قواطع الأدلة في الأصول

ج / 2 ص -3-   فصل وإذا أجمعت الصحابة على دليل في حكم لم يتعد
ويجوز للتابعين أن يستدلوا على ذلك الحكم بغيره من الأدلة1 وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم لم يجز خلافهم .
والفرق بينهما أن المفروض عليهم إظهار الحكم ببعض أدلته لا بجميعها فأما في الحكم فالمفروض عليهم إظهار جميع الحكم فلو كان للحادثة حكم آخر لما أظهروه وإن أجمعوا على علة في حكم يكون إجماعا على الحكم لأن العلل إنما تنصب للأحكام فيكون الإجماع على العلة إجماعا على الحكم وقال بعضهم: إنه يكون إجماعا على الدليل لا على الحكم والأصح: هو الأول لما بينا أن المقصود من العلل: أحكامها لا أعيانها. والله أعلم بالصواب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن محل النزاع إذا لم ينص أهل العصر السابق على إبطال الدليل أو التأويل الذي أحدثه أهل العصر الاحق أو ينصوا على صحة كل منهما فإن نصوا على الإبطال لم يجز اتفاقا لأن ذلك يكون فيه تخطئة له وتخطئتهم غير جائزه وإن نصوا على الصحة جاز اتفاقا أما إن سكتوا عنه ولم يقدح أهل العصر اللاحق في دليلهم أوتأويلهم فذلك هو محل النزاع وما ذكره المصنف هو رأي الجمهور وقد منع منه قليلون انظر المحصول "2/67" إحكام الأحكام "2/391" المعتمد "2/51" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/178".

فصل: الفصل الرابع: في معرفة ما ينعقد به الإجماع من الشروط:
اعلم أن من شروط الإجماع: ظهوره في أهل العصر حتى يعلم به أهل العصر الثاني وقد يكون ظهوره بالقول وقد يكون بالفعل وقد يكون بالقول والفعل جميعا فأما ظهوره بالقول إذا وجد يصح انعقاد الإجماع به وذهب بعض أهل العلم إلى أنه

 

ج / 2 ص -4-   لا ينعقد بالقول حتى يقترن به الفعل ليكمل في نفسه وهذا ليس بصحيح لأن حجج الأقوال أكثر من حجج الأفعال وإن كان كل واحد منهما إذا انفرد يكون حجة فلا يجب اجتماعهما كما لا يلزم الجمع في الحكم بين دليل الكتاب والسنة وإذا ثبت أن الإجماع على القول يكون حجة فقد يكون الإجماع على القول بوجوده من جميع أهل الإجماع وقد يكون بوجوده من البعض وسكوت الباقين بعد انتشاره فيهم وهذه المسألة اختلف أهل العلم فيها.
مسألة: إذا قال الصحابي قولا وظهر في الصحابة وانتشر ولم يعرف له مخالف كان ذلك إجماعا مقطوعا به.
ومن أصحابنا من قال: إنه حجة وليس بإجماع قاله أبو بكر الصيرفي وقيل: إن هذا مذهب الشافعي لأنه قال من نسب إلى ساكت قولا فقد افترى عليه وبهذا قال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة وبعض المعتزلة قاله أبو هاشم وقال القاضي أبو بكر ليس بحجة أصلا وهو مذهب داود وبه قال بعض المعتزلة واختاره أبو عبد الله البصري وقال أبو علي بن أبي هريره: إن كان وجد حكما من بعض الصحابة وانتشر من الباقين لم يعرف له مخالف لا يكون إجماعا وأن كان فتوى وانتشر ولم يعرف له مخالف يكون إجماعا وعكس هذا أبو إسحاق المروزى وقال يكون إجماعا إن كان حكما ولا يكون إجماعا إن كان فتيا1 والأصح هو القول الأول وأما من قال ليس بحجة أصلا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أنه اختلف الأصوليون في هذه المسألة على مذاهب خمسة:
المذهب الأول: لا يعتبر ذلك إجماعا ولا يكون حجة وهو منقول عن داود الظاهري ومختار الإمام الرازي والبيضاوي.
والمذهب الثاني: يعتبر ذلك إجماعا ويكون حجة مطلقا - مات المجمعون أو لم يموتوا وهو مذب الإمام أحمد وأكثر الحنفية.
والمذهب الثالث: يعتبر إجماعا ويكون حجة بعد موتهم لا في حياتهم وهو لأبي علي الجبائي.
والمذهب الرابع: يعتبر حجة ولا يكون إجماعا لأبي هاشم والجبائي.
والمذهب الحامس: إذا كان القول على سبيل الفتوى وسكت الباقون عن إنكاره كان ذلك إجماعا وحجة وإن كان حكما وسكت الباقون عن إنكاره لم يكن إجماعا ولا حجة وهو لأبي علي أبي هريرة من أصحاب الشافعي انظر نهاية السول "3/294, 295" المحصول "2/74" الإحكام للآمدي "/361" المعتمد "2/66, 67" روضة الناظر "123" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي على نهاية السول "3/295" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/167".

 

ج / 2 ص -5-   فاحتج في ذلك وقال: لا يمتنع أن يكون سكوت من سكت لتقية أو هيبة كما روى عن ابن عباس أنه لما أظهر قوله في مسألة العول قيل له: هلا قلت في زمان عمر رضي الله عنه قال: إنه كان رجلا مهيبا وروى أنه قال "هيبة"1. وأيضا يجوز أن يكون سكت لأنه لم يتفكر في المسألة لتشاغله بغير ذلك من الاشتغال إن كان فقيها فلعله اشتغل بالفكر في غيره من المسائل لأنها كانت أهم عنده وإن كان إماما فاشتغل بالجهاد وسياسة الناس فلم يوجد في هذه المسألة إلا قول بعض الصحابة ويقول بعضهم لا ينعقد الإجماع وأما من قال: إنه ليس بإجماع لكنه مع ذلك حجة لأن الإمساك عن القول في الحادثة من الممسك يحتمل أن يكون ذلك للارتياب في النظر والاستدلال فلم يجز أن يجعل اعتقاد للساكت فيه إلا أنه مع ذلك حجة لأن الفقهاء في كل عصر يحتجون بالقول المنتشر في الصحابة إذا لم يظهر مخالف منهم فدل أنهم اعتقدوه حجة وأما علي بن أبي هريرة قال: إذا كان الموجود قضاء من بعض القضاة والحكام فلا يدل السكوت من الباقين على الرضا منهم لأن في الإنكار افتياتا عليه وقال ابن أبي هريرة: ونحن نحضر مجالس بعض الحكام ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ولا ينكر ذلك عليهم فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك وأما أبو إسحاق المروزى فقال: إن الأغلب أن الصادر عن الحاكم يكون عن مشورة والصادر عن فتوى يكون عن استبداد ولا يدل ذلك على الإجماع وأما دليلينا فيما اخترناه وهو أن يكون حجة وإجماعا. فنقول أولا: إن قول بعض أهل العصر إذا انتشر في جميعهم وسكت الباقون ولم يظهروا خلافا فإما أن يعلم أن سكوتهم سكون راض أو لا يعلم ذلك فإن علم أن سكوتهم عن رضى بدليل يدل عليه فإنه يكون ذلك إجماعا كما لو قالوا: صريحا رضينا بهذا القول وللرضا أمارات كثيرة بالقول وقد جوز بعضهم وجود العلم بالمذاهب اضطررا فيكون على هذا القول معرفة الرضى أحكم وآكد وأما إذا لم يعلم رضاهم بقوله فإن كان مسألة لا تكليف فيها وليس مما يلزم بالنظر فيه وإنكاره إذا علموا أنه منكر مثل قول القائل: إن عمارا أفضل من حذيفة وأمثال هذا وقول القائل إن زيدا في الدار وعمرو خرج إلى الصحراء فالسكوت من الباقين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الحافظ البيهقي في الكبرى في الفرائض 6/414 الحديث 12457.

 

ج / 2 ص -6-   في أمثال هذا لا يكون إجماعا وأما إذا كان على الناس من ذلك تكليف وظهر من بعضهم القول في ذلك وانتشر وسكت الباقون يكون ذلك إجماعا واحتج من قال بذلك بأن العادة جرت أن النازلة إذا نزلت فزع أهل العلم إلى الاجتهاد وطلب الحكم فيها وإظهار ما عندهم في ذلك فلما وقعت الحادثة وظهر قول من المجتهد في ذلك وانتشر قوله ولم يظهر خلاف ذلك مع طول الزمان وارتفاع الواقع دل أنهم راضون بذلك وصار رضاهم بهذا الطريق بمنزلة ما لو أظهروا رضاهم بالقول والفعل.
ببينة: أن أهل الإجماع معصومون من الخطأ والعصمة واجبة لهم كما تجب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم مكلفا يقول قولا في أحكام الشرع فسكت عنه كان سكوته تقريرا منه إياه على ذلك ونزل ذلك منزلة التصريح بالتصديق في إبداء ذلك كذلك هاهنا يكون كذلك في حق أهل الإجماع وينزل سكوتهم منزلة التصريح بالموافقة فإن قيل: ولم إذا صار السكوت من الرسول صلى الله عليه وسلم تقريرا يكون من أهل الإجماع تقريرا وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتلقى ما تلقاه من الوحي ولا عذر له في السكوت إذا كان المفعول متكررا وأما أهل الإجماع فلعلهم سكتوا لأنهم وجدوا الاجتهاد مساغا ومضطربا فكان سكوتهم محمولا على تسويغ ذلك.
والجواب: أما الأول: قلنا قد بينا وجه الجمع بين سكوت النبي صلى الله عليه وسلم وبين سكوت أهل الإجماع وأما الفرق الذي قالوه فليس بصحيح لأن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يتلقى ما يتلقاه من الوحي وأهل الإجماع يقولون ما يقولون عن مدارج الظنون لكن إذا لم يوجد من أهل الإجماع إنكار لما ظهر من القول دل أنه عندهم صواب وحق لأنه لو كان خطأ لكانوا قد تطابقوا له على ترك ما يجب من إنكار المنكر وهذا لا يجوز لأن أهل الإجماع قد عصموا عن الخطأ ومن عصم عن الخطأ يكون معصوما أيضا عن التقرير على الخطأ كالنبي صلى الله عليه وسلم وإذا ثبت بهذا الطريق أن ذلك القول صواب ثبت أن ما سواه خطأ فإن قالوا إنما سكتوا لأنه من ومسائل الاجتهاد.
قلنا: إذا اعتقدوا أنه خطأ لا يجوز أن يجمعوا على التقرير عليه على ما سبق فإن قيل أليس لو اجتمع العلماء في المجلس وقام سائل إلى واحد من الحنفيين وسأله عن مسألة اختلف العلماء فيها فلو أجاب المفتى الحنفى بما يوافق مذهبه وسكت الحاضرون على سائر المذاهب يحمل سكوتهم على أنهم سكتوا لأنه قال ما قال في محل الاجتهاد.

