدة أو مضرة ولم يوجد ها هنا فقضى بحسن الفعل بدليل ما
بينا يدل عليه أنه لو قبح الإقدام على المنفعة لجواز كونها
مفسدة لقبح الإحجام عنه أيضا لجواز كونه مصلحة وفى هذا
إيجاب الانفكاك منهما وهو إيجاب لما ليس في طوق الإنسان
ووسعة قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن القبح إنما كان لأنه
تصرف في ملك الغير بغير إذن فلم قلتم: إن هذا قبيح فإن
قاسوه على تصرف بعضنا في ملك بعض فهذا
ج / 2 ص -50-
قياس
باطل لأن معنى الملك فينا وفى الله مختلف فالجمع بين ملكنا
وملك الله لا يجوز وإنما قلنا: إنه يختلف لأنه معنى كوننا
مالكين للشئ هو أنا أحق بالانتفاع به من غيرنا على الإطلاق
وذلك مستحيل على الله عز وجل ومعنى كونه مالكا للشئ أنه
قادر على إفنائه وإيجاده.
ببينة: أن في الامتناع من الانتفاع إضرار
بالنفس وليس في الانتفاع إضرارا بملك الله تعالى فصار
الأولى إطلاق الانتفاع ثم نقول إنما قبح تصرفنا في ملك
غيرنا لأنه يضره لا لأنه مالكه فقط ألا ترى أنه يحسن منا
الاستظلال بحائط غيرنا والاستضاءة بنار غيرنا وكذلك النظر
في مرآة الغير والتقاط ما تناثر من حب غلته بغير إذنه لما
لم يضره ذلك والانتفاع والضرر يستحيلان على الله عز وجل
فصارت الإباحة متعينة.
دليل آخر: وهو أن الله تبارك وتعالى خلق
هذه الأعيان وأوجدها وركب فيها المنفعة فلا يخلو من أن
يكون خلقها لغير غرض أو لغرض ولا يجوز أن يكون لغير غرض
لأنه يكون عبثا ولا يجوز أن يكون الله تعالى عابثا في
أفعاله فوجب أن يكون خلقها لغرض ولا يخلو عند ذلك إنما
يكون خلقها ليضر بها أو لينتفع بها ولا يجوز أن يقال خلقها
ليضر بها لأنه حكيم لا يبتدئ بالضرر ولأن الإضرار بمن لا
يستحق الإضرار سفه فدل أنه خلقها لينتفع بها وإذا خلقها
لينتفع بها فلا يخلو أما أن يكون خلقها لينتفع بها نفسه أو
ينتفع غيره وهو العباد ولا يجوز أن يكون لينفع نفسه لأنه
غنى عن المنافع ولا يتصور أن يصل إليه نفع فدل أنه خلقها
لينفع بها عباده وإذا خلقها لينفع بها عباده فيكون خلقها
إذا لهم في الانتفاع بها فإن قلتم خلقها ليستدل بها نقول
إنما يصح الاستدلال بها إذا عرفت والمعرفة بها موقوفة على
إدراكها وإن قلتم: خلقها ليجتنب العبد عنها ويصير العبد
يبتلى بذلك فإذا اجتنب يستحق الثواب نقول في هذا إباحة
الإدراك1 أيضا لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا دعت
النفس إلى إدراكها ولابد في ذلك من تقدم إدراكها حتى إذا
أدركها وصارت النفس داعية إليها حينئذ إذا اجتنب استحق
الثواب فثبت أنه كيفما كان الأمر لا فائدة في خلقها وتركبت
المنفعة فيها إلا الإباحى للانتفاع بها دليل آخر وهو أنه
يحسن من العقلاء التنفس في الهواء والاستنشاق من النسيم
ويجوز أن يفعلوا منه أكثر ما يحتاج إليه للحياة ومن رام أن
يقدر على نفسه ذلك فلا يزيد على قدر ما يحتاج إليه للحياة
عده العقلاء من المجانين والعلة في جواز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "الأراك".
ج / 2 ص -51-
ذلك
أنه انتفاع لا يعلم فيه مفسدة ولا مضرة وهذا موجود في كل
ما ينتفع به ولا يجوز أن يقال: إن علة حسن ذلك بقاء الحياة
به وفى تركه إهلاك النفس لأنا إنما عينا الإلزام في موضع
يفعل منه ما يبقى الحياة بدنه وعلى أن الكف عن التنفس وإن
أدى إلى إتلاف الحياة فلم يجب أن يقبح ولا يجوز ذلك قالوا:
وإذا ثبت بهذه الدلائل حسن الانتفاع بهذه الأعيان وإن
الخلق وقع لذلك بطل القول بالحظرية وبطل القول بالوقف.
ببينة: أنه إذا اعتقد الوقف فلا يكون وقفا
لأن الاعتقاد إذا وجب بطل الوقف واستدل أبو زيد بقوله
تعالى: {هُوَ
الذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}
[البقرة: 29] وبقوله تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية: 13] قال: وإن الله تعالى ما حرم شيئا من المتناولات
والانتفاعات وما سوى ذلك إلا لمصالح تعود إلى العباد في
الحرمة فحرم الزنا1 لما فيه من ضياع النسب وحرم الإسراف في
الأكل لما فيه من الضرر وحرم تضييع المال لما فيه من السفه
وحرم الخمر لما فيها من نقص العقول والصد عن ذكر الله
تعالى وحرم القمار لما فيه من البغضاء والعداوة ولما فيه
من السفه بتضييع المال وحرم الخنزير2 لما في أكله من عدوى
طبعه إلى الآكل وكذلك سائر السباع العادية3 وحرم علينا
الخبائث حتى لا يعدوا إلينا الخبث الذي منها وأباح عند
الضرورة لأن ضرر الهلاك فوق عدوى الخبث. فثبت أن التحريم
كله مصالح للعباد فكان النهى من الله تعالى على سبيل نهى
الطبيب المريض عن بعض الأغذية لصلاح المريض ثم أنه يمنحه
له إذا صار الصلاح في التناول وكذلك نهى عن شرب الدواء في
بعض الأحوال ويأمر بذلك في بعض الأموال من غير تبدل حال
المشروب في نفسه بل تبدل حال الشارب وقد يبيح الطبيب شيئا
لإنسان دون أنسان مع اتفاق حالهما لاختلاف مصالحهما فثبت
أن الحرمة لا تكون إلا لمصلحة تعود الينا فإذا لم يعرف في
التحريم مصلحة بوجه وبما تعين التحليل وثبت أن الأصل هو
الإباحة وأن التحريم يكون يعارض دليل قال والدليل على هذا
أن الله تعالى [قال]: {قُلْ لا أَجِدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره ابن المنذر إجماعا انظر الإجماع لابن المنذر "112".
2 انظر المغنى "11/64".
