قواطع الأدلة في الأصول

ج / 1 ص -417-       القول فى الناسخ والمنسوخ.
ونبتدىء بمعنى النسخ فى اللغة والشرع أما من حيث اللغة فاعلم أن معنى النسخ فى اللغة نقل الشىء وإزالته بعد ثبوته من قولك نسخت الشمس الظل إذا أزالته ونسخت الرياح الآثار إذا محتها ويقال أيضا نسخت الكتاب وهو بمعنى نقل المكتوب من مكان إلى مكان آخر وقيل أن الأشبه أن يكون حقيقة بمعنى الإزالة فحسب وأما بمعنى النقل فيكون مجازا لأن ما فى الكتاب لا ينقل حقيقة إلا ترى أنه ثابت فيه على ما كان من قبل وإذا كان مجازا فى النقل كما ذكرنا لم يبق إلا أن يكون حقيقته فى الإزالة ويجوز أن يقال أنه حقيقة فى النقل أيضا لأنه إذا نسخ الكتاب فقد حصل المكتوب الذى كان فى هذا الموضع فى موضع آخر فصار شبه النقل أن لم يكن نقلا حقيقة فدلنا هذا أن اسم النسخ موضوع للنقل حيث تجوزوا به فيما يشبه النقل وأما نسخ الكتاب بإزالة وهو لا شبه الإزالة وقد قيل أن ما قالوه لا يدل على أنه ليس بحقيقة فى الإزالة لأنا بينا من حيث اللغة أنهم عرفوا النسخ بمعنى الإزالة ويمكن أن يقال أن النقل بمعنى الإزالة سمى نسخا لأن النقل يزيل المنقول من مكانه الأول1.
والأولى فى الشرع أن يكون بمعنى الإزالة وحده لأنه خطاب دال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان لازما مع تراخيه عنه ولا يلزم على هذا ما سقط عن الإنسان بالموت حيث لا يكون ذلك لأنا قلنا خطاب دال وذلك ليس بخطاب ولا يلزم ما وقع مما كانوا عليه من شرب الخمر وغيره لأن ذلك ليس بنسخ من حيث أن ما كانوا عليه لم يثبت بخطاب ولا يلزم ما أسقط بكلام متصل كالاستثناء والغاية مثل قوله تعالى:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] حيث لا يكون نسخا لأنه غير متراخى عنه وقيل أن اللفظ الدال على انتهاء الحكم الشرعى مع التآخر عن مورده وهذا جد حسن وهو أوجه من الأول.
واعلم أنه لا يجوز أن يقتصر على قول من قال أنه بيان انقضاء زمان العبادة لأنه يدخل الموت على هذا فإنه ينتفى زمان العبادة به ولا يكون نسخا ويقال أنه رفع الحكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/525 ونهاية السول 2/548 إحكام الأحكام 3/46 روضة الناظر 66 المستصفى 1/107 المعتمد 2/418 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/33.

 

ج / 1 ص -418-       المأمور به بالنهى عنه ويقال إزالة الحكم بعد استقراره والأولى1 ما سبق.
واعلم أن التناسخ يقع على أشياء فالناصب للدلالة الناسخة يوصف بأنه ناسخ فالله تعالى ناسخ لأنه ينصب الدلالة الناسخة ولهذا يقال أن الله تعالى نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى الكعبة ويوصف الحكم بأنه ناسخ فيقال وجوب صوم شهر رمضان ناسخ صوم عاشوراء ويوصف المعتقد لنسخ الحكم بأنه ناسخ فيقال فلان ينسخ الكتاب بالسنة أى يعتقد ذلك ويوصف الطريق بأنه ناسخ فيقال القرآن ناسخ للسنة وخبر كذا ناسخ لخبر كذا فى الحد الذى ذكرناه فى الطريق الناسخ وقد اشتمل الحد الذى ذكرناه على شرائط النسخ وتفصيل ذلك وهو أنه لا بد أن يكون الحكمان أعنى الناسخ والمنسوخ شرعيين2 لأن العجز يزيل التعبد الشرعى ولا يقال أن الناسخ من شرائطه أيضا أن يكون الناسخ منفصلا عن المنسوخ3 لأنه إذا كان متصلا به فإما أن يسمى استثناء أو يسمى غاية ولا يسمى نسخا بحال ألا ترى إلى قوله تعالى:
{فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت: 14] وإلى قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وقد دل الدليل المنفصل عن الدليل الأول ببيان السبيل وهو الرجم أو الجلد على ما عرف فكان الإمساك منسوخا والرجم والجلد ناسخا ومن شرط صحة النسخ أيضا أن يكون إزالة لحكم الفعل لا لنفس الفعل وصورته لأن صورة الصلاة إلى بيت المقدس لا يصح إزالتها وإنما الأدلة الشرعية دلت على زوال وجوب التوجه إليها أو دلت على جواز الصلاة إليها وقد قال بعضهم إن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النسخ في اصطلاح اللأصوليين فقد اختلفوا في تعريفه وقد ذكر البيضاوي من هذه التعاريف تعريفين أحدهما للأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني واختاره والثاني للقاضي أبي بكر الباقلاني وقد أبطله بما أورده عليه من الاعتراض الذي ذكره وسيأتي:
تعريف الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وهو المختار للبيضاوي: بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي.
تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني عرف الباقلاني النسخ بأنه رفع الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه.
إحكام الأحكام للآمدي 3/151 نهاية السول 2/548, 549 روضة الناظر 66 المحصول 1/526 المستصفى 1/107 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/34, 36.
2 إحكام الأحكام للآمدي 3/164 نهاية السول 2/552.
3 إحكام الأحكام للآمدي 3/164 نهاية السول 2/552.

 

ج / 1 ص -419-       من شرط حسن النسخ أيضا أن يكون إزالة لنفس ما تناوله التعبد على الوجه الذى تناوله بل أن يكون النسخ فى التعبد بمثله فى وقت آخر وهذا فيه نظر لأنا نجوز نسخ الشىء قبل وقت فعله وسيأتى ذلك من بعد ونبتدىء بالقول فى جواز النسخ.
مسألة النسخ جائز فى الشرعيات.
وقالت اليهود لا يجوز ذلك وكذلك قال شرذمة من المسلمين1 وقد نسب ذلك إلى بعض الروافض من اليهود وطائفة يجوزون النسخ وتعلق من لم يجوز النسخ بأن جواز النسخ يؤدى إلى جواز البداء على الله تعالى لأنه أداء نهى عن صورة ما أمر به أو أمر بصورة ما نهى عنه يكون قد ظهر له شىء كان خاصا عليه حتى نهى عن غير ما أمر به أو أمر بغير ما نهى عنه وهذا لا يجوز على الله تعالى فيكون النسخ محض البداء وهو من صفات البشر ولا يجوز على الله تعالى قالوا: ولأن الأمر بالفعل يقتضى الفعل أبدا فإن تعلق الأمر يقتضى أن الأمر أراد ذلك فإذا لم يرد الفعل أبدا من اقتضاء الظاهر إياه كان ملبسا وإذا اقتضى الأمر الفعل أبدا فإذا نهى فى المستقبل عنه يدل نهيه أن ظهر له شىء كان خافيا عنه أو خفى عنه شىء كان ظاهرا له وهذا لا يجوز على الله تعالى وهذا الدليل قريب من الأول.
وقد قال بعضهم أن الأمر بالشىء يدل على حسنه والنهى عنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أنه قد أجمع المسلمون على أن النسخ جائز عقلا ووافع شرعا إلا ما نقل عن أبي مسلم الأصفهاني في أحد النقلين عنه من أنه غير واقع ويئول ما يراه الجمهور نسخا بأنه من باب انتهاء الحكم لانتهاء زمنه ومثل هذا لا يعتبر نسخا.
والصحيح في النقل عنه أنه واقع بين الشرائع بعضها مع بعض ولكنه غير واقع في الشريعة الواحدة. وبذلك يكون أبو مسلم مع الجمهور في أن النسخ واقع وإنما قلنا أن النقل الأخير هو الصحيح عنه لأنه هو الذي يتفق مع ما أجمع عليه المسلمون من أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع السابقة ولا يسع أبو مسلم أن يخالف هذا الإجماع.
أما اليهود فقد انقسموا إلى فرق ثلاث:
1 - قرقة الشمعونية ةهذه الفرقة ترى أن النسخ محال عقلا وسمعا.
2 - فرقة العيسوية وترى أن النسخ جائز عقلا وواقع شرعا ولكن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ليست ناسخة لشريعة موسى وإنما هي خاصة ببي إسماعيل.
3 - فرقة العنانية: النسخ جائز عقلا ولكنه غير واقع سمعا.
انظر نهاية السول 2/554, 555 إحكام الأحكام 3/165 المحصول 1/532, 533 روضة الناظر 69 المستصفى 1/111 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/38.

 

ج / 1 ص -420-       يدل على قبحه فيؤدى النسخ إلى أن يكون الشىء الواحد حسنا قبيحا وهذا لا يجوز وقد نقل اليهود عن موسى عليه السلام أن السبت لا ينسخ أبدا وربما قالوا: أنه قال شريعتي لا تنسخ أبدا وأما دليلنا فى جواز النسخ فنقول على من خالفنا ممن يدعى الإسلام قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] وقال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] ويدل عليه أن نكاح الأخوات كان جائزا فى شريعة آدم صلوات الله عليه وقد نسخ والأولى أن يدل بالدليل النقلى فإن هذا الخلاف مع اليهود فأما المسلمون فعندى أنهم مجمعون على الجواز والدليل العقلى أن الشىء يجوز أن يكون حسنا فى وقت قبيحا فى وقت ألا ترى أنه يحسن أن يقول السيد لعبده افعل كذا فى وقت كذا ولا تفعله فى وقت كذا ويحسن أن يقول الله تعالى تمسكوا بالسبت ما عشتم إلا السبت الفلانى وهذا لأنه يجوز أن يكون التمسك بالسبت مصلحة فى وقت ومفسدة فى وقت آخر كما يجوز أن يكون الرفق مصلحة لإنسان مفسدة لآخر وكذلك يجوز أن يكون مصلحة فى وقت مفسدة فى وقت وهذا كما يجوز كون الصحة والمرض والغنى والفقر مصلحة فى وقت دون وقت وكذلك السبت يجوز أن يكون مصلحة فى وقت دون وقت ولا فرق فى العقل بين هذه الأشياء وهذا على قول من يعتبر المصالح ومن هذا الجنس نقلت الأحوال بالإنسان من الطفولية والبلوغ والشباب والكهولة والشيخوخة وما هذا إلا تصريف الأمور على توجيه الحكمة وتدعو إليه المصلحة وابتلاء العباد وامتحان طاعتهم وقتا بعد وقت بالوجه الذى هو خير لهم وأدعى إلى صلاحهم وإن قلنا أن الله عز و جل يكلف عباده ما بينا ولم نعتبر وجوه المصالح فعلى هذا الطريق يجوز النسخ أيضا لأنه لا يجوز أن يكلفهم شيئا فى وقت ويكلفهم فى وقت آخر غيره على ما يشاء ويريد بين ذلك أنه إذا جاز أن يطلق الأمر والمراد إلى أن يعجز عنه لمرض أو غيره جاز أيضا أن ينسخه برهة من الزمان وأما الذى تعلقوا به من فصل البداء وإلحاق النسخ به فليس للقوم إلا ذلك وإذا بينا الفرق بين البداء والنسخ سقط كلامهم جملة.
فنقول البداء فى اللغة أصله بداء الشىء يبدو إذا ظهر بعد خفاء ويقال بدا لنا سور المدينة إذا ظهر من النسخ نقل وتغيير على ما سبق بيانه فلم يتفقا من مأخذ اللغة ولسان العرب فلم يجز أن يجعلا كشىء واحد وهذا لأنه إذا كان البداء من الظهور ويدل على أن بدا له شىء فقد ظهر ما كان خافيا عليه لم يجز على الله تعالى لأنه تعالى لا

 

ج / 1 ص -421-       يخفى عليه خافية ولا تستتر عليه غائبة بل الأشياء كلها له بادية أحاط بكل شىء علما وأحصى كل شىء عددا لا يعزب عنه مثقال ذرة فلهذا لم يجز البداء عليه ولم يتصور ذلك فى حقه وأما النسخ إزالة حكم بحكم وتبديل حال ويقال تناهى مدة العبادة وليس فى هذا قصور علم ولا لزوم جهل بل تصريف العباد على ما يشاء ويريد أو على ما يعلم من مصالحهم يدل عليه أن البداء الذى توهموا إنما يلزم أن لو كان الله تعالى نهانا عن نفس ما أمرنا به1 وذلك أن يقول: افعلوا كذا فى وقت كذا على وجه كذا ثم يقول: لا تفعلوا ويذكر ذلك الوقت وذلك الوجه أو يقول: افعلوا كذا أبدا ولا تنتقلوا عنه ثم ينقلنا عنه فأما إذا أمرنا بأمر مرسل ويريد أن ينقلنا عنه بعد زمان ونقلنا حين جاء ذلك الزمان فليس بمنكر ولا مستحيل ولا فيه معنى البدل إلا ترى أنه لو قال صلوا إلى بيت المقدس إلى الزمان الذى أنقلكم عنه إلى الكعبة وجاء الشرع بصريح هذا كان جائزا سائغا كذلك إذا أطلق وأراد أن يفعل كذلك أو الجملة أنه يجوز أن يكون الشىء حسنا فى وقت قبيحا فى وقت مصلحة فى وقت مفسدة فى وقت ولو كان الشىء ووصفه واحد فى جميع الأوقات لكان حكم نكاح الأخوات واحد فى الأوقات كلها ومعلوم أنه ما كان نكاح الأخوات محظورا فى زمن آدم عليه السلام وقد صار فى زمن موسى عليه السلام وإذا جاز وفى هذه الصورة الواحدة جاز فى سائر الصور وهذا قاطع لا يتأتى عليه كلام وأما الكلام الثانى الذى قالوه أن ظاهر إطلاق الأمر هو الأمر بالفعل أبدا قلنا هذا ليس كذلك لأن الأمر المطلق لا يفيد التكرار وإنما يفيد الفعل مرة واحدة وقد سبق بيان هذا وأن قلنا يوجب التكرار فلا نقدم على اعتقاد التأبيد لجواز أن يرد نسخ من الله تعالى وهذا صحيح من شرائع من قبلنا لأنه قد أشعرهم بورود نبى بعد نبيهم فأما فى شرعنا فقد انحسم الباب كلية ولا بد من اعتقاد بوجوب على التأبيد اللهم إلا أن يقدر الأمر فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يجوز ورود النسخ وقد ذكر عبد الجبار الهمدانى فى العمد أنه لو قال افعل كذا أبدا لا يقتضى الدوام أيضا قال ولهذا لا يفهم من قول القائل لغيره الزم فلانا أبدا واحبسه أبدا الدوام وقولهم أن فى تأخير بيان النسخ إلباسا قلنا الإلباس إنما ثبت إذا لم يبين الحكيم ما يجب لبيانه مما يحتاج المكلف إليه فأما ما لا يحتاج إليه فلا يجب بيانه ولا إلباس فى ترك بيانه وهل ترك بيان النسخ إلا جهل العبد بوقت ارتفاع العبادة وأما الذى ادعوه من قول موسى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام 3/157 المعتمد 1/368.

