قواطع الأدلة في الأصول ج / 1 ص -322-
القول فى الأخبار ومواجبها وما يقبل منها وما لا يقبل.
وإذا بينا أفعال الرسول صلوات الله وسلامه عليه وأحكامها
فالواجب أن نبين أقواله صلى الله عليه وسلم ومواجبها وما
يتعلق بها وأيضا فإن السنة تلو الكتاب فإذا بينا طرفا مما
يتعلق بالكتاب فنبين السنة وما يبتنى عليها فنقول فى مقدمة
الكلام فى الأخبار أن سنة الرسول صلوات الله عليه فى حكم
الكتاب فى وجوب العمل بها وأن كانت فرعا له لأن الله تعالى
ختم برسوله النبوة وأكمل الشريعة وجعل إليه بيان ما أجمله
فى كتابه وإظهار ما شرعه من أحكامه وقال تعالى فى محكم
تنزيله:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا}
[الحشر: 7].
ولما جعله بهذه الرتبة أوجب الله عليه أمرين لأمته وأوجب
له أمرين على أمته وأما ما أوجب عليه لأمته منه الأمرين:.
فأحدهما التبليغ قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
والثانى البيان قال الله تعالى:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ}
[النحل: 44].
وما أوجب له على أمته من الأمرين:
فأحدهما: طاعته فى قبول قوله والعمل
به قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
والثانى: أن يبلغوا عنه ما أخبرهم به
وأمرهم بفعله لأنه ما كان يقدر على أن يبلغ جميع الناس وما
كان يبقى على الأبد حتى يبلغ أهل كل عصر فإذا بلغ الحاضر
لزمه أن ينقله إلى الغائب وإذا بلغ أهل عصر لزمهم أن
ينقلوه إلى أهل كل عصر عمن تقدمهم لينقلوها إلى أهل العصر
الذى يتلوهم فينقل كل سلف إلى خلفه فيدوم على الأبد نقل
سنته وحفظ شريعته.
قال النبى صلى الله عليه وسلم:
"ليبلغ الشاهد الغائب" وقال
صلى الله عليه وسلم:
"بلغوا عنى ولا تكذبوا على" وقال أيضا:
"نضر الله امرءا سمع مقالتى فوعاها وبلغها من لم يسمعها
فرب مبلغ أوعى من سامع ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
ج / 1 ص -323-
وإذا
كان أمر السنة على هذا الوجه فللسنة حالتان.
إحداهما: أن يأخذها الحاضر عن الرسول صلى
الله عليه وسلم سماعا منه.
والحالة الثانية: أن ينقل إلى الغائب خبرا
عنه.
فأما الحالة الأولى: فإذا سمع عن النبي
صلى الله عليه وسلم وسمع لفظه فالعلم بذلك مقطوع بوجوده
لأن السماع من علوم الحواس المدركة بالاضطرار وإذا رفع
العلم بذلك فيكون وجوب العلم صادرا عن العلم بصحة ما سمعه.
وأما الحالة الثانية: وهى إذا نقل خبره
صلى الله عليه وسلم إلى غائب عنه فيجب على من نقل إليه أن
يعمل به كما يجب على من شاهده وسمع منه فليثبتونه فى وجوب
العمل وأن اختلفا فى وقوع العلم وسنبين هذا من بعد وليس
على من بلغته السنة من الغائبين عن الرسول صلى الله عليه
وسلم أن يهاجر لها لسماعها منه لأنها قد وصلت إليه بالنقل
فسقطت عنه المعجزة وسقط عن النبي صلى الله عليه وسلم بيانه
ثانيا وأن هاجر لأنه قد بين بالبلاغ الأول فسقط عنه فرضه
ولو لزم كل مبلغ أن يحضر ولزم الرسول صلى الله عليه وسلم
أن يكرر لخرج من حد الاستطاعة فى الجمعين فصارت الأخبار
أصلا كبيرا فى أصول الدين بالوجه الذى قد بيناه.
فصل اعلم أن حد
الخبر كلام يدخله الصدق والكذب.
ولا يعنى بهذا دخولهما عليه فى حالة واحدة لكن المراد منه
أنه يصح فيه الصدق والكذب من حيث صيغته ثم يكون الصدق
بدليله والكذب بدليله إلا ترى أن الإنسان إذا أخبر بخبر
فلا يقال صدقت أم كذبت من حيث صيغته لأنه من حيث صيغته
يستوى فيه الصدق والكذب وإنما يقال كذبت أو صدقت بدليل يدل
عليه لا من صيغته وقد عدل بعضهم عن الحد الأول فقال ما
يدخله الصدق أو الكذب وقال بعضهم ما لا يخلو أن يكون صدقا
أو كذبا1.
والحد الأول هو المعروف وقد صح بالوجه الذى بينا فإن قيل
قول القائل محمد ومسيلمة صادقان خبر وليس بصدق ولا كذب
قلنا هذا الكلام يجرى مجرى خبرين أحدهما خبر عنه بصدق
النبي صلى الله عليه وسلم والآخر بصدق مسيلمة والأول حق
صدق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/7, 11 المحصول 2/101 روضة
الناظر 85 الإبهاج 2/310 المعتمد 2/73, 74 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 3/100.
ج / 1 ص -324-
والثانى كذب باطل وإذا جرى هذا الكلام مجرى خبرين أحدهما
صدق والآخر كذب سقط السؤال ثم نقول قد بينا أن معنى قولنا
أن الخبر يدخله الصدق والكذب هو أنه إذا قيل للمتكلم به
صدقت أو كذبت لم يكن باطلا من حيث اللغة وفى هذه الصورة لا
يكون الصدق أو الكذب باطلا من حيث اللغة وإنما وجه بطلانه
بدليل يدل عليه فإن قال قائل ما الصدق وما الكذب قلنا
الصدق هو الإخبار عن الشىء على ما هو به والكذب الإخبار عن
الشىء على خلاف ما هو به وهذا حد المتكلمين والأولى أن
نقول إذا كان المخبر على ما تضمنه الخبر فهو صدق وإذا كان
بخلافه فهو كذب ويكفينا هذا القدر.
وإذا علمنا حد الخبر فنقول الأخبار على ثلاثة أضرب.
خبر يعلم صدقه فهو حق وخبر يعلم كذبه فهو باطل وخبر يحتمل
الصدق والكذب فهو ممكن أن يكون حقا أو باطلا.
فالمعلوم صدق كالخبر ففى اجتماع الصدق والخبر نقصان الواحد
من الاثنين وكالخبر ببياض العاج وسواد القار ويدخل فى هذا
ما علم بضرورة العادة كالخبر بحدوث الولد عن أبوين وبطلوع
الشمس من المشرق وقد يعلم الصدق بالدليل المكتسب مثل الخبر
بحدوث العالم بوحدانية الصانع وبالدليل العرفى مثل قولهم
الطعام مشبع والماء مروى.
وأما الخبر الذى يعلم كذبه فهو الخبر الذى يقابل الضروب
التى قلناها والخبر الذى يعلم صدقه بطريق العكس وهو كالخبر
باجتماع الضدين بزيادة الواحد على الاثنين إلى آخر ما
ذكرناه وقد يعلم صدق الخبر وكذبه بقرائن تتصل بالخبر وذلك
أن الخبر الواحد يخبر ويعمل به جميع الأمة أو يخبر الواحد
بخبر ويصدقه الجم الغفير وأما القرينة الدالة على الكذب
فهو أن يخبر الواحد بخبر ويعلم الأمة بخلافه أو يخبر
الواحد بخبر ويكذبه الجم الغفير وفى الأول نظر وسيأتى من
بعده وأما الخبر الذى يمكن أن يكون صدقا أو يكون كذبا فهو
كالإخبار بلقاء زيد أو بكلام عمرو وكذلك الإخبار بخصب
السنة وحدها والإخبار بموت فلان وبحياته وبصحته ومرضه
وغناه وفقره وأمثال هذا تكثر ثم اعلم أن الخبر صيغته
موضوعة فى اللغة يدلك على ما وضعت له وقالت الأشعرية لا
صيغة له مثل ما لا صيغة للأمر والنهى والعموم والخصوص وقد
فرق بعضهم بين الخبر وغيره وجعل للخبر صيغة والدليل عليهم
أن لم يجعلوا له صيغة ما ذكرناه من قبل فلا مقيد ثم اعلم
أن الخبر ضربان متواتر وآحاد فللآحاد باب مفرد.
ج / 1 ص -325-
وأما
المتواتر فكل خبر علم مخبره ضرورة1 وقد فرق بعضهم بين
أخبار الاستفاضة وأخبار التواتر وزعم أن أخبار الاستفاضة
ما تبدوا منتشرة ويكون انتشارها فى أولها مثل انتشارها فى
آخرها وأخبار التواتر ابتدا به الواحد بعد الواحد حتى يكثر
عددهم ويبلغوا عددا ينتفى عن مثلهم المواطأة معه والأصح أن
لا فرق لأن من حيث اللسان كلاهما واحد وهذا الفرق لا يعرفه
أحد من أهل اللسان.
وأما شروط التواتر فأشياء:
منها: أن يعلم المخبرون ما أخبروا به عن
ضرورة أما بعلم الحس من سماع أو مشاهدة وأما بأخبار
متواترة فإن وصل إليهم بخبر الواحد لم يصح منهم التواتر.
والثانى: أن يكثر المخبرون كثرة يمتنع
معها اتفاق الكذب منهم والتواطؤ عليه لأنا لو جوزنا أن
يشتركوا فى الخبر اتفاقا أو متواطىء أو تراسل لم تأمن أن
يكونوا كذبوا فى الخبر وقد عبروا بما قلناه وهو أن الشرط
أن يكون شواهد أحوالهم تنفى عن مثلهم المواطأة والغلط.
والشرط الثالث: أن يتفقوا على الخبر من
حيث المعنى وأن اختلفوا فى العبارة فإن اختلفوا فى المعنى
بطل تواترهم.
الشرط الرابع أن يستوى طرفاه ووسطه فيؤدى العدد الذى
ذكرناه عن مثله إلى أن يصل بالمخبر عنه.
وممكن أن يختصر هذا كله فيقال الشرط أن يكثر المخبرون كثرة
يمتنع معها التواطؤ على الكذب ويكونوا بما أخبروا به
مضطربين2 وهذا كاف ثم اعلم أنه ليس فى عدد المخبرين فى
التواتر حصر وعدد معلوم لا يزاد عليه وإنما الشرط ما
ذكرناه وإنما لم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن جمهور الأصوليين على ان الخبر المتواتر يفيد
العلم بمضمونه مطلقا سواء كان موجدا في الماضي أو في
الحال.
وقالت السمنية والبراهمة لا يفيد الحكم بمضمونه مطلقا وفصل
جماعة فقالوا: إن كان مضمونه ماضيا فلا يفيد العلم به وإن
كان موجودا في الحال أفاده انظر نهاية السول 3/62, 64 انظر
المحصول 2/108 إحكام الأحكام للآمدي 2/20, 21 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 3/103.
2 انظر نهاية السول 3/82, 83, 84 وإحكام الأحكام 2/37
المحصول 2/129 البرهان 1/568, 569, 570 أصول الفقه للشيخ
أبو النور زهير 3/105, 106.
ج / 1 ص -326-
يصدر
العدد ليكون أنفى للريبة وأبعد من التصنع لأنه قد ينتفى
الارتياب عن عدد ويثبت بهم التواتر ولا ينتفى عن عدد هو
أكثر فلا يثبت بهم التواتر وهذا لأن ما يدل عليه من شواهد
أحوالهم مختلف فامتنع به حصر عدده وليس فيه نص مشروع1.
وقد ذكر بعض أصحابنا أن الشاهد الحال قد يقترن بخبر الواحد
فيوجب العلم وذلك إذا وجدنا رجلا كبيرا عظيم الشأن معروفا
بالمحافظة على رعاية المرويات حاصيا حاسرا رأسه شاقا جبينه
وهو يدعو بالثبور والويل ويذكر أنه أصيب بوالده أو ولده
ونقطع أنه لم يطرأ عليه عته ولا خبل وشهدت الجنازة وترى
الغسال مشمرا يدخل ويخرج فبهذه القرائن وأمثالها إذا
اقترنت بأخباره تضمنت العلم بصدقه وقد يوجد الكذب من الجم
الغفير إذا ضمنهم حالة توجب اقتضاء الكذب وقد يقع التواطؤ
على الكذب من الحد الكثير مكيدة بقصدهم بيانا وشر عادة.
والذى ذكرناه من قبل وهو أن الشرط أن يكون فى شواهد
أحوالهم ما ينفى عنهم تهمة التواطؤ والكذب بدفع هذه
التصويرات والمشهور من الأصحاب أنه لابد من عدد على الوصف
الذى ذكرنا وقد تكلم الأصحاب فيما لا يثبت به التواتر من
العدد فذهب أكثر أصحاب الشافعى رحمه الله إلى أنه لا يجوز
أن يتواتر الخبر بأقل من خمسة فما زاد فعلى هذا لا يوجد أن
يتواتر بأربعة لأنه عدد معتبر فى الشهادة الموجبة لغلبة
الظن دون العلم.
قال الإصطخرى لا يجوز أن يتواتر بأقل من عشرة وأن جاز أن
يتواتر بالعشرة فما زاد لأن ما دونها جمع الآحاد فاختص
بأخبار الآحاد والعشرة فما زاد جمع الكثرة وقال قوم من غير
أصحاب الشافعى أقل ما يتواتر به الخبر اثنى عشر لأنهم عدد
النقباء لبنى إسرائيل قال الله تعالى:
{وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} [المائدة: 12] وقال قوم لا تواتر بأقل من عشرين لذكر الله تعالى
لهذا العدد فى عدد الصابرين فى القتال قال الله عز وجل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}
[الأنفال: 65] وقال قوم لا تواتر بأقل من أربعين لأنه عدد
نصاب الجمعة وقال قوم لا تواتر بأقل من سبعين لأنه العدد
الذى اختاره موسى عليه السلام قال الله تعالى:
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نهاية السول 3/84 إحكام الأحكام 2/38 المحصول 2/129 أصول
الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/105.
ج / 1 ص -327-
وقال
قوم لا تواتر بأقل من ثلثمائة وثلاثة عشر عدد أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر1 وهذه الأقاويل التى
حكيناها عن غير الأصحاب ليست بشيء وليست بمستندة إلى أصل
يعلم وخللها بين والاعتلال فيها مضطرب فلا معنى للالتفات
إلى شىء من ذلك والذى ذكره أصحابنا من القولين أمثل
الأقاويل والأولى أن لا يقع الالتفات إلى عدد ما سوى أنه
كان يعتبر أن يكون أكثر من أربعة لما ذكره الأصحاب وإن قيل
أن هذا العدد لا يعتبر أيضا لكن يعتبر وجود العلم بخبر
المخبر لما يتصل به من شاهد الحال فيه صحيح أيضا على ما
سبق بيانه والأحسن ما قاله أكثر الأصحاب.
مسألة الخبر المتواتر يفيد العلم عند جماعة العلماء
وعند بعض الناس أنه لا يفيد العلم وقد نسب ذلك إلى
البراهمة والسمنية وهذا الخلاف خلاف لا يعتد به لأنه من
قبل إنكار المحسوس وهو مثل خلاف السفسطائية فى رفع
المحسوسات وتصور صورا ليزول الإشكال فنقول أن رجلا لو
اعترض الناس وهم منصرفون من الجمعة فجعل الواحد والاثنان
والجماعة يخبرون أن الناس قد صلوا الجمعة وتكاثر عليه هذا
الخبر حتى أخبره الفوج بعد الفوج وخرج الأمر عن الحصر
والعدد ولم ير أحدا منهم مخالف فى ذلك فإن السامع يجد فى
نفسه وقوع العلم له فصلاتهم الجمعة بحيث لا يتخالجه شك ولا
يدخله ريب ويجد قلبه ساكنا إلى ذلك وكذلك من دخل بلدا
فاسترشد هذا إلى دار الوالى أو منزل الحاكم فأرشده الواحد
بعد الواحد وذكروا أن سلوك هذا الطريق يفضى إلى داره
وتواتر منهم ولم ير أحدا يخالفهم فى ذلك فإنه يقع العلم
بقولهم ويعرف قطعا أنه إذا سلك هذا الطريق وصل إلى مقصوده
وأصاب غرضه وكذلك لو أن رجلا يرى صبيا وسمع الناس يقولون
أن والده فلان وقد مات عنه وتواتر له هذا الخبر من جيرته
وعشيرته وسائر أقربائه ورآهم يخبرون بذلك فى السر
والعلانية وحالتى الرضا والغضب ولا ينكر ذلك منكر ولا
يخالفهم مخالف ودام الزمان على ذلك فإنه يجد نفسه ساكنا
إلى قولهم معتقدا صحة ما أخبروه به من أمر هذا الصبى وهذا
مما لا ينكره أحد له أدنى مسكة من عقل أو شمة من لب وقد
استدلوا أيضا بوقوع العلم لنا بوجود البلدان النائية
القرون الماضية والملوك السالفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 3/85, 86 البرهان 1/569, 570 المحصول
2/132, 133 إحكام الأحكام للآمدي 2/39.
ج / 1 ص -328-
وسائر
ما يجرى هذا المجرى وليس يدخل على هذا ما يجد الناس الكثير
من اجتماعهم على اعتقاد أو مذهب ولا يدل ذلك على أنهم
محقون لأنا بينا أن شرط وقوع العلم بالخبر المتواتر أن
يكون صدره فى الابتداء عن ضرورة وأمر محسوس بالسمع أو
النقل وهذا لا يوجد فى هذا الموضوع وعلى أن نقول أن
اجتمعوا على حق فيجوز ويكون الذى حمى الاجتماع دليل الحق
لأنهم مع اختلاف طباعهم وتباين هممهم يجوز أن يصرف دليل
الحق إلى اعتقاد الحق وأما إذا كان ذلك النبأ باطلا فلا بد
من دخول الاختلاف بينهم وعدم الائتلاف منهم ولم يوجد اتفاق
كل الناس على الباطل أبدا بحال ثم نقول بأن الخبر مخالف
لباب الرأى والاعتقاد لأن الخبر صدره عن الحس والمشاهدة
والغلط لا يعرض فيها فإذا وجدناهم متفقين على الخبر لم نجد
موضعا للارتياب بهم وتوهم الغلط عليهم وأن قلتم يجوز أنهم
اتفقوا وتواطئوا على الكذب نقول أن الكلام فى الجماعة التى
لا يتصور منهم التواطؤ والاتفاق على الخطأ وأما اعتقاد
المذاهب فضلت عن الرأى والاجتهاد والغلط قد تعرض فيه على
حسب غموض الأمر ودقة مستدله إلا ترى أن الجماعة من
المتناولين يجوزون الخطأ على أنفسهم فيما اعتقدوه والجماعة
من المخبرين لا يجوزون على أنفسهم الخطأ فيما أخبروه عن
شاهدتهم فإن اختلاف الأمرين كان قبل هذا الذى قلتم موجود
فى إجماع الأمة فلا تجعلوه إذا حجة وقد قلتم أنه حجة قاطعة
موجبة العلم قلنا إنما كان كذلك لأن هذه الأمة قد خصت
بالعصمة عند الإجماع على الشىء وقد دل على ذلك حجة السمع
ولولا ذلك لم يفرق بينكم وبين سائر الأمم فإن قيل أن
الجماعة الذين ذكرتهم وأن جم عددهم وكثرت أشخاصهم فإنهم فى
أنفسهم آحاد يجوز على كل واحد منهم فى حالة الاجتماع ما
يجوز فى حالة الانفراد إذ الانفراد والاجتماع أغراض لا
تؤثر فى نفس الطباع ولا يغيرها عما هى عليه فإذا جاز الكذب
على كل واحد منهم منفردين جاز الكذب على كل واحد منهم
مجتمعين.
الجواب إنما قلتموه غلط لأن الذى حلت عليه الكثرة فى
اختلاف الطباع وتباين الهمم واختلاف الدواعى لا يمكنهم فى
جارى العادات من الاجتماع والتواطؤ على وجه واحد من التقول
والتكذب ولا يخلى بينهم وبينه كما لا يمكنهم من الاجتماع
مهنة واحدة من المهن على صناعة واحدة من الصناعات وليس كل
ما صح يجوز على كل أحد من الجماعة عند الانفراد يجوز على
جماعتهم إلا ترى أن الواحد يجوز أن يقتل.
ج / 1 ص -329-
ولده
أو يشوه وجهه ولا يجوز ذلك على جماعتهم وهو أن يتفقوا عليه
وكذلك استعمال شىء واحد والمشى فى طريق واحد والاجتماع على
صنعة واحدة وأمثال هذا تكثر وبهذا الطريق نجيب عن قولهم أن
الخبر الذى وجد من الجماعة هو الذى وجد من الواحد فلو كان
وجود من الجماعة يفيد العلم لكان وجوده من الواحد يوجب
العلم ونقول يجوز أن يوجد من الواحد شىء ولا يجوز وجوده من
الجماعة مثل ما بينا وعلى أنا دللنا على وجود العلم بل
نقطع بوجوده لكل أحد عند الخبر المتواتر فكيف يحكم به
وفاته مثل هذه الشبهة.
فإن قيل إذا جاز اجتماعهم على الصدق وهو رأى اختاروه له لا
يجوز اجتماعهم على الكذب وهو نظيره قلنا إنما افترقا لأن
حسن الصدق داع إلى نفسه وأسبابه مرغبة فيه وذاته تحرك عليه
ما فيه غنية من جميع الأحدوثة ونيل المنزلة العلية عند
الناس وأما الكذب فعينه منفرة عنه وقبحه مزهد فيه ولأن فيه
من قبح الأحدوثة وخمول الذكر وسقوط المنزلة عند الناس ما
يمنع من ارتكابه إلا لغرض يدعوا إليه فأسباب الصدق يجوز أن
تجتمع فى الجماعة فتصور إلفافهم عليه فإن قيل هذا الأصل
الذى قلتم يقتضى أن صدق اليهود فى دعاويهم قتل المسيح عليه
السلام فإنهم جماعة لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب ببينة
أن النصارى وافقوهم وعددهم لا يخفى كثرة ووفورا وكذلك
المجوس مطبقون فى الخبر عن زرادشت ونبوته وإيراده المعجزات
فى زمانه.
الجواب أما أمر عيسى والخبر عن قتله لم يوجد فيه الإطباق
ولم يحصل عليه منهم الاتفاق فإن العيسوية وهم فرقة كبيرة
من النصارى يزعمون أن عيسى عليه السلام لم يقتل بل رفعه
الله إليه ولا يعتقدون التثليث ونصارى الحبشة على هذا وزعم
هؤلاء أن محمد صلى الله عليه وسلم رسول مبعوث إلى العرب
خاصة وفى اليهود من يقول: هذا الأخير ثم قد قالوا: أن خبر
قتل عيسى من النصارى أيوجد فيه شرط التواتر لأنا بينا أن
شرط التواتر أن يستوى طرفاه وواسطته وقد قيل أن خبر قتله
مسند إلى أربعة نفر هم يوحنا ومتى ولوقا ومرقص وذكر أهل
العناية بالأخبار أن عيسى عليه السلام كان بأرض عربية وكان
أصحابه مطلوبين خائفين عليه وعلى أنفسهم فلما وقعت الصحة
وقيل أنه قد قتل جل أصحابه على خفية واستتار ونظروا إلى
شخص مصلوب مقتول وهم على حال وجل ورعب توهموا أن ما سمعوه
حق فأفاضوا الخبر بذلك وأشاعوا فى أصحابهم وأشياعهم وأما
خبر اليهود فإن أصل الخبر عنهم فى قتله أوهى ما ضعف من خبر
النصارى وذلك.
ج / 1 ص -330-
لأنهم
كانوا يطلبون عيسى عليه السلام يريدون قتله وهم لا يعرفونه
بحلته وإنما جعلوا لرجل منهم جعلا فدلهم على شخص فى بيت
فهجموا عليه وقتلوه وزعموا أنهم قتلوا عيسى عليه السلام
وأشاعوا الخبر وإذا كان مخرج الخبر به اعتورته هذه الآفات
كان معدوم شرائط الصحة غير موثوق به وقد أخبر الله تعالى
فى كتابه بالحماية من شرطه وقال:
{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] فوجب الأخذ بهذا ونزل ما زعموه للآفات التى عرضت
عليه فيه وأما ما يدعيه المجوس من نبوة زرادشت فإن الخبر
فى ذلك لم يصدر عن جماعة وجد فيهم شرط الأخبار المتواترة
فإن الوارد فى خبره أنه خرج فى زمن ملك كان يسمى بشتاين
وآمن به الملك وأمر الناس بالإيمان به وزعم أنه أراه
المعجزات الدالة على صدقه فصدقوه على ذلك رغبة ورهبة
وآمنوا به وتابعوه ثم نقول أن الدين الذى دعا إليه زرادشت
وما فى مردودهما مذهب قد بلغ فساده بالدلائل القطعية وهو
فى نفسه قول متناقض فإن أصل مذهبهما هو القول بالأصل من
النور والظلمة أو نرد ظاهر مرد هذا طريق بين الفساد ظاهر
الأشخاص والانحلال فصارا كذابين لعينين ولا يجوز أن يظهر
الله تعالى المعجزات على يدى الكذابين عليه فبهذا الطريق
عرفنا أن تلك الأخبار عن أولئك القوم باطلة وإذا ثبت لنا
أن خبر التواتر يفيد العلم فهو يفيد العلم الضرورى وعنده
أنه القسم الحسى يفيد العلم الكسبى والكلام معه يرجع إلى
معرفة العلم الضرورى وهو العلم الذى لا يخالجه شك ولا
يدخله ريب ولا يمكن للإنسان دفعه عن نفسه بوجه ما وهذا
المعنى موجود فى العلم الحأصل بخبر التواتر كما هو موجود
فى العلم الحأصل بالعيان وقد ذكر المتكلمون فى هذه المسألة
كلاما كثيرا إلا أن مرجعه إلى أصول الكلام فتركنا ذلك غناء
عنه واقتصرنا على القدر الذى يحتاج إليه الفقهاء.
واعلم أن الأصوليين من أصحابنا قد قسموا التواتر إلى قسمين
فقالوا:.
أحد قسمى التواتر ما يرجع إلى عين الشىء.
والقسم الثانى ما يرجع إلى معناه دون عينه1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم وفقك الله أن المتواتر ينقسم قسمين:
أولا: متواتر لفظي: هو خبر جماعة يفيد العلم بنفسه بمخبره
مع اتحاد المخبر به في اللفظ مثل أن ينقل جماعة يستحيل
تواظؤهم على الكذب قوله عليه السلام
"إنما الأعمال بالنياب وإنما لكل امرئ ما نوى"........=
ج / 1 ص -331-
فالأول
معلوم وهو مثل ما سبق ذكره فى مواضع.
وأما الثانى فهو الخبر عن جود حاتم وشجاعة على رضى الله
عنه وأمثاله وحلم الأحنف وذويه فإن يروى نفر من سخاوة حاتم
أنه وهب لرجل عشرة أعبد ويروى آخر أنه وهب لرجل مائة شاة
ويروى آخر أنه وهب لإنسان فرسا ويروى آخر أنه نحر بعيره
وقرى أضيافه ويروى آخر أنه أوهب ماله فيقع لنا العلم مجموع
أخبارهم أنه كان رجلا سخيا وكذلك الأمر فى شجاعة على رضى
الله عنه فإنه يروى واحد أنه قتل يوم بدر وليد بن عقبة
وجماعة ويروى آخر أنه قتل يوم أحد فلانا ويروى آخر أنه
بارز يوم الخندق عمرو بن عبد ود وقتله ويروى آخر أنه قتل
يوم حنين فلانا اليهودى فيقع العلم مجموع أخبارهم أنه كان
رجلا شجاعا وكذلك فى حلم الأحنف وما أشبه ذلك وعلى هذا
الوجه يقع العلم لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام
المعجزة فإنه روى نفر أن النبي صلى الله عليه وسلم نبع
الماء من بين أصابعه وروى نفر أنه عليه السلام لما انتقل
من الجذع إلى المنبر حن الجذع كحنين الناقة وروى نفر أنه
أشبع الجماعة الكثيرة بالطعام اليسير وروى آخر أنه دعا
شجرة فأتته وروى آخر أنه سبح الحصى فى يده وسمع ذلك وروى
آخر أنه أشار إلى القمر فانشق إلى أمثال هذا فيقع العلم
القطعى لنا بمجموع هذه الأخبار أنه أقام المعجزة على صدق
نبوته وكان المعنى فى كل هذا أنه لا يجوز أن يقع من
الجماعة الكبيرة التواطؤ على وقوع مثل هذا وقد نقلوا ذلك
فى أزمنة مختلفة وأحوال متباينة ومعنى التواتر أنه وأن عدم
التواتر فى أعيان آحادها فقد وجد التواتر فى معناها إذا
كانت هذه الأخبار على اختلافها بحصرها معنى واحد فصار
كأنهم نقلوا جميعا ذلك المعنى وأجمعوا على الخبر عنه
وهؤلاء الذين أخبروا هذه الأشياء بمجموعهم لا يجوز عليهم
التواطؤ على الكذب والتحق بورود الخبر المتواتر على الشىء
لعينه واعلم أن مثل هذا الطريق رد على الرافضة ما زعموا من
نص الرسول صلى الله عليه وسلم على إمامة على رضى الله عنه
فإنهم زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه على رءوس
الأشهاد ومشهد من جميع أصحابه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثانيا: المتواتر المعنوي: هو نقل العدد الذي تحيل العادة
تواظؤهم على الكذب وقائع مختلفة على قدر مشترك بين الجميع
مثل أن يخبر واحد حاتما أعطى دينارا والآخر يخبر بأنه أعطى
جملا والثالث يخبر بأنه أعطى شاة وهلم جرا حتى بلغ عدد
المخبرين حد التواتر فيقطع بثبوته القدر المشترك لوجوده في
كل خبر من هذه الأخبار والقدر المشترك هو الإعطاء انظر
نهاية السول 3/87 انظر أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
3/106.
ج / 1 ص -332-
ونص
لهم عليه وقال هو الإمام من بعدى ثم إنهم جميعا كتموه وهذا
محال من الكلام ولا يتصور من ذلك مثل الجماعة العظيمة
والجم الغفير اختلاف طباعهم وتباين أهوائهم وتردد الدواعى
منهم إطباقهم واتفاقهم على كتمان مثل هذا النص الجلى ومن
دخل فى مثل هذا فقد كفى خصمه مؤنة والمسألة من باب أصول
الدين وليست من باب أصول الفقه فتركنا الإطناب فى ذلك
والله الموفق للصواب والهادى إلى الرشاد بمنه وعميم طوله.
ونتكلم الآن فى أخبار الآحاد فنقول:
أخبار الآحاد ما أخبر به الواحد والعدد القليل الذى لا
يجوز عليهم المواطأة على الكذب1.
وهى على ثلاثة أضرب.
أحدها: أخبار المعاملات.
والثانى: أخبار الشهادات.
والثالث: أخبار السنن والديانات.
فأما أخبار المعاملات فلا يراعى فيها عدالة المخبر وإنما
يراعى فيها سكون النفس إلى خبر المخبر فتقبل من كل راو
فاجر ومسلم وكافر وحر وعبد فإذا قال الواحد منهم هذه هدية
فلان إليك أو هذه الجارية وهبها فلان لك أو كنت أمرته
بشراء جارية فاشتراها لك جاز للمخبر قبول قوله إذا وقع فى
نفسه صدقه ويحل له الاستمتاع بالجارية والتصرف فى الهدية
وكذلك إذا قال أذن فلان لك فى دخول داره وأكل طعامه جاز له
دخول داره وأكل طعامه وهذا شىء متعارف عليه فى جميع
الأعصار ومن غير تكبر وهو المعتاد والمتعارف بين الناس وقد
ألحق بعض أصحابنا الصبى بمن ذكرناه طردا للعرف فإن العرف
فى مثل هذا العرف فيما سبق وهذا هو الأصح.
وأما أخبار الشهادات2 فشرطها وعددها معلوم فى الشرع ولا
حاجة إلى ذكر ذلك وأما أخبار السنن والديانات فاعلم أن خبر
الواحد فيها قد يوجب العلم فى مواضع منها أن يحكى الرجل
بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويدعى علمه فلا ينكر
عليه فنقطع بصدق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 3/103 إحكام الأحكام للآمدي 2/48 انظر
أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/109.
2 انظر نهاية السول 3/106 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
3/109.
ج / 1 ص -333-
المخبر
ويقع العلم بخبره ومنها أن يحكى الرجل بحضرة جماعة كثيرة
ويدعى علمهم فلا ينكرونه فيعلم بذلك صدقه وعندى أن من شرط
هذا أن التمادى على ذلك الزمان الطويل ثم لا يظهر من ذلك
القول حد ينكره لأنه بدون هذا يجوز أن يسكتوا عن الإنكار
عليه لغرض ويجوز أن يكون لهيبة له أو لوجل منه فأما إذا مر
على ذلك الزمان الطويل فلا يتصور السكوت عن الإنكار من كل
القوم مع اختلاف الطباع وتباين الهمم وكثرة الدواعى من كل
وجه ومنها خبر الواحد الذى تلقته الأمة بالقبول وعملوا به
لأجله فيقطع بصدقه وسواء فى ذلك عمل الكل به أو عمل البعض
وتأوله البعض ومثال هذه الأخبار خبر حمل بن مالك بن
النابغة فى الجنين وخبر عبد الرحمن بن عوف فى أخذ الجزية
من المجوس وخبر أبى هريرة فى تحريم نكاح المرأة على عمتها
وخالتها وقالت هذه الأخبار وهى كثرة وقد ألحق بعضهم بهذا
أن يكون الخبر مضافا إلى حال قد شاهدها كثير من الناس ثم
يرويه واحد أو اثنان ويسمع بروايته من شهد الحال فلا ينكره
فيدل ترك إنكارهم له على صدقه لأنه ليس فى جارى العادة
إمساكهم جميعا عن رد الكذب وترك إنكاره إلا ترى أنه لو
انكفى عن الجامع من حضرة الصلاة فأخبر أحدهم بفتنة وقعت
فيه فأمسكوا عن تكذيبه علم صدقه فى خبره قال وعلى هذا ورد
أكثر معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر أحواله فى
مغازيه وأكثر ما ورد به السنن المشهورة وهذا وجه حسن جدا
ولا بد أن يكون ملحقا بما قدمنا.
وأما ما سوى هذا من أخبار الآحاد فالكلام فيها يشتمل على
شيئين.
أحدهما فيما يتعلق بالعلم.
والآخر فيما يتعلق بالعمل.
أما العلم فذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين إلى أنه لا يوجب
العلم وذهب أكثر أصحاب الحديث إلى أن الأخبار التى حكم أهل
الصنعة بصحتها ورواها الأثبات الثقات موجبة للعلم1 وقد
ذكرنا حجتهم على هذا فى كتاب الانتصار وذهب داود إلى أنها
توجب علما استدلاليا لأن التعبد باستعمالها موجب لحدوث
العلم بها استدلالا بقوله تعالى:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: 36] وبقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] فدلت هاتان الآيتان أنه إذا أوجب العمل ثبت العلم.
وذهب النظام إلى أن خبر الواحد يوجب العلم إذا اقترن به
الشك وذلك إذا خرج.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحصول 2/172 البرهان 1/599 إحكام الأحكام 2/49, 50.
ج / 1 ص -334-
الرجل
من داره مخرق الثياب حافيا حاسرا يدعو بالويل وأخبر أن
والده مات قال يقع العلم لكل من سمع منه بذلك قال وكذلك
إذا أقر على نفسه بما يوجب القتل أو القطع.