3 قال الإمام ابن قدامة المقدسي: أكثر أهل العلم يرون
تحريم كل ذي ناب قوي من السباع يعدو به ويكسر إلا الضبع
منهم مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الحديث وأبو حنيفة
وقال الشعبي وسعيد بن جبير وبعض أصحاب مالك: وهو مباح انظر
المغنى "11/66".
ج / 2 ص -52-
فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ} الآية. فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه "الآية فعلم رسول الله
صلى الله عليه وسلم الاحتجاج بلا دليل على التحليل من طريق
الشرع وعدم الدليل لا يكون حجة على الإباحة فعلم أن
الإباحة في الأعيان المنتفعة بها اصل ثابت بدليل العقل
لأنه حجة يجب العمل بها حتى يتبين في الشرع إن الحق بخلاف
ذلك فيصير الدليل الشرعى كالمخصص بدليل العقل فيكون حكم
ذلك الخاص يرد على العام فيبقى العام حجة فيما لم يرد
الخصوص فيه هذا طريقته.
وقال بعضهم: إن الله تعالى غنى على الحقيقة جواد على
الحقيقة وبهذا الوصف يعرف الله من عرف الله والغنى الجواد
لا يتصور منه منع ماله عن عباده إلا ما كان فيه ضرر. فتكون
الإباحة [هي]1 الأصل باعتبار جوده وغناه والحرمة تعارض ولا
عارض يوجب الحرمة فتثبت الإباحة وأما من قال بالحظر. قال:
وذلك لآن الشئ إذا لم يكن له من الظاهر أصل يستدل به على
حكمه استشهد له بالنظائر والأمثلة والأشباه وألحق حكمه
بهذا وقد علمنا أن الأشياء كلها ملك الله تعالى وله الخلق
والأمر وملك الغير لا يجوز تناوله إلا بإذنه فوجب أن تكون
الأشياء كلها على الحظر وينبغى أن تبقى الأشياء على ملك
مالكها ولا يتعرض لشئ منها إلا بإذنه وأمره ولأن الملك علة
الحرمة على غير المالك بدليل سائر الأملاك. فإذا وجدت علة
الحرمة ولم توجد علة الإباحة كان الشئ على الحرمة هذا
مجموع كلام المخالفين. وأما دلائلنا أعلم أولا أنه ليس
معنى الوقف هو أنه يحكم به لأن الوقف حكم مثل الحظر
والإباحة والدليل الذي يمنع من القول بالحظر والإباحة يمنع
من القول بالوقف وإنما يعنى الوقف أنه لا يحكم للشئ بحظر
ولا إباحة لكن يتوقف في الحكم بشئ إلى أن يرد به الشرع
وإذا عرف هذا. فنقول: هذه المسألة بناء على أن يعمل مجرد
ما لا يدل على حسن شئ ولا قبحه ولا على حظره ولا تحريمه
وإنما كل ذلك موكول إلى الشرع فنقول المباح ما أباحة الشرع
والمحظور ما حظره الشرع فإذا لم يرد الشرع بواحد منهما لم
يبق إلا التوقيف إلى أن يرد السمع فيحكم به وقد دللنا بنص
من القرآن أن الحجة لا تقوم على الآدمى بالعقل مجردة بحال
ببينة: أنه ليس من الحكمة تخلية الإنسان
وعقله؛ لأن عقول عامة الناس معمورة بالهوى مكفوفة عن بلوغ
المقالة بالميل الطبعى إلى خلاف ما يهتدى إليه ولهذا النظر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "هو" ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -53-
أكثر
العقلاء في مهاوى الحيرة ولحقهم من الدهش والتردد ما ليس
وراءه غاية والدليل على هذا أنا لا نجد أحدا خلاه الله
وعقله بل بعث الرسل وأنزل الكتب ولو كان العقل يستقل بشئ
ما لجاز أن يوجد عبد خلى وعقله من غير أن يدخل تحت رتبة
أحد من الأنبياء إلى صانعه وهؤلاء الفلاسفة الذين اتبعوا
العقول ولم ينقادوا لأحد من الأنبياء فيما يعرف أو أرادوا
إدراك الحق بالعقل المحض إما يرآهم المعتبر ارتكسوا
وانتكسوا ولادته في النظر العقلى إلا وهو دون دقة نظرهم
فإنهم بلغوا من هذا الباب إلى ما يجاز دونه الوهم ويضل عن
إدراكه الفهم هذا بعد قيامهم على أخلاقهم بتهذيبها وعلى
طبائعهم بتأديبها ورضى أكثرهم من الدنيا بالقوت اليسير
وعزوف أنفسهم عن الملاذ والشهوات فلما تخلوا وعقولهم
وطلبوا الحق من جهته ولم يصلوا إليه بتأييد سماوى وبرهان
إلهى ووحى غيبي ترددوا وسلكوا واعتقدوا العقل الفعال
والنفس الكلى وعلة العلل والهيولى وغير ذلك من ألفاظ مهولة
وضعوها على وفق مذاهبهم وقد كان قصدهم طلب الصانع ولكنهم
لما تخلوا بعقلهم وخلوا وعقلهم فليعتبر معتبر ولينظر ناظر
إلى أي شئ صار أمرهم وأى شئ. فإنهم على وفق ما ذهبوا إليه
لا يتصور اعتقاد وحدانية الصانع وكثير منهم اعتقد خمسة
قدماء وكثير منهم اعتقد قديمين اثنين إلى غير ذلك مما لا
يخفى على العلماء والسعيد من وعظ بغيره فليبق امرؤ وزنه
وليبق على نفسه ولا يدخل في دينه ما ليس منه وليتبع الوحى
الشرعى والتمس التأييد الإلهي ولا يعتبر بزخارف من القول
وأباطيل من البهت فإنها خدع الشيطان وتسويلات النفوس
وخذلان من الله عز وجل يلحق العبد ولا عقوبة من الله تعالى
أعظم من أن يكل العبد إلى نفسه وحوله وقوته ويخليه و رأيه
ومعقوله ويحول وجهه إلى الطاغوت الأعظم والصنم الأكبر وقد
جعل التبرى من حول الله وقوته إلى حول نفسه وقوته من
المهلكات التي لا تلبث ولا تربث فأنشد الله عبدا وقف على
هذا أن يجعل كده ووكده وسعيه وجهده ليتخلص من هذه المذلة
العظيمة والورطة الهائلة فكم من هالك فيها لا نجاة له ووقع
في هذه المهواة لا نهوض به مستعينا بالله مستغيثا به
ملتجئا إليه مستعيذا به. ذكرنا أكثر من هذا في كتاب
"الانتصار" فمن يرغب فليرجع إليه وقد قال أصحابنا في هذا
أن هذه الأعيان ملك لله عز وجل له أن يمنع من الانتفاع بها
وله أن يبيح الانتفاع بها وله الانتفاع بها وقبل أن يرد
الشرع لا مزية لأحد لهذه الوجوه على
ج / 2 ص -54-
الباقي. فوجب التوقف.