 

ج / 1 ص -422-       فقد قالوا: أنه كذب عليه وإنما لقنهم ذلك ابن الروندى والدليل على ذلك أنه لو كان لهذا أصل صحيح لاحتج به أحبار اليهود على النبى صلى الله عليه وسلم ولو فعلوا ذلك لنقل عنهم ولاشتهر وعرفناه كما عرفنا سائر أمورهم فعلمنا من هذا أن هذا كذب صريح على موسى صلوات الله عليه.
واعلم أن الأصوليين قد ذكروا الخلاف فى هذا مع طائفة من اليهود وشرذمة من المسلمين ونسبه الشيخ أبو إسحاق الشيرازى رحمه الله فى كتابه إلى أبى مسلم محمد بن بحر الأصبهانى وهذا رجل معروف بالعلم وأن كان قد انتسب إلى المعتزلة وبعد عنهم وله كتاب كبير من التفسير وكتب كثيرة فلا أدرى كيف وقع هذا الخلاف منه ومن خالف فى هذا من أهل الإسلام فالكلام معه أن يريه وجود النسخ وذلك مثل نسخ ثبات الواحد للعشرة إلى ثباته بالاثنين ونسخ التوجه إلى بيت المقدس إلى التوجه إلى الكعبة ونسخ صوم عاشوراء برمضان إلى غير ذلك فإن لم يعرف مدة الأشياء كان هذا تعنتا أو ظنا ولزوم أن ترفع شريعة من قبلنا بشرعنا لا يكون نسخا أيضا وهذا لا يقوله مسلم وقد قال بعض الرافضة يجوز البداء على الله تعالى وهذا باطل لأنهم أن أرادوا إثبات ما قلناه أنه يظهر ما كان خافيا عنه فهو كقوله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وأن أرادوا تبديل العبادة والفروض فهذا لا ننكره وليس من البداء فى شىء.
ومما يتصل بهذه المسألة فصلان.
أحدهما:
أنه يجوز النسخ وأن اقترن بالمنسوخ ذكر التأبيد وعند بعض المتكلمين لا يجوز النسخ إلا فى خطاب مطلق وأما إذا قيد فلا يجوز نسخه1 وزعموا أن ذلك لا يؤدى إلى البداء الذى ذكرناه وعندنا يجوز النسخ فى هذه الصورة أيضا ولا يكون البداء وقد ذكرنا طرفا منه فى المسألة الأولى.
ببينة: أنه إذا جاز أن يقال لازم غريمك أبدا ويريد إلى وقت القضاء جاز أن يقال فعل كذا أبدا ويراد إلى وقت النسخ يدل عليه أنه إذا جاز ذكر الكل والجميع فى الأعيان ولا يمنع ذلك التخصيص جاز أن يذكر أبدا فى الزمان ولا يمنع ذلك النسخ ولأنه إذا جاز أن يفيد الخطاب بالتأبيد ثم يكون معناه ما لم يعجز المخاطب عن الفعل لمرض وغيره جاز أن يفيد التأبيد ويكون معناه افعلوا أبدا ما لم أنسخه عنكم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/192 المحصول 1/549 المعتمد 1/382 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/79, 80.

 

ج / 1 ص -423-       والفصل الثانى: وهو أن النسخ جائز وأن لم يشعر عند التكليف بالنسخ وقال المتكلمين لا يجوز ما لم يشعر عند الخطاب بالنسخ وزعموا أنه إذا لم يشعر بالنسخ يؤدى إلى الإلباس وعندنا هذا ليس بشرط وترك الإشعار لا يؤدى إلى ما ذكروه والدليل عليه أن عامة ما وجد من الناسخ والمنسوخ فى شريعتنا لم يعرف فى ذلك إشعار ومن ادعى معرفة ذلك للصحابة ابتداء التكليف يكون مباهتا قطعا ولأن الإشعار بالنسخ لأى معنى يجب وأى حاجة وقعت إلى ذلك وإذا اعتقد المخاطب أن الله تعالى يأمر بما شاء واعتقد أنه يجوز أن يكون فعله للشىء مصلحة فى وقت مفسدة فى وقت فكيف يقع له الحاجة إلى الإشعار الذى ذكروه يدل عليه أنه لو وجب الإشعار بما يزيل الأمر من النسخ لوجب الإشعار بما يحدث من الأمراض المسقطة للأمر وحين لم يجب الإشعار فى تلك الصورة كذلك فى النسخ لأنها فى المعنى واحد وقد ظهر الجواب عما قالوه من فصل الإلباس فيما قلناه والله أعلم.

فصل: إذا عرفنا معنى النسخ وجوازه سنذكر ما يجوز نسخه وما لا يجوز فنقول:
أن النسخ لا يجوز إلا فيما يجوز وقوعه على وجهين كالصلاة والصوم والعبادات الشرعية فأما ما لا يجوز أن يكون إلا على وجه واحد مثل التوحيد وصفات الله عز وجل فلا يصح فيه النسخ وعبر بعضهم عن هذا فقال أن النسخ لا يقع فى موجبات العقول وإنما يقع فى مجوزات العقول1 ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم: "أن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"2 وذلك أن الحياء غريزة فى الإنسان محمودة حسنة فى العقول وهو قائم بعينه ونفسه فلم يجز أن يتناسخه الأديان والشرائع فكان ذلك مستمر فى الشرائع على وجه واحد باقيا ما بقى التكليف وفى هذا كلام كثير ومرجعه إلى الكلام ولا حاجة بنا إليه ومما لا يجوز النسخ فيه ما أخبر الله تعالى من أخبار القرون الماضية والأمم السالفة وكذلك ما أخبر من الكوائن فى المستقبل من خروج الدجال وغير ذلك لا يجوز فيه النسخ وجوز بعض الأشعرية نسخ الخبر فى المستقبل ويمنع من ذلك فى الماضى وأجاز قوم نسخ الأخبار فى الماضى والمستقبل جميعا3.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/257 نهاية السول 2/575 المحصول 1/548 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/81.
2 تقدم تخريجه.
3 نهاية السول 2/576, 577 إحاكم الأحكام للآمدي 3/257 المحصول 1/548 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/56.

 

ج / 1 ص -424-       والصحيح أنه لا يجوز النسخ فى الأخبار بوجه ما لأنه يؤدى إلى دخول الكذب فى أخبار الله تعالى وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك لا يجوز فإن قال قائل ما قولكم فى الأخبار الواردة فى الوعيد لمرتكبى الكبائر قلنا يجوز العفو عنها قالوا: فهذا نسخ قلنا هذا ليس بنسخ إنما هو من باب التكرم والعدول عن المتوعد بالفضل وقد يتكلم المتكلم بالوعيد وهو لا يريد إمضاءه ولا يعد ذلك خلفا بل يعد عفوا وكرما وقال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عبيد حين تكلما فى هذا إنك رجل أعجمى القلب أن العرب تعد الانصراف عن الوعيد كرما والانصراف عن الوعد لؤما وأنشد:

وإنى إذا أوعدته أو وعدته           لمخلف إيعادى ومنجز موعدى

وقال الأصمعى ما سمعت أعرابيا يقول: سبحان من إذا وعد وفى وإذا أوعد عفى وقال بعض أصحابنا أن وقوع العفو عن المذنبين مع أن الوعيد إنما جاء من ترتيب الخطاب بعضه على بعض فإن الله تعالى قال ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} وقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} [لأنفال: 16] إلى أمثال هذا وقال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6] وقال فى موضع آخر: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116] وأمثال ذلك فكانت الآيات المتقدمة مرتبة على هذا والآيات المشتبه فيها مضمرة وإذا ورد الأمر بلفظ الخبر مثل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فنسخه جائز فى قول الأكثرين ومنع منه من أصحاب الشافعى أبو بكر الدقاق فعلق الحكم بالخبر على معنى الأمر وهذا فاسد لأن الأمر بلفظ الخبر يجرى على حكم الأمر من وجهين.
أحدهما: اختصاص الأمر بالإلزام والخبر بالإعلام.
والثانى: اختصاص الخبر بالماضى والأمر بالمستقبل فلما تعلق بما ورد من الأمر بلفظ الخبر حكم الأمر دون الخبر من هذين الوجهين كذلك حكم النسخ ولأنه أمر وضح نسخه كسائر الأوامر وما لا يجوز نسخه بالإجماع لأن الإجماع لا يكون إلا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم والنسخ لا يجوز بعد موته صلى الله عليه وسلم وكما لا يجوز الإجماع بنسخه فلا يكون ناسخا أيضا1 لأن الإجماع لما كان ينعقد بعد زمان النبى صلى الله عليه وسلم لم يتصور أن ينسخ ما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/589 إحكام الأحكام للآمدي 3/226, 227 المعتمد 1/400 روضة الناظر 80 تيسير التحرير 3/207 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/66 المحصول 1/559.

 

ج / 1 ص -425-       كان من الشرعيات في زمانه ولأن الأمة لا تجتمع على مثل هذا لأنه يكون اجتماع على ضلاله وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم لا يجتمعون على الضلالة.
فان قيل قد نسختم خبر الواحد بالإجماع وهو الخبر الذي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من غسل ميتا فليغتسل ومن مسه فليتوضأ"1.
قلنا إنما استدل من مخالفة الإجماع له على تقدم نسخه فصار منسوخا بغير الإجماع لا بالإجماع فصار الإجماع في هذا الموضع دليلا عن النسخ ولم يقع به النسخ وأما نسخ الإجماع با لأجماع فمثل أن يجمع الصحابة في حكم على قولين ثم يجمع التابعون بعدهم على قول واحد منهما فيكون الصحابة مجمعة على جواز الاجتهاد فيها والتابعون مجمعون على نسخ الاجتهاد فيها.
وفي هذه المسألة قولان للشافعي على ما سنبينه في مسائل الإجماع وعلى القول الذي يجوز صحة الإجماع لا يكون نسخا كما تقدم لأن الصحابة وأن سوغوا الاجتهاد ولكن إنما سوغوا إذا لم يمنع منه مانع كما سوغوا الاجتهاد من صحابي عن حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فكان منع الاجتهاد في إجماع التابعين لهذه العلة لا أنه منسوخ.
واما دليل الخطاب فيجوز نسخ موجبة ولا يجوز النسخ بموجبه لأن النسخ أقوى من دليله.
واما النسخ بفحوى الخطاب فهو جائز لأنه مثل النطق وأقوى منه2 وقد جعل الشافعي فحوى الخطاب في قوله عز وجل:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} مع تحريم الضرب قياسا على التأفيف فعلى قوله لا يصح النسخ به لأن القياس لا يجوز به نسخ النص.
وأما نسخ الفحوى فإنه توجه النسخ إلى النطق كان نسخا له ولفحواه ولمفهومه وأن توجه النسخ إلى الفحوى والمفهوم فقد اختلفوا في جوازه مع إبقاء نطفه فجوزه أكثر المتكلمين كالنصين يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر ويمنع من ذلك أكثر الفقهاء لأن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الجنائز 3/197 ح 3161 وأحمد المسند 2/598 ح 9876 بلفظ
"من غسل ميتا فيغتسل ومن حمله فليتوضأ".
2 انظر نهاية السول 2/596, 597 المعتمد 404 إحكام الأحكام للآمدي 3/235 المحصول 1/563 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/71.

 

ج / 1 ص -426-       ثبوت نطفه موجب لفحواه ومفهومه فلم يجز نسخ الفحوى والمفهوم مع بقاء موجبة1 كما لا يجوز نسخ القياس مع بقاء أصله.
وأما الحكم الذي ثبت بالقياس فنسخ أصله يوجب نسخه في قول الشافعي وجمهور الفقهاء وقال بعض أصحاب أبي حنيفه يكون حكم القياس بعد نسخ أصله ثابتا في فروعه وهذا لا يصح لأن زوال الموجب يقتضي زوال الموجب ولأنه ما ثبت تابعا لغيره يزول بزواله لآن المتبوع أصل والتابع فرع ولا يصح بقاء الفرع مع زوال أصله لأنه إذا بقى لا يكون فرعا.
وأما نسخ القياس مع بقاء أصله فعلى وجهين وهو مثل ما إذا نسخ الأصل هل يكون ذلك نسخا للقياس وعلى وجهين أيضا وصورته وهو أن ثبت الحكم في عين بعلة وقيس عليها غيرها ثم نسخ الحكم فى تلك العين المقيس عليها والأصح أن يبطل الحكم في الفروع لأن الفرع تابع للأصل فإذا بطل الحكم في الأصل بطل في الفرع.
وأما النسخ بالقياس فلا يجوز لأن القياس مستعمل مع عدم النص فلا يجوز أن ينسخ النص وقد ذهب بعض أصحاب الشافعي إلى جواز النسخ بالقياس الجاري في أخبار الآحاد2 والأصح هو الأول لما ذكرنا ولأن القياس إنما يصح إذا لم يعارضه نص فإذا كان نص يخالف القياس لم يكن للقياس حكم فلا يجوز النسخ به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/598, 599, 600 المعتمد 404 إحكام الأحكام للآمدي 3/237 المحصول 1/563 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/71, 72 تيسير التحرير 3/214.
2 نهاية السول 594, 595 المعتمد 1/402 إحكام الأحكام للآمدي 2/38, 39 المحصول 1/561, 562 تيسير التحرير 3/212 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/74.

فصل: قد ذكرنا بعض ما يجوز النسخ به وسنبين الباقي بعد ذلك وفيه كلام كثير ومسائل من الخلاف كبار ونذكر الآن وجوه النسخ فنقول:
الناسخ والمنسوخ يشتمل على ستة أقسام.
أحدها: ما نسخ حكمه وبقي رسمه كنسخ أية الوصية في الوالدين والأقربين بآية المواريث:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية ونسخ العدة حولا بأربعة أشهر.

 

ج / 1 ص -427-       وعشرا فالمنسوخ ثابت التلاوة مرفوع الحكم والناسخ ثابت التلاوة ثابت الحكم.
والقسم الثاني: ما نسخ حكمه ورسمه وثبت حكم الناسخ ورسمه كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة ونسخ صيام عاشورا بشهر رمضان فالمنسوخ مرفوع الرسم والحكم والناسخ ثابت الرسم والحكم.
والقسم الثالث: ما نسخ حكمه وبقي رسمه ورفع رسم الناسخ وبقي حكمه كقوله تعالى:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ} لأنه نسخ بقوله تعالى الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله وقال عمر رضى الله عنه كنا نقرؤها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لأثبتها فيه والمنسوخ باقي التلاوة مرفوع الحكم والناسخ مرفوع التلاوة ثابت الحكم.
والقسم الرابع: ما نسخ حكمه ورسمة ونسخ رسم الناسخ وبقى حكمه كالمروى عن عائشة رضي الله عنها قالت كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس رضعات معلومات فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما يتلى في القرآن1 يعني أنه يتلى حكمه دون لفظه وكان المنسوخ مرفوع التلاوة والحكم والناسخ مرفوع التلاوة باقى الحكم ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه ومن نسخ الحكم مع بقاء لفظه2 لأنه يؤدي أحدهما إلى أن ينفي الدليل ولا مدلول والآخر يؤدي إلى أن يرتفع الأصل ويبقى التابع والصحيح هو الجواز لأن التلاوة والحكم في الحقيقة شيئان مختلفان فجاز نسخ أحدهما وتبقيه الآخر كالعبادتين يجوز أن ينسخ أحدهما ويبقي الآخر.
والقسم الخامس: ما نسخ رسمه أو حكمه ولا يعلم الذي نسخه كالمروي أنه كان في القرآن لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا ولا يملأ جوف أبن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب كما رواه أنس في أصحاب ببئر معونة وهم القراء الذين قتلوا بئر معونة قال أنس كنا نقرأ بلغوا إخواننا أنا لقينا ربنا فرضى علينا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم الرضاع 2/1075 ح 24/1452 ومالك في الموطأ الرضاع 2/608 ح 17.
2 انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/201, 202 203 المحصول 2/546و 547 نهاية السول 2/572, 573 المعتمد 1/386 تيسير التحرير 3/204 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/53.

