قواطع الأدلة في الأصول

ج / 1 ص -258-       القول فى البيان والمجمل والمبين وما يتصل بذلك ويتفرع عليه.
قال أبو بكر الصيرفى: البيان إخراج الشىء من حيز الإشكال إلى حيز التجلى1.
وذكر الشافعى البيان فى الرسالة فقال البيان اسم جامع لأمور متفقة الأصول متشعبة الفروع.
واعترض عليه أبو بكر بن داود وقال البيان أبين من التفسير والذى فسرته وهذا لا يصح لأن الشافعى رحمه الله لم يقصد بقوله حد البيان وتفسير معناه وإنما أراد به أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان فهى متفقة فى أن الاسم البيان يقع عليها ومختلفة فى مراتبها فبعضها أجلى وأبين من البعض لأن من البيان ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر فيه ومنه ما يحتاج إلى تدبر وتفكر فيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن من البيان لسحرا"2 فأخبر أن بعض البيان أبلغ من البعض ويدل على ذلك أن الله تبارك وتعالى خاطبنا بالنص والعموم والظاهر ودليل الخطاب وفحواه وجميع ذلك بيان وأن اختلفت مراتبها.
وقال أبو بكر الدقاق البيان هو البيان الذى يبين به العلوم.
وقيل أن البيان هو الأدلة التى يتبين منها الأحكام وبهذا قال الأشعرى والجبائى3 واختار القاضى أبو الطيب الطبرى الحد الذى ذكره أبو بكر الصيرفى وقد اعترض عليه من وجهين.
أحدهما أن البيان المبتدأ من قبل الله تعالى لا يدخل فى هذا الحد وأن كان بيانا فإنه ربما ورد من الله تعالى بيان لما لم يخطر ببال أحد فلا يكون مخرجا لشىء من حد الإشكال إلى حد التجلى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام 3/32.
2 أخرجه البخاري الطب 10/247 ح 5767 ومسلم الجمعة 2/594 ح 47/869 وأبو داود الأدب 4/303 ح 5007 والترمذي البر والصلة 4/376 ح 2028.
3 وعزاه الآمدي إلى أبي هاشم وأبي الحسين البصري واختاره الآمدي انظر إحاكم الأحكام 3/32 المعتمد 1/293.

 

ج / 1 ص -259-       والثانى أن لفظ البيان أظهر من قوله أنه إخراج الشىء من حيز الإشكال إلى حيز التجلى.
ومن حق الحد أن يكون أظهر من المحدود.
وقد قال القاضى أبو الطيب ما كان إيضاحا لمعنى وإظهارا له فهو بيان له وما دون ذلك فلا يكون بيانا والذى يبينه الله تعالى ابتداء إيضاح لما جهله الناس وما لم يتبينوه فيجوز أن يدخل تحت حد البيان.
والذى قالوا: أنه أغمض من البيان المعروف فليس بشىء لما ذكرناه من دليله.
وحكى القاضى أبو الحسن الماوردى عن جمهور الفقهاء أن البيان إظهار المراد بالكلام الذى لا يفهم منه المراد إلا به وهذا الحد أحسن من جميع الحدود لأن البيان فى اللغة هو الظهور والكشف من قوله بان الهلال إذا ظهر وأبان ما فى نفسه إذا أظهر ويعترض الحد الذى ذكره المتكلم فيقال أن الله تعالى قد قال:
{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فى الكتاب دليل فدلت الآية أن البيان غير الدليل.
وقول أبى بكر الدقاق فى الحد حسن أيضا.
وإذا عرفنا الحد فاعلم أن النص والظاهر والعموم ودليل الخطاب والفحوى كل هذا بيان وقد ذكرنا من قبل حد العموم وحد دليل الخطاب وفحواه فنذكر الآن معنى النص والظاهر وحدهما فنقول.
النص ما رفع فى بيانه إلى الحكم غايته ومنه منصة العروس ترتفع عليها على سائر النساء وتتكشف لهن بذلك.
ومما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص معناه رفع فى السير على ما كان يسير من قبل.
ومنه قول امرىء القيس:

وجيد كجيد الريم ليس بفاحش     إذا هن نصته ولا بمعطل

وقال القاضى أبو حامد النص ما تعرى لفظه عن الشركة ومعناه عن الشبهة وقيل ما استوى ظاهره وباطنه وقيل كل لفظ مقيد لا يتطرق إليه تأويل1.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النص لغة: بلوغ الشيء ومنتهاه وعند الأصوليين يطلق بإطلاقين:
أحدهما: ما دل على معناه من كتاب أو سنة وثانيهما: ما دل على معناه من غير احتمال والمراد بالنص هنا هو الإطلاق.
انظر نهاية السول 2/60, 61 والمحصول 1/462 انظر البرهان 1/412, 413 روضة الناظر 156, 157 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/16.

 

ج / 1 ص -260-       والألفاظ قريبة بعضها من بعض والأول حد حسن والأول عندى هو الأولى واعترض بعضهم على ذكر اللفظ وقال الفحوى نص وليس بلفظ ونحن نقول أن الفحوى ليس بنص ولكنه مقتضى له1.
وقد ذكر أبو زيد من أربعاتة التى ذكرها فى أصوله ونقصد إيراد أربعة أوجه فى كل فصل بذكره إيراد من لا ينظر إلى معنى وإنما ينظر إلى صورة عدد تورده ويكون قصده بلوغ العدد المقصود لا غير فقال فى أقسام الثابت بالظاهر دون الظاهر والرأى هذه الأحكام أقسام أربعة الثابت بعين النص والثابت بدلالة النص والثابت بإشارة النص والثابت بمقتضى النص وزاد غيره فقال والثابت بضم النص.
فالثابت بعين النص يكثر.
وأما الثابت بدلالة النص فذكر قوله تعالى:
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] فثبت من دلالة النص ملك الكفار أموال المسلمين لأنه جعل لهم أموالا ثم سماهم فقراء والفقير هو عديم الملك لا البعيد من الملك لأنه ضد الغنى والغنى من ملك لا من أصابه بيده.
قال وكذلك قوله:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15] فيه دلالة على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وقد اختص بفهمه عبد الله بن عباس رضى الله عنهما.
وكذلك قوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] فيه دلالة على أن الجنابة لا تضاد الصوم لأنه تعالى أباح الجماع إلى مدة الصباح ثم أمره بإتمام الصوم ومن ضرورة إباحة الجماع إلى مدة الصباح وجود الجنابة بعد الصبح وذكر من هذا الجنس مسائل.
وأما إشارة النص فهو مثل قوله تعالى:
{فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا} [الاسراء: 23] فيه دلالة على تحريم الشتم والضرب.
وكذلك قوله تعالى:
{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فلما أوجب القضاء إذا أفطر بعذر ففيه دلالة أنه إذا أفطر بغير عذر يوجب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اختاره إما الحرمين انظر البرهان 1/413.