فإن قالوا: بل إن الإباحة عندنا من قبل الله تعالى لكن
بدليل العقل. قلنا: قد بينا أن العقل لا يستقل بإثبات شئ
أو نفيه وأما الدليل الذي اعتمدوا عليه فسنجيب عنه ثم.
فنقول في إبطال الحظر والإباحة: إن القول بذلك يؤدى إلى
القول بالمتنافيين المتضادين وهذا لا يجوز. وبيان ذلك: أن
من قال بالإباحة. فليزمه أن يقبح اعتقاد من خالفه في ذلك
بحظره عليه لأن القول به داخل في جملة الأشياء التي يقتضى
قوله إباحتها وكذلك من قال أنها على الحظر وهذا داخل في
جملتها فدل أن المعتقد لواحد من المذهبين يلزمه القول
بالمتنافيين وعندي أن هذا ضعيف عند المتأمل والأولى ما سبق
واستدل الأصحاب أيضا بقوله تعالى:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ
رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ
آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ}.
فاعلم أن من ادعى تحليل شئ أو تحريمه بغير إذنه. فقد افترى
عليه. فإن قالوا: قد أذن الله تعالى في ذلك بدليل العقل
قلنا بينا أن دليل العقل ساقط
وأما الجواب: أما تعلقهم بقوله سبحانه وتعالى:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ}. قلنا: نحن لا نحرم ذلك وهذا يلزم أن لزم على من يعتقد الحظر. فأما
من لا [يقول]1 بحظر ولا [أباحة]2 فلا يلزمه ذلك وعلى أن
الآيه وردت في قوم الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة وكانوا
يعتقدون ذلك قربة إلى الله عز وجل. ويقولون: لا نطوف في
ثوب عصينا الله تعالى فيه وكانوا يحرمون البحيرة3
والوصيلة4
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "يقوم" ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 كلمة غير مقروءة في الأصل.
3 قال في القاموس المحيط: البحيرة كانوا إذا أنتجت النلقة
أو الشاة عشرة أبطن وتركوها ترعى وحرموا لحومها إذا ماتت
على نسائهم وأكلها الرجال أو التي خليت بلا راع أو التي
إذا أنتجت خمسة أبطن والخامس ذكر بحروا أذنها فكان حرام
عليهم لحمها ولبنها فإذا ماتت حلت للنساء لأو هي ابنة
السائبة وحكمها حكم أمها أو هي في الشاة خاصة إذا نتجت
خمسة أبطن بحرت وهي الغريزة أيضا انظر القاموس المحيط
"1/367, 368".
4 قال في القموس: والوصيلة الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن
من الشاء التي وصلت سبعة أبطن عناقين فإن ولدت في السابعة
عناقا وحديا قيل: وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا
الرجال دون النساء النظر القاموس المحيط "4/65".
ج / 2 ص -55-
والسائبة1 والحام2 وكان قوم يقال لهم: الحمرة وكانوا
ابتدعوا أشياء منها: أنهم لا يسلئون3 السمن لانه قطوان
الأقط ولا يدخلون البيوت من أبواب البيوت وغير ذلك فأنزل
الله تعالى فيهم هذه الآية وأنزل فيهم أيضا قوله:
{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} الآية. وأما قولهم: إن الانتفاع بما فعل في هذا المحل فليس فيه
وجوه من وجوه القبح. قلنا: هذه طريقة منصوبة لبيان أن
الانتفاع بالمحل أكل مباح في العقل ونحن قد بينا أن العقل
لا يجوز أن يفيد بنفسه حسن شئ ولا قبحه. ثم قد قيل: على
هذا إما لا نسلم أنه انتفى عنه وجوه القبح بكل حال لأن
جواز كونه مفسده قائم وجواز كونه مفسدة يكنى في إظهار وجه
القبح كالخبر إذا جاز أن يكون كذبا قبح من ذلك.
ونعني بقولنا: أنه يجوز أن يكون مفسدة هو أنه لا يجوز أن
لا يبيح الله تعالى هذا الشئ إذا لم يبح يكون الإقدام عليه
قبحا أو مفسدة وأيضا يجوز أن لا يكون الإقدام على هذا
مصلحة فإن إمكان الانتفاع بالشئ لا يوجب كونه مصلحة. لجواز
أن يكون المحل منتفعا به ولا يكون الانتفاع به مصلحة عند
الله تعالى. فإن قالوا إن الغالب فيما هذا سبيله. أن لا
يكون فيه وجه قبح. قلنا: لم زعمتم أن الغالب ما ذكرتم ولم
إذا كان الغالب ذلك لا يكون تجويز وجه القبيح كافيا بالقبح
فأما قولهم إنما يحسن الإحجام أذا كان على المفسدة أمارة
قلنا: قد يكون أمارة وقد لا يكون أمارة وتجويز المفسدة في
الموضعين يوجب وجه القبح لأن العقل مانع من الإقدام على
القبيح وعلى ما يجوز أن يكون قبيحا وكم من أشياء مجوزة لا
أمارة عليها. يدل عليه أنا لما رأينا عند استقرار الشرع
كثيرا من الأشياء التي ينتفع بها محرمة ورأينا كثيرا من
الأشياء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في القاموس والسائبة المهملة والعبد يعتق على أن لا
ولاء له والبعير يدرك نتاج نتاجه فيسيب أي يترك لا يركب
والناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه أو كانت إذا
ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت أو كان الرجل إذا قدم من
سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال عي سائبة أو كان
ينزع من ظهر فقاره أو عظما وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ
ولا تركب انظر القاموس المحيط "1/84".
2 الحام: -فحل الإبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه
ودعوه للطواغيت ةأعفوه عن الحمل فلم يحمل عليه شيء وسموه
الحامي انظر تفسير ابن كثير "2/107".
3 سلأ السمن كمنع طبخه وعالجه كاستلأه القاموس المحيط
"1/18".
ج / 2 ص -56-
مباحة
مطلقة. فمن أين وقع الأمان لنا. إن هذه الأفعال ليست قبيحة
وقد جاز كونها حسنة وكونها قبيحة فأما الامتناع من تناول
الطعام لجواز كونه مسموما. فليس أمارة إنما لم يحسن لأنه
يرى من تقدم عليه ولا مفسدة في حقه وكذا في الحائط
المستقيم يرى من يقوم تحته ولا مفسدة عليه. أما ها هنا فلا
أمان أن يكون التناول مفسدة عند الله تعالى ولا مثال يوجب
الأمان. فلم يحسن خوفه وامتناعه. وأما قولهم: لو قبح
الإقدام لجواز كونه مفسدة أيضا. قلنا: نحن نقول: إن العقل
لا يوجب إقداما ولا إحجاما وإنما علينا الكف فإن قالوا
ربما يكون الكف مفسدة.