 

ج / 1 ص -428-       وأرضانا1.
وهذا القسم في معنى النسخ وليس بنسخ حقيقة ولا يدخل في حد النسخ.
وقد روى أن رجلا قام في الليل ليقرأ سورة فلم يقدر عليها فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رفعت البارحة وقيل أن سورة الأحزاب كانت مثل سورة البقرة فسخ منها ما زاد على الموجود.
والقسم السادس ناسخ صار منسوخا وليس منهما لفظ متلو كالتوارث بالحلف والنصرة نسخ بالتوارث بالإسلام والهجرة ثم نسخ التوارث بالهجرة وهذا داخل في أقسام النسخ أيضا من وجه ذكر هذه الأقسام الستة القاضي الماوردى وعندي أن القسمين الآخرين تكلف وليس بتحقق فيهما النسخ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الجهاد 6/209 ح 3064 ومسلم المساجد 1/468 297/677 وأحمد المسند 3/134 ح 12070.

فصل آخر في بيان وجوه النسخ.
وهو معرفة حكمه فنقول أحكامه مشتملة على ستة أضرب.
أحدها: أن ينسخ الحكم بمثله في التخفيف والتغليظ2 مثل نسخ استقبال بيت المقدس بالكعبة.
والضرب الثاني: نسخ الحكم إلى ما هو أخف منه مثل نسخ العدة حولا كاملا بالعدة أربعة أشهر وعشرا.
والضرب الثالث: من النسخ أن ينسخ الحكم بما هو أغلظ منه فقد منع منه قوم أهل الظاهر وذكره ابن داود وصار إليه فقال بعضهم منع بالعقل لما فيه من التنفير وقال بعضهم منع منه بالشرع لقوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] واحتج محمد بن داود بقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ونح ندل على جوازه بالعقل والشرع جميعا أما من حيث العقل فإن الناس في أصل التكليف على قولين منهم من بناه على مشيئة الله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 انظر المحصول 2/546 نهاية السول 2/569 المعتمد 1/385 إحكام الأحكام للآمدي 3/196, 197 تيسير التحرير 3/197 روضة الناظر 76 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/51.

 

ج / 1 ص -429-       وعلى هذا لا يمتنع نسخ الأخف بالأثقل كما لا يمتنع نسخ الأثقل بالأخف ومنهم من اعتبر فيه الأصلح وعلى هذا لا يمتنع أن يكون من المصلحة نسخه بالأخف تارة وبالأثقل أخرى وأما الشرع فنقول نسخ الأخف بالأثقل قد وحد في الشرع إلا ترى أن الله وضع القتال في أول الإسلام ثم نسخه بفرض القتال ونسخ الإمساك في الزنا بالجلد وصوم عاشورا بصوم رمضان لأن الأثقل يكون أكثر ثوابا على ما قاله عليه السلام لعائشة رضي الله عنها: "إنما أجرك على قدر تعبك"1 فيكون نسخ الأخف با لأغلظ تعريض المكلف للثواب الكبير وهذا لا يمنع منه اشرع ولا عقل وأما قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} فمعنى ذلك نأت بما هو أنفع لكم وأعود عليكم وقد تكون الفائدة فيما هو الأثقل واستقام معنى الآية على هذا.
والضرب الرابع: أن ينسخ التخيير بين أمرين بانختام أحدهما كالذي في صدر الإسلام من التخيير في صيام رمضان بعد الفدية والصيام بقولة:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] الآية ثم نسخ التخيير بأنختام الصيام بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وفي هذا دليل أيضا على جواز نسخ الأخف بالأغلظ لأن انختام الصوم أغلظ من التخيير.
والضرب الخامس: نسخ الوجوب بالإباحة والإباحة بالوجوب كنسخ تحريم الأكل والمباشرة بعد النوم في ليل الصيام بإباحته بقوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] وأما نسخ الإباحة بالوجوب كنسخ النهى عن القتال بإباحته ثم إباحته بوجوبه وقد نسخ الواجب إلى الندب مثل قيام الليل نسخ إيجابه إلى الندب.
والضرب السادس: أن يكون النسخ إلى غير بدل وهو جائز عند الجمهور ومنعت منه طائفة من أهل الظاهر2 لقوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] والدليل على جواز ذلك السمع والمعقول أما السمع فلو جود ذلك.
ألا ترى أن نسخ إيجاب الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غير بدل ونسخ تحريم إدخار لحوم الأضاحي إلى غير بدل ومن حيث المعقول فلأنه أن كان بالمشيئة فيجوز أن يشاء نسخه إلى بدل ويجوز أن يشاء نسخه لا إلى بدل وأن كان الاعتبار.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري العمرة 3/714 ح 1787 ومسلم الحج 2/876 ح 126/1211.
2 انظر المحصول 2/546 المعتمد 1/384 إحكام الأحكام للآمدي 3/195 تيسير التحرير 3/197 روضة الناظر 75 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/50.

 

ج / 1 ص -430-       بالمصلحة فيجوز أن تكون المصلحة في نسخ الشيء إلى بدل ورفع الواجب لا إلى بدل ولأنه إذا جاز أن يسقط بالعذر إلى بدل وغير بدل جاز أن يسقط بالنسخ إلى بدل وغير بدل وأما الآية قلنا الآية محمولة على النسخ إلى بدل ثم وصفه أن يكون مثل الأول أو خيرا منه فهذا إتمام هذه الأضرب فإن نسخت صفه من صفات العبادات كالصلاة ينسخ منها استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة فقد اختلفوا أنه هل يكون نسخا بجميع العبادة فجعله أهل العراق نسخا بجميعها وجعلوا فرضها مبتدأ بالأمر الثاني دون الأول لارتفاع الأول بزوال شرطه فتكون الصلاة إلى بيت المقدس منسوخة بالصلاة إلى الكعبة والصحيح وهو الذي عليه جمهور أصحاب الشافعي بأن فرضها باق دون نسخ صفتها ولأن النسخ يكون مقصورا على الصفة ولا يتعدى إلى الأصل لأن النسخ لا يتعدى من محله إلى غير محلة فعلى هذا تكون الصلاة إلى بيت المقدس محولة إلى الكعبة ومن حيث التوجه فحسب وأما جواز أصل الصلاة بعد تحويلها إلى الكعبة إنما هو بالخطاب الثابت قبل النسخ.

فصل ونتكلم الآن في أوقات النسخ.
فنقول أوقات النسخ على ثلاث أضرب ضرب يجوز فيه النسخ وضرب لا يجوز فيه النسخ وضرب اختلفوا فيه.
أما الضرب الأول: وهو الذي يجوز به النسخ وهو بعد العلم بالمنسوخ وبعد العمل به فيجوز نسخه سواء عمل به جميع الأمة أو بعض الأمة فالأول مثل استقبال القبلة والثاني مثل فرض الصدقة في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه روى أنه عمل به على أبن أبي طالب رضي الله عنه وحدة.
وأما الضرب الثاني: فهو النسخ قبل العلم بالمنسوخ واعتقاد وجوبه فلا يجوز نسخه لأن النسخ يكون فيما استقر فرضه ليخرج به عن البداء والنسخ قبل العلم بالمنسوخ يؤدي إلى البداء لأنه يصير كما لو قال افعل ولا تفعل وهذا يقبح إلا ترى أنه إذا كان متصلا يقبح فإذا كان منفصلا يقبح أيضا فإن قيل أليس روى أن الله تعالى فرض خمسين صلاة ليلة المعراج ثم أنه نسخه قبل أن تعمل به الأمة والقصة ثانية في تردد النبي صلى الله عليه وسلم ومسألة التخفيف وحث موسى إياه على ذلك قلنا قد كان الرسول صلى الله عليه وسلم عالما بذلك واعتقد وجوبه فقد نسخ بعد العلم بوجوبه واعتقاده.

 

ج / 1 ص -431-       والضرب الثالث وهو النسخ بعد العلم به واعتقاد وجوبه قبل العمل به وقبل وقت عمله فقد اختلفوا في ذلك على ما سنبين.
مسألة يجوز عندنا نسخ الشيء قبل وقت فعله.
وقال أبو بكر الصيرفي لا يجوز وهو قول المعتزلة ولأصحاب أبي حنيفة في ذلك خلاف وذهب أكثرهم إلى أنه لا يجوز وذهب بعضهم إلى جوازه1 والمسألة تدور على أنهم يقولون مثل هذا النسخ يدل على البداء وعندنا لا يدل على ذلك وأما أكثرهم فقد تعلقوا بهذا الحرف وقالوا: نسخ الشيء قبل وقت فعله يؤدي إلى البداء والبداء لا يجوز على الله تعالى والدليل على أنه يؤدي إلى البداء أن الله عز وجل إذا قال لنا في صبيحة بوم صلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة ثم قال عند الظهر لا تصلوا عند غروب الشمس ركعتين بطهارة كان الأمر والنهي متناولا فعلا واحدا على وجه واحد في وقت واحد وقد صدر من مكلف واحد إلى مكلف واحد وفي تناول النهي لما تناوله الأمر على الحد الذي تناوله من غير انفصال دليل أما على البداء وأما على القصد إلى الأمر القبيح والنهي عن الحسن وهذا لأن أمر الحكيم يدل على حسن المأمور به ونهيه يدل على قبح المنهي عنه فأما إذا أمر بفعل في وقت من الأوقات دل ذلك على حسنه فإذا نهانا عنه نهيا عما هو حسن والنهي عن الحسن قبيح كما أن الأمر بالقبيح قبيح وذلك لا يجوز توهمه على الله سبحانه وتعالى وهذا دليل المتكلمين ولأن الأمر لا بد له من فائدة وإذا جوزنا النسخ على ما قلتم سقطت فائدة الأمر قالوا: فلا يجوز أن يقال قد أفاد اعتقاد الوجوب والعزيمة على الفعل وإذا أفاد هذا سقط صفة البداء عن النسخ لأن المسألة مصورة فيما إذا كان النهي يتناول غير ما أمر به والأمر طلب الفعل وإذا جوزنا نسخه قبل وقت الفعل لم يبق للأمر فائدة فيما وضع الأمر له فأما اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل فليس الأمر بموضوع لهما.
ببينة: أنه على ما قلتم يصير كأن الله تعالى قال اعزموا واعتقدوا وقوله افعلوا ليس بعبادة عنه لا لغة ولا شرعا ولا حقيقة ولا مجازا فصار الأمر أمرا بالفعل لا بغيره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/541 إحكام الأحكام للآمدي 3/179, 180 روضة الناظر 71 تيسير التحرير 3/188 المعتمد 375 نهاية السول 2/562 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/46.

 

ج / 1 ص -432-       فقيل وقت الفعل إذا نسخ يؤدي إلى ما ذكرناه ويؤدي إلى سقوط الفائدة عن الأمر وأيضا فانه لا بد أن يكون في الأمر بالعزم والأمر بالاعتقاد فائدة ولا فائدة في ذلك إذا لم يجب العزوم عليه أو سقط عنه وحله قبل وقته فإن قلتم أن الفائدة اختيار المكلف فهذا لا يصح لأن حقيقة الأخبار إنما يجوز على من لا يعرف العاقبة دون من يعرف العاقبة وأيضا فإيجاب العزم والاعتقاد على الإطلاق لا يحسن والمعزوم عليه غير واجب لأنه لا يحسن اعتقاد وجوب ما ليس بواجب.
دليل آخر لهم وهو أن المراد من ا لأمر هو الابتلاء بالامتثال والابتلاء بالفعل إنما يوجد عند أدراك وقت الفعل وأما قبل أدراك وقت الفعل فكيف يتصور الابتلاء بالفعل فإن قلتم أن الابتلاء باعتقاد الوجوب فقد ذكرنا أن الأمر بالفعل لا باعتقاد الفعل وقبوله والدليل عليه أن في أوامر العباد يكون المراد بها تحصيل للفعل كذلك في أوامر الشرع يدل عليه أن بمجرد الأمر يجب تحصيل الفعل بغير بيان يقترن به ولو كان يحتمل الفعل ويحتمل اعتقاد الفعل لما وجب تحصيل الفعل من غير بيان لأن المحتمل لا يوجب شيئا وهذا استدلال القاضي أبي زيد لهم والمعتمد هو الأول وأما دلائلنا في المسألة نستدل أولا بالوجود والدليل على وجود مثل هذا النسخ قصة إبراهيم عليه السلام فانه أمر بذبح أبنه بدليل قوله تعالى:
{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وقوله: {مَا تُؤْمَرُ} دليل على أنه كان مأمورا بذبح الولد ثم نسخه قبل أن يفعله وفداه بذبح عظيم فإن قيل أن إبرهيم عليه السلام لم يؤمر بذبح الولد الذي هو قطع الحلقوم وفرى الأوداج وإنما أمر بمعالجة الفعل الذي هو حكاية الذبح فانه روى أنه كان يقطع ويلتئم بقدرة الله تعالى بدليل أن الله تعالى قال: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105] ومنهم من قال كان مأمورا بمقدمات الذبح لا بنفس الذبح قالوا: على الجملة لم يكن مأمورا بأكثر مما فعل بدليل ما تلونا من قوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105] قلنا هذا التأويل الذي قلتم خلاف ما يقتضيه لفظ الكتاب حقيقة لأن الذبح في اللغة هو الشق قال الشاعر:

كان بين فكها والفك            فارة ممسك ذبحت في شك

أى شقت فدل أن الأمر تناول الفعل الذي هو شق الذبح يدل عليه لو كان الأمر على ما زعموه لم يكن لقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] معنى لأن الفداء لا معنى له من حصول الفعل المأمور به فإن الفداء اسم للذي أقيم مقام الشيء المفدى ولم.