 

ج / 1 ص -261-       عليه القضاء.
وكذلك ما روى أن ماعزا زنا فرجم1 صار رجم ماعز ثابتا بالنص ورجم غيره ثابتا بدلالة النص وذكر أمثلة لهذا أيضا منها الأكل مع الوطء فى نهار رمضان وغير ذلك وخرج عليه مسألة اللواطة مع الزنا وذكر أنها دونه ومسألة القتل بالمثقل وذكر أنه دون القتل بالسيف وهذه أشياء قد ذكرت في خلافيات الفروع وقد تكلمنا على ذلك.
قال وأما الثابت بمقتضى النص فهو زيادة على النص لا يتحقق مع النص بدونها فاقتضاها النص حتى يتحقق معناه ولا يلغو وصار المقتضى مضافا إلى النص مثل حكمه وشبه هذا بشرى الأب2 فإنها إعتاق حكما وأن لم توجب العتق بنفسه بل بزيادة الملك ولكن لما ثبت الحكم بالشرى صار حكمه وهو العتق مع الملك حكمين للشرى قال وهذا لا خلاف فيه وهو إنما مثل قوله أعتق عبدك عنى على ألف فالملك يقتضى هذا النص ثم أنه ذكر أنه لا عموم للمقتضى.
قال وعند الشافعى رحمه الله له عموم واحتج لنفسه وقال المقتضى ساقط من النص بعينه فى الأصل لا حكم له وإنما أثبتنا ضرورة أن يصير الكلام مفيدا فإذا ثبت بقدر ما صار به الكلام مفيدا زالت الضرورة فيسقط ثبوته كالميتة حكمها الحرمة فى الأصل والحل ثبت ضرورة فيعذر تقديرها وهو قدر سد الرمق دون ما سواها من التمول والجمل والشبع.
ونحن نقول أن المقتضى يجوز أن يدعى فيه العموم لأنه ثابت ضرورة فصار كالثابت نصا ونقول كلما أمكن طلب فائدة العموم منه يجوز أن تطلب لأن الاختصار والحذف عام فى كلام العرب ويعدونه من الفصاحة والبلاغة فصار المقتضى كمضمر الكلام ثم دعوى العموم فى المضمر جائز كذلك فى المقتضى والمضمر مثل قوله:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] معناه أهل القرية وكقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] معناه اشتعل شعر الرأس شيبا وغير ذلك وقد ذكروا مضمر النص هذا هو الذى قلناه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الرجل إذا ملك والده أو ولده أنه يعتق عليه ساعة يملكها انظر الأشراف 3/179.

 

ج / 1 ص -262-       واعلم أن هذا الذى أوردوه ليس فى أكثره ما يعترض عليه وما قالوه على أصولهم فقد أحسنوا فى مواضعه لكن هذه الأقسام ليست بنص إنما النص ثابت بعينه وأما الثابت بعموم ودلالة لا يكون نصا إنما هو دليل مستخرج من النص وإنما المقتضى من الضمير فيجوز أن يقال أنه نص أو بمنزلة النص كما بينا أنه على وفق لسان العرب.
وقد ذكر بعض أصحاب أبى حنيفة أن العموم نص فيما يتناوله من المسميات وقد سمى الشافعى الظواهر نصا فى مجارى كلامه1 والأولى أن لا يسمى العموم نصا لأنه يحتمل الخصوص ولأن العموم فيما يدخل فيه من المسميات ليس بأرفع وجوه البيان ولكن العموم ظاهر.
ونحن نقول حد الظواهر هو لفظ معقول يبتدر إلى الفهم منه معنى مع احتمال اللفظ غيره فعلى هذا العموم ظاهر فى الاستيعاب لأنه يبتدر إلى الفهم ذلك مع أنه يحتمل غيره وهو الخصوص.
وكذلك الأمر يجوز أن يقال هو ظاهر فى الإيجاب لأنه يبتدر الفهم ذلك مع أنه يحتمل غيره وهو الندب والإباحة.
وكذلك صيغة النهى ظاهر فى التحريم ويحتمل غيره من الكراهة والتنزيه وعلى هذا قوله:
"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"2 ظاهر فى نفى الجواز ويحتمل نفى الفضيلة والكمال.
وكذلك قوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ظاهر فى نفى الجواز ويحتمل نفى الفضيلة وأمثال هذا تكثر.
ومن ذلك يلقى المفهوم من الخطاب المقيد بالصفة ظاهر فيما يستعمل فيه المفهوم وقد يتبع مثل هذا الظاهر فى الحروف مثل إلى الغاية وغير ذلك.
وهكذا فى الظاهر كل لفظ يحتمل معنيين وأكثر وبعضها أظهر وأولى باللفظ فيحمل على الأولى والأظهر ويكون اللفظ ظاهر فيه وهذا قريب مما ذكرناه من قبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره إمام الحرمين عن الشافعي والقاضي أبو بكر وصححه انظر البرهان 1/416.
2 أخرجه أبو داود الصوم 2/341 والترمذي الصوم 3/99 ح 730 والنسائي في الصوم 4/166 باب ذكر اختلاف الناقلين لخبر حفصة في ذلك انظر نصب الراية 2/433.

 

ج / 1 ص -263-       وأما المجمل فاعلم أنه قد يعلق المجمل على العموم ومن قولك أجملت الحساب إذا جمعت إفادة له وأن أثبته تحت صيغة جامعة ولكن المجمل على اتفاق الأصوليين مخالف للعموم وقيل المجمل ما لا يفهم منه المراد به وقيل ما عرف معناه من غيره1 فإن قال قائل هلا اكتفى الشرع بالبيان عن الإجمال قلنا أجمل ليتفاضل درجة العلاء بالاجتهاد وبدراسة معانيه.
ثم اعلم أن المحتاج إلى البيان ضربان:
أحدهما ما يحتاج إلى بيان ما لم يركب وهو العموم الذى قصد به الخصوص.
والضرب الثانى ما يحتاج إلى بيان ما فيه وهو المجمل الذى لا يفهم منه المراد ونقول الإجمال قد يكون فى الاسم المشترك مثل القرء2 ينطلق على الحيض والطهر والشفق يطلق على الحمرة والبياض والذى بيده عقدة النكاح يطلق على الأب والزوج والمراد من اللفظة واحد من هذين فى هذه المواضع.
والاجتهاد داخل فى المراد باللفظ وكذلك يجوز أن يكون الدليل من قرينة تتصل باللفظ وقد يكون الإجمال فى المراد باللفظ مع أن اللفظ فى اللغة لشىء واحد3 وذلك مثل قوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] غير أن البيان فى هذا النوع من المجمل موقوف على الرسول صلوات الله عليه بقول منه أو فعل.
وقد يكون البيان بالاجتهاد مثل قوله:
{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] وقد اجتهد العلماء فى أقل الجزية وقال سبحانه وتعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] أجمل الله تعالى وكذلك ذكر العدد الذى ينعقد به الجمعة حتى اجتهد العلماء فيه وقال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن المجمل لغة: هو المجموع يقال: أجملت الشيء جمعته ومنه أجمل الحساب جمعه وفي الاصطلاح عرف بتعريفات كثيرة نقتصر منها على تعريفين:
أحدهما: هو ما لم تتضح دلالته أي له دلالة غير واضحة.
وثانيهما: اللفظ الذي أطلق لم يفهم منه شيء انظر نهاية السول 2/61 إحكام الأحكام 3/9 المحصول 1/463/464 البرهان 1/419 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/3.
2 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/11 المعتمد 1/306 نهاية السول 2/209 روضة الناظر 159 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/9.
3 انظر إحكام الأحكام للآمدي 3/13.