قلنا: الكلام في جواز الإقدام لا في وجوب الإقدام ومن يجوز
له الإقدام على شئ من غير أن يوجب عليه لا يكون ترك ذلك
مفدسة. فأما مع تجويز الحظر يجوز أن يقال إن الإقدام يكون
مفسدة وعلى أنا نقول: إذا جوزنا وجود المفسدة في الإقدام
والإحجام جميعا. فلا جرم لم ينفك فعل من هذه الأفعال عن
سمع يطلق الإقدام أو يوجب الإحجام وإنما كلامنا على تقدير
عدم السمع أو يكون الكلام في أن السمع الوارد بالإباحة ورد
مقدرا للإباحة أو مثبتا للإباحة ابتداء فعندنا هو مثبت
للإباحة ابتداء. وعندكم هو مقرر للإباحة مؤكد لما ثبت في
العقل منها.
وأما قولهم: أنه لابد من أن يكون خلو المعنى. قلنا: تعليل
أفعال الله تعالى لا يجوز ويكون باطلا عندنا وإنما يخلق ما
يشاء ويفعل ما يرد من غير أن يكون لذلك علة بوجه ما وعلى
أنه يجوز أن يكون خلق هذه الأشياء ليعتبر بها فيعرف قدرة
الله تعالى ويتأمل حكمته فيها وألغيت فعل ما ليس له وجه في
الحكمة.
ببينة: أنه يجوز أن يعبد الله تعالى بأن
لا يأكل هذا المأكول ولا يشرب هذا المشروب كما يتعبده بما
يؤلمه ويؤذيه ويؤدى إلى تلفه كما تعبدنا بالجهاد والختان
وكما تعبد بنى اسرائيل بأن يقتل بعضهم بعضا.
وقوله: إنه لا يتحقق الابتلاء وتعريضه للثواب إلا بعد أن
يثبت على حقيقته ويعرف ويحسن بميل طبيعته إليه. ثم يكلف
الاجتناب عنه. قلنا إذا عرف أنه مأكول أو مشروب ونفسه
متشوقة إلى المأكول والمشروب طبعا. ثم أمر بالاجتناب عنه
بتحقيق الابتلاء وتعريضه للثواب.
وقولهم: إنه إنما يقبح التصرف في ملك الغير بكذا وكذا.
قلنا: الملك سبب التصرف فإذا فات سبب الملك قبح التصرف
ولأنه يجوز أن
ج / 2 ص -57-
يكون
في التصرف السخط من المالك. فإن قالوا: ويجوز أن يكون في
ترك التصرف السخط في المالك. قلنا: قد أجبنا عن هذا وأما
كلامهم وتعلقهم بالتنفس في الهواء والاستنشاق من النسيم.
قلنا: بينا أن الإذن في الشريعة من وجهين:
أحدهما: من طريق اللفظ ومعناه.
والآخر: من طريق الضرورة الداعية إليه فكل
شئ اضطراه الله إليه فقد أذن له فيه ورفع الحرج عنه وإذا
كان كذلك لم يخل هذا النوع من دليل الإباحة ويمكن أن يقال:
إنما يحسن من الإنسان أن يتنفس ليطفى عن قلبه الحرارة وذلك
يحتاج إليه في الحياة ويضطر إلى فعله وما زاد عليه فلا
يحسن وهذا هو الجواب عن قولهم: إنه يحسن منه هذا الفعل.
بأن زاد على قدر الحياة.
واعلم أن هذه الكلمات يمكن تمشيتها في الجملة لكن الأولى
عندي أن يقتصر على الأول وهو منع ثبوت شئ مما يعتقدونه
بمجرد العقل وأما طريقة أبى زيد. قلنا: أما تعلقهم بقوله
تعالى: {هُوَ
الذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}.
فإنما هو والله أعلم على معنى أنه لم يخلقها ليتكثر بها أو
لينتفع بها وإنما خلقها ليعتبر الخلق بها ويتأملوا قدرة
الله تعالى وحكمته فيها وقد يكون أيضا على سبيل الاعتداد
والامتنان بها عليهم وتعريفهم موضع النعم فيها وليس في ذلك
دلالة على أنهم يستبيحونها كما شاءوا أو يتناولونها من غير
إذن منه فيها وتقدير وترتيب لها فموضع الحظر إذا تعد باق
وهذا كما يقول الرجل لولده إنما أجمع المال لك وأسعى
والكدح بسببك وكما يقول الأمير لجنده وخدمه إنما أجمع
الأموال لكم وأدخرها من أجلكم ومعلوم أنه لا يريد بهذا
القول تمليكها بينهم وإطلاق تصرفهم فيها من قبل أن يخرجها
إليهم على الوجه الذي يسنح له من الرأى في قسمتها بينهم
وإيصال ذلك إليهم في الوقت الذي يختاره لا في الوقت الذي
يختارونه وإنما قال ما قال ليلزمهم به المنتبه1 ويعرفهم
موضع النعمة ثم يكون إطلاق ما يطلقه لهم منها في أوقات
مؤقته على مقادير معلومة على حسب ما تدعو إليه الحاجة
ويعلم فيه المصلحة.
وأما قوله: إن الحرمة الثابتة للأشياء على وجه المصالح على
ما ذكرنا قلنا أولا: إن القول بالمصالح باطل ونحن نعلم
قطعا أن الله تعالى يفعل بالخلق ما هو الأصلح لهم وأيضا
فإنه لا يجوز أن يقال: إنه قصد لطفه في فعل الأصلح بهم بل
ما من أصلح إلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كشط بالأصل.