 

ج / 1 ص -433-       يمكن أيضا لقوله: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] ولا لقوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106] وجه لأن معالجته مقدمات الذبح مع علمه بالسلامة لا يبلغ المبلغ الذي يقتضي هذا القول في عظم الامتحان فدل أن الله تعالى أمره بحقيقة الذبح ثم من عليه ونسخه قبل أن يفعل وأما قوله: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105]فمعناه والله أعلم أزمعت التصديق واعتقدت الفعل وأردت فعله إلا أن الله تبارك وتعالى أعفاك عنه وأبقى عليك ولدك انعاما ومنه يدل عليه قصة المعراج وفرض الرب عز اسمه خمسين صلاة ونسخها بخمس صلوات قبل الفعل فان قالوا: أن هذا الخبر واحد قلنا قد تلقته الأمة بالقبول وهو من قبيل التواتر على ما سبق وقد ذكرنا كلامهم على هذا وأجبنا عنه وعلى ذلك الجواب نستقيم الحجة في هذه المسألة وأيضا فإن الله تعالى أمر بالصدقة قدام نجوى النبي صلى الله عليه وسلم ونسخه قبل فعله وهم يقولون أن وقت الفعل قد كان حضر بدليل ما روى أن عليا رضي الله عنه استعمله ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام الحديبية وكان فيما شرطوه في الصلح أن يرد عليهم من جاء من المسلمين فيهم رجلا كان أو امرأة1 ثم نسخ الله تعالى ذلك فى النساء بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فى فتح مكة: "وإنما أحلت لى ساعة من نهار"2 يعنى أحل القتال بمكة ثم قد اشتهرت الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من القتال فيها وكان ذلك قبل وقت الفعل والمعتمد هو خير إبراهيم عليه السلام3 وخبر المعراج على الوجه الذي قدمناه ويمكن أن يتعلق بظاهر قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] وأما دليلنا من جهة المعقول هو أن الدليل لما قام على حسن النسخ على الجملة فلا فرق بين أن ينسخ قبل وقت الفعل أو بعد وقت الفعل لأنه يجوز أن يكون المراد بالأمر هو اعتقاد الوجوب والعزم على الفعل إذا حضر وقته وبكون الله تعالى قد ابتلى عباده بهذا القدر وهو ابتلاء صحيح لآن الإيمان رأس.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الصلح 5/358 ح 2700 ومسلم االجهاد 3/141 ح 92/1783.
2 أخرجه البخاري الصيد 4/55 ح 1833 ومسلم الحج 2/988 ح 447/1355 وأبو داود المناسك 2/218 ح 2017 والترمذي الديات 4/21 ح 1406.
3 أخرجه البخاري أحاديث الأنبياء 6/469 ح 3367 ومسلم الحج 2/993 ح 462/1365.

 

ج / 1 ص -434-       الطاعات فيجوز أن يكون الله تعالى ابتلى عباده بقبول هذه العبادة ايمانا.
ببينة أن الاعتقاد أحد موجبي الأمر فيجوز أن يقع القصد إليه في الأمر ألا ترى أنه لو قال لنا صلوا ركعتين إذا زالت الشمس أن لم أرفع الأمر عنكم قبله كان هذا سائغا في العقول غير مستحيل كذلك إذا أبهم وأراد ذلك ورفعة قبل وقت فعله كان مستحيلا أيضا يدل عليه أن الأمر كما يسقط عن المأمور بنسخه عنه بموته وعجزه عن الفعل ثم إذا لم يكن مستحيلا أن يؤمر بالشيء ثم لا يصل إلى فعلة بموت لا يقطعه عنه أو عجز يحول بينه وبينه وقد يؤمر قلنا إذا اعتبرتم هذا فقولوا لا يجوز النسخ أصلا لأنه إذا كان المأمور به صلاح العباد فلا يجوز أن ينهي عما يصلحهم ولكن قيل لما نسخه تبين أن الصلاح كان إلى هذه الغاية كذلك هاهنا إذا نسخ دل النسخ أن الصلاح كان هذا القدر وهو إلزام القبول وإيجاب اعتقاد الوجوب.
ببينة :أنه غير مستبعد في قضايا العقول أن يكون صلاح عبده في أمره بشيء ثم إذا علم واعتقد الوجوب يرى أن صلاحه في غيرة.
وأما قولهم أنه لا يحسن أن يصل النهي بالأمر فيقول: افعلوا لا تفعلوا قلنا إنما كان كذلك لأنه إذا وصل به لا يفيد الأمر فائدة وأما هاهنا قد أفاد الأمر فائدة على ما سبق فصح النسخ كما بعد الفعل والله أعلم.
[مسألة]1 أعلم أن المسلم يقتل الكافر فيتوجه إليه بسيفه ثم يقتل قبل أن بصل إليه أو تصيبه آفة تحول دون قصده فإذا جازت مثل هذه الصورة وهذه العوارض المانعة من الفعل جاز أيضا عارض النسخ يدل عليه أن الخصوم في هذه المسألة وافقونا أنه يجوز أن يأمر الله تعالى بموأصلة الفعل سنة ثم ينسخه عنا بعد أشهر فكذلك يجوز أن ينسخه أيضا قبل ابتداء شئ من الفعل لأن جميع ذلك نسخ قبل وقت الفعل فإن قيل بالنسخ تبين أنه لم يعني بالسنة جميعها وأن لم يكن أراد الفعل إلا فى بعض السنة وكان النسخ بيانا للمراد بالخطاب وصار النهي متناولا غير ما يتناوله الأمر ويجاب عنه فيقال يقيد الأمر بالفعل بالسنة والسنة وقت معلوم الأول والآخر يمنع أن يكون المراد بعض السنة أما الجواب عن كلامهم أما الأول قولهم أن هذا يؤدى إلى البداء لأن البداء أن يظهر له شئ كان خافيا عليه وفي هذا الموضع لا يوجد هذا إنما أمر الله تعالى ليبتلى بالقبول واعتقاد الوجوب ثم نسخه عنهم وهذا لأن القبول واعتقاد الفعل مقصود لا محالة والابتلاء به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.

 

ج / 1 ص -435-       صحيح وقد قلنا أنه أحد موجبي الأمر لأن قبول الأمر واعتقاد وجوب الأمر كان بالأمر قطعا فأما قولهم أن الأمر طلب الفعل قلنا صحيح في أوامر العباد فإنه لا يتناول إلا طلب الفعل فأما في أوامر الله تعالى فإن الإيمان والقبول رأس العبادات ولا بد أن ذلك موجبا للأمر بدليل أنه لو فعل الشيء ولم يعتقد وجوبه لا يصح وهذا لأن أمر العباد لا يكون بطريق الابتلاء إنما يكون بجر النفع والنفع يحصل بالفعل لا بالقبول فأما أوامر الله تعالى للابتلاء وليس بحر النفع لأن الله تعالى غني على الحقيقة عن الخليقة فإن قالوا: كلاهما مقصودان قلنا بلى من حيث الظاهر هما مقصودان ولكن بالنسخ تبين لنا أن المراد كان من الأمر هو الابتلاء بالقبول والاعتقاد أنه إذا نسخ بعد الفعل مرة وقد كان الأمر مطلقا يتبين أن الابتلاء كان بالفعل مرة أو مدة الحكم كانت مقصورة على هذا الزمان وأن كان مطلق الأمر بتناول الأزمنة كلها حتى لو لم يرد النسخ وجب الفعل في الأزمنة بقضية الأمر وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن كلامهم الثاني.
وأما قولهم أن الأمر يدل على حسن المأمور والنهي على قبحه فجواز مثل هذا النسخ يدل على التناقض أو يودي إلى أن ينهي عما هو حسن أو يأمر بما هو قبيح وربما يزيدون على هذا فيقولون أن الله تبارك وتعالى لا يأمر إلا بما هو صلاح للعباد فالأمر من الله تعالى يدل على أن المأمور به صلاح المأمورين وإذا كان صلاحا لهم لم يجز أن ينهاهم عنه ويمنعهم منه.
والجواب أن عندنا الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع فإذا أمرنا بالشيء فبالأمر عرفنا حسنه وإذا نهانا عنه زال المقيد لحسنه فزال حسنه وكذلك النهي يدل على قبح الشيء فإذا أرتفع النهي أرتفع قبحه فعلى هذا لا تناقض ولم يوجد النهي عن الحسن ولا الأمر بالقبيح وأما الذي ذكروا أن الله تعالى يأمر بمصالح العباد قلنا إذا اعتبرتم هذا فقولوا لا يجوز النسخ أصلا لأنه إذا كان المأمور به صلاح العباد فلا يجوز أن ينهي عما بصلحهم ولكن قيل لما نسخه تبين أن الصلاح كان إلى هذه الغاية كذلك هاهنا إذا نسخ دل النسخ أن الصلاح كان هذا القدر وهوا إلزام القبول وإيجاب اعتقاد الوجوب.
ببينه: أنه غير مستبعد في قضايا العقول أن يكون صلاح عبده في أمره بشيء ثم إذا علم واعتقد الوجوب يرى أن صلاحه في غيره وإنما قولهم أنه لا يحسن أن يصل النهي بالأمر فيقول: افعلوا لا تفعلوا قلنا إنما كان كذلك لأنه إذا وصل به لا يفيد الأمر.

 

ج / 1 ص -436-       فائدة وأما هاهنا قد أفاد الأمر فائدة على ما سبق فصح النسخ كما يعد الفعل والله أعلم.

فصل: اعلم أن هذا الفصل يشتمل على دلائل النسخ فنقول:
إذا ورد في الشيء الواحد حكمان مختلفان فلا يخلو أما أن يمكن استعمالهما ولا يتنافى اجتماعهما وذلك أن يكون أحدهما الأعم من الآخر والآخر أخص فيقضي بالأخص على الأعم فيستثنى منه كقوله تعالى:
{وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221] لما قابل عموم هذه الآية خصوص قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم المائدة 5 قضى بخصوص هذه الآية على عموم تلك الآية فصار كقوله ولا تنكحوا المشركات إلا الكتابيات وفي هذا النوع أن تساوي الآيتان في العموم والخصوص ويمكن أن نخص كل واحدة من الآيتين بالأخرى ومثال ذلك قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] وقد قابلها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ويجوز أن تكون كل واحدة من الآيتين مخصوصة بالأخرى فيحرم الجمع بين الأختين إلا بملك اليمين ويحل ملك اليمين إلا الجمع بين الأختين فتتكافأ الآيتين في الجواز ووجب الرجوع إلى دليل موجب تخصيص أحداهما بالأخرى ولذلك قال عثمان رضي الله عنه أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى والجملة في هذا الضرب من التعارض أنه إذا أمكن استعمال الآيتين أو تخصيص أحداهما بالأخرى يصار إلى الاستعمال والتخصيص إلا أن يقوم دليل على النسخ فيعدل بالتعليل عن التخصيص إلى النسخ وهذا كآية الوصايا وآية المواريث قد كان يمكن استعمالهما من غير نسخ لكن قد روى عن الصحابة أنهم قالوا: قد نسخت آية المواريث آية الوصية وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أن الله عز وجل قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصيه لوارث"1 فعدل بالدليل عن التخصص إلى النسخ وكان طاوس من بين التابعين بجمع بين الآيتين ولا يثبت النسخ هكذا أورده بعض أصحابنا وفيه نظر وتأمل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الوصايا 3/113 ح 2870 والترمذي الوصايا 4/433 ح 2120 والنسائي الوصايا 6/207 باب إبطال الوصية للوارث وابن ماجه الوصايا 2/905 وأحمد المسند 4/229 ح 17680 انظر تلخيص الحبير 3/106 ح 9.

 

ج / 1 ص -437-       وأما لوجه الثاني من تقابل الدليلين واجتماع الحكمين فهو أن لا يمكن استعمالهما ويكون بينهما تناقض فنعلم أن أحدهما ناسخ والآخر منسوخ فيرجع إلى دلائل النسخ فيستدل بها على الناسخ في أثباته وعلى المنسوخ في نفيه واحد دلائله أن يعرف تقدم احد الحكمين على الآخر فيكون المتقدم منسوخا والمتآخر ناسخا والمراد منه أن يكون متقدما في التنزيل دون التلاوة1 فإن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] ناسخ لقوله تعالى: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] وهو متقدم عليه في التلاوة ومتآخر عنه في التنزيل وقد عدل في كثير من القرآن بترتيب التلاوة عن ترتيب التنزيل بل بحسب ما أمر الله عز وجل لمصلحة استأثر بعلمها.
وقد قيل أن آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى:
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] وهذه الآية متلوة في سورة البقرة وهي مقدمه على جميع سور القرآن سوى الفاتحة وأول سورة نزلت اقرأ باسم ربك وهى في أوآخر ما يتلى في القرآن.
ودلائل النسخ مع التقدم والتآخر في التنزيل من أوجه كثيرة.
أحدها أن يكون في نظم التلاوة لفظ يدل على النسخ وهذا مثل النسخ الثابت في آية المصابرة على الجهاد وقال الله تعالى:
{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ثم نسخ هذا وقال: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] نص في أن المراد بالآية تخفيف ما تقدم من تغليظه.
والوجه الثاني: أن يرد لفظ يتضمن التنبيه على النسخ وذلك كما نسخ الله تعالى ونقد من الإمساك في البيوت لحد الزنا في قوله تعالى:
{فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] بجلد المائة في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] لأن قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] تنبيه على عدم الاستدامة في الإمساك ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أنه يعرف المتقدم والمتأخر أما بلفظ النسخ والمنسوخ كما لو قال صلى الله عليه وسلم هذا ناسخ وهذا منسوخ أو اجمعت الأمة على ذلك وأما بالتاريخ إحكام الأحكام للآمدي 3/259 تيسير التحرير 3/222 نهاية السول 2/607, 608 المحصول 2/571 روضة الناظر 81 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/84, 85.

 

ج / 1 ص -438-       "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا"1 الخبر.
والوجه الثالث: من دليل النسخ نص يرد من الرسول صلى الله عليه وسلم يصرح بثبوت النسخ2 مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"كنت نهيتكم عن إدخار لحوم الأضاحي وكلوا واشتروا" و"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا"3.
والوجه الرابع: من دلائل النسخ إجماع الصحابة4.
واجماعهم ضربان إجماع قول واجماع فعل.
أما إجماعهم على القول مثل قولهم نسخ صوم رمضان صوم عاشوراء ومثل قولهم نسخت الزكاة سائر الحقوق في المال.
وأما إجماعهم على الفعل مثل صلاتهم إلى الكعبة بعد صلاتهم إلى بيت المقدس.
والوجه الخامس: من دلائل النسخ فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة وفعل الأمة أما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم مثل فعله في حد الزنا فانه صلى الله عليه وسلم رجم ماعز ولم يجلده5 وكذلك رجم الغامدية ولم يجلدها6 فعلم بهذا أن قوله صلى الله عليه وسلم:
"الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة"7 منسوخ.
وقد قالوا: أن الفعل لا ينسخ القول في قول الأكثرين من الأصوليين وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ بالقول فيكون القول منسوخا بمثله من القول لكن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم دليل على القول.
وأما فعل الصحابة فيوجد في قوله صلى الله عليه وسلم:
"من تصدق على صدقة فإنا أخذوها وشطر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم الحدود 3/1316 ح 12/1690 وأبو داود الحدود 4/142 ح 4415 والترمذي الحدود 4/41 ح 1434.
2 إحكام الأحكام للآمدي 3/259 نهاية السول 2/607 روضة 81 تيسير التحرير 3/221, 222 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/84.
3 أخرجه مالك في الموطأ الضحايا 2/485 ح 8 والطبراني في الكبير 11/253 ح 11653.
4 إحكام الأحكام للآمدي 3/259 نهاية السول 2/607 روضة 81 تيسير التحرير 3/221, 222 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/84.
5 تقدم تخريجه.
6 أخرجه مسلم الحدود 3/1323 ح 23/1695 وأبو داود الحدود 4/150 ح 4442 وأحمد المسند 5/408 ح 23013.
7 تقدم تخريجه.