 

ج / 2 ص -7-   والجواب: إن هذا يمكن دعواه في مثل هذه الصورة لأن مذاهب الكل معلومة فلا يكون السكوت للتقرير وإبداء الموافقة وليس مسألتنا في مثل هذه الصورة وإنما مسألتنا في الحادثة تقع بين أهل الاجتهاد ويذكر كل واحد منهم قولا فيه ويظهر في الباقين من علماء الوقت وينتشر ذلك بينهم ولا يظهر إنكارا وكان الفرق بين الصورتين أن في الصورة الأولى إذا كان المذهب معلوما فالإنكار من الباقين كذلك معلوم وإن لم يظهره في ذلك الوقت فكان سكوتهم على ما عرف من قبل لا على إبداء الموافقة أما هنا فلا يمكن حمل السكوت على مثل هذا لأنه لم يعرف من قبل خلاف منهم لذلك والسكوت على مثل هذا بعد أن علموا أنه خطأ لا يجوز فدل أن سكوتهم كان محض الموافقة وعلى أن بعض أهل العلم قد اشترط في هذا شرطا وهو اعتراض من العصر على ذلك يعنى أنه ظهر قوله وانتشر ولم يوجد منكرا واعترض العصر على ذلك وقال من اعتبر هذا الشرط: إن اتجه في حكم العادة سكوت العلماء على قول مجتهد في مسألة ظنه فاستمرارهم على السكوت الزمن المتطاول يبعد بخلاف العادة قطعا لأنه إذا كان يتكرر تذكار الواقعة والخوض فيها فلا يتصور دوام السكوت من كل المجتهدين مع تكرار الواقعة في حكم العادة ولهذا أن ابن عباس أظهر خلافه من بعد في مسألة العول والذين يقولون لعل السكوت لتقية أو هيبة.
قلنا: ليس هذا مما يدوم على الدهر ولأن المسألة مصورة فيما إذا لم يكن تقية ولا هيبة وفى هذه الصورة يظهر الكلام جدا ولعله يصير من القواطع وأما على الصورة الأولى فالدليل الذي قدمناه دليل مستحكم يستمر على منهاج الأصول ولكنى أقول: إنه لابد من وجود نوع شبهة في هذا الإجماع بالوجوه التي قالها الخصوم فيكون إجماعا مستدلا عليه ويكون دون القواطع من وجوه الإجماع في المسائل التي قدمناها إلا أنه مع هذا لابد من تقديم هذا على القياس فإن قال قائل: قد انتشر قضاء عثمان في ميراث المبتوتة وهو قصة عبد الرحمن بن عوف بطلاقه امرأته آخر تطليقاتها الثلاث وكذلك قتل الحسين بن على ابن ملجم قصاصا مع وجود الورثة الصغار وانتشر كلا الأمرين في الصحابة ولم يكن مخالف ومع ذلك لم يقدموا ذلك على القياس.
قلنا: أما ميراث المبتوتة فقد ذكرنا أن عبد الرحمن بن عوف مخالف وقد نقلنا قولا عنه يدل على ذلك وأيضا فإن ابن الزبير قد خالف ولم يكن انقرض عصر

 

ج / 2 ص -8-   الصحابة وأما قتل الحسين بن على ابن ملجم فإنه على أى جهة قتله كلام كبير وأيضا فإن الصحابة قد كانوا في هذا الوقت تفرقوا تفرقا عظيما واعتزل جماعة من وجوههم وكفوا قولهم وفعلهم والحادثة وقعت بالكوفة وأكثر الصحابة بالحجاز ومما يضم إلى هذا أن الحكم الصادر من الأئمة لا يماثل الفتوى الصادرة من المفتين وحفظ الأدب في ترك الاعتراض على الأئمة فإنه ليس للعلماء إذا جرى قضاء من قاض بمذهب مسوغ أن ينكروا عليه نفوذ قضائه وقد ذكرنا عن ابن أبي هريرة ما ذكرناه في الفرق بين الحاكم والمفتى وهو تفريق حسن فلا بأس به في هذا المكان وهو نافع جدا في صورتى الإيراد في مسألة المبتوتة ومسألة استيفاء القصاص مع وجود الصغار في الورثة وقد قال بعض أصحابنا: إن هذا الإجماع فيما إذا وجد القول المنتشر من أحد الصحابة في سائر الصحابة فأما في التابعين ومن بعدهم فلا ولا يعرف فرق صحيح بين الموضعين والأولى التسوية بين الجميع وقال بعض أصحابنا: إن إمساك الناس من إظهار الخلاف إنما يدل على الإجماع إذا كان في شئ يفوت استدراكه من إراقة دم واستباحة فرج فيدل سكوتهم على أن القول صواب وحق لأنهم لو اعتقدوا خلافه لما جاز لهم السكوت عليه وهو منكر لا يمكن استدراكه وأما الذى يمكن استدراكه فلا يكون سكوت الباقين دليلا على الإجماع والأولى أن لا يشتغل بهذا التفريق لأنه ليس فيه كثير معنى والمسألة في غاية الإشكال من الجانبين وقد ذكر القاضي أبو الطيب في كتاب الإجماع في هذه المسألة ترتيبا في الاستدلال استحسنته فأوردته ويدخل فيه الجواب على خلافهم قال: الدليل على ثبوت الإجماع مبنى على أصلين أحدهما: أن أهل العصر لا يجوز إجماعهم على الخطأ والثاني: أن الحق واحد وما عداه باطل وإذا ثبت هذان الأصلان فلا يخلوا القول الذي ظهر من أن يكون حقا أو باطلا فإن كان حقا وجب اتباعه والعمل به وإن كان باطلا فلا يخلو سائر العلماء من أربعة أحوال: إما أن لا يكونوا اجتهدوا أو اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شئ يجب اعتقاده أو أدى إلى صحة الذي ظهر أو خلافه ولا يجوز أن لا يكونوا اجتهدوا لأن العادة مخالفة لهذا لأن النازلة إذا نزلت فالعادة أن كان أهل الاجتهاد يرجعون إلى النظر والاجتهاد ولأن هذا يؤدى إلى خروج الحق عن أهل العصر بعضهم بترك الاجتهاد وبعضهم بالعدول عن طريق الصواب وهذا لا يجوز لأنهم لا يجتمعوا على الخطأ ولا يجوز أن يقال: أنهم اجتهدوا فلم يؤد اجتهادهم إلى شئ

 

ج / 2 ص -9-   يجب اعتقاده لأن ذلك يؤدى إلى خفاء الحق على جميع الأمة وهذا محال ولأن طريق الحق ظاهر فلا يجوز أن تخفى على جميع الأمة فإن قالوا: إنهم كانوا في مهلة النظر. قلنا: هذا ظن يحيد بكل أهل الإجماع وعلى ذلك لا يتصور امتداده إلى أن ينقرض العصر ولا يجوز أن يقال: إنهم اجتهدوا فأدى اجتهادهم إلى خلافه إلا أنهم كتموا لأن إظهار الحق واجب لا سيما مع ظهور قول هو باطل عندهم والتعلق بالتقية والهيبة تعلق باطل لأنهم كانوا يظهرون الحق ولا يهابون أحدا ولهذا ردت امرأة على عمر بن الخطاب رضى الله عنه في المغالاة في الصداق حتى قال عمر: امرأة خاصمت رجلا فخصمته1 وقال عبيده السلماني: رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة فقد كانوا يحتشمون من إظهار الخلاف لأنهم كانوا يعتقدون منهم فيقولون الحق وأما ابن عباس فقد كان صغيرا في زمانهم فلعله احتشم لصغره وعلى أنه قد أظهر من بعده. قال القاضي أبو الطيب: وإذا بطلت2 هذه الوجوه دل أنهم إنما سكتوا لرضاهم بما ظهر من القول فصار كالنطق فإن قال قائل: إنما سكتوا لأنهم اعتقدوا أن كل مجتهد مصيب قلنا لم يكن من الصحابة من يعتقد ذلك وسنبين إن شاء الله تعالى.
مسألة: قد ذكرنا حكم القول المنتشر فإما القول الواحد من الصحابة إذا لم ينتشر إلا أنه لم يعرف له مخالف فلا يكون إجماعا لأنهم لم يعرفونه فيعتبر قوله أو ينكرونه3 وأما الكلام في كونه حجة فإن كان موافقا للقياس فهو حجة إلا أن الأصحاب اختلفوا فقال بعضهم: إن الحجة في القياس وقال بعضهم: إن الحجة في قوله وأما إذا كان بخلاف القياس أو كان مع الصحابى قياس خفى والجلى بخلاف قوله: فقد اختلف قول الشافعي في هذا. قال في القديم: قول الصحابي أولى من القياس وهو قول أبى حنيفه وأحمد وجماعة وقال في الجديد القياس أولى4

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الحافظ البيهقي في الكبرى في الصداق "7/380" الحديث "14336".
2 في الأصل "بطل".
3 قال الآمدي: اختلفوا فيه والأكثر على أنه ليس بإجماع وهو المختار انظر إحكام الأحكام للآمدي "3/365" انظر المحصول "1/76" انظر نهاية السول "3/302" المعتمد "2/71".
4 اعلم أنهم اختلفوا في اعتبار مذهب الصحابي حجة على غير الصحابي كاتابعين ومن بعدهم من باقي المجتهدين على مذاهب ثلاثة:
الأول: حجة مطلقا خالف القياس أو وافقه- وإلى ذلك ذهب مالك وأبو بكر الرازي من الحنفية والشافعي في أحد قوليه والإمام أحمد في بعض الروايات عنه:
الثاني: ليس "حجة مطلقا وهو مذهب جمهور الأشاعرة والمعتزلة والشافعي في أحد قوليه والكرخي.
الثالث: حجة إن خالف القياس وليس حجة إن وافقه انظر نهاية السول "4/407, 408" إحكام الأحكام للآمدي "4/201" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/192".

 

ج / 2 ص -10-         واحتج من قال بالأول بقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"1 فقد جعل المقتدى بالصحابة مهتديا ولا يجوز العدول عن الاهتداء ولأن الصحابي إنما يحكم في شئ خبرا كان أو قياسا فإن كان عن خبر فالقياس متروك له وإن كان قياسا فإن الذي بان به من الفضيلة عن غيره وتميز عن من سواه من مشاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم وحضوره نزول الوحى عليه ومعرفة مخارج كلامه يرجح قياسه على غيره فكان قوله أولى من القياس المجرد أما وجه القول الجديد هو أن القياس أصل من أصول الدين ودليل من أدلة الشرع والعمل به عند عدم النص واجب والدليل عليه خبر معاذ رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: "فإن لم تجد في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله" قال: أجتهد رأيى"2 والصحابي غير مأمون من الخطأ فيما يقوله فلو كان عنده خبر من الرسول لأظهره لأنه كان مأمورا بالتبليغ فلما لم ينسب القول مما حكم به إلى النبي صلى الله عليه وسلم دل أنه إنما قال استنباطا وقد بينا أنه غير معصوم من الخطأ فيلحقه في الاجتهاد ما يلحق غيره من السهو والغلط وقد كانوا يرون في الحوادث آراء ثم يرجعون عنها لدليل يلوح لهم هو أقوى من الأول وإذا كان الأمر على ما ذكرنا لم يكن مجرد قول الصحابي حجة إلا أن الحادثة إذا تنازعها أصلان جاز أن يغلب أحدهما بموافقة قول الواحد من الصحابة كما قد يغلب أحد القياسين على الآخر بكثرة الأشباه وأيضا فقد قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] فالمراد به رد الحكم إلى الكتاب والسنة وهو رد إلى الله وإلى رسوله وأما

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الحافظ ابن حجر في التلخيص وقال: أخرجه عبد بن حميد في مسنده عن ابن عمر وفيه حمزة ضعيف جدا والدارقطني في غرائب مالك عن جابر وفيه جميل بن يزيد لا يعرف ولا أصل له في حديث مالك ولا من فوقه وذكره البزرا عن عمر وفيه عبد الرحيم ابن زيد العمى كذاب ومن حديث أنس أيضا وإسناده واهي انظر تلخيص الحبير "4/209- 210" ح " 15".
2 أخرجه أبو داود: الأقضية "3/302" ح "3592" والترمذي: الأحكام "3/607" ح "1327" وأحمد: المسند "5/272" ح "22068".