وأما حجة من قال أنه لا يوجب العلم هو أن الخبر الواحد لو
اقتضى العلم لاقتضاه كل خبر واحد كما أن الخبر المتواتر
لما اقتضى العلم اقتضاه كل خبر متواتر والمعتمد أن الشك
والتجوز يعترض فى خبر الواحد ما لا يعترض فى خبر المتواتر
وما يعترض فيه الشك لا يوجب العلم الذى يوجبه ما لا يعترض
فيه للشك ولأنه لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما لزم مدعى
النبوة إظهار الأعلام الدالة على صدقه ولجاز الاقتصار على
قبول قوله ولو اقتصر على قوله لما وقع فرق بين النبى
والمتنبى ولأفضى ذلك إلى إبطال النبوات وهذا الرجوع إلى
الدليل الأول واحتج عامة المتكلمين على النظام وقالوا: ليس
يخلو العلم الواقع عند الخبر على ما قاله النظام أما أن
يكون سببه القرينة وحدها أو القرينة بشرط الخبر أو الخبر
وحده أو الخبر بشرط القرينة والقسمان الأولان باطلان لأن
القرينة لا تتناول المخبر عنه وإنما المتناول له هو الخبر
فلم يجز أن يكون المفيد للعلم هو القرينة وهى غير متناولة
للخبر ولا يجوز أن يكون الخبر وحده هو المقتضى للعلم لأنه
لو كان كذلك لاقتضاه إذا تجرد عن القرينة ولا يجوز أن
يقتضيه الخبر بشرط القرينة لأن اعتقادنا عند رؤية القرينة
مع فقد الخبر مثل اعتقادنا وأن اتصل به الخبر وبيان هذا
إذا رأينا الرجل مشقوق الجيب يدعو بالويل أو سمعنا الداعية
من دار وقد علمنا أن فى الدار مريضا فاعتقدنا مصاب الرجل
فى الصورة الأولى وموت المريض فى الصورة الثانية قبل أن
يخبر مخبر بموت المريض أو يخبر الرجل بمصابه مثل اعتقادنا
أن لو أخبر ثم لا علم قبل الخبر كذا بعد الخبر فإن قال
المخالف إذا اتصل الخبر بالقرينة فلا بد من وجود زيادة
قلنا يجوز أن يقال أنه يحصل به زيادة قوة الاعتقاد فأما أن
يفيد شيئا آخر لم يكن حأصلا له من قبل فهذا لا يكون وعلى
أنه يجوز أن يكون المراد بخبره وإظهار القرينة تحصيل غرض
له لأنه يريد أن يوهم بعض من يخاف موته أو يظهر أنه أصيب
بمصيبة لغرض له قال القاضى أبو الطيب وقد وقع مثل هذا
بخوارزم مع القاضى الكعنبى قال قد وقع أيضا بالبصرة واعلم
أنه يجوز أن تنتفى دلائل الكذب فى خبر الواحد على الجملة
نحو أن يكون الرجل متحفظا عن الكذب نافرا منه ويعلم من
حاله بذلك ويحوز أن يكون رسولا من سلطان ويذكر أن السلطان
يأمر الجيش بالخروج إليه ويعرف أن السلطان يعاقبه أن كذب
ويجوز أن يخبر الإنسان بشعر بلد.
ج / 1 ص -335-
ويكون
الإنسان ذا مرة مصرفه عن الكذب ولا يكون لداعى الكذاب فى
ذلك داع ويجوز أن يكون الإنسان مهتما بأمر من الأمور بمنشأ
فلان فيسأل عن خبر فيخبره عنه فى الحال فيعلم أنه لم يفكر
فيه فيدعوه إلى الكذب داع وهذه وجوه تدل على الصدق وهو من
الاستدلال على الشىء بإبطال يقتضيه ولكن مع كل لا ينتفى
توهم الكذب ويمكن تصور الكذب فى هذه الصور كلها بوجوه من
الأغراض وعوارض توجب صرف الإنسان عن الصدق إلى الكذب فلم
يخبر أن يحكم بكون الخبر مفيد للعلم وإذا اقترنت به هذه
القرائن ووجد على هذه الأحوال فهذا وجه الكلام فى هذه
المسألة.
وأما الكلام فيما يتعلق بالعمل الذى يثنى على خبر الواحد
[....]1 مذهب أكثر أهل العلم وجملة الفقهاء أن خبر الواحد
يوجب العمل فقد تعبد به الشرع وليس فى العقل ما يمنع من
التعبد به وذهبت طائفة إلى منع التعبد بأخبار الآحاد
واختلفوا فى المانع من التعبد به فقال بعضهم يمنع منه
العقل وذكر بعضهم أنه قول ابن علية والأصم وقال القاشانى
من أهل الظاهر والشيعة يمنع من التعبد بها الشرع وأن كان
جاز فى العقل2 فى هذه مسألة يكثر الكلام فيها على أن تذكر
المعتمد من الجانبين ونزع الشبهة المذكورة من المختلفين
بتوفيق الله تعالى والحجج من منع التعبد بها عقلا وقالوا:
لو جاز أن يكون علمنا بما أخبرنا به الواحد عن النبي صلى
الله عليه وسلم وغلب على ظننا صدقه مصلحة لنا وجب العمل به
وجب أن يكون إذا أخبر الواحد عن الله تعالى وذكر أنه رسول
منه وغلب على ظننا صدقه مصلحة لنا أيضا ويجب علينا العمل
به وأما الفرق أن يكون المخبر عن الله تعالى بلا واسطة أو
واسطة نبى قالوا: فنقول مخبر عن شرع من الله عز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في المخطوطة بياض بمقدار كلمة أو كلمتين.
2 اختلف العلماء في العمل بأخبار الآحاد على خمسة مذاهب:
أحدها: التعبد بخبر الواحد محال عقلا وهو مذهب الجبائي
وجماعة من المتكلمين.
الثاني: التعبد به جائز عقلا ولكنه لا يجب العمل به شرعا
لقيام الدليل على عدم الوجوب.
الثالث: التعبد به جائز عقلا وواجب شرعا فقط وهو مذهب
الجهور ومنهم البيضاوي.
الرابع: التعبد به جائز عقلا ولكنه لا يجب العمل به شرعا
لأنه لا دليل على الوجوب.
الخامس: التعبد به جائز عقلا ويدب العمل به للدليل العقلي
والشرعي معا وهو مذهب أحمد بن حنبل "وابن سريج" والقفال
الشاشي وأبي الحسين البصري انظر نهاية السول 3/106 المحصول
2/170 البرهان 1/599 إحكام الأحكام 2/68 روضة الناظر 92
أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/109.
ج / 1 ص -336-
وجل
فلا يجب علينا قبوله عملا بمجرد غلبة الظن فى صدقه دليله
إذا أخبر بواسطة دعوى الرسالة وقالوا: أيضا لو جاز التعبد
بها بأخبار الآحاد فى الفروع لجاز التعبد بها فى الأصول
وذلك فى صفات الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز فحين
لم يجز فى الأصول كذلك فى الفروع وقالوا: أيضا لو جاز
التعبد بأخبار الآحاد فى الفروع جاز التعبد بها فى نقل
القرآن ببينة أنه لما لم يجز فى نقل قول الله تعالى لم يجز
فى نقل قول الرسول عليه السلام والحرف المشكل لهم هو أن
الشرعيات مصالح والواحد يجوز أن يكذب فيما يخبر به من فعل
أو ترك فعل فإذا كان يجوز أن يكذب لم نأمن أن يكون ما
تضمنه بخبره مفسدة وربما يعبرون عن هذا فيقولون لما لم
يؤمن كون الخبر كذبا لم نأمن كون المخبر به مفسدة وإذا لم
نأمن كونه مفسدة فالعقل يمنع منه حتى لا نكون عاملين بما
يجوز أن يكون مفسدة لنا هذه شبهة القوم واحتج من قال أن
الشرع يمنع من التعبد به بقوله:
{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الاسراء: 36] وبقوله وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون البقرة 169
وبقوله:
{إِلَّا
مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] قال والعمل بالخبر الواحد اتفاقا ليس لنا به علم
وشهادة به وقول بما لا نعلم لأن العمل بالخبر الواحد مستند
إلى الظن لا إلى العلم وتعلقوا أيضا بقول الله تعالى:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم: 28] قدم من اتبع الظن وبين أنه لا غنى له فى الحق فكان على
عمومه فى كل موضع وهذا الموضع الذى اختلفنا فيه من جملته
وذكر بعضهم أنا إذا لم نقبل خبر الرسول عليه السلام إلا
بدليل يقترن به يدل على صدقه من إقامة المعجز فأولى أن لا
نقبل من غيره لمجرد خبره وقوله وهذا الدليل يقرب من الدليل
الأول وأما دليلنا قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ}
[المائدة: 67] والتبليغ يكون بحسب الإمكان لأن الله عز وجل
لا يأمر بما لا يحتمله طوق البشر ومعلوم أنه لم يكن فى وسع
الرسول لقاء الناس كلهم والمصير إليهم فى بلادهم ولم يكن
فى عمره من المهلة والتنفس ما يفى بخطابه آخر من يكون من
أمته ولا كان أيضا فى وسع جميع الناس أن يصيروا إلى حضرته
ولا أيضا كان فى الوسع أن يصير إليه من كل قبيلة من العدد
ما يقع العلم بخبرهم فيبلغوا عنه بقية من لم يصل إليه لأن
ذلك يشق عليهم ويغير معايشهم ويؤدى إلى الجلاء عن أوطانهم
ومثل هذا لا يجوز أن يرد به خطاب الشرع لأن الله تعالى رفع
مثل هذا عن أمته رحمة منه لهم وإلى هذا أشار قوله تعالى:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
ج / 1 ص -337-
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فثبت بمجموع ما بينا أن التبليغ واجب بحسب الإمكان
وليس ما ذكرناه من الإمكان وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يباشر التبليغ بحسب الإمكان فكان تبليغ الحاضر خطابا ويبلغ
الغائب خبرا على لسان من بحضرته من واحد وجماعة ليبلغوا
عنه ويؤدونه إلى من ورائهم فيقع به التبليغ وتقوم به الحجة
وكذلك قال عليه السلام:
"ألا هل
بلغت"1 وقال عليه السلام:
"ليبلغ الشاهد الغائب"2.
وبيان أنه كذلك وأنه كان يفعل ما ذكرنا ما اشتهر عنه فى
أخباره من بعثه الرسل إلى النواحى والأطراف وإلى الملوك
ليبلغوا عنه ويبينوا للناس أمر الدين وليعلموهم أحكام
الشريعة كتوجيه معاذ إلى اليمن وعتاب بن أسيد إلى أهل مكة
وعثمان بن أبى العاص إلى الطائف وبعث الرسل إلى ملوك الأرض
دحية إلى قيصر وعبد الله بن حذافة السهمى إلى كسرى وعمرو
بن أمية الضمرى إلى الحبشة وبعث إلى المقوقس صاحب
الإسكندرية وإلى هوذة بن على الحنفى وغيرهم وإنما بعث
هؤلاء ليدعوا إلى دينه وليقم الحجة عليهم ولم يذكر فى موضع
أنه بعث فى الوجه الواحد عددا يبلغون حد التواتر ولم يكن
النبي صلى الله عليه وسلم ليبعث بما يقع به البلاغ وتقوم
به الحجة فعلى هذا جرت عادته صلى الله عليه وسلم وقد كان
أيضا يبعث الجواسيس والعيون إلى أرض العدو ويقتصر على
الواحد فى البعثة ويعتمد على قوله وأمثال هذا تكثر وليس
يخفى على العلماء المبرزين نعم تخفى على الجهال ومن لم يقف
على أحوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأخذ العلم من ورا
وراء فتبين بمجموع هذا أن الخبر من الواحد موجب العمل مثل
ما يوجب الخبر من العدد الكثير وهذا الدليل دليل قطعى لا
يبقى لأحد معه عذر فى المخالفة.
ويدل على ما ذكرناه إجماع الصحابة رضى الله عنهم فإنه من
المشهور عنهم أنهم قبلوا أخبار الآحاد فى الشرعيات
واستعملوها وذلك مثل قبول أبى بكر الصديق رضى الله عنه خبر
المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة فى توريث الجدة السدس3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري العلم 1/240 ح 105 ومسلم القسامة 3/1305 ح
29/1679.
2 تقدم تخريجه.
3 أخرجه أبو داود الفرائض 3/121 ح 2894 والترمذي الفرائض
4/419 2100, 2101 وابن ماجه الفرائض 2/909 ح 2724.
ج / 1 ص -338-
وقبول
الصحابة عن أبى بكر رضى الله عنه خبره عن النبي صلى الله
عليه وسلم:
"إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة"1 ولقبول عمر رضى الله عنه خبر عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فى
أخذ الجزية من المجوس2 وخبر الضحاك بن سفيان فى توريث
المرأة من دية زوجها3 وخبر حمل بن مالك بن النابغة فى دية
الجنين وكقبوله خبر أبى موسى وأبى سعيد فى الاستئذان وعن
على رضى الله عنه أنه قال كنت إذا سمعت من رسول الله صلى
الله عليه وسلم حديثا نفعنى الله به ما شاء أن ينفعنى فإذا
حدثنى عنه غيره استحلفته فإذا حلف صدقته وحدثنى أبو بكر
وصدق أبو بكر رضى الله عنه4 وسأل على المقداد رضى الله
عنهما أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور فلما
أخبره عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبل ابن مسعود رواية
معقل بن سنان الأشجعى فى قصة بروع بنت واشق وسر بذلك ورجع
ابن عمر رضى الله عنهما عن المخابرة برواية رافع بن خديج
وترك ابن عباس رضى الله عنهما مذهبه فى الصرف بخبر أبى
سعيد الخدرى.
وأمثال هذا تكثر وهذه أمور مشهورة والشهرة فيها قامت مقام
الرواية المستفيضة فمن خالف هذا فقد خالف جملة الصحابة
ورام الطعن عليهم وترك القول بأخبار الآحاد ويقع الملحدين
إلى إبطال كثير من أحكام الدين إلى الطعن فى السلف الصالح
وهذا دليل هذا فإن قالوا: أليس [أن عمر رضى الله عنه]5 قال
فى حديث فاطمة بنت قيس لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول
امرأة6 وقال على فى حديث بروع بنت واشق: "ما أصنع بقول
أعرابى بوال على عقبيه" قلنا ليس هذا بقادح فيما علمناه
لأن عمر إنما أنكر مخالفة الكتاب وذلك فى السكنى فإن
الكتاب دال على إيجاب السكنى والنبى صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الفرائض 12/7 ح 6726 ومسلم الجهاد 3/1380
ح 52/1759.
2 أخرجه البخاري الجزية 6/297 3156, 3157 والترمذي السير
4/147 ح 1587 ومالك في الموطأ الزكاة 1/278 ح 41.
3 أخرجه أبو داود الفرائض 3/129 ح 2927 والترمذي الديات
4/72 ح 1415 وقال هذا حديث حسن صحيح وابن ماجه الديات
2/883 ح 2642.
4 أخرجه الترمذي التفسير 5/228 ح 3006 وابن ماجه الإقامة
1/446 ح 1395.
5 ثبت في الأصل [ابن عمر رضي الله عنهما] والحديث مروي عن
الخليفة عمر رضي الله عنه انظر سنن الدارقطني 4/24 - 26 ح
68 - 71.
6 أخرجه مسلم الطلاق 2/1118 ح 46/1480 وأبو داود الطلاق
2/297 ح 2291.
ج / 1 ص -339-
أسقط
السكنى بسبب وكانت فاطمة رضى الله عنها تنقل إسقاط السكنى
ولا تروى السبب فهذا محل إنكار عمر رضى الله عنه وغيره
عليها وعلى لا يقبل رواية الأعرابى لغلبة الجهل عليهم وليس
الكلام فى أمثال هذا وأما الكلام فى أصل قبول أخبار الآحاد
دليل ثالث هو أنه لا خلاف فى قبول أخبار الآحاد فى باب
المعاملات فإن للإنسان أن يدخل دار غيره بإذن الحاجب
والبواب وله أن يستبيح ما يقول الرسول إذا قال أهداه لك
فلان ووقع فى نفسه صدقه ويأخذ بقول الجمال والخادم وقد
تكون الهدية جارية فيستبيح وطأها وقد كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يرسل أنس بن مالك رضى الله عنه بحوائجه
وأموره وهو صبى واتخذ ابن أريقط الليثى دليلا حين توجه إلى
المدينة وقد كان كافرا واعتمد على دالته فهذا فى أبواب
المعاملات وأيضا فلا خلاف فى قبول شهادة من لا يقع العلم
بقوله فإن نهاية ما فى عدد الشهود هو الأربع ولا شك أن هذا
الخبر لا يفيد العلم وإنما يفيد غالب الظن وقد تكون
الشهادة فى إراقه دم أو إقامة حد أو استباحة فرج وأدناه
استحقاق المال فلم يخلفوا فى قول المستفتى قول المفتى
وكذلك فى أخذ القرآن عن المعلم وهذه أمور تتعلق بالدين وما
ذكرنا من قبل من أمور الدنيا فإذا جاز قبول أخبار الآحاد
فى أمور الدين والدنيا فى هذه المواضع فكذلك فى سائر
المواضع فإن قيل قد تعلقتم بالأخبار فى المعاملات وقد يقبل
فى الأدنى والهدية وما يشبه ذلك قول من يسكن القلب إلى
صدقه من صبى أو فاسق بل كافر أنه لا يجوز قبول قول هؤلاء
فى أخبار الدين فكيف يحتج بهذا الفعل مع وقوع هذا الفرقان
بينهما واعتذر أبو زيد لهم من أخبار الناس فى المعاملات
وقال حقوق العباد ليست كأصل الشريعة فإنها تثبت بإيجابهم
وتصرفهم ولهم ضرورة إليها ولا يمكنهم إظهارها وإثباتها
بدليل لا يبقى فيه شك وأما الدين فحق الله تعالى والله
تعالى قادر على إظهار حقه بما يوجب العلم فلا يجوز إثباته
فما دونه كما لا يجوز إثبات أصل الدين من التوحيد والنبوة
وصفات الله تعالى بالأخبار التى يعنى بها شك أو شبهة.
قال وأما الشهادة فالأصل ما قدمنا وإنما تركنا الأصل الذى
قد بيناه بكتاب الله تعالى وهو بخلاف القياس وقال بعضهم
إنهم يقبلوا أخبار الآحاد فى إثبات شرع أو لشهادة بأن زنى
أو قتل أو سرق ليس يثبت بها شرع أما الأول قلنا موضع
الاستدلال من أخبار المعاملات هو استعمال قول من لا يؤمن
الغلط عليه ووقوع الكذب منه وهو موجود فى الأمرين على ما
سبق بيانه فإن كان أحدهما يتساهل فيه ما لا يتساهل فى
الآخر وإنما يراعى فى الجمع والفرق موضع النكته التى يتعلق
بها الحكم دون ما عداه من الأوصاف.
ج / 1 ص -340-
وإنما
وقع التساهل فى باب الإذن والهدية وما صار عنهما من الأمور
حتى جاء فيها قبول قول الخادم والقهرمان من العبد والحر
والصبى والبالغ والذمى غيرهم لأن الغالب فى العرف الحادى
والعادة القائمة أن يتولى هذه الأمور ويتعاهدها الخدم
والخول منهم دون علية الناس وأهل المروءة منهم وأما
الشهادات فإنما يقوم بها أعيان الناس ويتحملها ذوو الدين
والعدالة منهم لما فيها من التوثق للحقوق والاحتياط عليها
ولذلك قرأت مصمتة بأوصاف من البلوغ والحرية والعدالة
ونحوها وصارت أخبار السنن واسطة بين الأمرين فجاز فيها قول
الواحد إذا قوي قوله بوصف العدالة ولا يحتمل أن يكون ذكرا
أو أنثى أو عبدا أو مملوكا أو بصيرا أو أعمى وهذا أيضا نوع
تساهل فى رواة أخبار السنة والآثار لأنه لو أن فيها جميع
أوصاف الشهود لعدمت النقلة وعز وجودهم وصار ذلك سببا
لانقطاع العلم ولو جرت فيها المساهلة التى تجرى فى أخبار
المعاملات لوجد الفساد والخلل فى أمر الدين وصار لأهل
الباطل سبيلا إلى أن يدخلوا فيه ما ليس منه واختلط أهل
الحق بالباطل فاقتصر على الواحد ليتسع الطريق إلى النقل
وأيد بالعدالة لتنقطع التهيئة عنه وكل من هذه الأمور منزل
على منزلة تليق ويرشد إليها وجه المصلحة ويدل عليه الحكمة
وأما الذى قاله أبو زيد من العذر لهم فليس بشىء لأنا بينا
وجود قبول الواحد فى أمور الدين وقد ذكرنا صورا منها ونزيد
فنقول إذا قال الواحد هذا الماء طاهر أو نجس يقبل قوله
ويعمل عليه أو يقول: أنا وكيل فلان فى التصرف فى ماله يجوز
الشراء منه وإذا قالت المرأة حضت أو طهرت يقبل الرجل قولها
فإذا قالت حضت يجب الامتناع من وطئها وإذا قالت طهرت يجوز
الإقدام على وطئها وإذا قال هذه خمر أو نبيذ وقال هذه أمتى
أبيعها منك أو ابنتى أزوجها منك فإن سلموا هذه الوجوه لا
بد من تسليمها لأن مصالح الناس لا تقوم إلا بها فيكون
الباقى من الأخبار ملحقا بها هذه الأخبار مرجعها إلى الدين
لأن الامتثال بقول المخبر بالحل والحرمة والصهار والنجاسة
وهذه أمور لا تثبت من حقوق الناس فى شىء فهذه الدلائل التى
ذكرناها دلائل قطعية موجبة للعلم وللأصحاب دلائل كثيرة سوى
هذا فرأينا عنها اقتصارا واكتفاء لهذا القدر وقد ذكر أهل
الأصول فى بيان أنه يجوز أن يقع انعدام الآحاد من حيث
العقل وأن كانت لا تفيد إلا الظن وذلك لأنه ليس بمستبعد
ولا مستنتج فى العقل أن يقول الله تعالى إذا غلب على ظنكم
صدق الرواى عن فلان فاعملوا بخبره كما أنه خبر مستقبح فى
العقل أن يقول إذا أخبركم فلان فاعملوا بخبره فإذا جاز.
ج / 1 ص -341-
أحدهما
جاز الآخر وقد قالوا: أن الشريعة مصالح فلا يمتنع أن يكون
قبول قول الواحد إذا غلب على ظننا صدقه والعمل به مصلحة
لنا ولهذا يلزم المسافر سلوك طريق وتجنب طريق آخر إذا أخبر
الواحد بسلامة أحدهما ووجود المخافة فى الآخر.
أما الجواب عن كلماتهم أما تعلقهم بخبر مدعى النبوة وأنه
لا يجب علينا قبوله من غير دليل يقوم على صدقه وهو المعجز
وأن غلب على ظننا صدقه قلنا نقول ولا أن نقطع بوجوب العمل
بخبر الواحد لأن دليلا قطعيا قد قام على وجوب العمل به
ومثل هذا لا يوجد فى غير مدعى النبوة لأن الأدلة الشرعية
إنما تكون قاطعة فى خبر مدعى النبوة إذا علمنا صدقه لمعجز
يقيمه حتى إذا أخبرنا بوجوب العمل علمنا وجوب العمل بخبره
وهذا لا يتم إذا كان صدق المدعى للنبوة مظنونا غير مقطوع
به ثم نقول أن الاقتصار على الظن فى صدق مدعى النبوة يؤدى
إلى مفسدة عظيمة لأن فى النبوة من الرئاسة العظيمة التى لا
يدانيها رئاسة فلأن من إذا قبلنا قوله من غير معجز تعين أن
يطلبها كل واحد ويتحرى فى أكثر الناس ظاهر الصدق والعدالة
والستر اسم له هذه الرئاسة فيكثر على هذا المدعون للنبوة
والوارد بالشرائع المخالفة وفى هذا من المفسدة ما لا يخفى
وأما ها هنا فليس للمخبر بالسنة عن النبي صلى الله عليه
وسلم مثل هذه الرئاسة وأيضا فإن السنن محصورة فى النقل لا
يمكن الزيادة عليها فلم يؤد قبول خبر الواحد فيها إلى
المفسدة.
ببينة أنه أن لزمنا ما ذكروه على قولهم وقولنا أن شهادة
الشهود مقبولة وكل عذر لهم فى ذلك فهو عذرنا وأما قولهم
أنه لو جاز التعبد بأخبار الآحاد فى الفروع لجاز فى الأصول
قلنا قد بينا أن الأخبار التى تلقتها الأمة بالقبول موجبة
للعلم قاطعة للعذر وكذلك فى كل حادثة شهدها جماعة وأخبر
الواحد منهم ولم ينكر الباقون ذلك فعلى هذه الأخبار
الواردة فى صفات الله تعالى وإثبات القدرة وجواز الرؤية
وإخراج الموحدين من النار بعد إدخالهم فيها وإثبات الشفاعة
وإثبات عذاب القبر وإثبات الحوض والميزان وما أشبه ذلك
وإذا اشتهرت وعرفت فى الأمة فأكثرها لا يخرج عن هذين
القسمين فتكون موجبة للعلم قاطعة للعذر ويفيد ما ويفيدها
الأخبار المتواترة وأما قولهم أنه يجوز التعبد بأخبار
الآحاد فى نقل القرآن قلنا هذا جمع بين موضعين بغير علة
جامعة ثم نقول فى القرآن المنقول بالآحاد أما أن يظهر فيه
الإعجاز أو لا يظهر فيه الإعجاز فإن ظهر فيه الإعجاز
فالإعجاز حجة النبوة ولا يكون حجة إلا وقد علم أنه لم
يعارض فى عصر.
ج / 1 ص -342-
الله
ما لا نعلم بل قلنا ما نعلمه ونتيقنه وأما قوله تعالى:
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} قلنا إنما اتبعنا الدليل القاطع الذى يدل على وجوب العمل بخبر
الواحد ولم نتبع الظن فإن قيل قد جعلتم للظن حظا فى
الاتباع لأنكم لو لم تظنوا صدق الراوى لم تعملوا بالخبر
قلنا أن الله تعالى إنما ذم من يتبع الظن فلم يدخل فى ذلك
من اتبع الدليل عند الظن فهذا وجه الجواب عن التعلق بهذه
الآيات ومن عرف هذا الوجه من الجواب سهل عليه الكلام على
ما يوردونه والله أعلم.
إذا ثبت وجوب العمل بخبر الواحد فنذكر بعد هذا ما ينبني
عليه ونبتدىء بذكر.
أحوال الرواى والشرائط المعتبرة فيه لنقل خبره:
فنقول أولا اعلم أن الصحابة رضى الله عنهم عدول وروايتهم
يجب قبولها من غير تخصيص وذهب المعتزلة إلى أنه قد كان فى
الصحابة قوم فساق1 وقد فسق كثير منهم وهم الذين قاتلوا
عليا رضى الله عنه خصوصا معاوية وعمرو وسائر من كانوا من
الصحابة وغيرهم مع معاوية رضى الله عنهم وتوفى بعضهم أبو
طلحة والزبير وعائشة رضى الله عنهم أجمعين وادعى كثير منهم
أنهم فسقوا وتابوا قالوا: وقد علمنا ذلك فى هؤلاء الثلاثة
ولم نعلم توبة معاوية ومن معه ونحن نتبرأ إلى الله تعالى
من هذا القول وزعم أن القوم قاتلوا مع على رضى الله عنه
بالتأويل فإن الإمام الحق قد قتل وهو عثمان رضى الله عنه
وقد كانت قتلته أنصار على وكانوا جميعا معه ومع هذا زعم أن
الحق كان مع على لكن لا نفسق أولئك القوم لأجل أنهم كانوا
متأولين ولأن عدالة جميع الصحابة ثبتت قطعا فلا يزول عنها
إلا بدليل قطعى والدليل على أن السمة كانت عظيمة إذ وجود
من بقى من الصحابة اعتزلوا الطائفتين مثل سعد وأسامة وابن
مسلمة وابن عمر وعبد الرحمن بن أبى بكر وغيرهم فالأولى فى
هذا حفظ اللسان وتسليم أمرهم إلى الله تعالى وإنما الكلام
فيمن وراء الصحابة فنقول:.
نشترط فى الراوى أن يكون ثقة عدلا فى دينه معروفا بالصدق
فى حديثه حافظا أن حدث من حفظه2 ضابطا لكتابه أن حدث من
كتابه غير معروف بالتدليس.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر البرهان 1/631 إحكام الأحكام للآمدي 2/128 المحصول
2/196 نهاية السول 3/129/130 المعتمد 2/133 التصريح على
التوضيح 2/6 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/119.
2 انظر نهاية السول 3/150, 151 المحصول 2/202, 203 إحكام
الأحكام للآمدي...............=
ج / 1 ص -344-
وملاك
الأمر شيئان صدق اللهجة وجود الضبط لما يرويه ومن كثر غلطه
ترك حديثه والعدل قد تعورف استعماله فيمن كان من أهل قبول
الشهادة وشرائطه ما عرف فى الفقه وقد قيل أن المشارطة على
أخذ الأجرة على التحدث يقدح فى قبول الرواية وقيل أيضا أن
الإقدام على المستقبحات مثل الأكل على الطريق وما يشبه ذلك
تقدح أيضا فى الرواية وقد اتفقوا أن الفسق فى التعاطى يمنع
قبول الرواية لأن من يقدم على الفسق وهو يعتقد أنه فسق لا
يؤمن فيه الإقدام على الكذب فى حديثه وأما الفسق من حيث
الاعتقاد مثل أهل الأهواء فقد ذكروا أنهم ينقسمون قسمين
منهم من كفر الصحابة وفسقهم مثل الخوارج وغلاة الرافضة
فهؤلاء حديثهم مردود غير مقبول وأما من سلم عليه السلف
وكان ثقة فى دينه غير مستحل للكذب على مخالفته بل كان
مأمونا عليهم معروفا بالصدق فى روايته جللا فى تعاطيه غير
داعية إلى اعتقاده يقبل روايته1 والأصح هو الأول وقد روى
سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد قال حدثنا عمرو بن عبيد
وكان صاحب بدعة والفرق بين الفسق فى التعاطى وبين الفسق فى
الاعتقاد هو أن الفسق فى أعمال الخوارج إنما يمنع من قبول
الحديث لأن فاعله فعله وهو يعلم أنه فسق فقدح ذلك فى الظن
بصدق ولم يؤمن أن يقدم على الكذب وأن علم أنه محظور وليس
كذلك الفسق فى العقيدة لأنه يؤمن منه الكذب لأن الأمور
مشتبهة عليه وهو متحرج فى أفعاله متنزه عن الكذب فيه أن
الركن فى قبول الحديث قوة الظن والظن يقوى بصدق من هذا
سبيله لمكان نخرجه ببينة أن الصحابة تفرقوا ولم يمنع ذلك
من قبول بعضهم رواية البعض وروى التابعون عن الفريقين أيضا
وأما الكافر الخارج عن الإسلام فلا تقبل روايته بحال2 لأن
اعتقاده يدعو إلى التحريف فلا يقوى الظن بصدقه وهذا الذى
ذكرناه مذهب الفقهاء وعندهم أنه لا يقبل من أهل الأهواء
وأنه يقبل رواية الكل كما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 2/106 المعتمد 2/135, 136 روضة الناظر وجنة المناظر 101
المستصفى 1/156 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/117.
1 انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/117, 118 نهاية السول 3/135
المحصول 2/197 المعتمد 2/134 التصريح على التوضيح 2/6 أصول
الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/119, 120.
2 انظر نهاية السول 3/123 إحكام الأحكام للآمدي 2/103
المحصول 2/195 المستصفى 1/156 التصريح على التوضيح 2/6
أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/116, 117.
ج / 1 ص -345-
يقبل
شهادتهم وقد روى أصحاب الحديث عن قتادة وابن أبى نجيح
وعمرو بن عبيد وأضراب هؤلاء فإن كانوا نسبوهم إلى القذف فى
كتبهم من يظهر منه العناد والتعنت فلا تقبل روايته وكذلك
من يتدين بالكذب فلا تقبل روايته وكذلك المتساهل فى روايته
وتارك التحفظ من الزيادة.
وقد ذكر بعضهم أن الشرائط فى الراوى لقبول الرواية خمسة:
أحدها: البلوغ لأن الصغير لا يقبل قوله فى
الدين فى خبر ولا فتيا ولا شهادة لأنه لم يقبل خبره فى حق
نفسه فأولى أن لا يقبل فى حق غيره وقد ذكر بعضهم أن رواية
الصبى إذا كان مميزا وقع فى ظن المستمع صدقه مقبولة1
والأصح هو الأول لأن المعتمد لنا إجماع الصحابة ولم يرو أن
أحدا من الصحابة رجع إلى رواية صبى وحده إذا عرف أنه غير
مؤأخذ بالكذب لا يزعه عن أمر لكان وازع.
والشرط الثانى: العقل وقد قالوا: أنه لا
يجوز الاقتصار على العقل الذى نيط به التكليف بل لا بد أن
ينضم إليه شدة التيقظ وكذلك التحفظ وأن كان يفيق يوما ويجن
يوما فإن أثر جنونه فى زمان جنونه لم يقبل خبره وأن لم
يؤثر يقبل.
والشرط الثالث: العدالة فى الدين وهذا لأن
الفاسق لا يوثق بخبره كما لا يوثق بشهادته والعدالة مأخوذة
من الاعتدال ولا بد من أربع شرائط.
أحدها المحافظة على فعل الطاعات واجتناب المعاصى.
والثانى أن لا يرتكب الصغائر وما يقدح فى دين أو عرض.
والثالث أن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الذم.
والرابع إلا يعتقد من المذهب ما يرد أصول الشرع مصرح
معانيه ووحى وخلا دلائله وقد بينا فى أهل الأهواء ما قاله
أهل العدالة الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر وجعلوا
العدالة المعتبرة فى الشاهد علة العدالة المعتبرة فى
المفتى والعدالة المعتبرة فى المفتى أغلظ من العدالة
المعتبرة فى الرواية وتعلقوا بحديث الأعرابى أنه لما شهد
عند النبى صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال قبل شهادته ولم
يسأل عن عدالته والصحيح أن ما يعتبر من العدالة فى الشهادة
يعتبر فى الرواية يدل أنه أن لم تكن العدالة فى الخبر أغلظ
منها فى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحكام الأحكام 2/101 المحصول 2/194 نهاية السول
3/119 المستصفى 1/156 التصريح على التوضيح 2/6 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 3/116.
ج / 1 ص -346-
الشهادة فلا يتنفى أن يكون أسهل لأن المخبر ثبت بخبره شرعا
يعم إلزامه فكان بتغليظ العدالة أولى قال وأما أهل الأهواء
الذين لا يدفع شبهة شهوة تأويلهم نص كتاب ولا سنة ثابتة
متواترة شهادتهم مقبولة وقد شدد بعض أصحاب الحديث فى هذا
فمنع القبول فيما ذكرنا والأصح ما بينا ونرد خبر من ظهر
منه الكذب فما قل أو كثر من أمور الدين وأن كذب فى ضرر أحد
وجب إسقاط جميع ما تقدم من حديثه.
والشرط الرابع: أن يكون بعيدا من السهو
والغلط ضابطا لما يتحمله ويرويه ليكون الناس على ثقة منه
وضبطه وقلة غلطه فإن كان قليل الغلط قبل خبره إلا فيما
يعلم أنه غلط فيه وأن كان كثير الغلط رد خبره إلا فيما
يعلم أنه لم يغلط فيه وليس من شرط الضبط معرفة أحكام
الحديث لأن هذا صفة تزيد على الضبط ولا يمنع جهل الراوى
بحكم الحديث قبوله وقد قيل الصدر الأول شهادة الأعراب وأهل
البوادى.
والشرط الخامس :أن لا يعرف التساهل فيما
يرويه وبالتأويل لمذهبه فربما أحال المعنى بتأويله وربما
يدين موضع زيادة يصحح بها فاسد مذهبه فلم يوثق بخبره ومن
انتفت عنه الثقة لم يقبل خبره ولا يرد خبر من قلت: روايته
كما لا يرد من قلت: شهادته ولا يرد خبر من لم يعرف
بمجالسته العلماء والمحدثين لأنه قد يسمع من حيث لا
يعلمون.
فأما المدلس فاعلم أن التدليس هو ترك اسم من يروى عنه وطى
اسمه وذكر اسم من يروى عنه شيخه وقد ذكر التدليس عن كثير
من أئمة الحديث مثل قتادة والأعمش وهشام وشريك وذكر ذلك
أيضا عن سفيان بن عيينة وجماعة يجرون مجراه فنقول التدليس
من الرواة يجرى على وجهين.
أحدهما أن يعرف بالتدليس ويغلب عليه ذلك وإذا استكشف لم
يخبر باسم من يروى عنه فهذا يسقط الاحتجاج بحديثه لأن
التدليس معه تزويد إبهام لما لا حقيقة له وذلك يؤثر فى
صدقه وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:
"المتشبع بما لا يعط كلابس ثوبى زور".