 

ج / 1 ص -264-       مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] فأجمل الله تعالى نفقة السر وجاءت فى أكثرها وأوسطها وأقلها حتى اجتهد العلماء فى ذلك فهذا وأنواعه من المجمل الذى يوصل إلى بيانه من أصول أدلة الشرع.
فإن قال قائل ما حكم المجمل قبل ورود البيان.
قد قالوا: أن التزام المجمل قبل بيانه واجب والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال:
"ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك فأعلمهم أن فى أموالهم حقا يؤخذ من أغنيائهم ويرد فى فقرائهم"1 فقد أوجب عليهم التزامها قبل بيانها.
واختلف أصحابنا فى كيفية التزامها قبل البيان.
فقال بعضهم إنهم يتعبدون قبل البيان بالتزامه بعد البيان.
وقال بعضهم إنهم يتعبدون قبل البيان بالتزامه مجملا وبعد البيان بالتزامه مفسرا ومن وجوه المجمل ما يكون المجمل فى بعض الخطاب فيكون مقتضيا لإجمال صيغة وذلك مثل قوله تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] لما كان الحق مجملا صار ما نهى عنه من القتل مجملا ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا"2 لما كان الحرام والحلال مجملين صار المراد بالصلح مجملا.
ومن المجمل ما لا يكون إجمال بعضه مقتضيا إجمال باقيه وهو أن يكون بعضه مستقلا بنفسه وبعضه مفتقرا إلى البيان كقوله تعالى:
{وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فالجنب مجمل والغسل مفتقر لا يصير بإجمال الجنابة مجملا ويكون البيان إذا ورد مقصورا على موضع الإجمال.
وأما المفسر فهو المنصوص ومحاويها ومفهوماتها المستقلة بأنفسها فلا تحتاج إلى بيان بظهور معناه بنفسه.
وحد المفسر ما يفهم منه المراد به وقيل ما يعرف معناه من لفظه وكل خطاب استقل بنفسه وعرف المراد به فهو من المفسر الذى يستغنى عن البيان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 أخرجه أبو داود الأقضية 3/302 ح 3594 والترمذي الأحكام 3/625 ح 1352 وابن ماجه الأحكام 2/788 ح 2353.

 

ج / 1 ص -265-       فصل: وإذا وصلنا إلى هذا الموضع نذكر:
المحكم والمتشابه.

فإنما يعرف معناهما من المجمل والمفسر فنقول أن الله تعالى وصف جميع القرآن بأنه محكم وبعضه بأنه متشابه.
فالأول قوله تعالى:
{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] ومعناه أن منزله أحكمه على وجه لا يقع فيه تفاوت.
والثانى قوله تعالى:
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} [الزمر: 23] ومعناه أنه متماثل فى الدلالة والإعجاز والعلو.
وأما الثالث فقوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] واختلف العلماء فى هذا المحكم والمتشابه على أقاويل فقال عبد الرحمن بن زيد المحكم هو الذى لم يتكرر ألفاظه والمتشابه الذى تكررت ألفاظه وعن ابن مسعود وابن عباس رضى الله عنهم أن المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ.
وقال مجاهد المحكم ما لا يتشابه معانيه والمتشابه ما اشتبهت معانيه.
وقال بعضهم المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا فلم يحتج أى نظر وتدبر والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها واحتاج إلى تأمل وتفكر فى الوقوف على المراد به1.
وأحسن الأقاويل أن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه وكلفهم الإيمان به والمحكم مما أطلع العلماء عليه وأوقفهم على المراد به وهذا هو المختار على طريقة السنة وعليه يدل ما ورد من الأخبار وما عرف من اعتقاد السلف فعلى هذا يكون على قوله تعالى:
{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} وقف تام ثم يبتدىء قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} واو العطف إلا شرذمة قليلة من الناس واختاره البعض من المتأخرين.
وقد كان يعتقد مذهب السنة وعليه يدل كلامه فى كتبه لكنه سها فى هذه المسألة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المستصفى 1/106 البرهان 1/419, 420 شرح المنار لابن مالك 100 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/17.

 

ج / 1 ص -266-       ولكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة.
وقد نقل بعضهم مثل ذلك عن مجاهد من السلف ولا أعلم تحققه وقد تكلمت فى هذا ودللت على ما يذهب إليه أكثر السلف فى كتاب منهاج السنة وأوردت على مافيه الغنية فاقتصرت فى هذا الكتاب على هذا القدر والله الموفق للصواب والهادى إلى الرشاد بمنه.

فصل: ويذكر بعد هذا الذى ذكرنا:
الحقيقة والمجاز وما يتصل بهما.

كما يشتمل القرآن على المجمل والمبين والمبهم والمفسر والخاص والعام والمحكم والمتشابه فهو يشتمل أيضا على الحقيقة والمجاز وكذلك التشبيه.
وأنكر قوم وجود المجاز فى اللغة1 ولا يخلو كلامهم فى ذلك أما يكون خلافا فى معنى أو عبارة والخلاف فى المعنى ضربان.
أحدهما أن يقولوا أن أهل اللغة لم يستعملوا الأسماء فإما يقولوا أنه مجاز فيه نحو اسم الحمار فى البليد والأسد فى الشجاع وهذا مكابرة لا يرتكبها أحد.
وإما أن يقولوا أن أهل اللغة وضعوا فى الأصل اسم الحمار للبليد كما وضعوا للبهيمة وهذا باطل لأنه كما يعلم لم يضطرد أنهم يستعملون ذلك فى البليد فإنه يعلم أنهم استعملوا ذلك على طريق التشبيه وأن استحقاق البليد هذا الاسم ليس كاستحقاق البهيمة وكذلك يسبق إلى الأفهام من قول القائل رأيت الحمار البهيمة البليد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم أن وقوع المجاز في اللغة فيه أقوال المعروف منها ثلاث:
الأول واقع مطلقا في اللغة والقرآن والحديث وهو لجمهور العلماء.
الثاني: غير واقع مطلقا وينسب هذا القول إلى الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني وأبي علي الفارسي.
الثالث: واقع في غير القرآن وليس واقعا في القرآن وهذا القول لبعض الحنابلة وبعض الرافضة وهو المعروف عن أبي بكر بن داود الأصفهاني الظاهري ونقل البيضاوي عنه أنه منع وقوع المجاز في الحديث أيضا ولم يشتهر هذا عنه انظر نهاية السول 2/148, 149 المحصول 1/130 المعتمد 1/24 المستصفى 1/105 شرح المنار لابن مالك 108 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/64, 65.

 

ج / 1 ص -267-       ولو كان ذلك موضوعا لهما على السواء لم يسبق إلى الأفهام أحدهما.
فإن قيل فإذا كانت الحقائق تعم المسميات فلماذا تجوزوا بالأسماء فى غير ما وضعت له قلنا المجاز يشتمل على أشياء لا توجد فى الحقيقة يقصدها العرب فى كلامها منها المبالغة وإنا إذا وصفنا البليد بأنه حمار نكون أبلغ فى البيان عن بلادته من قولنا بليد ومنها الحذف والاختصار ومنها التوسع فى الكلام ومنها الفصاحة وأما الخلاف فى الاسم فبأن مبهم المجاز أن استعمال اسم الحمار فى البليد ليس موضوع له فى الأصل وأنه بالبهيمة أخص لكن نقول لا نسميه مجازا إذا عنى به البليد ولأن أهل اللغة لم يسموه بذلك بل أسميه مع قرينة حقيقة.
فيقال له أن أردت أن العرب لم تسميه بذلك فصحيح وأن أردت أن الناقلين عنهم لم يسموه كذلك فباطل تلقيهم كتبهم بالمجاز وأنهم يقولون فى كتبهم هذا الاسم مجاز وهذا الاسم حقيقة وليس إذا لم يشتهر العرب بذلك يمنع أن يضع الناقلون عنه له هذا الاسم ليكون آلة وأدلة فى صناعتهم لأن عبارة أهل الصنايع أنهم يعقلون ذلك ولهذا يسمى النحاة الضمة المخصوصة رفعا والفتحة نصبا ولم يلحقهم بذلك عتب وأما تسمية الخصم مجموع الاسم والقرينة مجموع حقيقة فإنه أوضح ذلك بقدح ذلك فى تسمية أهل اللغة الاسم بانفراده مجازا على ما حكيناه عنهم.