 

ج / 2 ص -11-         تعلقهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"1 "قلنا: هذا أمر من لم يكن في زمن الصحابة من أهل الاجتهاد بتقليد الصحابة لأن من كان من أهل الاجتهاد في الصحابة لا يجوز أن يأمره بتقليد مثله وأيضا فإن الاقتداء بهم هو الرجوع إلى المعاني المستنبطة من كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأما الذي قالوه من بعد قلنا: أما دعوى التوقيف وأن الصحابى قال ما قال عنه بعيد لما بيناه وأما قوله إن اجتهاده يكون أقوى فلا يصح لأنه يجوز أن يسمع هو من النبي صلى الله عليه وسلم ويكون غيره أعلم بمعناه وقصده ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله امرأ سمع مقالتى فبلغها غيره فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه"2 "ولأنه لو كان ما قالوه صحيحا وجب على من لم تطل صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقلد من طالت صحبته لأنه يكون من طالت صحبته أبصر بمعانى كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومقاصده لطول صحبته له واستبراء أحواله وكثرة اهتدائه إلى معانيه في أقواله وأفعاله ما لم يهتد من قلت صحبته وربما رآه رؤية أو سمع حديثا من أحاديثه وحين لم يقل أحد ما ألزمناهم عرفنا أن ما قالوه ساقط وقد قال بعض أصحاب أبى حنيفة: أنه إذا قال الصحابي قولا يخالف القياس يحمل على أنه قاله عن النبي صلى الله عليه وسلم: لأن الظاهر أنه لم يعدل عن القياس مع النفوذ في معرفة القياس وطريقه إلا بسنة عرفها عن النبي صلى الله عليه وسلم
والجواب: إن يكن حسبان فاسد وظن بعيد لأنا بينا أنه لو كان عنده خبر لرواه وما كان من عاداتهم الكتمان. بل كان طريقهم التبليغ على ما أمروا به فأما الذي قالوه قلنا إنما يجب علينا أن نحمل قولهم على أنهم قالوه عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان لا يجوز عليه الخطأ فأما إذا جاز عليهم الخطأ فلا يجب علينا أن نثبت خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم بالشك ولو جاز هذا في الصحابة جاز في التابعى. أيضا وسائر الأمة فيقال: إذا ذهب الواحد منهم إلى خلاف القياس يحمل أمره على أنه قال ذلك لأنه سمع خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يظهره وكل ما يمكن أن يكون في الصحابى يمكن أن يقال في التابعى أيضا فدل أن ما ظنوه باطل والله أعلم
فصل

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 أخرجه أبو داود: العلم "3/321" ح "3660" والترمذي: العلم "5/34" ح "2657- 2658" وابن ماجه: المقدمة "1/84" ح "230- 232" والدارمي: المقدمة "1/86" ح "228- 230" بنحوه.

 

ج / 2 ص -12-         فصل: وأما انعقاد الإجماع بالفعل فكل فعل لم يخرج مخرج الحكم والبيان لا ينعقد به الاجماع.
كما أن ما لم يخرج من أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم مخرج الشرع لم يثبت به الشرع وأما الذي خرج من الأفعال مخرج الحكم والبيان يصح أن ينعقد به الإجماع لأن الشرع يوجد من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم كما يوجد من قوله فإن اجتمع القول والفعل فلا شك في انعقاد الإجماع لأنه إذا انعقد الإجماع فكل واحد منهما على الانفراد منهما أولى.
مسألة: اتفاق أهل الإجماع شرط في انعقاد الإجماع وإن خالف واحد أو اثنان ينعقد الإجماع.
وقال محمد بن جرير الطبرى: ينعقد ولا يعتد بخلاف الواحد والاثنين. وقيل: إنه قول أحمد بن حنبل رضى الله عنه وهو قول بعض المعتزلة ويقال: إنه قول أبى الحسين الخياط أستاذ الكعبى1 واستدل من قال بقوله تعالى:
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتى على الضلالة"2 "قالوا: وهذه الأشياء حقيقة تتناول جميع المسلمين وجماعة الأمة وإن شذ منهم الواحد فخرج منهم كما أن الإنسان يقول رأيت بقرة سوداء [وإن]3 كان فيها شعيرات بيض ويقول أكلت منها رمانة وإن سقطت منها حبة وتعلقوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالسواد الأعظم"4 وأهل العصر كلهم إلا الواحد والاثنين

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "3/305, 306" لنظر المحصول "2/85" انظر إحكام الأحكام "1/366" روضة الناظر "124" المعتمد "2/29" انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/171".
2 أخرج الترمذي: الفتن "4/466" ح "2167" عن ابن عمر وقال: هذا حديث غريب: وابن ماجه: الفتن "2/1303" ح "3950" عن أنس وقال في الزوائد: في إسناده أبو خلف الأعمى واسمه حازم بن عطاء وهو ضعيف. وانظر تلخيص الحبير "3/162" ح "8".
3 ثبت في الأصل "فإن".
4 أخرجه ابن ماجه: الفتن "2/1303" ح "3950" وإسناده ضعيف عن أنس و أحمد: المسند "4/340" ح "18479" عن النعمان بن بشير.

 

ج / 2 ص -13-         هم السواد الأعظم فلأن الواحد من أهل العصر إذا خالف من سواه من أهل العصر يوصف بالشذوذ وذلك اسم ذم فلو كان يعتد بخلافه معهم لم يوصفوا باسم الذم ولهذا أنكرت الصحابة على ابن عباس رضى الله عنه مقالته في الربا قالوا: ولأن الناس يقولوا في خلافة أبى بكر رضى الله عنه على الإجماع وقد خالف في ذلك جماعة منهم سعد بن عبادة.
وقال سلمان: كردن ونقلوا عن على رضى الله عنه أنه وقف عن البيعة مدة ومع ذلك لم يعتد بخلاف هؤلاء ولأن خبر الجماعة مقدم على خبر الواحد وكذلك قول الجماعة مقدم على قول الواحد وأما دليلنا أن الإجماع هو الحجة بالدلائل السمعية على ما سبق وإذا خالف الواحد أو الاثنان فقد فقد الإجماع ففقدت الجماعة والدليل على أن الإجماع قد فقد بخلاف الواحد والاثنين لأن دليل الإجماع قوله تعالى:
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]والألف واللام لاستغراق الجنس فظاهر الآية اقتضى جميع المؤمنين وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فتناول جميع الأمة وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم "لا تجتمع أمتى على الضلالة"1 تتناول جميعهم وإذا خالف مخالف وأن كان قليلا فقد فقد اجتماع الأمة وصار القول من بعض الصحابة دون البعض.
ببينة: أنه إذا كثر المخالف امتنع انعقاد الإجماع فكذلك إذا قل المخالف يمتنع أيضا بعد أن يكون من أهل الاجتهاد وهذا لأن القلة لا تمنع من الإصابة ويجوز أن يصيب القليل ويخطئ الكثير قال الله تعالى
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] وقال تعالى أيضا: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 249] وقال تعالى: {إِنَّ الذينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ: 20] فثبت بما قلنا: أن قلة العدد لا تمنع من إصابة الصواب وكثرة العدد لا تؤمن من الخطأ يدل عليه أن الإجماع لو انعقد مع خلاف الآحاد لوجب على المجمعين أن ينكروا على من خالفهم من الآحاد كيلا يتبعوا غير سبيل المؤمنين وقد أقرت الصحابة على خلافهم كما أقروا ابن عباس وإن كان قد تفرد بالخلاف في القول وقد تفرد هو أيضا بمسائل في الفرائض خالف سائر الصحابة وكذا ابن مسعود وقد أقر على ذلك ولأن أبا بكر قد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.

 

ج / 2 ص -14-         كان يخالف جميع الصحابة في قتال مانعى الزكاة وقد كانوا يشيرون ببعض المفارقة ثم إنه يبين لهم أن الحق معه واتفقوا على قتالهم فإن قيل: قد تفرد قوم من الصحابة بأشياء لم يعتدوا بذلك. وأثبتم الإجماع مع وجود ذلك الخلاف مثل خلاف حذيفة في وقت السحور وخلاف ابن أبى طلحة في أكل البرد في حال الصوم1. وقوله: إنه لا يفسده وكذلك خلاف ابن عباس في جواز ربا الفضل2 قلنا نحن إنما نعتد بخلاف الواحد إذا لم يكن على خلاف النص فأما إذا كان بخلاف النص فلا يعتد بخلافه ويحكم بانعقاد الإجماع معه وعلى هذا خلاف حذيفة فإنه مخالف النص وهو قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وكذلك خلاف ابن أبى طلحة لأن الله تعالى قال: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والصيام هو الإمساك ولا يوجد الإمساك مع أكل البرد وعلى هذا خلاف ابن مسعود جميع الصحابة رضوان الله عليهم في الفاتحة والمعوذتين في ترك إثباتهن في المصحف3 وخلاف أبى بن كعب في إثبات سورتى القنوت4 وقد أنكر عليهما سائر الصحابة ذلك وكذلك خلاف ابن عباس في الربا وليس ما اختلفنا من جملة ذلك أما الجواب عن كلماتهم أما الكلام الأول: قلنا أما أسماء الجمل والعموم لا يتناول الأكثر إلا مجازا ألا ترى أنه يجوز أن يقال في الأمة إلا الواحد: ليس هؤلاء كل المؤمنين ولا كل الأمة فعلمنا أن اسم الكل لا يتناول إلا الجميع والذي قالوا من اسم البقرة السوداء وقولهم أكلت الرمانة فليس ذلك بحقيقة وإنما هو على طريق المجاز ويجوز أن يقال إنما حسن أن يقول: "أكلت الرمانة" وإن سقطت منها حبات أو يقول: رأيت بقرة سوداء وإن كان فيها شعيرات بيض لأجل العادة فإنه في العرف يقال: أكلت

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ النووى: وحكاه أصحابنا عن الحسن بن صالح وبعض أصحاب مالك أنه لا يفطر بذلك قال: وحكوا عن أبي طلحة أنه كان يتناول البرد وهو صائم ويبتلعه ويقول: "ليس بطعام ولا شراب" انظر شرح المهذب "6/340".
2 قد ذكر ابن قدامة المقدسي قول ابن عباس وأسامة بن زيد وأرقم وابن الزبير وقال: إن ابن عباس قد رجع إلى قول الجماعة روى ذلك الأثرم بإسناده وقاله الترمذي وابن المنذر وغيرهم انظر المغني لابن قدامة "4/123" قال الإمام الترمذي: وقد روى عن ابن عباس أنه رجع عن قوله حين حدثه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم انظر سنن الترمذى "3/534".
3 انظر الإتقان للسيوطي "1/182- 183".
4 انظر الإتقان للسيوطي "1/181- 182".