والوجه الثانى من التدليس أن يطوى اسم من يروى عنه إلا أنه
إذا كشف عنه أخبر باسمه وأضاف الحديث إلى ناقله فهذا
التدليس لا يسقط الحديث ولا يوجب القدح فى الراوى1 وقد كان
سفيان بن عيينة يدلس فإذا سئل عمن حدثه بالخبر نص على اسمه
ولم يكتمه وهذا شىء مشهور عنه وهو غير قادح قال إبراهيم بن
بشار حدثنا سفيان ابن عيينة يوما بحديث فقال عمرو بن دينار
عن الحسن بن محمد فقلت: يا أبا محمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر فتح المغيث للسخاوي 1/203.
ج / 1 ص -347-
أسماعا
عن عمرو فقال ابن جريج عن عمرو فقلت: سماعا من ابن جريج
فقال لا تفسده أبو عاصم عن ابن جريج فقلت: سماعا من أبى
عاصم فقال قد أفسدته بحديثى على ابن المدينى عن أبى عاصم
عن ابن جريج عن عمرو فهذا طريق سفيان ومذهبه والشافعى لا
يروى عنه من الحديث بما يدخله التدليس وبيان مذهب الشافعى
فى هذا الباب أن من اشتهر بالتدليس لا تقبل روايته إذا لم
يخبره بالسماع فيقول: سمعت أو حدثنى أو أخبرنى وما أشبهه
فأما إذا قال عن فلان وحمل الأمر فى ذلك على السماع لأن
الناس قد يفعلون ذلك طلبا للخفة إذ هو أسهل عليهم من أن
يقول فى كل حديث حديثا والعرف الجارى فى ذلك يقام مقام
التصريح وقد ذكر الحاكم أبو عبد الله الحافظ فى كتاب علوم
الحديث وقال الأحاديث المعنعنة متصلة بإجماع أهل النقل إذا
لم يكن فيها تدليس1 وذكر حديث عمرو بن الحارث عن عبد ربه
بن سعيد الأنصارى عن أبى الزبير عن جابر عن النبى صلى الله
عليه وسلم قال:
"لكل داء دواء فإذا أصاب دواء داء برىء بإذن الله تعالى"2 وكذلك ذكر رواية إسرائيل عن عبد الله بن مختار عن ابن سيرين عن
أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"أن مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دما وأميطوا عنه"3 والرواة فى هذين الخبرين عن قولهم يعرفوا بالتدليس فالحديثان
متصلان وأن ذكر بطريق العنعنة قال وضد هذا من الخبر ما
رواه يعلى بن عبيد حدثنا الأعمش عن أبى صالح عن أبى هريرة
قال ذكرنا ليلة القدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كم مضى من
الشهر" قلنا ثنتان وعشرين وبقى ثمان فقال:
"مضى ثنتان وعشرون وبقى سبع اطلبوها الليلة الشهر تسع وعشرون"4 وهذا
الحديث فيه تدليس لأن الأعمش لم يسمعه من أبى صالح.
وقد روى محمد بن أيوب حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير
حدثنا خلاد الجحفى حدثنى أبو مسلم عبد الله بن سعيد قائد
الأعمش عن سهل بن أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة الخبر
الذى ذكرناه فإن الأعمش قد دلس فى الرواية الأولى وأظهر من
سمع منه فى الرواية الثانية وذكرنا صورة من التدليس ليعرف
بعينه وصورته رغم أن أصحاب الحديث.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر معرفة علوم الحديث 105.
2 أخرجه مسلم السلام 4/1729 ح 49/2204 وأحمد المسند 3/411
ح 14609.
3 عزاه الحافظ الهيثمي إلى - البزار- وقال: رجاله رجال
الصحيح انظر مجمع الزوائد 4/61.
4 أخرجه ابن ماجه الصيام 1/530 ح 1656 وأحمد المسند 2/337
ح 7441 ولفظ الحديث عند أحمد.
ج / 1 ص -348-
وأهل
الرواية منهم قد ذكروا ستة أنواع من التدليس وقد ذكرها أبو
عبد الله الحافظ فى كتاب معرفة علوم الحديث1 وذكرها صورا
ولم أذكرها كيلا تطول الكتابة وذكرت مكانها حتى أن رغب
إنسان فى علم ذلك عرف موضعه وذكر نوعا من ذلك تغير الأسامى
بالكنى والكنى بالأسامى لئلا يعرفوا وقد فعله سفيان الثورى
وليس هذا مما يوجب القدح فى الحديث وذكر نوعا من ذلك قول
المحدث قال فلان ولم يسمع منه وإنما سمع إنسانا تحدث عنه
وهو مثل ما قدمنا من قولهم عن فلان قال وقد دلسوا عن قوم
مجهولين وعن قوم مجروحين والمتبحر فى علم الحديث يعرف ذلك
وهذا باب يطول ذكره إذا وجد سماعا فى كتاب ولم يذكر أنه
سمعه جاز له أن يرويه وهذا قول أبى يوسف وعند محمد وأبى
حنيفة لا يجوز له أن يرويه حتى يذكر سماعه ولأهل الحديث
خلاف فيه وقد اعتبر من منع ذلك بالشهادة وأما من جوز ذلك
قال رواية الأخبار محمولة على الظاهر وحسن الظن وقدم فيها
ما لم يسامح فى الشهادة ومن الظاهر أنه إذا رأى سماعه بخط
من يوثق به أنه قديم فوجب أن يجوز له الرواية وليعلم
الحديثى أن الحسن البصرى لم يسمع من أبى هريرة ولا من جابر
ولا من ابن عمرو ولا من ابن عباس رضى الله عنهم شيئا قط
وإنما روايته عنهم تدليس والشعبى لم يسمع من عائشة رضى
الله عنها ولا من على ولا من ابن مسعود ولا من أسامة ولا
من زيد بن ثابت رضى الله عنهم وروايته عن هؤلاء تدليس
وليعلم أن الأعمش لم يسمع من أنس وأن قتادة لم يسمع من
صحابى سوى أنس وأن عامة أحاديث عمرو بن دينار عن الصحابة
غير مسموعة وأن عامة أحاديث مكحول عن الصحابة حوالة فاعلم
أن عامة المحدثين من أهل الحجاز قد صانوا أنفسهم عن
التدليس إلا ما ذكرنا عن ابن عيينة وهو كوفى وفد مكة وصار
إمام الدنيا فى الحديث وإنما أكثر التدليس وهو من أهل
الكوفة وجماعة من أهل الشام وقد كان خيثمة بن بشير كثير
التدليس وهو من أهل واسط وأما أهل بغداد والجبال وأهل
خراسان وما وراء النهر فلا يذكر من واحد منهم التدليس إلا
الشىء اليسير وقد روى عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد عن
أبيه قال التدليس ذل وذكر عبدان عن ابن المبارك أنه ذكر
رجلا ممن كان يدلس فقال فيه قولا سديدا وأنشد فيه:
دلس للناس أحاديثه
والله لا يقبل تدليسا
هذا كله فى التدليس فى
الرواية مع الصدق فى المتون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظرمعرفة علوم الحديث 105.
ج / 1 ص -349-
وقد
قال بعض أصحابنا إذا كان الأغلب على الراوى التدليس لا
يقبل خبر ما جهلت حاله فى ذلك حتى يعلم أنه غير مدلس وأن
كان الأغلب أنه لا يدلس قبلت روايته فيما جهلت حاله حتى
يعلم أنه مدلس وأما من يدلس فى المتون فهذا مطرح الحديث
مجروح العدالة وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه وأن كان ملحقا
بالكذابين ولم يقبل حديثه.
وأما تزكية الرواة فقد قال بعضهم لا نقبل إلا شاهدين والذى
عليه أكثر الفقهاء المحدثين أنه يثبت عدالة الراوى بتزكية
الواحد لأنها تزكية على خبر فكانت كالخبر ويقبل فى هذا
تزكية الراوى وتزكية النساء والعبيد كما يقبل روايتهم1.
فأما قدح الراوى فلا يقبل إلا من شاهدين وإذا روى العدل عن
رجل لم تكن روايته عنه تعديلا وزعم بعض أصحاب الحديث أنه
يكون تعديلا وليس بصحيح لأنه يجوز أنه إذا سئل عنه بعدله
أو بجرحه قال الشعبى حدثنى الحارث الأعور وكان والله كذابا
ولأنه لما لم يكن شهادة شهود الفرع على شهود الأصل تعديلا
لهم كذلك رواية الراوى لهم.
فإن قيل أيجوز أن يروى عن غير العدل قلنا يجوز فى المشاهير
ولا يجوز فى المناكير وأن عمل الراوى بالخبر كان تعديلا
للراوى اللهم إلا أن يعمل بموجب الخبر لا لأجل الخبر ويقبل
خبر الأعمى والعبد وأن لم تقبل شهادتهما كما يقبل خبر
النساء ولا تقبل شهادتهن ونذكر معه هذا الحديث بالمعنى
فإنه شىء يرجع إلى الراوى فنقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم وفقك الله أن الأصوليين قد اختلفوا في مسألة هل
يشترط في المزكي العدد على أقوال:
1- لا يشترط التعدد مطلقا كانت التزكية للرواي أو للشاهد
وهولأبي بكر الباقلاني ووجهته في ذلك أن التزكية لم تخرج
عن كونها خبرا والخبر يقبل من الواحد.
2 - يشترط التعدد مطلقا ووجهة هذاالقول: أن التزكية شهادة
بالعدالة والشهادة لا بد فيها من التعدد ولأن العمل
بالمتعدد فيه عمل بالأحوط فوجب التعدد لذلك.
3 - المختار للإمام الرازي وأتباعه ومنهم البيضاوي أن
العدد شرط تزكية الشاهد وليس شرطا في تزكية الراوي ووجهتهم
في ذلك أن الشهادة لا يقبل فيها قول الواحد فما كان شرطا
فيها وهو التزكية يأخذ حكمها فلا يقبل فيه قولا الواحد
كذلك أما الرواية فخبر الواحد فيها مقبول فما كان متعلقا
بها يأخذ حكمها فيقبل فيه قوله فمراعاة الأصل في كل واجبة
المحصول 2/200 نهاية السول 3/142 إحكام الأحكام للآمدي
2/110 روضة الناظر 104 المستصفى 1/162 أصول الفقه للشيخ
أبو النور زهير 3/122, 123.
ج / 1 ص -350-
اختلف
أهل العلم فى ذلك فذهب بعض السلف إلى أنه لا يجوز مجاوزة
اللفظ ولا يجوز أداء الحديث بالمعنى بحال وهذا مذهب عبد
الله بن عمرو وجماعة من التابعين وجماعة من بعدهم واحتج من
ذهب إلى هذا بقول صلى الله عليه وسلم نضر الله امرءا سمع
مقالتى فحفظها ووعاها فأداها كما سمعها فرب حامل فقه غير
فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه قالوا: ومعنى الحديث
متعلق بلفظه فإذا تغير اللفظ أثر فى المعنى فكان النبى صلى
الله عليه وسلم أفصح العرب وأحسنها بيانا وقال أوتيت جوامع
الكلم فمن يمكنه أن يأتى بلفظ يوازى لفظه ويتضمن ما يتضمنه
من المعنى وعن أبى العباس أحمد بن يحيى يغلب أنه كان يذهب
هذا المذهب ويقول: أن عامة الألفاظ التى لها نظائر فى
اللغة إذا تحققتها وجدت كل لفظة منها مختصة بشىء لا
يشاركها صاحبتها فمن رأى العبارة ببعضها عن البعض لم يسلم
من الزيغ عن المراد والذهاب عنه.
وأما عامة أهل العلم فرأوا أن الرواية على المعنى جائزة
إذا كان الراوى عالما ما يتعين به المعنى وبذلك جرت عادة
أكثر السلف والجمهور من الخلف وكذلك اختلفت ألفاظ الحديث
وأن كانت القصة واحدة1 وشبهوا ذلك بالشهادات حيث يصح
أداؤها بالمعانى ويعتبر اتفاق الشهود فيه وأن اختلفت
ألفاظهم ومما يدل على ذلك رواية الصحابة المناهى عن النبى
صلى الله عليه وسلم مثل نهيه عن بيعتين فى بيعة ونهيه عن
المحاقلة والمزابنة وحبل الحبلى والنجش وبيع حاضر لباد
وغير ذلك وكذلك روت الصحابة أن النبى صلى الله عليه وسلم
قضى باليمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجوز ذلك بمعنى أنه لا حرمة في ولكن الأفضل
نقل الحديث باللفظ الذي سمع من الرسول عليه السلام وهذا
القول لجمهور العلماء وهو المختار للبيضاوي وشرطوا لذلك
شروطا:
1 - أن يكون الناقل عالما بمدلولات الألفاظ.
2 - أن يكون اللفظ الثاني مفيدا لما يفيده الأول من غير
زيادة ولا نقصان.
3 - أن يكون مساويا للأول في الجلاء والخفاء فإن فقد شرط
من ذلك لم يجز النقل إلا باللفظ الأول.
القول الثاني: لا يجوز النقل بالمعنى مطلقا بل يحرم وهو
قول ابن سيرين وأبي بكر الرازي في الحنفية المعروف
بالجصاص.
القول الثالث: التفصيل إن كان اللفظ مرادقا للأول جاز وإلا
فلا.
انظر نهاية السول 3/211 المحصول 2/231 إحكام الأحكام
للآمدي 2/146 روضة الناظر 111 أصول الفقه للشيخ أبو النور
زهير 3/137.
ج / 1 ص -351-
على
الشاهد1 وقضى بالشفعة فى ما لم يقسم2 ومعلوم قطعا أن فى
هذه الأخبار لم يقصد الرواة ألفاظه صلى الله عليه وسلم
وإنما حكوا معانى خطابه من غير قصد إلى لفظه بعينه فدل ذلك
على جواز النقل عن طريق المعنى دون المحافظة على اللفظ
وأما قوله صلى الله عليه وسلم فأداها كما سمعها هذا لا
يمنع من النقل على المعنى ألا ترى أن الإنسان لا يمنع أن
يقول: أديت رسالة فلان إليك كما سمعت وأن كان أداه على
المعنى وهذا إذا كان الراوى عالما مميزا يعلم ما يتغير به
المعنى ويميز بين اللفظ والمعنى أما إذا لم يمكن كذلك لم
يجز له مجاوزة اللفظ وقال بعض أصحابنا كل ما أوجب العلم من
ألفاظ الحديث فالمنقول فيه على المعنى ولا مراعاة للفظ فيه
وأما الذى يجب العمل به منها ففيه ما لا يجوز الإخلال بلفظ
كقوله صلى الله عليه وسلم:
"تحريمها التكبير وتحليلها التسليم"3 وكقوله صلى الله عليه وسلم:
"خمس يقتلن فى الحل والحرم"4 وما أشبه ذلك والأصح ما ذكرناه وهو الجواز بكل حال والله أعلم.
ونذكر عقب هذا ما يتعلق بقولنا حدثنا وأخبرنا وتقدم أولا
ما يتعلق بتحمل الأخبار وسماعها فنقول يتعين صحة التحمل
وسماع الخبر صحة التمييز والضبط لما يسمعه حتى يعرف ذلك
ويفعله إذا لم يكن بلغ من السن ما يعرف هذا لم يصح سماعه.
وقد قدر بعضهم أن بلغ خمس سنين بحديث محمود بن الربيع أنه
قال عقلت مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بئر
دارنا وكان لى خمس سنين والأصح أن لا يقدر وقد قال بعض
الناس يعتبر أن يكون التابع بالغا وليس هذا بشىء فإن إجماع
المسلمين ثابت على قبول ما نقله أحداث الصحابة وأن كانوا
سمعوه فى صغرهم مثل ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير
وأصغر منهم الحسن بن على رضى الله عنهم أجمعين.
وقد روى عن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود الأقضية 3/307 ح 3610 والترمذي الأحكام
3/618 ح 1343 وقال حديث حسن غريب وابن ماجه الأحكام 2/793
ح 2368.
2 أخرجه البخاري الشركة 5/159 ح 2496 ومسلم المساقاة
3/1229 ح 134/1608.
3 أخرجه أبو داود الطهارة 1/16 ح 61 والترمذي الطهارة 1/8
وابن ماجه الطهارة 1/101 ح 275 وأحمد المسند 1/154 ح 1010
انظر نصب الراية 1/307.
4 أخرجه البخاري بدء الوحي 6/408 ح 3314 ولم يذكر الحل
مسلم الحج 2/856 ح 67/1198.
ج / 1 ص -352-
النبى
صلى الله عليه وسلم ثم نقول للمستمع أربع أحوال بعضها أقوى
من البعض أولها أن يسمع من لفظ المحدث والثانى أن يقرأ على
المحدث والثالث أن يكاتبه به المحدث والرابع أن يخبر له
المحدث والأول أقوى ثم الثانى ثم الثالث ثم الرابع ونبين
خلاف الناس فى ذلك ويجوز أن يكون المحدث أعمى أو أصم وهو
يحدث وإذا عرفت هذه المقدمة فنقول بعد هذا ما يتعلق بتحديث
المحدث فنقول إذا حدث المحدث من حفظه أو كتابه فلا خلاف
للسامع أن يقول: سمعت فلانا يحدث عن فلان وأن شاء قال
حدثنا وأن شاء قال أخبرنا فلان وإذا قرىء على المحدث فأقر
به فجائز أن يقول: أخبرنا فلان كما يجوز أن يشهد على
الإنسان إذا قرأ عليك الصك وقرره به والدليل على ذلك قوله
تعالى:
{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وزعم بعض أصحاب الحديث أنه لايجوز فى هذا أن يقول:
حدثنا ولا أخبرنا وإنما يقول قرأ على فلان وأنا أسمع ما
قرأ به وأما إذا قرىء عليه فلم يعترف فلا يجوز أن يروى عنه
وأن علم أنه حديثه وسماعه1 كما أن الإنسان إذا قرأ على
الإنسان وقبل حكايته إقراره بدين أوسع أو نحوه فلم يقر به
ولم يعترف بصحته فإنه لا يجوز أن يشهد عليه وقد روى عن أنس
بن مالك قال بينما نحن جلوس مع النبى صلى الله عليه وسلم
إذ جاء رجل فقال يا محمد إنى سائلك فمشدد عليك فى المسألة
فلا تجدن فى نفسك فقال:
"اسأل ما
بدا لك" فقال نشدتك ربك ورب من قبلك آلله أرسلك إلى الناس كلهم قال:
"اللهم نعم الخبر"2 إلى آخره واحتج شيخ الصنعة أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخارى
بهذا الحديث فى كتاب العلم من الجامع الصحيح فى باب العرض
على المحدثين وهو دال على ما قلناه من قبل بأنه إذا قرأ
عليه فاعترف به يكون حديثا له وإخبار ويصير كأنه سمع منه
وقد قال كثير من المحدثين أن العرض على الراوى سماع قالوا:
وصورة العرض أن يكون الراوى حافظا متقنا فقدم المستفيد
إليه جزء من حديثه أو أكثر من ذلك فتناوله ويتأمل الراوى
حديثه فإذا عرف أنه من حديثه قال للمستفيد قد وقفت على ما
ناولتنيه وعرفت الأحاديث كلها وهى رواياتى عن شيوخى فحدث
بها حتى يجوز أن يحدث بها عنه وينزل هذا منزلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 2/221 نهاية السول 3/193 إحكام الأحكام
2/141 روضة الناظر 107 المستصفى 1/165 البرهان 1/637 أصول
الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/131.
2 أخرجه البخاري العلم 1/179 ح 63 ومسلم الإيمان 1/41 ح
10/12.
ج / 1 ص -353-
السماع1 وقد قال بهذا عكرمة والزهرى وربيعة ويحيى بن سعيد
الأنصارى وهشام بن عروة ومالك وعبد العزيز الدراوردى فى
جماعة آخرين هؤلاء من أهل المدينة ومن أهل مكة مجاهد بن
جبر وأبو الزبير محمد بن مسلم ونافع بن عمر الجمحى وسفيان
بن عيينة ومسلم بن خالد الزنجى فى جماعة ومن أهل الكوفة
علقمة والشعبى وأبو بكر بن أبى موسى والنخعى وحبيب بن أبى
ثابت ومنصور بن المعتمر وإسرائيل وزهير بن معاوية فى جماعة
ومن أهل البصرة قتادة وأبو العالية وحميد الطويل وداود بن
أبى هند وكهمش وسعيد بن أبى عروبة وجرير بن حازم فى آخرين
ومن أهل الشام ومصر أيضا جماعة وكل أصحاب مالك ذهبوا إلى
هذا منهم عبد الرحمن بن أبى القاسم وأشهب بن عبد العزيز
وعبد الله بن وهب وعبد الله بن عبد الحكم وقال ابن أبى
أويس سئل مالك عن حديثه أسماع هو أم عرض فقال منه سماع
ومنه عرض وليس العرض عندنا بأدنى من السماع وقال مطرف بن
عبد الله صحبت مالكا سبع عشرة سنة فما رأيته قرأ الموطأ
على أحد وسمعته يأتى أشد الآيات على من يقول: لا يجزيه إلا
لسماع ويقول: كيف لا يجزيك هذا فى الحديث ويجزيك فى القرآن
وأنا أقول لا أدرى ما هذا الذى قاله مالك فى القرآن وكيف
يكون العرض على ما قلنا فى التحديث للقرآن وإنما المعروف
فى القرآن هو القراءة ولم ير أن فقهاء الإسلام الذين أفتوا
فى الحلال والحرام لم يروا العرض سماعا واختلفوا فى
القراءة على المحدث هل هو إخبار أم لا2 فقال الشافعى
المطلبى بالحجاز والأوزاعى بالشام والبويطى والمزنى بمصر
والنووى وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل رحمة الله عليهم أجمعين
بالعراق وعبد الله بن المبارك وإسحاق الحنظلى ويحيى بن
يحيى بالمشرق أنه لا يكون العرض سماعا وأما القراءة على
المحدث فهو إخبار عند هؤلاء الأئمة والحجة لهم فى ذلك قوله
صلى الله عليه وسلم:
"نضر الله
امرءا سمع مقالتى فوعاها حتى يؤديها إلى من لم يسمعها"3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 2/223/224 نهاية السول 3/196 المستصفى
1/166 إحكام الأحكام 2/146 أصول الفقه للشيخ أبو النور
زهير 3/132.
2 انظر المحصول 2/222 إحكام الأحكام للآمدي 2/142 نهاية
السول 3/194 روضة الناظر 107 أصول الفقه للشيخ أبو النور
زهير 3/131.
3 أخرجه الترمذي العلم 5/34 ح 2658 وابن ماجه المقدمة 1/86
ح 236 والدارمي 1/86 ح 228 وأحمد المسند 4/99 ح 16743 ولفظ
الحديث عند الدارمي وأحمد.
ج / 1 ص -354-
وقال
صلى الله عليه وسلم:
"تسمعون ويسمع منكم"1 قلنا ندب النبى صلى الله عليه وسلم إلى سماع قوله وحفظه وأدائه
كما سمع دل أن مجرد العرض على ما ذكره لا يكون سماعا والذى
عليه أكثر المشاع للحديث أن يقول: فيما يأخذ عن المحدث
لفظا ليس معه أحد حدثنى فلان وما يأخذه من المحدث لفظا مع
غيره يقول: حدثنا فلان وما قرأ على المحدث بنفسه يقول:
أخبرنى فلان وما قرىء على المحدث وهو حاضر يقول: أخبرنا
فلان وما عرض على المحدث وأجاز له روايته شفاها يقول:
أنبأنى فلان وما كتب إليه المحدث عن فلان ولم يشافهه
بالإجازة يقول: كتب إلى فلان وقد قال الشافعى لا تجوز
الرواية بالأحاديث على أنه لا يجوز أن يقول: أخبرنا وحدثنا
فى العرض الذى قالوه وهو المناولة ولكن يقول: أجاز لى فلان
وأنبأنا أجازة أو مناولة والأولى تحرى الصدق فى كل شىء
ومجانبة الكذب بما يمكن فهذا جملة ما يقال فى هذا الباب
وقد ذكرته بزيادة الشرح لخفاء ذلك على أكثر الفقهاء
وغفلتهم عنه واعلم أن الأولى للمحدث أن يروى الخبر بلفظه
فإن أراد الرواية بالمعنى ينظر فإن كان ممن لا يعرف معنى
الحديث لا يجوز له ذلك لأنه لا يؤمن أن يغير الحديث وأن
كان يعرف معنى الحديث ينظر فى ذلك فإن كان ذلك فى خبر
محتمل لم يجز أن يؤدى بالمعنى لأنه ربما ينقل بلفظ لا يؤدى
مراد النبى صلى الله عليه وسلم وأن كان خبرا نصا أو ظاهرا
فقد ذكرنا الكلام فى نقله بالمعنى ويجوز أن يؤدى جميع
الحديث ويجوز أن يروى بعضه إذا كان له غرض فى ذلك2 وينبغى
لمن لا يحفظ الحديث أن يرويه من الكتاب وأن كان يحفظه
فالأولى أن يرويه من الكتاب وأما إذا لم يحفظ وعنده كتاب
فيه سماعه بخطه وهو يذكر سماعه للخبر جاز أن يرويه وأن لم
يذكر سماعه فهل يجوز أن يرويه3 فيه وجهان أحدهما يجوز ويدل
عليه قول الشافعى فى الرسالة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود العلم 4/320 ح 3659 وأحمد المسند 1/417 ح
2951 والبيهقي في الكبرى 10/423 ح 21185 والطبراني في
الكبير 2/71 ح 1321.
2 نهاية السول 3/230 إحكام الأحكام للآمدي 2/159 البرهان
1/658 التصريح على التوضيح 2/13 أصول الفقه للشيخ أبو
النور زهير 3/141.
3 قال أبو الحسين البصري في المعتمد أن العلماء اختلفوا في
ذلك فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يجوز أن يرويه ولا يجوز
العمل على روايته لأنه لا يجوز أن يقول حدثني فلان وهو لا
يعلم أنه حدثه إذا كان ذلك حكما عليه بأنه قد حدثه كما لا
يجوز مثله في الشهادة وعند أي يوسف ومحمد والشافعي يجوز له
الرواية ويجب العمل عليها حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي
على نهاية السول 3/196, 197 انظر المعتمد 2/142 المحصول
2/222 التصريح على التوضيح 2/12 إحكام الأحكام للآمدي
2/144 روضة الناظر 109.
ج / 1 ص -355-
والوجه
الثانى أنه لا يجوز وهو الأصح لأنه لا يأمن أن يكون وقف
على خطه ولا بد من شيئين فى الرواية من الكتاب أحدهما أن
يكون واثقا بكتابه وسواء كان ذلك بخطه أو بغير خطه والثانى
أن يكون ذاكرا لوقت سماعه فإن أخل بواحد منهما لم يصح
روايته ويقبل رواية المحدث فيما يعود إليه نفعه بخلاف
الشهادة لاشتراك الناس فى السنن والديانات وإذا أسند
الراوى حديثه إلى رجل فدفعه المحدث عن نفسه وقال لا أذكره
فعند أبى الحسن الكرخى وهو قول جماعة المتكلمين لا تقبل
رواية الراوى لأنه الأصل فى الرواية فلا تقبل الرواية إذا
أنكرها1 وهذا كشاهد الأصل إذا أنكر شهادة الفرع ولأنا إنما
نقبل بطريق حسن الظن وإذا أنكر المروى عنه فأين حسن الظن
وأما على مذهب الشافعى فلا يقدح هذا فى رواية الراوى لأنه
يجوز أنه نسى ما رواه لأن الإنسان قد يحدث الإنسان بحديث
فى أمور الدنيا ثم يسهو عنه ويذكر به فلا يذكره إلا بعد
زمان طويل وربما لا يذكره أصلا وقد روى ربيعة عن سهيل بن
أبى صالح عن أبيه عن أبى هريرة خبر القضاء بالشاهد واليمين
ثم نسيه سهيل وكان يقول: حدثنى ربيعة عنى وهو ثقة ولم ينكر
عليه فصار إجماعا من السلف وفى الشهادة زيادة احتياط لا
توجد فى الرواية بدليل اشتراط التحمل هناك بخلاف الرواية
هذا إذا قال لا أذكر أو قال نسيت فأما إذا جحد المروى عنه
وكذب بالحديث سقط الحديث هكذا قاله الأصحاب وأقول يجوز أن
لا يسقط رواية الراوى لأنه قال ما قال بحسب وإن قال ما
رويته أصلا فيعارضه قول الراوى أنه سمع منه وكل واحد منهما
ثقة ويجوز أن يكون المروى عنه رواه ثم نسبه فلا يسقط رواية
الراوى بعد أن يكون ثقة هذا مع التجويز.
ونذكر الآن مسائل الخلاف.
[فصل]: 2 اعلم أن خبر الواحد إذا ثبت وجب
العمل به سواء ورد فيما يعم به البلوى أو ورد فيما لا يعم
به البلوى وذهب عامة أصحاب الحديث إلى أن خبر الواحد إذا
ورد فيما يعم به البلوى لم يجب العمل به وتوقفوا فى خبر
المتبايعين بهذا المعنى وكذلك فى إيجاب قراءة الفاتحة خلف
الإمام وخبر الوضوء من مس الذكر3 والذى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 البرهان 1/653, 654, 655 روضة الناظر 109.
2 بياض في الأصل.
3 اعلم أن العلماء قد اختلفوا في العمل بخبر الواحد فيما
تعم به البلوى فذهب جمهور العلماء............=
ج / 1 ص -356-
تعلقوا
به هو أن ما عم به البلوى يكثر السؤال عنه وما يكثر السؤال
عنه يكثر بيانه وما يكثر بيانه يكثر نقله فحين قل النقل دل
أنه لم يثبت فى الأصل ولهذا لم يقبل قول الرافضة فى دعواهم
النص على على رضى الله عنه فى الإمامة لأن فرض الإمامة يعم
به بلوى الناس فلو كان هذا النص ثابت لنقل نقلا مستفيضا
وحين لم ينقل دل أنه غير ثابت قالوا: ولأن الخبر الذى يفيد
العلم لا يقبل حتى ينقل على طريق الاستفاضة لعموم البلوى
فى العلم المتعلق بالخبر كذلك الخبر الذى يوجب العمل فإذا
عمت البلوى به لا يقبل حتى ينقل من طريق الاستفاضة.
وأما الدليل لنا هو أن الدليل المعتمد فى قبول أخبار
الآحاد هو إجماع الصحابة وقد دل هذا الدليل على قبول خبر
الآحاد أجمع سواء كان فيما يعم به البلوى أو فى غير ما يعم
به البلوى.
ببينة: أن الصحابة اختلفوا فى الأمور
العامة ثم صاروا فيها إلى أخبار الآحاد وهذا مثل اختلافهم
فى وجوب الغسل بالتقاء الختانين وقد صاروا فى ذلك إلى خبر
عائشة رضى الله عنها وقد كان قبل ذلك وجوب الماء من الماء
ثم إنهم اجتمعوا عند عمر رضى الله عنه فأرسل إلى عائشة
رسولا فانصرف الرسول فأخبرهم عنها بأن النبى صلى الله عليه
وسلم قال إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل فصدوا عن
قوليهما قائلين بذلك معتقدين له وقد كان هذا من الأمور
التى يعم بها البلوى وسأل عمر الناس عن المجوس وأخذ الجزية
منهم فأخبره عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما على ما
روينا1 فأخذ بذلك وقد كان هذا من الأمور العامة لأنه حكم
على أمة من الأمم وجيل عظيم من أجيال الناس وقال ابن عمر
رضى الله عنهما كنا نخابر أربعين سنة حتى روى لنا رافع بن
خديج الخبر2 وهذا أيضا من الأمور العامة وقد كان عمر رضى
الله عنه يقول بالتفاضل فى رءوس الأصابع حينا من الدهر حتى
روى له أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى كتاب عمرو بن
حزم فى كل أصبع عشر من الإبل فرجع عن قوله وتحقق الكلام
فنقول من لا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلى أنه مقبول كغيره من الأخبار وقال جمهور الحنفية
ومنهم الكرخي أنه غير مقبول انظر نهاية السول 3/170 حاشية
الشيخ محمد بن مخيت المطيعي 3/170 إحكام الأحكام للآمدي
2/160 روضة الناظر 114 البرهان 665 أصول الفقه للشيخ أبو
النور زهير 3/127.
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه.
ج / 1 ص -357-
يقبل
خبر الواحد فيما يعم به البلوى مع اعتقاده أن خبر الواحد
يوجب العمل فأما أن لا يقبله لأن الشريعة منعت من قبوله أو
لأنه ليس فى الشريعة ما يدل على قبوله أو لأنه لو كان
صحيحا لأشاعه النبى صلى الله عليه وسلم وبين على وجه
متواتر نقله ليصل إلى من تعبد بموجبه على ما ذكروا من قبل
قالوا: ولو فعل ذلك لقوى الدين والعادة إلى إشاعة نقله
وهذه الأقسام كلها باطلة أما الأول فباطل لأنه لو كان فى
الشرع نص منع من قبوله لوجدناه مع البحث المستديم فإن
قالوا: أليس قد رد عمر خبر أبى موسى فى الاستئذان.
ورد أبو بكر رضى الله عنه خبر معاذ فى الجدة قلنا كان ذلك
نوع احتياط وليس أنهما لو لم يأتيا براوى آخر لم يقبلا
وعندكم خبر الاثنين أيضا يعم به البلوى وأما الثانى فباطل
أيضا لأنا قد قلنا بالدلائل القطعية على قبول أخبار الآحاد
من غير تفصيل وتخصيص وأما الثالث فباطل أيضا وهو الحرف
الذى ذكرنا فى حجتهم أنه إذا كان الحكم فيما يعم به البلوى
يجب فى الحكم إشاعته فنقول على هذا إذ ما يجب ذلك لو لزم
المكلفين العمل به على كل حال فأما إذا لزمهم العمل بشرط
أن يبلغهم الخبر فليس فى ذلك تكليف ما لا طريق إليه ولو
وجب ما ذكروه فيما يعم به البلوى لوجب فيما لا يعم به
البلوى أيضا لأنه وأن كانت البلوى لا تعم به لكنه يجوز
وقوعه لكل واحد من آحاد الناس فيجب فى الحكم إشاعة حكمه
خوفا من أن لا يصل إلى من يعمل به فيصبح فرض عليه فإن
قالوا: لا يلزم القول وجوب إشاعته لأنه إنما يكلف المكلف
ذلك الحكم بشرط وصوله إليه وأن لم يصل إليه لم يكن مكلفا
قلنا أن جاز هذا فى الآحاد من الناس جاز فى جماعتهم وعلى
أن وجوب الوتر يعم به البلوى ولم يتواتر بوجوبه قال أبو
الحسن الكرخى قد تواتر النقل بفعله قلنا هذا لا يعصمكم من
المناقضة لأن الفعل يعم به البلوى والوجوب أيضا يعم به
البلوى ولم يتواتر به النقل جواب آخر أن الحكم وأن عم به
البلوى فليس هو بشىء وقعت واقعته فى الحال لكل أحد فى نفسه
وذاته بل غاية ما فى الباب توهم وقوعه وإذا لم يكن إلا محض
التوهم فإذا وقع يمكن الوصول إلى موجب الحكم لأن حكمه وأن
نقله الواحد والاثنان فالتمكن من الوصول إليه موجود فيكفى
ذلك لأنه إذا أمكنه الوصول فليس يضيع الحكم وأما مسألة
الإمامة قلنا وجود الإمام للإنسان فرض على كل إنسان
وواقعته فى الحال لأنه لا بد لكل أحد من إمامة ترجع إليه
فلو كان النص الذى ادعوه فى على رضى الله عنه ثابتا وقد
شاع النبى صلى الله عليه وسلم ذلك فإنهم يدعونه كذلك
ويقولون أنه صلى الله عليه وسلم أشاع العهد فى الإمامة يوم
غدير.
ج / 1 ص -358-
خم ولا
يتصور أن يشيع ذلك ثم يجمع الجم الغفير والجماعة العظيمة
على كلماته وقد قالوا: أن غدير خم لم يعرف فى العالم وكيف
يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم فى هذا الموضع مثل هذا
الفعل وينصب للناس عليا يرجعون إليه ثم يشتبه على الناس
موضع ذلك حتى لا يعرف أحد وأما ما تعلقوا به من الخبر
الموجب للعلم فقد ذكرنا أنه بأى معنى لا يوجب الخبر الواحد
وإذا ما لم يكن الخبر الواحد طريقا إلى إفادة العلم بوجه
ما بالمعنى الذى بينا وكان طريقا لإيجاب العمل سقط سؤالهم.
فصل: الخبر إذا
صح وثبت من طريق النقل وجب الحكم به وأن كان مخالفا لمعانى
أصول سائر الأحكام.
