قواطع الأدلة في الأصول

ج / 1 ص -461-       القول في الإجماع وما يتصل بذلك.
اعلم أن الإجماع هو اتفاق أهل العصر على حكم النازلة ويقال اتفاق علماء العصر على حكم الحادثة1 هذا الحد أحسن واختلفوا في معنى تسميته بالإجماع فقال قوم هو مأخوذ من اجتماع الأقوال عليه فصار بالاجتماع إجماعا وقال آخرون بل هو مأخوذ من الجمع الذي هو العزم من قولهم قد أجمع فلان على كذا إذا عزم عليه ومنه قوله تعالى:
{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} أي اعزموا عليه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" أي يعزم عليه وينويه وهذا المعنى باللغة والأول بالشرع أشبه وعلى المعنى الثاني يصح الإجماع من الواحد وعلى المعنى الأول لا يصح إلا من جماعة والإجماع إذا أطلق في اللغة قد يفهم منه العزم على الشيء والإجماع على الشيء من اثنين فصاعدا وأما في الشرع فإن الإجماع إذا أطلق لا يتناول إلا اجتماع الأمة على الحق ثم اعلم بعد هذا أن الإجماع ممكن وانعقاده متصور وقال قوم انعقاد الإجماع غير متصور وغير ممكن وهذا باطل لأنه لما كان الإجماع في الأخبار المستفيضة ممكنا وجب أن يكون الإجماع باعتقاد الأحكام ممكنا لأنه كما يوجد سبب يدعو إلى إجماعهم على الأخبار المستفيضة يوجد أيضا سبب يدعو إلى إجماعهم باعتقاد الأحكام يدل عليه أن من تبين بشرع فإنه لا يستجيز كتمانه إلا عن تقية في بعض المواضع فأما إذا لم يكن هناك تقية ولا خوف فإنه لا يستجيز كتمانه وإخفاءه وإذا ثبت هذا إذا اجتمعت الجماعة على اعتقاد أو حكم واستفاض ذلك فيما بينهم أو لم ينكر أحد منهم ذلك لو خلو اعتقد أحد منهم خلاف ذلك لأنكره أما صريحا أو تعريضا فصار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإحماع لغة: يطلق بإطلاقين:
أحدهما: العزم على الشيء والتصميم عليه ومنه قوله تعالى:
{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ} أي اعزموا عليه وقوله عليه السلام "لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل" أي يعزم.
وثانيهما: الاتفاق يقال: أجمع القوم على كذا إذا اتفقوا عليه أما الإجماع عند الأصوليين فهو اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد عليه السلام في عصر من العصور على أمر من الأمور تيسير التحرير 3/224 انظر نهاية السول 3/237 إحكام الأحكام للآمدي 1/280 والمحصول 2/3 جمع الجوامع 2/176 روضة الناظر 116 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/143.

 

ج / 1 ص -462-       عدم الخلاف منهم دليلا على وجود الإجماع وسيأتي الكلام في هذا بأكثر من هذا الذي ذكرناه وإذا ثبت وجود الإجماع فأول مسألة تذكر من ذلك كونه حجة.
مسألة: الإجماع حجة من حجج الشرع ودليل من دلائل الله تعالى على الأحكام وهو حجة مقطوع بها.
وقال النظام ليس بحجة وقالت الإمامية ليس بحجة من حيث الإجماع لكن الحجة في أن الإمام داخل فيهم وقوله مقطوع على صحته وذهب بعض من دفع الإجماع إلى أنه لا يتصور وجود الإجماع.
واعلم أن من يدفع الإجماع فإنه يسلك أحد مسالك ثلاثة:
أحدها:
أن يحيل وقوع الإجماع.
والثاني: أن يحيل ثبوت الطريق إليه.
والثالث: أن يقول: ليس في الشرع ولا في العقل دليل على أن الإجماع حجة1.
أما الأول قالوا: أنه لا يمكن ضبط أقاويل العلماء على كثرتهم تباعد ديارهم ألا ترى أن أهل بغداد لا يعرفون أهل العلم بالمغرب فضلا أن يعرفوا أقاويلهم في الحوادث وكذلك من بالمشرق فدل أن معرفة قول الأمة بأجمعهم في الحوادث متعذرة لا سبيل إليها ثم قالوا: كيف يتصور اتفاق آرائهم في الحادثة مع تفاوت الفطن والقرايح وتباين المذاهب وتفنن المطالب وأخذ كل قوم صوبا من أساليب الظنون فيكون تصوير إجماعهم في الحكم المظنون بمثابة تصور إجماع العالمين في صبيحة يوم على قيام أو قعود أو أكل نوع من الطعام وأيضا لو تصور إجماعهم كيف يتصور النقل عنهم على التواتر والحكم في المسألة الواحدة ليس مما يتوفر الدواعي إلى نقله فنثبت أن تصور الإجماع بأنه متسلل وأيضا فإن الرجوع من كل واحد منهم موهوم ومع هذا الذي قلناه لا يتصور انعقاد الإجماع على وجه يؤمن معه الخطأ لأنه يستحيل أن يجوز على كل واحد من الأمة الخطأ ثم لا يجوز على جماعتهم كما يستحيل أن يكون كل واحد منهم مصيبا وجماعتهم غير مصيبين وأن يكون كل واحد منهم أسود وجماعتهم غير سود.
وأما المسلك الثاني وهو أنه لا طريق إليه لأنه لو انعقد الإجماع لكان لا بد أن يكون.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 3/245 المحصول 2/8 إحكام الأحكام للآمدي 1/286 المستصفى 1/173 المعتمد 2/4 روضة الطالبين 116 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/145.

 

ج / 1 ص -463-       إجماعهم صادرا عن أصل فإن انعقد عن نص وجب نقله والاستغناء به وأن انعقد عن اجتهاد وأمارة مظنونة فلا يجوز ذلك لأنهم مع كثرتهم واختلاف هممهم لا يجوز أن يوجد إجماعهم عن الأمارات المظنونة يدل عليه أنكم جعلتم الإجماع حجة وإذا انعقد عن دلالة فتكون الدلالة هي الحجة لا الإجماع قالوا: ولا يجوز أن يقال ينعقد إجماعهم لا عن دلالة لأن الذين ينعقد بهم الإجماع ليسوا بآكد حالا وأعلى مرتبة من النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول: ما يقوله إلا عن وحي فالأمة أولى أن يقولوا ما يقولونه إلا عن دليل ولأنه إذا جاز لهم أن يقولوا إلا عن دليل جاز لكل واحد منهم أن يقول أيضا بغير دليل لأنهم إنما يجتمعون على القول بأن يقول: كل واحد منهم ونحن نعلم قطعا أنه لا يجوز لكل واحد منهم أن يقول بغير دليل وإذا لم يجز لآحادهم لا يجوز لجماعتهم وإذا ثبت أنه لا بد من دليل فتكون الحجة هي الدليل لا الإجماع.
وأما المسلك الثاني فيطالبون بإقامة الدليل قالوا: ولا دليل عليه لا من حيث العقل ولا من حيث السمع وقد تعلق بعضهم بالأمم السالفة وقالوا: لما لم يكن إجماعهم حجة فكذلك اتفاق هذه الأمة وتمسكوا بظواهر منها قوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ولم يذكر الإجماع ولو كان حجة لذكره ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال بم تقضي قال بكتاب الله قال فإن لم تجد في كتاب الله تعالى قال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم" قال أجتهد رأيي1 ولم يذكر الإجماع ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"2 وهذا يدل على جواز الضلالة على الأمة وإذا جازت الضلالة عليهم لم يكن إجماعهم حجة.
وأما حجتنا فتتعلق أولا بالكتاب وهو قوله سبحانه وتعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والوسط من كل شيء خياره وقيل الوسط من يرضى قوله وقيل هو العدل والمعاني متقاربة وقال الشاعر:

هم وسط يرضى الأنام بحكمهم     وإذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وأيضا فإن الله تعالى قال: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] والشاهد أتم لمن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الأقضية 3/302 ح 3592 والترمذي الأحكام 3/607 ح 1327 وأحمد المسند 5/280 ح 22122 انظر تلخيص الحبير 4/201 ح 5.
2 أخرجه البخاري العلم 1/262 ومسلم الإيمان 1/81 ح 118/65.

 

ج / 1 ص -464-       يكون قوله حجة فقد وصف الله تعالى الأمة بالعدالة والشهادة فدل أن قبول قولهم واجب لأنه لا يجوز أن يصفهم بالعدالة فيجعلهم شهداء على الناس ثم لا يقبل قولهم ولا يجعله حجة.
ببينة: أن الحكيم لا يصف بخيرية قوما ليشهدوا وهو عالم بأنهم كلهم يقدمون على الكذب فيما يريدون فدل أنه تعالى علم أنهم لا يقدمون إلا على الحق حيث وصفهم بما وصفهم فإن قيل المراد بالآية هو شهادتهم في الآخرة على الأمم بأن الأنبياء بلغت إليهم الرسالة وهذا يقتضي أن يكونوا عدولا في الآخرة لا في الدنيا والجواب أن هذا لو كان هو المراد لقال نجعلكم أمة وسطا فلما قال:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] دل أن هذا الوصف متحقق فيهم في الحال وعلى أن الآية عامة في الدنيا والآخرة فإن قيل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} [البقرة: 143] أن كان المراد بهذا جميع من صدق النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة فلا يتصور إحاطة علمنا بإجماع كل من صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأن أريد بذلك من وجد في زمان نزول الآية فينبغي أن لا يكون الإجماع في موضع ما حجة حتى يعلم أن جميع من كان حاضرا حين نزلت الآية قال بذلك القول والجواب أن الله تبارك وتعالى لما وصفهم بالعدالة والشهادة فقد أوجب علينا قبول قولهم في ذلك فلا يجوز أن يقسم تقسيما يؤدي إلى سد باب الوصول إلى شهادتهم فيكون المراد بالآية أهل العصر الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم أو أهل كل عصر يأتي وقد تأيد هذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] فدل أنهم ينهون عن كل منكر لأن لام الجنس مستغرق الجنس فلو جاز إجماعهم على مذهب منكر لما كانوا ناهين بل كانوا آمرين بذلك وقد قيل أن معنى قوله كنتم صرتم ويحتمل وجدتم ويحتمل أنتم خير أمة ذلك معتمد قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] فقد جمع بين مشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحا لما جمع بينه وبين المحظور في الوعيد إلا ترى أنه لا يحسن أن يقول الحكيم لغيره أن تبت وشربت الماء عاقبتك وإذا قبح غير سبيل المؤمنين وجب تجنبه وليس يمكن تجنبه إلا باتباع سبيلهم لأنه لا واسطة بين اتباع سبيلهم واتباع غير سبيلهم وقد تبين بهذا الجواب عن السؤال الذي يقولونه وهو أن الله تعالى علق الوعيد بمخالفة الرسول.