 

ج / 2 ص -15-         الرمانة وإن سقطت منها حبات ويقال في العرف: رأيت بقرة سوداء وإن كان فيها شعيرات بيض فخرج الأقل من الكلام بالعرف وليس إذا نقل العرف من ذلك يجب أن ينقل غيره من الأسماء وأما تعلقهم بقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بالسواد الأعظم"1 قلنا السواد الأعظم جميع أهل العصر ولو كان المراد منه الأكثر لدخل تحته النصف من أهل العصر إذا نادوا على النصف الآخر بواحد أو اثنين أو ثلاثة وأما قوله: يوصف الواحد إذا خالف بالشذوذ قلنا لا نسلم أنه يطلق عليه هذا الاسم إلا إذا خالف بعد ما وافق. وأما قولهم: إنهم أنكروا على ابن عباس خلافه في الربا قلنا إنما أنكروا عليه لأجل خبر أبى سعيد لا لأجل مخالفته بقية الصحابة. وأما بيعة أبى بكر قلنا لا يثبت خلاف أحد أما سعد بن عبادة قد كان يظن أن للأنصار حقا في الخلافة وكذلك جماعة من الأنصار كانوا على هذا فلما روى أبو بكر رضى الله عنه ما روى رجعوا عنه وقول سلمان هو من حكاية الروافض فلا يثبت إليه وأما قولهم إن عليا امتنع من بيعة أبى بكر رضى الله عنهما إلى مدة قلنا الأصح أنه بايع وقد روى ذلك في بعض الروايات الصحيحة وعلى أنه إن روى ما قالوه من تأخير البيعة فرواية المثبت أولى من رواية النافى وأما استدلالهم بالخبر المتواتر ففيه جوابان: أحدهما: أن التواتر يقتضى القطع بالصدق ولا يقتضى القطع بالحق وأما الإجماع يقتضى القطع بالحق فمن أين أنه إذا أخبر جماعة يقتضى القطع بالصدق ما يوجب أن يكون قولهم يقتضى القطع بالحق لأن أخبار التواتر توجب العلم الضرورى على ما سبق وذلك علم يمكن للإنسان دفعه عن نفسه بخلاف خبر الواحد لأنه لا يوجب العلم الضرورى: ألا ترى أنه يمكن للإنسان دفعه عن نفسه وأما ها هنا فهو اجتهاد وغير يمتنع إصابة الأقل للصواب وأخطأ الأكثر لأن الإصابة ها هنا بالتوفيق ولا يمتنع أن يوفق الله الأقل ويحرم الأكثر قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [البقرة: 269].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه وانظر كشف الخفاء للعجلوني "2/569" - "3223".

 

ج / 2 ص -16-         فصل: ومن شروط الإجماع أن يقيم أهل الإجماع على ما أجمعوا عليه ولا يرجعوا عنه:
فإن ظهر فيهم رجوع عما أجمعوا عليه فقد قال بعضهم: يجوز أن يرجع عنه بعضهم ولا يجوز أن يرجع عنه جميعهم لأن رجوع جميعهم يمنع أن يكون الحق فيما أجمعوا عليه ومنهم من قال: لا يجوز أن يرجع لا جميعهم ولا بعضهم لأن إجماعهم قد تبين الحق فيما أجمعوا عليه وانتفى عنه الخطأ وإذا تعين لم يجز الرجوع لأنه إذا جاز الرجوع تبين أن الإجماع انعقد على الخطأ ومنهم من قال: يجوز أن يرجع عن جميعهم ويجوز أن يرجع عن بعضهم وهذا صحيح على قول من يجعل انقراض العصر شرطا في انعقاد الإجماع1 وسنبين ذلك والأصح أنه لا يجوز الرجوع عنه بحال لما سبق بيانه والله أعلم.
مسألة: انقراض العصر ليس بشرط في صحة انعقاد الإجماع في أصح المذاهب لأصحاب الشافعي.
ومن أصحابنا من قال: إن انقراض العصر شرط ومنهم من قال: إن كان قولا من الجميع لم يشترط انقراض العصر وإن كان قولا من بعضهم وسكوتا من الباقين اشترط فيهم انقراض العصر وقال بهذا أبو إسحاق الإسفراينى ولأصحاب أبى حنيفة فيه اختلاف أيضا وقال بعض أصحاب الشافعي أيضا: إنه ينعقد قبل انقراض عصره فيما لا مهلة له فلا يمكن استدراكه من قتل نفس أو استباحة فرج ولا ينعقد فيما اتسعت له المهلة وأمكن استدراكه إلا بانقراض العصر2 واحتج من قال: إن انقراض

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مذهب الإمام والأستاذ أبو بكر بن فورك. انظر إحكام الأحكام للآمدي "1/366".
2 اعلم أن انقراض المجمعين: معناه موتهم من غير أن يوجد منهم مخالفة.
وقد ذهب أكثر الأصوليين إلى أن موت المجمعين ليس شرطا في صحة الإجماع بل يكون صحيحا وحجة فيحرم على أحدهم المخالفة بعد الإجماع كما يحرم على غيرهم ذلك.
وقال أبو بكر بن فورك و أحمد بن حنبل: إن انقراضهم شرط في صحة سماعهم فيجوز لكل منهم الرجوع ما دام حيا متى ظهر له خلاف ما أجمعوا عليه فإذا ماتوا جميعا ولم توجد مخالفة كان الإجماع منعقدا وصار حجة على من بعدهم.
وقال إمام الحرمين: إن انقطع المجمعون بالجكم لم يكن موتهم شرطا وإن لم يقطعوا به =

 

ج / 2 ص -17-         العصر شرط بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يرى التسوية في القسم ولم يخالفه أحد من الصحابة ثم خالفه عمر لما صار الأمر إليه وفضل في القسم وصحت هذه المخالفة لأن العصر كان لم ينقرض على الأول وكذلك رأى عمر أن لا تباع أمهات الأولاد1 ووافقه عليه الصحابة. ثم إن عليا رضي الله عنه2 خالفه من بعد وهذا لأن الإجماع لا يستقر قبل انقراض العصر لأن الناس يكونون في حال تأمل وتفحص فوجب وقوفه على انقراض العصر ليستقر. وأما دليل من قال: إنه ليس بشرط قول الله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتى على الضلالة "3 وكل هذه الدلائل موجبة للرجوع إلى الإجماع فإذا وجد الإجماع فشرط انقراض العصر زيادة لا يدل عليها دليل.
ببينة: أن هذه الدلائل توجب الرجوع إلى مجرد الإجماع لأنه لم تدل هذه الدلائل على غيره فإذا وجد وجب أن يحكم بكونه حجة ثم نقول: لا يخلو إما أن يكون الدليل هو انقراض العصر أو الاتفاق بشرط انقراض العصر أو مجرد الاتفاق والأول باطل لأنه يقتضى أن العصر إذا انقرض بدونه أن يسبقه اتفاق أن يكون حجة وهذا لا يقول به أحد وأما الثانى فباطل أيضا لأنه يقتضى أن يكون لموتهم تأثير في كون قولهم حجة وذلك لا يجوز أيضا كما لا يكون لموت النبي صلى الله عليه وسلم تأثير في كون

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأسندوه إلى ظنهم فلا بد من تطاول الزمن. ماتوا أو لم يموتوا.
وفصل الآمدي فقال: إن كان الإجماع قولا أو فعلا من الجميع لم يكن موتهم شرطا وانعقد الإجماع بمجردالفعل أو القول من الجميع وليس لواحد منهم الرجوع والمخالفة وإن كان الإجماع قولا من البعض وسكوتا من الباقي كان موتهم شرطا وصح لمن سكت أن يخالف.
انظر نهاية السول "3/315, 316" انظر المحصول "2/71" إحكام الأحكام للآمدي "1/366" المعتمد "2/41, 42" فواتح الرحموت "2/244" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي على نهاية السول "3/315" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/175, 176".
1 وهو مذهب مالك وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأصحاب الراي والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وقد احتجوا بأن عمر منع من بيعهن انظر الأشراف لابن المنذر "2/213".
2 ذكره المنذر قول علي وابن عباس رضي الله عنهما انظر الأشراف لابن المنذر "2/213".
3 تقدم تخريجه.

 

ج / 2 ص -18-         قوله حجة وإذا بطل الوجهان ثبت الثالث.
ودليل آخر أنا لو اعتبرنا انقراض العصر لم ينعقد إجماع ما لأنه قد حدث قوم من التابعين في زمان الصحابة كانوا من أهل الاجتهاد وشرط انقراض العصر يجوز مخالفتهم لهم لأن العصر ما انقرض ويجب على هذا انقراض عصر التابعين ومعلوم أنه لا ينقرض عصرهم إلا من بعد أن يحدث من تابعهم من هو من أهل الاجتهاد ويجوز لهم أن يخالفوا التابعين ثم يعتبر انقراض عصر تابعى التابعين ثم كذلك القول في كل عصر إلى قيام الساعة فلم يتصور على هذا انعقاد الإجماع في عصر ما وهذا باطل فيكون شرطا ما يؤدى إليه باطلا ولقائل أن يقول على هذا إنه لا يمتنع أن يكون المعتبر هو انقراض عصر من كان مجتهدا عند حدوث الحادثة لا من يتجدد بعد ذلك فلا يلزم اعتبار عصر التابعين إن أحدث منهم مجتهد بعد حدوث الحادثة والمعتمد أن الدليل قد قام أن الإجماع حجة وقد وجد الإجماع فوجب الحكم لقيام الحجة من غيره اعتبار انتظار لا انقراض العصر أو غير ذلك.
ببينة: أنا لو اعتبرنا انقراض العصر جوزنا أن يكون الأمة حين أجمعت على الخطأ وقد دللنا على أن هذا لا يجوز.
وأما الجواب عما تعلقوا به. أما الأول: قلنا قد كان عمر خالف أبا بكر رضى الله عنه في زمانه وناظره وقال: أتجعل من جاهد في سبيل الله بماله ونفسه كمن دخل في الإسلام كرها. فقال أبو بكر رضى الله عنه إنما عملوا لله فأجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ ولم يروا أن عمر رضى الله عنه رجع إلى قول أبى بكر رضى الله عنه فالظاهر أنه كان يرى التفضيل في زمان أبى بكر فلما صار الأمر إليه فضل على ن كان يعتقده وأما الذى تعلقوا به من فضل أمهات الأولاد قلنا قد روى عن جماعة من الصحابة أنهم كانوا يرون بيع أمهات الأولاد ومنهم جابر بن عبد الله وغيره1 فلم يكن وجد الاتفاق في زمان عمر رضى الله عنه وأما قول عبيدة السلمانى: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ليس فيه دليل على أنه قد كان وجد الإجماع بل يدل على أنه قد كان على قول عمر رضى الله عنه جماعة وليس كل جماعة يكون إجماعا وإنما اختار عبيدة أن ينضم قول على إلى قول عمر رضى الله عنهما لأنه يرجح قول

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن المنذر: وقال جابر وأبو سعيد الخدري: كنا نبيعهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انظر الأشراف لابن المنذر "2/213".