 

ج / 1 ص -439-       ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لمحمد ولا لآل محمد منها شيء"1.
وأجتمعت الصحابة على ترك استعمال هذا فدل عدولهم عن استعماله على نسخه.
وأما فعل الأمة فقد سبق ذكره.
والوجه السادس: من دلائل النسخ نقل الراوي تقدم أحد الحكمين وتآخر الآخر وذلك أن يروي أن أحدهما شرع بمكة والآخر بالمدينة أو يروي أن أجدهما شرع عام بدر والآخر شرع عام الفتح أو غير ذلك من الأعوام بعد بدر فإن وجد هذا فلا بد أن يكون المتآخر ناسخا للمتقدم كما روى عن بعض الرواة أنه قال كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء ما مست النار2 وهذا وأن لم يكن على مثال ما قلناه عام كذا وعام كذا فهو على مثال ما قلناه أنه يروى تقدم أحدهما وتآخر الآخر وقد روى أيضا من إباحة المتعة ونسخها على ترتيب قد ذكر في الأخبار وأن كان راوي المتقدم غير راوي المتآخر ينظر فإن كان المتقدم من أخبار الآحاد والمتآخر من المتواتر كان المتآخر ناسخا للمتقدم وأن كان المتقدم من أخبار التواتر فلا يصير منسوخا بالخبر الواحد المتآخر وأن كانا متواترين أو كانا جميعا من جملة الآحاد فإنه يصير المتآخر ناسخا للمتقدم ثم الراوي للنسخ لا يخلو أما أن يذكر دليل النسخ أو يرسل للنسخ إرسالا ولا يذكر دليله أما إذا ذكر دليل النسخ فلا إشكال أنه يثبت النسخ وأما إذا لم يكن ذكر دليل النسخ ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم لكن أرسل النسخ إرسالا ففيه وجهان.
أحدهما: يقبل قوله في النسخ وبه قال الحسن الكرخي من أصحاب أبي حنيفة وتعلق من قال هذا بما ينقله من الشرع ووجه ذلك أن الصحابي لا يرسل قوله إلا عن دليل موجب للنسخ.
والوجه الثاني: وهو الأظهر أن لا يقبل قوله في النسخ ما لم يذكر دليل النسخ لجواز أن يعتقد النسخ بما ليس بنسخ كما روى عن بعض أصحابنا أن مسح الخفين نسخ غسل الرجلين وعندى أن هذا أثر منكر ولا يعرف ثبوته عن أحد من الصحابة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الزكاة 2/103 ح 1575 والنسائي الزكاة 5/17 باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلا لأهلها ولحومتهم والدارمي الزكاة 1/486 ح 1677 وأحمد المسند 5/3 ح 20038.
2 إحكام الأحكام للآمدي 3/259 نهاية السول 2/608 روضة الناظر 81 تيسير التحرير 3/222 المحصول 572 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/672.

 

ج / 1 ص -440-       وأما إذا كان راوى أحد الخبرين متقدم الصحبة والراوي الآخر متآخر الصحبة فهو على ضربين.
أحدهما أن تنقطع صحبة الأول عند صحبة الثاني فيكون الحكم الذي رواه الثاني ناسخا لما رواه الآخر فيكون الحكم الذي رواه الآخر ناسخا عند صحبة الثاني فيكون على الحكم الذي رواه ناسخا لما رواه الآخر كالذي رواه قيس بن طلق عن أبيه طلق بن على قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يؤسس مسجد قباء فسألته عن مس الذكر فقال:
"هل هو إلا بضعة منك"1 وروى أبو هريرة وجوب الوضوء لمن مس الذكر2 وقد أسلم وهاجر عام خيبر بعد بناء مسجد قباء بست سنين فكان حديث أبي هريرة ناسخا لحديث طلق.
والضرب الثاني أن لا تنقضي صحبة المتقدم عند صحبة المتآخر فلا يكون رواية المتآخر الصحبة ناسخا لرواية المتقدم الصحبة لجواز أن يكون المتقدم راويا لما تآخر كما يجوز أن يكون راويا لما تقدم وإنما إثبات النسخ بمجرد الاحتمال لا يجوز وهذا مثل رواية أبن عباس لما يرويه من التشهد وبرواية أبن مسعود لما يرويه من التشهد ولا تكون رواية ابن عباس ناسخة لرواية ابن مسعود ولكن بطل الترجيح بدليل آخر وحين ذكرنا دلائل النص نذكر الآن أن الزيادة على النص ليست من دلائل النسخ.
مسألة الزيادة على النص لا تكون نسخا بحال.
وهو قول جماعة كثيرة من المتكلمين وذهب إليه أبو على وأبو هاشم قال أبو الحسن الماوردي وهو قول أكثر الأشعرية وأكثر المعتزلة قال ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من اجزاء المزيد علية أو غير مانعة وذهب أصحابنا إلى أن الزيادة لو غيرت المزيد عليه تغيرا شرعيا حتى صار المزيد علية لو فعل بعد الزيادة على الحد الذي كان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الطهارة 1/46 ح 183 والترمذي الطهارة 1/131 ح 85 والنسائي الطهارة 1/85 باب ترك الوضوء من ذلك وأحمد المسند 4/29 ح 16292 انظر نصب الراية 1/60.
2 أخرجه أحمد المسند 2/445 ح 8425 والبيهقي في الكبرى 1/211 ح 641 والدارقطني سننه 1/147 ح 6 والحاكم في المستدرك 1/138 وابن حبان 210/موارد انظر نصب الراية 1/56.

 

ج / 1 ص -441-       يفعل قبلها لم يجز ووجب استيفائه فإن الزيادة في هذه الصورة تكون نسخا وذلك نحو زيادة ركعة على ركعتين وأن كان المزيد عليه فعل على حد ما كان يفعل قبل الزيادة صح فعله واعتد بفعله ولم يلزم استيفائه لم تكن الزيادة نسخا نحو زيادة التغريب على الحد وزيادة العشرين على حد القاذف واختار هذا عبد الجبار الهمذاني.
وأما مذهب أصحاب أبي حنيفة فقد قالوا: أن الزيادة على النص بعد استقرار حكمه يوجب النسخ حكاه الضميري عن أصحابه على الاطلاق وعن أبي الحسن الكرخي وأبي عبد الله البصري أنهما قالا أن كانت الزيادة مغيرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا وأن لم تغير حكمه في المستقبل بل كانت مقارنه له لم يكن نسخا وأما زيادة التغريب على حد الزاني في المستقبل يكون ناسخا وكذلك لو زيد في حد القاذف عشرون.
قالا وأما إذا وجب ستر الفخذ فوجب بعد ذلك ستر بعض الركبة لا يكون ذلك نسخا وكذلك إيجاب صلاة أخرى أو فرض آخر على الفرائض المعلومة1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الزيادة على النص على ثلاثة مراتب:
المرتبة الأولى: أن تكون لعبادة مستقلة ليست من جنس المزيد عليه أو تكون زيادة لعبادة من جنس المزيد عليه.
المرتبة الثانية: أن تكون الزيادة لعبادة من جنس المزيد عليه.
المرتبة الثالثة: أن تكون زيادة لعبادة غير مستقلة كزيادة شرط أو جزء أو صفة.
أما المرتبة الأولى وهي زيادة عبادة مستقلة ليست من جنس المزيد عليه كزيادة صوم يوم الخميس وجوبا من كل أسبوع مثلا على ما شرعه الله من العبادات ليست نسخا اتفاقا لأنها لا تتحقق فيها حقيقة النسخ ضرورة أنها لم ترفع حكما شرعا.
المرتبة الثانية: زيادة عبادة مستقلة من جنس المزيد عليه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس.
فجمهور السافعية والحنابلة والحنفية على أنها ليست نسخا كذلك وقال بعض العراقيين من الحفنية أنها نسخ.
المرتبة الثالثة: زيادة غير مستقلة الشرط مثل اشتراط الطهارة في الطواف واشتراط الإيمان في عتق الرقبة في كفارة الظهار أو زيادة جزء مثل زيادة ركعة على ركعتين الفجر.
فقد اختلف فيها الأصوليون على أقوال أشهرها ما يأتي:
أولا: ليست نسخا مطلقا وهو مذهب الشافعية والحنابلة وبعض المعتزلة كالجبائي وأبي هاشم.
ثانيا: هي نسخ مطلقا وهو مذهب الحنفية.
ثالثا: إن وقعت حكما شرعيا كانت نسخا وإن وقعت البراءة الأصلية لم تكن نسخا وهو مذهب الباقلاني وأبي الحسين البصري واختاره الآمدي والإمام الرازي......=

 

ج / 1 ص -442-       واحتج من قال أن الزيادة على النص نسخ بوجوه من الكلام أكثرها يرجع إلى معنى واحد وهو أن النسخ مأخوذ من الإزالة على ما سبق بيانه والزيادة فيه قد تضمنت الإزالة لأن الجلد قبل الزيادة قد كان كمال الحد فصار بعدها بعض الجلد فقد أزالت الزيادة كون الجلد بعدها كمال الحد و إذا تحقق معنى النسخ ثبت النسخ وقالوا: أيضا أن الجلد قد كان مجزيا وحدة ومن بعد التغريب صار غير مجزي وحده وقد أزالت الزيادة كون الجلد مجزيا وحده وهذا قريب من الأول قالوا: أيضا أن الجلد وحدة كان يتعلق به رد الشهادة فلما زيد التغريب صار لا يتعلق به وحدة ويصير هذا كما لو صرح الخطاب يكون الجلد كل الحد ثم غير يكون نسخا إجماعا كذلك هاهنا يدل علية أن زيادة ركعة على ركعتين يكون نسخا فكذلك بزيادة التغريب على الجلد يكون نسخا وأن منعتم ندل على ذلك فنقول أن هذه الزيادة جعلت وجود الركعتين وحدهما لعدمهما وأوجبت الاستئناف وأزالت الآخر ومن قبل هذا الزيادة لم تكن الركعتان كذلك وهذا هو معنى النسخ.
وأما أبو زيد فال في هذه المسألة أن الزيادة تنسخ معنى لأن الآية جعلت الجلد مائة حد الزنا ومتى كان الجلد حدا مع النفي لم يكن المذكور في الكتاب حدا بنفسه لأن حقوق الله تعالى من العقوبة أو العبادة أو الكفارة لا يتجزيء وجوبها ولا أداؤها ومتى عدم شئ منها لم يكن للباقي حكم الجواز بحال كالركعة من الفجر والركعتين من الظهر إذا فصلت عما بقيت لم يكن ظهرا ولا بعضة ولهذا لو صام شهرا عن كفارة القتل ثم مرض فأراد أن يتمه بالإطعام لم يجز لأن المشروع فيه كفارة صوم شهرين فلا يكون لأحد الشهرين قبل الإتمام بما بقى حكم أداء الواجب بحال وإذا ثبت أن بزيادة التغريب لا يبقى الجلد بنفسه حدا ثبت أنه نسخ وكذلك كفارة اليمين حين جعلت الكفارة رقبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رابعا: إن خير الشارع بين خصال ثلاثة بعد تجبيره بين اثنين أو كانت الزيادة تجعل المزيد عليه غير معتد به لو فعل بدونها وتجب إعادته كان نسخا مثل زيادة ركعة أو سجدة.
وإن كانت الزيادة لا تجعل الفعل المزيد عليه لغوا بل إذا أضيفت الزيادة إليه كان معتبرا لم تكن نسخا كزيادة التغريب على الجلد وزيادة عشرين جلدة على الثمانين في القذف وهو مذهب القاضي عبد الجبار انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/243, 244, 245 نهاية السول 2/610 المحصول 2/563 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/610 روضة الناظر 73 المستصفى 1/117 تيسير التحرير 3/218 جمع الجوامع 2/91 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/74, 75, 76.

 

ج / 1 ص -443-       مؤمنة لم يبق الرقبة المطلقة بغير هذا الوصف كفارة بوجه وكذلك إذا جعلنا ركن القراءة في الصلاة الفاتحة لم تبقى قراءة القرآن مطلقة ركنا والله تعالى أوجب قراءة القرآن قالوا: ولا يجوز أن يقال أن الزيادة تخصيص لأن العموم إذا خص في الحكم فيما لم يخص بخطابة العام نفسه لا بشيء آخر فلم يكن نسخا لحكم بل يفرض بالتخصيص ما بقى على ما كان وأما في الزيادة فانه لا يبقى للخطاب الأول حكم لأن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} جعل الجلد حدا ولا يبقى حدا بنفسه بعد ثبوت التغريب حدا معه وكذلك آية الكفارة جعلت الرقبة بدون صفة الأيمان كفارة إذ ليس في الآية إلا الرقبة ولا تبقى الرقبة كفارة بعد أن قيدت الرقبة بقيد الأيمان بل تكون الكفارة رقبه مؤمنة لا رقبة على ما قال الله تعالى وهذا لأن الكفارة إذا خرجت من الآية جازت المؤمنة لا لأنها رقبة على ما قال الله تعالى بل للصفه الزائدة التي ليست في الكتاب وبدون هذه الصفة لا تكون الرقبة كفارة عندكم والزيادة نسخ معنى وبيان صورة هذا كلام أبي زيد ذكره في تقويم الأدلة ثم استدل بأنه ليس بيان معنى وذلك لأن البيان أسم لما يحمله اللفظ ولما ينتظم على الأوصاف والجلد مائة لا يحتمل النفي فلا يكون إثبات هذه الزوائد بيانا بل يكون رفعا للحكم عن القدر المذكور وتعليقا بالزوائد قال وهذا كالإعتاق المطلق إذا علق بشرط تبدل المطلق وصار شيئا آخر يعني على ما عرف في مسألة تعليق الطلاق والعتاق بالملك وهو أيضا بمنزلة العلة يزاد عليها وصف فإن ما قبل ذلك لا يكون علة ولا بعض للعلة بل يسقط حكم العلة أصلا إلى أن يوجد الوصف الآخر فيصير جملته علة وقد ادعى بعضهم ثبوت نسخ قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] بإثبات الشاهد واليمين ووجه النسخ أن الله تعالى قال ذاك: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} فجعل المرأتين أدنى الحجة الشرعية وإذا جعلنا الشاهد واليمين حجة لم يكن أدنى فثبت تغيير ما اقتضته الآية وكان نسخا.
ببينه: أنه خير بين شيئين أعنى رجلين أو رجلا وامرأتين فإن ضممنا الشاهد واليمين في الحجة إليهما صار مخيرا بين ثلاثة أشياء بعد أن كان مخيرا بين شيئين.
وأما دليلنا أن النسخ إزالة الحكم وتغييره وزيادة التغريب لا يوجب إزالة الحكم ولا تغييره في المائة لأنها واجبة بعد إيجاب التغريب كما كانت واجبة من قبل وإنما أيجاب التغريب ضم حكم إلى حكم وضم الحكم إلى الحكم لا يؤدي معنى النسخ بحال.