 

ج / 1 ص -465-       وترك اتباع غير سبيل المؤمنين قد بينا أنه لا يصح الجمع بين شيئين في الوعيد إلا وأن يكون كل واحد منهما يستحق عليه الوعيد يدل عليه أنه لا خلاف أنه يستحق الوعيد بمشاقة الرسول على الانفراد فكذلك استحق الوعيد بترك متابعة سبيل المؤمنين على الانفراد فإن قيل المراد بترك متابعة سبيل المؤمنين في مشاقة الرسول قلنا فيكون لا فائدة في قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين لأن استحقاق الوعيد عرف بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} [النساء:115] فيجب أن يكون الوعيد بترك اتباع سبيل المؤمنين متعلقا بمعنى آخر غير ما سبق يفيد فائدة وأيضا فإن هذا السؤال يقتضي أن لا يكون مشاقة الرسول بانفراده معصية فإن قيل قد شرط الله عز وجل في لحوق الوعيد أن يكون اتباعه غير سبيل المؤمنين بعد أن تبين له الهدى والألف واللام لاستغراق الجنس فاقتضى استيعاب الهدى وكان معنى الآية من تبين جميع الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين لحقه الوعيد فيدخل ما أجمعوا عليه في جملة الهدى فعلى هذا يجب أن يكون الهدى بدليل سوى قول الأمة تم إذا تبين يتبعون فيه كما أن الإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه اقتضى أن يكون تبين صدقه بشيء سوى قوله.
والجواب أنه قد قيل أن تبين الهدى شرط في لحوق الوعيد المذكور بمشاقة الرسول فقط لا في اتباع غير سبيل المؤمنين لأن الإنسان إنما يكون مشاقا معاندا إذا تبين الحق وعرفه وكان هذا الشرط مقصورا على المشاقة فقط وأيضا فإن الذي قالوه لو كان على ما زعموا لبطل فائدة تخصيص المؤمنين مع علمنا أنه خرج الكلام مخرج تمييز المؤمنين والإعظام لهم ألا ترى أن غير المؤمنين إذا عرفنا أن قولا من أقاويلهم هدى فإنه يلزمنا أن نقول مثل قولهم كما يلزمنا مثل ذلك في المؤمنين يدل عليه أن اتباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأنهم قالوه وليس اتباعهم هو مشاركتهم في قولهم لأن دليلا دل عليه ألا ترى أنا لا نكون متبعين لليهود في إثبات الصانع جل شأنه وفي نبوة موسى عليه السلام وأن شاركناهم في اعتقاد ذلك لما لم نصر إلى ذلك لأجل قولهم فإن قيل هذا الاستدلال بدليل الخطاب لأنكم قلتم لما ذكر في الآية إلحاق الوعيد بمن اتبع غير سبيل المؤمنين دل أن اتباع سبيل المؤمنين واجب وهذا تعلق بمحض دليل الخطاب لأنه ليس في الآية الأمر باتباع سبيل المؤمنين.
قالوا: والاستدلال في مثل هذه المسألة بدليل الخطاب لا يجوز.
الجواب أن مطلق الآية تدل على ما قلناه لأن الله تعالى نص على إلحاق الوعيد.

 

ج / 1 ص -466-       باتباع غير سبيل المؤمنين وعند المخالف لا يلحق الوعيد باتباع غير سبيل المؤمنين بحال وعلى أن الاستدلال بالآية تقسيم عقلي لا يتصور خلافه وهو أنه أما أن يوجد اتباع سبيل المؤمنين أو يوجد اتباع غير سبيل المؤمنين ولا ثالث لهذين فإذا حرم اتباع غير سبيل المؤمنين قطعنا بوجوب اتباع سبيل المؤمنين فإن قيل وقد قال ويتبع غير سبيل المؤمنين فظاهره يقتضي أن يتبع غير سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين وعندنا إذا اتبع غير سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين يلحقهم الوعيد.
والجواب أنه ليس كما زعموه لأن ظاهره يقتضي لحوق الوعيد عند ترك اتباع سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين وفيما لم يصيروا به مؤمنين.
ألا ترى أنه لو قال القائل اتبع سبيل العلماء يقتضي أن يتبع سبيلهم فيما صاروا به علماء وفيما لم يصيروا به علماء وأيضا فإن الآية تقتضي لحوق الوعيد في هذا الفعل بترك اتباع سبيل المؤمنين وعلى هذا السؤال لا يكون بترك اتباع سبيل المؤمنين وإنما يكون الوعيد بترك الإيمان والتوحيد وما يتصل بذلك لا بترك اتباع سبيل المؤمنين فسقط السؤال بهذا الوجه.
فإن قيل قد قال ويتبع غير سبيل المؤمنين وهذا يقتضي سبيلا واحدا فلا يقتضي كل سبيل يوجد.
والجواب أنكم إذا سلمتم أنه إذا ترك اتباع واحد يستحق الوعيد فثبت أنه إذا ترك اتباع كل سبيل هو سبيل المؤمنين يستحق الوعيد أيضا وعلى أن السبيل قد صار معرفا بالإضافة إلى المؤمنين وإذا صار معرفا بهذا الوجه فلا فرق بين أن يعرف الألف واللام أو يعرف بالإضافة وإذا ثبت أن السبيل معرف اقتضى كل سبيل هو سبيل المؤمنين وإذا ترك ذلك استحق الوعيد والاستدلال بهذه الآية في نهاية الاعتماد وقد احتج الشافعي رحمة الله عليه بهذه الآية.
دليل آخر في أن الإجماع حجة:
وهذا الدليل من السنة وهو ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تجتمع أمتي على الضلالة"1.
وفي رواية:
"لا تجتمع أمتي على الخطأ"2 وقال صلى الله عليه وسلم لم يكن الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 لم أجده بهذا اللفظ وما وجد بلفظ
"لا تجتمع أمتي على ضلالة" انظر كشف الخفاء للحافظ العجلوني 2/470 ح 2999 تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر 3/162 ح 8.

 

ج / 1 ص -467-       ليجمع هذه الأمة على الخطأ وقال: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح"1 وقال: "من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه"2 وقال: "من فارق الجماعة فمات ميتة جاهلية"3 وقال: "عليكم بالجماعة"4 و"يد الله مع الجماعة"5 و"من شذ شذ في النار"6 وقال: "عليكم بالسواد الأعظم"7 وقال: "من فارق الجماعة فاقتلوه"8 وقال صلى الله عليه وسلم: "من أحب أن ينال بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"9 وقال صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله ولزوم الجماعة فإن دعوتهم تحيط من ورائهم والنصح لأولي الأمر"10 وقال صلى الله عليه وسلم ستكون بعدي هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جمع فاضربوا عنقه كائنا من كان11.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحافظ الزيلعي غريب مرفوعا ولم أجده إلا موقوفا على ابن مسعود وله طرق بلفظ:
"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رأوه سيئا فهو عند الله سيئ" أخرجه أحمد المسند 1/493 ح 3599 والحاكم في المستدرك 3/78, 79 وبلفظ: "..وما رأوه قبيحا فهو عند الله قبيح" عزاه - إلى - أبو داود الطيالسي في مسنده وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في كتاب الاعتقاد انظر نصب الراية 4/133 وانظر كشف الخفاء للعجلوني 2/245 ح 2214.
2 أخرجه أبو داود السنة 4/242 ح 4758 والترمذي الأمثال 5/148 ح 2863 وأحمد المسند 4/248 ح 17817.
3 وأخرجه البخاري الفتن 13/7 ح 7054 ومسلم الإمارة 3/1477 ح 55/1849.
4 أخرجه الترمذي الفتن 4/465 ح 2165 وقال حسن صحيح غريب انظر نصب الراية 4/249.
5 أخرجه الترمذي الفتن 4/466 ح 2166 وقال حسن غريب والنسائي التحريم 7/84 باب قتل من فارق الجماعة.
6 تقدم تخريجه.
7 تقدم تخريجه.
8 أخرجه مسلم الإمارة 3/1479 ح 59/1852 60/1852 وأبو داود السنة 4/243 ح 4762 والنسائي تحريم الدم 7/84 باب قتل من فارق الجماعة بلفظ "من أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاقتلوه".
9 أخرجه أحمد المسند 1/33 ح 178.
10 أخرجه ابن ماجه المناسك 2/1015 ح 3056 والدارمي المقدمة 1/86 ح 227 وأحمد المسند 4/99 ح 16743.
11 تقدم تخريجه.