وقد حكى عن مالك أن خبر الواحد إذا خالف القياس لا يقبل
وهذا القول بإطلاقه سمح مستقبح عظيم وإنما أجل منزلة تلك
عن مثل هذا القول وليس يدرى ثبوت هذا منه وقال أبو الحسين
البصرى لا خلاف فى العلة المنصوص عليها وإنما الخلاف فى
العلة المستنبطة قال والقياس لا يخلو أما أن يكون حكمه فى
الأصل ثابتا بخبر الواحد أو بنص مقطوع به فإن كان الأصل
ثابتا بخبر فلا يجوز أن يكون القياس معارضا لخبر الواحد بل
الأخذ بالخبر يكون أولى على قول الكل وأما إذا كان الحكم
ثابتا فى الأصل بدليل مقطوع به والخبر المعارض للقياس خبر
واحد فينبغى أن يكون الناس إنما اختلفوا فى هذا الموضع وأن
كان الأصوليون ذكروا الخلاف مطلقا وقال في هذه الصورة التى
ذكرها فعند الشافعى أن الأخذ بالخبر أولى وهو قول أبى
الحسن الكرخى وقال عيسى بن أبان أن كان راوى الخبر ضابطا
عالما غير متساهل فيما يرويه وجب قبول خبره وترك القياس به
وأن كان الراوى خلاف ذلك كان موضع الاجتهاد وذكر أن من
الصحابة من رد حديث أبى هريرة بالاجتهاد وحكى عن مالك ما
ذكرنا وأما أبو زيد فإنه قال إذا كان الراوى فقيها فيجب
قبول خبره الذى رواه وترك القياس به بكل حال وأما إذا كان
عدلا ولكن لم يكن فقيها مثل أبى هريرة وعمار وجابر وأنس
وأمثال هؤلاء فإذا خالف القياس لم يجب قبول خبره1 واحتج
المخالفون فى هذه المسألة أما من قدم القياس قال إن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن محل النزاع في هذه المسألة إذا لم يمكن تخصيص
أحدهما بالآخر وللعلماء فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أن يقدم خبر الواحد على القياس وهو لجمهور العلماء
منه الشافعي وأبو حنيفة ومالك والبيضاوي...........=
ج / 1 ص -359-
القياس
أثبت من الخبر لجواز الكذب والخطأ على الراوى ومثل هذا لا
يوجد فى القياس فكان القياس مقدما عليه ولأن القياس يخص
عموم الكتاب فلأن يترك به خبر الواحد أولى لأن خبر الواحد
أصوب من عموم الكتاب وقد قال بعضهم أن القياس لا يحتمل
تخصيصا بل لا يجوز تخصيصه وأما الخبر الواحد يحتمل التخصيص
وكان غير المحتمل أولى من المحتمل وقد قال أصحاب أبى حنيفة
فى تقديم الأصول على الخبر الواحد بأن الأصول مقطوع بها
والقياس غير مقطوع به وكان الدليل المقطوع به أولى من
الدليل المظنون واحتج من قدم خبر الواحد على القياس بإجماع
الصحابة فإنهم كانوا يتركون أحكامهم بالقياس إذا سمعوا
الخبر الواحد وروى أن أبا بكر رضى الله عنه نقض حكما حكم
به برأيه بحديث سمعه من بلال وترك عمر رأيه فى الجنين وفى
دية الأصابع بالحديث الذى نقل له وكذلك ترك رأيه فى ترك
توريث المرأة من دية زوجها بالحديث الذى رواه الضحاك بن
سفيان وترك ابن عمر رأيه فى المزارعة بالحديث الذى سمعه من
رافع بن خديج ونقض عمر بن عبد العزيز ما حكم به من رد
الغلة على البائع عند الرد بالعيب بالخبر الذى روى له أن
الخراج بالضمان وهذا شىء معروف منهم وعن بعض المشاهير من
الصحابة لقد كدنا نقضى برأينا وفيه خبر عن رسول الله فإن
قيل أليس أن ابن عباس قال لأبى هريرة حين روى عن النبى صلى
الله عليه وسلم:
"إذا استيقظ
أحدكم من نومه فلا يغمس يده فى الإناء حتى يغسلها ثلاثا
فإنه لا يدرى أين باتت يده"1 فقال ابن عباس فما تصنع بالمهراس والمهراس حجر عظيم كانوا يجعلون
فيه الماء ويتوضئون منه قلنا من قال له أبو هريرة يا ابن
أخى إذا حدثتك الحديث فلا تضربن له الأمثال ولأن ابن عباس
إنما أخبره عن عجزه عن استعمال الحديث لأنه رد الحديث فسقط
السؤال ولأن الخبر الواحد أصل القياس وأن القياس الذى
يعارض الخبر أصله الخبر أما المتواتر والآحاد فإن قالوا:
نحن إنما نقدم القياس على الخبر الواحد إذا كان القياس
قائما على دليل قاطع والجواب أن هذا التفصيل لم يعرف من
المخالف فى هذه المسألة إنما هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني: يقدم القياس على خبر الواحد ونسب هذا القول
لمالك.
الثالث: الوقف بمعنى أنه لا يعمل بواحد منهما حتى يقوم
العمل على ترجيحه وهو لأبي بكر الباقلاني انظر نهاية السول
3/164, 165 المحصول 2/211, 213, 214 إحكام الأحكام للآمدي
2/169 حاشية الشيخ محمد مخيت المطيعي 3/165 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 3/124.
1 أخرجه البخاري الوضوء 1/316 ح 162 ومسلم الطهارة 1/233 ح
87/278.
ج / 1 ص -360-
شىء
ذكره أبو الحسين البصرى ولم يعرف له متقدم وعلى أنا بينا
أن خبر الواحد فى العمل منزلة الخبر المتواتر لأنه يوجب
العمل بدليل مقطوع به فإذا كان الخبر المتواتر فى العمل
مقدما على القياس فكذلك الخبر الواحد يكون كذلك أيضا وهذا
لأن الخبر إذا ثبت يصير مقتضاه كأنه سمع من النبى صلى الله
عليه وسلم وإذا صار كذلك لم يكن بد من تقديمه على القياس
وهم يقولون على هذا إنما يجرى مجرى ما سمع من النبى صلى
الله عليه وسلم فى وجوب العمل وكذلك القياس وقد قال بعض
أصحابنا أن إثبات الحكم بخبر الواحد يستند إلى قول النبى
صلى الله عليه وسلم بلا واسطة وإثباته بالقياس مستند إلى
قوله بواسطة فكان إثباته بالخبر أولى وهم يقولون على هذا
أنه وأن كان لا يتأتى الحكم بالخبر هذه المزية فإن لإثبات
الحكم بالقياس مزية أخرى وهى استناده إلى أصل معلوم بدليل
قطعى قالوا: وكما أن العمل بخبر الواحد مستند إلى أصل
معلوم وهو ما دل على وجوب العمل بخبر الواحد فكذلك الحكم
بالقياس مستند إلى ما دل على العمل بالقياس وهو معلوم وكما
أن العمل بالقياس مفتقر إلى الاجتهاد فى الإمارة فالحكم
بالخبر الواحد يفتقر إلى الاجتهاد فى أحوال المخبرين فهما
متساويان فى هذه الجهة وهذا من أقوى ما يحتج به المخالف
غير أن هذا الدليل موجب التعارض بين خبر الواحد والقياس
وأن يكون الأمر فى تقديم أحدهما على الآخر مردود إلى
القياس والمعتمد لنا هو الدليل من إجماع الصحابة والدليل
لا بأس به على حسب ما ذكرناه وأما قولهم أن السهو والغلط
له مدخل فى الخبر جواز ذلك كجواز كون الحكم غيره متعلق
بالإمارة فى القياس وأن كان الأغلب صدق الراوى وتعلق الحكم
بالإمارة وأما قولهم أنه يخص عموم الكتاب بالقياس قلنا إذا
خصصنا العموم بالقياس لم نكن تاركين للعموم أصلا بالقياس
وليس كذلك فى مسألتنا لأنه يؤدى إلى ترك الخبر أصلا
بالقياس وأما قولهم أن الخبر محتمل قابل للتخصيص والقياس
بخلاف ذلك قلنا الكلام فى خبر نص يرد ويخالفه القياس وفى
هذه الصورة لا احتمال واعلم أنه قد قال بعض الأصوليين
ينبغى أن يضاف إلى الاجتهاد إذا تعارض الخبر الواحد
والقياس على الأصول المقطوع بها وهذا ليس بصحيح لأنا بينا
معتمدنا إجماع الصحابة وعلى أن الترجيح للخبر بالدليل
الثانى الذى قد بيناه ويمكن أن يقال أيضا أن دلالة الألفاظ
لا تستنبط من غيرها وأما القياس فهو مستنبط من الألفاظ
وكانت أقوى فى الدلالة إلى هذا الموضع انتهت هذه المسألة
وهى مع مالك بن أنس ومن تابعه أن ثبت وأما الكلام مع أصحاب
أبى حنيفة فإنهم قد زعموا أن الخبر.
ج / 1 ص -361-
الواحد
مفهوم على القياس وقد نص عليه أبو حنيفة فى كتاب الصوم
وغيره ولكنهم زعموا أن الخبر الواحد إذا خالف الأصول لم
تقبل وزعموا أن خبر القرعة وخبر المصراة خالف الأصول وكذلك
خبر الشاهد واليمين وزعموا أن خبر القهقهة وخبر الوضوء
بنبيذ التمر خالف القياس فإنا نقول نعوذ بالله من الطمع
الكاذب وأى مخالفة للأصول فى هذه المسائل التى قالوها وهل
ورد أصل مقطوع به فى صورة مسألة القرعة أو صورة مسألة
المصراة أو صورة مسألة الشاهد واليمين بخلاف مواجب الأخبار
الواردة فى هذه المسائل وإنما غاية قولهم أن قياس هذه
الحادثة على أمثالها يقتضى أن يكون الحكم كذا وهو أن يكون
الحكم على خلاف ما ورد به الخبر هل هذا إلا رد الخبر بمحض
القياس ونقول أن الحديث إذا ثبت صار أصلا فى نفسه إلا أنه
ربما لا يكون له من حديث المعنى يظهر فى سائر أصول الشرع
وعدم النظير لا يبطل حكم الشىء وإنما يبطله عدم الدليل
وإنما صارت الأصول أصولا لقيام الدلالة على صحتها وثبوتها
فإذا ثبت الخبر صار أصلا مثل سائر الأصول فلو وجب تركه
لسائر الأصول لوجب ترك سائر الأصول به فإذا لم يلزم أحدهما
لم يلزم الآخر وعلى أنهم قد استعملوا فى مذهبهم من هذا ما
أنكروه من مذهبنا وهو قولهم الخبر فى الوضوء بنبيذ التمر
وفى إيجاب الوضوء بالقهقهة وأما الذى قالوا: أن ذلك الخبر
مخالف للقياس فى هذا مخالف الأصول تمنى باطل لأن دعوى خلاف
الأصول فى المسائل التى ذكروها لا يصح إلا من حيث المعنى
وهو محض القياس والعجب أنه كيف صار القول واجبا بهذه
الأخبار التى ذكروها أعنى فى القهقهة والوضوء بنبيذ التمر
وما أشبه ذلك مع ضعف أسانيدها وبطل القول بالأخبار الصحيحة
فى مسألة المصراة والشاهد واليمين والعرايا والقرعة وما
أشبه ذلك فهل هذا لا تحكم فى الدين واختيار قول غير أولى
بأهل العلم وذوى العقول يدل على ما بينا أن أصل الأصول
وأقواها هو الكتاب وقد بين الله تعالى ما حرم من النساء
وعدده تعديدا ثم قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} فلم يمتنع علماء السلف والخلف من قبول الخبر فى تحريم نكاح المرأة
على عمتها وعلى خالتها وأن كان الظاهر أنه مخالف الآية
وقال تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ
يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً
مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ }
فقبلنا نحن الخبر وكذلك أهل العراق فى تحريم كل ذى ناب من
السباع وكل ذى مخلب من الطير وقبل عمر رضى الله عنه حديث
حمل بن مالك بن النابغة فى الجنين وقضى به وقال لو لم ينسخ
هذا لقضينا فيه بغيره فقبل الحديث وأن كان مخالفا.
ج / 1 ص -362-
لما
غفله من معانى الأصول وذلك المعنى فى الأصول هو أن النبى
صلى الله عليه وسلم أوجب فى النفس مائة من الإبل فلا يعدو
الجنين أن يكون حيا فيكون جنينا من الإبل أو يكون ميتا فلا
يكون فيه شىء إلا أنه لما بلغه الخبر عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم رآه أصلا فى نفسه فقبله ولم يضرب به سائر
الأصول وقبل أيضا خبر الضحاك بن سفيان الكلابى فى توريث
المرأة من دية زوجها وقد كان يرى خلاف ذلك تمسكا بظاهر
القرآن وذلك لأن قوله تعالى:
{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} ظاهره يقتضى أنها إنما ترث ما كان ملكه الزوج والزوج لم يملك الدية
قط لأنها وجبت بموته وهذه دلائل بينة على خلاف ما قالوه
وقد ذكر أبو زيد فى أصوله أقسام الرواة الذين تقبل روايتهم
ويحكى على ما ذكروه وقد قال هم أربعة أقسام أما المشهورون
فنحو الخلفاء الراشدين والعبادلة وأما المجهولون فنحو معقل
بن يسار وسلمة بن المحنق ووابصة بن معبد وسائر الأعراب
الذين لم يعرفوا إلا بما رووا ثم المخبر المشهور حجة ما لم
يخالف القياس الصحيح فإذا خالف نظر فإن كان الراوى من أهل
الفقه والرأى والاجتهاد رد القياس بخبره وأن لم يكن من أهل
الفقه والرأى رد خبره بالقياس أما الأول فلأن الخبر أولى
فى الجملة من القياس لأن الخبر فى الأصل حجة يقينا وإنما
وقع الإسناد فى نقل الناقل والرأى فى أصله إشكال فى حق
الإصابة ولأن شبهة الرأى من حيث أنه لعلة لم يبلغ حيث كان
الحق وشبهة الراويه من حيث قصد الكذب أو اعتراض نسيان
فيكون لا بحالة لعارض وكان دون الأول قال وقد اشتهر من
الصحابة ترك الرأى بالجهر وذكر بعض ما ذكرنا قال وأما
الراوى الذى ليس من أهل الفقه فذكر أنه قد ثبت ثبوتا ظاهرا
الرد على أبى هريرة بالقياس وكان هو من المشهورين المعدلين
إلا أنه لم يكن فقيها روى أبو هريرة الوضوء عما مسته النار
فقال ابن عباس ألسنا نتوضأ بالحميم فرد بالقياس ولم يشتغل
بالسند وقال أبو هريرة وأن كان قال يا ابن أخ إذا رويت لك
الحديث فلا تضرب له الأمثال فهو لا يكون فى مقابلة ابن
عباس رضى الله عنهم وقد كان عمر رضى الله عنه يستشير فى
أحكام الحوادث وكان يقول له: غص يا غواص شنشذة أعرفها من
أحزم وهذا مثل تمثل به العرب يشبه الولد بوالده قال وروى
أبو هريرة أن ولد الزنا شر الثلاثة1 فقرأت عائشة:
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وقالت عائشة رضى الله عنها فيه إلا تعجبون من هذا وكثرة حديثه عن
النبى صلى الله عليه وسلم كان النبى صلى الله عليه وسلم
يحدث حديثا لو عده عاد لأحصاه وقال إبراهيم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود العتق 4/28 ح 3063 وأحمد المسند 2/416 ح
8118.
ج / 1 ص -363-
النخعى
كانوا يأخذون من حديث أبى هريرة ويدعون قال فدل ما قلناه
أن العدل ترد روايته بالقياس إذا لم يكن فقيها لأن أبا
هريرة ما كان يشكل على أحد عدالته وكثرة صحته ومع ذلك رد
حديثه بالقياس لأنه لم يكن من أهل الاجتهاد ووجه ذلك أنهم
كانوا يستجيزون نقل الحديث بالمعنى فلما ظهر ذلك منهم
احتمل كل حديث أن يكون الراوى نقل بما فقه من المعنى فإذا
لم يكن فقيها صار متهما بالغلط لما خالف لفظه معنى القياس
الصحيح فالتحق برواية الصبى والمغفل فيرد وأما إذا كان
الراوى فقيها لم يتهم وعلم أنه ما نقل ما يخالف القياس إلا
عن معرفة صحيحة وهذا لأنه عالم بالرأى وطريقه فلا يظن به
تركه إلا بنص محكم قال ولهذا رد علماؤنا حديث المصراة
وحديث العرايا لأنه لم يروهما فقيه وإذا ثبت ما قلنا فى
رواية أبى هريرة فمن لم يبلغه فى المنزلة شهرة وصحة بما
قلنا إلا أن يكون حديثا عمل به السلف وقد كانوا أهل فقه
وتقوى فيدل قبولهم الخبر على علمهم بصحته من طريق آخر.
قال وأما المجهول من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين فخبره
حجة أن عمل به السلف وكذلك أن سكتوا عن الرد وقد ظهر ذلك
الخبر فيما بينهم وأما قبل الظهور فيعمل به أن وافق القياس
ولا يعمل به أن خالف القياس لأنه فى الرتبة دون أبى هريرة
بكثير وقال محتمل أن يقال أن خبر المشهور الذى ليس بفقيه
حجة ما لم يخالف القياس وخبر المجهول مردود ما لم يؤيد
بالقياس ليقع الفرق بين الذى ظهرت عدالته والذى لم تظهر
ليكون رد العدل يعارض تهمة وقبول قول غير العدل يعارض دليل
وذكر قول عمر رضى الله عنه فى خبر فاطمة بنت قيس ذكرت ما
قاله فى هذا الفصل على اختصار وتركت بعض قوله وهذا الرجل
قد بنى كلامه فى هذا الفصل على التصرف فى الصحابة والإبهام
ببعض الطعن على طائفة منهم ومن بعضهم بعدم العدالة ووسم
طائفة منهم بكونهم مجهولين وهذا الذى قاله جرأة عظيمة ولا
أدرى كيف وقع الأغضاء عنه والمدامجة فى حقه فى برار أهل
السنة وجميع الصحابة قد عدلهم الله تعالى فى آى كثيرة من
كتابه فقال تعالى:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} والمراد من الذين اتبعوهم بإحسان من مسلمى الفتح ومن أسلم من أهل
البوادى والأعراب وقال تعالى:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] الآية وقال تعالى:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ}
[الفتح: 18] الآية.
ج / 1 ص -364-
وكذلك
وردت أخبار كثيرة فى فضل الصحابة وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا تذكروا أصحابى إلا بخير فلو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهبا
ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه"1 والروايات فى جنس هذا تكثر وأما أبو هريرة رضى الله عنه لقد كان
من المهاجرين من علية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفضائله كثيرة وحسب السامع ما صح عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"اللهم حبب عبدك أبا هريرة إلى عبادك المؤمنين"2 وقد كان دعا له بالحفظ واستجاب الله تعالى فيه ذلك حتى انتشر فى
العالم ذكره وحديثه وقال إسحاق الحنظلى ثبت عندنا فى
الأحكام ثلاثة ألف حديث روى أبو هريرة رضى الله عنه منها
ألف وخمسمائة وقال البخارى روى عنه سبعمائة من أولاد
المهاجرين والأنصار وقد روى جماعة من الصحابة رضى الله
عنهم عنه وقد كان ابن عباس رضى الله عنه يأخذ الحديث عنه
وعن أمثاله لأنه كان صبيا فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم
وخبر الوضوء مما مست النار3 منسوخ وقول ابن عباس ما قاله
كان من طريق بينه أنه منسوخ وأما عائشة رضى الله عنها
فإنها كانت تنكر عليه سرده الحديث سردا وما كانت تتهمه
بالكذب ومعاذ الله أن يظن ذلك بأحد من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقد كان الزبير وجماعة ينكرون كثرة الرواية
عن النبى صلى الله عليه وسلم مخافة السهو والغلط وقد ورد
أن عمر رضى الله عنه حبس ابن مسعود وجماعة لكثرتهم الرواية
عن النبى صلى الله عليه وسلم وقيل أنه طعن وتوفى وهم فى
حبسه ثم أطلقوا وقولهم أن أبا هريرة رضى الله عنه لم يكن
فقيها قلنا لا بل كان فقيها ولم يعدم شيئا من آلات
الاجتهاد وقد كان يفتى فى زمان الصحابة رضى الله عنهم وما
كان يفتى فى ذلك الزمان إلا فقيه مجتهد وعلى أنه أن لم يكن
من المعروفين بالفقه فقد كان معروفا بالضبط والحفظ والتقوى
ولم يقل أحد من الأئمة أن الفقه فى الراوى شرطا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري فضائل الصحابة 7/25 ح 3673 ومسلم فضائل
الصحابة 4/1967 ح 221/2540 بلفظ
"لا تسبوا
أصحابي".
2 أخرجه مسلم فضائل الصحابة 4/1938 ح 158/2491 وأحمد
المسند 2/428 ح 8279.
3 قال أكثر أهل العلم لا وضوء فيما مسته النار وروى ذلك عن
الخلفاء الراشدين وأبي بن كعب وابن عباس وعامر بن ربيعة
وأبي الدرداء وأبي إمامة وعامة الفقهاء وذهب جماعة من
السلف إلى إيجاب الوضوء مما غيرت النار منهم ابن عمر وزيد
بن ثابت وأبو طلحة وابو موسى وأبو هريرة وأنس وعمر بن عبد
العزيز وأبو مجلز وأبو قلابة والحسن والزهري انطر المغني
لابن قدامة 1/184.
ج / 1 ص -365-
لقبول
روايته.
ببينة: أنه لما لم يشترط فى الشهادة مع أن
الاحتياط فيها أكثر والاستقصاء فيها أشد فكيف يعتبر فى
الرواية وقد جرى فيها من المساهلة ما لم يجر فى الشهادة.
وقولهم إنهم كانوا ينقلون بالمعنى قلنا وكيف يخفى معنى
الحديث على مثل أبى هريرة ودونه وقد كانت الأخبار جاءت
بلسانهم التى عرفوها وعرفوا عليها فعله باللسان يمنع من
اشتباه المعنى وعدالته وتقواه دافع لتهمة المزيد والنقصان
عليه وأن قال يجوز أن يغلط فهذا أمر مثله موجود فى الفقيه
وغير الفقيه وموجود فى الشهادات ومع ذلك لم يلتفت إليه فدل
ما ذكرناه أن ما قاله هذا الرجل باطل.
وعندى أن من قال أن خبر الواحد على الجملة لا يقدم على
القياس أعذر ممن قال مثل هذه المقالة التى مرجعها إلى
التصرف فى الصحابة وتطريق الناس للطعن عليهم والغمز فيهم
ونسأل الله تعالى العصمة من مثل هذه المقالة الوحشة والعجب
أنه يذكر فى أبى هريرة رضى الله عنه ما يذكر وقد نص صاحبهم
أنه ترك القياس فيما إذا أفطر ناسيا وراوى ذلك الخبر أبو
هريرة رضى الله عنه فقد خالف صاحبه والذى يعتنى كل هذا
الاعتناء للذب عن مذهبه وأما حديث عمر رضى الله عنه فى
فاطمة بنت قيس فالمراد بذلك فى السكنى وقد ذكرنا فى
الخلافيات الفروع والله أعلم.
مسألة: لا يجب عرض الخبر على الكتاب ولا حاجة بالمخبر إلى
إجازة الكتاب.
وذهب جماعة من أصحاب أبى حنيفة إلى أنه يجب عرضه على
الكتاب1 فإن لم يكن فى الكتاب ما يدل على خلافه قبل وإلا
فيرد وذهب إلى هذا كثير من المتكلمين.
وقال أبو زيد فى أصوله خبر الواحد ينتقد من وجوه أربعة
العرض على كتاب الله ورواجه بموافقته وزيافته بمخالفة ثم
على السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى
السنة التى ثبتت بطريق الاستفاضة ثم العرض على الحادثة فإن
كانت الحادثة مشهورة لعموم البلوى بها والخبر شاذا كان ذلك
زيافة فيه وكذلك أن كان حكم الحادثة بما اختلفت بين السلف
اختلافا ظاهرا ولم ينقل عنهم المحاججة بالحديث كان عدم
الحجاج زيافة فيه وقال أما الأول فكما روى عن النبى صلى
الله عليه وسلم قال:
"كل شرط ليس فى كتاب الله فهو باطل وأن كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 3/173 المحصول 2/215 حاشية الشيخ محمد
بخيت المطيعي 3/173 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
3/129.
ج / 1 ص -366-
مائة شرط"1 أى كان حكمه بخلاف ما فى كتاب الله عز و جل وروى عن النبى صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "إذا روى لكم عنى حديث فاعرضوه
على كتاب الله تعالى فما وافق فاقبلوه وما خالف فردوه"2
وأن كتاب الله تعالى ثابت بيننا وغير الواحد ثابت ثبوتا
فيه شبهة وكان رد ما فيه شبهة باليقين أولى من رد اليقين
به قال وسواء عندنا خالف الخبر من الكتاب أصله أو عمومه أو
ظاهره بأن حمله على المجاز وهذا لأن العام عندنا بوجوب
العلم بعمومه يقينا كالخاص ولأن متن العام من كتاب الله
تعالى ثابت يقينا ومتن خبر الواحد فيه شبهة قال وأن كان
معنى المتن لا شبهة فيه يعنى به الخبر لواحد وفى متن
الكتاب شبهة لاحتماله الخصوص وكان متن الكتاب بقوة بثبوته
أولى من ترجيح غير الواحد بقوة ثبوته لأن المتن قالب
المعنى وقوامه فيجب طلب الترجيح من قبله أولى ثم إذا
استويا فى جهة المعنى وجه قولهم فى هذا أن خبر الواحد
يقتضى الظن وعموم الكتاب يقتضى القطع ولا يجوز العدول عما
يقتضى القطع إلى ما يقتضى الظن واستدلوا أيضا بالنسخ فإنه
لا يجوز نسخ الكتاب بخبر الواحد كذلك تخصيصه أيضا لا يجوز
لأن كل واحد منهما عدول إلى مظنون غير معلوم وكذلك السنة
الثابتة بالتواتر والاستفاضة أو الإجماع لأن هذه الأشياء
فى إفادة العلم بمنزلة الكتاب.
قال أبو زيد ففى هذا الانتقال علم كثير وصيانة للدين بليغة
فأكثر الأهواء والبدع كانت من قبل العمل بخبر الواحد
وقبوله اعتقادا أو عملا بلا عرض له على الكتاب والسنة
الثابتة ثم تأويل الكتاب لموافقة خبر الواحد وجعل المتبوع
تبعا وبناء الدين على ما لا يوجب العلم يقينا فيصير الأساس
علما بشبهة فلا يزداد به إلا بدعة وكان هذا الضرر بالدين
أعظم من ضرر من لم يقبل خبر الواحد لأن هذا الرجل إنما رد
خبر الواحد بشبهة الكذب وتمسك بقياس أو استصحاب حال وأما
هذا الآخر جعل خبر الواحد أصلا وعرض كتاب الله عليه وبنى
دينه على ما لا علم به يقينا فكان القول الوسط العدل أن
يجعل كتاب الله تعالى أصلا فهو الثابت يقينا وخبر الواحد
مرتبا عليه يعمل به على.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النسائي الطلاق 6/134 باب خيار الأمة تعتق وزوجها
مملوك وابن ماجه العتق 2/842 وأحمد المسند 6/205 ح 25558
وأخرجه البخاري الكتاب 5/225 ح 2563 بلفظ
"أيما شرط كان ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مئة شرط" ومسلم العتق 2/1141 ح 6/1504 بلفظ
"من اشترط شرطا..".
2 قال الحافظ العجلوني هو موضوع انظر كشف الخفاء للحافظ
العجلوني 1/89 - 90 ح 220.
ج / 1 ص -367-
موافقته ويرد إذا خالفه ثم القياس بعده مرتبا عليه يعمل به
على موافقته ويصار إليه إذا لم يوجد فى الكتاب والسنة وذلك
الحكم الثابت بالقياس على خلافه فأما إذا وجد فى الكتاب
والسنة على خلافه فيرد وضرب أمثلة لهذا الذى ادعاه منها
القضاء بشاهد ويمين.
ومنها مسألة الرطب بالتمر فإن الخبر فى الأول ورد مخالفا
لكتاب الله تعالى والخبر الثانى ورد مخالفا للسنة
المتواترة وهو قوله عليه السلام التمر بالتمر مثلا بمثل
والفضل ربا1 وذكر فى المسألة الأولى كلامهم المعروف فى
مسألة الشاهد واليمين وذكر فى مسألة بيع الرطب بالتمر حرفا
زائدا وقال قوله مثلا بمثل للإباحة وقوله والفضل ربا إشارة
إلى فضل معتاد المماثلة المذكورة لا محالة وعليه الإجماع
وخبر الرطب بالتمر جعل الربا فضلا لتوهم حدوثه بمعنى طارىء
وهو الجفاف وهذا الفضل لا يعتاد المماثلة المبيحة فى
الأمثل لأن المماثلة المبيحة فى الأصل هى المماثلة عند
العقد وهذا الحديث يقتضى تحريم البيع مع قيام المماثلة
فيكون التحريم مع المماثلة خلافا للخبر ولأنه يقتضى ضم
مماثلة أخرى إلى المماثلة التى اقتضاها الخبر الأول فيكون
إثبات زيادة مماثلة فيقتضى النسخ وذكر خبر فاطمة بنت قيس
وقول عمر رضى الله عنه فى ذلك وذكر فى الحادثة التى يعم
بها البلوى ما ذكرنا من قبل قال ولهذا لا يقبل قول الواحد
فى رؤية هلال رمضان إذا كانت السماء مصحية لأن الناس لما
شاركوه فى النظر والمنظر والأعين كان اختصاص الواحد
بالرؤية خارجا عن العادة فأوجب تهمة فى خبره كذلك فى
الحادثة التى يعم بها البلوى فقد دفعت الحاجة إلى معرفة
حكمها وما كانوا يعملون بالرأى مع النص وكانت عنايتهم فى
طلب الحجة أشد من عنايتنا فلو كان النص ثابتا لاشتهر لديهم
مثل اشتهار الحادثة وحكمها فلما لم يشتهر أوجب تفرد الواحد
بالرؤية تهمة وذكر على هذا الوضوء من مس الذكر ومن حمل
الجنازة وخبر الوضوء مما مست النار قال وكذلك الحادثة التى
ظهر فيها الخلاف بين السلف ولم تجر المحاجة بالخبر فيدل
إعراضهم عن المحاجة بالخبر باطل على عدم ثبوته فإنه لو كان
ثابتا مما يحل الإعراض فى المحاجة به ولو وقعت المحاجة به
لظهر ولنقل الرجوع عن المخالفة إليه مما هو عادة المتدينين
فلما لم يظهر المحاجة بالخبر دل أن الخبر غير ثابت وبيان
هذا فى اختلاف الصحابة رضى الله عنهم فى زكاة مال الصبى
ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبى صلى الله
عليه وسلم قال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري البيوع 4/408 ح 2134 ومسلم المساقاة
3/1209 ح 79/1586 والدارمي البيوع 2/335 ح 2578 واللفظ له.
ج / 1 ص -368-
"ابتغوا فى أموال اليتامى كيلا تأكله الصدقة"1 فإنه لم يرو عنهم المحاجة بهذا الخبر دل أنه غير ثابت وكذلك
اختلاف الصحابة فى عدد الطلاق أنها بالرجال أو بالنساء
ورويتم أنه عليه السلام قال:
"الطلاق
بالرجال"2 ولم يجزم بحاجة فثبت أنه مخترع موضوع هذا آخر ما ذكره أبو زيد
وسمى هذا الباب باب الانتقاد للخبر الواحد أما الدليل على
صحة ما ذكرنا من أن الخبر إذا ثبت لا يجب عرضه على الكتاب
لقبوله وكان تخصيص عموم الكتاب به جائز نقول قد قال الله
تعالى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
يُوحَى} [النجم: 3, 4] فأخبر الله تعالى أن مصدر الخبر عن الوحى كما أن
مصدر الكتاب عن الوحى وقال تعالى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا}
[الحشر: 7] وقال سبحانه وتعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] فأمر باتباع سنن الرسول كما أمر باتباع آى كتاب وإذا
كان كذلك وجب قبول ما ثبت عنه ولم يجز التوقف عنه إلى أن
يعرض على الكتاب وهذا لأنه حجة فى نفسه فلا يجب عرضه على
حجة أخرى حتى يوافقها أو يخالفها وقد قال الشافعى رحمه
الله لا يجب عرضه على الكتاب لأنه لا يتكامل شرائطه إلا
وهو غير مخالف للكتاب فإن قالوا: فما قولكم إذا خالف قلنا
أنتم تتوهمون أنه مخالف ولا مخالفة وقد ضربتم أمثلة فى تلك
المسائل لا مخالفة بين الكتاب والسنة وقد أجبنا عما قالوه
فى مسائل الخلافيات للفروع وخبر القضاء بالشاهد واليمين لا
يمسه الكتاب ولا هو يمس الكتاب وكل واحد منهما فى شىء آخر
دون صاحبه وكذلك خبر سعد بن أبى وقاص فى بيع الرطب بالتمر
لا يخالف الخبر المشهور الوارد فى الربا لأن هذا الخبر
الخاص يدل على اعتبار المماثلة فى هذا الموضع الخاص حاله
الجفاف أعدل الحالين وإذا بينا المماثلة على حالة الجفاف
بين عدم المماثلة عند العقد وقد قررنا ما فى كتاب الاصطلام
ذلك وأما الخبر الذى يروون من الأمر بعرض السنة على الكتاب
فهو خبر رواه يزيد بن ربيعة عن أبى الأشعث عن ثوبان ويزيد
بن ربيعة مجهول ولا يعرف له سماع من أبى الأشعث وإنما يروى
أبى الأشعث عن أبى أسماء الرحبى عن ثوبان فالحديث منقطع
وفيه رجل مجهول وحكى الساجى عن يحيى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ الزكاة 1/251 ح 12 والطبراني في
الأوسط 4/264 ح 4152 بلفظ "اتجروا في مال
اليتامى.." انظر نصب الراية 2/332 انظر تلخيص الحبير 2/167 ح 7.
2 أخرجه البخاري الفتن 13/7 ح 7056 ومسلم الإمارة 3/1470 ح
41/1709.
ج / 1 ص -369-
ابن
معين أنه قال هذا حديث باطل وضعته الزنادقة ويحيى بن معين
أبو زكريا هو علم هذه الأمة فى علم الحديث وتركته الرواة
وهو الطود المنيع وهو الذى كان ينفى الكذب عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحين توفى بالمدينة وحمل على نعش النبى
صلى الله عليه وسلم وكان رجل يمشى قدام الجنازة ويقول: هذا
الذى ينفى الكذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحفظ
سنته وأخباره والعجب من هذا الرجل أنه جعل هذا الباب باب
نقد الأحاديث ومتى سلم له ولأمثاله بنقد الأحاديث وإنما
نقد الحديث لا يعرف الرجال وأحوال الرواة ووقفت على كل
واحد منهم حتى لا يشذ عنه شىء من أحواله التى يحتاج إليها
ويعرف زمانه وتاريخ حياته ووفاته ومن روى هو عنه ومن صحب
من الشيوخ وأدركهم ثم يعرف تقواه وتورعه فى نفسه وضبطه لما
يرويه ويقظة رواياته وهذه صنعة كبيرة وفن عظيم من العلم
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:
"لا تنازعوا الأمر أهله"1 وهذا الرجل أعنى الدبوسى وأن كان قد أعطى حظا من الغوص فى معانى
الفقه على طريقة اختارها لنفسه ولكن لم يكن من رجال صنعة
الحديث ونقد الرجال وإنما كان غاية أمره الجدال والظفر
بطرق من معانى الفقه لو صحت أصوله التى يبنى عليها مذهبه
ولكن لم يحتمل الأساس الضعيف من البناء عليه لا جرم لم
ينفعه ما أعطى من الذكاء والفهم إلا فى مواضع يسيرة أصاب
فيها الحق وأما فى أكثر كلامه وغايته تراه يبنى على قواعد
ضعيفة ويستخرج بفضل فطنته معانى لا توافق الأصول ولم
يوافقه عليها أحد من سلف أهل العلم ثم يحمل عجبه برأيه على
خوضه فى كل شىء فتراه دخالا فى كل من هجوما على كل علم وأن
كان لا يحسنه فيهجم ويعتز ولا يشعر أنه يعثر.