 

ج / 1 ص -444-       ببينه: أن النسخ تبديل الحكم إلى غيره و أبطاله بالثاني تقول العرب نسخت الشمس الظل أي أبطلته ونسخت الرياح الآثار أي أبطلت أعلامها ونسخت ا لرسوم إذا بدلت ومنه مذهب التناسخ وهو تبديل جسم بجسم آخر بالروح الأولى.
وأذا ثبت أن النسخ تبديل وتغير وأبطال في الشهادة تقرير لما كان ثابتا وضم شيء إلى شيء آخر نحو آية الزنا أثبتت الجلد مائة والسنة أثبتت التغريب معه وكذلك الظهار واليمين أوجبت الرقبة مطلقة والآية المقيدة بالإيمان أثبتت زيادة الأيمان علية فثبت أن الزيادة موجبة تقرير ما سبق بل الحكم وضم حكم آخر إليه فلم يكن نسخا بوجه ما.
ويدل عليه أن الزيادة على النص لو كانت نسخا لكان القياس باطلا لأن القياس هو أخذ المعنى من الأصل الثابت بالنص والحاق غيره به ما لا يتناوله النص فلو كانت الزيادة على أصل النص نسخا سقط القياس أصلا لاثبات زيادة على النص وحين كان القياس دليلا شرعيا جائزا استعماله في أحكام الحوادث سقط ما قالوه هذا هو ما قاله الأصوليون من الأصحاب وغيرهم ونحن نقرر الكلام على وجه لا تبقى معه شبهة الخصم وينزاح الأشكال فنقول أن الزيادة لو كانت نسخا لكانت نسخا من حيث أنها تضمن تغير الحكم الثابت من قبل ولا تغير بلا نسخ والدليل على أنه لم يوجد تغيير للحكم الثابت من قبل أن قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] لا يتضمن إلا إيجاب جلد المائة فحسب وإيجاب التغريب لا يغير حكم الجلد لأن حكم الجلد وجوب إقامته والتغريب لا يزيل وجوب اقامة المائة إنما يزيل نفي وجوب ما زاد عن المائة والآية لم تتعرض لما زاد على المائة لا بنفي و لا إيجاب نعم لو لم يرد وجوب التغريب كنا نقول أن الجلد كمال الحد لا تقتضيه الآية لكن لعدم قيام الدليل على وجوب شيء آخر مع الجلد ثم إذا لم يقم دليل على وجوب شيء آخر حكمنا أن الجلد كمال الحد ضرورة لا من حيث أن نص الكتاب دل عليه يدل عليه أن نفى وجوب ما زاد على المائة لم يكن معلوما بدليل شرعي حتى تسمي إزالته نسخا وإنما قلنا لم يكن بدليل شرعي لما بينا أن إيجاب المائة لم يتعرض لما زاد عليها بنفي ولا إثبات فإن انتفى إنما ينتفي الدليل العقلي لأن الفعل يقتضي أنتفاء وجوبه ولم ينقلها عن الدليل العقلي دليل شرعي وإذا كان حكما عقليا جاز قبول خبر الواحد والقياس في النقل عنه كما يجوز في كل حكم عملي يجب بخبر الواحد والقياس والعقل ينفي وجوبه والأول الذي ذكرناه أقرب إلى طريقة الفقهاء وهو في نهاية الوضوح.

 

ج / 1 ص -445-       ونقول في تقيد الرقبة بالإيمان هو تخصيص لأن الرقبة عامة في كل ما يسمى رقبة فإذا أخرجنا عتق الكافرة من الخطاب كان تخصيصا محضا وإذا عرف وجه الكلام في هاتين الصورتين ظهر في سائر الصور ولم يثبت النسخ الذي ادعوه في صورة ما وإنما نهاية ما في الباب أن يكون ضم حكمه إلى حكم في بعض المواضع مثل التغريب مع الجلد وزيادة العشرين على الثمانين في حد القذف لو قدر1 ورود الشرع بها وكذلك إيجاب النية في الوضوء وإيجاب الترتيب وأثبات الحجة بالشاهد واليمين وكذلك إيجاب قراءة الفاتحة والأولى أن يقال أن خبر الفاتحة بيان لقوله تعالى: {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] أو يكون تخصيصا للعموم مثل تقييد الرقبة بوصف الإيمان في كفارة الظهار وكفارة اليمين ويمكن دعوى التخصيص أيضا بإثبات النية والترتيب فإن ظاهر الآية يقتضي جواز الوضوء بالنية وغير النية فيكون إفساده بعدم النية بدليل يقوم عليه تخصيصا وأما الترتيب فعندنا أن ظاهر الكتاب دل عليه على ما بينا في الخلافيات الفروع أما الجواب عن كلامهم قولهم أن الجلد كان قبل التغريب كمال الحد وقد صار بعض الحد قلنا نقول أولا أن قولنا أن الجلد جميع الحد الواجب معناه أنه لا يلزم أن يضم إليه غيره وقولهم قد صار بعض الحد الواجب معناه أنه وجب أن يضم إليه غيره قولهم أن هذه الزيادة نسخ لأنها صيرت الجلد بعض الحد الواجب معناه أن هذه الزيادة إنما كانت نسخا لأنها زيادة ومعنى العبارتين واحد وهذا باطل لأنه تعليل الشيء بنفسه ونقول أيضا أن الكل والبعض من قضايا العقول دون الشرع فلم يفد النسخ وهم يقولون على هذا نعم أن الكل والبعض يعرفان بالعقل لكن كون الشيء كل الحكم الشرعي أو بعضه إنما يعلم بالشرع وطريق الجواب تحقيقا ما سبق من قولنا أن إيجاب التغريب وإيجاب وصف المؤمنة ليس يتضمن تغيير قضية الآية بوجه لما لأنه ليس من قضية الآية الإيجاب جلد المائة فحسب فأما كونه كل الحد أو بعض الحد فليس يعرف بالآية بحال وإنما يعرف بدليل آخر على ما سبق بيانه كذلك الجواب عن كلامهم الثاني وكلامهم الثالث من قولهم أن رد الشهادة تعلق بالجلد لا نسلم و إنما هذا شيء قالوه على أصولهم وعلى أن إثبات النسخ بمثل هذا لا يمكن ألا ترى أن فرائض الصلاة إذا كانت خمسا وقف جواز الشهادة على أدائها ولو زيد في الخمس صلاة سادسة وقف قبول الشهادة على قبول السادسة وفعلها وهذا لا يوجب نسخا في أمر الشهادة ومن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "قد" والصحيح ما أثبتناه.

 

ج / 1 ص -446-       قال أن إيجاب صلاة سادسة نسخ للصلاة الخمس يلزمه أن يقول: أن الفرائض الشرعية كلها أوجبت فيها شيء يتضمن نسخ ما سبق وهذا لا يقوله أحد وأما إذا صرح الخطاب يكون الجلد كمال الحد فنقول أنه إذا وقع التصريح بذلك يكون أجزاء الجلد وحده حكما شرعيا فكانت إزالته نسخا وأما إذا لم يصرح بذلك بل أوجب الجلد مطلقا فإيجاب الجلد مطلقا لا يتعرض للتغريب بنفي ولا إثبات و إنما يعلم نفيه على ما ذكرنا وهو أن الأصل أن لا وجوب وإزالة حكم الأصل لا يكون نسخا وأما تعلقهم بزيادة ركعة على ركعتين أو زيادة ركعتين على الأربع فقد منع ذلك أصحابنا وزعموا أن ذلك لا يكون نسخا مثل مسألتنا وأن سلمنا فالفرق ظاهر وهو أن زيادة الركعة قد يتضمن تغير حكم الآية بوجه ما لأنه آخر الصلاة على ما ذكروا وأما هاهنا فإن إيجاب التغريب لا يتضمن تغيير حكم الآية بوجه ما لأن أجزاء الجلد باق من الحد مع إيجاب التغريب ولو قدرنا أنه وجب الجلد والتغريب إجماعا ثم جلد من غير تغريب وقع مجزيا عن الحد و إنما لا يكون حدا كاملا وقد بينا أن الآية لا تدل على الكمال ولا على النقصان ولا على البعض ولا على الكل وأيضا فإن زيادة الركعة على الركعتين أو الركعتين على الأربع يوجب نسخ وجوب الجلوس عقب الركعة الثانية وهم يقولون على هذا الجلوس الواجب موضعه آخر الصلاة وهذا إنما يتغير لو تغير آخر الصلاة ونحن نقول قد تغير آخر الصلاة والأولى ما سبق من قبل وأما طريقة أبي زيد فنقول من عرف ما ذكرناه سهل عليه الجواب عن طريقته لأن معتمد أن التغريب إذا أوجب لم يكن الجلد حدا بنفسه وقد بينا أن الآية لا تدل على كونه حدا فحسب فأما قوله بنفسه فليس معناه إلا أنه يقتضي الاتيان يكون حدا كاملا أو مجزيا وحدة وقد أجبنا عن هذا وقلنا أن الآية لا تدل على شيء من هذا والذي قال أن العقوبة والعبادة والكفارة لا تتجزأ وجوبا وفعلا قلنا كون الجلد مجزيا عن الحد ليس بمتعلق بكونه حدا كاملا بنفسه بلا جزاؤه يتناول الإيجاب إياه والشرع قد أوجب الجلد فإذا فعل بنية امتثال أمره لا بد أن يقع مجزيا وهذا كنفس المائة فانه لو ضرب الجلاد خمسين وترك فانه يكون المفعول من الواجب عليه ويكون حدا إلا أنه لا يكون حدا كاملا بل يكون بعضه وأن قالوا: لا يكون حدا أصلا حتى يكمله مائة فهذا محال بل مباشرة بعض الواجب وترك البعض متصور معقولا فلا يكون ترك مباشرة البعض من الواجب كاملا فيما باشره ونضير حقوق العباد واستيفاؤها قالوا: هذا في حقوق العباد مسلم فأما في حقوق الله تعالى.

 

ج / 1 ص -447-       فلا لأنها لا تتجزأ ثبوتا وأداء بل يصير ما كان مع الزيادة شيئا واحدا فإن كان هذا في الأحكام يصير حكما واحدا وأن كان في العلل يصير علة واحدة وإذا صار شيئا واحدا والاسم تعلق به وبما زيد عليه ذهب فيما دونه.
قالو ولهذا قلنا إذا وجد من الماء ما لا يكفيه لوضوئه سقط استعماله ويباح له التيمم لأن الماء لم يجب استعماله لنفسه بل لحكمه وهو إباحة الصلاة والأباحه حكم علق بما يكفي الأعضاء كلها فلا يكون لبعضه حكم ذلك القدر بحال وهذا كنكاح الأربع علة لتحريم النكاح عليهن فلا يكون للواحدة من الأربع حفظ في التحريم وكذلك البيع علة في إيجاب الملك فلا يكون لأحد شطريه أثر في الإيجاب.
قيل في الجواب عنه أن هذا شيء بقوله على أصله ونحن قد رجعنا إلى دليل عقلي قطعي في الباب وهو أن من أمر بحمل شيء فإذا باشر المأمور بعضة بنية امتثال أمره يكون فاعلا لما أمره ويقع موقعة إلا أن يكون بعضه مرتبطا ببعض ينعقد تحريمه شرعية مثل الصلاة والحج وما أشبه ذلك فأما ما كانت مباشرته من الحسيات من إقامة جلد بعدد معلوم فهو مثل ما إذا قال بعدد معلوم وسواء كان حق الله تعالى أو حق العباد فانه لو وجب عليه خمسة دراهم زكاة وهي أقل ما يجب فأدى بعضها وحبس الباقي يكون مؤديا بذلك القدر الذي أداه ما عليه لا يذهب الأجزاء عن المؤدي بتركه إذا ما بقي عليه.
والحرف أن عندنا بعض الحد حدا وبعض الوضوء وضوء وبعض الشيء أداء ولا فرق بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدمي في ذلك والتعلق بما ذكرناه من الدليل.
وأما إيجاب صفة الإيمان في الرقبة الواجبة في الظهار واليمين فليس بنسخ بل هو تخصيص وقد سبق بيان هذا وقولهم أنا إذا قيدنا الرقبة بصفة الإيمان يكون جواز الكفارة بصفة الإيمان لا بكونه رقبة قلنا وأن كان الجواز ثابتا بصفة الإيمان للرقبة لكن الرقبة المطلقة تتناول بإطلاقها المؤمنة والكافرة جميعا لأن الكل رقبة وهي وأن كانت نكرة من الإثبات لكن تتناول كل رقبة على البدل على معنى أن ما من رقبة إلا ويجوز أن تكون هي المراد من رقبة غيرها كقولك رأيت رجلا في الدار فانه ما من رجل إلا ويجوز أن يكون هو الذي رآه فثبت بما ذكرنا أن التقييد بصفة الإيمان هو إخراج الكافرة من مطلق الآية فيكون تخصيصا ولا يكون زيادة وعلى أنه وأن كان زيادة فلا يكون نسخا لأن الرقبة وجبت بالآية وصفة الإيمان وجبت في الرقبة بدليل القياس وكان ضم.

 

ج / 1 ص -448-       واجب إلى واجب وهو تقرير ما سبق من إيجاب اعتقاق الرقبة وزيادة واحب علية وبإيجاب إعتاق الرقبة المؤمنة لا يخرج من أن يكون إعتاق الرقبة واجبا عليه لأن فى إيجاب إعتاق الرقبة المؤمنة إيجاب إعتاق الرقبة وإيجاب اعتبار صفة الإيمان في الرقبة واعتبار هذا لا ينفي إيجاب الرقبة فثبت أن لا تغيير والأول من ادعى التخصيص أحسن وأحرى ونظير ما ذكرنا من أدعى التخصيص قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فإن النص وجد على المشرك ثم قد ضم صفة الذكورة إلى صفة الشرك ولم يكن زيادة بل كان تخصيصا كذلك هاهنا وأما قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} فليس في جعل اليمين والشاهد حجة دليل على النسخ في هذه الآية لأن الآية ما تعرضت لما سوى المذكور بنفي ولا إثبات وهذا لأن التخيير بين الشيئين لا يتعرض لما عداهما بتحريم ولا إيجاب فانتفاء الغالب ليس بحكم الآية بل بحكم أن الأصل فيه الانتقاء والنقل من الأصل لا يكون نسخا والعجب أنهم لا يجعلون إيجاب الوضوء بالتقييد نسخا لآية الوضوء ثم هاهنا جعلوا إيجاب القضاء بالشاهد واليمين نسخا ولئن لزم أحدهما لزم الآخر وأما قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] فقد أجبنا عنه في الخلافيات وقد زعم بعض أصحابنا أن الزيادة على النص نسخ وادعاه مذهب الشافعي واحتج بأنه علية السلام قال: "الماء من الماء"1 ثم صار منسوخا بقول عليه السلام: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل"2 وإنما صار نسخا بالزيادة على الأصل وهذا من قائله غلط لأن قوله عليه السلام الماء من الماء إنما دل من حيث الخطاب أن الماء إذا لم يوجد لا يجب الغسل فقوله إذا التقى الخناتان فقد وجب الغسل هو نسخ دليل النص بنص وليس النسخ من حيث الزيادة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم الحيض 1/269 ح 80/343 بلفظ "إنما الماء من الماء" وأبو داود الطهارة 1/55 ح 217 والنسائي الطهارة 1/96 باب الذي يحتلم ولا يرى الماء وابن ماجه الطهارة 1/199 ح 607 وأحمد المسند 3/36 ح 11249.
2 أخرجه ابن ماجه الطهارة 1/199 ح 608 وأحمد المسند 6/266 ح 26079.