فصل: فى حسن دخول المجاز فى خطاب الله عز وجل وفى أنه قد خاطب به.
ذهب الجمهور إلى أن الله تعالى قد خاطبنا فى القرآن بالمجاز ونفى بعض أهل الظاهر ذلك1 وقالوا: أن العدول عن الحقيقة إلى المجاز للعجز عن التكلم بالحقيقة وذلك يستحيل على الله تعالى ولو خاطب الله تعالى بالمجاز والاستعارة لصح وصفه بأنه متجوز فى خطابه وبأنه مستعير ولأن المجاز لا يغنى عن معناه بنفسه فورود القرآن به يؤدى إلى الالتباس ولأن القرآن كله حق فيكون كله حقيقة لأن الحق والحقيقة معنى واحد.
أما دليلنا فنقول فى الدليل على حسن ذلك أن القرآن أنزل بلسان العرب وفى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نهاية السول 2/148, 149 المحصول 1/140 المستصفى 1/105 شرح المنار لابن مالك 108 أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير 2/64, 65.

 

ج / 1 ص -268-       إنزال الله تعالى القرآن بلسان العرب يقتضى حسن خطابه إيانا فيه بلغتها ما لم يكن فيه تنفير والتنفير يكون بالكلام السخيف الذى ينسب قائله إلى المجون والغى وليس هذا سبيل المجاز لأن أكثر الفصاحة إنما يظهر بالمجاز والاستعارة ثم الدليل على أن فى القرآن مجازا كقوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [لكهف: 77] وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] وقوله تعالى واخفض لهما جناح الذل من الرحمة الإسراء 24 وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] وقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] أى شدة وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] أى ذاهبا وقال تعالى فى حل النساء: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] وقال تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله المائدة 64 فليس يخلو أما أن يقول هذه الألفاظ وضعت فى الأصل للمعانى التى أراد الله سبحانه وتعالى وهذا قد أفتاه من قبل وأما أن يقول: هذا الكلام كان مجازا فى اللغة بهذه المعانى ثم نقل إليها بالشرع فصار من الحقائق الشرعية وهذا باطل لأنه لو كان كذلك لسبق إلى أفهام أهل الشرع معانيها التى أرادها الله عز وجل كما يسبق إلى أفهامهم الصلاة الشرعية ومعلوم أنه لا يسبق إلى الأفهام فى قوله: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [لكهف: 77] الإرادة التى توجد للإنسان وقوله: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] الصدع الذى هو الشق وكذلك فى قوله: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الاسراء: 24] الجناح الذى يكون للطائر فثبت بطلان ما ادعوه وعرف قطعا وجود المجاز فى القرآن.
فأما قولهم أن العدول إلى المجاز عجز إنما يقتضى العجز عن الحقيقة أو لم يحسن العدول إلى المجاز مع التمكن من الحقيقة ومعلوم أن العدول إلى المجاز يحسن لما فيه من زيادة اللفظ والمبالغة فى التشبيه والتوسع فى الكلام والاختصار والحذف على ما هو عادة العرب فدل أن ذلك ليس بعجز.
وأما قولهم أنه لو جاز ذلك لجاز أن يسمى الرب عز وجل متجوزا أو مستعيرا.
قلنا عندنا لا يجوز أن يسمى الرب تعالى أو يوصف بوصف إلا الذى ورد به القرآن والسنة ولأنه لما يقال فى العادة فلان متجوز فى أفعاله وأقواله إذا كان يسمى بالقبح منها.
وأما قولنا مستعير فإنما يفهم من إطلاقه إذا استأذن غيره فى التصرف فى ملكه.

 

ج / 1 ص -269-       لينتفع به وكل ذلك يستحيل على الله عز وجل.
وأما قولهم أنه يؤدى إلى الالتباس قلنا لا التباس مع القرينة الدالة على المراد.
وأما قولهم أن كل القرآن حق فيكون كله حقيقة.
قلنا ليس الحقيقة من الحق فسنبين أن الحق فى الكلام أن يكون صدق وأن يجب العمل به والحقيقة أن يستعمل اللفظ فيما وضع له وسواء كان صدقا أو كذبا إلا ترى أن قول النصارى ثالث ثلاثة ليس بحق وهو حقيقة فيما أرادوه وقوله صلى الله عليه وسلم:
"يا أنجشة رفقا سوقا بالقوارير"1 ليس بحقيقة فيما قيلت فيه وهو صدق وحق فدلنا أن أحدهما غير الآخر ويقول: أن القرآن نزل بلسان العرب قلنا اشتمل القرآن على أقسام كلامهم فيما عدا المجاز اشتمل أيضا على المجاز ليكون كلام الله تعالى جامعا لأقسام الكلام فيكون أبلغ فى الإعجاز مع التحدى وهذا الكلام وجيز حسن والله الهادى بمنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الأدب 10/597 ح 6202 ومسلم الفضائل 4/1811 ح 70/2323 وأحمد المسند 3/131 ح 12047.

فصل: وإذا ثبت جواز المجاز فى القرآن والسنة فلكل مجاز حقيقة وليس لكل حقيقة مجاز.
لأن الحقيقة أصل المجاز فافتقر المجاز إلى الحقيقة ولم تفتقر الحقيقة إلى المجاز.
وأما حد الحقيقة والمجاز فقال بعضهم الحقيقة2 هى اللفظة المستعملة فى موضعها والمجاز3 هو اللفظ المستعمل فى غير موضعه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 الحقيقة على وزن فعيلة بمعنى مفعول مأخوذ من الحق بمعنى الثبوت - فإن كانت بمعنى فاعل فمعناها الثابتة من حق الشيء إذا ثبت وإن كانت بمعنى مفعول فمعناها المثبتة من أحق الشيء إذا أثبته منه نقلت من الثابت أو المثبت إلى الاعتقاد المطابق للواقع لأنه فرد من أفراد الثابت والعلاقة الكلية والجزئية ثم نقلت إلى القول الدال على الاعتقاد المطابق للواقع من باب اطلاق اسم المدلول على الدال.
والحقيقة اصطلاحا: هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في اصطلاح التخاطب إحكام الأحكام للآمدي 1/36 نهاية السول 2/146 المحصول 1/111, 112 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/51.
3 المجاز أصله مجوز على وزن مفعل مأخوذ من الجواز بمعنى العبور يقال جزت النهر يعني............=

 