 

ج / 1 ص -468-       والأخبار في معنى هذا كثيرة وإذا أمر في هذه الأخبار بالكون مع الجماعة ونهى عنه الشذوذ ونفى الخطأ والضلالة عنهم دل ذلك أن إجماعهم حجة وصواب وحق يدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم لما قال: "لا تجتمع أمتي على الخطأ" فما أجمعوا عليه أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه فيجب كون ذلك صوابا غير خطأ فإن قالوا: هذه الأخبار آحاد فلا يصح إثبات الإجماع بها وهي من مسائل الأصول قيل هي متواترة من طريق المعنى فإن ألفاظها وأن اختلفت فقد اتفق الكل على معنى واحد وهو وجوب التمسك بالإجماع وتحريم المخالفة وعصمة الأمة من الاجتماع على الخطأ والضلالة وقد بينا أن مثل هذا الطريق يفيد العلم فإن قيل قوله لا تجتمع أمتي على الضلالة يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد بالضلالة الكفر دون غيره وكذا نقول أن هذه الأمة لا تجتمع على الكفر فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى تقوم الساعة" قيل له كل معصية ضلالة لأنه قد عدل بها عن الحق ومنه قوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} فينبغي أن لا يجوز اجتماعهم على خلاف الحق بحال لأنا قد ذكرنا أن كل ما عدل به عن الحق ضلال وعلى أنه قد قال صلى الله عليه وسلم: "لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على الخطأ" وهذا لا ينفي أنواع الخطأ لأن الكلام خرج مخرج بيان كرامة هذه الأمة على الله عز وجل وكرامتهم على الله عز وجل تنفي أن يجتمعوا على كل ما هو خطأ وعدول عن الحق فإن قيل قوله أمتي يتناول جميع أمته من وقته إلى قيام الساعة ولا يتصور اجتماع كلهم على الخطأ وأيضا فإن إجماعهم لا يتصور أن يكون حجة لأنه إذا كان يتناول جميع من صدقه إلى انقطاع التكليف فلا يوجد بعد ذلك تكليف حتى يكون اجتماع هؤلاء حجة وقد ذكرنا الجواب عن هذا السؤال فيما سبق وبينا أن المراد بهذا أهل كل عصر.
ببينة: أن عند المخالفين يتصور اجتماع أهل كل عصر على الخطأ والضلالة فإذا تصور ذلك عندهم في أهل كل عصر إلى أن ينقطع التكليف فقد تصور اجتماع الكل على الضلالة وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فإن قيل ولم قلتم إذا كان لا يجوز اجتماعهم على الخطأ والضلالة يجب أن يكون اجتماعهم حجة ولا يجوز مخالفته قيل له قد اجتمعت الأمة أنه لا يجوز مخالفة ما أجمعوا عليه ونعني بهذا إجماع من يقول: أن الأمة لا تجتمع على الخطأ دون غيرهم فكل من قال أن الأمة لا تجتمع على الخطأ فقد قال أن إجماعهم حجة لأنه لم يجوز لأحد منهم مخالفتهم على ما ورد به النص وإذا

 

ج / 1 ص -469-       أجمعوا أنه لا يجوز المخالفة فقد أجمعوا أنه يكون حجة.
ببينة: إذا تعرفنا حال الأمة وجدناهم متفقين على تضليل من يخالف الإجماع وتخطئته ولم تزل الأمة ينسبون المخالفين للإجماع إلى المروق وشق العصا ومحادة المسلمين ومشاقتهم ولا يعدون ذلك من الأمور الهينة بل يعدون ذلك من عظام الأمور وقبيح الارتكابات فدل أنهم عدوا إجماع المسلمين حجة يحرم مخالفتها وفي المسألة دلائل كثيرة ذكرها الأصحاب وأوردها المتكلمون والقدر الذي قلناه كاف وهو المعتمد.
وأما الجواب عن الذي قالوه أما الأول قوله أنه يستحيل وجود الإجماع قلنا لا يستحيل على ما سبق بيانه أما قولهم أنه مع كثرتهم وتباعد ديارهم يمتنع ويتعذر الوقوف على إجماعهم قلنا نقول: أولا كيف يدعى استحالة هذا ونحن نرى خيلا من الكفار يرمى عددهم على عدد المسلمين وهم متفقون على ضلالة يدرك بطلانها بأدنى ذكر فإذا لم يمتنع ذلك إجماع أهل الدين على حكم من أحكام الدين وأيضا فإنا نعلم إجماع العلماء من أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة رحمهم الله على مذهب كل واحد منهما في مسائل الفروع مع تباعد الديار وانقطاع المزاد فدل أن الذي ادعوه من الاستحالة باطل هذا جواب القاضي أبي بكر ثم نقول أن الوقوف على الإجماع غير ممتنع بسماع أقاويل الحاضرين والنقل من الجانبين كما يمكن معرفة اتفاق المسلمين على الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان واعتقاد أداء الزكاة والحج وغير ذلك مع كثرة المسلمين وتباعد الذكر بهم لأن الاعتبار بعلماء العصر وأهل الاجتهاد وهم كالأعلام في كل عصر لا تجلى مواضعهم ولا وأقوالهم.
ببينة: أن من عاصر الصحابة يمكنه أن يكتفي بكل واحد من المجتهدين أو ببعضهم فيعرف قوله ويتعرف قول الناس لأن أهل الاجتهاد من ذلك الوقت كانوا محصورين وكذلك التابعون فأمكن التوصل إلى معرفة قولهم بالطريق الذي قدمنا وأيضا فإن القول المنتشر في أهل العصر من غير مخالف دليل على الإجماع وهذا يمكن معرفته وهذا لأن الدليل الذي دل على أن الإجماع حجة يوجب أن يكون سبيل من الوصول إليه ولا وصول إلا بالقول المنتشر في الأمة وعدم المخالف لذلك لأن معرفة قول كل واحد من علماء العصر لا سبيل إليه في العالم ولا يجوز أن يوجب علينا ما لا سبيل إلى الوصول إليه فإذا لم يمكن إلا هذا القدر علمنا أن ذلك حجة وأنه المعنى بالإجماع الذي أوجب علينا اتباعه وأما قولهم أنه يستحيل أن يجوز الخطأ على كل واحد منهم.

 

ج / 1 ص -470-       ثم إذا اجتمعوا لا يجوز قلنا المستحيل أن يقال أن كل واحد من الأمة يجوز كونه مخطئا في القول الذي اتفقوا عليه وجماعتهم غير مخطئين فيه ونحن لم نقل هذا وإنما نقول أن كل واحد منهم يجوز أن يكون قوله خطأ إذا انفرد وإذا اجتمع مع الكافة لم يكن قوله خطأ وليس نمنع أن يفارق الواحد الجماعة في هذا ألا ترى أن كل واحد منهم يجوز أن يأكل اليوم مأكلا مخصوصا ولا يجوز أن تجتمعوا على أكلة مخصوصة في هذا اليوم وأما قولهم أنه لا بد أن ينعقد الإجماع على دليل قلنا لا نمنع أن يكون إجماعهم عن نص لم ينقلوه واكتفوا بالإجماع عن النقل ويجوز أيضا أن يجتمعوا عن أمارة فطرية وسنبين ذلك من بعد وأما قولهم أن الإجماع لا يكون إلا عن دلالة فتكون تلك الدلالة حجة لا الإجماع قلنا هذا يبطل بقول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه حجة ومع ذلك لا نقول ما يقوله إلا عن دلالة وعلى أنه لا يمتنع أن يكون الإجماع حجة ما صدر عنه الإجماع حجة أيضا فيكون فى المسألة حجتان وأيضا فإن الإجماع وأن كان عن دليل هو حجة ولكن في الاجماع فائدة وهي أن يسقط عنا البحث عن الحجة ويسقط هنا نقلها ويحرم علينا الخلاف الذي كان سابقا في مسائل الاجتهاد وقد قال بعضهم إنا وجدنا إجماعا منعقدا من غير دليل نحو إجماعهم على بيع المراضاة من غير عقد والإستبضاع وأجرة الحمام وقطعة الشارب وأخذ الزكاة من الخيل تبرعا وأخذ الخراج أورد هذه المسائل أبو الحسين البصري في أصوله1.
الجواب أن هذه المسائل لم يقع على كلها الإجماع فإن البيع بالتراضي لا يكون بيعا ولا بد عندنا من الإيجاب والقبول2 حتى لا يكون ما أخذاه حراما أما البيع فلا يقول: أنه بالتعاطي المجرد ينعقد البيع بحال3 وأما الاستبضاع فهو على مذهب أبي حنيفة والباقي من المسائل يجوز أن يسلم لكنا نقول أن الإجماع لا يقع إلا عن دليل غير أنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المعتمد 2/57.
2 انظر روضة الطالبين 3/338.
3 قال الإمام النووي المعاطاة ليست بيعا بيعا على المذهب وخرج ابن سريج قولا من الخلاف في مصير الهدى منذورا بالتقليد أنه يكتفي بها في المحقرت وبه أفتى الروياني وغيره والمحقر كرطل خبز وغيره مما يعتاد فيه المعاطاة وقيل: هو ما دون نصاب السرقة فعلى المذهب في حكم المأخوذ بالمعاطاة وجهان: أحدهما: أنه إباحة لا يجوز الرجوع فيها قاله القاضي أبو الطيب وأصحهما: له حكم المقبوض بعقد فاسد فيطالب كل واحد صاحب بما دفعه إن كان باقيا بضمانه إن تلف انظر روضة الطالبين 3/338, 339.

 

ج / 1 ص -471-       يجوز أن يقع الاكتفاء عن نقل الدليل بوقوع الإجماع وأما الذي تعلقوا به من الظواهر قلنا أما الآية وهي قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] نقول لهم أن الآية دليلنا لأنه تعالى شرط في الرد إلى الكتاب والسنة وجود التنازع فدل أن دليل الحكم عند عدم التنازع هو الإجماع إذ لا بد للحكم من دلالة وعلى أن يرد الحكم إلى الإجماع رد إلى الكتاب والسنة وقد ذكرنا ذلك وأما حديث معاذ قلنا قد كان ذلك في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والإجماع يكون بعد زمانه وأما قوله عليه السلام: "لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"1 قلنا يجوز أن يكون قال ذلك لأقوام بأعيانهم ويجوز الخطأ والضلالة على أقوام بأعيانهم وأن تعلقوا بإجماع سائر الأمم قلنا قد قال بعض أصحابنا أن إجماع هذه الأمة وسائر الأمم سواء في كونه حجة وهو اختيار أبي إسحاق الإسفراينى وإن سلمنا فالفرق بين هذه الأمة وسائر الأمم هو أن عصمة الأمة طريقها الشرع ولم يرد الشرع بعصمة سائر الأمم وقد ورد بعصمة هذه الأمة ونفى الخطأ عنهم على ما سبق بيانه فافترقا لهذا المعنى ولأن اعتراض النسخ في دين سائر الأمم جائز.
ألا ترى كيف اعترض ونسخ الكل بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم وإذا كان النسخ جائز لم يقع الحاجة فيها إلى عصمة الأمة وأما في شريعتنا فلا يجوز النسخ بل هذه شريعة مؤيدة فعصمت أمتها ليرجع إليها عند الخطأ والنسيان وليبقى الشرع بإجماع الأمة محفوظا.
فإن قيل أليس قال الله تعالى:
{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} [آل عمران: 99] فقد جعلهم كما جعل هذه الأمة شهداء فيجب أن يكون إجماعهم حجة أورد هذا السؤال أبو زيد في أصوله وأجاب وقال يحتمل أن إجماعهم كان حجة ما كانوا متمسكين بالكتاب وإنما لم يجعل اليوم إجماعهم حجة لأنهم كفروا بالكتاب وإنما ينتسبون إلى الكتاب بدعوتهم ولأن تأويل الآية وأنتم شهداء بما فيه قبل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فلم لا يشهدون الحق ألا ترى أنه قد سبقت هذه الآية أنه أخذ الميثاق بالبيان قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] فدل أن المراد ما ذكرنا وأعلم أنا لما حققنا الإجماع حجة من جهة الشرع خاصة فقد قال بعضهم أنه حجة من جهة الشرع والعقل جميعا والصحيح هو الأول لأن العقل لا يمنع اجتماع الخلق الكثير على الخطأ ولهذا اجتمع اليهود.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.