 

ج / 2 ص -19-         الأكثر على قول الأقل وأما قولهم إن الإجماع لا يستقر إلا بانقراض العصر قلنا إن أرادوا بنفى الاستقرار نفى كونه حجة فذلك نفس المسألة وإن أرادوا أنه لا ينعقد إلا بعد انقراض العصر فليس بشئ لأن الانعقاد إنما يكون باتفاق الأمة من غير خلاف وإنما اختلفوا أنه مع وجود هذا الانعقاد هل يكون حجة أم لا وأما الذى قالوه أنه حال تأمل وتفحص قلنا المسألة فيما إذا قطعت الأمة على الاتفاق إلا أن أهل العصر لم ينقرضوا عليه والناظر المتأمل غير والقاطع على الشئ غير والإنسان إذا أخبر عن نفسه أنه يعتقد فهو بخلاف ما إذا أخبر عن نفسه أنه متأمل متوقف وقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله إنهم إن أسندوا الإجمع إلى الظن فلا يتم الإجماع ولا ينبرم ما لم يتطاول الزمان بذلك وإن كان اتفاقهم لا عن اجتهاد بل عن أصل مقطوع به فإنه يتم الإجماع في الحال وهذا الفرق لا يصح لأنه لا يعرف إلى أى شئ أسندوا الإجماع ولو عرف أنهم أسندوا اتفاقهم إلى دليل مقطوع به فيكون حجة ذلك الدليل لا غير والأصح ما قدمناه بالدليل الذى اعتمدنا عليه.
مسألة: إذا أدرك التابعى عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد اعتبر رضاه في صحة الإجماع.
ومن اصحابنا من قال: لا يعتبر1 واعلم أن هذا الخلاف فيما إذا بلغ التابعى رتبة الاجتهاد ثم أجمعوا على حكم خالفهم فيه التابعى فأما إذا تقدم الإجماع على قول التابعى فإنه يكون التابعى محجوجا بذلك الإجماع وأما الذين قالوا: إنه لا يعتد بخلاف التابعى مع الصحابة تعلقوا من ذلك بأن الصحابة قد اختصوا بلقاء الرسول صلى الله عليه وسلم ومعرفة التأويل والتنزيل والعلم بسبق الدين ووجوه الدلالة وطريق الاجتهاد فصار غيرهم من التابعين إذا أجتمعوا معهم بمنزلة العامة مع علماء الدين لا يعتد بخلافهم وقد أنكرت عائشة على أبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف دخوله فيما بين الصحابة ومنازعته عبد الله بن عباس وقالت: أراك كالفروخ يصيح مع الديكة2 وعن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "3/323, 324" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "3/323" إحكام الأحكام للآمدي "1/368" المحصول "2/83" فواتح الرحموت "2/221" المستصفى "1/185" المعتمد "2/33" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/179".
2 أخرجه مالك في الموطأ: الطهارة "1/46" ح "72".

 

ج / 2 ص -20-         على: أنه نقض الحكم على شريح1 حين قضى بين ابنى عم أحدهما الأخ لأمه وكان جعل المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم فنقض عليه وأما دليلنا فلأنه من أهل الاجتهاد وقت وقوع الحادثة فيعتبر خلافه ولا ينعقد الإجماع دون قوله: دليله إذا كان صحابيا وهذا لأن العبرة بالعلم دون الصحبة بدليل أن من كان من الصحابة غير مجتهد لا يعتبر اتفاقه لانعقاد الإجماع ولأن الصحابة أقروا التابعين على الفتوى في زمانهم وقد كان على رضى الله عنه قلد شريحا قضاء الكوفة فقضى برأيه وعلى بها لا ينكر وكان سعيد بن المسيب يفتى بالمدينة زمن الصحابة وعطاء بن أبى رباح بمكة وأصحاب ابن مسعود كانوا يفتون بالكوفة في زمن الصحابة وكذلك الحسن البصرى وجابر بن زيد كانا يفتيان بالبصرة زمن الصحابة وروى أن ابن عباس رضى الله عنه وأبا سلمة بن عبد الرحمن اختلفا في عدة المبتوته عنها زوجها إذا كانت حبلى فقال ابن عباس تعتد بأبعد الأجلين وقال أبو سلمة: إذا وضعت حملها حلت فقال أبو هريرة أنا مع ابن أخى2 يعنى أبا سلمة ولم ينكر أحد قول أبى سلمة [وهو]3 خلاف لابن عباس وقد قال أبو هريرة: أنا معه وأما الذي ذكره من قول عائشة رضى الله عنها في هذه القصة قلنا قد نقلنا عن أبى هريرة تصويبه وعلى أنه ليس في قول عائشة ما يدل على أن خلاف التابعين لا يعتد به مع الصحابة ويجوز أنه كان رفع صوته على ابن عباس وادعى منزلته وطلب مساواته فانكرت عائشة ذلك وأما خبر على في نقضه قضاء شريح قلنا: هذا لا يعرف وكيف؟ وقد كان ولاه قضاء الكوفة وكان يقضى برأيه وعلى بها وعلى أنه يحتمل أن يثبت ذلك أنه إنما كان يقضى لأنه كان سبقه الإجماع في المسائل قبل أم يدرك شريح زمان الاجتهاد وأما قولهم إن الصحابة يكونون أعلم بالاحكام قلنا قد يكون أعلم وقد لا يكون والدليل على هذا أن أنسا كان يحيل بالمسائل على الحسن البصرى وكان عمر بن يحيل على ابن المسيب وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"4

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الحافظ اليهقي في الكبرى في الفرائض "6/393" ح "12377" - "12378".
2 أخرجه البخاري: التفسير "8/521" ح "4909" ومسلم: الطلاق "2/1122" ح "57/1485"والنسائي: الطلاق "6/156" "باب عدة الحامل المتوفى عنها زوجها".
3 زيادة ليست في الأصل يستقيم بها المعنى.
4 تقدم تخريجه.

 

ج / 2 ص -21-         وعلى أن ما ذكره من الترجيح لا يمنع من مساواة الناس بعين لهم في الاجتهاد. ألا ترى أن من طالت صحبته للنبى صلى الله عليه وسلم من أكابر الصحابة وعلمائها لهم من المزية بطول الصحبة وقوة الأنس بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس لصغارها ولمتأخريها ثم الجميع في الاجتهاد واحد فبطل ما قالوه ولأن هذا الترجيح إن كان قائما يكون فيما يوجد من التنبيه فأما فيما يوجد من الكتاب وسائر الأصوليين فلا يكون لمن شهد مع النبى صلى الله عليه وسلم مزية على غيره فإن قال قائل: إنكم قد قلتم: من قبل إن انقراض العصر ليس شرط من انعقاد الإجماع وإذا لم يكن شرطا وقد انعقد الإجماع فكيف يعتبر خلاف التابعي؟ والجواب: أنا قد قلنا في أول المسألة ما يبطل هذا السؤال لأنا قد بينا أن موضع الخلاف إذا لم تقع الحادثة حتى أدرك التابعى حال الاجتهاد فأما إذا سبق الاتفاق فلا إشكال أن أنعقاده وكونه حجة لا يقف على إدراك التابعى وموافقته لذلك وقد اعتبر ذلك من يشترط انقراض العصر وقد بينا أن هذا الاعتبار يؤدى إلى أن لا ينعقد إجماع.

"فصل": قد بينا من قبل أن من شرط الإجماع اتفاق جميع علماء العصر على الحكم فإن خالف بعضهم لم يكن إجماعا.
وقد سبق بيان هذا ومما يتصل بهذا أن من الناس من قال: إذا أجمع أهل الحرمين مكة والمدينة وأهل المصرين الكوفة والبصرة لم يعتد بخلاف غيرهم1 وما ذكرنا من قبل يدل على بطلان قول من زعم هذا. وقال بعضهم: إذا أجمع الخلفاء الاربعة لم يعتد بغيرهم وذهب إلى هذا القاضي أبو حازم من أصحاب أبى حنيفة وحكاه الضميرى عنه2. وقالت الرافضة: إذا قال على كرم الله وجهه شيئا لم يعتد بخلاف

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "3/263, 264, 265" إحكام الأحكام "1/349" المستصفى "1/187" روضة الناظر "126" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "3/264, 265" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/154, 155".
2 الخلفاء الأربعة: هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لقوله عليه السلام: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم ملكا ثم عضوضا وكانت مذة هؤلاء الأربعة ثلاثين سنة.
وقد اختلف العلماء في إجماعهم فالجمهور على أن إجماعهم على شيء مع وجود المخالف لا يكون حجة على غيرهم وقال الإمام أحمد والقاضي أبو حازم من الحنفية أنه حجة وإن وجد مخالف انظر نهاية السول "3/266, 267" إحكام الأحكام "1/357". انظر روضة الناظر =

 

ج / 2 ص -22-         غيره وقال بعض الرافضة: إذا اتفق أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شئ كان حجة مقطوعا بها ولم ينظر إلى خلاف غيرهم1 وقد تعلق من قال بالقول الاول بقوله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"2 وتعلق من قال بالقول الثاني بقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا من على وعلى مني"3 وقال: "أنا مدينة العلم وعلى بابها"4 وقال حين بعث عليا خلف أبى بكر في الحجة التي استخلف أبا بكر عليها ليقرأ أوائل سورة براءة على الناس في الموسم: "لا يبلغ عنى إلا رجل من أهل بيتى"5 وتعلق من قال بالقول الثالث بقوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم شيئين إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا كتاب الله عز وجل وأهل بيتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض"6 وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل أهل بيتى مثل سفينة نوح من ركبها نجا"7 وتعلقوا بخبر الكسائى وهو أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب: 33] دعا عليا وفاطمة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "127" فواتح الرحموت "2/232" المحصول "2/83" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/156".
1 اختلف العلماء في إحماع العترة فالجمهور على أن إجماعهم ليس حجة على غيرهم عند المخالفة وقال الشيعة الزيدية والإمامية: إن إجماعهم مع وجود المخالف لهم حجة انظر نهاية السول "2/265, 266" انظر إحاكم الأحكام "1/352" فواتح الرحموت "2/228" المحصول "2/80" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/155".
2 أخرجه أبو داود: السنة "4/200" ح "4607" والترمذي: العلم "5/44" ح "2676" وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجة: المقدمة "1/15" ح "42" والدارمي: المقدمة "1/57" ح "95" وأحمد: المسند "4/156" ح "17147"اتنظر تلخيص الجبير "4/209" ح "14".
3 أخرجه الترمذي: المناقب "5/636" ح "3719" وقال: حسن غريب وابن ماجة: المقدمة "1/44" ح "119" وأحمد: المسند "4/204" ح "17517".
4 أخرجه الحاكم في المستدرك "3/126" والطبراني في الكبير "11/65" ح "11061" وقال الحافظ الهيثمي في المجمع "9/117": رواه الطبراني وفيه عبد السلام بن صالح الهروي وهو ضعيف.
5 أخرجه الترمذي: التفسير "5/275" ح "3090" وقال: حسن غريب وأحمد: المسند "3/260" ح "13219" انظر الدر المنثور للسيوطي "3/209".
6 أخرجه مسلم: فضائل الصحابة "4/1873" ح "36/2408" من حديث طويل وأحمد: المسند "3/33" ح "11217" بنحوه.
7 أخرجه الطبراني في الكبير "12/34" ح "12388" وذكره الهيثمي في المجمع "9/171" وقال: رواه البزار والطبراني وفيه: الحسن بن أبي جعفر وهو متروك وأبو نعيم في الحلية "4/306" والحاكم في المستدرك "2/343" وانظر الدر المنثور للسيوطي "3/334".