ج / 1 ص -270-       وأحسن من هذا أن يقال الحقيقة ما استغنت بها ما وضعت له والمجاز ما استفيد به غير ما وضع له.
وقال بعضهم ما انتظم لفظها معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل فهو حقيقة وما لا ينتظم لفظه معناه أما لزيادة أو نقصان أو نقل فهو مجاز.
واعلم أن للحقيقة والمجاز شروطا يعتبرونها.
أحدهما أن الحقيقة والمجاز لا يدخلان فى أسماء الألقاب ويدخلان فى أسماء الاشتقاق.
والثانى أنه لا يخلو منهما كلام وضعه أهل اللغة لشىء فإن خلت اللغة من وضع لفظ لشىء خرج عن الحقيقة والمجاز.
والثالث ما ذكرنا فإنه لا يجوز أن يكون اللفظ مجازا فى شىء ولا يكون له حقيقة ويجوز أن يكون حقيقة فى شىء ولا يكون له مجازا عن غيره.
والرابع أن الحقيقة مطردة والمجاز غير مطرد.
والخامس أن الحقيقة تتعدى والمجاز لا يتعدى لأنه إذا سمى الرجل أسود لسواده.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عبرته من الشاطئ إلى الشاطئ - ومجوز مصدر ميمي صالح للزمان والمكان والحدث فهو إما نفس الجواز أو زمانه أو مكانه نقل من هذا المعنى إلى الفاعل وهو الجائز يعني العابر والعلاقة الكلية والجزئية إن كان مأخوذا من نفس الجواز وهو الحديث لن المصدر جزء من المشتق كل له والحالية أو المحلية إن كان مأخوذا من الجواز بمعنى مكان العبور ويكون ذلك من إطلاق اسم المحل على الحال.
المجاز اصطلاحا فهو نوعان: مجاز لغوي وثانيهما: مجاز عقلي وهو ما قصده البيضاوي بالمجاز المركب.
المجاز اللغوي هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له في اصطلاح التخاطب لعلاقة وقرينة ثم المجاز اللغوي إن كانت علاقته خصوص المشابهة فهو مجاز لغوي بالاستعارة مثل قولك رأيت أسدا في الحمام تريد الرجل الشجاع - وإن كانت العلاقة غير المشابهة كالعلاقة التي يأتي ذكرها فيما بعد فهو مجاز لغوي مرسل.
والمجاز اللغوي مطلقا سواء كان مرسلا أو بالاستعارة لا يقع إلا في مركب فلا يقع في المفرد لأن المفرد وحده لا يفيد.
أما المجاز العقلي: فهو إسناد الفعل أو ما في معناه إلى غير ما هو لعلاقة وقرينة - مثل قول المؤمن: أثبت الربيع النقل فإن إسناده الإثبات إلى الربيع مجاز لأن المثبت هو الله تعالى والعلاقة أن الربيع سبب في الإثبات والقرينة أن القائل مؤمن نهاية السول 2/148, 149 المحصول 1/112, 113 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/63, 64.

 

ج / 1 ص -271-       جاز أن يسمى كل أسود من غير الرجال وإذا سمى الرجل الشديد أسدا لم يجز أن يسمى كل شديد من غير الرجال أسدا.
واعلم أنه إذا كان للفظة حقيقة ومجاز وجب حملها على الحقيقة دون المجاز1 بحكم الظاهر إلا بدليل يصرفه عن الحقيقة إلى المجاز فيحمل على المجاز بالدليل.
والحقيقة على ثلاثة أضرب لغوية وعرفية وشرعية.
والمجاز على ثلاثة أضرب لغوى وعرفى وشرعى.
فاللغة أصل فيهما والعرف ناقل لهما عن اللغة إلى العرف والشرع ناقل لهما عن اللغة والعرف.
أما الحقائق اللغوية2 فمعلومة لكل أحد فإنه يوجد فى اللغة ألفاظ مقيدة للشىء الواحد على الحقيقة وقد يوجد أيضا ألفاظ مقيدة للشىء وبخلافه حقيقة على طريق اشتراك وضع من هذا قرء والدليل على جواز ذلك أنه لا يمتنع أن يضع قبله أتم القروء للحيض فيضع أخرى للطهر ويشيع ذلك ويجعل كون الاسم موضوعا لهما من جهة قبيلتين فهم من إطلاقه الحيض والطهر على البدل أوعلى أن وجود مثل هذه الأسماء يغنى عن الدليل وقد ذكره أهل اللغة فى كتبهم.
وأما مسألة الحقائق الشرعية فقد ذهب الفقهاء وأكثر المتكلمين إلى أن الاسم اللغوى يجوز أن يتقبله الشرع إلى معنى آخر فيصير اللفظ فى ذلك المعنى حقيقة شرعية ونفى قوم من أهل العلم ذلك وهو اختيار القاضى أبى بكر محمد بن الطيب وذهبوا إلى أنها مقرة على حقائق اللغات لم ينقل ولم يزد فى معناها.
وذهب طائفة من الفقهاء إلى أنها أقرب وزيدت فى معناها فى الشرع3 والأصح.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/117 نهاية السول 2/147 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/52/53.
2 انظر المستصفى للغزالي 1/359.
3 اعلم وفقك الله أن الحقيقة الشرعية وهي ألفاظ استعملها الشارع في معان لم تضعها العرب لها إما لمناسبة بينها وبين المعاني اللغوية وإما لغير مناسبة.
مذاهب العلماء ثلاثة:

القول الأول: وهو للقاضي أبي بكر الباقلاني - الحقيقة الشرعية غير موجودة وما يظن أنه موجود منها فهو مستعمل في معناه اللغوي غاية الأمر أن الشارع شرط في اعتبار هذا المعنى شروطا لا يكون معتبرا بدونها فالصلاة في الشرع مستعمل في الدعاء بشرط أن ينضم إليه..........=

 

 

ج / 1 ص -272-       هو القول الأول وصوروا الخلاف فى الصلاة والزكاة والحج والعمرة وما أشبه ذلك فإن الصلاة فى اللغة الدعاء وقيل من ملازمة الشىء من قولهم صلى بالنار واصطلى بها1 والزكاة هى النمو2 لغة والحج والعمرة القصد3 وقد حمل الشارع الصلاة لأفعال مخصوصة والزكاة لفعل مخصوص من إخراج مال مخصوص والحج والعمرة لأفعال فى أزمنة معلومة والحج من يتبع ذلك.
وقال أن الله تعالى أتى فى القرآن بلسان العرب وقال بلسان عربي مبين وقوله تعالى:
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [ابراهيم: 4] والصلاة فى لغة العرب الدعاء والحج هو القصد والصوم هو الإمساك فإذا ورد به الشرع وجب أن يحمل على ما يقتضيه لسان العرب.
ببينة: أن هذا النقل يقبح لأن إذا نقل الاسم من معناه إلى معنى آخر اقتضى تغير الأحكام المتعلقة به نحو أن يأمر الله عز وجل بالصلاة ويعنى بها الدعاء فإذا نقل الاسم إلى هذه الأركان تغير به الفرض.
قالوا: فإن لم تغير حقيقة كون الصلاة اسم لهذه الأفعال التى نعرفها وفى اللغة على الدعاء فإذا جعلت اسما [يهدم عينها]4 فقد تغيرت.
نقول أن اسم الصلاة فى اللغة الدعاء وسميت الصلاة الشرعية بذلك لأن فيها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أمور خاصة هي الركوع والسجود والقراءة إلخ - والصوم مستعمل في الإمساك لكن بشرط أن ينضم إليه النية مع ترك الأكل والشرب زمنا معينا والحج مستعمل في القصد ولكن بشرط أن ينضم إليه إحرام وطواف وسعي ووقوف بعرفة.
القول الثاني: الحقائق الشرعية موجودة مطلقا كانت هناك مناسبة بين المعاني اللغوية أو لم تكن وهذا القول للمعتزلة.
القول الثالث: وهو للبيضاوي الألفاظ الشرعية مستعملة في معانيها الشرعية لمناسبة بينها وبين المعاني اللغوية ولم توضع لها ابتداء فهي مجازات باعتبار اللغة ولما كثر استعمالها شرعا في هذه المعاني كانت حقائق شرعية واختار هذا الرأي إمام الحرمين والإمام الرازي إحكام الأحكام للآمدي 1/37 نهاية السول 2/150 المحصول 1/119 جمع الجوامع 1/300 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/53, 54, 56.
1 انظر القاموس المحيط 4/353.
2 انظر كشاف القناع 2/165, 166.
3 الصحاح 1/303 لسان العرب 2/778.
4 طمس في الأصل.