 

ج / 1 ص -472-       والنصارى مع كثرتهم على ما هم عليه من الضلالة وإذا جعلناه حجة في الشرع فإنما وجد ذلك في هذه الأمة على ما سبق.

فصل إذا ثبت أن الإجماع حجة يجب التزامها ولا يجوز مخالفتها.
فهو على ضربين.
أحدهما:
ما يكفر مخالفه متعمدا وهو الإجماع على الشيء الذي يشترك الخاصة والعامة في معرفته مثل أعداد الصلوات وركعاتها وفرض الحج والصيام وزمانهما ومثل تحريم الزنا وشرب الخمر والسرقة والربا اعتقد في شيء من ذلك خلاف ما انعقد عليه الإجماع فهو كافر1 لأنه صار بخلافه جاحدا كافرا لما قطع به من دين الرسول صلوات الله عليه كالجاحد لصدق الرسول صلوات الله عليه.
والضرب الثاني: ما يضل مخالفه إذا تعمد ولا يصير كافرا وهذا إجماع الأمة الخاصة وذلك مما ينفرد بمعرفته العلماء كتحريم المرأة على عمتها وخالتها2 وإفساد الحج بالوطء قبل الوقوف بعرفة3 وتوريث الجدة السدس4 وحجب بني الأم مع الجد5 ومنع توريث القاتل6 ومنع وصية الوارث7 فإذا اعتقد المعتقد في شيء من هذا خلاف ما عليه إجماع العلماء لم يكفر لكن يحكم بضلالته وخطئه8.
ثم إعلم أن الكلام في الإجماع بعد أن عرفنا أنه حجة يشتمل على خمسة فصول:
أحدها: معرفة ما ينعقد عنه الإجماع من الأدلة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تيسير التحرير 3/259 جمع الجوامع 2/201 نهاية السول 3/327, 328.
2 قال ابن المنذر وأجمعوا على أن لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها لا الكبرى على الصغرى ولا الصغرى على الكبرى انظر الإجماع لابن المنذر 77.
3 قال ابن المنذر وأجمعوا أن من جامع عامدا في حجه قبل وقوفه بعرفة أن عليه حج قابل والهدي وانفرد عطاء وقتادة الإجماع لابن المنذر 49.
4 قال ابن المنذر وأجمعوا أن للجدة السدس إذا لم يكن للميت أم الإجماع لابن المنذر 69.
5 انظر الإجماع لابن المنذر 70.
6 قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن القاتل عمدا لا يرث من مال من قتله ولا من ديته شيئا الإجماع لابن المنذر 70.
7 قال ابن المنذر: وأجمعوا على أنه لا وصية إلا أن يجيز ذلك الإجماع لابن المنذر 73.
8 المحصول 2/98 تيسير التحرير 3/259 نهاية السول 3/327, 328.

 

ج / 1 ص -473-       والثاني: فيمن ينعقد به الإجماع من الأمة.
والثالث: ما ينعقد فيه الإجماع من الأحكام.
والرابع: ما ينعقد به الإجماع من الشروط.
والخامس: معرفة ما يتخالط [مما]1 يتعارض فيه الإجماع والاختلاف.
ولا بد لكل واحد من هذه الفصول الخمسة من إيراده بما يشتمل عليه ليصير الإجماع مستوفي في أحكامه وما يتصل به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل يتم بها الكلام.

فصل أما الكلام فيما ينعقد عنه الإجماع من الأدلة.
أعلم أن الإجماع لا ينعقد إلا عن دليل يوجب ذلك2 لأن اختلاف الآراء أو الهمم يمنع من الاتفاق على شيء إلا عن سبب يوجب ذلك وهذا مثل اتفاق الناس على أكلهم عند الجوع وشربهم عند العطش ولبسهم عند العرى كان عن سبب وهذه أمور طبيعية كانت عن سبب طبيعي وكذلك الأمور الدينية لا تكون إلا عن سبب ديني وذلك مثل اتفاقهم على المعتقد الديني واتفاقهم على صلاة الجمعة وصلاة العيدين وعلى فعل الصلوات الخمس وصوم رمضان فإنه لا يكون ذلك إلا عن سبب ديني قادهم إليه ويجوز أن يتفقوا عن دليل على حكم الحادثة وتكون على الحكم دلائل سواه ويجوز أن يختلفوا في الأدلة مع إتفاقهم على الحكم فلا يكون اختلافهم في الأدلة مانعا من إجماعهم على الحكم وقد أجاز قوم انعقاد الإجماع عن توفيق من الله تعالى من غير دليل شرعي دلهم على ذلك.
وذلك بأن يوفقهم الله تعالى للصواب من غير أن يكون لهم عليه دلالة وأمارة وهذا ليس بصحيح لأنه لو جاز لجماعة الأمة أن يقولوا من غير دليل لكان يجوز لكل واحد منهم أن يقول من غير دليل وحين لم يجز لآحادهم كذلك لا يجوز لجماعتهم ولأن الدليل هو الموصل إلى الحق فإذا فقد الدليل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 يشترط في الإجماع أن يكون عن مستند إليه المجمعون في إجماعهم من كتاب أو سنة أو قياس والإجماع عن غير مستند بأن يكون عن عاطفة أو إلهام وتوفيق من الله تعالى لهم بوجه الصواب غير جائز عند جمهور العلماء وخالف في ذلك شذوذ فجوزوا الإجماع عن غير مستند انظر نهاية السول 3/307, 308 تيسير التحرير 3/254 المحصول 3/88 إحكام الأحكام للآمدي 1/374 المعتمد 2/56 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/172.

 

ج / 1 ص -474-       فقد الوصول وقد بينا أن حال الأمة لا يكون أعلى من حال نبي الأمة ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول ما يقول إلا عن دليل فالأمة لأن لا يقولوا ما يقولونه إلا عن دليل أولى وإذا ثبت أنه لا ينعقد الإجماع إلا عن دليل فلا خلاف أنه ينعقد الإجماع عن الكتاب والسنة ثم إذا كان الإجماع عن نص غير محتمل من كتاب أو خبر متواتر كان الحكم والقطع بصحته ما يتبين بالنص فلم يكن للإجماع تأثير في ثبوتهما وأن كان النص خبر واحد وأجمعوا به كان الحكم ثابتا بالظاهر وكان نفى الاحتمال من الظاهر والقطع بصحة الحكم ثابتين بالإجماع واختلفوا في انعقاد الإجماع عن القياس.
مسألة: ذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه يجوز بانعقاد الإجماع عن القياس وقالوا: لا فرق بين القياس الجلي والخفي في ذلك وقال قوم أنه لا يجوز انعقاد الإجماع عن القياس بحال سواء كان خفيا أو جليا واختاره محمد بن جرير الطبري وذهب قوم إلى جواز انعقاده بالجلي دون الخفي وأما نفاة القياس منعوا انعقاد الإجماع بالقياس لأنه ليس بدليل عندهم1 والكلام مع نفاة القياس يأتى من بعد.
وأما حجة من نفى انعقاد الإجماع بالقياس قال في ذلك لأن الخطأ موهوم في القياس والإجماع يوجب العلم القطعي فلا يجوز أن يقع بالقياس لأن ذلك يوجب أن يكون فروع الشيء أقوى من أصله.
ببينة: أن القياس فرع الاجماع.
ألا ترى أن الإجماع يستخرج منه المعنى فيقاس عليه مثل ما يستخرج من الكتاب والسنة فإذا كان القياس فرعا للإجماع فلا يجوز أن يصير الإجماع فرعا لأنه يؤدي إلى أن ينقلب الأصل فرعا والفرع أصلا وهذا لا يجوز.
ببينة: أن الحكم الصادر عن القياس لا يفسق مخالفه بل يجوز مخالفته ولا يجعل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن العلماء قد اختلفوا في ذلك على أربعة مذاهب:
الأول: محال عقلا أن يكون القياس سندا للإجماع وهو رأي الشيعة وجماعة.
الثاني: جائز عقلا ولكنه غير واقع وهو لبعض العلماء.
الثالث: جائز عقلا وواقع وهو لجمهور الأصوليين منهم البيضاوي.
الرابع: يجوز إن كان القياس جليا ولا يجوز إن كان القياس خفيا إحكام الأحكام للآمدي 1/379 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 3/309 روضة الناظر 134 المستصفى 1/196 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/173.