وقد اتفق أهل الحديث أن نقد الأحاديث مقصور على قدم
مخصوصين فما قبلوه فهو المقبول وما ردوه فهو المردود وهم
أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيبانى وأبو زكريا يحيى بن
معين البغدادى وأبو الحسن على بن عبد الله المدينى وأبو
يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلى وأبو عبد الله محمد بن
إسماعيل البخارى وأبو زرعة عبد الله بن عبد الكريم الرازى
وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيرى وأبو حاتم محمد بن
إدريس الحنظلى وأبو داود سليمان بن الأشعث السجستنانى وأبو
محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمى ومثل هذه الطبقة يحيى
بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدى والثورى وابن المبارك
وشعبة ووكيع وجماعة يكثر عددهم وذكرهم علماء الأمة فهؤلاء
وأشباههم أهل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الفتن 13/7 ح 7056 ومسلم الإمارة 3/1470 ح
41/1709.
ج / 1 ص -370-
نقد
الأحاديث وصيارفة الرجال وهم المرجوع إليهم فى هذا الفن
وإليهم انتهت رئاسة العلم فى هذا النوع فرحم الله امرأ عرف
قدر نفسه وقدر بضاعته من العلم فيطلب الربح على قدره وإنما
جرينا الكلام إلى هذا لأنه كان قد ذكر فى كلامه أن فى هذا
النقد علما كثيرا وصيانة للدين عن الأهواء والبدع واعلم أن
الخطة الفأصلة بيننا وبين كل مخالف أننا نجعل أصل مذهبنا
الكتاب والسنة ونستخرج ما نستخرج منهما ونبنى ما سواهما
عليهما ولا نرى لأنفسنا التسلط على أصول الشرع حتى نقيمها
على ما يوافق رأينا وخواطرنا وهواجسنا بل نطلب المعانى فإن
وجدناها على موافقة الأصول من الكتاب والسنة أخذنا بذلك
وحمدنا الله تعالى على ذلك وأن زاغ بنا زائغ ضعفنا عن سواء
صراط السنة ورأينا أنفسنا قد ركبت البنيان وبركت الجدد
اتهمنا آراءنا فرجعنا بالآية على نفوسنا واعترفنا بالعجز
وأمسكنا عنان العقل لئلا يتورط بنا فى المهالك والمهاوى
ولا يعرضنا للمعاطب والمتالف وسلمنا الكتاب والسنة عليها
وأعطينا المقادة وطلبنا السلامة وعرفنا أن قول سلفنا من أن
الإسلام قنطرة لا تعبر إلا بالتسليم.
وأما مخالفونا فجعلوا قاعدة مذاهبهم المعقولات والآراء
وبنوا الكتاب والسنة وطلبوا التأويلات المستكرهة وركبوا كل
صعب وذلول وسلكوا كل وعر وسهل وأطلقوا أعنة عقولهم كل
الإطلاق فهجمت بهم كل مهجم وعثرت بهم كل عناء ثم إذا لم
يجدوا وجها للتأويل طلبوا رد السنة بكل حيلة يحتالونها
ومكيدة يكيدونها ليستقيم وجهة رأيهم ووجهة معقولهم فقسموا
الأقسام ونوعوا الأنواع وعرضوا الأحاديث عليها فما لم
يوافقها ردوها وأساءوا الظن بنقلتها ورموهم بما نزههم الله
تعالى عنه وهذا الذى نحن فيه وهو التوقف عن قبوله السنة
إلى أن يعرض الكتاب والأصول أحد تلك الأقسام على ما قاله
هذا الرجل ولسنا نخصه بهذه الآية بل هو متبع فى هذا الأمر
ناسج على منوال ثابت قبله سالك سبيلا وطيت له ولأمثاله فإن
عيسى بن أبان البصرى هو المخترع لهذا ولذلك نقل عنه التصرف
فى الرواة من الصحابة رضى الله عنهم فإنه قال أن كان
الراوى متساهلا فى الرواية لم يقدم خبره على القياس مثل
أبى هريرة وذويه وقد باء ذلك الرجل بوبال نصب هذه الأخبار
وخبر هذه المهواة وبسط هذه الشبكة وطرح هذا الشوك فى طريق
الإسلام وهذا أن كان فيه ما فيه لكن العلة فى أمر الفروع
أسهل والشرع فيه أصح وإنما الشأن فيما يرجع إلى العقائد فى
أصول التوحيد وصفات البارى عز اسمه وأمر القضاء والقدر
وعند ذلك يأتى ما يضم السمع والعمى والبصر ولكل
ج / 1 ص -371-
مرتبة
وعن كل مسألة والله تعالى أعدل وهو أحكم من أن يعلم ضعفنا
وقصور رأينا وقلة أفهامنا ثم تخلينا وعقولنا أو يجعل ذلك
أصل دينه وقاعدة سبيله ونسأل الله تعالى العصمة فهو
المستعان ومنه التأييد والتوفيق بمنه رجعنا إلى ما كنا
فيه.
أما الخبر الذى رووه من الأمر بعرض السنة على الكتاب فقد
ذكرنا الكلام عليه وأما الذى ذكروه من قوله صلى الله عليه
وسلم:
"كل شرط ليس فى كتاب الله تعالى فهو باطل وأن كان مائة شرط" فالمراد من كتاب الله هو حكم الله تعالى وتقدس وعندنا كل شرط لم
يحكم الله تعالى بصحته فى كتاب أو سنة فهو باطل.
وقولهم: أن الكتاب يقين والسنة فيها شبهة.
قلنا الخبر فى العمل يقين أيضا وقد بينا فى كتاب الانتصار
أن عرض القوم ليس هو عرض السنة على الأصول فإنا بحمد الله
تعالى لم نجد خبرا صحيحا يخالف الكتاب بل الكتاب والسنة
متوافقان متعاضدان وأن عرض سؤال سائل فى كتاب أو خبر فقد
أجاب عنه علماء السنة وقد ذكر ذلك الشىء فى كتاب مختلف
الحديث وأجاب عنه وذكر غيره أيضا ولكن غرض القوم ومرماهم
رد السنة وطى الأحاديث جملة وقد قال أبو حنيفة ما جاءنا عن
الله تعالى وعن رسوله فعلى الرأس والعين وهذا قول ثابت عنه
وهذا لفظ منصف معترف للانقياد للكتاب والسنة وهو ينفى ما
زعموه من التوقف إلى أن يعرض على الكتاب وقد روى ابن عيينة
عن سالم أبى النضر عن عبيد الله بن أبى رافع عن أبيه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة يأتيه الأمر مما أمرت به
أو نهيت عنه فيقول: لا ندرى ما وجدنا فى كتاب الله
اتبعناه"1
فبين صلى الله عليه وسلم أن الترفه والنعمة وترك طلب العلم
مجملة على هذا المقال فإن الاتكاء على الأريكة شأن
المترفين والمنعمين وقد قال الله تعالى فى صفة أهل النار:
{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة:45] وأما مسألة ورود الخبر فيما يعم به البلوى وقد ذكرنا
من قبل فلا يفيد وقد بينا وجود المناقضة فى ذلك ودللنا على
فساد ما قالوه بما فيه الغنية وأما ترك احتجاج الصحابة
بالخبر فليس فيه دليل على ما قالوه لأنه يحتمل أن يكون ذلك
لعدم بلوغ الخبر أياهم وعلى أن غرضه من ذلك الخبر الذى
ذكرناه فى مسألة زكاة الصبى وليس الخبر بذلك الأحكام الذى
يقتنع وأما الذى نسب إلينا من روايتنا عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود السنة 1994 ح 4605 والترمذي العلم 5/37 ح
2663 وقال حسن صحيح وابن ماجه المقدمة 1/7 ح 13.
ج / 1 ص -372-
"الطلاق بالرجال والعدة بالنساء"1 فنحن لا نثبت هذا الخبر وأما تخصيص عموم الكتاب بالسنة فهو جائز
عندنا لإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله تعالى:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ}
[النساء: 11] بقوله عليه السلام:
"إنا
معاشر الأنبياء لا نورث"2 وما روى
أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يرث
قاتل"3 أو لفظ هذا معناه.
فإن قالوا: أن فاطمة رضى الله عنها قد طلبت الميراث ولم
تقبل هذا التخصيص.
قلنا إنما طلبت التحلى لا الميراث وخصوا قوله تعالى:
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ}
[النساء: 12] وقوله:
{وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] بقوله عليه السلام لا يتوارث أهل ملتين حتى قالوا: لا
يرث الزوج من المرأة النصرانية ولا المرأة النصرانية من
زوجها وخصوا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
[النساء: 24] بما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال
لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها4 وخصوا أيضا قوله
تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] بخبر أبى سعيد فى منع بيع الدرهم بالدرهمين وخصوا
أيضا قوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
بخبر عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فى المجوس:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"5
والمجوس مشركون وقد خصوا وأمثال هذا تكثر.
فإن قالوا: أليس أن عمر رضى الله عنه قال لا ندع كتاب ربنا
ولا سنة نبينا بقول امرأة6.
قلنا يجوز أن يكون معناه لا ندع كتاب ربنا نسخا وهذا لأنه
لا يقال لما خص من القرآن أنه ترك القرآن إنما يقال لمن
ادعى النسخ وهذا لأن التخصيص مجراه فى الآية العامة والخبر
العام مجرى البيان على ما سبق ذكره وخرج النسخ على هذه
الآية تغير الحكم ورفعه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه.
3 تقدم تخريجه.
4 أخرجه البخاري النكاح 9/64 ح 5110 ومسلم النكاح 2/1029 ح
37/1408.
5 أخرجه مالك في الموطأ الزكاة 1/278 ح 42 والبيهقي في
الكبرى 9/319 ح 18654.
6 أخرجه مسلم الطلاق 2/1118 ح 46/1480 وأبو داود الطلاق
2/297 ح 2291.
ج / 1 ص -373-
وأما
قولهم أن خبر الواحد يفيد الظن والكتاب يقتضى القطع قلنا
نحن نعمل بخبر الواحد بطريق قطعى مفيد الحكم فهو مثل دليل
الكتاب فى العمل قالوا: أليس إنا نعلم قطعا ويقينا أن الله
تعالى قال وحكم بما يتضمنه الكتاب وفى خبر الواحد نظر أن
النبى صلى الله عليه وسلم قال ولا نعلمه والجواب أما نظن
أن النبى صلى الله عليه وسلم قال الذى قال فى خبر الواحد
وقام لنا الدليل القطعى على العمل بما يغلب على ظننا من
ذلك وكل هذا علم لأنا نعلم أنه غلب على ظننا صدق الراوى
ونعلم قيام الدليل على وجوب العمل فما ظنناه فثبت مساواة
الطريق إلى العلم بحكم الخبر طريقنا إلى العلم بعموم
الكتاب.
فإن قالوا: بما رجحتم حكم الخبر الواحد على ما يقتضيه
الكتاب من العموم.
قلنا بإجماع الصحابة على ما سبق وهو المعتمد والله أعلم.
واعلم أنه إذا ثبت الخبر فخلاف الصحابى إياه لا يوجب رده
وترك العمل به لأن الخبر حجة على كافة الأمة والصحابى
محجوج به كغيره1 قال الله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] وقال تعالى:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا}
[الحشر: 7] وهذا وارد من غير تخصيص لبعض الأمة دون البعض
وقد روينا عن الصحابة أنهم تركوا اجتهادهم وما صاروا إليه
بقول الصحابة وأما بغير الصحابى أولى هذا إذا احتمل الخبر
وجهين مثل ما فعله عمر رضى الله عنه فى خبر المتبايعين
وأما تخصيص الصحابى فلا نقبله ما لم يقم الدليل على
التخصيص وهو مثل قول ابن عباس فى المرتدة وقد سبق بيان هذا
والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 2/215, 216 نهاية السول 3/167 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 3/126.
[فصل]2 ونذكر الآن ما يقبل فيه خبر الواحد.
فنقول كل ما يقبله بالعمل يقبل فيه خبر الواحد فنقول كان
عبادة مبتدأة أو ركنا من أركانها أو خبر أو ابتداء نصاب أو
تقدير نصاب وقاله بعض أصحاب أبى حنيفة لا يقبل فيما ينتفى
الشبهة3 حكاه أبو بكر الرازى عن أبى الحسن الكرخى وقال أبو
عبد الله البصرى فعل هذا لا يقبل فى الحدود وقال هو لا
يقبل فى إسقاط الحدود ولذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 2/215, 216 نهاية السول 3/167 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 3/126.
2 بياض في الأصل.
3 التصريح على التوضيح 2/11 إحكام الأحكام للآمدي 2/168
روضة الناظر 115.
ج / 1 ص -374-
قالوا:
فى ابتداء النصب وفى أركان الصلوات وفرقوا بين ابتداء
النصب وبين توانى النصب فقبلوا الخبر الواحد فى النصاب
الزائد على خمسة أواق لأنه فرع ولم يقبلوا فى ابتداء نصاب
الفصلان والعجاجيل لأنه أصل واستدل من قال أنه لا يقبل خبر
الواحد فى الحدود لأن الحدود موضوعها فى الأصل على أن
الشبهة تسقطها وخبر الواحد يفيد الظن ولا يفيد العلم فلا
يجوز إيجاب الحد به لأن أقل أحوال الخبر الواحد يحصل معه
شبهة انتفاء العلم به وإيجاب الحدود مع الشبهة لا يجوز
وليس كالشهادة حيث ثبتت بها الحدود ولأن كانت تفيد الظن
ولا تفيد العلم لأن الحكم بالشهادة ثابت من طريق يوجب
العلم فإن قلتم ثبت بطريق يوجب العلم فإن قلتم ثبت وهو
الإجماع ونص القرآن وأما الحكم الذى يرد به خبر الواحد لم
يثبت بطريق يوجب العلم فإن قلتم ثبت بطريق يوجب العلم وهو
إجماع الصحابة فليس كما ظننتموه لأن إجماعهم إنما ابتناه
باستدلال يوجب علمية الظن ليس أنه وجد منهم صريح الإجماع
على ذلك حتى يكون موجبا للعلم وأما الشهادة فإن حكمها ثابت
بالنص الصريح من الكتاب فى إجماع الأمة وهما دليلان موجبان
للعلم وأما دليلنا وهو قول الأكثر من أصحاب أبى حنيفة وقد
روى ذلك نصا عن أبى يوسف واختاره أبو بكر الرازى ووجه ذلك
أن الدلائل التى دلت على قبول خبر الواحد لم تخص موضعا دون
موضع فنقول الحدود شرع عملى من الشرائع فجاز إثباته بخبر
الواحد دليله سائر الشرائع ولا وجه للفصل بين الحدود
والنصب وغيرهما وقولهم أن الحدود تنتفي بالشبهة قلنا هذا
لا يمنع من قبول خبر الواحد كما لا يمنع من قبول الشهادة
وأما عذرهم عن الشهادة فليس بشىء لأن الشبهة إنما جاءت
عندهم من عدم ثبوت العلم بخبر الواحد وهذا المعنى موجود فى
الشهادة وقولهم أن العمل بالشهادة وجب بدليل موجب للعلم
قلنا وكذلك الخبر الواحد وقد سبق بيان ذلك وقولهم أنه لم
ينقل عن الصحابة صريح الإجماع قلنا اتفاقهم على ذلك فعلا
صريح أو أعلى منه وقول من قال أن وجوب العمل بخبر الواحد
لم يكن بدليل مفيد للعلم قول مخالف لقول عامة الأصوليين بل
لا ندرى أنه قال به أحد منهم ثم نقول لهم قد قبلتم شهادة
أهل الذمة بعضهم على بعض فى الحدود فلا إجماع فى قبول
شهادة أهل الذمة فإن قالوا: قد أجمعوا أن النبى صلى الله
عليه وسلم رجم اليهوديين بشهادة اليهود وفعله صلى الله
عليه وسلم موجب للعلم قلنا ومن قال أن انعقد الإجماع على
ذلك والمعروف أنهما اعترفا بالزنا فرجمهما وإنما روى أن
اليهود شهدوا بطريق شاذ فسقط ما.
ج / 1 ص -375-
قالوه
جملة وثبت ما قلناه ويقال لهم ما قولكم فى القصاص هل ثبت
بخبر الواحد فإن قالوا: لا فمحال لأنه حق من حقوق الآدميين
فثبت كسائر حقوقهم.
ببينة: أن القياس حجة فيه فخبر الوالد
أولى وقد استدلوا بخبر مرسل فى قتل المسلم بالذمى واستدلوا
فى أن عمر قتل الجماعة بالواحد وهو دون الخبر الواحد وأن
قالوا: يقبل فقد قبلوا خبر الواحد فيما يسقط بالشبهات وأى
فرق بين القصاص والحدود والشبهة مؤثرة فى الكل فثبت أن قول
من قال أن الخبر الواحد لا يقبل فى الحدود قول مردود وليس
عليه دليل والعجب أنهم قالوا: لا يقبل أيضا فى ابتداء
النصب ويقبل فى توانى النصب وهذا تفريق مستعجب وإذا قبل فى
أحدهما فلا بد أن يقبل فى الآخر لأنه لا يظهر بينهما فرق
والله أعلم وعلى ما ذكرنا يقبل عندنا خبر الواحد فى
المعاملات والسنن والديانات وهذا قد بيناه من قبل.
ويقبل خبر الواحد فى رؤية هلال رمضان ولا يعتبر شهادة
جماعة يقع العلم بقولهم سواء كانت السماء مضحية أو متغيمة1
وعلى مذهب أبى حنيفة أن كانت السماء مضحية لا يقبل إلا
شهادة جماعة يقع العلم بقولهم2 واستدلوا بما ذكرنا لهم فى
المسألة الأولى وأما عندنا فيقبل لما بينا أنه شرع عملى من
الشرائع فيقبل فيه خبر الواحد دليله غيره من الشرائع
العملية وفى المذهب اختلاف القول أنه يقبل شهادة الواحد
ويعتبر شهادة الاثنين ولا حاجة إلى إبراز ذلك فى هذا
الموضع وأما الذين يقولون أن الناس لما ساووا هذا الواحد
فى النظر والمنظر والعين دل تفرده أنه كاذب قلنا مع هذا
يجوز أن يكون تفرد الواحد بروايته لحدة بصره أو علم منه
موضع الهلال ولم يعلمه غيره أو زيادة قلت: وحدة منه فى
النظر إلى أن يراه والباقون قد تفرقوا حين بم يروه لدقته
أو خفاء موضعه وإذا جاء واحد من هذه الوجوه فلا يرد خبره
ولا يلحق هذا الواحد من العمليات بالعلمى ولا يقطعه عن
إخوانه وأضرابه واعلم أن ما يرويه الراوى إذا تضمن إضافة
شرع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فحكمه ما بيناه وأما إذا
لم يتضمنه إضافة شرع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فإن كان
مما يجرى مجراه مثل إضافة الفتوى إلى المفتى فيقبل خبر
الواحد فيه أيضا وأما أن أخبر بحكم الحاكم فإنه لا يقبل
إلا بما يقبل بسائر الشهادات وأما الأخبار التى تحتاج
إليها الناس فى مصالحهم فيقبل فيها خبر الواحد وقد ذكرنا
صورها من قبل وقد ألحق بعض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر روضة الطالبين 2/245.
2 انظر الهداية للمرغيناني 1/131.
ج / 1 ص -376-
الأفعال بالأقوال فى ابتناء الشرع عليه وذلك مثل وضع الماء
فى الطريق على بعض الوجوه يبيح شربه مثل الخبر بذلك وكذلك
وضع الدرهم فى يد المسكين يبيح له أخذه وعلى هذا أمثال هذا
فى الأمور المتعارفة ومن ذلك بسط المائدة بين يدى الجماعة
ووضع الطعام وتقديمه يبيح لهم أكله وليس أمثال هذا على سنن
القياس ولكن بحكم العادات الجارية أجريت الأفعال فى هذا
مجرى الأقوال وعلى هذا التعاطى الجارى بين الناس فى
المعاملات من غير قول يوجد من الجانبين لا يحكم بحرمتها
ونقول يقع بها الملك ونقول تمليك وملك فعلى وقع على
التراضى ولا نقول أنه عقد بيع أو عقد إجارة على ما يقوله
أصحاب أبى حنيفة وإنما فعلنا ذلك لأن ذلك متعارف من قديم
الدهر إلى حديثه ولم ينقل فى ذلك إنكار من أحد ما ولأن فى
تحريم ذلك حرجا عظيما على الناس فجرى معدولا من سنن
القياس.
مسألة الأخبار على نوعين مسانيد ومراسيل:
فالمسانيد حجة مقبولة.
واختلفوا فى المراسيل وهى ما رواه التابعى عن الرسول صلى
الله عليه وسلم هل هى حجة أم لا فذهب الشافعى رحمه الله
إلى المرسل بنفسه لا يكون حجة وقد ينضم إليه ما يكون حجة
معه على ما سنبينه وعند مالك وأبى حنيفة هو حجة ويقال أنه
مذهب أحمد بن حنبل أيضا وقد ذهب إلى هذا كثير من المتكلمين
وذهب إليه أبو على وأبو هاشم وجملة مذهب هؤلاء من يقبل
سنده يقبل مرسله وقال عيسى بن أبان فمراسيل التابعى وتابع
التابعى مقبول ولا يقبل مرسل من دونه1 واحتج هؤلاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن المراسيل جمع مرسل وهو لغة المطلق عن التقييد
وفي اصطلاح المحدثين ما سقط منه الصحابي مثل أيقول التابعي
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بهذا الإطلاق يغاير
المنقطع والمعضل لأن المنقطع ما سقط منه قبل الصحابي راو
أو أكثر في موضع واحد والمعضل ما سقط منه اثنان فصاعدا في
موضع واحد.
أما المرسل عند الأصوليين: فهو قول العدل الثقة قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو بهذا الإطلاق يشمل المرسل
والمنقطع والمعضل وغيرها عند المحدثين.
وإنما سمي المرسل مرسلا لأن الراوي أطلق الحديث ولم يذكر
من سمعه منه وقد اختلف الأصوليون في قبول المرسل على أقوال
أربعة:
القول الأول: لا يقبل المرسل مطلقا سواء كان من أئمة النقل
أو من غيرهم إلا إذا تأكد بما يرجح صدق الراوي وذلك واحد
من ستة أمور:...............=
ج / 1 ص -377-
الطائفة بأشياء منها وهو أقوى دلائلهم وهو إرسال المرسل
العدل الحديث يجرى مجرى ذكره من المرسل عنه وقوله هو عدل
عندى ولو ذكر كذلك يقبل حديثه كذلك إذا أرسل والدليل على
هذا أن العدل لا يستجيز أن يخبر عن النبى صلى الله عليه
وسلم شيئا إلا وله الإخبار عنه لأن عدالته مانعته عن
إقدامه إلا على ما يجوز له الإقدام عليه ولا يجوز له
الإخبار بذلك إلا بعد أن يخبره عدل عنه حتى أن لم يكن
حقيقة أنه قال يكون قد غلب على ظنه أنه قاله.
ببينة أن روايته قد أفهمت إيجاب عبادة على الناس وطرح
عبادة عنهم فلا يجوز أن يقدم عليه من غير علم أو غلبة ظن
فثبت أن روايته مرسلا جرت مجرى ما ذكرنا ولو ذكر من روى
عنه وقال هو ثقة عندى لزم قبول خبره كذلك هاهنا قالوا:
وليس ذكر سبب عدالته بشرط وهذا متفق عليه بيننا وبينكم
وإنما الخلاف فى الجرح فذكر أصحاب أبى حنيفة أنه لا يجب
عليه أن يذكر سبب الجرح أيضا وذهب الشافعى رحمة الله عليه
أنه لا يصير مجروحا حتى يذكر سبب الجرح واستدلوا على
دعوتهم أن ذكر سبب العدالة ليس بشرط أن أصحاب الرواية
وأئمة الحديث يزكون الرجل من غير أن يذكروا سبب عدالته
ولأن الإنسان إنما يكون عدلا إذا اجتنب الكبائر ولم يحل
بالواجبات فلو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 1 - أن يكون من مراسيل الصحابة.
2 - أن يسنده راو آخر غير الذي أرسله.
3 - أي يرسله راو آخر يروي عن شيوخ الراوي الأول.
4 - أن يعضده قول أكثر الأمة.
5 - أن يعضده قول صحابي.
6 - أن يكون المرسل ممن عرف منه أنه لا يرسل إلا عمن يقبل
قوله كسعيد بن المسيب وهذا القول للشافعي وهو المختار
للرازي والبيضاوي ونقله ابن الصلاح عن جمهور المحدثين.
القول الثاني: لا يقبل المرسل مطلقا وهو رأي الأئمة
الثلاثة وجمهور المعتزلة وهو المختار للآمدي.
القول الثالث: يقبل من أئمة النقل ولا يقبل من غيرهم وهو
مختار ابن الحاجب.
القول الرابع: يقبل مرسل العصور الثلاثة عصر الصحابة
والتابعين وتابع التابعين ولا يقبل في غيرها من العصور إلا
من أئمة النقل وهو قول عيسى بن أبان انظر نهاية السول
3/198 إحكام الأحكام للآمدي 2/177, 178 المحصول 2/228
المعتمد 2/143 روضة الناظر 112 البرهان 1/632, 633 أصول
الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/133, 134.
ج / 1 ص -378-
وجب
ذكر أعيان ذلك لوجب ذكر أعيان ذلك فى الزمان الطويل مخافة
أن يكون منها ما لا يسلم معه عدالة الإنسان وهذا متعزز
قطعا قالوا: وأن لزمتم على هذا الشهادة فنقول قضية إطلاق
الشهادة على هذا أيضا لكن الدلالة منعت من قبول الشهادة
على الشهادة حتى يسمى شهود الأصل وليس يجب إذا منعت
الدلالة من ذلك فى الشهادة ما يجب أن يمنع قبل ذلك فى
الرواية إلا ترى أنه قد دلت الدلالة أن من شرط الحكم
بشهادة الشهود الفرع أن يحملهم شهود الأصل الشهادة ولم يجب
أن يعتبر مثل ذلك فى الرواية.
ببينة: أنه ما وجب فى الشهادة ذكر شاهد
الأصل لم يجب أن يشهد على وجه يجوز إلا يكون سمعه منه وهو
أن يقول عن فلان وأما هاهنا فتجوز الرواية مع جواز كونها
مرسلا وهو إذا قال الراوى عن فلان ويجوز فى هذا أن يكون
سمع منه ويجوز أن يكون سمع من غيره عنه وهذا حجة مبتدأة
لهم فى المسألة هينة وهذا لأنا جعلنا إرسال الحديث كأنه
ذكر من يروى عنه وعدله وفى الشهادة لا يكتفى بمجرد ذكر
شاهد الأصل وقوله هو عدل بل لا بد من تعديل القاضى وفى
الرواية يكتفى بما ذكرناه فظهر الفرق بينهما ودليل آخر وهو
أنهم ادعوا إجماع الصحابة روى عن البراء بن عازب أنه قال
ليس كل ما حدثناكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم غير أنا لا نكذب وروى عن أبى هريرة رضى الله عنه أن
النبى صلى الله عليه وسلم قال من أصبح جنبا فلا صوم له
فلما سئل عن ذلك ذكر أن الفضل بن عباس رضى الله عنهما
أخبره وروى ابن عباس رضى الله عنهما أن النبى صلى الله
عليه وسلم قال:
"لا ربا إلا فى النسيئة"1 ثم
ذكر أن أسامة روى له ذلك وروى ابن عباس أيضا أن النبى صلى
الله عليه وسلم ما زال يلبى حتى رمى جمرة العقبة ثم ذكر أن
الفضل بن عباس أخبره ذلك.
ببينة: أن أحداث الصحابة الذين كانوا
صبيانا فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم قد أكثروا الرواية
عنه صلى الله عليه وسلم خصوصا ابن عباس ومعلوم أنهم لم
يسمعوا إلا القليل ولم يرو عن أحد منهم إنكار ذلك والتفحص
عنه والبحث أن هذا الصحابى ممن سمعه فصار ذلك إجماعا منهم
على جواز ذلك وأن قلتم يجوز عندنا فى الصحابة ولا يجوز فى
التابعين فهو من التمنى الباطل ولا فرق بين صحابى يرسل
وتابعى يرسل خصوصا إذا كان الإرسال من.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري البيوع 4/445 ح 2178, 2179 ومسلم المساقاة
3/1217.
ج / 1 ص -379-
وجوه
التابعين والطبقة العالية منهم مثل عطاء بن أبى رباح من
أهل مكة ومثل سعيد ابن المسيب من أهل المدينة وبعض الفقهاء
السبعة ومثل الشعبى والنخعى من أهل الكوفة ومثل الحسن وأبى
العالية من أهل البصرة ومثل مكحول من أهل الشام فهؤلاء قد
نقل عنهم مراسيل ولا يظن بهم إلا الصدق وقد كان النخعى
يقول: إذا قيل لكم حدثنى فلان عن عبد الله فهو الذى روى لى
ذلك وإذا قلت: لكم قال لى عبد الله فقد رواه لى غير واحد
ولهذا قال بعضهم أن المرسل أقوى من المسند فهذا وجه تعلقهم
بهذا الدليل وهو معتمد جدا دليل آخر لهم هذا أن الناس من
زمان النبى صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا ما زالوا
يردون المراسيل من غير تحاش وامتناع قد ملأوا الكتب منها
ولم يروا أن أحد من الأئمة أنكر عليهم ذلك ولم يزل العلماء
من سلفهم إلى خلفهم يقولون قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم كذا وقال فلان كذا للواحد فالواحد من الصحابة وهذا
إرسال منهم للخبر ولو كان المرسل مردودا لامتنعت الأمة من
روايته ولكانوا لا يقرون من فعل ذلك عليه فصار ذلك إجماعا
منهم وعرف بما فعلوا أنهم قد سووا بين المرسل والمسند وقد
تعلقوا أيضا بما قاله الشافعى رحمة الله عليه فى مراسيل
ابن المسيب وغيره فإن قلتم أن مراسيله قد تتبعت فوجدت
مسانيد قال فإذا لم تستحسن مسانيده لا مراسليه قال الشافعى
أيضا إذا عملت الأمة بالمرسل فإن المرسل مقبولا قال أبو
بكر فإذا يكون الإجماع هو المقبول فهل المجموع هو ما ذكرهم
وهى دلائل قوم لا بد من صرف العناية إلى إيضاح الجواب عنها
خصوصا وقد وجدت بعض من ضعف بكلام أبى بكر الباقلانى وبجعله
الإمام والقدوة فى عامة ما ذكره فى أصول الفقه حتى كأنه
رضى لنفسه أن يقلده وينصبه إماما لنفسه فى عقائده قد قال
أن كان عرض الشافعى عن المراسيل على معنى تقديم المسانيد
عليها وقد وجد من كلامه مما يدل على أنه إذا لم يجد أولا
المراسيل مع الاقتران بالتعديل عن الإجماع يعمل عليها وبها
عندى أن هذا خلاف مذهب الإمام الشافعى وقد أجمع كل من نقل
عنه هذه المسألة مع كل العراقيين الخراسانيين أن على أصله
لا تكون المراسيل حجة وهو فيما بين الفقهاء من الفريقين
أشهر مسألة من خلافيات الأصول ولا عجب من أبى بكر
الباقلانى أن كان يتصل القول بالمراسيل فإنه كان مالكى
المذهب ومن مذهب مالك قبول المراسيل فأما من انتصب لذب عن
مذهب الشافعى رحمة الله عليه فلا يجوز أن يعدل عن قوله إلى
قول من لا يعرف تفسيره فى العلم فإن كان الأمر بالمحاجة
على المذهب فالحجة سنبينها ونبين عند ذلك أن هذا القول.
ج / 1 ص -380-
هو
الحق وأن رضى إنسان بالتقليد فلا يشك عاقل أن تقليد
الشافعى أولى من تقليد المتأخرين الذين يعم بضاعتهم الجدال
والله المرشد إلى الصواب والعاصم من الزلل عنه وأما حجة
القائلين بقبول المراسيل وهو الصحيح على ما سنبين ونقيم
البرهان عليه ونتعلق أولا بقوله تعالى:
{وَلا
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}
[الاسراء: 36] وقال تعالى:
{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] ونحن إذا قلنا خبر من لا يعلم حاله فى الصدق
والعدالة من حاله فى خلاف ذلك فقد قفونا ما ليس لنا به علم
وقلنا على الدين والشرع ما لا نتحققه فإن قيل هذا ينعكس
عليكم فإنكم إذا رددتم المراسيل فقد قلتم ما لا علم لكم به
وتبعتم ما لا يتحقق به فقد دخلتم فيما نقمتم منا قلنا لا
يلزم ما قلتم لأن الأصل أنه لا يلزمنا حكم إلا حجة والحجة
لا تثبت إلا من ناحية العلم وعلمنا بصدق المرسل عنه معدوم
فنحن متمسكون بهذا الأصل ما لم ينقلنا دليل يصح به الحجة
الشرعية فى الخبر والحجة الشرعية إنما تثبت بالخبر عند
معرفة صدق الراوى وعدالته فتبين بهذا أنا برد المرسل لم
نكن قابلين متبعين لما لا علم لنا به والمعتمد من الدليل
أن سكوت الراوى عن تسمية من سمع منه يوهم ضعفه وعدم عدالته
فيمتنع به قبول روايته وإنما قلنا ذلك لأنه قد جرت عادة
الرواة بإظهار اسم من يروون عنه ليتصل السند إلى النبى صلى
الله عليه وسلم ولا ينقطع بعض الرواة عن البعض فيذهب روا
الخبر وبهاؤه وطلاوته وحلاوته.
ببينة أن رواية الحديث بالإسناد أحد محاسن هذه الأمة وقيل
أنه لم يعط هذا غير هذه الأمة ولهذا ما زال سلف هذه الأمة
يطلبون الأسانيد وكانوا يسمون الأحاديث التى تعرت عن
الأسانيد بترا وعن عتبة بن أبى حكيم قال كنت عند إسحاق بن
أبى فروة وعنده الزهرى فجعل إسحاق يقول قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
الزهرى قاتلك الله يابن أبى فروة ما أجرأك على الله إلا
تسند حديثك تحدثنا بأحاديث ليست لها خطم ولا أزمة وجريان
عادة السلف بتسمية من يروون عنه شىء لا ينكره أحد فهذا
الراوى حين سكت عن تسمية من روى عنه الخبر ولم يكن مقصوده
الاقتصار على ما يعتاده الفقهاء فى الحجاج وإنما كان
مقصوده محض الرواية وأداء العلم وتبليغه والائتمار لما أمر
به النبى صلى الله عليه وسلم من قوله:
"نضر الله أمرأ سمع مقالتى فأداها كما سمعها"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي العلم 5/34 ح 2658 وابن ماجه المقدمة 1/84
ح 230 - 231 وابن ماجه المقدمة 1/86 ح 228 وأحمد المسند
4/99 ح 16743.