 

ج / 1 ص -273-       دعاء فلم يختلف معناه والزكاة النماء وسميت الصدقة المفروضة زكاة لما يوجد فيها من زيادة الثواب فى الآخرة والنماء هو الزيادة وسميت الأفعال المعهودة حجا لأن الحج فى اللغة القصد فسميت هذه العبادة المخصوصة حجا لأن فيها قصدا.
قالوا: ولأنه لو قال فى الأسماء شبهة قول لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا يقع به العلم لأن معناه لا بد من وقوع العلم فيه حتى يتوصل إليه ولو بين بيانا يقع به العلم لقلنا ذلك كما علمهم ولما لم نعلم ذلك لأنه لم يفعل ويجوز ما بينا فيدل أولا على إمكان نقل الأسماء.
فنقول أن كون الاسم اسما لمعنى نقل لشىء ولا يجب وإنما هو تابع للاختبار به بدليل انتفاء الاسم عن المعنى قبل المواضعة ولأنه كان يجوز أن يسمى المعنى بغير ما سمى به نحو أن يسمى البياض سوادا أو الحركة سكونا أو غير ذلك وإذا كان كذلك جاز أن يختار مختار سلب الاسم من معناه أو نقله إلى غيره وإذا كان ذلك نافعا للاختبار.
فإذا قال قائل إذا جوزنا ذلك لتباينت الحقائق.
قلنا إنما كان يلزم ذلك أن لو استحال انفكاك الآية عن المعنى وقد جاء أن الأمر بخلاف ذلك ثم نقول قد جاء الشرع بعبادات لم تكن معروفة فى اللغة فلم يكن بد من وضع اسم لها للتميز به عن غيرها كما يجب ذلك فى موارد يؤلفه بلا كتاب وفى آلة يستحدثها بعض الصناع ولا فرق بين أن يوضع لتلك العبادة اسم مبتدأ وبين أن ينقل إليها اسم من أسماء اللغة إلا ترى فى المولود لا فرق بين أن يستحدث له اسما ابتداء وبين أن يظل له اسما نعبر به.
ثم الدليل على أن الشرع قد نقل بعض الأسماء أن قولنا صلاة لم يكن مستعملا فى اللغة بمجموع هذه الأفعال الشرعية ثم صار اسما بمجموعها حتى لا يعقل من إخلافه سواه وكذلك فى الحج والزكاة فثبت الوجود وإذا ثبت وجود النقل ثبت النقل إجماعا.
وأما كلامهم.
أما الأول قولهم أن القرآن والسنة جاءت بلسان العرب.
قلنا نحن نقول أن الله تعالى خاطبنا بلسان العرب وهذه الأسماء كلها عربية والخطاب بها خطاب بلغة العرب وليس إذا استعمل ذلك فى غير ما وضعته العرب.

 

ج / 1 ص -274-       خرج من أن يكون خطابا بلسان العرب إلا ترى أن الحمار قد يستعمل فى غير ما وضعته العرب وهو الرجل البليد وكذلك البحر يستعمل فى غير ما وضعته العرب وهو الرجل الجواد ولا يخرج الخطاب بذلك عن أن يكون خطابا بلسان العرب.
وأما قولهم أنه يؤدى النقل إلى تغير الأحكام الشرعية.
قلنا هذا النقل كان لتقرير الأحكام الشرعية لا لتغيير الأحكام الشرعية ثم يمنع نقل اسم عن معناه إذا كان قد تعلق به فرض ولا يمنع من نقل اسم لم يتعلق به فرض.
وأما قولهم إنما سميت الصلاة صلاة لأنها تشتمل على الدعاء قلنا أن قلتم أن اسم الصلاة واقع به على جملة هذه الأفعال لأن فيها دعاء فقد سلمتم ما يزيده من إفادة الاسم لما لم يكن يفيده فى اللغة ولا يضرنا أن يتعللوا وقوع الاسم على هذه الأفعال مما ذكرتم وأن أردتم أن اسم الصلاة واقع على الدعاء من جملة هذه الأفعال دون مجموعها فذلك باطل لأن المفهوم من قولنا صلاة جملة الأفعال والمفهوم من قولنا فلان فى الصلاة أنه فى جزء من هذه الأفعال دعاء كان أو غيره والمفهوم من قولنا فلان خرج من الصلاة أنه فارق جملة الأفعال ولو كان الأمر كما ذكروه لوجب إذا قلنا أنه خرج من الصلاة أفاد أنه خرج من الدعاء وإذا عاد إلى الدعاء يجوز أن يقال أنه قد عاد الآن إلى الصلاة فلما لم يقل ذلك دل أن الصلاة اسم الأفعال المعلومة بجملتها وهذا الاسم واقع على جملة الأفعال على وجه واحد فثبت أن النقل قد صح وقد قال الأصحاب أن صلاة الأخرس صلاة حقيقة ولا دعاء فيها فدلت أن الاسم فى الشرع ليس بمعنى الدعاء.
وقد قال بعض أصحابنا معترضا على ما قلناه وقال الدعاء التماس وأحوال المصلى أحوال يخضع المصلى فيها لربه عز وجل ويبغى بها التماسا فالشرع عمم الكل اسم الدعاء تجوزا واستعارة وهذا دعوى المجاز فى هذه الألفاظ والأصح أن هذه الأسماء حقائق شرعية ويجوز أن يقال أن هذه الأسماء شرعية فيها معنى اللغة لأن الصلاة لا تخلو من الدعاء فى أغلب الأحوال والأخرس نادر ولأنا لو اعتبرنا ذلك فقد يخلو فى حق بعض المرضى عن معظم الألفاظ وهذا اللفظ لا بأس به.
وأما قولهم أنه لو حصل لها هذا النقل لوقع لنا العلم به.
قلنا قد أجبنا عن هذا فيما تقدم وعلى أنا نقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك بيانا.

 

ج / 1 ص -275-       ثابتا إلا ترى فى كل موضع ذكر الصلاة لم ترد إلا هذه الأفعال ولكن ليس من شرط البيان أن يقع العلم به لكل أحد إلا ترى أنه صلى الله عليه وسلم بين الحج بيانا ثابتا ثم لم يقع العلم به لكل أحد حتى اختلف العلماء فى إحرامه فقال بعضهم كان مفردا وبعضهم قال كان قارنا وقال بعضهم كان متمتعا.

 

ج / 1 ص -276-       فيصير هو المفهوم عند إطلاقه لكثرة استعمالهم الاسم فيه وهو الفرس وقد دل هذا الذى ذكرناه على وجود النقل كما دل على حسنه وقد قال أهل اللغة أن التروية اسم للجمل وقد صار بالعرف المزادة والغائط للمكان المطمئن وقد صار بالعرف اسما للحاجة وأما إشارة انتقال الاسم فهو أن يسبق الأفهام عند سماعه معنى غير ما وضع له فى الاسم فإن كان السامع الاسم يتردد فى فهم المعنى العرفى واللغوى معا كان الاسم مشتركا فيهما على سبيل الحقيقة.
واعلم أنه كما جاز وجود الحقائق اللغوية والعرفية والشرعية كذلك يجوز وجود المجاز اللغوى والعرفى والشرعى فإن قال قائل ثم تعرفون الحقيقة عن المجاز والمجاز عن الحقيقة قلنا الأصل أن الكلام يحمل على الحقيقة بالإطلاق وعلى المجاز بالدليل ويعرف الفصل بين الحقيقة والمجاز بوجوه منها أن يرد نص أو يقوم دليل أن اللفظ مجاز.
ومنها أن يعلم استعمال العرب اللفظ فى شىء وعدم استعمالها فى غيره فإذا أطلق اللفظ حمل على ما استعملوه ويكون حقيقة.
ومنها أن تكون اللفظة تطرد فى موضع ولا تطرد فى غيره فيعلم أنها قد اطردت فيه حقيقة وفيما لم تطرد فيه مجاز1.
وبيان الإطراد وعدم الإطراد أن قولنا أطول يفيد ما اختص بالطول وإذا علمنا أن أهل اللغة سموا الجسم طويلا عند اختصاصه بالطول ولولا ذلك ما سموه طويلا علمنا أنهم سموه بذلك لطوله فسمينا كل جسم فيه طول طويلا.
وأما فى المجاز فلا يثبت الإطراد بحال وهذا نحو تسميتهم الرجل الطويل نخلة فإنه يجوز أن يسمى كل رجل طويل بذلك ولكن لا يجوز أن يسمى غير الرجل بذلك.
ومنها غلبة الظن وهو أن يرد لفظ يغلب على ظن السامع أنه حقيقة أو ترد لفظة يغلب على الظن أنه مجاز وهذا لأن الفصل بينهما نوع حكم والأحكام تثبت بغالب الظن ومنها أن يستعمل الشىء فى الشىء لمقابلته فيعلم أنه مجاز استعمل لأجل المقابلة وهذا مثل قوله تعالى:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] فهذه وجوه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 2/172 المحصول 1/148, 146 إحكام الأحكام 1/41 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/71.