ج / 2 ص -58-
ووراءه
أصلح منه وما هو لطف يوصله إليهم إلا ووراءه ما هو ألطف
منه ولو وجب فعل ما هو صلاح لهم لوجب فعل ما هو أصلح لهم
وقد عرفنا أن الأصلح ليس له نهاية في قدرة الله تعالى
وعلمه وإن حكموا بنفاده وانتهائه فهذا قول يؤدى إلا تناهي
القدرة وهذا لا يقول به أحد. ثم نقول كما أنه يحرم ما
يحرمه للمصلحة فكذلك يبيح ما يبيحه للمصلحة فبأى طريق
عرفتم وجه المصلحة في الإباحة؟ بل يجوز أن يكون مفسدة على
ما سبق وينبغى إذا كانت الإباحة عقلية أن لا يجوز ورود
الحظر وقد أجمعت الأمة على جواز الحظر وأجمعوا أيضا أنه قد
[ورد]1 الحظر في مواضع ليس فيه إلا مجرد التكليف أو مجرد
الابتلاء وأيضا فإن ما ذهبتم إليه مفسدة وسنبين ذلك وهو أن
الأشياء لو كان أصلها على الإباحة حتى يكون لكل واحد من
الناس تناولها والتبسط فيها أدى ذلك إلى أن لا يصلوا إلى
حاجتهم منها وإلى أن تتعطل منافعهم لأن في طباع الناس من
الحرص والشدة والاستكبار من الشئ ما لا يخفى على ذى لب
فيدعوهم طباعهم إلى الازدياد والاستكبار عن كل شئ أبيح لهم
فيقع بينهم التزاحم والتغالب وربما يؤدى إلى التجاذب
المفضى إلى التنازع والمؤدى إلى القتال والمحاربة فينقلب
الشئ الذي قدروها مصلحة مفسدة ويتبين خطأ ظنونهم وغلط
مقاديرهم من عقولهم وليس يدخل في هذا إباحة الحطب عقولهم
والحشيش والماء لأن هذه الأشياء ليست مما يقع فيها التنافس
ولا تميل إليها الطباع من الاستكبار عنها وطلب الثروة من
جمعها وأما المباحات من الذهب والفضة والجواهر فهى ما لا
يوصل إليها بكد عظيم وتعب شديد فليس مما يرغب في ذلك كل
إنسان ويسمح بتعب ذلك وتحمله كل نفس فلا يؤدى إثبات
الإباحة لكل أحد إلى المفسدة التي بيناها وأما إثبات
الإباحة في الأشياء كلها على العموم لكل احد فيؤدى إلى
المفسدة التي ذكرناها. فوجب الاحتراز عليها لأن الاحتراز
عن كل ما يجوز أن يفضى إلى المفسدة واجب على أصلهم وفيما
قالوه يؤدى إلى المفسدة فهذه جملة ما قصدنا إيراده في هذه
المسألة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت بالأصل: ورود ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -59-
"فصل"
وقد ذكر أبو زيد أقساما فيما يرجع إلى العقل فذكر أولا
موجبات العقل. قال: ونعنى بالوجوب. الوجوب في الذمة حقا
لله تعالى بوقوعه علينا لا وجوب الأداء والتسليم إلى الله
تعالى فإن الأداء لا يجب قبل الشرع. قال: وهذه الواجبات
أربعة معرفة نفسه بالعبودية ومعرفة الله بالألوهية ومعرفة
العبيد الابتداء إلى حين الموت بطاعة الله على أوامره
ونواهيه للجزاء الوفاق خالدين ومعرفة الدنيا وما فيها بضرب
يقع يعود إليهم منها. وقال: ونعى بموجب العقل ما دل عليه
العقل قطعا إذا استدل به العبد إلا أن يكون دينا يجب فعله
لله تعالى لأنه يبتلى به وما يجب للحياة الدنيا لا نصفه
بالوجوب عليه لحق الدنيا وإنما نصفه بالوجوب لحق الدين
ويجب الأكل والشرب عليه دنيا وكذلك التنفس والتحصن من شر
الأعداء ودفع الحر والبرد ولو ترك هذه الأشياء أثم وإنما
جعلنا الوجوب دينا لأن ما كان لحق الدنيا فالآدمى فيه
بمنزلة البهائم فلا يوصف بالوجوب وأما الجماع فحظ الدين
فيه بقاء الجنس إلى قيام الساعة لأن الله تعالى حكم ببقائه
إلى تلك المدة وعليه بالجماع وفرض عليه دينا للمبتغى
لإقامة حكم الله تعالى لأنه لا تبديل لحكمه غير أن هذا
الحكم يتأدى بجماع البعض فلم يجب على كل واحد بخلاف الأكل
فإن الله حكم ببقاء كل شخص إلى خير وعلق بأكله لا بأكل
غيره فتعين كل شخص بوجوب الأكل عليه دينا وطبعا. ثم إنا
قلنا: إن هذه الأحكام الأربعة واجبه بالعقل دينا اله تعالى
أما معرفة نفسه بالعبودية لأن قوامه باجتماع أجزاء
والاجتماع عرض يضاد القدم فيلزمه الحكم على نفسه بالحدث
ويعرف أنه مملوك لأن المملوك لغة ما قهر بيد الاستيلاء
والآدمى مقهور بالتكوين والأشياء مقدور عليه مركب من طبائع
مختلفة وأمشاج متباينة يجرى أمره على مقتضى اختلاف طبائعه
وتباينها وإذا عرف أنه مملوك عرف أنه عبد لأن العبد اسم
خاص للملوك من العقلاء الصالحين لفعل العبادة فإذا عرف
نفسه بهذه الصفات عرف ربه ضرورة لأن كونه محدثا لا يخلو من
محدث وكونه مقدورا عليه لا ينفك عن قادر وكونه مملوكا لا
ينفك عن مالك وكونه عبدا لا يخلوا من إله. فإن العبد اسم
لمن خلق للعبادة ولابد للعبادة من معبود والإله اسم لمن
يستحق العبادة فيعرف بضرورة هذه الصفات التي ظهرت عليه من
حيث لا شك فيه أن له إلها مالكا
ج / 2 ص -60-
قادرا
محدثا. قال: ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "من عرف نفسه
عرف ربه"1. قلت: وهذا لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما هو لفظ محكى عن يحيى بن معاذ الرازى وهذا نتيجة
الجهل بأخبار النبى صلى الله عليه وسلم والواجب على
الإنسان أن يحكم ما قال الله أولا وما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ثم ينصب نفسه منصف المتصرفين ويستشهد على
تصرفه بما نطق به الكتاب وبما نطق به الرسول صلى الله عليه
وسلم ونستعيذ بالله من غلبة الجهل وفرط الهوى وطغيان العقل
وهو العاصم بمنه رجعنا إلى حكاية قوله: وإذا عرف أنه خلق
لعبادة ربه ولا يجوز في الحكمة خلق الصنع عن عاقبة حميدة
وعاقبة الصنع عن العقلاء أحد أمرين: فإنه يعود من حدث نفع
أو دفع ضر أو ظهور الفاعل بجلاله وعظمته وكرمه وصفاته
الحسنى بذلك الصنع كذا غيره والله يتعالى عن المعنى الأول
فيتعين الآخر وهو ظهور عظمته وجلاله وكرمه وحكمته وسائر
صفاته ولما ظهر بهذه الصفات طلب من الحق الثناء والحمد له
بإحسانه إليهم شكرا له على ذلك فكان خلق الناس من الله
تعالى لهذه الحكمة وهو أن يعرفوه ويشكروه ثم وجدنا الناس
بين شاكر وكافر قال: فقد خلق الله العباد ليعبدوه بأمره
لهم لا يجبرهم عليه وقد جعلهم مختارين في الإجابة مبتلين
بشهوات معلومة تصدهم عن الإجابة قال: والدليل على أنهم
مختارون أن العقلاء يجدون من أنفسهم وفى أفعالهم حد
الاختيار ضرورة ويحسبون ذلك قطعا ويجدون في انفسهم ما
يصدهم عن طاعة الله تعالى وما يدعوهم إلى خلافها وفى ذلك
فوات عاقبة الصنع وفوات عاقبة الصنع دليل عجز الصانع تعالى
الله عن ذلك فعلمنا أن وجود تعليق وجود الطاعة بالإختيار
من العبيد مع وجود الهوى والشهوات الصادة عن طاعة الله
تعالى وعن الإجابة كان لحكمه أخرى هي فوق حصول الطاعة بلا
فوت وذلك هو أن الله تعالى خلقهم وأمرهم بهذه الإعمال
ليجازيهم عليها بوفاق أعمالهم الإحسان بالإحسان والسيئة
بالسيئة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 موضوع: ذكره الحافظ العجلوني وقال: قال ابن تيمية موضوع.