 

ج / 2 ص -23-         والحسن والحسين رضى الله عنهم وأدار عليهم كساء وقال: "هؤلاء أهل بيتى"1.
وأما الدليل على تصحيح ما قلنا: أن الشرط اتفاق جميع الصحابة في عصرهم لينعقد الإجماع ويصير حجة لقوله تعالى:
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] فتعلق الوعيد بترك سبيل المؤمنين دل أنه لا يتعلق بترك سبيل بعضهم وقال النبى صلى الله عليه وسلم: "أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"2 ولأن الدليل على أن الإجماع حجة ليس من طريق العقل إنما هو من طريق السمع وإنما ورد السمع بعصمة جميع الأمة لأنه عليه السلام قال: "لا تجتمع أمتى على الضلالة"3 يدل على أن الخطأ يجوز على بعضهم وإنما لا يجوز على جماعتهم وأما الأخبار التي رووها فيما ادعوه4 فتلك الأخبار تدل على اختصاص هؤلاء القوم بفضائل من بين سائر الصحابة وتدل على نوع يميز لهم من غيرهم ولا تدل على أن قولهم حجة مقطوع بها.
وقد ورد في غيرهم من الصحابة أخبار ورويت لهم فضائل عن النبى صلى الله عليه وسلم لو تتبعناها وعلقنا معانيها دل أيضا أن أقوالهم حجة وأنه يجب علينا أن نتبعهم ونترك قول غيرهم منها ما ورى في أبي بكر وعمر رضى الله عنهما أنه قال صلى الله عليه وسلم:
"اقتدوا باللذين من بعدي أبى بكر وعمر"5 وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الحق لينطق على لسان عمر"6 وفى رواية أنه قال صلى الله عليه وسلم: "السكينة"7 بدل لفظة "الحق" وقال: "لو كان بعدى نبي لكان عمر"8 وقال: "اهتدوا بهدى عمار وتمسكوا بعهد ابن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي: المناقب "5/699" ح "3871" وقال: هذا حديث حسن وأحمد: المسند "6/337" ح "26653".
2 تقدم تخريجه.
3 تقدم تخريجه.
4 في الأصل: ادعوها.
5 أخرجه الترمذي: المناقب "5/609" ح "3662" وقال: هذا حديث حسن وابن ماجه: المقدمة "1/37" ح "97" وأحمد: المسند "5/447" ح "23307" انظر تلخيص الحبير "4/209" ح "13".
6 أخرجه أبو داود: الإمارة "3/138" ح "2961" والترمذي: المناقب "5/617" ح "3682" وابن ماجة: المقدمة "1/40" ح "108" وأحمد: المسند "2/530" ح "9235" بألفاظ نحوه.
7 أخرجه أحمد: المسند "1/132" ح "837".
8 أخرجه الترمذي: المناقب "5/619" ح "3686" وقال: حسن غريب والطبراني في الكبير "17/180" ح "475".

 

ج / 2 ص -24-         مسعود"1 وقال: "رضيت لأمتى ما رضى لها ابن أم عبد"2 يعنى ابن مسعود وقال صلى الله عليه وسلم "أعلمكم بالحلال والحرام معاذ وأقرأكم أبى"3 وقال: "إن لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"4 وهذا يوجب الرجوع إلية لاختصاصه بالأمانة ولكل ما ذكروه معنى وتأويل ذكره أهل العلم في كتبهم ولا يحتاج إلى ذكره في هذا الموضوع واقتصرنا على هذا القدر ورفعنا بهذه المعارضة كلامهم والله المعين على التمسك بالحق والمرشد إليه.
مسألة: إجماع أهل المدينة على انفرادهم لا يكون حجة عندنا.
وقال مالك: إذا أجمع أهل المدينة على شئ لم يعتد بخلاف غيرهم5. وقال الأبهرى من أصحابنا: إنما أراد بهذا فيما طريقه الإخبار. وقال بعضهم: أراد به ترجيح قولهم6 وقد أشار الشافعى رضى الله عنه في هذا في القديم ورجح رواية أهل المدينة على رواية غيرهم وقال بعضهم: أراد بذلك في زمان الصحابة والتابعين وتابعى التابعين فأما من نصر قول مالك على الإطلاق تعلق بقوله صلى الله عليه وسلم: "
المدينة طيبة وأنها ينفى خبثها كما ينفى الكير خبث الحديد"7 قال: والخطأ من الخبث فكان منتفيا عن أهل المدينة. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها"8

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي: المناقب "5/672" ح "3805" وقال: حسن غريب.
2 أخرجه الطبراني في الكبير: "9/80" ح "8458" والحاكم في المستدرك "3/317".
3 أخرجه الترمذي: المناقب "5/664" ح "3790 وقال: حسن غريب وابن ماجة: المقدمة "1/55" ح "154" وأحمد: المسند "3/344" ح "13998".
4 أخرجه البخاري: المغازي "7/696" ح "4382" ومسلم: فضائل الصحابة "4/1881" ح "53/2419".
5 المقصود بأهل المدينة هنا أي: الصحابة والتابعين دون غيرهم انظر نهاية السول "3/264".
6 انظر نهاية السول "3/264" إحكام الأحكام للآمدي "1/349" انظر المحصول "2/78" روضة الناظر "126" فواتح الرحموت "2/232" حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي "3/264" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/154".
7 أصله في البخاري ومسلم بلفظ "المدينة تنفي كما ينفي الكير خبث الحديد" أخرجه البخاري: فضائل المدينة "4/104" ح "1871" ومسلم: الحج "2/1006" ح "488/1382".
8 أخرجه البخاري: فضائل المدينة "4/111" ح "1876" ومسلم: الإيمان "1/131" ح "233/147".

 

ج / 2 ص -25-         والأخبار في فضل المدينة تكثر ولأن الممدينة منزلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض ومهبط الوحى حتى انقطع ودار الهجرة ومنها ظهر العلم ومنها صدر وهى منازل الصحابة ومستقر الإسلام ومتبوأ الأيمان مجموع هذا يدل أن الحق معهم وأنه لا يعدوهم وأما من قال: إن روايتهم أولى فلأنهم أعرف بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان بينهم من أفقه أهل كل بلد يكونون أخبر وأعرف مما يجرى فيه من غيرهم وأما دليلنا فظاهر وذلك لأن الإجماع إنما كان حجة بالأدلة السمعية التي بيناها وتلك الدلائل تتناول أهل المدينة كما تتناول أهل غيرها من البلاد على الانفراد ولأن الأماكن غير مؤثرة في كون الأقوال حجة دليله الحرم والمسجد الحرام ويقال لأصحاب مالك: ما الذى أوجب قصر الإجماع على أهل المدينة؟ فإن قالوا: لأنهم مخصوصون بالعصمة فهذا كلام باطل بالإجماع ونحن نعلم قطعا أنه يجرى بالمدينة من الفضائح والكبائر مثل ما يجرى في سائر البلاد وإن قالوا: لأنها مهبط الوحى ومنزل النبى صلى الله عليه وسلم وأهلها يتوارثون السنة قرنا فقرن فهذه أمور لا توجب قصر الإجماع على أهلها وتخصيصهم به دون أهل سائر البلدان لأن المجتمعين على الحكم إنما يجمعهم عليه دليل يوجب اتفاقهم عليه والدليل إما بتوقيف أو إجتهاد وأهل العلم حيث كانوا من بقاع الأرض وأقطارها المشاركون لأهل المدينة في أنواع الأدلة ووجوه الاستدلال وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل الوحى عليه بالمدينة وهو مقيم بها وفى أسفاره وهو طاعن عنها وقد نزل عليه بمكة قرآن كثير ولعله يبلغ شطر القرآن فثبت أن أهل المدينة وأهل سائر البلاد في الشرع سواء وثبت أن أدلة الإجماع في الكل سواء وليس لها تخصيص بأهل المدينة دون غيرهم.
ببينة: أن المناسك بينها النبى صلى الله عليه وسلم بمكة. وقال:
"خذوا عنى مناسككم"1 ثم لم يقل أحد: إن أهل مكة إذا أجمعوا على شئ من المناسك يكون إجماعهم حجة وأنهم يمتازون بهذا عن سائر البلاد. ثم نقول: إن كثيرا من الصحابة قد تفرقوا عن المدينة ورحلوا عنها إلى العراق والشام ومصر وسائر البلدان وإنما رحل كل واحد منهم بما معه من السنة فبينه في أهل تلك البلاد التي أقام فيها وقد أقام بالشام جماعة منهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وغيرهم وانتقل على

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم: الحج "2/943" ح" 310/1297" والبيهقي في الكبرى "5/204" ح "9524" ولفظه للبيهقي.

 

ج / 2 ص -26-         بالكوفة وهو أحد الخلفاء الأربعة وأقام بها إلى أن توفاه الله عز وجل وكان بها ابن مسعود وحذيفه وسعد بن أبى وقاص وسلمان وغيرهم وحين بعث عمر ابن مسعود إلى الكوفة كتب إليهم بعبد الله على نفسى وورد البصرة من الصحابة طلحة والزبير وعائشة فمن كان معهم من الصحابه فأقام بهها ابن عباس مدة وكان بها أبو موسى الأشعرى وعمران بن حصين وأنس وغيرهم وهؤلاء من أعيان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مع كل واحد منهم طائفة من أمر الدين وقطعة من السنة وقد تلقاها عنهم أهل هذه البقاع وحصلوها عندهم فكيف يجوز أن يختزلوا دون الإجماع ويفتات عليه في ذلك ولا يكون لهم منه حظ ولا يعتبر منهم خلاف هذا أمر قبيح وخطة مستشنعة ثم نقول إن المدينة كما أنها كانت مجمع الصحابة ومهبط الوحى فقد كانت أيضا دار المنافقين ومجمع أعداء الدين منهم عبد الله بن أبى ابن سلول وحلاس بن سويد ويجمع بن حارثة الثقفى وطعمه بن أبيرق غيرهم وكان من رؤسهم أبو عامر الراهب وله بنوا مسجد الضرار وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة وفى المدينة قال القائلون المنافقون: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] وقالوا: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8] وفيها الماردون على النفاق الذين نزل فيهم قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101] وفيها طعن عمر وحوصر عثمان حتى قتل وعلى أهلها كانت وقعة الحرة أيام يزيد بن معاوية ففنى الخلق وهلك عامة أهل الفضل ثم انجلى عنها أكثر من بقى منهم وبها غيرت السنن زمن مروان بن الحكم حين كان أميرها من قبل معاوية رضى الله عنه وقدم خطبتى العيد على الصلاة وأقام الحرس حتى منعوا الناس عن تحية المسجد حين كان يخطب وأخرج المنبر يوم العيد وغير ذلك مما يكثر والخطب جسيم والداء دوى والشر قد تم وجرى منذ قتل عثمان بالمدينة سنة خمس وثلاثين من الهجرة إلى بعد المائة من الهجرة بالمدينة ومكة والعراق1 وغيرها من بلدان الإسلام ما ترتاع النفوس سماعها وتقشعر القلوب من هولها وشدتها وظهر من الجرأة على الله تعالى وهتك جهات الدين والتهاون بشعائره وتغيير رسومه وسننه ونقض عرى الإسلام وسفك الدماء المحترمة وانتهاك المحارم والإقدام على العظائم التي لا يقدر قدرها ما لو حكى عشر ذلك بل أقل القليل منه بنى إسرائيل لتعاظمه هذه الأمة فكيف وهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "العراقيين".