 

ج / 1 ص -277-       فأصلة بين الحقيقة والمجاز وعند الإشكال والاشتباه يحمل على الحقيقة إلا أن يقوم الدليل على المجاز.
واعلم أن الكلام الواحد يجوز أن يكون له حقيقتان وقد يتفقان على المضادة.
والدليل على جواز ذلك وجوده فإن الاسم العين يطلق على عين الرأس وعين الماء وهو حقيقة فى كل واحد منهما والقرء اسم للحيض والطهر والشفق اسم للحمرة والبياض وليس هذا بأكثر من المحمل الذى يصح وروده لما يقترن به من البيان كذلك هاهنا صح أيضا لما يستعمل فيه من البرهان وقد يكون اللفظ له حقيقتان فيحمل اللفظ عليهما جميعا كاسم الناض فى الذهب والفضة واسم الماشية حقيقة فى كل نوع من الإبل والبقر والغنم فإذا ورد مثل هذا اللفظ فى موضع يحمل اللفظ على كل ما هو حقيقة فيه إلا أن يخص أحدهما دليل.
وأما إذا تناول الاسم الواحد شيئين متضادين كالحيض والطهر فى القرء وما أشبه ذلك والحمرة والبياض فى الشفق فإنه يصار إلى الترجيح بالدليل فيرجح أحدهما على الآخر ويصير الحكم الراجح ويجوز أن يرد تغيير بنيهما فى الشرع فيخير المكلف أحدهما وهذا اللفظ الواحد إذا كان له حقيقتان متضادتان فهذا وجه الكلام فيما قصدنا والله أعلم.
مسألة يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان.
وسواء كانا حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة والآخر مجازا وهذا قول أبى على الجبائى وعبد الجبار وأحمد وزعم أصحاب أبى حنيفة أنه لا يجوز أن يراد باللفظ الواحد معنيان مختلفان وهو قول أبى القاسم ويزعم الضميرى من أصحابهم أن هذا قول أبى حنيفة على الخصوص وأن عند أبى يوسف ومحمد يجوز ذلك1.
واحتجوا فى ذلك وقالوا: أن الحقيقة هى اللفظ المستعمل فى موضعه والمجاز هو اللفظ الذى يجوز به عن موضعه ولا يجوز أن يكون اللفظ الواحد مستعملا فى موضعه ومستعملا فى غير موضعه فى حالة واحدة بل يستحيل ذلك كما يستحيل الاقتصار على الشىء والمجاوزة عنه فى حالة واحدة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المسودة 166 التصريح على التوضيح 1/87, 88.

 

ج / 1 ص -278-       وقالوا: يبين ذلك أن العبارة تعتبره عبارة عن الشىء المعبر به عنه بالقصد إلى ذلك فلما استحال القصد إلى ما ذكرناه من هذين الشيئين المختلفين لم يجز أيضا أن يكون اللفظ الواحد عبارة عنهما وقال أبو عبد الله البصرى المعروف يجعل أن الإنسان يجد فى نفسه تعذر استعمال اللفظة فى مجازاتها وحقيقتها قال وجرى مجرى تعظيم زيد والاستخفاف به فى حالة واحدة وقالوا: أيضا أن المستعمل للكلمة فيما هى مجاز فيه لا بد أن يسم فيه كاف التشبيه والمستعمل لحالتها على حقيقة فيه لا يسم فيه كاف التشبيه ومحال أن يضمر الشىء ولا يضمره قالوا: ولهذا نقول فى قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43] لما حمل على الوطء لم يجز حمله على اللمس باليد لأنه حمل على المجاز ولا يحمل على الحقيقة.
والدليل على أن الآية قد تناولت الوطء جواز التيمم للجنب ولهذا من حمل الآية على اللمس باليد لم يجوز التيمم للجنب مثل ابن مسعود ومن حمله على الوطء جوزه مثل ابن عباس.
وأما دليلنا نقول إنكم لا تخلون أما أن تقولوا يستحيل فى مطلق اللفظ المشترك إرادة المعنيين معا أو تقولوا لا يستحيل منه إرادتهما.
فإن قلتم يستحيل إرادة المعنيين فهذا جحد الضرورة ومعاندة المعقول فإنا نعلم قطعا جواز إرادة المعنيين المختلفين غير المتناقضين بلفظة واحدة إلا ترى أنه لا يستحيل أن نقول إذا أحدثت فتوضأ يريد به البول والغائط وكذلك تقول إذا لمست فتوضأ وتريد به الوطء واللمس باليد جميعا وهذا أمر قطعى لا يمكن خلافه.
وإن قلتم لا يستحيل إرادة المعنيين ولكن لا يفهم من مطلق اللفظ جميع المعنيين من غير قرينة فهذا نحن نقول به فإنه إذا احتمل إرادة المعنيين واحتمل تخصيص اللفظ بأحدهما فيتوقف فى معنى اللفظ على قرينة تدل على الجمع والتخصيص.
فإن قالوا: هذا الدليل فى المعنيين المختلفين فما دليلكم فى الجمع بين إرادة الحقيقة والمجاز بكلمة واحدة وقد بينا استحالته يدل عليه أن المجاز لا يعقل من الخطاب إلا بقرينة وتقييد والحقيقة تعلم منه بالإطلاق من غير قرينة وتقييد ويستحيل أن يكون الخطاب الواحد جامعا بين الأمرين فيكون مطلقا مقيدا فى حالة واحدة وهذا كقرينة الخصوص وقرينة الاستثناء فإنه يستحيل أن يكون اللفظ الواحد عاما خاصا مستثنى منه غير مستثنى منه.

 