 

ج / 1 ص -449-       فصل وإذا ثبت أن الزيادة على النص لا تكون نسخا فالنقصان من النسخ لا يكون نسخا أيضا.
وذهب بعض المتكلمين إلى أن النقصان من العبادة نسخ الباقي وقال بعضهم إذا كان نسخا منفصلا عن الجملة لم يكن ذلك نسخا للجملة وأن كان نسخ بعض الجملة كالقيام والركوع والسجود في الصلاة يكون نسخا للعبادة1 ودللنا على ما ذكرناه في المسألة الأولى وهو أن الباقي من الجملة على ما كان عليه لم يزل فلم يجز أن يحكم بنسخه كما لو أمر بصوم وصلاة ثم نسخ أحدهما لا يكون نسخا للثاني والكلام في هذه المسألة من الجانبين يقرب من الكلام في المسألة الأولى وصورة المسألة فيما لو قدرنا نسخ الوضوء ونسخ استقبال القبلة وفي هذا الموضع وأمثاله يكون الكلام ظاهرا في أنه لا يكون نسخا للصلاة فأما إذا قدرنا إسقاط ركوع أو سجود أو قيام فينبغي أن يكون هذا على ما ذكرناه فيما إذا زيدت ركعة على ركعتين أو ركعتان على أربع الظهر وقد بينا فيما سبق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/609, 610 جمع الجوامع 2/93 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/611.

فصل
وقد ذكرنا من قبل وجوه ما يقع بها النسخ وقد بقيت منها بقية فيما يجوز به النسخ وما لا يجوز نذكره في هذا الموضع لا خلاف بين العلماء أن نسخ القرآن بالقرآن جائز2 كما نسخ بالقرآن صدقة المناجاة الواجبة بالقرآن وكما نسخ العشرون بمصابرة الاثنين في الجهاد ونسخ الاعتدال بالحول بالاعتداد أربعة أشهر وعشرا ولأن جميع القرآن موجب للعمل والعلم فساوى بعضه بعضا فجاز أن ينسخ بعضه بعضا وكذلك نسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة3 لقوة الناسخ وضعف المنسوخ ولا يجوز نسخ المتواتر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 إلا أن أبا مسلم الأصفهاني منعه انظر نهاية السول 2/579 إحكام الأحكام للآمدي 3/208 المحصول 538 جمع الجوامع 2/78 المستصفى 1231 تيسير التحرير 3/200 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/43.
3 انظر نهاية السول 2/579 إحكام الأحكام للآمدي 3/208 المحصول 1/550 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/57.

 

ج / 1 ص -450-       بالآحاد1 لضعف الناسخ وقوة المنسوخ وقد ذكرنا طرفا من هذا فأما نسخ القرآن بالسنة فإن كانت السنة أخبار آحاد لم يجز النسخ بها اتفاقا2 أما إذا كانت السنة ثبوتها بطريق التواتر فقد اختلف العلماء في ذلك على ما سنبين.
مسألة: نص الشافعي رحمة الله عليه في عامة كتبه أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال وأن كانت السنة متواترة ثم اختلف الوجه على مذهب الشافعي أنه يمنع منه العقل أو الشرع فالظاهر من مذهبه أنه يمنع منه العقل والشرع جميعا والوجه الثاني أنه منع منها الشرع دون العقل ثم اختلف من قال بهذا فقال ابن شريح أن الذي يمنع منه أن الشرع لم يرد به ولو ورد به كان جائزا وهذا أصح وقال أبو حامد الإسفرائيني الشرع منع منه ولم يكن مجوزا فيه وأما مذهب أصحاب أبي حنيفة أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة وهو قول عامة المتكلمين وقيل أنه اختيار ابن شريح3 واحتج من جوز بالعقل أنه لو لم يجز لكان لنا أن لا نجوز في القدرة أو في الحكمة والأول لا يجوز لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدر على أنواع الكلام ولو أتى بكلام موضوع لدفع حكم من أحكام الكتاب صح ذلك ودل على ما هو موضوع له والثاني لا يجوز أيضا لأنه لو امتنع في الحكمة لكان وجه امتناعه أن يكون مسفرا عن النبي صلى الله عليه وسلم وموهما أنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلام من قبل نفسه وهذا لو نفر عنه من حيث أن أزال حكما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إحكام الأحكام للآمدي 3/209 المحصول 1/550 نهاية السول 2/586 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/586 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/61.
2 اعلم أن الكاتبون في هذه المسألة مختلفون في محل النزاع فيهما فجمهورهم كالإمام الرازي وصاحب الحاصل التحصيل والآمدي ذهبوا إلى أن محل النزاع هوالجواز السمعي أي الوقوع وأما الجواز العقل مقدور عليه بمعنى أن الكل متفق على أنه يجوز عقلا نسخ المتواتر بالآحاد وقليل من الكاتبين كابن الحاجب والبيضاوي والكمال بن الهمام ذهبوا إلى أن الخلاف جاد في الجواز العقلي كما هو جاد في الوقوع بمعنى أن من العلماء من يقول: إن نسخ المتواتر بالآحاد غير جائز عقلا ومنهم من يقول بجوازه عقلا.
والقائلون بالجواز في الوقوع فمنهم من قال وقع نسخ المتواتر بالآحاد ومنهم من قال بعدم الوقوع انظر نهاية السول 2/586 إحكام الأحكام للآمدي 3/209 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/586, 587 جمع الجوامع 2/18 المحصول 1/550 تيسير التحرير 3/203 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/61, 62.
3 نهاية السول 2/580, 581 إحكام الأحكام 3/217 المحصول 1/555 جمع الجوامع 2/78 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/57, 58.

 

ج / 1 ص -451-       شرعيا وأوهم أنه أوحى إليه بإزالته وهذا قائم في نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة بالسنة فإن قلتم أن القرآن معجز فاتصل به دليل يدل أنه جاء من الله تعالى فهذا لا يسقط هذا الدليل أن نسخ القرآن بالقرآن جائز وأن كان النسخ بما لا يظهر فيه صفة الإعجاز ثم النسخ هو رفع الحكم وإزالته وذلك موقوف على أن يدل دليل على رفعه وليس من شرط الدليل أن يكون معجزا ألا ترى أن السنة تنسخ بالسنة وأن لم يكن فيها دليل على الإعجاز يدل عليه أن الحكم إذا كان قابلا للنسخ والدليل محتملا لأن يقع به النسخ لم يكن لمنع الجواز معنى الدليل على أن الحكم الثابت بالقرآن يحتمل النسخ بالسنة أنه لا دليل في أن يكون نسخه بالكتاب فحسب لأن السنة كافية في النسخ بها وليس في أنه يجب أن يكون النسخ بالكتاب دليل يدل عليه قالوا: ولأن النسخ إسقاط الحكم في بعض الأوقات التي يتناولها العموم فأشبه التخصيص فإن إسقاط الحكم في بعض الأشخاص الذين يتناولهم العموم ثم تخصيص الكتاب يجوز بالسنة فكذا النسخ واحتج أبو زيد في هذه المسألة فقال النسخ بيان انتهاء مدة الحكم قال وكتاب الله حجة وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حجة يجوز أن يبين بالكتاب مدة بقاء الحكم الثابت بالكتاب فكذلك يجوز أيضا أن يتولى النبي صلى الله عليه وسلم بيان مدة بقاء الحكم الثابت بالكتاب وقال فإن قال قائل هذا يوهم الاختلاف فهذا غلط لأنه أن كان هذا يوهم الاختلاف فنسخ القرآن بالقرآن يوهم الاختلاف بل هذا يدل على قرب المنزلة حيث جوز له نسخ ما ثبت بالكتاب بلسانه من غير إضافة إلى الله عز وجل وهذا القرب وهذه المنزلة غير مستنكر ولا مستبعد قال والذي يوضح هذا أنه جائز نسخ التلاوة دون الحكم بغير كتاب ونسخ التلاوة يمحو الحفظ من القلوب أما رفعا وأما بانقراض الذين علموه من غير خلف وإذا جاز بهذا الطريق جاز بلسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي الله تعالى إليه فإنهما سواء في أن النسخ كان بغير كتاب دليل آخر لهم من حيث الشرع قالوا: يدل على أن نسخ القرآن بالسنة قد وقع والدليل على ذلك أنه كان الوجب على الزائد الحبس في البيوت بقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} [النساء: 15] ثم قد وقع نسخ ذلك بخبر الرجم قالوا: وقال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180] ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث" وقال الله تعالى: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] وهذا الحكم منسوخ اليوم بالإجماع.

 

ج / 1 ص -452-       ولم يعرف نسخه بالكتاب فقد نسخ بغير الكتاب وقال الله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 191] وقد نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا ابن خطل وأن كان متعلقا بأستار الكعبة"1 وقال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] وقد ينسخ هذا بما روى النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير2 وأما دليلنا قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] والسنة لا تكون مثل القرآن ولا خيرا منه فوجب أن لا يجوز النسخ بها وأيضا فإنه تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فهذا يدل على أنه هو المتفرد بالإتيان بخير من الآية وذلك لا يكون إلا [نسخا]3 والناسخ قرآن وأيضا فإنه تعالى قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] وقوله: {مِنْهَا} يفيد أنه يأت من جنسه وجنس القرآن قرآن والاستدلال بالآية معتمد يدل عليه أنه تعالى ساق الآية إلى قوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا يدل أن غيره يعجز عنه فإن قيل المراد من الآية نأت بخير منها أو مثلها في الثواب وقد يكون في السنة ما هو خير من المنسوخ في الثواب وربما يعبرون عن هذا فيقولون معنى الآية نأت بخير منها أو مثلها في النفع وأما قولكم أنه قال نأت فقد أضاف الإتيان بالناسخ إلى نفسه قلنا إذا دل الدليل على نسخ القرآن بالسنة فالذي أتى بذلك هو الله عز وجل ألا ترى أن الله هو الناسخ على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم كما أنه هو المثبت لسائر الشرائع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم قالوا: وعلى هذا سقط تعلقكم بقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أن الله تعالى إذا كان هو الناسخ في الحقيقة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فالقدرة في ذلك له دون غيره وأما قولهم أن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] يقتضي أن يكون ما يأتي من جنسه قال هذا لا يفيد ما قلتم فإن الإنسان إذا قال ما أخذت منك من ثوب آتيك بما هو خير منه احتمل أن يأتيك بثوب ويحتمل أن يأتيك بشيء آخر وإذا أتاه بشيء آخر هو أنفع منه سواء كان ثوبا أو غيره.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الجهاد 6/191 ح 3044 ومسلم الحج 2/989 ح 450/1357 بلفظ "جاء رجل فقال: إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال:
اقتلوه".
2 أخرجه مسلم الصيد 3/1534 وأبو داود الأطعمة 3/354 ح 3803 والنسائي الصيد 7/182 باب إباحة أكل لحوم الدجاج وابن ماجه الصيد 2/1077 ح 3234 وأحمد المسند 1/321 ح 3196.
3 بياض في الأصل.

 

ج / 1 ص -453-       فقد صدق في قوله ووعده.
ثم ذكروا سؤالا آخر حكوه عن أبي هاشم ثم المتكلم وهو أن قوله:
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] ليس فيه أنه يأتي بخير منها ناسخا بل لا يمتنع أن يكون الذي يأتي به مما هو خير منها أنه في حكم آخر بعد نسخ الآية ويكون الناسخ غير الآية الجواب أن الاستدلال بالآية قائم ونقول على سؤالهم الأول أن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يقتضي أن الذي يأتي به خير من الآية المنسوخة على الإطلاق وهذا لا يوحي الله تعالى إليه ما يوجد إلا في نسخ القرآن بالقرآن فأما في نسخ القرآن بالسنة لا يوجد لأنه لا تكون السنة خيرا من القرآن على الإطلاق بحال بل يجوز أن يكون خيرا في الثواب أو أنفع منه وهذا لا يقتضي أن يكون خيرا على الإطلاق بل الخير على الإطلاق أن يكون خيرا من كل وجه فإن قيل إذا دخلتم في أمثال هذا فلا يتصور أن يأتي بخير من الأول بحال وأن نسخ القرآن بالقرآن لأن القرآن لا تكون بعض آياته خيرا من البعض قلنا يجوز أن يكون في الثواب أو في إظهار الإعجاز أمثل بتوقي الإخلاص والإخلاص أكثر في الثواب من غيره وقوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44] أبلغ في الإعجاز من غيره فإذا نسخ القرآن بالقرآن يجوز أن يظهر الخيرية المطلقة فأما إذا نسخ القرآن بالسنة فلا يظهر الخيرية المطلقة لأنه أن كان خيرا في الثواب فالقرآن خير منه في نفسه في الإعجاز فإنه كلام الله عز وجل وإنه ينال الثواب بقراءته إلى غير ذلك قال الخطابي أن الشيء إذا أطلق أنه خير من الشيء فلا يجوز أن يكون دونه على وجه من الوجوه أما قولهم إنا إذا نسخنا القرآن بالسنة فيكون الذي يأتي بالناسخ هو الله عز وجل أيضا قلنا لا ننكر هذا لكن الحكم المضاف إلى الله تعالى في حق الظاهر والإطلاق هو ما أوجبه في كتابه وافترضه نصا فيه وأما الذي ثبت بالسنة فهو وأن كان صدوره عمن لا ينطق عن الهوى لكن على إطلاقه يضاف إلى الرسول وإلى سنته هذا كما أن الوحي يختلف فمنه ما يكون رؤيا ومنه ما يكون إلهاما ونفثا في الروح ووحي الكتاب مخالف لكل هذا إذ هو الأعلى والمتقدم على سائر أنواعه كذلك ها هنا يكون الحكم الثابت بالكتاب ثابت على وجوه ما يثبت به أما قولهم على قولنا أن قوله: {بِخَيْرٍ مِنْهَا} يقتضي أن يكون من جنسه أنه يجوز أن يكون من جنسه ويجوز أن يكون من غير جنسه والاستشهاد الذي قالوه قلنا لا بل يفيد أن يكون الذي يأتي به من جنس الأول وهذا الذي يفهم عند إطلاق ذلك اللفظ فأما قول القائل ما أخذت منك من ثوب آتيك بما هو خير منه.