 

ج / 1 ص -475-       أصلا في نفسه بل هو فرع لغيره ولا يقطع عليه بثبوته ولا على تعلقه بالأمارة وأما الحكم المجمع عليه لا يجوز مخالفته ويفسق مخالفه ويجعل أصلا ويقطع عليه وعلى تعلقه بطريقة فإذا صدر هذا الإجماع عن الاجتهاد اجتمع فيه هذه الأحكام مع تنافيها وتضادها وهذه الحقيقة وهي أن الأمارة دلالة خافية فلا يجوز أن يقال أن الأمة على كثرتها واختلاف هممها وأغراضها يجمعها الأمارة مع خفائها يدل عليه أن الإجماع لا يكون إلا باتفاق أهل العصر ولا عصر إلا وفيه من ينفى القياس أصلا فلم يجز وقوع الإجماع وانعقاده والذي ينعقد به الإجماع معدوم.
وأما حجة من جوز انعقاد الإجماع عن القياس فنبين أولا وجود ذلك ثم نبين جواز ذلك من حيث المعنى والدليل على وجود ذلك ووقعه إجماع الصحابة على قتال أهل الردة وقد كان ذلك من طريق الاجتهاد قال أبو بكر رضوان الله تعالى عليه قال لا أفرق بين ما جمع الله بينهما فقاس الزكاة على الصلاة في وجوب قتال المخل بها ولو كان معهم في قتال مانعي الزكاة على نص لنقلوه.
واتفق الصحابة أيضا على إمامة أبى بكر وقد كان ذلك بطريق الاجتهاد فإنهم استدلوا في إمامة أبي بكر رضي الله عنه بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم إياه في الصلاة وقالوا: اختاره صلى الله عليه وسلم لديننا فاخترناه لدنيانا.
وقد أجمع الصحابة أيضا على توريث الجدتين السدس فإن اجتمعا فهو لكما وأيتكما تفردت به فهو لها1 وقد أجمعت الأمة على هذا الحكم وكان ذلك عن الاجتهاد.
وأجمعت الأمة أيضا على أن حد العبد على النصف من حد الحر وإنما اتفقوا عليه بقياس العبد على الأمة فإن في الكتاب حد تنصيف الإماء وليس فيه ذكر حد العبيد.
وأجمعت الأمة أيضا على تحريم شحم الخنزير قياسا على لحمه وأجمعوا على تقديم الأمة في العتق قياسا على العبد.
وأجمعوا على إراقة الشيرج إذا وقعت فيه الفأرة وكان مائعا وإلقائها وما حولها إذا كان جامدا قياسا على السمن2.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الجدتين إذا اجتمعتا وقرابتهما سواء وكلتاهما ممن يرث: أن السدس بينهما الإجماع 69.
2 قال الإمام النووي: قال الخطابي: اختلف العلماء في الزيت إذا وقعت فيه نجاسة فقال جماعة من أصحابنا: الحديث لا يجوز الانتفاع به بوجه من الوجوه لقوله صلى الله عليه وسلم
"فلا بقربوه" وقال أبو حنيفة وهو نجس لا يجوز أكله ولا بيعه الاستصباح به وقال داود: إن كان هذا سمنا...........=

 

ج / 1 ص -476-       وهم يقولون على هذه الدلائل أن إجماعهم لم يكن عن قياس بل كان عن دليل آخر في مسألة قتال مانعي الزكاة وإمامة أبى بكر الصديق رضي الله عنه وفي مسألة الجدتين كان إجماعهم عن خبر المغيرة وقالوا: في سائر المسائل إنما كان الإجماع لأن النص على تنصيف الحد في الأمة نص في العبد وكذلك النص على تحريم لحم الخنزير نص على تحريم شحمه والنص في السمن نص في الشيرج.
والجواب أن هذه الدعاوى بلا دليل وقد نقلنا في قتال مانعي الزكاة وتقديم أبي بكر رضي الله عنه في الإمامة على الصحابة أنهم ذكروا الاجتهاد فيما صاروا إليه وأما ميراث الجدتين فلازم قولهم أن إجماعهم كان عن خبر المغيرة فخبر المغيرة كان في الجدة الواحدة والإلزام في الجدتين وأما سائر المسائل فلازمة أيضا وقولهم أن النص في كذا نص في كذا مجرد دعوى لا دليل عليها وسيأتي في باب القياس أن طريق إثبات هذه الأحكام فى الصور التى لم يقع النص عليها لم يكن إلا بالقياس إلا أنه بالقياس الجلي فإن قال بعض من يخالف هذه المسألة أن عندي يجوز انعقاد الإجماع بالقياس الجلي ولا يجوز بالخفي قلنا إذا ثبت جواز انعقاده بأحدهما ثبت بالآخر وهذا لأن القياس دليل من دلائل الشرع وطريق موصل إلى الحكم ولا مانع من انعقاد الإجماع عنه فينعقد عند الإجماع دليل الكتاب والسنة.
فإن قالوا: قد بينا أن الإجماع لا يقع عن الاجتهاد وقلنا قد قلتم أن كثرة عدد الأمة واختلاف هممها وأغراضها يمنع من اجتماعهم بطريق الاجتهاد والأمارة وهذا دعوى وليس يمتنع أن تجمعهم الأمارة الواحدة والأمارات الكثيرة على الحكم الواحد فإن اختلفت الأغراض وكثر العدد لأنهم مع كثرتهم واختلاف أغراضهم قد اتفقوا على وجوب المصير إلى الأمارة فإذا ظهرت الأمارة لجماعتهم لم يمتنع اتفاق جميعهم على الحكم الذي دلت عليه الأمارة يدل عليه أن اليهود والنصارى وهم الجم الغفير قد اجتمعوا على اعتقاد واحد فإذا جاز اتفاقهم مع كثرتهم وتباين هممهم وأغراضهم من جهة شبهة دخلت عليهم فلأن يجوز اتفاق الجماعة من جهة الأمارة المستندة إلى أصل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لم يجز بيعه ولا أكله وشربه وإن كان زيتا لم يحرم أكله ولا بيعه وزعم أن الحديث مختص بالسمن وهو لايقاس والله أعلم هذا كلام الخطابي وقد سبق في باب ما يكره لبسه وأن المذهب الصحيح جواز الاستصباح بالدهن النجس والمتنجس سواء ودك الميتة انظر المجموع للنووي 9/38.

 

ج / 1 ص -477-       هو حق أولى وليس هذا كاتفاقهم على الكذب في شيء معين حيث لا يجوز وقوع ذلك لأنه لا داعي لجميعهم على ذلك وقد بينا وجود الداعي ها هنا وعلى هذا خرج اتفاقهم على مأكل واحد وصناعة واحدة حيث لا يجوز وقوع ذلك لأنه لا داعي لجميعهم على ذلك وهذا لأن اتفاقهم على مأكول واحد تابع لتساوي شهواتهم وأماكن شهواتهم ونحن نقطع أن الناس يختلفون في الشهوات وأماكن نيل الشهوات فمنهم من يشتهي ما ينفر طبع الآخرين ومنهم من تنقص شهوته لما تقوى شهوة الآخر فتدعوه قوة شهوته إلى تناوله دون الآخر وقد يتفق الاثنان في شهوة حتى يقدر أحدهما على تحصيلها بعجز الآخر عنه وأما الذي قالوه أولا من أن الخطأ موهوم في القياس والإجماع يوجب علما قطعيا قلنا هذا يبطل بخبر الواحد فإن الإجماع ينعقد عنه مع وجود ما قالوه ولأن العبرة بحسب ما يدل عليه الدليل وقد دل الدليل أن الإجماع يفيد العلم القطعي وأن القياس لا يفيد إلا غلبة الظن وأما قولهم أن القياس فرع والإجماع أصل ولا يجوز أن يكون الفرع أقوى من الأصل قلنا الأدلة قد يتقوى بعضها ببعض وقد تتعاضد وتتظاهر الدلائل فيتم عند الاجتماع بما لا يتم عند الانفراد ألا ترى أن أصل التواتر آحاد يجوز عليها الخطأ ثم إذا اجتمعت تعاضدت وتقوى بعضها ببعض أفادت العلم القطعي.
كذلك القياس إذا اجتمعت الآراء صار دليلا قطعيا على صحة الحكم به وانتفاء الخطأ عنه وبهذا الوجه جعلنا الإجماع الصادر عن الخبر الواحد والعمود دليلا قطعيا وأن لم يكن الخبر الواحد والعمود في جميع مسمياته كذلك وأما قولهم أن القياس لا يفيد كذا وكذا وما بينوا من المخالفة بين القياس والإجماع فليس يدخل على ما قلناه وذلك لأن ما قالوه حكم لاجتهاد إذا انفرد عن الإجماع فإذا اقترن به الإجماع صار دليلا مقطوعا به ويجوز مثل هذا القول ألا ترى أن القول عن الأمارة إذا اقترن به تصويب النبي صلى الله عليه وسلم أفاد العلم المقطوع به وإذا لم يقترن به أفاد الظن.
وأما قولهم أنه ما من عصر إلا ويوجد فيه من ينفى القياس قلنا ليس الأمر على ما زعمتم والأصل في الإجماع إجماع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ولسنا نعلم أن أحدا منهم أنكر القياس والاجتهاد.
ببينة: أنه كما وجد في الأمة من ينفى القياس قد وجد فيهم أيضا من ينفى أخبار الآحاد ومن ينفى القول بالعموم ثم أجمعوا أن الإجماع يجوز أن ينعقد بهما ولم.

 

ج / 1 ص -478-       نعتبر خلاف من خالف ونظر إلى ما كان الأمر عليه في عصر الصحابة رضي الله عنهم كذلك ها هنا والله أعلم.
وقد حكى عبد الجبار عن الحاكم صاحب المختصر قال إذا انعقد الإجماع لأهل العصر عن اجتهاد جاز لمن بعدهم أن يخالفهم لأنه قول صادر عن اجتهاد فيجوز خلافه وهذا لا يصح لأن الإجماع إذا وجد بأي دليل كان صار حجة وحرم خلافه وقد ذكرنا وجه ذلك وأن كان من اجتهاد ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
"لا تجتمع أمتي على الضلالة" وما اتفقوا عليه أنهم إذا اتفقوا لا يجوز مخالفتهم على ما ذكرناه من قبل.
فصل.
وأما الاجتهاد عن غير أصل كالاجتهاد في جزاء العبد وجهات القبلة وأروش الجنايات وقيم المتلفات فمن يمنع انعقاد الإجماع بالقياس كان من هذا أمنع وأما من جوز القياس فقد ذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز انعقاد الإجماع عن مثل هذا الاجتهاد1 والصحيح جوازه والذي ذكرناه دليلا في المسألة المتقدمة يصلح دليلا في هذه المسألة وفي هذا الموضع.
وقد قال بعض أصحابنا أن.
دلائل الاجتهاد التي ينعقد بها الإجماع من أوجه.
أحدها: أن ينعقد عن تنبيه من كتاب أو سنة.
فالتنبيه من الكتاب كإجماعهم على أن ابن الابن في الميراث كالابن2.
والتنبيه من السنة كإجماعهم على أن موت العصفور فى السمن كموت الفأرة.
والوجه الثاني: أن ينعقد عن استنباط من كتاب أو سنة فالاستنباط من الكتاب كإجماعهم على تحريم نكاح خالات الآباء وعماتهم وخالات الأمهات وعماتهن مثل تحريم الخالات والعمات والاستنباط من السنة كإجماعهم على توريث كل واحدة من الجدتين السدس والجدتان أم الأم وأم الأب وأن حجب أم الأم لأم أم الأم كحجب الأم لأم الأم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الإجماع لابن المنذر 66.
2 إحكام الأحكام للآمدي 1/379 روضة الناظر 134 المستصفى 1/196 المعتمد 2/59 المحصول 2/93.