وقال النووي قبله: ليس بثابثت وقال أبو المظفر بن السمعاني
في القواطع [وهو كاتبنا]: إنه لا يعرف مرفوعا وإنما يحكى
عن يحيى بن معاذ الرازي يعني من قوله وقال ابن الغرس بعد
أن نقل عن النووي أنه ليس بثابت قال: لكن كتب الصوفية
مشحونة به ويسوقونه مساق الحديث وللحافظ السيوطي فيه تأليف
لطيف سماه القول الأشبه في حديث من عرف نفسه وقال النجم
قلت: وقع في أدب الدين والدنيا للماوردي عن عائشة فذكر
نحوه انظر كشف الخفاء "2/344" ح "2532". وماقاله الحافظ
العجلوني يعتبر توثيق لكتابنا القواطع. طلب العلم/ محمد
فارس.
ج / 2 ص -61-
ثم لما
وجب القول بدار الجزاء على هذه الأعمال وجب القول بالخلود
والبقاء لآنا أوجبنا هذا الترتيب لبيان حكمة الله تعالى
فيجب أن لا تفوت هذه الحكمة لأنها إذا فاتت صار فعله عبثا
فكما لا يفوت العاقبة المطلوبة من الصنع عن الصانع ابتداء
لا يعجزه فكذلك لا يفوت بعد الوجود إلا بعجزه وتعالى الله
عن ذلك وبهذا نطق الكتاب قال الله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ
إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}
[المؤمنون: 115] أى حسبتم أنا عبثنا بخلقكم ثم نفى صفة
العبث بحكم الرجوع إليه فيبين أنه لا يجوز أن تكون الدنيا
دار ابتلاء بلا جزاء وقال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأحزاب: 72] الآية فأخبر أن الآدمى حملها عن اختيار لعاقبة تعذيب
المشركين ومغفرة للمؤمنين وقال تعالى: {الذي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلاً}
[الملك: 2] وقال تعالى:
{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ
وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154] ولما ثبت أن الصنع من الله تعالى لا يجوز إلا
لعاقبة الاستعباد للجزاء وما سوى الإنسان من المحسوسات لا
يصلحون للعبادة ولم يخاطبوا بها علم أنهم خلقوا لفائدة
تجلب منهم أو لضر يدفع بهم وتعالى عن ذلك فعلم أنه خلقها
لعود هذه الفائدة إلى عبده المبتلى بعبادته فإنه يحسن في
الشاهد فعل شئ لفائدة تعود إليه أو إلى غيره بهذا نطق
اكتاب قال تعالى:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً}
[الجاثية: 13] وقال تعالى:
{هُوَ
الذي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}
[البقرة: 29] وأيات في هذه المعنى كثيرة ثم ذكر محرمات
العقل قطعا للدنيا وهذه المحرمات أربعة: الجهل والظلم
والعبث والسفه أما الجهل فيكون بترك الاستدلال بنور عقله
والعاقل ما ركب فيه العقل إلا ليقف به على مصالح غائبة لا
تنال بالحواس وبه غلب ما في البر والبحر وسخرها وادعى
لنفسه كل شئ منها فمتى لم يستدل بنور عقله لم ينل شيئا مما
تمنى لنفسه من هذه المطالب فيحرم عليه بالعقل ما يفوت به
أغراض العقلاء كما يحرم به ترك الأكل الذي هو سبب حياته
وكما يحرم بالعقل ترك النظر بالعين عند إرادة الشئ إلى
موضع يحتاج إليه ويحرم أيضا إطفاء السراج ليلا مع إرادة
السلوك في المضائق لا يهتدى فيها إلا بسراج ولما حرم الجهل
قطعا حرم الظلم من طريق الأولى لأن تفسيره وضع الشئ في غير
موضعه فيكون الظلم مكابرة لما رأى بنور عقله فالأول نزل
كالذي لم يفتح عينيه حتى وقع في بئر يقبح منه ذلك والثانى
كالذي فتح عينيه ورأى البئر ثم
ج / 2 ص -62-
أوقع
نفسه فيها فهذا الفعل منه أقبح ومثاله من باب الشرع من
بلغته الدعوة والمعجزة فلم يتأمل وكفر كان قبيحا والذي
تأمل وعرف ورد تعنتا كان فعله أقبح وأما العبث فحرام عقلا
لأنه اسم لفعل يخلو عن الفائدة لأن نفس الفعل وإن قل لا
يخلو عن أدنى تعب فلا يحتمل هذا التعب عقلا إلا لفائدة
أولى منه وأما السفه فحرام أيضا لأن فيه مع خلو الفائدة
مضرة فكان أقبح من الأول لوجود معنى الأول فيه من فوت
الفائدة وزيادة ضرر فكان السفه من العبث بمنزلة الظلم من
الجهل ثم ذكر محرمات العقل للدين قال: وهذه المحرمات
أربعة: الإيمان بالطاغوت وكون الخلق للحياة الدنيا واقتضاء
الشهوات فيها والإنكار بالصانع جل جلاله والإنكار بالبعث
للجزاء أما الإيمان بالطاغوت اسم لما عبد من دون الله أو
سمى قديما دونه على حسب اختلاف المشركين والملحدين لان ما
دون الله لا يخلو عن صفات الحدث كما أن الإنسان بنفسه لا
يخلو عنه فلم حرم عليه القول بأنه الإله المعبود فليحرم
القول بغيره بطريق الأولى وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله:
{إِنَّ الذينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] يعني من حيث إنها مخلوقة. وأما القول بأن الدنيا
مخلوقة لاقتضاء الشهوات فحرام لأنك كما لا تجد نفسك وكل من
دون الله إلا وأمارات الحدث فيه ظاهرة كذلك لا تجد شهوة
إلا مشوبة بما لا يشتهي فإن الحياة رأس مال الحى وقد ابتلى
الحى بالموت والشهوة شهوتان شهوة بطن وشهوة فرج وما سواهما
اتباع في حق الحياة وشهوة البطن الأكل والاكل لا ينال اصله
إلا بضرب كسب ويحتاج بعده إلى قضاء الحاجة الذي إذا عرف
العاقل قبحه لم يباشر سببه مع الإمكان بدونه ألا ترى أن
الأكل في الآخرة كيف يخلو عن الكسب وقضاء الحاجة لما كانت
الدار لاقتضاء الشهوة وأما الجماع لا ينال إلا بطلب وشبق
ثم لا يقضى إلا بذهاب القوة فحرم القول أنه خلق لاقتضاء