 

ج / 1 ص -454-       إنما يفيد ما ذكرتم لأنه ذكر لفظ ما وهذا اللفظ يقع على الثواب وعلى غيره وليس كذلك الآية لأن الله تعالى لم يقل بما هو خير منها وإنما قال: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106] فنظير قول القائل ما أخذ منك من ثوبا آتيك بخير منه وهو مفيد ثوبا خير من الثواب الأول وأما الذي نسبوه إلى أبي هاشم من السؤال فليس بشيء لأنه خلاف قول المفسرين بل خلاف قول جميع الأمة وقد قال كل من تكلم في هذه الآية من العلماء أن الآية التي تأتي ها هنا هي الناسخة والأخرى هي المنسوخة وهذا السؤال من أبي هاشم سؤال جدلي لا يجوز أن يعترض به على إجماع المفسرين ونقول أيضا على قولهم أن ما يثبت بالسنة قد يكون أنفع وأفضل في الثواب قلنا هذا محال لأن الثابت بالسنة أن كان أنفع عملا فيبقى أن الكتاب أنفع لاستحقاقه الثواب بتلاوته وهذا لا يوجد في السنة والاعتماد في المسألة على هذه الآية وقد تأيد الاستدلال بهذه الآية بقوله تعالى: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15] فأخبر أن تبديل القرآن ونسخه يكون من عند الله عز وجل لا من عند نفسه وسؤالهم على هذا بما قالوا: أنه وأن كان من عند الرسول صلى الله عليه وسلم بصورة ولكنه من عند الله حقيقة وقد أجبنا عن هذا وهذا لأنه إنما يضاف إلى الله عز وجل ما اختص به ويضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما اختص به ولو كانا مضافين إلى الله عز وجل لم يجز إضافة أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن المسألة مشكلة جدا وقد ذهب كثير من أصحابنا إلى اختيار مذهبهم في المسألة والذي يمكن الاعتماد عليه هو ما ذكرنا ولا ينبغي أن يستدل في هذه المسألة من حيث المعنى لأن نهاية ما قالوه هو أن الكتاب أفضل من السنة فلا يجوز نسخ الشيء بما هو دونه في المرتبة كما أنه لا يجوز نسخ المتواتر بخبر الواحد والكلام على هذا يسهل فإنهم يقولون كل واحد من الكتاب والخبر المتواتر دليل مقطوع به والجواز عقلا موجود فلا سبيل إلى امتناعه ونحن نقول إنما لم يمتنع ذلك عقلا فعلى هذا سقط جميع ما ذكروه من حيث المعقول في الدليل على جوازه وبقي الدليل الشرعي الذي أقمناه في المنع منه وأما تعلقهم بالمواضع التي استدلوا بها في وجوب نسخ الكتاب بالسنة فهي دلائل ضعيفة وسنبين الكلام على واحد واحد من ذلك أما آية الإمساك في البيوت قلنا قد قالوا: أن الآية الواردة في الأذى والحبس في البيوت وآية الجلد كل ذلك في الأبكار دون المحصنين وفي ذلك نسخ الكتاب بالكتاب وأما الرجم الذي هو حد.

 

ج / 1 ص -455-       المحصنين ثبت بالسنة ابتداء وهذا جواب ابن شريح وهو حسن جدا فإن قالوا: لا بد على هذا من دليل قلنا لأن الرجم حد المحصن وليس في هذا الموضع ذكر الإحصان ولا ذكر ما يدل عليه الإحصان.
جواب آخر أن سلمنا أن المحصنين والأبكار قد دخلوا في حكم الكتاب لكن بنسخ الحبس والأذى بآية الجلد ثم آية الجلد نسخه في المحصن بقوله الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة وقد كان ذلك قرآنا يتلى في زمان النسخ وأن رفعت تلاوته من بعد وكان ذلك نسخ الكتاب بالكتاب لا نسخ الكتاب بالسنة.
ووجه ثالث وهو أن حكم الرجم مبني على قوله تعالى:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] أن الله تعالى جعل السبيل غاية ينتهي إليها حكم الحبس فقد تضمنت الآية أن حكم الحبس إلى أن يجعل الله لهن سبيلا وكان السبيل الذي وقع إليه الإشارة في الكتاب هو الرجم الثابت بالسنة وكأن الله تعالى قال وأمسكوهن في البيوت حتى يتبين فيهن سنة ثم قد ثبت ببينة الرجم فانقضى زمان حكم الحبس مثل ما ينقضي زمان الصوم بدخول الليل وليس هذا من النسخ في شيء إنما هو حكم مؤقت ثبت بالكتاب فحين وجد وقته ارتفع وأما نسخ الوصية للوالدين والإرث ثبت بآية المواريث وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث"1 بيان أن آية المواريث ناسخة لآية الوصية فإن الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" والفاء تدل على تقدم المسبب كقولك قمت إلى فلان فضربته دل أن القيام سبب لضربه فيكون على هذا الخبر الوارد مثبتا للكتاب لا ناسخا له ونحن لا ننكر البيان بالسنة ولا نأباه وسائر ما قالوه من بعد إنما هي عمومات دخلها التخصيص وكذلك أن أوردوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها"2 فهذا وأمثاله ليس بنسخ وإنما هو عموم خص ونحن نجوز تخصيص الكتاب بالسنة وإنما الكلام فى النسخ وقد منع الشرع من النسخ ولم يمنع من التخصيص وسنبين الفرق بين النسخ والتخصيص من بعد.
ببينه: أن التخصيص جائز للكتاب بخبر الواحد وأجمعوا أن النسخ لا يجوز بخبر الواحد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه.

 

ج / 1 ص -456-       وأما قولهم يجوز نسخ التلاوة ونسخ التلاوة يمحو حفظه عن القلوب إلى غير كتاب.
قلنا نحن إنما منعنا بالشرع والشرع إنما منع نسخ الكتاب إذا أتى بشيء آخر أن ينسخه إلا أن يكون الذي يأتي به خير منه وهذا لا يوجد في الموضع الذي صوره وإنما يوجد في موضع الخلاف لأن نسخ الكتاب وإثبات السنة التي هي دونه والشرع قد رفع هذا وأباه نصا على ما سبق ذكره والله أعلم.
مسألة فأما نسخ السنة بالقرآن.
فمن جوز نسخ القرآن بالسنة فأولى أن يجوز نسخ السنة بالقرآن فأما إذا منعنا نسخ القرآن بالسنة فقد اختلف في هذه الصورة الثانية وذكر الشافعي رضوان الله عليه في كتاب الرسالة القديمة والجديدة ما يدل على أن نسخ السنة بالقرآن لا يجوز ولعله صرح بذلك ولوح فى موضع آخر بما يدل على جوازه فخرجه أكثر أصحابنا على قولين أحدهما لا يجوز وهو الأظهر من مذهبه.
والآخر يجوز1 وهو الأولى بالحق.
واستدل من تعلق بالقول الأول بقوله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] فلما جعل السنة مبينة للكتاب لم يحتج المبين إلى بيان أو يقال إذا كانت السنة مبينة للكتاب فلا يكون الكتاب مبينا للسنة لأن الشيء الواحد لا يكون مبينا ومبينا ولأنه نسخ للشيء بغير جنسه فلم يجز كما لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة على ما بينا.
واعلم أن الأولى والأصح أنه جائز والدليل على جوازه وجود ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم صالح المشركين عام الحديبية2 وكان مما شرط في الصلح أن جاء من المشركات مسلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ردها إليهم ثم نسخها الله تعالى ونقض الصلح في ذلك على الخصوص بقوله عز وجل:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/579 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي 2/579 إحكام الأحكام للآمدي 3/212 جمع الجوامع 2/78 تيسير التحرير 3/202 المستصفى 1/124 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/60.
2 تقدم تخريجه.

 

ج / 1 ص -457-       وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم آخر الصلوات يوم الخندق حتى مضى هوى من الليل ثم صلاها على ترتيب ما فاتت1 ثم أن الله تعالى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] الآية وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم كان متعبدا في الابتداء بالتوجه إلى بيت المقدس ولم يكن ثبوت ذلك بالكتاب لأنه ليس في القرآن دليل عليه ولم يكن ذلك أيضا لاتباعه شريعة من قبله لأنه لم يقم دليل على أنه يلزمنا اتباع شريعة من قبلنا فقد كان ذلك بمحض السنة ثم نسخ بالكتاب فثبت بما بينا وجود نسخ السنة بالكتاب وإذا وجد صار شرعا جائزا.
وأما الدليل من حيث المعقول فلأنه لا مانع من جوازه لا من حيث القدرة ولا من حيث الحكمة وقد سبق بيان هذا في المسألة المتقدمة ولا يجوز أن يقال أن نسخ السنة بالكتاب يوجب التنفير عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه يوهم أنه لا يرضى بما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد لا يصح لأن النسخ يرفع الحكم بعد استقراره واستقراره يمنع من هذا التوهم لأنه لم يرض بما سنه لم يقر عليه أصلا وعلى أن ذلك لو نفر عنه لنفر عنه أيضا نسخ السنة بالسنة لأن الناسخة إنما صدرت عنه لأجل الوحي فجرى مجرى كلام ينزله الله تعالى ولأن الكتاب أقوى والسنة أضعف ويجوز نسخ الأضعف بالأقوى والمعتمد أنا إنما منعنا نسخ القرآن بالسنة للشرع منع من ذلك ولا يوجد مثل ذلك في هذا الجانب هو نسخ السنة الكتاب لأن نسخ السنة بالكتاب ونسخ الشيء بما هو خير منه ولا دليل في العقل يمنع منه فجاز النسخ إذا لم يكن منه مانع وأما تعلقهم بقوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم النحل 44 قلنا ليس في قوله لتبين للناس ما نزل إليهم دليل على أن لا يتكلم إلا بالبيان كما أنك إذا قلت: دخلت الدار لأسلم على زيد ليس فيه أنك لا تفعل فعلا آخر على أنه ليس في كون كلامه بينا للكتاب ما يمنع من نسخه للكتاب إذا قام الدليل عليه كما لا يمنع ذلك من نسخ قوله بقوله وكما لا يمنع أن ينسخ الكتاب بالكتاب وأن كان بعضه يكون بيانا لبعض وأما قولهم أنه ينبغي أن يكون نسخ الشيء بجنسه دعوى لا دليل عليه فسقط والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري المغازي 7/468 ح 4112 ومسلم المساجد 1/438 ح 209/631.

 

ج / 1 ص -458-       مسألة: وقوله اشتبه الفرق تحقيقا بين النسخ والتخصيص على كثير من الفقهاء لا بد من معرفة الفرق بينهما وهما متقاربان لأنهما يجتمعان من وجه ويفترقان من وجه فلتقاربهما اجتمعا في بعض الأحكام ولاختلافهما افترقا في بعض الأحكام والنسخ يختص بالأزمان والتخصيص يختص بالأعيان ويرفع النسخ بعض الأزمان ويرفع التخصيص بعض الأعيان وهذا الرفع في التحقيق متوجه إلى أحكام الأفعال في الأزمان والأعيان وإنما يرسل القول رفع الأزمان والأعيان على وجه المجاز لأن وجود الأعيان والأزمان في الحالين على سواء وإنما تتغير أحكام الأفعال فيهما ثم يجتمعان وأن كل واحد منهما أعني النسخ والتخصيص بيان ما لم يرد باللفظ فالمخصوص من العموم غير مراد بالعموم والمراد بالنسخ غير مراد من الخطاب.
ثم اعلم أن النسخ والتخصيص يفترقا من وجوه كثيرة.
أما التفريق بينهما في الحد فقيل أن التخصيص بيان المراد باللفظ العام والنسخ رفع الحكم بعد ثبوته ثم قد ذكر الأصحاب وجوها من التفريق بينهما.
أحدها: أن النسخ لا يكون إلا بمنفصل عن المنسوخ والتخصيص يصح ويكون بالمنفصل والمتصل.
والثاني: أن نسخ المقطوع به لا يكون إلا بالمقطوع به وهو على قول الشافعي رحمه الله لا يكون إلا بجنسه فلا ينسخ الكتاب إلا بالكتاب ولا السنة إلا بالسنة على أحد القولين أما تخصيص العموم يجوز للشيء المقطوع به وأن كان العموم مقطوعا به وبغير جنسه.
الثالث: أن النسخ لا يكون إلا قولا وخطابا والتخصيص يجوز بجميع أدلة الشرع والعقل.
والفرق الرابع: قد يصح النسخ فيما علم بالدليل أنه مراد وأن لم يتناوله اللفظ والتخصيص لا يصح إلا فيما يتناوله باللفظ.
والخامس: أن النسخ يختص بالأحكام ولا يصح في الأخبار والتخصيص يجوز فيهما.
والسادس: أن النسخ رافع لجميع الحكم والتخصيص يثبت لبعض الحكم وكذلك يجوز أن يعود النسخ إلى الشيء الواحد ولم يجز أن يعود التخصيص إلا إلى عدد أقله اثنان.

 

ج / 1 ص -459-       والسابع: أن النسخ يختص بعموم الأزمان والتخصيص يختص بعموم الأعيان وبهذا المعنى فرق أصحابنا بين التخصيص والنسخ فقالوا: النسخ تبديل والتخصيص تقليل1.
وهذه الوجوه كلها ذكرها الأصحاب في الفرق وشرح ذلك يعرف في مسائل متفرقة وقد مضى أكثر ذلك.
مسألة: إذا نزل النسخ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبت النسخ في حق النبي صلى الله عليه وسلم وفي حق الأمة.
على قول بعض أصحابنا وقال بعضهم لا يثبت ذلك في حق الأمة2 حتى يتصل بهم وتعلق من قال بالوجه الثاني بقصة أهل قباء فإن أهل قباء لما بلغهم نسخ القبلة وقد صلوا بعض صلواتهم فاستداروا كما هم إلى القبلة ومعلوم أنهم كانوا قد فعلوا بعض الصلاة بعد النسخ قبل أن يتصل بهم الخبر ومع ذلك لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة ولأن الله تبارك وتعالى لا يكلف إلا ما يكون في وسع العبد وإذا كلف العبد الشيء قبل أن يعلمه يكون قد كلف ما ليس في وسعه وهو باطل ولهذا المعنى لا يأثم بالتأخير إلى أن يعلم ولو كان الخطاب قد توجه عليه لكان يأثم وحين لم يأثم ثبت ما قلنا.
وأما دليل الوجه الأول أن النسخ محض إسقاط فلا يعتبر فيه علم من سقط عنه كالطلاق والعتاق وهذا لأن دليل النسخ قد قام ولا دليل على اعتبار علم من يعمل النسخ في حقه فإذا لم يكن دليل ثبت النسخ على العموم وهذا لأن الخطاب بالشرعيات ثبت بإثبات الله تعالى فإذا كان الله تعالى رفعه فكيف يبقى ثابتا ولأن النسخ يكون بإباحة محظور والإباحة تكون من الله تعالى ويكون من قبل الله تعالى العبد ثم الإباحة من قبل العبد يثبت حكمها قبل علم العبد بالإباحة مثل أن نقول أبحث ثمرة بستاني لبنى فلان ولم يعلموا بإباحته لهم فتناوله واحد منهم قبل العلم لم يجب الضمان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/552, 553 إحكام الأحكام للآمدي 3/161 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/37.
2 اعلم أن الحنفية والحنابلة ذهبوا إلى أنه لا يثبت حكمه قبل التبليغ واختار هذا المذهب الآمدي وابن الحاجب وذهب بعض الشافعية إلى ثبوته قبل التبليغ انظر نهاية السول 2/612, 614 إحكام الأحكام للآمدي 2/240 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/82.

 

ج / 1 ص -460-       بالإجماع فكذلك الإباحة من قبل الله تعالى جاز أن تثبت على هذا الوجه وأما حديث أهل قباء قلنا استقبال القبلة يسقط بأعذار كثيرة إلا ترى أنه يسقط في النوافل لعذر السفر فكذلك يجوز أن يسقط عنهم بعذر الجهل وأن كانوا توجه الخطاب عليهم وأما قولهم أنه يؤدي إلى تكليف العبد ما ليس في وسعه ثم يجوز أن لا يأثم والخطاب متوجه إلا ترى أنه لو نسي الخطاب أو نام عن المأمور لم يلحقه الإثم والخطاب متوجه في حقه ولعل هذه المسألة تأتي من بعد بأشرح وأبسط مما ذكرناه أن شاء الله انتهى باب الناسخ والمنسوخ والقول في ذلك ونذكر الإجماع.