 

ج / 1 ص -479-       والوجه الثالث: أن ينعقد عن المناظرة والجدال كإجماعهم على قتال مانعي الزكاة وأن في المرهونة إذا أجهضت دية الجنين.
والوجه الرابع: أن ينعقد عن استدلال بقياس كإجماعهم على أن حد العبيد في الزنا كالأمة وأن الجواميس في الزكاة كالبقر.
والوجه الخامس: أن ينعقد عن استدلال باجتهاد كإجماعهم على جهة القبلة وقد ذكر غير هذا وعندي أن هذا تكلف شديد وإذا ذكرنا جواز الإجماع عن الاجتهاد دخل فيه وجوه الاجتهاد جليها وخفيها.
وإذا علمنا أن الإجماع ينعقد عن أحد هذه الوجود فاختلفوا أن الإجماع إذا انعقد يأخذ هذه الدلائل يكون منعقدا على الحكم الثابت بالدليل أو يكون منعقدا على الدليل الموجب للحكم وذهب بعض المتكلمين من الأشعرية إلى أنه منعقد على الدليل الموجب وذكر أكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أنه معقد على الحكم المستخرج من الدليل وهو الصحيح لأن الحكم هو المطلوب من الدليل ولأجله انعقد الإجماع فعليه انعقد الإجماع ونبني على هذا مسألة وهي أن الإجماع الواقع على موجب خبر من الأخبار هل يكون دليلا على صحة الخبر فمنهم من قال يدل على ذلك إذا علم أنهم اجمعوا لأجله ومنهم من قال أن إجماعهم يدل على صحة الحكم ولا يدل على صحة الخبر وهذا أولى القولين لأنه يجوز أن يكونوا اتفقوا على العمل به لأن التعبد ثابت بخبر الواحد وهذا التعبد ثبت في حق الكافة ولأجل التعبد الثابت أجمعوا على موجب الخبر وصار الحكم مقطوعا به لأجل إجماعهم وأما صحة الخبر على طريق أنه يكون مقطوعا به فله طريق مخصوص في الشرع على ما قلنا في باب الأخبار فبطلت صحة الخبر وعدم صحته أو كونه خبرا واحدا أو خبر يقطع بثبوته ويوجب العلم بموجبه من ذلك الطريق فإن ظهر الإجماع ولم يعلم الدليل الذي انعقد به الإجماع فقد بينا أنه لا يجوز أن ينعقد إلا عن دليل فيكون انعقاده دليلا على أنه انعقد عن دليل موجب له إلا أنه استغنوا بالإجماع عن نقل الدليل واكتفوا به عنه وقد ذكرنا هذا من قبل والله أعلم بالصواب.

فصل: ولما عرفنا ما ينعقد به الإجماع من الأدلة فنتكلم الآن فيمن ينعقد به الإجماع من الأمة
 أما إجماع سائر الأمم سوى هذه الأمة فليست بحجة وقد بينا ثم اعلم أنه لا اعتبار بالكافرين في الإجماع لأن الإجماع إنما صار دليلا بالسمع والأدلة السمعية التي

 

ج / 1 ص -480-       ذكرنا لم تتناول الكافرين1 وإنما تتناول المؤمنين على الخصوص ولأن الإجماع حجة بمعرفة الأحكام الشرعية والكفار لا يمكنهم معرفة الأحكام الشرعية فلا يجوز اعتبارهم في حجة الأحكام الشرعية والاعتبار أيضا في الإجماع بكل المؤمنين إلى انقضاء التكليف ولأنا لو اعتبرنا جميع المكلفين إلى انقضاء التكليف خرج الإجماع أن يكون حجة لأنه لا يكون بعدهم تكليف حتى يكون إجماعهم حجة فيه ولأنا قد دللنا أن إجماع أهل كل عصر حجة والدلائل دلت أن الإجماع حجة فدلت على هذا كما سبق بيانه ولا اعتبار أيضا بمن ليس من أهل الاجتهاد في الأحكام كالعامة والمتكلمين الذين يدعون علم الأصول وقال بعض المتكلمين اتفاق العامة مع العلماء شرط في صحة الإجماع وهو قول القاضي أبي بكر وقال بعضهم يعتبر اتفاق الأصوليين والمتكلمين2 وتعلق من هذا اعتبر غير الفقهاء بقوله عليه السلام لا تجتمع أمتي على الضلالة وهذا يتناول الكل وهذا لأنه إنما كان قول الأمة حجة لأنهم عصموا عن الخطأ وليس يمتنع أن يكون جماعتهم العامة والخاصة معصومة عن الخطأ وإذا لم يمتنع ذلك وكانت الظواهر هي الراجحة على أن الإجماع حجة عامة في الخاصة والعامة اعتبر جماع الكل لكونه حجة ولأن الله تعالى قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وهذا سينال الفقهاء والعامة والصحيح ما قدنا لأن العامة لا يعرفون طرق الاجتهاد فهم كالصبيان وأما المتكلمون فلا يعرفون طرق الأحكام وأن عرفوا البعض لا يعرفون جميعها فصاروا كالفقهاء الذين لا يعرفون طرق أصول الفقه والذي استدلوا به فأكثر ما فيه أنه عام فنخصه ونحمله على الفقهاء الذين يعرفون طرق الأحكام ونقول أيضا أن الأمة إنما كان قولها حجة إذا قالوه عن استدلال وهي إنما عصمة عن الخطأ في استدلالها والعامة ليست من أهل النظر والاستدلال حتى تعصم عن الخطأ فصار وجودهم وعدمهم بمنزلة يدل عليه أن العامة يلزمهم المصير إلى قول العلماء فصار العلماء كأنهم المتصرفون فيهم فيسقط اعتبار قولهم وقد ظهر بهذا الجواب عن المعنى الذي قالوه وقد روى أن أبا طلحة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إحكام الأحكام للآمدي 1/321 روضة الناظر 121 المحصول 2/92 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 3/324 المعتمد 2/24 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/180.
2 انظر نهاية السول 3/306 إحكام الأحكام 1/322 المحصول 2/92 روضة الناظر 120 المعتمد 2/24, 25 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/170.

 

ج / 1 ص -481-       الأنصاري رحمة الله عليه كان يستبيح أكل البرد في الصوم ويقول: أنه لا يفطر ولم يعد خلافه خلافا لأنه لم يكن من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم.
وقد قال بعض أصحابنا إنما يشترك الخاصة والعامة في معرفته فلا بد من إجماع الكل في الشيء لينعقد عليه الإجماع وقد ذهب إليه بعض المتكلمين وعندي أن هذا باطل ولا يعتبر قول العامة في شيء من الأحكام سوى أن كان من الأحكام الظاهرة التي يعرفونها أو من الأحكام التي لا يقفون عليها وما ذكرنا من الدليل يعم الكل فيوجب إخراج العامة وإطراح قولهم في الأحكام اجمع وعلى هذا نقول أن العلماء في النحو والعربية واللغة لا نعتبر قولهم أيضا في انعقاد الإجماع عن الأحكام وكذلك العلماء الذين لا يعرفون إلا التفسير وإنما يرجع إليهم في الوقوف على أقوال المفسرين من السلف وكذلك أمر المحدثين الذين لا يعرفون إلا الرواية فيرجع إليهم فيما يصح من الأخبار وما لا يصح.
وأما الفقهاء الذين يرجع إلى قولهم في انعقاد الإجماع فهم المجتهدون وسنذكر شرائط الاجتهاد من بعد.
وأما الذين يتكلمون في الجواهر والأغراض وعرفوا بمحض الكلام ولا يعرفون دلائل الفقه فلا عبرة بقولهم في الإجماع وهم بمنزلة العوام.
وأما المتفردون بأصول الفقه فإن وافقوا الفقهاء في ترتيب الأصول وطرق الأدلة كان خلافهم مؤثرا يمنع من انعقاد الإجماع وأن خالفوهم فيما يقتضيه استنباط المعاني وعلل الأحكام وغلبة الأشباه لم يؤثر خلافهم وانعقد الإجماع بدونهم والله أعلم.
وعلى الجملة إذا أجمع المفتون على المسألة وبقى قوم لا يستقلون بأنفسهم في معرفة حكم حادثة تقع لهم ويتعين عليهم في ذلك تقليد غيرهم فوجوب مراجعتهم في المسألة التي اتفق عليها الفقهاء المجتهدون محال.
ونقول في تقسيم الفقهاء أن من يعرف الفروع والأحكام ولا يعرف دلائلها وعللها فهذا ناقل يرجع إلى حفظه ولا يعول على اجتهاده ولا يرتفع الإجماع بخلافه.
وأما من يكون حافظا للأحكام والفروع بدلائلها وعللها مشرفا على الأصول في ترتيبها ولوازمها عارفا شبهها وأدلتها وعللها فهذا أكمل الفقهاء علما وأصحهم فيه اجتهادا وهذه الطبقة هم الذين يرجع إليهم في الإجماع والاختلاف.
وأما من يكون حافظا للأحكام والفروع بدلائلها وعللها غير عارف بالأصول وترتيبها.