 

ج / 2 ص -27-         الفاعلون لذلك المقدمون عليه ولله أمر بالغه وهو لعباده وهو بالمرصاد ونسأل الله تعالى العصمة وهذا الذى قلنا فيما سوى سيئات سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز أما سليمان فقد قيل: إنه فتح بخير وختم بخير أما افتتاحه بخير فهو هلاك الحجاج واختتامه بخير استخلافه عمر بن عبد العزيز وأما عمر فقد ضم إلى الخلفاء الراشدين وحسبك بهذا شرفا ونقول في مجموع ذلك ما قاله بعض سلفه: وهو أنه سئل عن الأمور التي جرت بين الصحابة ومن بعدهم وقرأ قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} البقرة: 286] وأما رواية أحدهم تقديم أهل المدينة فقد قاله بعض أصحابنا على ما قدمناه والأصح أن روايتهم ورواية غيرهم سواء وذلك أن ما يوجب قبول الأخبار يستوى القولفيه أهل المدينة وأهل سائر البلدان ولأن شهادة أهل المدينة وشهادة غيرهم واحد وكذلك الرواية ولأنا قد بينا أنه لا يقدم في المناسك رواية أهل مكة وإن اختصوا بها على معنى أن الكعبة عندهم والمشاعر في بلدهم واختصاصهم بمناسك الحج [أخص]1 من أهل المدينة بالسنن فأهل المدينة وغير أهل المدينة في السنن والشرع سواء وقد حكى بعضهم عن مالك أنه قال: "يخرج العلم من عندنا شبرا ويرجع ذراعا" يعنى أنه يزاد فيه ولا يمكن إطلاق هذا القول وفيه أن الظن بنقلة الأخبار وقد قال بعض أهل المدينة لبعض أهل العراق. وعندي أن من عندنا خرج العلم فقال: بلى ولكن لم يعد إليكم وأيضا يجوز أن يصير ذراعا [وذلك]2 بالمدينة أيضا بأن يزيد فيه بعض الفسقة ويجوز أن يكون في الخير زيادة ثابته يقع الزيادة عند بعض العلماء من غير أهل المدينة والأولى هو التسوية [بين]3 أهل المدينة وغير أهل المدينة في الرواية وفي الاجتهاد وفى مسألة الإجماع على ما سبق هذا مع اعترافنا للمدينة بالفضل الذي خصها الله تعالى به على ما نقل في الأخبار مثل ما نعترف لمكة بالفضل الذى خصها الله به على ما ورد في الأخبار ومن الله العصمة ونسأله أن لا يكلنا إلى أنفسنا وحولنا وقوتنا بمنه وجوده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "اختص".
2 ليست واضحة في الأصل.
3 ثبت في الأصل من.

 

ج / 2 ص -28-         فصل
هذا الفصل هو الفصل الخامس وهو يشتمل على: معارضة الاختلاف والإجماع ويشتمل تعارضها على أربعة أضرب:

فالضرب الأول: أن يحدث الإجماع بعد تقدم الخلاف في عصر واحد1 كاختلاف الصحابة ثم إجماعهم بعد خلافهم فيصير الإجماع بهم منعقد وما تقدم من خلافهم ساقطا لأن العمل يكون بما استقرت عليه أقاويلهم وقد استقرت على الإجماع [و]2 زال به الخلاف وقد وجد في الصحابة من ذلك خلافهم في الصحبة حيث قالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير ثم أن أبا بكر رضى الله عنه لما حاججهم وأخبر أن الخلافة لا تصلح إلا في هذا الحى من قريش رجعوا إلى قوله وزال الخلاف ومن ذلك أيضا خلافهم على أبى بكر في قتال أهل الردة ثم رجعوا إلى قوله وأجمعوا عليه ومن ذلك خلاف ابن عباس وزيد بن أرقم لسائر الصحابة رضى الله عنهم في أن الربا لا يجرى إلا في النساء [رجعا]3 عن ذلك ووافقا سائر الصحابة ومن ذلك أيضا خلاف عمر وابن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إذا اختلف المجتهدون في العصر الواحد في حكم المسألة على قولين فهل يجوز الاتفاق منهم بعد ذلك على أحد القولين:
اختلف الأصولين في ذلك فمنهم من جوز الاتفاق بعد الاختلاف ومنهم من منعه.
وهذا الحلاف مبني على خلاف آخر وهو هل موت المجمعين شرط في اعتبار إجماعهم أو ليس شرطا فيه فمن قال إن موت المجمعين شرط في اعتبار إجماعهم جوز الاتفاق منهم بعد الاختلاف كأن إجماعهم الأول لم يعتبر لفقدان شروطه ومن قال: إن موتهم ليس شرطا في ذلك بل جعل الإجماع حجة بمجرد الاتفاق وإن لم يموتوا - اختلف في جواز الاتفاق المذكور بعد الاختلاف على أقوال ثلاثة:
القول الأول: يجوز مطلقا وهو مختار ابن الحاجب والرازي والبيضاوي.
القول الثاني: لا يجوز مطلقا استقر الخلاف -بأن علمت- أو لم يستقر وهو للصيرفي والباقلاني.
القول الثالث: يجوز إن لم يستقر الخلاف ولا يجوز عند استقراره وهو لإمام الحرمين والآمدي المستصفى "1/205" انظر نهاية السول "3/281" انظر إحكام الأحكام "1/399" انظر المحصول "2/66" المعتمد "2/37" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/163".
2 زيادة ليست في الأصل.
3 ثبت في الأصل: رجعوا.

 

ج / 2 ص -29-         مسعود لسائر الصحابة في أن الجنب لا يجوز له التيمم ثم [رجعا]1 عن ذلك ووافقا سائر الصحابة2. وعندي أن ثبوت الرجوع في هذه المسألة والمسألة التي قبلها نظر ومن هذا الباب خلاف ابن عباس لجماعة الصحابة في تحريم المتعة فإن ابن عباس أحلها3. ونقل ذلك عن ابن مسعود ثم أن ابن عباس رجع عن ذلك4. وعندي أن في الرجوع عما كان يقوله نظر والفقهاء ينقلون عن جابر بن زيد أن ابن عباس رضى الله عنه لم يلبث حتى رجع عن قوله في الصرف وأما قول ابن مسعود في تحليل المتعة فليس بمعروف وقد أورده بعص أصحابنا وقد قال أبو سعيد الاصطخرى: إن المتعة محرمة بالإجماع وجعل مرتكبها زانيا وأوجب الحد عليه وأما سائر أصحابنا وكذلك عامة الفقهاء قد أبوا عن هذا وجعلوا حكم الخلاف باقيا ولم يوجبوا الحد بارتكابها5 ولا وسموا مرتكبها بسمة الزنا وفى تفسيقه وجهان.
والضرب الثاني: أن يحدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصر واحد فهو على ضربين أحدهما: أن يكون المخالف لم يوافق المجمعين قبل خلافه فيصح خلافه ولا ينعقد مع خلافه الإجماع كما خالف ابن عباس في القول مع إجماع غيره عليه.
والضرب الثالث: أن يكون وافقهم ثم خالفهم كخلاف على في بيع أمهات الأولاد مع اتفاقه مع عمر وسائر الصحابة في تحريم بيعهن فمن جعل انقراض العصر شرطا في انعقاد الإجماع بخلافه لحدوثه قبل استقراره ومن لم يجعله شرطا أبطل خلافه مع إجماعه.
والضرب الرابع: أن يحدث الإجماع بعد تقدم الخلاف في عصرين وذلك مثل اختلاف الصحابة على قولين وإجماع التابعين على أحد القولين فهذه مسألة معروفة وسنذكرها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "رجعوا".
2 ونقله الشيخ النووي عنهما وزاد إبراهيم النخعي قال: قال ابن الصباغ وغيره: وقيل إن عمر وعبد الله رجعا انظر شرح المهذب "2/207, 208".
3 ذكره الإمام موفق الدين بن قدامة عن ابن عباس وأكثر أصحابه عطاء وطاوس وه قال ابن جريج وحكى ذلك عن أبي سعيد الخدري انظر المغني لاين قدامة المقدسي "7/571".
4 ذكرع ابن قدامة: انظر المغني "7/572".
5 انظر روضة الطالبين "7/42".

 

ج / 2 ص -30-         مسألة: إذا اختلف الصحابة على قولين ثم أجمعت التابعون على أحد القولين:
فمذهب الأكثرين من أصحاب الشافعى رضى الله عنه أن خلاف الصحابة ثابت ولا يرتفع بإجماع التابعين. من بعدهم والمسألة لا تصير إجماعا وهو قول بعض أصحاب أبى حنيفه وبعض المتكلمين وقال الأكثرين من أصحاب أبى حنيفه أنه يرتفع الخلاف المتقدم ولا ينعقد الإجماع من التابعين على المسألة وبه قال الإصطخرى وابن خيران والقفال من أصحاب الشافعى رحمه الله عليهم وقد نص عليه الكرخى وصار إليه وكذلك كل من تبعه وذهب إليه أيضا أكثر المعتزلة وحكى بعض أصحاب أبي حنيفة في المسألة روايتين عن أبى حنيفة وحكى عن أببى يوسف أيضا أنه ينعقد الإجماع1 ويرتفع الخلاف المتقدم واحتج من قال بالقول الثانى بقوله تعالى:
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115].
وبقوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقد بينا أن ذلك يتناول أهل كل عصر ولم يفصل في اتباع غير سبيل المؤمنين بين أن يكون تقدم خلاف أو لم يتقدم خلاف واستدلوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتى على الضلالة"2 وفى رواية "على خطأ" فيجب أن يكون ما اتفق عليه أهل العصر الثاني غير خطأ ولأن الإجماع المبتدأ لا يجوز خلافه فكذلك الإجماع بعد الاختلاف وجب أن لا يجوز خلافه لأن الإجماعين واحد وحرفهم أن الإجماع قد وجد فينعقد ويكون حجة كما لو لم يتقدمه خلاف.
ببينة: أن الصحابة لو اختلفوا ثم أجمعوا فإنه يسقط الخلاف المتقدم بالإجماع المتأخر فكذلك يسقط الخلاف المتقدم في مسألتنا لأن الحجة في إجماع التابعين مثل الحجة في إجماع الصحابة فلما سقط اختلاف الصحابة بإجماعهم فيسقط أيضا بإجماع التابعين وأما حجة من ذهب إلى المذهب الأول وهو الأصح تعلقوا بقوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] "فأمر عند وقوع التنازع بالرد إلى الكتاب والسنة وأهل العصر الأول قد ردوا الحادثة إلى الكتاب والسنة فوجدوا الحادثة مجتهدا فيها وقد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الإحكام "1/394" المحصول "2/66, 67" انظر نهاية السول "3/286, 287" المستصفى "1/203" حاشية الشيخ المطيعي "3/286, 287" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/164".
2 تقدم تخريجه.