ج / 1 ص -381-
فصان
سكوته فى هذه الصورة عن تسمية من يروى عنه اتهاما عظيما
قادنا ما يقال فى هذا الباب أنه يقال يجوز أن يكون تركه
اسمه لثقته بعدالته فاستغنى بها عن تسميته ويجوز أن يكون
لجليل علمه منه لم يحب الكشف عنه وإذا احتمل هذا واحتمل
الأول يصير كما لو قال حدثنى من لا أعرفه بعدالة ولا
تصديقا بل من نظر فى المقدمة التى ذكرناها عرف أن الظاهر
من الستر وطى الاسم ما قلناه من الوجه الثانى خصوصا إذا
طرد الإرسال طردا ولم يبين من سمع منه الحديث فى شىء من
تارات روايته لهذا الحديث فإن سألوا على هذا بما ذكرنا من
كلامهم من قبل وهو أنه إنما سكت عنه لثقته بعدالته قالوا:
وهذا هو الأولى والأليق بأمر المرسل أنه عمن لا يتهمه
بالكذب والراوى ثقة ولا يروى عن ثقة كيف وقد قال النبى صلى
الله عليه وسلم:
"من روى
عنى حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين"
وربما يقولون أن الأصل فى المسلمين العدالة فلا يحمل حال
المروى عنه على عدم العدالة إلا بدليل يقوم عليه الجواب
إنما نبين أولا قاعدة الإخبار ليتبين الجواب وهو أن
الأخبار كلها متضمنة أمور الدين أما العلمية وأما العملية
وما كان بهذا السبيل لا يجوز قبوله من كل أحد ولهذا لا
تقبل الفتوى من كل أحد ولا بد أن يكون صادرا من أهل الفتوى
وكذلك أمر الشهادة وهذا معنى قول ابن سيرين أن هذا العلم
دين فانظروا عمن تأخذونه وإذا كان الأمر على هذا السبيل فى
الإخبار لم يجز قبولها إلا عن عدل ثم يعتبر أن يكون عدلا
عند المروى له لأن الرواية إذا شرع إليه كإلزام يتصل به
وهو كالشهادة فإنه يعتبر عدالة الشهود عند الحاكم لأنهم
يؤدون إليه الشهادة ولا تثبت عدالته عند المروى له إلا بعد
معرفته بعينه فى صفته فإذا لم يعرفه أصلا كيف يحكم بعدالته
عنده وقولهم أن روايتهم تعديل للمروى عنه قلنا للعدالة
شرائط وأوصاف لا تحصل بمجرد الرواية وأيضا فإن الراوى قد
يروى عمن عنده مقبول وعند غيره مجروح فلو قبلنا الرواية
عنه من غير كشف عنه لكنا قد قبلناه تقليدا لا علما وأما
قولهم أن الأئمة والعلماء لا يروون إلا عن ثقة قلنا هذا
مجرد حسن الظن ونحن أيضا نحسن الظن بهم ولكنا مع هذا نجوز
عليهم السهو والغلط وهذا سكوت عن اسم المروى عنه أمر محتمل
فيجوز أنه سكت عنه لأنه نسى اسمه ويجوز أنه سكت عنه لأنه
جهل حاله فلم يحب أن يذكره بجهله بحاله ويجوز أنه سكت عنه
لأنه لم يحمد أمره فلم يحب أن يهتك ستره ويكشف حاله ويجوز
أنه سكت لما قالوا: وأولى هذه الوجوه أن يكون سكت لضعفه
وريبته فى أمره لما بينا أنه قد كان المعتاد منهم ذكر من.
ج / 1 ص -382-
يروى
عنه وقد كان يجوز أن يذكر مرة ويترك مرة فأما السكوت عن
تسميته فى جميع تارات الرواية فهو موضوع ريبة عظيمة وقد
كتبوا حديثا وقديما عمن لم يحمدوا فى الرواية أمره مرة قال
الشعبى حدثنى الحارث وكان كذابا وروى شعبة وسفيان عن جابر
الجعفى مع ظهور أمره فى الكذب وروى عنه أبو حنيفة وقال ما
رأيت أكذب من جابر وروى الشعبى عن إبراهيم بن أبى الحسن
وكان قدريا رافضيا ورمى بالكذب أيضا وقد كان جماعة من
السلف لشغفهم بالحديث لا يسألون عمن أخذوا وكانوا ينتقدون
ويميزون أن سئلوا عن ذلك وقال ابن سيرين حدثوا عمن شئتم
إلا عن أبى الحسن وأبى العالية فإنهما لا يباليان عمن أخذا
الأحاديث وأرسل الزهرى حديثا ثم سئل فقيل له من حدثك فقال
رجل على باب عبد الملك بن مروان وأكثر المراسيل عن الحسن
والنخعى وعطاء ومكحول وابن المسيب وسعيد وأبى هلال والشعبى
والزهرى فى بعض الأحاديث وقد رووا عامة هؤلاء عن قوم
مجاهيل وهذا لا يشكل عن أهل صنعة الحديث فكيف يمكن أن يقال
أن المرسل إذا أرسل حديثا فيصير كأنه سمى من روى عنه وعدله
والأمر على هذا الوجه وقد قلنا أنه لو جعل هكذا على البعد
فيجوز أن يكون الإنسان عدلا عند إنسان ومجروحا عند آخر
والمعتبر عدالته عند المروى له فأما إذا صرح فقال حدثنى
فلان وهو عدل فالذى ذكرناه يوجب قطع الشبه بين هذه الصورة
وبين ما إذا أطلق ولم يذكر وعلى أنا قلنا أن الاعتبار
بجانب المروى له فينظر المروى له الحديث فإن سكنت نفسه إلى
قوله فقبله وتقوم الحجة عليه وأن لم تسكن نفسه إلى قوله
ويجوز أن يكون مجروحا فلا بد من البحث والتفحص فإن قيل قد
اعتمدتم فى هذا كله على حرف واحد وهو أن السلف كانوا يروون
عمن ليس بثقة وإنه إنما ترك اسمه لقدح عرفه فيه وهو الذى
ذكرتم ليس بصحيح لأن من أشكل عمن ليس بثقة وأن كان عرف أنه
غير ثقة فذلك يقدح فى عدالته كما أنه إذا ذكر وقال هو ثقة
عندى وعلمنا أنه ليس عنده ثقة وكما أن الغالب أنه لا يزكى
غير مزكى كذلك الغالب أنه لا يروى عمن ليس بثقة وأن كان
يظن أنه ثقة وليس بثقة وهذا لا يقدح أيضا كما لو قال هو
ثقة فإنه تجوز روايته وأن كان يجوز أنه قال عمن ظن أنه ثقة
وليس بثقة والجواب أن روايته عمن ليس بثقة لا توجب قدحا فى
الراوى لما بينا أنهم كانوا يفعلون وإذا سألوا بينوا وعلى
أنا قد ذكرنا عن صاحبهم وعن جماعة من السلف أنهم رووا عن
قوم وليسوا بثقات ولم يوجب ذلك قدحا فيهم فيجوز أنهم نقلوا
لحسن ظن منهم فى.
ج / 1 ص -383-
ذلك
الحديث الواحد أو نقلوا وأرادوا بعد ذلك أن يفتشوا عن حال
الراوى عنه وعن حال الحديث أنه رواه غيره ممن يوثق بحديثه
أو لا فإذا جازت هذه الوجوه لم يجز أن يجعل روايته قدحا فى
الراوى مع علمنا بثقته وعدله وهو دليل استدل به الشافعى
رحمة الله عليه والدليل على اعتبار الرواية فنقول أجمعنا
على أن الشهادة المرسلة لا تقبل وهو إذا لم يذكر من شهد
على شهادته فكذلك الرواية المرسلة ثم وجه التقرير فى إلزام
الشهادة وهو أن الشاهدين إذا كانا عدلين لم يجز أن يشهدا
على شهادة شاهدين يخفيان ذكرهما وهما عدلان مثل الرواية
سواء ومع ذلك لا يصير تركهما ذكرهما دليلا على تعديلهما بل
لا بد من ذكرهما مع الشهادة على شهادتهما كذلك لا بد فى
الرواية من ذكر المروى عنه مع الرواية عنه وقد ذكروا مسائل
فرقوا فيها بين الشهادة والرواية ونحن نقول لا ننكر وجود
الفرق بين الرواية والشهادة فى مواضع كثيرة ولكن لا فرق
بين الموضعين فى شرط العدالة والخلاف فى قبول المراسيل
وعدم قبولها راجع إلى العدالة على ما سبق بيانه وقولهم أن
فى الشهادة لو شهد على شهادة إنسان وقال هو عدل لم يثبت
عدالته وفى الرواية يثبت قلنا لا نسلم فى الرواية على ما
سبق ويجوز أن يكون الإنسان عدلا عند إنسان ولا يكون عدلا
عند آخر إلا ترى أن عليا رضى الله عنه لم يقبل رواية من
يروى خبر بروع بنت واشق وقبله ابن مسعود وهذا لأن العدالة
تعرف بالاجتهاد والناس يختلفون فى الاجتهاد وقال أبو عبد
الله البصرى أن القياس يمنع من الحكم بالشهادة على الشهادة
فلم يجز قياس المراسيل على ذلك لأنه لا يجوز القياس على
المخصوص من القياس ويجاب عن هذا فيقال لا نسلم أن قبول
الشهادة على الشهادة بخلاف قياس الأصول ولا نسلم أنه لا
يجوز القياس على المخصوص بالقياس وسنبين هذا وعلى أنا نقيس
المرسل على الشهادة فى المنع لا فى الجواز فلم يكن هذا
قياسا من الوجه الذى يمنع منه القياس فإن قالوا: أن الحاكم
فى الشهادة يحكم بشهادة شهود الأصل فلهذا وجب ذكرهم قلنا
والحكم بلزوم العبادة إنما يقع بخبر الأول فوجب ذكره وقال
بعضهم فى الفرق بين الموضعين أن شهود الفرع فى كلا شهود
الأصل لأنه لا يجوز أن يشهدوا على شهادتهم إذا سمعوهم
يشهدون حتى يحملوهم الشهادة كما لا يجوز للوكيل التصرف إلا
بعد أن يوكله الموكل فلهذا اشترط ذكر شاهد الأصل كما اشترط
ذكر الموكل ونحن نقول هذا الفرق غير مؤثر لأنا جمعنا بين
الرواية والشهادة فى العلة التى ذكرها المخالف فى المراسيل
وهى أن عدالة الراوى.
ج / 1 ص -384-
تقتضى
إنما أرسل الحديث إلا وهو على غاية الثقة بعدالة من روى
عنه وهذه العلة موجودة قائمة فى الشهادة على ما بيناه.
دليل ثالث وهو أنه لو جاز العمل بالمراسيل وجعلت كالمسانيد
لم يكن لذكر أسماء الرواة فى الأخبار وفحص الأئمة عن
عدالتهم معنى لأن الإرسال سهل والحوالة فى العدالة على ما
ذكروه أمر هين فإذا حصل المراد من هذا الوجه فلأى معنى وجب
تحمل المشقة وذكر أسماء الرواة ومعناه الفحص عن عدالتهم
وهل هذا إلا تحمل متاعب ومشاق أغنى الله العباد عنها
فيكونون قد شددوا على أنفسهم فيما سهله الله عليهم
فيعتبرون بمنزلة بنى إسرائيل فى أمر الله تعالى إياهم بذبح
البقرة وإلحاحهم فى طلب أوصافها وكان ينبغى أن يقتصروا
ويقولوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغنا عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ويتورعوا ويترفهوا وقد لقوا
المؤنة وطرح عنهم التعب وقد ذم الشرع من دخل فى أمر لا
يعنيه فكيف بمن دخل فى أمثال هذا.
فإن قيل لطلب اسم الراوى معنى صحيح من وجهين أحدهما أنه
إذا ذكر المحدث اسم من روى عنه أمكن السامع أن يتفحص عن
عدالته فيكون ظنه بعدالته فى هذه الصورة أقوى من ظنه
بعدالته عند إرسال المراسيل لأن طمأنينة الإنسان إلى فحصه
وبحثه أكثر من طمأنينته إلى خبر غيره والثانى هو أن الراوى
للحديث قد نسبه عليه حال من أخبره به فلا يقدم على جرحه
وتزكيته فيذكره ليزكيه غيره ويجرحه غيره.
الجواب أما الأول قلنا فقد تبين أن إرساله غير مغنى عن طلب
العدالة وعلى أنا قد ذكرنا أن الاجتهاد والاجتهاد قد يختلف
فلا بد من ذكره لتوهم اختلاف الاجتهاد فى جرحه وتعديله
وأما قوله يذكره ليزكيه غيره ويجرحه غيره ويكون قد اشتبه
علينا قلنا قد جرت عادتهم بذكر أسماء الرواة على الإطلاق
وجرت عادة طلب الحديث بطلب ذكرهم وجرت العادة بالبحث عن
عدالة الرواة وإذا عرف هذا من حالهم سقط السؤال الذى قالوه
والاعتماد على الدليل الأول من حيث التحقيق وعلى الثانى من
حيث التعلق بالحكم والدليل الثالث لإيضاح الكلام
والاستبيان به أما الجواب عن كلامهم الأول فقد دخل جوابه
فيما ذكرناه.
والحرف الوجيز أن روايته عنه إنما تدل على عدالته إذا لم
يتوهم فى السكوت عنه غير هذا فأما إذا توهمنا غيره فلا
وأما إذا قال هو عدل فقد قيل هذا الإطلاق لا يقبل وأن قلنا
يقبل على ظاهر المذهب فيقول: فلان عدل لا يحتمل غير ما وضع
له اللفظ.
ج / 1 ص -385-
وأما
السكوت عن اسم الراوى يحتمل ما قالوا: ويحتمل غيره وأما
قولهم أنه تقبل الرواية بالعنعنة قلنا نحن لا نقبل إلا أن
تعلمه أو يغلب على الظن أنه غير مرسل وهو أن يقول: حدثنا
فلان أو سمعت فلانا أو يقول عن فلان ويكون قد أطال صحبته
لأن ذلك أمارة تدل على أنه سمعه منه فأما بغير هذا فلا
يقبل حديثه وأما مراسيل الصحابة قلنا جميع الصحابة عدول
وليس لنا الاجتهاد فى تعديلهم وقد عدلهم الله تعالى بقوله
تعالى:
{أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] وقال عليه السلام:
"أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"1 وأما من بعدهم فإن موضع الاجتهاد فى تعديلهم باق فلم يجز العمل
إلا بخبر من علمنا عدالته منهم أما تعلقهم بمراسيل ابن
المسيب قلنا أما نقل هذا عن الشافعى فى كتبه القديمة ولم
يرد بذلك تخصيص ابن المسيب دون غيره ممن مذهبه مذهب ابن
المسيب فى ذلك لكن ظهر للشافعى من مذهب ابن المسيب أنه لا
يرسل حديثا ليس له أصل فى المتصل ولم يظهر له مثل هذا فى
غيره فإن عرف مثل هذا فى مراسيل عطاء والحسن والنخعى
ومكحول فتكون مرسلاتهم مثل مرسلات ابن المسيب.
واعلم أن الشافعى إنما رد المرسل من الحديث لدخول التهمة
فيه فإن اقترن بالمرسل ما يزيل التهمة فإنه يقبله وذلك أن
وافق مرسله مسند غيره من الرواة ومثل أن يتلقى الأئمة
المرسل بالقبول ويعملوا به فيكون قبولهم وعملهم مزيلا
للتهمة وكذلك أن انتشر فى الناس ولا يظهر له منكر وحكى
بعضهم أن من جملة ما يقوى به المرسل فيصير حجة أن يشترك فى
إرساله عدلان ثقتان من أهل العلم أو أكثر فيقوى حال المرسل
ويكون المرسل موافقا للقياس أو يكون المرسل كثير التحرز
شديد التحفظ مشهور الرجال بالرضى كالذى قاله الشافعى فى
القديم فى ابن المسيب رحمة الله عليهما فقال مرسل ابن
المسيب خمس فى تحريم بيع اللحم بالحيوان وقد قال بعض
أصحابنا أن مرسل ابن المسيب لا يكون حجة أيضا مع ما قاله
الشافعى رحمة الله عليه كما لا يكون مرسل غيره حجة إنما
قول الشافعى فى ابن المسيب يدل على أن إرساله يكون ترجيحا
للدليل الموجب للحكم لا أنه يكون موجبا للحكم واعلم أن ما
حكيناه أولا من موافقة مرسل المرسل مسند غيره أو تلقى
الأئمة إياه بالقبول أو انتشار المرسل فى الأمة من غير
منكر أسباب مخيلة فى قبل المرسل إلا أن الحجة تكون فى
المسند أو تكون فى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عزاه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير إلى عبد بن حميد في
مسنده والدارقطني في غرائب مالك والبزار والقضاعي في مسند
الشهاب وأبو ذر الهروي في كتاب السنة انظر تلخيص الحبير
4/209, 210 15.
ج / 1 ص -386-
إجماع
الناس على العمل بالحكم الذى تضمنه المرسل فأما البواقى
التى ذكروها فعندى أنه ليس فى شىء من ذلك دليل على قبول
المرسل فالأولى هو الإعراض عنها والاقتصار على ما قلناه
والله أعلم هذا الذى ذكرناه حكم المرسل.
فأما المنقطع فقال بعضهم أن المرسل والمنقطع معنى واحد
ومنهم من فرق بينهما1.
وقال المرسل ما ذكرناه والمنقطع هو أن يكون بين الروايتين
رجل لم يذكر فمن منع من قبول المراسيل كان من قبول هذا
أمنع ومن جوز قبول المراسيل اختلفوا فى المنقطع الذى
ذكرناه فقبله بعضهم كالمرسل ومنع منه بعضهم وأن عمل
بالمرسل والفرق صعب جدا لمن يرون الفرق اللهم إلا أن يقول:
أن الإرسال على الوجه الذى قلناه معتاد متعارف وهو من حسب
المتعارف دليل على تعديل من روى عنه فى الصورة التى بيناها
ببينة أن الإخلال يذكر هذا الراوى الواحد مع ذكر الراوى
قبله دليل على ضعفه وقال أصحاب الحديث مرسل ومنقطع ومعضل
فالمرسل ما ذكرنا والمنقطع أن يسقط واحد من الوسط والمعضل
أن يسقط أكثر من واحد واعلم أن الثقة إذا روى عن المجهول
لم تدل روايته عنه على عدالته ومن أصحابنا من قال يدل ذلك
على عدالته ومن ذهب إلى هذا أن هذا المجهول لو كان غير ثقة
لبين العدل ذلك فى روايته حتى لا يغتر بروايته وحين لم
يبين العدل ذلك دل أن روايته تعديل له والأصح أنه لا يدل
على تعديله لأن شهادة شاهد الفرع لا تدل على تعديل شاهد
الأصل فكذلك الرواية لأنا بينا أنهم كانوا يروون عن غير
الثقة فلا تدل الرواية على التعديل وهذه المسألة فيما إذا
سمى من روى عنه إلا أنه مجهول الحال فأما إذا لم يسمه فقد
بينا من قبل وأما إذا أسند الرواة الحديث وأرسله غيره فلا
شبهة أن من يقبل المراسيل فهو يقبل هذا وأما من لا يقبل
المراسيل فينبغى فى هذا الموضع أن يقبل رواية من يسند
الخبر لأن عدالة المسند تقتضى قبول الخبر وليس فى إرسال من
يرسله ما يقتضى أن لا يقبل إسناد من يسنده لأنه يجوز أن
يكون من أرسله سمعه مرسلا ومن أسنده سمعه مسندا فليس يقدح
إرسال من يرسله فى إسناد الآخر ويحتمل أيضا أن هذا المرسل
سمع الحديث مسندا إلا أنه نسى من يروى عنه وعلم ثقته فى
الجملة فأرسله لهذا المعنى وأما إذا أرسله فى وقت وقد
أسنده فى وقت فإن إرساله لا يمنع أيضا من كونه مسندا لأن
إرساله يجوز أن يكون لما بيناه فلا يقدح ذلك فى إسناده
وأما إذا وصل الراوى الحديث بالنبى صلى الله عليه وسلم مرة
وجعله موقوفا على بعض الصحابة فإنه يكون أيضا متصلا بالنبى
صلى الله عليه وسلم.
ج / 1 ص -387-
لجواز
أن يكون سمعه من الصحابى تارة يذكره عن نفسه على طريق
الفتوى وتارة يذكره عن النبى صلى الله عليه وسلم وليس فى
الأول ما يقدح عن الثانى وحين وصلنا إلى هذا الموضع نذكر
شروط صحة الإسناد إلى النبى صلى الله عليه وسلم أنا بينا
من قبل تنوع الأخبار وانقسامها إلى مسند ومرسل وقد بينا
المرسل.
فأما المسند فهو الخبر المتصل بالنبى صلى الله عليه وعلى
آله وسلم من حيث النقل1 واتصاله معتبر بثلاثة شروط.
أحدها أن يرويه ناقل عن ناقل حتى ينتهى إلى صحابى يصله
بالنبى صلى الله عليه وسلم فإن اختل اتصال النقل فى وسط أو
طرف بطل الاتصال.
والثانى أن يسمى كل واحد من ناقلى الحديث بما هو مشهور به
مما سمى به وسمى به عن غيره حتى لا يقع التدليس فى اسمه
فيمكن الكشف عن حاله فإن لم يسمه وقال أخبرنى الثقة أو من
لا أتهمه لم يكن حجة فى النقل وقبول الرواية فإن قيل أليس
أن الشافعى ذكر مثل هذا فى أحاديث رواها قيل له بلى ذكر
الشافعى مثل ما قلتم ولكن قد اشتهر من عناه فقالوا: أراد
بمن يثق به إبراهيم بن إسماعيل وبمن لا يتهمه يحيى بن حسان
فصارت الكناية كالتسمية وقيل أن الشافعى قال ذلك احتجاجا
لنفسه ولم يقله احتجاجا على خصمه وله فى حق نفسه أن يعمل
بما يثق بصحته وأن لم يكن له فى حق غيره.
الشرط الثالث وهو أن يكون كل واحد من جماعة الرواة على
الصفة التى تقبل خبره من الضبط والعدالة فإن اختلت هذه
الصفة فى حق أحدهم وكملت فيمن سواه رد الخبر ويعتبر فى حق
كل واحد من الرواة أن يكون معلوم الاسم والنسب معلوم الصفة
من العدالة فإن اختل شىء من ذلك اختلت الرواية عند اجتماع
الشرائط التى ذكرنا يكون الخبر مسندا.
فإن قال الصحابى أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو من السنة
كذا يكون مسندا ويكون حجة وقال أبو بكر الصيرفى لا يكون
مسندا ولا يكون حجة وهو قول الكرخى من أصحابى أبى حنيفة
وقد ذكرنا طرفا من هذا من قبل فهم يقولون قد تطلق السنة
ويراد بها سنة النبى صلى الله عليه وسلم وقد تطلق السنة
ويراد بها غيره والدليل عليه أن عليا رضى الله عنه قال فى
جلد شارب الخمر جلد النبى صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد
أبو بكر رضى الله عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فتح المغيث 1/117, 118.
ج / 1 ص -388-
أربعين
وجلد عمر رضى الله عنه أربعين وكل سنة1 فقد أطلق السنة على
ما فعله عمر رضى الله عنه كما أطلق على ما فعله الرسول صلى
الله عليه وسلم وفى الخبر:
"عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى"2 وقال عليه السلام:
"من سن سنة"3 وأما
دليلنا فنقول قول الصحابى فى الأمر والنهى أمرنا بكذا أو
نهينا عن كذا مطلقا يرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم لأن
الأصل أنه الأمر فى الشرائع خصوصا إذا كان الصحابى قال هذا
القول للنبى صلى الله عليه وسلم وعلى هذا قول أنس رضى الله
عنه أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ولهذا لو قال
الصحابى رخص لنا أن نفعل كذا ينصرف إلى النبى صلى الله
عليه وسلم بالاتفاق فكذلك قول الصحابى من السنة كذا فمطلق
السنة منصرف إلى النبى صلى الله عليه وسلم ولهذا يقال كتاب
الله تعالى وسنة النبى صلى الله عليه وسلم وإذا قيل الكتاب
والسنة وإنما يفهم من السنة سنة النبى صلى الله عليه وسلم
ولأن السنة هى الطريقة المتبعة لأهل الدين والطريقة
المتبعة لأهل الدين هى المشروعة فى الدين والمشروع فى
الدين إنما يكون من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه
وسلم فأما من غير الله ورسوله فلا يدل عليه أن من التزم
طاعته وبين فإذا قال أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فإنه يفهم
منه من يلتزم طاعته ولا يتعدى أمره إلا ترى أن الرجل من
أولياء السلطان إذا قال فى دار السلطان أمرنا بكذا أو
نهينا عن كذا فهم منه أن السلطان أمر ونهى عما ذكروه وأيضا
فإن غرض الصحابى من هذا القول أن يعلمنا الشرع أو يفيدنا
الحكم صحب كمال ذلك عمن يصدر الشرع منه دون الأئمة والولاة
لأن أمرهم غير مؤثر فى الشرع وهذا راجع إلى الدليل الذى
قدمناه فيكون تقريرا له وأما قول على رضى الله عنه فالمراد
بالسنة سنة النبى صلى الله عليه وسلم لأن الزيادة على
الأربعين مفعولة عندنا تعزيرا والتعزير من سنة النبى صلى
الله عليه وسلم وأما قوله صلى الله عليه وسلم:
"سنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى"4
فتلك السنة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم الحدود 3/1331 ح 38/1707 وقال "وعمر ثمانين"
وأبو داود الحدود 4/162 ح 4481 ولكنه قال "وكملها عمر
ثمانين" وأحمد المسند 1/103 ح 626 لفظه لفظ أبو داود.
2 أخرجه أبو داود السنة 4/200 ح 4607 والترمذي العلم 5/44
ح 2676 وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه المقدمة 1/51 ح 42
وأحمد المسند 4/156 ح 17149 انظر تلخيص الحبير 4/209 ح 14.
3 أخرجه مسلم الزكاة 2/704 ح 69/1017 والنسائي الزكاة 5/56
باب التحريض على الصدقة وابن ماجه المقدمة 1/74 ح 203.
4 تقدم تخريجه.
ج / 1 ص -389-
المذكورة فى الخبر سنة مقيدة والكلام فى السنة المقيدة.
وإذا قال الصحابى كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم فهو بمنزلة المسند إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال بعض أصحاب أبى حنيفة لا يكون بمنزلة المسند وعلى
هذا الخلاف إذا قال الصحابى كانوا يفعلون كذا على عهد
النبى صلى الله عليه وسلم وذهب من قال أنه لا يكون مسندا
إلى أنهم كانوا يفعلون شيئا ولا يسندون ذلك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلا ترى أنهم لما اختلفوا فى "الماء من
الماء" ومن التقاء الختانين وزعم بعضهم أنهم كانوا يفعلون
ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعنى أنهم لا
يغتسلون إلا من الماء1 قال عمر رضى الله عنه أو علمه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأقركم على ذلك قالوا: لا قال فلا
إذا وإنما نحن نقول أن الظاهر من أمر الصحابة أنهم كانوا
لا يقدمون على شىء من أمور الدين والنبى صلى الله عليه
وسلم بين أظهرهم إلا عن أمره وإذنه فصار قولهم كنا نفعل
كذا فى زمان النبى صلى الله عليه وسلم بمنزلة المسند لهذا
الظاهر والظاهر حجة ولأن الصحابة إنما تضيف مثل هذا القول
إلى زمان النبى صلى الله عليه وسلم لفائدة وهو أن يبين أن
النبى صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولم ينكره ولا فائدة
لهذه الإضافة سوى هذا ولو عرف هذا كان هذا القول بمنزلة
الخبر المسند كذلك هاهنا وأن شئت عبرت عن هذا فقلت: إذا
قال الصحابى كنا نفعل كذا فالظاهر منه أنه قصد بهذا الكلام
أن يعلمنا حكما ويفيدنا شرعا ولن يكون كذلك إلا إذا كانوا
يفعلونه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه
يظهر له ذلك ولا ينكره وأما الذى ذكروه من اختلاف الصحابة
فى الماء من الماء أو من التقاء الختانين فقد كان لا يجب
الغسل بالتقاء الختانين فى ابتداء الإسلام ثم نسخ وأوجب به
فلما نسخ لم يعلم بعضهم بالنسخ واستمر على ما كان عليه من
قبل وقال الاستمرار والاستدامة يجوز أن يخفى أمره فأما
الإقدام على ابتداء النهى فلا يفعل ذلك إلا عن إذن النبى
صلى الله عليه وسلم.
وأما إذا قال الصحابى قولا لا مجال للاجتهاد فيه فإنه لا
يجعل ذلك مسندا إلى النبى صلى الله عليه وسلم وقد قال
طائفة من أصحاب أبى حنيفة أنه يجعل بمنزلة المسند.
وحرفهم فيما ذهبوا إليه هو أن حسن الظن بالصحابة واجب فإذا
قال قولا يحسن الظن أنه لم ينقله جزافا وإنما قاله عن طريق
فإذا لم يكن للاجتهاد فيه مجال فليس إلا أنه سمعه من النبى
صلى الله عليه وسلم ونحن نقول أن إثبات الإسناد بهذا لا
يمكن لأنهم لم يكونوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اتفق الفقهاء على وجوب الغسل عند التقاء الختانين ولو لم
ينزل وخالفهم داود الظاهري وقال لا يجب الغسل ووافق ابن
حزم الظاهري رأي الجمهور انظر المغني 1/203 المحلى لابن
حزم 2/2.
ج / 1 ص -390-
يكتمون
الأخبار ولا كان ذلك من عادتهم وبعد أن يقول الصحابى قولا
ويستمر الزمان به ولقوله حجة من قول النبى صلى الله عليه
وسلم ولا ينكر.
ببينة: أنه كان من عادتهم الرواية عن
النبى صلى الله عليه وسلم فيما يعين به من الحوادث إلا ترى
أن الأخبار التى ذكرناها من قبل فإنهم رووها عن وقوع
الحوادث فلما كانوا يظهرون الأحاديث ويروونها لأقوال غيرهم
فكيف كانوا يكتمونها وهى حجة لأقوالهم أما قولهم أن حسن
الظن بهم واجب قلنا نعم يجب علينا إحسان الظن بهم ويجب
علينا أيضا أن لا نضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
قولا وفعلا إلا عن تثبت ولا ثبت فى هذا الخبر الذى تظنون
ثبوته وعلى أنهم لم يكونوا معصومين عن السهو والغلط فإن
نقل عن واحد منهم شىء بخلاف القياس يجوز أن يكون قال عن
قياس فاسد أو ظن ظنه ولم يكن صحيحا أو وقع له غلط فيما
قاله وزلة فيما صار إليه فعرفنا أنه لا وجه لإثبات الخبر
بمجرد ما قالوه وحين ذكرنا ما يكون مسندا أو ما لا يكون
مسندا فنذكر بعد هذا ما يتعلق بمعرفة الصحابة ومعرفة
طباقتهم بعون الله تعالى.
[فصل]1 اعلم أن الصحابة على طبقات.
فأعلاهم رتبة: العشرة الذين شهد النبى صلى
الله عليه وسلم لهم بالجنة وأربعة منهم الخلفاء الراشدون2
وقد ضم إليهم عمر بن عبد العزيز وأول من أسلم من الرجال
أبو بكر ومن الصبيان على ومن النساء خديجة ومن العبيد بلال
رضى الله عنهم أجمعين قال أبو عبد الله الحاكم ولا أعلم من
أهل التواريخ خلافا فى أنه أول من أسلم على وهذا خطأ من
أبى عبد الله الحاكم وللعلماء فى هذا الباب اختلاف ظاهر
عندى وذهب جماعة كثيرة إلى أن أبا بكر رضى الله عنه أول من
أسلم واستدلوا بشعر حسان بن ثابت وهو
إذا تذكرت نجوى من أحيى نعيه
فاذكر أخاك أبا بكر مما فعلا
الثانى التالى المحمود سيرته
وأول الناس منهم صدق الرسلا
وثبت حديث ابن عتبة أنه
قدم على النبى صلى الله عليه وسلم فقال من تبعك على هذا
الأمر، فقال:
"حر وعبد"3
يعنى بالحر أبا بكر وبالعبد بلال وقد قال زيد بن أرقم من
الصحابة أن عليا رضى الله عنه أول من أسلم وقال إبراهيم
النخعى معارضا لقول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
2 انظر فتح المغيث 3/293.
3 أخرجه مسلم المسافرين 1/569 ح 294/832 وابن ماجه الإقامة
1/434 ح 1364 وأحمد المسند 4/138 الحديث عن عمرو بن عبسة.
ج / 1 ص -391-
زيد بن
أرقم حين ذكر له قوله قال لا بل أبو بكر رضى الله عنه أول
من أسلم وقد أجمل أهل العلم الكلام إجمالا وقالوا: على ما
قدمنا.
والطبقة الثانية: أصحاب دار الندوة وذلك
أن عمر لما أسلم حمل النبى صلى الله عليه وسلم إلى دار
الندوة مع جماعة كثيرة من أصحابه قال أبو عبد الله الحافظ
وهذا أيضا فيه نظر لأن النبى صلى الله عليه وسلم مختفيا فى
دار بين الصفا والمروة وهى تعرف بدار الأرقم وهذه الدار
معروفة اليوم وجاء عمر رضى الله عنه فأسلم وقصته معروفة
فأما الحمل إلى دار الندوة ومعه جماعة من أهل مكة على ما
قاله أبو عبد الله الحافظ فلا يعرف.
وأما الطبقة الثالثة: طائفة هاجروا إلى
الحبشة وهى الهجرة الأولى منهم عثمان وجعفر ابن أبى طالب
وابن مسعود وجماعة وذكر فيهم حمزة وفيه نظر وجماعة.
والطبقة الرابعة: هم الذين بايعوا النبى
صلى الله عليه وسلم عند العقبة وهؤلاء كانوا من الأنصار
ويقال للواحد منهم عقبى.
والطبقة الخامسة: هم أصحاب العقبة الثانية
قال وأكثرهم من الأنصار وأقول لا بل كلهم من الأنصار وكان
الذى أخذ عليه العهد العباس بن عبد المطلب.
والطبقة السادسة: المهاجرون الأولون وهم
الذين وصلوا إلى النبى صلى الله عليه وسلم نقبا أن يدخلوا
المدينة.
والطبقة السابعة: أهل بدر.
والطبقة الثامنة: المهاجرون بين بدر
والحديبية.
والطبقة التاسعة: أهل بيعة الرضوان
بالحديبية وفيهم نزل قوله تعالى:
{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.
والطبقة العاشرة: المهاجرون بين الحديبية
والفتح منهم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة
وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم فيما روى حين هاجر:
"لقد ألقت إليكم مكة أفلاذ كبدها" وأبو هريرة الدوسى.
والطبقة الحادية عشر: قوم أسلموا يوم
الفتح منهم أبو سفيان وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وعكرمة
بن أبى جهل وصفوان بن أمية وقد تآخر إسلام بعض هؤلاء النفر
إلى أن فرغ النبى صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين وفى هذه
الطبقة أسلم بعد يوم الفتح إلى وفاة النبى صلى الله عليه
وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا هجرة بعد1 الفتح ولكن جهاد ونية".
ج / 1 ص -392-
والطبقة الثانية عشر صبيان
رأوا مدة النبى صلى الله عليه وسلم وأطفال حملوا إليه
كالسائب بن زيد وعبد الله بن ثعلبة بن أبى سعد وعأمر بن
واثلة بن أبى الطفيل وابن أبى جحيفة وغيرهم وفى هذا علم
كثير يطول ذكره.
وأما الصحابة الذين تآخر موتهم قال الواقدى آخر من مات
بالمدينة من الصحابة سهل بن سعد وكان ابن مائة سنة يوم مات
توفى سنة إحدى وتسعين وآخر من مات بالكوفة من الصحابة عبد
الله بن أبى أوفى مات سنة ست وثمانين وآخر من مات بالبصرة
أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم مات سنة
إحدى وتسعين وقيل سنة ثلاثة وتسعين وآخر من مات بالشام عبد
الله بن بشر سنة ثمان وثمانين وقيل آخر من مات بمكة عبد
الله بن عمر سنة ثلاث وسبعين وآخر من مات من روى أبو
الطفيل عأمر بن واثلة الكنانى مات من سنة مائة من الهجرة.
وأما اسم الصحابى فهو من حيث اللغة والظاهر يقع على من
طالت صحبته مع النبى صلى الله عليه وسلم وكثرة مجالسته
وينبغى أن يطيل المكث معه على طريقة السمع له والأخذ عنه
ولهذا يوصف من أطال مجالسته العالم من أصحابه إذا لم يكن
على طريق التبع له والأخذ عنه ثم إنما يعلم صحبة النبى صلى
الله عليه وسلم أما بطريق موجب للعلم وهو خبر التواتر أو
بطريق يقتضى غلبة الظن وهو إخبار الثقة وهذا الذى ذكرناه
طريق الأصوليين وأما عند أصحاب الحديث فيطلقون اسم الصحابة
على كل من روى عنه حديثا أو كلمة ويتوسعون حتى يعدون من
رآه رؤية من الصحابة1 وهذا لشرف منزلة النبى صلى الله عليه
وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن الصحابي لغة يقع على من صحب أقل ما يطلق اسم
صحبة فضلا عمن طالت صحبته وكثرت مجالسه.