الشهوة حيث لا ينال ما يشتهي إلا بماء لا يشتهى وأما الكفر
بالله فحرام لأنه من حيث عرف نفسه مخلوقا يعرف خالقه
والمنعم عليه والكفر بمن أنعم عليه حرام لأنه بمنزلة من ذم
من أحسن إليه فيكون كذبا وظلما وسفها فقد وضع الشيء في غير
موضعه ولما حرم الكفر بالله تعالى حرم إنكار البعث للجزاء
لأن خلق الدنيا بدون البعث للجزاء عبث من الله تعالى ووصف
الله تعالى بالعبث كذب عليه كالكفر كذب على الله فكان بابا
واحد وبالله التوفيق ثم ذكر المباحات التي تجوز عقلا
للدنيا قال: وهذه أربعة أقسام قال: وأعنى بالجوز أنه يجوز
أن يكون مباحا عقلا وهذه الأقسام نحو مباشرة
ج / 2 ص -63-
أسباب
البقاء فوق ما يندفع به الضرورة وجميع المال فوق الحاجة
والتزين بأنواع ما يتجمل به على وجه لا يتعلق به القوام
والجماع إلا لطلب الولد وفوق ما يكتفى به الولد فهذه
إباحات غير واجبة بالعقول ولهذا جاء الشرع فيها بالإباحة
مرة والتحريم أخرى وأما موجبات العقول لا يرد الشرع
بخلافها لأن الشرع والعقل حجتان لله سبحانه وتعالى على
عباده يتأيد أحدهما بالآخر ولا يتناقص فمجئ الشرع بالتحريم
دليل أن العقل يجوز تحريمه وذكر من هذا الجنس كلاما طويلا
ذكرنا المقصود من كلامه واعلم أن هذا الكلام كله بناء على
أن العقل موجب بنفسه وعندنا أن هذا المذهب خلاف مذهب أهل
السنة والجماعة والنص من الكتاب قاطع على خلافه وقد سبق
بيانه فلا معنى للاشتغال بالزيادة عليه فإن قيل المسألة
التي ذكرتم أن الأشياء كانت على الإباحة أو لا وقد أطنبتم
الكلام فيها وهى لا تفيد في الفقه شيئا وإنما الكلام فيما
يقتضيه العقل فلا معنى لإيرادها لأن أصول الفقه لا ينبغى
أن تشتمل على ما يفيد في الفقه والجواب أن لها فائدة في
الفقه وهو أن من حرم شيئا أو أباحة فقال طلبت دليل الشرع
فلم أجد فبقيت على حكم العقل من تحريم أو إباحة هل يصح ذلك
أم لا؟ وهل هذا دليل يلزم خصمه أم لا؟ وهذا أمر يحتاج
الفقيه إلى معرفته للوقوف على حقيقته. قال القاضي أبو
الطيب: سمعت بعض أصحاب داود احتج في إباحة استعمال أوانى
الذهب1 في غير الشرب فقال: الأصل في [الأشياء]2 الإباحة
وقد ورد الشرع بتحريم الشرب فوجب أن يبقى ما عداه على
الإباحة فقال أهل العلم لهذا المحتج مذهب داود أن هذه
الأشياء على الوقف في العمل عما يرد به الشرع فإذا كان
كذلك لم يجز إثبات إباحتها بهذا الطريق فلا يكون إباحتها
بعدم دليل شرعي بأولى من حظرها وبطلت حجة هذا المحتج فظهر
أن المسألة يفيد ذكرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر ابن قدامة المقدسي أن مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك
والإمام أحمد أنه يحرم استخدامهم انظر المغنى "1/62" وذهب
ابن حزم الظاهري إلى رأي الجمهور انظر المحلى "2/223".
2 في الأصل أشياء ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -64-
فصل: مجرد السكوت لا يدل عندنا على سقوط ما عدا المذكور:
كما يدل عند
من يذهب إلى أن الأشياء أصلها على الإباحة إنما هو بحسب
الحال وقيام الدليل عليه وذلك على ضروب أما سكوت النبى صلى
الله عليه وسلم عن الشئ يفعل بحضرته ولا يغيره ولا ينهى
عنه فإنه دليل الجواز وقد سبق هذا ولأن الله تعالى وصفه
بأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإذا رأى الشئ وسكت
عنه ولم يغيره دل أنه غير منكر وكذلك هذا فيما كان يبلغه
عنهم ويعلمه ظاهر من حالهم أو بتقرير عنه من عاداتهم مما
سبيله الاعتبار والاستشارة فلا يعرض لهم بنكير ولا يعتبر
كنوم أصحابه قعودا ينتظرون الصلاة فلا يأمرهم بتجديد
الطهارة وكعلمه أن أهل الكتاب يتعاملون بالربا ويشربون
الخمور فلا يتعرض لهم ويتصل بهذا ما استدل أصحابنا به من
سقوط الزكاة في أشياء سكت النبى صلى الله عليه وسلم عنها
من الزيتون1 والرمان2 ونحوهما وذلك أنه كان لا يخفى عليه
أن الناس يتخذونها كما يتخذون الكروم والنخيل وكان الأمر
في إرساله المصدقين والسعاة في أقطار الأرض ظاهرا بينا
وكان إذا بعثهم كتب لهم الكتب فيقرءوها بحضرته ويشهد عليها
ولو كان يجب فيها شئ لأمر بأخذه ولو أمر لظهر كما ظهر غيره
من الأشياء التي انتظمها الوجوب والإباحة فلما لم يكن كذلك
دل على سقوط الزكاة عنها. وأما قول من روى أنهم كانوا
يبيعون أمهات الأولاد على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فإنما لم يجر هذا المجرى في الدلالة على جواز بيعهن
لأنه لا يعلم إن كان يبلغه هذ الفعل عنهم أو يظهر له ذلك
من صنيعهم وقد قام الدليل على فساد بيعهن من وجوه فلم يجز
أن يعترض بهذا على مثل تلك الدلائل وأما الشئ إذا كان له
أصل في الوجوب والسقوط فإن السكوت قد يقع عنه في بعض
الأحوال استغناء بما يقدم من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي: واختلفت
الرواية في الزيتون فقال أحمد في رواية ابنه صالح: فيه
العشر إذا بلغني خمسة أوسق وإن عصر قوم ثمنه لأن الزيت له
بقاء وهذا قول الزهري و الأوزاعي ومالك والليث والثوري
وأصحاب الرأي وروى عن ابن عباس.
وعن أحمد: لازكاة فيه وهو اختيار أبي بكر وظاهر كلام
الخرقي وهذا قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وأبي عبيد
وأحد قولى الشافعي لأنه لا يدخر يابسا فهو كالخضروات انظر
المغنى "2/533".
2 انظر المغنى "2/553".