 

ج / 2 ص -31-         انقرض عصرهم على هذا وقد أثنى الله على التابعين بحسن المتابعة فإذا اعترضوا عليهم قطعوا الاجتهاد عن الحادثة لم يكونوا متبعين فدل أن الحادثة على ما رآه أهل العصر الأول فيها وأنها مستمرة على ذلك وهذا الحقيقة وهي أن علماء العصر إذا اختلفوا في الحادثة على مذهبين وذلك مثلا في تحليل وتحريم فقد تضمن ذلك إجماعهم من كافتهم على أن الخلاف سائغ من الحادثة فحصل في ضمن الخلاف الإجماع على جواز الخلاف فإذا صورنا الرجوع إلى أحد القولين من التابعين لم يجز لأنه مسبوق بالإجماع على جواز الخلاف فنقول: ما أجمعت الصحابة عليه لم يجز للتابعين إبطاله كما لو أجمعوا على قول وليس يلزم على هذا إذا اختلف الصحابة على قولين ثم أجمعوا على أحد القولين لأنا إن قلنا: إن انقراض العصر شرط في صحة الإجماع لم يسلم لوجود الإجماع على تسويغ الخلاف وأن قلنا إن انقراض العصر ليس بشرط وهو الأولى على ما سبق لم يسلم جواز الاتفاق على أحد القولين بعد هذا الاختلاف وقد حكى عن القاضى أبى بكر أنه جعل حكم الصورتين واحد وقال كما لا يجوز لأهل العصر الثانى أن يتفقوا على أحد القولين ويبطلوا به الخلاف المتقدم كذلك في أهل العصر الواحد أيضا لا يجوز أن يختلفوا على قولين ثم يتفقوا على أحد القولين فإن قيل لا يمتنع أن يتفقوا على تسويغ الاجتهاد بشرط أن لا يظهر إجماع فإذا ظهر الإجماع يسقط ذلك الاتفاق كما أنهم اتفقوا أن فرض العادم للماء التيمم ما لم يجد فإذا وجد الماء زال ذلك الاتفاق.
والجواب: أن دعوى هذا الشرط ليس عليها دليل بل حصل احتلافهم وجود الإجماع على تسويغ الاجتهاد وهذا الإجماع لا يجوز إبطاله بإجماع يوجد من بعد وأما مسألة التيمم فبعيدة عن هذا لأن النص قد دل على أن جواز التيمم مشروط بعدم الماء فإذا وجد الماء زال الشرط وأما ها هنا فإن أهل العصر الأول قد أجمعوا على تسويغ النظر على الإطلاق من غير شرط فهو بمنزلة إجماعهم على شرط واحد فلا يجوز أن يزول ذلك بإجماع يوجد بعده يدل على ما ذكرنا: أن الإجماع إذا حصل واستقر لم يجز أن يتغير بالاختلاف من بعد فكذلك إذا حصل الاختلاف واستقر لم يجز أن يتغير بالإجماع من بعد والاعتماد على الكلام الأول وقد قال بعض أصحابنا: إن القول إذا صدر عمن له في الدين تحمل لم يجز أن ينقطع حكمه بموته بدليل النبى صلى الله عليه وسلم فإن قيل: قد ورد خلاف ما صرتم إليه من الصحابة فإن أبا بكر كان يرى سبى المرتدات ثم اتفقوا

 

ج / 2 ص -32-         على المنع زمن عمر رضى الله عنه وأجرى الأثر على ذلك وكذلك كانت الصحابة تقرأ بالحروف المختلفة في زمان أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ثم اجتمعوا في زمان عمر رضى الله عنه على [أن]1 ما بين الدفتين كلام الله فدل أن الوفاق الثاني يدفع الخلاف الأول قيل له هذا لا يشبه مسألتنا لأن عصر الصحابة كله عصر واحد فقد يمتد زمان النظر وتنفسخ مدة الرؤية وقد كانوا ينظرون ثم يعيدون النظر كرة بعد أولى على حسب ما يحتاج إليه لدقة الأمر وغموضه إلى أن يتبين لهم الأمر غاية البيان ويزول الإشكال فلم يكن الإجماع يستقر بأول وهلة والكلام فيما إذا استقر الأمر من الصحابة على شئ وانقرضوا على ذلك ثم حدث من بعد ما يوجب إزالة ما انقرضوا عليه ورفعه وقد قال بعض أصحابنا: إن قرب عهد المختلفين ثم اتفقوا على قول فلا أثر للخلاف المتقدم وهو نازل منزلة تردد من ناظره ثم استقراره أخيرا وأما إذا تمادى الخلاف في زمان فتطاول بحيث يعلم أنه لو كان ينقدح وجهه في سقوط أحد القولين ليظهر ذلك في الزمان الطويل فإذا بلغ الأمر إلى هذا المنتهى فلا حكم للوفاق مع أحد القولين والأمر باق على الخلاف السابق لما بينا أن في اختلافهم وفاقا ضمنيا على أن الخلاف في هذا المجال سائغ وهذا لا بأس به والأول هو المنقول عن أئمة المذاهب وأما الجواب عن كل ما تعلقوا به من الظواهر فقد بينا أن اختلافهم يثبت وفاقا ضمنيا فلا يجوز رفعه من بعد وعلى هذا صارت هذه الظواهر حجة على المخالفين لأن سبيل المؤمنين في العصر الأول لما كان هو تسويغ الاجتهاد فلا يجوز اتباع غير سبيلهم وكذلك لما اجتمعوا على ما ذكرناه كان خلافه ضلالة وخطأ وأما الذى قالوا أن الإجماع المبتدأ لا يجوز خلافه فكذلك الإجماع بعد الخلاف قلنا: ولما قلتم هذا ثم الإجماع المبتدأ لم يتضمن رفع إجماع سبق وقوعه وأما ها هنا فإن الإجماع الذى يوجد من بعد من أهل العصر الثانى يتضمن رفع إجماع سبق وقوعه وهو ما سبق ذكره وأما تعلقهم بما إذا اختلف أهل العصر ثم أجمعوا عليه فقد أجبنا عنه وعلى أنا قد ذكرنا من قبل أن بعض أصحابنا ذهب إلى أن انقراض العصر شرط انعقاد الإجماع وعلى هذا القول لا يرد هذا الفصل أصلا وإن جربنا على ما اخترنا في أن انقراض العصر ليس بشرط فليس وجه الجواب عنه إلا أن يمنع ويقال إذا لم يختلفوا لم يجز أن يجمعوا على أحد القولين وإن تمسكوا بالصور

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست بالأصل يستقيم بها الكلام.

 

ج / 2 ص -33-         التي قلناها فنقول إنهم كانوا في طلب الدليل ومهلة النظر ولم يكن استقرار الأمر على نفى من اختلاف أو اتفاق ويمكن أن يقال: لا نسلم أن أبا بكر كان يرى سبى المرتدات ولم ينقل عنه رضى الله عنه نص على ذلك يحتمل أن من سبى من النساء كن من الكافرات الأصليات ولم يكن أسلمن أصلا وأما اتفاق الصحابة على حرف واحد بعد أن كانوا يقرءون ثم بالحروف المختلفة فذلك نوع مصلحة رأوها لما وقع الاختلاف والتنازع وخافوا المفسدة العظيمة والكلام فيما يرجع إلى الأحكام الشرعية وليس هذا مما نحن فيه.
واعلم أن هذا الذي قلناه كله من الإجماع بعد الاختلاف فأما الاختلاف بعد الإجماع في عصر واحد فهو نبأ على أن انقراض العصر هل هو شرط في انعقاد الإجماع أو لا فإن قلنا شرط فيجوز الاختلاف لأن الإجماع لم ينعقد بعد وإن قلنا: ليس بشرط فلا يجوز وأما في العصرين وذلك بأن يجمع الصحابة على شئ ثم يختلف التابعون فلا يجوز ذلك ويكون اختلاف معاندة ومكابرة والله أعلم.

فصل: إذا اختلف الصحابة في مسألتين على قولين:
ذهبت طائفة منهم إلى حكم وصرحت بالتسوية بينهما وذهبت طائفة أخرى إلى حكم آخر وصرحت بالتسوية فهل يجوز لمن بعدهم أن يأخذ بقول إحدى الطائفتين في إحدى المسألتين ويأخذ بقول الطائفة الأخرى في المسألة الأخرى؟.
ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز والآخر لا يجوز ووجه الجواز أنهم لم يجمعوا على التسوية بين المسألتين في حكم واحد1 وإنما سووا في حكمين مختلفين فجاز لمن بعدهم الأخذ بالتفصيل وأما وجه عدم الجواز وهو أن جميعهم أجمعوا على التسوية بينهما وهذا التفصيل يمنع من التسوية فصار كما لو أجمعوا على قول واحد فإنه لا يجوز إحداث قول ثاني وهذا الوجه أشبه وأصح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "3/275" حاشية المطيعي "3/275" انظر إحكام الأحكام "1/387" انظر المحصول "2/64" المعتمد "2/46" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "3/161".

 

ج / 2 ص -34-         فصل: ولا يجوز أن يتفق أهل عصر على الجهل بحكم حادثة حدثت في عصرهم.
لأنه لا يخلوا من حكم الله تعالى فيها لما نصب من الأدلة عليه فصار الجهل بحكمها إجماعا على الخطأ وقد دللنا أن ذلك لا يجوز ولأن في الإمسال عنها إعراضا عن الأدلة التي توصل إلى الحكم في الحادثة وهذه معصية لا يجوز أن ينعقد عليها الإجماع من الأمة وحين وصلنا إلى هذا الموضع انتهى القول في الإجماع بعون الله تعالى وحسن تأييده وتيسيره ولما فرغنا من باب الإجماع ووصلنا إلى باب القياس فقد بقيت علينا مسائل شذت عن الأبواب المتقدمة وليس بعض هذه الإبواب المتقدمة بأولى بها من البعض فنذكر اولا تلك المسائل ثم نتكلم في التقليد ثم نشرع في باب القياس حسب ما يأذن الله تيسيره وتسهيله.
اعلم أنا وصلنا إلى باب القياس والاجتهاد وما يتصل بذلك غير أنه قد بقيت مسائل شذت عن الأبواب التي قدمناها ولم تدخل في أبواب القياس ولابد من ذكرها فوجدنا ذكرها أليق بهذا الموضع خصوصا مسألة استصحاب الحال وهل هو حجة أم لا فإن هذه المسائل يصلح أن تكون من توابع الإجماع فنقدم هذه المسألة ثم نذكر سائر المسأئل بعون الله وتوفيقه.