وفي اصطلاح من رأى النبي مسلما ذو صحبة على الأصح كما ذهب
إليه الجمهور من المحدثين والأصوليين وغيرهم اكتفى بمجرد
الرؤية ولو لحظة وإن لم يقع معها مجالسة ولا مماشاة ولا
مكالمة لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وممن نص على
الاكتفاء بها أحمد فإنه قال: من صحبه سنة أو شهرا أو يوما
أو ساعة أو رآه فهو من أصحابه وكذا قال ابن المديني من صحب
النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه ولو ساعة من نهار فهو من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتبعهما تلميذهما البخاري
فقال: من صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو رآه من المسلمين
فهو من اصحابه قيل: ويرد على ذلك توقف معرفة الشيء على
نفسه فيدور لأ، صحب يتوقف على الصحابي وبالعكس لكن يمكن أن
يقال مرادهم بصحب الصحبة اللغوية والصحابي المعنى
الاصطلاحي على أن القاضي أبا بكر بن الطيب الباقلاني قال:
لا خلاف بين أهل اللغة أن الصحابي مشتق من الصحبة جاز على
كل من صحب غيره قليلا أو كثيرا يقال: صحبه شهرا ويوما
وساعة قال........=
ج / 1 ص -393-
أعطوا
الكل ممن يراه حكم الصحبة ولأن النبى صلى الله عليه وسلم
قال:
"طوبى لمن رآنى ولمن رأى من رآنى" فالأول هم الصحابة والثانى هم التابعون ولأنه عليه السلام قال:
"خير الناس قرنى الذى بعثت فيهم" وأراد بهم الصحابة فكل من روى عنه أو رآه فهو قرنه الذى بعث فيه
إلا أنه مع هذا لا بد من رؤية أو رواية للإجماع.
وأما التابعون فعلى طبقات فالطبقة الأولى منهم قوم لحقوا
العشرة أو أكثرهم كسعيد ابن المسيب هكذا قال أبو عبد الله
الحاكم وحكاه الأستاذ أبو منصور البغدادى وتبعه وهذا خطأ
لأن سعيد بن المسيب لا يصح له رواية عن أحد من العشرة إلا
عن سعد بن أبى وقاص وولد لسنتين مضتا من خلافة عمر رضى
الله عنه وتوفى سنة أربع وتسعين وقيل سنة ثلاث وتسعين نعم
قد قيل أن سعيد بن المسيب أفقه أهل الحجاز فى زمانه ويقال
أنه أعلم التابعين بقضاء عمر وأما الذين أدركوا العشرة أو
أكثر العشرة فجماعة من التابعين من أهل الكوفة والبصرة مثل
قيس بن أبى حازم ومسروق بن الأجدع وأبى عمرو الشيبانى
وعمرو بن ميمون وعلقمة بن قيس وأبى وائل شقيق بن سلمة وأبى
رجاء العطاردى وأبى عثمان النهدى وأبى شاشان حصين بن
المنذر الرقاشى وغيرهم وقد خرج التابعون على خمسة عشر طبقة
آخرهم من لقى أنس بن مالك والسائب بن يزيد وأبا أمامة
الباهلى وواثلة بن الأسقع وغيرهم وهذا علم كبير وذكره يطول
وقد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا يوجب حكم اللغة إجراء هذا على من صحب النبي صلى
الله عليه وسلم ولو ساعة هذا هو الأصل قال: ومع هذا فقد
تقرر للأمة عرف أنهم لا يستعملون إلا فيمن كثرت صحبته وذكر
المذهب الثاني وكذا قال صاحبه الخطيب أيضا لا خلاف بين أهل
اللغة أن الصحبة التي اشتق منها الصحابي لا تحد بزمن بل
يقول صحبته سنة وصحبته ساعة ولذا قال النووي في مقدمة شرح
مسلم عقب كلام القاضي أبي بكر: وبه يستدل على ترجيح مذهب
المحدثين فإن هذا الإمام قد نقل عن أهل اللغة أن الأحسن
يتناول صحبته ساعة أو أكثر وأهل الحديث قد نقلوا الاستعمال
في الشرع والعرف على وفق اللغة فوجب المصير إليه قلت: إلا
أن الإسلام لا يشترط في اللغة والكفار لا يدخلون في اسم
الصحبة بالاتفاق وإن رأوه صلى الله عليه وسلم وقال ابن
الجوزي: الصحبة تطلق ويراد مطلقها وهو المراد في التعريف
وتأكيدها بحيث يشتهر به وهي المشتملة على المحافظة
والمعاشرة فإذا قلت: فلان صاحب فلان لم ينصرف يعني عرفا
إلا للمؤكدة كخادم فلان وقال الأموي: الأشبه أن الصحابي من
رآه وحكاه عن أحمد وأكثر أصحابنا واختاره ابن الحاجب أيضا
لأن الصحبة تعم القليل والكثير فلو حلف أن لا يصحبه حنث
بلحظة.
ويشمل الصحابي الأحرار والموالي والذكور والإناث لأن
المراد به الجنس انظر فتح المغيث 2/79, 80.
ج / 1 ص -394-
صنف
فيه ابن المدينى ومسلم بن الحجاج وغيرهم وأما الفقهاء
السبعة من أهل المدينة فسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن
أبى بكر وعروة بن الزبير وخارجة بن زيد بن ثابت وأبو سلمة
بن عبد الرحمن وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن
يسار وقد أبدل بعضهم بأبى سلمة وخارجة سالم بن عبد الله بن
عمر وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وفى
المتقدمين من التابعين قوم أدركوا وفاة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأسلموا من بعده وأسلموا فى زمانه ولم يروه مثل
الأحنف بن قيس وسويد بن غفلة وعمرو بن ميمون وأبى وائل
وأبى عثمان النهدى وغيرهم والأئمة المرجوع إليهم فى علم
الحديث مالك بن أنس بالحجاز وسفيان الثورى بالعراق
والأوزاعى بالشام والليث بن سعد بمصر وعبد الله بن المبارك
بخراسان وكانت أعصارهم متقاربة وقد أجمعوا الرواية
والدراية ولم يقابلهم أحد فى زمانهم وقيل أن الذين نشروا
علم الحديث فى العالم قبل هؤلاء ستة نفر اثنان بالحجاز
واثنان بالكوفة واثنان بالبصرة فاللذان بالحجاز الزهرى
وعمرو ابن دينار واللذان بالكوفة أبو إسحاق السبيعى
والأعمش واللذان بالبصرة قتادة ويحيى بن أبى كثير فمن
هؤلاء الستة انتشر أكثر علم الحديث فى الدنيا وقد ذكرنا من
قبل من يرجع إليهم فى الجرح والتعديل وفيهم كثرة وقد
اقتصرنا على ما قدمنا.
وأما الكتب التى تعتمد فى الحديث فأول ذلك الجامع الصحيح
عن البخارى ثم الصحيح عن مسلم بن الحجاج القشيرى وكتاب
السنة عن أبى داود والجامع عن أبى عيسى الترمذى وكتاب ابن
أبى عوانة وكتاب أبو عبد الرحمن النسائى وكتاب الصحيح عن
أبى العباس الدعولى وقد صنف أبو حاتم بن حبان كتابا سماه
الصحيح جمع فيه الكثير وليس فى الصحة والتثبت مثل هذه
الكتب وأولى هذه الكتب بالاعتماد صحيح البخارى وقد قيل أن
ما فيه مقطوع بصحته عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد اختلف
أن الحديث فى أصح الأسانيد مالك عن نافع عن ابن عمر وقال
أبو بكر بن أبى شيبة أصح الأسانيد الزهرى عن على بن الحسين
عن أبيه عن على وقال آخرون أصح الأسانيد سفيان الثورى عن
منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وقيل أصحها ابن
سيرين عن عبيد عن على وقيل أصحها الزهرى عن سالم عن أبيه
واعلم أن أصح أسانيد أهل البيت جعفر بن محمد عن أبيه عن
جده عن على أن كان الراوى عن جعفر ثقة وأصح أسانيد أبى بكر
الصديق رضى الله عنه إسماعيل بن أبى خالد عن قيس بن أبى
حازم عن أبى بكر رضى الله عنه وأصح أسانيد عمر رضى الله
عنه عن الزهرى عن سالم عن.
ج / 1 ص -395-
أبيه
عن عمر وأصح أسانيد ابن مسعود إبراهيم عن علقمة عن عبد
الله والأعمش عن أبى وائل عن عبد الله وأصح أسانيد أبى
هريرة رضى الله عنه الزهرى عن ابن المسيب عن أبى هريرة
وقيل أبو الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه
ولعبد الله بن عمر مالك عن نافع عن ابن عمر وعبيد الله بن
عمر عن نافع عن ابن عمر ولعائشة رضى الله عنها هشام بن
عروة عن أبيه عن عائشة وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم
بن عمر عن القاسم بن محمد عن عائشة ويقال لهذا ترجمة
مشتبكة بالذهب وكذلك الزهرى عن عروة عن عائشة ولجابر سفيان
بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر وجعفر بن محمد عن أبيه
عن جابر ولأنس شعبة عن قتادة عن أنس ومالك عن الزهرى عن
أنس وأصح أسانيد المكيين سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار
عن جابر وابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وأصح أسانيد
المدنيين ما ذكرنا مالك عن نافع عن ابن عمر وأبو الزناد عن
الأعرج عن أبى هريرة والزهرى عن سالم عن أبيه والزهرى عن
عروة عن عائشة وأصح أسانيد الكوفيين سفيان عن منصور عن
إبراهيم عن علقمة عن عبد الله والأعمش عن أبى وائل عن عبد
الله وأصح أسانيد البصريين شعبة عن قتادة عن أنس وابن عون
عن ابن سيرين عن أبى هريرة وأصح أسانيد اليمانيين معمر عن
همام عن أبى هريرة وأصح أسانيد المصريين الليث بن سعد عن
يزيد ابن أبى حبيب عن أبى الخير عن عقبة بن عأمر وأصح
أسانيد الخراسانيين الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة
عن أبيه وهؤلاء مراوزة وعلى هذا الترتيب أوهى أسانيد
الصديق صدقه بن موسى عن فرقد السبخى عن مرة الطبيب عن أبى
بكر وأوهى أسانيد العمريين محمد بن القاسم عن عبد الله بن
عمر بن حفص بن عاصم عن أبيه عن جده وأوهى أسانيد أبى هريرة
المسرى بن إسماعيل عن داود بن زيد الأودلى عن أبيه عن أبى
هريرة وأوهى أسانيد ابن مسعود شريك عن أبى زرارة عن أبى
زيد والحمل فيه على أبى زيد وأما أبو زرارة راشد بن كيسان
ثقة قال الحاكم وأوهى أسانيد أنس داود بن المحبر عن أبيه
عن أبان عن أبي عياش عن أنس وأوهى أسانيد المكيين عبد الله
بن ميمون القداح عن شهاب بن جابر عن إبراهيم بن يزيد
الخودى عن عكرمة عن ابن عباس وأوهى أسانيد اليمانيين حفص
بن عمر العدنى عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس
وأوهى أسانيد الشاميين محمد بن قيس المصلوب عن عبد الله
ابن رخو عن القاسم عن أبى أمامة وأوهى أسانيد المصريين
أحمد بن الحجاج بن رشدين.
ج / 1 ص -396-
ابن
سعد عن أبيه عن جده عن مرة بن عبد الرحمن عن كل من روى عنه
وأوهى أسانيد الخراسانيين عبد الله بن عبد الرحمن بن مليحة
عن نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس نقلت على ما أورده
الحاكم أبو عبد الله فى كتاب علوم الحديث.
فصل وذكر أبو
زيد فصل فى أقسام الصحيح من الأخبار وقال:
الأخبار التى يعمل بها ضربان مشهور وغريب قال:
والمشهور ضربان.
أحدهما ما اشتهر وبلغ حد التواتر.
والآخر ما اشتهر ولم يبلغ حد التواتر.
والغريب نوعان.
أحدهما ما لم يشتهر ولكن لم يبلغ حد
الاستنكار.
والآخر ما بلغ حد الاستنكار.
ثم قال أما المتواتر فحده ما اتصل بك عن المخبر اتصالا لا
يبقى لك فيه شبهة كما يتصل تعليل من طريق السماع من المخبر
عنه ثم قال وقد قال بعض الناس أن المتواتر من الأخبار لا
يوجب علم اليقين وإنما يوجب علم طمأنينة.
وذكر ما نقله اليهود أن عيسى عليه السلام قد قتل وقد ذكرنا
من قبل الكلام فى هذا وذكرنا أن المتواتر من الأخبار يوجب
علم الضرورة وأجبنا عن ما قاله اليهود.
وأما المشهور فحده ما كان أوسطه وآخره على
حد التواتر وأوله على حد الخبر الواحد وذكر عن أبى بكر
الرازى أن هذا أحد قسمى التواتر لأنا نجد العلم فى أنفسنا
بكل واحد منهما بلا اضطراب أنفسنا فى ذلك إلا أن العلم
الأول يقع على اضطراره ولا مرد له فى النفوس والثانى يقع
عن استدلال كما يكون مثله عن العقليات الموجبة للعلم فإن
العلم بالمحسوسات عن اضطراب والعلم بالصانع عن الاستدلال
قال عيسى بن أبان الخبر على ثلاثة أقسام قسم يضل جاحده
كخبر الرجم وقسم يخشى المأثم على جاحده ولا يضله كخبر
المسح على الخفين وقسم لا يخشى المأثم على جاحده كالأخبار
التى رويت فى مسائل الخلاف التى اختلفت العلماء فيها فلم
يكف عيسى بن أبان من جحد المشهور ثم جعل المشهور بعضه فوق
بعض فى المرتبة وهو الصحيح عندنا ويسمى العلم عن الخبر
المتواتر علم يقين وعن الخبر المشهور علم طمأنينة.
ج / 1 ص -397-
وعن
الخبر الغريب علم يغالب الرأى وعن الغريب المستند علم ظن
فهذه أربع مراتب تثبت الأخبار.
والدليل على هذا أن المشهور لما لم يتصل برسول الله صلى
الله عليه وسلم على وجه التواتر ولكن بالآحاد تمكنت الشبهة
بالاتصال إلا أنها لما اشتهرت فى السلف وتواترت ولم يظهر
رد اطمأنت النفوس إلى قبولها والعلم والعمل بها.
قال والمشهور على هذا الوجه حجة يجوز بمثلها الزيادة على
كتاب الله تعالى ويجوز نسخ الآية بها لأن السلف كانوا أئمة
الدين وإجماعهم حجة ولم يكن فيهم تهمة ما تواتر النقل فيهم
ولم يظهر رد منهم صار حجة من حجج الله تعالى حتى زدنا على
كتاب الله الرجم وزدنا تحريم العمة على ابنة الأخ وابنة
الأخت على العمة وكذا فى الخالة وابنة الأخت على كتاب الله
تعالى وزدنا على أعضاء الوضوء الخف بالسنة والشائع على صوم
كفارة اليمين والزيادة عندنا تجرى مجرى النسخ إلا أنا
نفينا مع هذا شبهة الآحاد فلم نكفر جاحده وحططنا رتبته عن
رتبة المتواتر فصار المتواتر علما يقينا من طريق الضرورة
والمشهور يوجب علم اليقين أيضا إلا أن السامع متى تأمله حق
تأمله وجد فى أوله ما يوجب ضرب شبهة فى آخره وكان دون
العلم الواقع بالتواتر.
قال وأما الغريب المقبول فما اختلفت الفقهاء خلفا وسلفا فى
أحكام الحوادث على ما ورد أخبار فيها متعارضة قبلها بعضهم
وردها بعضهم بلا إنكار ولا تضليل وهو حسب اختلافهم فى
المقاييس المتعارضة.
وأما الغريب المستنكر فنحو ما ذكرناه من الوجوه التى رد
السلف بها الأخبار وربما يخشى الإثم على العامل به كما
خشينا الإثم على تارك المشهور لأنه قرب من اليقين وهذا قرب
من الكذب فيكون العلم به علم ظن على تحرى الحق كالذى تشتبه
عليه القبلة فيتوجه إلى جهة على تحرى فلبه بلا دليل فهذا
كلامه ذكرته على الاختصار وتركت كثيرا مما قاله لأنه لم
يكن فيه شىء يستفاد.
واعلم أن عندنا الخبر الصحيح ما حكم أهل الحديث بصحته
والذى قال من المشهور والغريب فلا ننكر أن فى الأخبار ما
هو غريب ومنها ما هو مشهور ولكن لا يعرف المشهور من الغريب
بإشهاره عند الفقهاء وعدم اشتهاره عندهم لأنه رب خبر اشتهر
عند الفقهاء وأهل الحديث لا يحكمون بصحته وهو مثل ما
يروون:
"لا وصية لوارث"1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
ج / 1 ص -398-
ويروون:
"لا تجتمع أمتى على الضلالة"1 ويروون:
"أنت ومالك لأبيك"2 ويروون:
"لا صلاة لجار المسجد إلا فى المسجد"3 ويروون:
"المكاتب عبد ما بقى عليه درهم"4
وهذه أخبار لم يحكم أهل الحديث بصحة شىء منها ورب خبر كان
غريبا عند الفقهاء وقد حكم أهل الصنعة بصحته وأما الذى قال
أن الخبر الذى تلقته الأئمة بالقبول فهو موجب للعلم فقد
ذكرنا من قبل والذى قال أن العلم الواقع به علم طمأنينة
والعلم الواقع بخبر التواتر علم ضرورة هذا تفريق ولا علم
فوق علم يطمئن به القلب نعم يجوز أن يقال فى الجملة
للمتواتر رتبة زائدة على الخبر الذى ليس بمتواتر لكن تلقته
الأئمة بالقبول كما أن للعيان رتبة زائدة على ما نعلم
بالخبر وأن تواتر الخبر لكن عدا التفاوت يعرف فى ابتداء
البداهة فإن لبداهة العيان ما ليس للخبر وأن وقع به العلم
إلا ترى أن موسى عليه السلام لما رأى قومه قد طافوا بالعجل
يعبدونه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقد كان
الله تعالى أخبره بأنهم اتخذوا العجل إلها ولم يتغير فى
تلك الحالة وأن كان وقع له العلم الضرورى بخبر الله تعالى
له بذلك ولكن للعيان من التأثير والتمكن فى القلب ما ليس
فى الخبر وهذا معنى قوله عليه السلام ليس الخبر كالمعاينة
كذلك يجوز أن يكون الخبر المتواتر الذى يسمعه فى الابتداء
عن الجمع العظيم من التمكن فى القلب ما لا يكون للخبر
الواحد وأن اتفقت الأمة على قبوله فإن أراد بالتفاوت هذا
القدر فهو صحيح والذى قال من الترتيب فى قوله أن الخبر كذا
يضل بتركه وخبر كذا يخشى أن يأثم بتركه وفى الخبر الثالث
لا يخشى فالأصوليون لا يعرفون واسطة ثالثة بين الخبر
الموجب للعلم والخبر الذى لا يوجب العلم فإن قال قائل شيئا
ودل عليه الدليل يقبل وما لا يدل عليه الدليل فهو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي الفتن 4/466 ح 2167 وقال: حديث غريب بلفظ
"إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة" وابن ماجه الفتن 2/1303
ح 3950 بلفظ "إن أمتي لا تجتمع على ضلالة" والحاكم في
المستدرك 1/115 - 116.
2 أخرجه أبو داود البيوع 3/287 ح 3530 بلفظ "أنت ومالك
لوالدك" وابن ماجه التجارات 2/769 ح 2291 2292 وأحمد
المسند 2/247 ح 6916.
3 أخرجه الدارقطني سننه 1/420 ح 2 والبيهقي في الكبرى
3/157 باب المأموم يصلي خارج المسجد بصلاة الإمام في
المسجد وبينهما حائل والحاكم في المستدرك 1/246 انظر نصب
الراية 4/412.
4 أخرجه أبو داود العتق 4/19 ح 3926 انظر نصب الراية
4/143.
ج / 1 ص -399-
مردود
وأما الغريب الذى لا يستنكر والغريب الذى يستنكر فهو أيضا
إلى أهل الصنعة.
وأنا أعلم قطعا أنه لم يكن فى هذا العلم حظ أعنى العلم
بصحيح الأخبار وسقيمها ومشهور الأخبار وغريبها ومنكراتها
وغير منكراتها لأن هذا أمر يدور على معرفة الرواة ولا يمكن
أن يقترب من مثل هذا بالذكاء والفطنة فكان الأولى به عفا
الله عنه أن يترك الخوض فى هذا الفن ويحيله على أهله فإن
من خاض فيما ليس من شأنه فأقل ما يصيبه افتضاحه عند أهله
وليست العبرة بقبول الجهلة وأن لكل ساقطة لاقطة ولكن ضالة
ناشد ولكن العبرة فى كل علم بأهله إلا ذهن ولكل عمل رجال
فينبغى أن يسلم لهم ذلك.
فإن قال قائل فما حد الخبر الصحيح عندكم قلنا قد ذكرنا من
قبل رجاله وكتبه فالأمر بالتصحيح والتمريض إليهم وقد ذكر
الحاكم أبو عبد الله الحافظ فى كتاب علوم الحديث أن صفة
الصحيح أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابى
مشهور بالصحبة ويروى عنه تابعيان عدلان ثم يتداوله أهل
الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا وقد قالوا: أن الصحيح لا
يعرف بالرواية من الثقات فقط وإنما بالفهم والحفظ وكثرة
السماع وليس للمعرفة به معين مثل المذاكرة مع أهل العلم
والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث واعلم أن الشرط الذى
شرطوه وهو أن يرويه اثنان من التابعين لا يعرفه الفقهاء
لأن عند الفقهاء أن رواية الواحد مقبولة وإذا كان ثقة فحكم
بصحة الخبر وقد ذهب بعض المتكلمين إلى شرط العدد وليس بشىء
لما ذكرنا من إجماع الصحابة على رواية الراوى الواحد فأما
أهل الحديث شرطوا هذا العدد لأنه شرط فى الصحة إلا أنهم
يسمون ما نقله الواحد من الواحد الصحيح الغريب ويجعلون ما
نقله الاثنان فما زاد وتداوله أهل الرواية بالقبول على ما
مضى من القرون الصحيح المطلق أو الصحيح المشهور ولهم أسامى
فى هذا الباب وألفاظ تواضعوا عليها لمعانى يحتاجون إليها
وذكر ذلك يطول ويمل منه الناس فاقتصرنا على هذا والله
أعلم.
مسألة الزيادة إذا انفرد بها الراوى الثقة:
يقبل عند آخر وكذلك فى قبول عامة الفقهاء1 وكذلك إذا رفع
إلى الرجل الثقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أنه إذا روى الحديث اثنان فأكثر وانفرد أحدهم
بزيادة لم يروها الآخرون وكان المنفرد بالزيادة عدلا ثقة
فلا يخلو إما أن تكون الزيادة للمزيد عليه بحيث لا يمكن
الجمع بينهما أو ليست مخالفة له فإن كانت الزيادة مخالفة
للمزيد عليه ولا يمكن الجمع بينهما.............
ج / 1 ص -400-
حديثا
ووقفه غيره فالقول قول من رفع وكان حجة مقبولة على قول من
ذكرناهم وذهب جماعة من أصحاب الحديث إلى أن الواحد إذا كان
انفرد بزيادة من بين جملة الرواة حمل الأمر فى هذه الزيادة
على الغلط وكذلك إذا رفع الواحد حديثا ووقفه أصحابه يتوقف
فى الحديث واحتج من رد رواية المنفرد وقال أن ضبط الراوى
إنما يعرف بموافقة المعروفين بالضبط فإذا لم يوافقوه فى
الرواية لم يعرف ضبطه وأيضا فإن الجماعة لو.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كان متعارضين وهذا حكم الدليلين المتعارضن وإن كانت
الزيادة غير مختلفة للمزيد عليه فلا يخلو إما أن يعلم تعدد
المجالس أو يعلم عدم تعددها أو لا يعلم واحد منهما.
أولا: فإن علم تعدد المجالس قبلت تلك الزيادة اتفاقا وذلك
هو المقتضى لقبول روايته وترك الغير لتلك الزيادة لا يقدح
في قبولها لجواز أن تكون الزيادة وقعت في مجلس لم يحضره من
تركها ومتى وجد المقتضى للقبول وانتفى المانع عمل بالمقتضى
لسلامته عن المعارض فتقبل تلك الزيادة.
ثانيا: أما إن علم عدد المجلس بأن كان المجلس واحدا فإما
أن يكون تاركوا الزيادة ممن لا يجوز عليهم الغفلة عنها بأن
كانوا عدد التواتر أو ممن يجواز عليهم ذلك.
فإن كانوا ممن لا تجوز عليهم الغفلة عن تلك الزيادة لم
تقبل لأن تطرق الخطأ إلى راوي الزيادة أولى من تطرق الخطاء
إليهم.
وإن كانوا ممن يجوز عليهم الذهول والغفلة عنها - فجمهور
الفقهاء والمتكلمين يقولون: تقبل تلك الزيادة لأن الراوي
عدل ثقة وعدم رواية الغير لها يجوز أن يكون لأنه دخل
المجلس بعد أن قبلت تلك الزيادة فيكون قد سمع بعض الحديث
ولم يسمع البعض الآخر ويجوز أن يكون لخروج من المجلس قبل
أن يسمع تلك الزيادة أو أن يكون قد ذهل عن سماعها وهذه
كلهم احتمالات لا تقدح في راوي الزيادة لأنها لا تنفي
سماعه لها وبذلك يكون المقتضى قد سلم عن المعارض فوجب
العمل به.
وقال بعض العلماء لا تقبل الزيادة مطلقا.
وفصل البعض بين أن يكون الساكت عن الزيادة واحدا فتقبل
الزيادة وأن يكون الساكت جماعة فلا تقبل منهم.
ثالثا: أما إن جهل الحال فلم يعلم تعدد المجالس ولا
اتحادها فقال الآمدي: يكون الحكم في هذه الحالة كالحكم عند
اتحاد المجلس بل يكون قبول الزيادة هنا أولى لاحتمال
اختلاف المجالس.
المثال قوله عليه السلام
"زكاة الفطر واجبة على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من
المسلمين" فإن التقييد بالمسلمين زيادة تفرد بها مالك رضي الله عنه عن باقي
الرواة انظر نهاية السول 3/217, 218 إحكام الأحكام للآمدي
2/154 انظر المحصول 2/233 روضة الناظر 110 المعتمد 2/128
أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/139, 140.
ج / 1 ص -401-
كانوا
فى مجلس فنقلوا عن واحد كلاما وانفرد واحد بزيادة على
الباقين مع كثرتهم وشدة عنايتهم بما سمعوه وطرحوه لأطرح
السامعون تلك الرواية ولم يقبلوها وأيضا فإن الجماعة لو
وافقوا هذا الراوى الواحد يقوى بموافقتهم خبره إلا إذا
خالفوه أن يضعف خبره وأما دليلنا فنقول الراوى للزيادة ممن
يجب قبول خبره ولا معارض لروايته فيجب قبولها كما لو انفرد
برواية الحديث ولم يروه غيره معه وإنما قلنا أن من يقبل
خبره لأنه اجتمع فيه العدالة والضبط وجميع الصفات المطلوبة
وإنما قلنا لا معارض لروايته لأن التارك لرواية الزيادة لم
ينفها ولا معنى.
أما قولنا لم ينفها لفظا فبين وأما قولنا لم ينفها معنى
فلأنه لبس ألا ترى أنه لم يرو هذه الزيادة وتركه رواية هذه
الزيادة لبس يجب فيه أن يكون لنفيه إياها بل يجوز أنه لم
يروها لسهو اعتراه حين تكلم به النبى صلى الله عليه وسلم
أو لشغل قلب أو تشاغل بعطاس أو أصغى إلى كلام آخر فإذا جاز
كل هذا بطل قول من قال أن التارك للزيادة نفاها معنى واعلم
أن على موجب هذه الدلالة ينبغى أن يقال أن الذى ترك رواية
الزيادة لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم أن يغفلوا بجماعتهم
عن تلك الزيادة وكان المجلس واحدا أن لا يقبل رواية راوى
الزيادة فإن قيل نعم تجوز هذه الوجوه التى ذكرتها ويجوز
أيضا أن يكون هذا الراوى الواحد غلط فى السماع فتوهم أنه
سمع تلك الزيادة من النبى صلى الله عليه وسلم ولم يكن
سمعها قيل له سهو الإنسان عما سمعه وتشاغله عن سماع ما جرى
بمشهد منه يكثر وأما توهم الإنسان أنه سمع شيئا ولم يكن
سمعه وأن كان يجوز ولكن يندر جدا لا يلتفت إليه وقد قال
الأصحاب أن الزيادة التى ينفرد بها الثقة بمنزلة الخبر
الذى ينفرد الثقة بروايته فإن لم تقبل روايته لهذه الزيادة
وجب إلا يقبل روايته لخبر ينفرد بروايته فإن قيل قول من
يثبت الزيادة يعارض قول من ينفيها قلنا قد أجبنا عن هذا
وهذا لأن القول لا يعارض بالسكوت وإنما سبيل المحدثين إذا
زاد أحدهما سبيل شهود شهد بعضهم على رجل أنه أقر له فى
مجلس بدرهم وشهد آخرون أنه اقر فى ذلك المجلس بدرهم ودينار
فالشهادتان جميعا مقبولتان وثبت الدينار مع الدرهم ولا
خلاف فى هذا بين الفقهاء وكذلك لم يختلف الفقهاء أن
الشاهدين لو شهدوا على رجل أنه طلق امرأته فى مجلس وشهد
جماعة أنهم كانوا حاضرين ولم يسمعوا طلاقها أن شهادة
الشاهدين بالطلاق مقبولة ويثبت ما شهدوا عليه واعلم أن هذا
الدليل يقتضى أن الراوى الواحد إذا كان ثقة وروى الزيادة
وقد كان فى المجلس جماعة لم يرووها أن يقبل رواية من.
ج / 1 ص -402-
روى
الزيادة ومن حيث المعنى الأول أولى قال الشافعى رحمة الله
عليه من قبل القراءة الشاذة فى كتاب الله تعالى مع أن طريق
ثبوته التواتر ورد الزيادة فى الحديث إذا انفرد الثقة
العدل بها فقد ناقض فأما الذين قالوا: أن ترك ضابط آخر
رواية هذه الزيادة يدل على غلط الأول قلنا هذا لا يصح لأنه
لو لم يثبت ضبط الإنسان إلا بموافقته ضابط آخر أدى إلى ما
لا نهاية له ولم يعرف أحد وأما الثانى الذى قالوه قلنا قد
بينا أن الذى ترك الرواية لو كانوا جماعة لا يجوز عليهم
الغفلة ينبغى أن لا يقبل رواية هذا الواحد ذلك فينبغى أن
يقول الجماعة إنهم لم يسمعوه فإنهم إذا لم يقولوا ذلك يجوز
أنهم رووا بعض الحديث ولم يرووا البعض لغرض لهم وأما قولهم
أن الضابط لو وافق هذا الراوى أوجبت القوة فإذا لم يوافق
أوجب الضعف قلنا ولم هذا لأنه بإمساكه رواية الزيادة ليس
بمخالف لأنه ليس نافى لها على ما سبق ويقال لهم أيضا لم
إذا كانت مشاركة الرواة له فى الزيادة موجب قوة خبره وجب
إذا لم يشاركوه ينتقض تلك القوة إلى ضعف موجب إسقاط
الرواية إلا ترى أن الراوى الواحد لو شارك جماعة فى رواية
خبره أوجب ذلك قوة فى خبره ثم إذا لم يشاركوه فى الرواية
لم يوجب ضعفا فى خبره يوجب إسقاط روايته واعلم أنه لا فرق
فى هذه المسألة بين أن يسند الراوى الزيادة والتارك
للزيادة ما رواه إلى مجلس واحد أو إلى مجلسين أو مطلقا
إطلاقا ففى هذه الصورة كلها يقبل إلا فى الصورة التى ذكرنا
فى أثناء المسألة ونذكر صورا من هذه الأخبار التى تفرد
الراوي الواحد فيها بزيادة فمن ذلك حديث مالك بن مغول عن
الوليد بن العيزار عن أبى عمرو الشيبانى عن عبد الله بن
مسعود قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أى الأعمال
أفضل قال:
"الصلاة لوقتها"1 ثم روى
الحسن بن مكرم وبندار عن عثمان بن عمرو بندار عن غيره عن
مالك بن مغول هذا الخبر وذكر أن النبى صلى الله عليه وسلم
قال:
"الصلاة
لأول وقتها"2 وكانت هذه
الزيادة مقبولة لأن الحسن بن مكرم وبندارا ثقتان ومثال ذلك
أيضا ما حدث ابن عمر فى صدقة الفطر رواه جماعة من الثقات
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج صدقة الفطر
صاعا من شعير أو صاعا من تمر3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري التوحيد 13/519 ح 7534 ومسلم الإيمان 1/89
ح 137/85.
2 أخرجه الترمذي الصلاة 1/319 ح 170 وأحمد المسند 2/405 ح
27170 انظر تلخيص الحبير 1/191 - 192.
3 أخرجه البخاري زكاة 3/430 ومسلم الزكاة 2/677 ح 12/984.
ج / 1 ص -403-
ثم روى
سعيد بن عبد الرحمن الجمحى عن عبد الله بن عمر عن نافع عن
ابن عمر وزاد صاعا من قمح ومثال ذلك أيضا حديث ابن عمر أن
النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"من شرب من إناء ذهب أو فضة فإنما يجرجر فى بطنه نار جهنم"1 ثم روى يحيى بن محمد الحارثى حديث زكريا بن إبراهيم بن عبد الله
بن مطيع عن أبيه عن جده عن ابن عمر هذا الخبر وزاد فيه:
"أو إناء فيه شىء كتلك" ومثال ذلك أيضا حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى
قوله:
"قسمت الصلاة
بينى وبين عبدى فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين يقول
الله تعالى حمدنى عبدى" وهو خبر صحيح ثم روى عبد الله بن زياد ابن سمعان عن العلاء بن عبد
الرحمن عن أبيه عن أبى هريرة الخبر وذكر فيه
"فإذا قال العبد بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى ذكرنى عبدى"2 وقد تفرد
بهذه الزيادة عبد الله بن زياد وفيه مقال ومثال ما ذكرنا
أيضا حديث ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهرى عن عروة
عن عائشة رضى الله عنها وعن أبيها أن النبى صلى الله عليه
وسلم قال:
"أيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها"3 الخبر ثم
روى إسحاق بن أحمد بن إسحاق الرقى حدثنا أبو يوسف محمد بن
أحمد بن الحجاج الرقى حدثنا عيسى بن يونس حدثنا ابن جريج
الخبر وزاد فيه:
"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها وشاهدى عدل فنكاحها باطل"4 والخبر محفوظ وهذه الزيادة بهذا الإسناد والله أعلم بها فإن قيل
أليس الشافعى قد وهن حديث السقاية لانفراد سعيد بن أبى
عروبة بها ومخالفة أصحابه إياه فى هذه اللفظة قلنا هذا لا
يشبه ما ضربنا من الأمثلة لأن سعيد بن أبى عروبة روى مطلقا
وغيره روى الخبر وقال قال قتادة يستسعى غير مشقوق عليه غير
حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قول قتادة فيكون هذا
الراوى قد ضبط ما خفى على الآخر فلا يكون هذا شبيها
بمسألتنا بل قد جرد ما قلنا واستمر وتكون هذه الرواية على
وفق ما سمعناه والله أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الطبراني في الأوسط 4/277 ح 4189 وقال الحافظ
الهيثمي وفيه العلاء بن برد بن سنان ضعفه أحمد وعزاه أيضا
إلى الطبراني في الصغير انظر مجمع الزوائد 5/89.
2 أخرجه مسلم الصلاة 1/296 ح 38/395 والترمذي التفسير
5/201 ح 2953.
3 أخرجه أبو داود النكاح 2/235 ح 2083 والترمذي النكاح
3/398 ح 1102 وقال حديث حسن والدارمي النكاح 2/185 ح 2184
وأحمد المسند 6/185 ح 25380.
4 الحديث بلفظ
"لا نكاح إلا
بولي وشاهدي عدل وما كان من نكاح على غير ذلك فهو باطل." أخرجه ابن حبان 1247/موارد انظر نصب الراية 3/167.
ج / 1 ص -404-
فصل: فى معرفة الترجيح بين الأخبار المتعارضة.
اعلم أنه إذا تعارض خبران فلا يخلوا أما أن يمكن الجمع
بينهما أو يمكن ترتيب أحدهما على الآخر فى الاستعمال فإنه
يفعل أيضا فإن لم يمكن وأمكن نسخ أحدهما بالآخر فإنه يفعل
فإن لم يمكن رجح أحدهما على الآخر بوجه من وجوه الترجيح
ومثال الخبرين المتعارضين الذى يمكن استعمالهما ما روى أن
النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"أيما إهاب دبغ فقد طهر"1 وقال النبى صلى الله عليه وسلم:
"لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب"2 فيحمل الحظر على ما قبل الدباغ والإباحة على ما بعد الدباغ
فيستعمل السنتان على الوجه الممكن ولأنه يطرح أحدهما
بالآخر.