 

ج / 1 ص -482-       ولوازمها فيصح اجتهاده فيما يقتضيه التعليل والسنة ولا يصح اجتهاده فيما يقتضيه دلائل الأصول فيما يصح اجتهاده فيه ويقع الإجماع بخلاف ما لا يصح اجتهاده لم يرتفع الإجماع بخلافه وهذا التقسيم ذكره المعرف بأقضى القضاء أبو الحسن الماوردي.
وأما الكلام في اعتبار الورع فقد ذهب معظم الأصوليين إلى أن الورع معتبر في أهل الإجماع وقالوا: أن الفسقة وأن كانوا بالغين في العلم مبلغ المجتهدين فلا يعتبر خلافهم ووفاقهم لأنهم بفسقهم خارجون عن محل الفتوى والفاسق غير مصدق فيما يقوله وافق أو خالف وقد قال بعض أصحابنا يعتبر قوله ولا ينعقد الإجماع بدونه لأن الفاسق المجتهد لا يلزمه أن يقلد غيره بل يتبع فيما يقع له يؤدي إليه اجتهاده وليس له أن يقلده غيره فكيف ينعقد الإجماع عليه في حقه واجتهاده مخالف اجتهاد من سواه ويجوز أن يقال أنه عالم في حق نفسه مصدق على نفسه فيما بينه وبين ربه وهو مكذب في حق غيره وغير ممتنع هذا الانقسام وقد قال بعض أصحابنا أن الفاسق يدخل في الإجماع من وجه ويخرج من وجه1 وبيان ذلك أن المجتهد الفاسق إذا أظهر خلافه فسئل عن دليله فلجواز أنه يحمله فسقه على اعتقاده خرج بغير دليل فإذا ظهر من استدلاله على خلاف ما يجوز أن يكون محتملا يرتفع الإجماع بخلافه وصار داخلا في جملة أهل الإجماع وأن كان فاسقا لأنه من أهل الاجتهاد وأن لم يظهر من استدلاله محتملا لم يقيد لخلافه قال هذا القائل وفي هذا يفارق العدل الفاسق لأن العدل إذا أظهر خلافه جاز الإمساك عن استعلام دليله لأن عدالته تمنعه من اعتقاد شرع بغير دليل وهذا التقسيم لا بأس به وهذا كلام يقرب من مأخذ أهل العلم فليعول عليه.
قال ورأيت في كتاب الشيخ أبي إسحاق الشيزاري رحمه الله أن كل من كان من أهل الاجتهاد سواء كان مدرسا مشهورا أو خاملا مستورا وسواء كان عدلا أمينا أو فاسقا متهتكا يعتد بخلافه لأن المعول في ذلك على الاجتهاد والمهجور كالمشهور والفاسق كالعدل في ذلك والأحسن هو الأول وأما الفسق بتأويل فلا يمنع من اعتبار من يعتد به في الإجماع والاختلاف وقد نص الشافعي رحمه الله على قبول شهادة أهل الأهواء وهذا ينبغي أن يكون في اعتقاده بدعة لا تؤديه إلى التكفير فأما إذا كان يؤديه إلى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 3/324 روضة الناظر 122 إحكام الأحكام للآمدي 1/326 المستصفى 1/182 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/180.

 

ج / 1 ص -483-       التكفير فلا يعتد بخلافه ووفاقه وأما الكلام فيما يكفر به وما لا يكفر به طويل الذيل ضيق المجال وقد أكثر العلماء الكلام في ذلك وليس هو بأمر هين لأن تكفير الناس لا يجوز بما يجازف فيه وأسرع الناس إلى تكفير الناس الخوارج ثم المعتزلة وقد يطلق بعضهم فيقول: من خالف الإجماع يكفر وهذا أيضا فيه نظر وقد بينا طرفا من ذلك والكلام فيما يكفر به وما لا يكفر به ليس هذا موضعه فنتجاوز عنه وقد ذكر الأصحاب طرف ذلك في كتاب الشهادات ونذكر ذلك في التعليق وقد ذكر في كتاب منهاج أهل السنة ما نقل عن بعض السلف الصالح والأئمة المقتدى بهم ونصصت على المواضع التي طلب الكفر فيها المتواطئ واتباعهم أسلم والله المرشد والموفق بمنه.

فصل وأما الكلام في عدد المجمعين.
فإن بلغ علماء العصر مبلغا لا يتوقع فيهم التواطؤ على الكذب وهم الذين اعتبروا في عدد التواتر فلا شك في انعقاد الإجماع باتفاقهم واما إذا لم يبلغوا هذا العدد فذهب بعض علماء الأصوليين إلى أن لا يجوز الخطأ عدد علماء العصر عن مبلغ التواتر لأنهم ورثة الملة وحفظة الشريعة وقد ضمن الله تعالى قيامها ودوامها إلى قيام الساعة فإذا عاد العلماء إلى عدد لا ينعقد منهم التواطؤ فربما يفقد منهم الاستقلال بحفظ الشريعة فلا يكون إليه حفظ الملة على الكمال.
وقد قال بعضهم يجوز أن ينحطوا عن عدد التواتر وإذا انحطوا وأجمعوا يكون إجماعهم حجة1 وقال الأستاذ أبو إسحاق لم يبق في الدهر إلا مفتى واحد واتفق ذلك لقوله حجة ويصير ذلك بمنزلة إجماع الأمة.
أما الأول فبعيد لأنه يستحيل أن ينقص عدد العلماء في عصر من الأعصار عن عدد التواتر خصوصا وقد ورد الخبر في ذهاب العلم في آخر الزمان.
وأما الثاني فالإشكال فيه أن العلم الضروري هل يحصل بخبر الواحد أم بخبر جماعة ينقص عددهم عن عدد التواتر وقال بعضهم أن الله تعالى يحدث في هذا العدد من الأمارات الدالة على صدقهم ما يوجد ذلك عنده وجود عدد التواتر والأولى أن يقال أنه يعلم صدقهم ضرورة لا بخبرهم لكن بخبر النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا تزال طائفة من

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 2/93 إحكام الأحكام للآمدي 1/358 روضة الناظر 119 المستصفى 1/188 تيسير التحرير 3/336.

 

ج / 1 ص -484-       أمتي على الحق لا يضرهم في من خذلهم حتى يأتي أمر الله عز وجل"1.
وقد قيل أنه إذا لم يبلغ عدد المجمعين عددا يقع العلم بصدقهم ضرورة يجب اتباعهم على قولهم فإن لم يقطع بأن الحق في إجماعهم كما يلزم العمل بالاجتهاد وأن لم يقطع بأن الحق فيه ذهب أكثر العلماء إلى أن إجماع كل عصر حجة وذهب أهل الظاهر إلى أن إجماع الصحابة هو الحجة دون إجماع أهل سائر الأعصار2 وذهبوا في ذلك إلى أن الإجماع إنما صار حجة بالسمع دون غيره والأدلة السمعية اختصت بالصحابة رضي الله عنهم دون غيرهم ولك الأدلة قوله تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وهذا خطاب مواجهة فيتناول الحاضرين دون غيرهم ولنا قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الضلالة"3 فلا يمنع أن يكون الله عز وجل عنى الصحابة بالخطاب وحده ليميزهم بهذه الكرامة عن غيرهم والرسول صلى الله عليه وسلم أيضا عنى الصحابة رضي الله عنهم على الانفراد لتكون هذه المنحة لهم وهذا لأن الخطاب صالح أن يتناول الصحابة على الانفراد ولا يصلح أن يتناول التابعين على الانفراد بل إنما يصلح تناولهم مع من تقدمهم لأنهم الذين كانوا موجودين زمان الخطاب وأما التابعون فلم يكونوا موجودين زمان الخاطب فتبين أن الأصل في هذا هم الصحابة دون من بعدهم فيكون إجماعهم حجة دون من بعدهم.
قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"4 وإنما حكم بالاهتداء بالاقتداء بالصحابة دل أن غيرهم لا يكون بمثابتهم ولأن الصحابة رضوان الله عليهم قد اختصوا بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم والحضور عند الوحي وكان ذلك مزية لهم لا توجد لمن بعدهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الاعتصام 13/306 ح 7311 ومسلم الإمارة 3/1523 ح 170/192 ولفظ الحديث عند مسلم.
2 إحكام الأحكام للآمدي 1/328 المحصول 2/93 المعتمد 2/27 روضة الناظر 129 المستصفى 1/185.
3 تقدم تخريجه.
4 تقدم تخريجه.

 

ج / 1 ص -485-       وأما دليلنا نقول أن الأدلة للإجماع ولا تخص عصرا دون عصر فإن قوله عز وجل: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115] لا يختص بعصر الصحابة رضي الله عنهم لأن التابعين من المؤمنين وكذلك أهل كل عصر وكذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تجتمع أمتي على الضلالة"1 ليس لشيء من هذا اختصاص بعصر دون عصر ولأنه لما كان نقل أهل كل عصر الأخبار كنقل الصحابة في أحكام التواتر والآحاد وجب أن يكون في الإجماع بمثابته ليكون كل خلف محجوبا بسلفهم وليكون الشرع محفوظا من الخطأ والغلط.
ببينة: أن أهل كل عصر حجة على من بعدهم في البلاغ فكذلك وجب أن يكونوا حجة في الإجماع.
وأما الجواب عن تعلقهم قلنا قوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] خطاب لجميع الأمة بإجماع الأمة.
ببينة: أنه وصفهم بما وصفهم في الآيتين لانتسابهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكونهم من أمته ولأنهم قد دانوا لشريعته وهم أتباعه في الأقوال والأفعال وهذا المعنى موجود في أهل جميع الأعصار إلى قيام الساعة ولهذا المعنى لم ينقل عن أحد من السلف والخلف أنه حمل الآية على أهل عصر الصحابة دون من بعدهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"2 فمعنى ذلك من أحد وجهين أما أنه ورد ليبين أن قول كل واحد منهم حجة وهذا صحيح على قول الشافعي رحمه الله وهو محمول على أن لمن بعد الصحابة أن يرجعوا إلى قول كل واحد من الصحابة فيما يرويه عن الرسول صلى الله عليه وسلم والدليل على أن معنى هذا الخبر ليس الإجماع أنه قال: "بأيهم اقتديتم اهتديتم"3 وقوله بأيهم يتناول الآحاد ولا يتناول جماعتهم وأما قولهم أن الصحابة اختصوا بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم ومشاهدته قلنا ولم ينبغي أنهم إذا كانوا كذلك وجب لأن يختصوا بكون إجماعهم حجة دون من بعدهم إذ ليس في اختصاصهم بما اختصوا به ما يدل على اختصاصهم بكون إجماعهم حجة دون من سواهم والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه.
3 تقدم تخريجه.