ج / 2 ص -65-
البيان
فيه وليس تكرر البيان واجبا في كل حال ومراتب الاستدلال
بالسكوت تختلف فأقوى ما يكون منه إذا كان صاحب الحادثة
جاهلا بأصل الحكم في الشئ ولم يكن من أهل الاستدلال
كالأعرابى الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم [وقد
أحرم وعليه الجبة فقال:
"انزع عنك الجبة واغسل عنك الصفرة"]1 وسكت عن الكفارة فدل ذلك أنها ساقطة عن الجاهل والناسى ولو كانت
واجبة لذكره إذ لم يكن يجوز إهمال ذكرها قولا على معرفته
بالحكم فيها مع العلم بمكانه في الجهالة والغباوة وذلك إن
علم تحريم اللباس علم عام عند العرب في جاهليتها وابتلائها
حتى أنهم كانوا لا يطوفون بالبيت إلا عراة ويخلفهم نساؤهم
وكذلك نهى النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يطوف بالبيت عريان وأمر فنودى به"2 فحين أمر النبى صلى الله عليه وسلم بنزع الجبة مع أن الحال هذا
ولم يتعرض للكفارة علمنا أنها غير واجبة ومن هذا الباب وإن
كان دونه في المرتبة خبر الأعرابي المجامع في شهر رمضان
حين قال: هلكت وإنما جاء يعرف حكم الله تعالى فيما فعله
ويتوهم أن يلزمه حد وضرب من ضروب العقوبات فلما قيل: له
أعتق رقبة دل ظهره أنه جواب عن هلاكه وإهلاكه وهو إفطاره
وإفطار زوجته وكانت أمراته إنما تصل إلى العلم بما يلزمه
من جهته لغيبتها عن حضرة النبى صلى الله عليه وسلم وكان
قوله: افعل كذا محمولا على أنه يجزئ عنها وعنه وإنما صارت
دلالة هذا أضعف من دلالة الخبر الأول لأن السائل في هذا
الخبر قد أنبأ عن علمه بأنه ارتكب معصية الا ترى أنه قال:
هلكت وأهلكت وإذا كان المبتلى بالحادثة من أهل الاستدلال
كان دليل الشك معه أوهى وأضعف وأما قول الشافعى رحمة الله
عليه فيما يخرج من غير السبيلين ذكر الله الأحداث في كتابه
ولم يذكر هذا
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}
فإن قوما من أصحابنا تعلقوا به وقالوا: إنما رده إلى أصل
سكوت التكليف إلا بدليل وليس الأمر كذلك عند عامة أصحابنا
وإنما وجهه ومعناه أن المتطهر على طهارته ولا ينتقض وضوءه
إلا بحدث وما لم يقم دلالة على الحدث فأصل الطهر كاف فيه
وقال صلى الله عليه وسلم:
"فلا ينصرف حتى يسمع صوتا
أو يجد ريحا"3. ومن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: العمرة "3/718" ح "789" ومسلم: الحج
"2/837" ح "9/1180" ولفظه لمسلم.
2 أخرجه البخاري: الصلاة "1/569" ح "369" ومسلم: الحج
"2/982" ح "435/1347".
3 أخرجه البخاري: الوضوء "1/285-286" ومسلم: الحيض "1/276"
ح "98/361".
ج / 2 ص -66-
احتج
من هذه الطائفة بقوله وما سكت عنه فهو عفو1 فليعلم أنه ليس
بعام في جميع أنواع السكت لكنه خاص في محل مل لأنه لا يمكن
إجراؤه على عمومه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "عضو".
فصل: اعلم أن العادة غير موجبه شيئا بنفسها بحال
وإنما هى قرينه للواجبات أو منبئة عن المقاصد فيها.
كالغسل فإن الله تعالى قال:
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..}
[المائدة: 6] وكانت العادة جارية بأن يكون الغسل بالماء
صرف الأمر إلى ذلك وحمل عليه وإن لم يجر له ذكر لأن العادة
جرت بذلك ألا ترى أن قوله صلى الله عليه وسلم:
"إذا ولغ الكلب في إناء أحكم فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب"2 ذكر الغسل
وكانت دلالته أنه بالماء لما جرت به العادة ولما كانت
الثامنة أو السابعة بالتراب احيتج إلى ذكره لأن العادة في
ذلك مفقودة فلم يكن بد من النص عليه وكذلك إذا قال: بعتك
هذا الثوب بدرهم كان الدرهم مستحقا على عادة نقد البلد وإن
كانت الدراهصم مختلفة السك والجوهر متفاوته في الجودة
والرداءة وقد يعتبر بعض العادات في الأيمان يرجع إليها فة
مطلق الأيمان ولهذا قال الشافعى رحمة الله عليه: فمن حلف
لا يأكل الرءوس فأل رءوس الحيتان لا يحنث3 لأن عادة
المتكلمين بهذا الكلام قد جرت أنه يريد بهذا الرءوس التي
تبان من أجساد الحيوان وتقصد بالأكل دون ما كان منها تبعا
لأبدانها ولا يكاد القائل يقول أكلت الرءوس وهو يريد رءوس
الحيتان وإنما يقال هذا ويراد به رءوس الغنم وما يشبهها من
الحيوان ومن هذا الباب أن يوصى الإنسان بدابة من روابه
فيعطى بعض أجناس الدواب التي جرت العادة بركوبها ويعتبر في
ذلك عادة أهل البلد الذي فيه الحالف ولغتهم في التسمية وقد
قيل: إنه يدخل في هذا الباب ما يعطيه الإنسان خادم الحمام
والشارب للماء عند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 أخرجه البخاري في الوضوء "1/330" ح "172" بلفظ
"إذا شرب منه فليغسله سبعا" مسلم: الطهارة "1/234" ح "91/ 279" ولفظه.
3 قال الشيخ النووي: فإن أكل رأس طير أو حوت أو ظبي أو صيد
آخر لم يحنث على المشهور فإن كانت رءوس الصيد والحيتان
تباع مفردة في بلد حنث بأكلها انظر روضة الطالبين "11/37".
ج / 2 ص -67-
الاستقساء وإن لم يتقدم في ذلك شرط ولم يسلم له عوض لكن
العرف القائم والعادة الجارية نيوبان عن التسمية وكذلك هذا
فيمن استعمل إنسانا بالزور جار ونحوه فإنه قد يستحق عليه
أجر المثل وإن لم يتقدم في ذلك شرط وليس هذا من باب
الاستحسان لكنه من باب العادات التي صدرها عن الأصول
الصحيحة المشروعة وقد يرد هذا برفع العادة في بعض الأحوال
لمعنى من المعانى ولدليل أقوى من اعتبار العادة وهذا القدر
الذي قلناه كاف في هذا الفصل وليس بشئ مطرد حتى يطرد في
جميع المواضع والله أعلم انتهى ما قلناه وقصدناه وقد كنا
وعدنا ذكر باب التقليد في هذا الموضع لكنا رأينا بعد ذلك
أن الأولى أن نذكره عند وصولنا إلى الفصول المذكورة في
الاجتهاد وبيان أحكامه وتفسير المجتهد وذكر الأصوب من
الأقوال فأخرناه إلى ذلك الموضع إلى أن نصل إليه إن شاء
الله تعالى. |