وأما ترتيب أحد الخبرين على الآخر فهو مثل الخاص والعام
إذا تعارضا يرتب العام على الخاص وقد ذكرنا هذه المسألة.
وأما الناسخ والمنسوخ فكثير وسيأتى بيانه.
وأما الترجيح لأحد خبرين على الآخر فيدخل من جهة الإسناد
ويدخل من جهة المتن.
فأما الترجيح من جهة الإسناد فمن وجوه.
أحدها أن يكون أحد الراويين صغيرا والآخر كبيرا3 فنقدم
رواية الكبير لأنه يكون أضبط ولهذا قدم ابن عمر روايته على
رواية أنس فى إفراد الحج وقرانه مع العمرة فقال أن أنسا
كان صغيرا يتولج على النساء وهن منكشفات وأنا أخذ بزمام
ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم الحيض 1/277 ح 105/366 وأبو داود اللباس 4/65
ح 23/4 ولفظهما: "إذا دبغ الإهاب فقد طهر" والترمذي اللباس
4/221 ح 1728 ولفظ الحديث عنده والنسائي الفرع 7/151 باب
جلود الميتة والدارمي الأضاحي 2/117 ح 1985.
2 أخرجه أبو داود اللباس 4/66 ح 4128 والترمذي اللباس
4/222 ح 1729 وقال حديث حسن والنسائي الفرع 7/154 باب ما
يدبغ به جلود الميتة وابن ماجه اللباس 2/1194 ح 3613 وأحمد
المسند 4/381 ح 18805.
3 المحصول 2/457 إحكام الأحكام للآمدي 4/327 نهاية السول
4/475 المستصفى 2/395.
ج / 1 ص -405-
فيسيل
على لعابها.
والثانى: أن يكون أفقه فتقدم روايته على
من دونه فى الفقه لأنه أعرف بما سمع1.
والثالث: أن يكون أقرب إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيكون أولى لأنه يكون أوعى لما سمعه.
والرابع: أن يكون أحدهما باشر القصة أو
تعلق القصة به2 فيقدم روايته لأنه أعرف بالقصة من الأجنبى
عنه ومثال هذا فى مسألة نكاح المحرم ورواية أبى نافع أن
النبى صلى الله عليه وسلم كان حلالا3 وكذلك رواية ميمونة4
فيكون أولى من رواية ابن عباس أنه كان محرما5.
والخامس: أن يكون أحد الخبرين أكثر رواة
فتقدم على الخبر الذى يكون أقل رواة ومن أصحابنا من قال لا
يقدم كما لا يقدم الشهادة بكثرة العدد6 وكذلك لا يقدم أحد
الفتويين بكثرة المفتين والأول أصح لأن الترجيح يكون بوجود
قوة فى أحد الخبرين لا يوجد فى الآخر ومعلوم أن كثرة
الرواة نوع قوة فى أحد الخبرين لا يوجد فى الآخر لأن قول
الجماعة أقوى فى الظن وأبعد من السهو من قول الواحد وأيضا
أقرب إلى إفادة العلم وهو إذا بلغ عددا يقع به تواتر الخبر
وأما الشهادة والفتوى فقد منعوا والمذهب التسليم والفرق
بين الرواية والشهادة مقدرة فى الشرع بعدد معلوم فكفينا
الاجتهاد فيها وأما الرواية فقد بنى أمرها على الاجتهاد
وفى الرواة يوجد إذا كثروا ما لا يوجد إذا قلوا وهو سكون
النفس من طمأنينتها فإنه يوجد عند كثرة الرواة ما لا يوجد
عند قلتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 2/454 انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/327,
328 نهاية السول 4/477 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير
3/206.
2 انظر المحصول 2/454 انظر إحكام الأحكام للآمدي 2/327
نهاية السول 4/478 روضة الناظر 349 المستصفى 2/396 أصول
الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/206.
3 أخرجه الترمذي الحج 3/191 ح 841 وقال حديث حسن.
4 أخرجه مسلم النكاح 2/1032 ح 48/1411 وأبو داود المناسك
2/175 ح 1843 والترمذي الحج 3/194 ح 845.
5 أخرجه البخاري النكاح 9/70 ح 5114 ومسلم النكاح 2/1031 ح
46/1410.
6 المحصول 2/453 نهاية السول 4/474 روضة الناظر للمقدسي
348 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/205, 206.
ج / 1 ص -406-
والسادس: أن يكون أحد الراويين أكثر صحبة فتكون روايته أولى لأنه يكون أعرف
بما داوم عليه الرسول من السنن1.
والسابع: أن يكون أحدهما أحسن سياقا
للحديث فيقدم خبره لأنه كان أحسن عناية بالخبر من الآخر
فلهذا قدمنا جابر فى إفراد الحج.
والثامن: أن يكون أحدهما متآخر الإسلام
فتقدم روايته لأنه يحفظ أحد الأمرين من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولذلك إذا كان أحدهما متآخر الصحبة فيدل ذلك على
تآخر سماعه وهذا والأول واحد وقد قال أصحاب أبى حنيفة لا
يقدم بهذا2 لأن المتقدم قد دامت صحبته إلى حال وفاة النبى
صلى الله عليه وسلم فلا يكون للمتآخر ترجيح عليه والذى
قلناه أولا أولى لأن سماع المتآخر متحقق لغيره وسماع
المتقدم يحتمل التقدم والتآخر فما تآخر سماعه يتبين يكون
أولى ولهذا قال ابن عباس كنا نأخذ بالأحدث فالأحدث من
أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثال ذلك ما فعله
الشافعى من تقديم رواية ابن عباس فى التشهد على رواية ابن
مسعود.
والتاسع أن يكون أحد الراويين أورع وأشد
احتياطا فيما يروى فتقدم روايته لاحتياطه فى النقل.
والعاشر أن يكون أحدهما قد اضطرب لفظه
والآخر لم يضطرب لفظه فيكون الذى لم يضطرب لفظه أولى3.
والحادى عشر أن يكون أحد الخبرين رواه أهل
المدينة والخبر الآخر رواه غيرهم4 فيكون الأول أولى لأنهم
يروون أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته التى مات
عليها فهم أعرف بذلك من غيرهم.
والثانى عشر أن يكون أحد الروايين اختلفت
عنه الرواية والآخر لم تختلف عنه الرواية فمن أصحابنا من
قال بتعارض الروايتان اللتان اختلفتا وينفى رواية من لم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إحكام الأحكام للآمدي 4/327.
2 المحصول 2/460 إحكام الأحكام للآمدي 2/327 نهاية السول
4/490 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/208.
3 إحكام الأحكام للآمدي 2/326, 328 انظر المحصول 2/456
انظر نهاية السول 4/488, 497 أصول الفقه للشيخ أبو النور
زهير 3/207, 211.
4 المحصول 2/459 نهاية السول 4/494 أصول الفقه للشيخ أبو
النور زهير 3/259.
ج / 1 ص -407-
تختلف
عنه الرواية ومنهم من قال يرجح رواية من لم تختلف عنه
الرواية لمكان الاختلاف وعدم الاختلاف.
وأما ترجيح المتن فمن وجوه.
أحدها: [أن يكون أحد]1 الخبرين موافقا
لدليل آخر من كتاب أو سنة أو قياس فيقدم على الخبر الآخر
الذى لا يوجد له هذه القوة2.
والثانى: أن يكون أحد الخبرين عمل به
الأئمة فيكون أولى لأن عملهم به يدل على أنه أحد الأمرين3
وكذلك إذا عمل بأحد الخبرين أهل الحرمين فيكون أولى لأن
عملهم يدل على أن الشرع استقر عليه ويدل أنهم دونوه عن
سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قدمنا رواية
الإفراد على رواية التثنية فى الإقامة.
والثالث: أن يكون أحدهما مجمع النطق
والدليل فيكون أولى ما وجد فيه أحدهما لأنه يكون أبين.
والرابع: أن يكون أحدهما نطقا والآخر
دليلا فيكون النطق أولى من الدليل4 لأن النطق مجمع عليه
والدليل مختلف فيه ومعنى هذا الدليل دليل الخطاب.
والخامس: أن يكون أحدهما قولا وفعلا
والآخر أحدثهما فالذى يجمع القول والفعل أولى لأنه أقوى من
حيث تظاهر الدليلين وأن كان أحدهما قولا والآخر فعلا ففيه
أوجه وقد سبق فى باب الأفعال.
والسادس: أن يكون أحدهما ورد على سبب
والآخر ورد على غير سبب والذى ورد على غير سبب أولى لأنه
يكون متفقا على عمومه والوارد على سبب مختلف فى عمومه.
والسابع: أن يكون أحدهما إثباتا والآخر
نفيا فيقدم الإثبات لأن مع المثبت زيادة علم والأخذ
بروايته أولى.
والثامن: أن يكون أحدهما ناقلا والآخر
منفيا على الأصل فيكون الناقل عن الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة بالأصل.
2 روضة الناظر 349 المستصفى 2/396.
3 المستصفى 2/396 المحصول 2/470 روضة الناظر 350 نهاية
السول 4/507 إحكام الأحكام 4/359.
4 انظر المحصول 2/464 إحكام الأحكام للآمدي 4/344.
ج / 1 ص -408-
أولى
لأنه يفيد حكما شرعيا ليس فى الآخر1.
والتاسع: أن يكون فى أحدهما احتياط لا
يوجد فى الآخر فيكون الأحوط أولى لأن الأحوط أسلم للدين.
والعاشر: أن يكون أحدهما يقتضى الحظر
والآخر يقتضى الإباحة ففيه وجهان.
أحدهما: أنهما سواء لأنهما حكمان شرعيان.
والوجه الآخر: وهو الأصح أن الذى يقتضى
الحظر أولى لأنه أحوط2.
وقيل فى القسم الأول إذا تعارض خبران من روايتين ورويا من
واحد وأحدهما أعلم ممن يروى عنه فيكون أولى كالرواية فى
زوج بريرة فالذى روى أنه كان عبدا القاسم بن محمد وعروة بن
الزبير عن عائشة والذى روى أن زوج بريرة كان حرا الأسود عن
عائشة وعروة والقاسم أعلم بعائشة رضى الله عنها من الأسود
لأنهما قريباها والأسود أجنبى منها وقيل أيضا إذا تعارض
الخبران أن يجوز أن يرجح أحدهما على الآخر لأن الصحابة
تلقته بالقبول وأن لم يعرف من الصحابة فى ذلك شىء فإن كان
عوام أهل الحديث عملوا بأحدهما يقدم على الآخر وقيل أنه
يرجح أحد الخبرين على الآخر بأن يكون أحدهما أشبه بمعانى
الكتاب والثانى أشبه بمعانى السنة وهذا قد بينا فإن لم
يوجد فى واحد من الخبرين ترجيح بوجه ما وعدم الكل طرحا
ويرجع إلى ما كان عليه الإفراد أولا اعلم أن الذى تضمنه
الخبر أن ليس من دين الله إذ لو كان من دين الله لم يقع
بينهما التنافى أو كان أحدهما من دين الله لم يخل من دليل
يدل عليه فإذا لم يدل الدليل على واحد منهما من الوجوه
التى قدمناها علمنا أنه ليس من عند الله تعالى وتقدس
فأسقطناهما جميعا وقد رجح عيسى بن أبان المرسل على المسند
لأن الراوى قال قال النبى صلى الله عليه وسلم وكأنه قطع به
والآخر إحالة على غيره ونحن قد بينا أن المرسل ليس بحجة
فكيف يرجح بهذا الوصف قال القاضى عبد الجبار هذا الكلام
الذى قاله عيسى بن أبان وهو أن الراوى لا يقول قال النبى
صلى الله عليه وسلم إلا وقد وثق أن النبى صلى الله عليه
وسلم قاله إنما.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 2/464.
2 قال الرازي: إذا تعارض خبران في الحظر والإباحة وكانا
شرعيين فقال أبو هاشم وعيسى بن أبان: إنهما يستويان وقال
الكرخي وطائفة من الفقهاء: خبر الحظر راجح انظر المحصول
2/468 وقال الآمدي ذهب الأكثر كأصحابنا وأحمد بن حنبل
والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى
وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى التساوي والتساقط إحكام
الأحكام 4/351.
ج / 1 ص -409-
يصح
إذا قال قال النبى صلى الله عليه وسلم فأما إذا قال عن
النبى صلى الله عليه وسلم فلا يتأتى هذا الكلام وأيضا فإن
قول الراوى قال النبى صلى الله عليه وسلم يحسن مع الظن
لكونه قائلا لذلك كما يحسن مع العلم فمن أين أنه لم يقل
قال النبى صلى الله عليه وسلم إلا وقد روى له جماعة وظنه
أكثر من الظن الحأصل برواية المسند المعارض له فإن قالوا:
أن الذى يرسل لا يقول قال النبى صلى الله عليه وسلم إلا
وقد روى له جماعة قلنا هذا لا يعرف وقد بينا أن السكوت عن
اسم المروى عنه محتمل لوجوه كثيرة وقد رجح قوم الخبر
بالذكورة والحرية أما الحرية فلا تأثير لها فى قوة الظن
وأما الذكورة فيجوز أن يقال أن الضبط معها أشد وظاهر
المذهب أن لا يرجح بهما وقد قال قوم أن أحد الخبرين إذا
كان يقتضى إيجاب حد والآخر يقتضى نفيه فالنفى أولى لأن
الحد يسقط بالشبهة وقد قيل إنهما حسان لأن الحد إنما يسقط
عن الأعيان بالشبه فأما إثباته فى الجملة فمساو لإثبات
سائر الشرعيات وفى تعارض الخبرين فى إثبات الشىء ونفيه
كلام كثير وقد ذكر قوم موافقته دليل العقل فى النفى لأنه
الأصل فيكون أولى ويمكن أن يعارض فيقال أن الشرع ناقل كما
كان عليه فى الأصل فيكون الخبر الذى يتضمن النقل أولى من
الذى يتضمن نفيه الشىء على ما كان عليه فى الأصل وأما إذا
تضمن أحد الخبرين الحرية والآخر الرق فقد قال بعضهم أن
المثبت للحرية أولى وقال بعضهم هما سيان لأنهما حكمان
شرعيان يتقابلان ويتماثلان والأول أحسن وهو أن الحرية أولى
لأن الحرية لا يعترضها من الأسباب المبطلة لها ما يعترض
الرق والحرية لا يبطلها شىء بعد ثبوتها بخلاف الرق ومثل
أيضا فيما لو تعارض خبران أحدهما على قضية العقل والآخر
على قضية الشرع أن الذى على قضية الشرع أولى لأنه ناقل على
ما سبق وقال بعضهم إذا تعارض خبران أحدهما معلل فيكون أولى
وفى الباب كلام كثير اقتصرنا على هذا والله أعلم.
[فصل]1 اعلم أنا قد فرغنا من القول فى الأخبار وقد شرحنا
الكلام فيها على حسب ما أذن الله تعالى فى ذلك وأرجو أن
يكون قد وقع به الغنية عن كثير من تطويلات الأصوليين وقد
رأيت بعض المتأخرين من أصحابنا ضم إلى أبواب الأصول
المعروفة بابا فى تأويل الأخبار وسمى الباب باب التأويل
وذكر أن التأويل هو رد الظاهر إلى الله تعالى فى دعوى
المسئول وذكر أن الذى يطرق إليه التأويل وهو الظاهر قال
وظهوره أن يكون اللفظ فى معناه مظنونا غير مقطوع وأما
النصوص فلا يتطرق إليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
ج / 1 ص -410-
تأويل
قال ولا يجوز الاستدلال بالظواهر فيما المطلوب منه القطع
لأن ظهور معناه غير مقطوع فلا يسوغ الاستدلال به فى الأمر
المقطوع وأما فى أحكام الشرع فيسوغ الاستدلال بالظواهر وقد
كانت الصحابة يتعلقون فى تفاصيل الشرع بظواهر الكتاب
والسنة وما كانوا يقصرون فى استدلالهم على النصوص ومن
استراب فى تعلقهم بالقياس فلا يستريب فى تعلقهم بالظواهر
وعلى القطع نعلم أن الظاهر فى إفادة غلبة الظن فوق الأقيسة
فإذا جاز التعلق بالقياس جاز التعلق بالظواهر ودليل كون
الظاهر حجة فى العمليات هو الإجماع مثل ما هو الحجة فى
أخبار الآحاد سواء كانت ظواهر أو نصوصا ثم تأويل الظواهر
فى الجملة سائغ إذا قام الدليل عليه ولا بد من دليل يقوم
عليه لأن التحكم بالتأويل معتضل عليه من غير أن يعضد شىء
لا يجوز لأنه لو جاز ذلك لبطل التمسك بالظواهر أصلا فصار
التحكم بالتأويل مردودا وأصل التأويل مقبولا إذا لم يكن
على وجه التحكم بل كان مستندا إلى دليل وقد ذكر كلاما
طويلا فى المقدمة اختصرنا ما نحتاج إليه ثم ذكر أخبارا
رويت فى مسائل من الخلافيات التى تثار بين أصحاب أبى حنيفة
وذكر تأويل المخالفين لها وبدأ بمسألة النكاح بلا ولى وذكر
الخبر الذى روى فى الباب من قوله عليه السلام: "أيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل"1 ورد تأويلهم
للخبر من حملهم على الصغيرة والمكاتبة ورد تأويلهم بالكلام
المعهود وعلى ما عرف فى مسائل الخلاف واعتمد فى رد كثير من
تأويلات الخصوم بحرف واحد وهو أن الشارع صلوات الله عليه
إذا ذكر أبلغ الصيغ فى العموم لا يجوز أن يحمل على موضوع
نادر في الوجود قال ويستحيل أن يقصد الرسول صلى الله عليه
وسلم أعم الصيغ وهو قوله أيما امرأة نكحت فإن أعم الصيغ كل
وأى وما فيذكر أعم الأدوات ويكون قصده تأسيس شرع ثم زيد
والحالة هذه مكاتبة أو صغيرة دون الحرائر البالغات اللاتى
هن الغالبات المقصودات ومن ظن هذا التخصيص فى مثل هذا
العموم فقد ظن محالا وما كان إلا كمن يقول لبوابه لا تدخل
على أحد فلو دخل البواب كل مبرم ثقيل ولم يدخل قوما
مخصوصين زاعما إنى حملت لفظك على الذين منعتهم لم يقبل هذا
الكلام من البواب وكان حريا أن يؤدب ويصفع وقد ذكر من هذا
النوع لرد هذا التأويل وأمثاله كلاما طويلا وذكر عن أبى
بكر محمد بن الطيب أنه قال وأنا أعلم على الضرورة والبديهة
أن الرسول صلوات الله عليه لم يعن بقوله أيما امرأة نكحت
بغير إذن وليها المكاتبة دون غيرها أو الصغيرة دون
المبالغة ثم قال وقد سلم الرسول.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
ج / 1 ص -411-
صلى
الله عليه وسلم الموافق والمخالف أنه كان على الغاية
القصوى من الفصاحة وحمل كلامه على مثل هذه المحامل يحط
كلامه عن رتبة الفصاحة والجزالة ويكون التكلم بمثل هذا
الكلام وهو قول أيما امرأة نكحت ثم يريد المكاتبة والصغيرة
حظرا وعيا وما هذا إلا كمن يقول: رأيت جمعا من العلماء ثم
إذا روجع يفسره بقطيع من الغنم ذهابا منه إلى أنهما على
علوم يتعلق بمصالحها ومضارها ومنافعها وكذلك إذا فسره
برؤية سفلة من الجهلة ثم زعم أنهم من العلماء فى كثير من
الأشياء لم يقبل ذلك منه وعد هازلا لاعبا قال فإن قال قائل
أن الصغائر والمكاتبات داخلات تحت قوله أيما امرأة فإذا
دخلت تحت ظاهر اللفظ ولم يبعد تنزيل لفظ العموم عليهن
تخصيصا يدل عليه أن التخصيص فى اللفظ العام يجرى مجرى
الاستثناء ثم يجوز إطلاق لفظ عام يعقبه باستثناء شاذ نادر
فليكن الأمر فى التخصيص كذلك والجواب أن التأويل ليس يسوغ
بما قلتم وإنما يقبل التأويل إذا سوغه الفصحاء وأهل اللسان
وإذا سمعوا أن يستنكروا ذلك والتخصيص فى الجملة للعموم غير
مستنكر وإنما المستنكر إرادة الأخص والأخص باللفظ الأعم
الأشمل وأما الاستثناء فنقول ليس يساغ التأويل بالقياس حتى
يحمل التخصيص على الاستثناء وإنما يساغ التأويل بالوجه
الذى قدمنا وهو أن لا يكون اللفظ متباينا له وذكر أبلغ
العموم فى سياق الشرعيات وبنائها وتأسيسها متأتى لحمله على
أخص الخصوص وقد منع القاضى أبو بكر جواز مثل هذا فى
الاستثناء أيضا وإذا صدر من الرسول وغير الرسول صلوات الله
عليه إنما يجوز فى صيغة ركيكة والرسول صلى الله عليه وسلم
مبرأ من مثل ذلك وذكر بعد هذا تأويلهم فى قوله صلى الله
عليه وسلم:
"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"1
وعلى هذا اللفظ أورد فى أكثر التعاليق والمعروف قوله:
"من لم يجمع الصيام من الليل فلا صيام له"2 وقال قد أولوا هذا على النذر المطلق أو القضاء وقال وهذا تأويل
يسبه تأويلهم فى المسألة الأولى فإن هذا الكلام كلام بالغ
فى اقتضاء العموم فإذا قال النبى صلى الله عليه وسلم
ابتداءا الإنباء على سؤال ولا تنسيقا للكلام على حال فإذا
ظن ظان أن الصوم الذى هو ركن للإسلام وهو القاعدة الأصلية
لم يعيبه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرده وإنما أراد
ما يقع فرضا للفرائض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 أخرجه أبو داود الصوم 2/341 ح 2454 والترمذي الصوم 3/99
ح 730 والنسائي الصيام 4/166 باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر
حفصة في ذلك ومالك الصيام 1/288 ح 5 وأحمد المسند 6/319 ح
26513 انظر نصب الراية 2/433.
ج / 1 ص -412-
الشرعية كالمنذور أو فرعا للأداء كالقضاء فقد أبعد كل
الإبعاد وانصرف عن مأخذ الكلام وذكر تأويلهم الآخر لهذا
الخبر وهو أنه أراد إذا نوى اليوم أن يصوم غدا قال وهذا
أيضا صورة شاذة نادرة تجرى فى أدراج الوساوس ومن يفعل مثل
هذا وربما لا يقع فى الدهور الكثيرة مرة واحدة وحمل كلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الشاذ النادر باطل يدخل
عليه أن مثل هذا اللفظ إنما يذكر نهيا عن الذهول وتحذيرا
من الغفلة واستحسانا على تقديم التبييت وهذا يعلم بأول
البديهة ولا ينكره محصل فإذا حمل حامل ذلك على النهى عن
التقديم على الليل كان ذلك يقتضى مقصود الخطاب وذكر
تأويلهم فى حمل اللفظ على نفى الكمال وأجاب عنه بأن حمل
اللفظ على نفى الكمال غير ممكن فى القضاء والنذور وهما من
متضمنات الحديث فإذا تعين حمل اللفظ على حقيقتها فى بعض
المسميات تعين ذلك فى سائرها لأن الإنسان الفصيح لا يرسل
لفظه وهو يريد حقيقته من وجه ومجازه من وجه وعلى الجملة
أقول قوله لا صيام حقيقة لنفى أصل للصوم كقوله لا رجل فى
الدار نفى أصله فحمله على نفى وصف من الصوم مع تبقية أصله
مجاز ولا بد فيه من دليل ثم ذكر مسألة نكاح المشركات
وإسلام الرجل والعدد أكثر من الأربع والأخبار المروية فى
الباب وتأويل الخصوم لذلك وبين وجه بطلانه وهو وجه بين
وفساده ظاهر ولا يحتاج فيه إلى كثير إطناب وقد بينا فى
الخلافيات للفروع فلا معنى لذكر ذلك هاهنا ثم ذكر التأويل
الذى ذكره الأصحاب وقوله:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} وحمل الكثير على الجواز كقولهم جحر ضب وكقول الشاعر:
كبير أناس فى نجاد مزمل
وزيف هذا التأويل بكلمات
قالها وذكر وجها آخر فى الكلام على هذه القراءة والصحيح
إيجاب الغسل ثم ذكر أن قراءة النصب أمثل وهذا التزييف لا
ينبغى أن يسلم لهذا القائل وقد ذكر أهل اللغة فى كتبهم
والقراءتان معروفتان والغسل واجب فى الرجلين بلا ريب وترا
وقد صنف القاضى أبو الطيب الطبرى رحمه الله فى هذه المسألة
تصنيفا حسنا وبلغ الغاية ولم يحتمل هذا الكتاب إيراد ما
أورده ومن طلب ذلك أو طلب تصحيح ما قاله الأصحاب لم يعدم
الدليل عليه قال أبو الحسين بن فارس فى كتاب حلية الفقهاء
فأما غسل الرجلين فواجب ولا صلاة إلا بغسلهما والدليل على
ذلك قوله عز وجل:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}
[المائدة: 6] لأنه رده إلى قوله:
{فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] فإن قال قائل فقد قرئت بالخفض قيل له قد يعطف الاسم
على الاسم
ج / 1 ص -413-
ومعناهما مختلف إلا أنه عطف هذا عليه لقربه منه فإن الله
تعالى قال:
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ ، بِأَكْوَابٍ
وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 17, 18] ثم قال:
{وَحُورٌ عِينٌ}
[الواقعة:22] وهؤلاء يطاف بهن على أزواجهن وقد قال شاعر
العرب.
ورأيت زوجك فى الوغا
متقلدا سيفا ورمحا
والرمح لا يتقلد فى
نظرنا فوجدنا الغاسل ماسحا غاسلا فقد جمع الأمرين فوجدنا
الماسح لا يأتى إلا بأحد الشيئين فأخذنا بالغسل ويمكن أن
يقال أيضا أن الله تعالى قال فى اليدين:
{وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} وقال فى الرجلين:
{وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فقد ربط منتهى الفرض فى الرجلين بالكعبين وربط واجب اليدين
بالمرفقين ومن يكتفى بالمسح فلا معنى لذكر الكعبين عنده ثم
ذكر أن المخالفين قالوا: يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء
الأصناف لأن المرعى هو الحاجة قال وهذا تأسيس معنى يعطل
تقييدا من الله تعالى فى الآية بذكر الأصناف الثمانية ولو
كانت الحاجة هى المرغبة لكان ذكرها أولى وأحسن وأشمل فلما
نص الرب عز اسمه على الأصناف الثمانية كان التأويل باعتبار
الحاجة تعطيلا لا تأويلا فإن الحاجة قد لا تستمر فى بعض
الأصناف كالعاملين وبعض الغارمين الذين يتحملون الحمالات
لتطفئة الثائرة والفتن الثائرة وقد ذكرنا وجه كلامهم على
هذه الآية وانفصالنا عما قالوه فى كتاب الاصطلام فتركنا
ذكره هاهنا وأوردنا ما ذكره القائل على كلام مشائخهم ثم
ذكر الآية الواردة فى خمس الغنيمة وذكر عن أبى حنيفة أنه
اعتبر الحاجة لا القرابة قال والذى ذكره مضادة ومحادة وقد
ذكرنا وجه كلامهم أيضا فى كتاب المسمى علم الآية وانفصلنا
عنه فاستغنينا عن ذكر ذلك هاهنا وقد ذكرنا أنهم لا يعتبرون
مجرد الحاجة ثم ذكر قوله تعالى:
{فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}
[المجادلة: 4] وقبول الخصم من وساوس أن معناه فإطعام ستين
مسكينا وزيف هذا الكلام بوجه من العربية ونحن قد ذكرنا
بطلانه فى المسائل قال ومن الظواهر أيضا قوله عليه السلام
فى بيع الرطب بالتمر أينقص إذا جف قالوا: نعم قال فلا إذا
قال وأن لم يكن هذا أيضا فى وضع اللسان للتعليل لكنه ظاهر
فيه فمن أراد أن يزيل هذا الظاهر بقياس كان مردودا لأن ما
يظهر من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فى التعليل مقدم
على ما يظهر فى ظن المستنبط وهذا لأن القياس تعلق بمسلك من
الظن فيكون ما ظهر من كلام الرسول صلوات الله عليه فى
التعليل أولى منه وهذا الكلام يوجب أن لا يصح تخصيص العموم
بالقياس ونحن قد بينا جوازه على أصلنا فى هذه المسألة قوله
عليه السلام فلا إذا نص.
ج / 1 ص -414-
فى
فساد البيع وليس مما يتطرق إليه تأويل حتى يقال أنه يعضد
بالقياس ويؤيد به وذكر مسألة الشغار ومسائل تشبهها وحمل
الخصوم النهى فيها على الكراهة ثم قال وقد ثبت من عادات
السلف الماضيين حمل أمثال هذا على الفساد والامتناع عنه
بالكلية فمن أراد مخالفة ما ظهر لنا منهم كان فى حكم
المخالف لهم قال وهذا لا يبلغ فى السقوط مبلغ ما تقدم من
التأويلات واعلم أنه لم يكن غرضنا ذكر هذه التأويلات لأن
هذا الكتاب يشتمل على ذكر أصول الفقه وليس هذا من أصول
الفقه فى شىء إنما هذا الكلام يورد فى الخلافيات وفى
التعاليق غير أنا ذكرنا طرفا من ذلك ولا يعدم الناظر فيه
نوع فائدة وعلى الجملة لا يجوز حمل الخاطر على استخراج
التأويلات المستكرهة للأخبار وينبغى للعالم الورع أن يتجنب
ذلك ويحترز عنه غاية الاحتراز لأن الكلام على كلام الشارع
صعب والزلل فيه يكثر وقد ورد فى الخبر يحمل هذا العلم من
كل خلف عدولهم وقال فى وصفهم ينفون عنه تأويل الجاهلين
والله العاصم بمنه والمرشد إلى الصواب بفضله وعونه ونسأله
تعالى أن لا يجعلنا من هؤلاء القوم فقد بين النبى صلى الله
عليه وسلم أن الجهل يحمل الإنسان على التأويلات المستكرهة
وذكر أن العدول من علماء الأمة ينفون ذلك وذكر أيضا أنهم
ينفون تحريف الغالين وانتحال المبطلين وإلى الله الملاذ
وبه المعاذ من وساوس النفس وخواطر السوء فما ضل من ضل ولا
هلك من هلك إلا بأمثال ذلك والله المستعان.
مسألة1 هذه مسألة تتصل بالأخبار وهى ما يشتمل على القراءة
الشاذة من الحكم هل تكون القراءة الشاذة حجة فيه.
اعلم أن ظاهر مذهب الشافعى رحمه الله أن القراءة
الشاذة2 التى لم تنقل تواترا لا يسوغ الاحتجاج بها ولا
تنزل منزل الخبر الواحد ولهذا نقول أن التتابع لا يجب فى
صيام الكفارة وأن كان قد وجد فى القراءة الشاذة المنسوبة
إلى ابن مسعود رضى الله عنه فصيام ثلاثة أيام متتابعات
وأما أصحاب أبى حنيفة يعلقوا هذه القراءة الشاذة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
2 القراءة الشاذة: هي التي لم تنقل بطريق التواتر كقراءة
ابن مسعود في كفارة اليمين "فمن لم يحد فصيام ثلاثة أيام
متتابعات" وقراءته في آية السرقة "والسارق والسارقة
فاقطعوا أيمانهما" انظر نهاية السول 3/232, 333 أصول الفقه
للشيخ أبو النور زهير 3/141 حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي
3/232.
ج / 1 ص -415-
فزعموا
أن هذه القراءة وأن كان النقل قد انقطع فيها فلا يكون دون
الخبر الواحد فلا بد أن يكون حجة.
قالوا: وقد كانت قراءة ابن مسعود مستفيضة فى الأتباع
وأتباع الأتباع ثم انقطع النقل فبقيت بطريقة الآحاد فجعلنا
مواجبها بمنزلة مواجب أخبار الآحاد وتعلقوا أيضا بما نقل
فى قراءته فى آية السرقة والسارق والسارقة فاقطعوا
أيمانهما وفى مسألة نفقة المبتوتة بما وجد فى قراءة ابن
مسعود فى صورة الطلاق أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا
تضاروهن لتضيقوا عليهن وأن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى
يضعن حملهن وإذا وضعن حملهن فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن
هكذا قراءته فى المصحف المنسوب إلى عبد الله بن مسعود رضى
الله عنه فظاهرها يقتضى وجوب النفقة على الإطلاق ويقتضى أن
ذكر مدة الحمل ليس لأن النفقة واجبة وأن طالت مدة الحمل
وقد حملوا القراءة المعروفة على هذا وأثبتوا فيها تقديما
وتأخيرا ذكر ذلك أبو زيد فى الأسرار.
ونحن نقول أن الاحتجاج بالقراءة الشاذة ساقط والدليل عليه
شيئان أحدهما القرآن قاعدة الإسلام ومنبع الشرائع وإليه
الرجوع فى جميع الأصول ولا أمر فى الدين أهم منه والأصل أن
كل ما جل خطره وعظم موقعه فى أمر الدين فأهل الأديان
يتواطئون ويتفقون على نقله وحفظه وتتوفر دواعيهم على ذلك
فلو كانت هذه القراءة من القرآن الذى أنزله الله تعالى
لنقل نقلا مستفيضا ولشاع ذلك فى أهل الإسلام وحين لم ينقل
دل أنه ليس بقرآن وإذا لم يكن من القرآن الذى أنزله الله
تعالى لم يقم به حجة لأنه لو كان حجة لكان حجة من هذه
الجهة.
ببينة: أن لا خبر عن النبى صلى الله عليه
وسلم فيما أعدوه من الأحكام لا من جهة التواتر ولا من جهة
الآحاد وكونه موجودا فى بعض المصاحف لم يثبت أنه قرآن فمن
أى وجه يدعون قيام الحجة به وقولهم أن القراءة الشاذة تنزل
منزلة الخبر الواحد هذا دعوى ولا يعرف هذا وبأى دليل تنزل
منزلة الخبر الواحد ونحن نعلم أنه لا نقل فى هذه القراءات
لا من قبل التواتر ولا من قبل الآحاد ويقول أصحاب النبى
صلى الله عليه وسلم أجمعوا فى زمن أمير المؤمنين عثمان بن
عفان رضى الله عنه على هذا المصحف الذى يدعى الإمام وهو
الذى بين أظهرنا وأطرحوا ما عداه وروى أنهم حرقوا الباقى
وقيل أنه دفن وقد نقل اضطراب ابن مسعود فى ذلك غير أن
الصحابة لم يلتفتوا إلى اضطرابه واتفقوا على ما.
ج / 1 ص -416-
اتفقوا
عليه ويروى أنه ناله تأديب عمر ولم ينكر على عثمان فى ذلك
منكر يدل عليه أنه لما تجمعت عليه الطائفة المعروفة من
الكوفة والبصرة وادعوا أشياء عليه وزعموا أنه غير وبدل لم
يرو أنه ذكر أحد منهم أمر المصحف ولو كان ذلك أمرا ينكر
لكان الأهم فى ذلك أن يخصوه بالذكر ولا يدعوه جانبا وذكروا
أشياء لا تدانى هذا فثبت أن القرآن ما يحويه المصحف للمهام
واعلم أن الأولى عندى أن لا يتعرض لتلك القراءة وأشباهها
أصلا ولا يذكر أنه قرآن أو ليس بقرآن لأنه فى كلا الأمرين
خطأ وقد اشتمل الصحاح على أشياء لا توجد إلا فى قراءة ابن
مسعود ولكن مع هذا نقول لا يقوم بما فيه حجة لعدم النقل
ولأنه لو كانت تشتمل تلك القراءة على أحكام لا توجد فى
القراءة المعروفة لم يعرض عنها الأئمة ولنقلوا ذلك أما
بتواتر أو بآحاد حتى لا تضيع ولا تتعطل تلك الأحكام فهذا
وجه الكلام فى هذا والله أعلم.
وأما الإعراب الذى اختلف فيه القراء فليس كذلك مخالف
المصحف الإمام وقد ادعى أهل القراءة أن ذلك منقول بطريق
يوجب العلم ولولا ذلك لم يقروا بها حين انتهى الكلام فى
الأخبار وما يتصل بها بعون الله وتوفيقه نذكر. |