 

ج / 1 ص -486-       فصل. أما الفصل الثالث وهو بيان ما ينعقد فيه الإجماع.
اعلم أن الإجماع حجة في جميع الأحكام الشرعية كالعبادات والمعاملات وأحكام الدماء والفروج وغير ذلك من الحلال والحرام وكل ما هو من الأحكام الشرعية.
وأما الأحكام العقلية فعلى ضربين.
أحدهما [ما]1 يجب تقديم العمل به على العلم بصحة السمع كحدث العالم وإثبات الصانع وإثبات صفاته وإثبات النبوة وما أشبه ذلك فلا يكون الإجماع في هذا حجة لأنا بينا أن الإجماع دليل شرعي ثبت بالسمع فلا يجوز أن يكون حجة ولا أن يثبت حكما قبل السمع كما يجوز أن يثبت الكتاب بالسنة والكتاب يجب العمل به قبل السنة.
والضرب الثاني: ما لا يجب تقدم العلم به على السمع وذلك مثل جواز الرؤية وغفران المذنبين وغيرهما مما يجوز أن يعلم بعد السمع والإجماع حجة في هذا الضرب لأنه لما كان يجوز أن يعلم بعد الشرع والإجماع من أدلة الشرع جاز إثبات ذلك به.
وأما أمور الدنيا كتجهيز الجيوش وتدبير الحروب والعماره والزراعة وغيرها من مصالح الدنيا فالإجماع ليس بحجة فيها2 لأن الإجماع فيها ليس بأكثر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت أن قوله صلى الله عليه وسلم إنما هو حجة في أحكام الشرع دون مصالح الدنيا وكذلك الإجماع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"أنتم أعلم بأمور دنياكم وأنا أعلم بأمور دينكم"3 وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى رأيا في الحرب راجع الصحابة في ذلك وربما ترك رأيه برأيهم وقد ورد مثل هذا في حرب بدر وحرب الخندق وغير ذلك ولم يكن أحد يراجعه فيما يكون من أمر الدين وقد ذكر بعض المتكلمين أن الإجماع ينعقد في أمر الدنيا أيضا وإذا رأى أهل العصر شيئا واتفقوا عليه لا يجوز مخالفته سواء كان في أمر الدين أو في أمر الدنيا لأن أدلة الإجماع منعت من الخلاف على الأمة ولم يفصل ولم يفصل بين أن يكون اتفقوا على أمر ديني أو دنيوي والصحيح الأول كما سبق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة في الأصل.
2 انظر نهاية السول 3/237, 238 المحصول 2/4 المعتمد 2/35 المحصول 2/97 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/157.
3 أخرجه ابن ماجه الرهون 2/825 ح 2471 وأحمد المسند 6/138 ح 24973 وذكره مسلم الفضائل بلفظ "أنتم أعلم بأمر ديناكم" أخرجه مسلم الفضائل 4/1836 ح 141/2363.

 

ج / 1 ص -487-       فصل إذا اجتمعت الأمة على الجمع بين مسألتين في حكم مخصوص فإنه لا فرق بينهما فيه.
مثل الإجماع على أن لا فرق بين الصلاة والصيام في وجوب النية وأن لا فرق بين الأكل والجماع في إفساد الصوم لم يجز التفرقة بينهما كما نعتاد الإجماع على اجتماعهما وذهب بعض أهل العلم إلى جواز التفرقة بينهما بالدليل الموجب لافتراقهما لأنه إجماع منهم لم يتعين في حكم والإجماع إنما ينعقد في الأحكام المتعينة1 وقيل أنه مذهب سفيان الثوري فإنه أفسد الصيام بجماع الناسي ولم يفسد بأكل الناسي وهذا ليس بصحيح لأن الإجماع على استوائها في الحكم إجماع على حكم فلما لم يجز مخالفة الإجماع في أعيان الأحكام لم يجز مخالفته في تساوي الأحكام فإذا وجب بالدليل ثبوت الحكم في أحد المسألتين أوجب الإجماع ثبوته في الأخرى فيكون ثبوته في الأول بدليله وثبوته في الثاني بالإجماع وأن وجب الدليل نفى الحكم عن إحداهما وجب نفيه عن الآخر فيكون نفيه عن الأول بالدليل وعن الثاني بالإجماع وإذا قام الدليل على فساد الصيام بجماع الناسي أوجب الإجماع فساده بأكل الناسي وإذا قام الدليل على صحة الصيام مع أكل الناسي أوجب الإجماع صحته مع جماع الناسي وإذا اجتمعت الأمة على الفرق بين مسألتين في حكم مخصوص لم يجز الجمع بينهما في ذلك الحكم وجوز الجمع بين المفترقين من وجوب الفرق بين المجتمعين وهو فاسد بما قلناه فإذا أوجب الدليل ثبوت الحكم في إحدى المسألتين أوجب الإجماع نفيه عن الأخرى وإذا أوجب الدليل نفيه عن إحدى المسألتين أوجب الإجماع ثبوته في الأخرى.
وإذا اجتمعت الأمة على قولين في حادثة لم يجز إحداث قول ثالث فيهما وجوزه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اختلف الأصوليون في ذلك على ثلاثة أقوال:
1 - يجوز مطلقا اتحد الجامع بين المسألتين أو اختلف.
2 - لا يجوز مطلقا.
3 - وهو المختار للبيضاوي تجوز التفرقة عند اختلاف الجامع ولا تجوز عند اتحاده.
ومحل النزاع إذا لم ينصوا على عدم الفرق بينهما فإن نصوا على ذلك فلا خلاف في عدم جواز التفرقة بين المسألتين في الحكم انظر نهاية السول 3/275 المحصول 2/64 روضة الناظر 132 المعتمد 2/46 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 3/275 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/161.

 

ج / 1 ص -488-       بعض أهل الظاهر وقال بعض المتكلمين وبعض أصحاب أبي حنيفة أن اختلافهم على قولين يوجب تسويغ الاجتهاد فجاز إحداث قول ثالث كما لو يستقر الخلاف1.
وأيضا فإن الصحابة اختلفوا في زوج وأبوين وامرأة وأبوين على قولين فجاء ابن سيرين وأحدث قولا ثالثا فقال في امرأة وأبوين بقول ابن عباس وفي زوج وأبوين بقول سائر الصحابة وأقره سائر العلماء على هذا فلم ينكروا عليه مخالفة الإجماع.
والصحيح ما قدمنا من تحريم إحداث قول ثالث لأن إجماعهم على قولين إجماع على تحريم ما عداهما فلما لم نجز خلاف الإجماع في القول الواحد لأنه يتضمن تحريم ما عداه فكذلك لا يجوز خلاف إجماعهم على القولين لإجماعهم على تحريم ما عداه يدل عليه أنه قد ثبت أن الحق لا يخرج عن الإجماع فلو جاز إحداث قول ثالث لم يعتقدوه يخرج الحق عن أقوالهم لأنا إنما جوزنا ذلك فيجوز أن يكون الحق في القول الثالث وفي هذا إبطال الإجماع.
وأما قولهم أن اختلاف الصحابة على قولين يوجب جواز الاجتهاد.
قلنا يوجب جواز الاجتهاد في طلب الحق من القولين فأما في قول ثالث فلا لما بينا أن في إثبات قول ثالث إبطال إجماعهم.
وأما الذي حكوه عن ابن سيرين.
قلنا هو لم يخالف الصحابة بل أخذ بكل واحد من القولين في إحدى المسألتين فصار قوله داخلا في القولين غير خارج منهما وعلى أن ابن سيرين قد عاصر الصحابة وأفتى معهم فاعتد بخلافه فيهم.
ومثال هذه المسألة مسألة الحرام وهي إذا قال لزوجته أنت علي حرام فإن الصحابة اختلفوا في هذه المسألة على خمسة أقاويل وأحدث مسروق قولا سادسا وقال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اختلف الأصوليون في ذلك على أقوال ثلاثة:
القول الأول: لا يجوز إحداث قول ثالث في المسألة مطلقا سواء كان القول الثالث رافعا لما اتفق عليه المجتهدون الأولون أم غير رافع له وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء.
القول الثاني: يجوز مطلقا وإلى ذلك ذهب الظاهرية وبعض الحنفية.
القول الثالث: التفصيل بين ما برفع متفقا عليه فلا يجوز وما لا يرفعه فيجوز والمختار للرازي والبيضاوي والآمدي وابن الحاجب انظر نهاية السول 3/286, 287 إحكام الأحكام للآمدي 1/384 المحصول 2/62 روضة الناظر 131 المعتمد 2/54 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/158.

 

ج / 1 ص -489-       لا أبالي أحرم امرأتي أم قصعة من ثريد يعني أنه ليس بشيء فقال الأصحاب أن مسروقا عاصر الصحابة فاعتد بخلافه فيهم وأنا أقول هذا في مسروق صحيح وأما في ابن سيرين فبعيد لأنه وأن أدرك عصر الصحابة رضي الله عنهم فلم يكن في ذلك الوقت في عداد من يعتد بقوله يتبع قولهم بخلاف مسروق فإنه من متقدمي التابعين وأدرك زمان عمر رضي الله عنه وما بعده كان من الفقهاء المتقدمين في عصر الصحابة وقد قال بعض أصحابنا أن ابن سيرين محجوج بقول الصحابة رضوان الله عليهم وقول من قال أنه لا ينكر عليه فلعله لم يظهر في ذلك الزمان فلهذا لم يروا الإنكار عليه ونحن ننكره ونقول قد خالف إجماع الصحابة في هذه المسألة.
وإذا أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على دليل في حكم لم يتعد وهو في المجلدة الثانية.
تم المجلد الأول بحمد الله وعونه والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
يتلوه الثاني أن شاء الله تعالى.