ج / 1 ص -279-       الجواب أن اللفظ الواحد يجوز أن يحمل على الحقيقة والمجاز إذا تساويا فى الاستعمال لكن إذا عرى عن عرف الاستعمال لم يجز أن يحمل على المجاز إلا أن يقوم الدليل على أنه مراد به وقيام الدلالة على إرادة المجاز لا ينفى عن اللفظ إرادة الحقيقة والدليل على جواز ما ذكرناه صحة تعلق القصد والإرادة بهما جميعا وصحة التصريح بهما متعلقين بلفظ واحد إلا ترى أنه يصح أن نقول لا تنكحوا ما نكح آباؤكم عقدا ووطئا وتوضئوا باللمس مبينا وجماعا فإذا صلحت الكلمة إنما كان الجمع بينهما مثل الجمع بين المعانى التى تشتمل عليها الكلمة الواحدة كشمول لفظ العموم لجميع الآحاد ولفظ الأمر للإيجاب والإباحة.
وأما قوله أن المجاز لا يعلم بتناول اللفظ بلا تقييد والحقيقة تعلم بالإطلاق فلا جزم لأنا إنما ذكرنا هذا فى اللفظ الذى اشترك فى عرف استعمال الحقيقة والمجاز معا وفى هذه الصورة لا ينافى جواز دخول العرف على كل واحد منهما.
فإن قيل فعلى ما قلتم تكون الكلمة الواحدة مجازا وحقيقة وهذا يستحيل.
قلنا هذا لا نأباه لكن المجاز متعلق فيها بغير ما تعلق به الحقيقة وهذا كالأمر الذى هو نهى عندنا عن جميع أضداد ما تناوله الأمر فهو إذا أمر ونهى لكن اجتماعهما فى جهتين مختلفتين وقد ظهر بما ذكرنا الجواب عن معتمدهم وهو الكلام الأول والثانى وهذا لأنه ليس بين إرادته وبين أن تكون الكلمة مستعملة فى موضعها فى شىء ومعدولا بها عن موضعها فى شىء آخر تنافى كما لا تنافى فى أن يريد به معنى ويريد به معنى آخر إنما التنافى أن نقول أراد أن يستعملها فيما وضع له اللفظ وأراد أن لا يستعملها فيما وضعت له اللفظة وهذا لا يقول به أحد.
وأما حجة أبى عبد الله البصرى قلنا قولك أن الإنسان يجد من نفسه تعذر ذلك دعوى بل المعلوم فى نفسه صحة ذلك وأما إجراؤه هذا مجرى تعظيم زيد والاستخفاف به فذلك مفارق لما نحن فيه إلا ترى أنه يجوز أن نريد الحقيقة والمجاز بخطابين فى وقت واحد ولا يجوز أن يعظم زيد ويستخف به بفعلين فى وقت واحد وعلى أن الفرق بين الموضعين أن الاستخفاف ينبىء عن اتضاع حال ذلك الغير والتعظيم ينبىء عن ارتفاع حاله ومحال أن يكون الإنسان فى حالة واحدة مرتفع الحالة ومتضع الحال وأما فى مسألتنا فلا تنافى إلا ترى أنه يستقيم أن نقول أنهاك عن مسيس النساء.

 

ج / 1 ص -280-       ونريد به اللمس باليد والجماع وأما الذى قال من كأن للتشبيه وترك كاف التشبيه.
قلنا إذا قال الإنسان رأيت السباع وأراد به أنه رأى أسدا ورجالا شجعانا فإنه لا يمتنع أن يضمر كاف التشبيه فى بعضهم دون بعض ثم يدل على فساد مذهبهم من أصولهم كأنهم قالوا: لو حلف لا يضع قدمه فى الدار فدخل راكبا أو ماشيا حنث وقد تناول اللفظ الحقيقة والمجاز.
وكذلك قالوا: لو قال اليوم يدخل فلانا الدار فعبده حر فدخل ليلا أو نهارا حنث وقالوا: في السير الكبير لو أخذ الأمان لبنيه يدخل فيه بنوه وبنو بنيه وأن كان فى أول اليوم من النهار حقيقة والليل مجازا وفى الثانى البنون بنوه من صلبه حقيقة وبنو بنيه على وصف المجاز.
واعلم أنه قد ذكر بعضهم أنه لا يجوز هذا من جهة اللغة لأن أهل اللغة وضعوا قولهم حمارا للبهيمة وحدها وتجوزوا بها فى البليد وحده ولم يستعملوه فيهما معا إلا ترى أن الإنسان إذا قال رأيت حمارا لا يفهم منه البهيمة والبليد جميعا وإذا قال رأيت حمارين لا يفهم منه أربعة أشخاص بهيمتين وبليدين.
والجواب أنا ادعينا ذلك إذا انضم إلى ذلك عرف الاستعمال وإذا كان كذلك فلا يأباه العربى ولا غير العربى وعلى أنه إذا جاز فى الإرادة وأمكن العبارة عنهما بأى وجه كان فقد ثبت ما رتبناه.

فصل.
وحين وصلنا إلى هذا الموضع فنذكر ما يرجع إلى لغة العرب ووجوه استعمالها اعلم أن الألفاظ لا بد من الاعتناء بها لأن الشريعة عربية وقد نزل القرآن بلسان العرب وجاءت السنة بلسانهم وقد قال بعضهم أن القرآن يشتمل على ما ليس من لسان العرب وهذا ليس بشىء لأن الله تعالى قال:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [يوسف: 2] وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] وهذا يدل على أن كل القرآن عربى وأنه ليس فيه شىء من غير لسان العرب وأيضا لو كان فيه من غير لسان العرب لاختل أمر التحدى ولم يثبت الإعجاز لأنه يكون طريقا لهم فى أن يقولوا أن القرآن الذى جاء به يشتمل على لسان العرب وغير لسان العرب ونحن لا نعرف إلا لسان العرب فى بلدنا من قبل هذا فيؤدى هذا القول إلى نفى أمر الإعجاز.

 

ج / 1 ص -281-       وأما الألفاظ التى يذكرون أنها وردت فى القرآن ليست من لغة العرب وسموا ذلك فى مواضع فاعلم أنها من لسان العرب ولا نقول إنها ليست من لسانهم لكن يجوز أن يقع موافقة بين لغة ولغة وكلمات معدودة وهذا غير مستنكر ولا مستبدع وقد قيل أن مثال هذا ما يقال بالعربية للسما سماء بالسريانية سمسا ويقال فى العربية حياة وبالعبرانية حيا ويقال سروال بالعربية وبالعجمية شروال لما يلبس وقد ذكروا أشباها آخر كهذا وإذا ثبت ما ذكرناه أن الشريعة عربية فينبغى للمجتهد أن يعلم من لغة العرب ما يحتاج إليه ويعرف طريق استعمالهم ووجوه مخارج كلامهم من مثلها.
ثم اعلم أن الأصوليين اختلفوا فى مأخذ اللغات فذهب ذاهبون إلى أنها توقيف من الله عز وجل1 وصار صائرون إلى أنها ثبتت اصطلاحا تواطؤا2 والمختار أنه يجوز كل ذلك أما التوقيف فلا يحتاج إلى دليل فلا يجوزه وقد قال الله تعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فيجوز أن تكون الأسماء أو حيت ويجوز أن يثبت الله فى الصدور علوما بصيغ مخصوصة لمعانى فيبين للعقلاء الصيغ ومعانيها فيكون معنى التوقيف أن يلقوا وضع الصيغ على حكم الإرادة والاختيار.
وأما الدليل على تجويز وقوعها اصطلاحا أنه لا يبعد أن يحرك الله تعالى رأس العقلاء لذلك ويعلم بعضهم مراد بعض ثم ينشئون على اختيار منهم صيغا لتلك المعانى التى يريدونها إلا ترى أن الإنسان يولد له مولود فينشىء له اسما وكذلك يجوز أن يستحدث صيغة وآلة فيصيغ اسما ولآلتها اسما فدل أن التوقيف جائز والاصطلاح جائز والظاهر فى الأسامى هذه أن بعضها كان توقيفا من الله عز وجل على ما نطق به الكتاب وبعضها كان اصطلاحا وتوقيفا.
وإذا عرف هذا فنذكر بعد هذا مسألة معروفة فى الأصول يبنى عليها مسائل وهى مسألة جواز أخذ الأسماء من جهة القياس:
فنقول اختلف أصحابنا فى جواز أخذ الأسماء من جهة القياس فذكر الأكثرون من أصحابنا أن ذلك جائز وهو اختيار ابن سريج وقد دل عليه من مذهب الشافعى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الآمدي قول الأشعري وأهل الظاهر وجماعة من الفقهاء انظر إحاكم الأحكام للآمدي 1/105 المحصول 2/57, 58 روضة الناظر 151 البرهان 1/107.
2 ذكره الآمدي قول بهشمية وجماعة من المتكلمين إحاكم الأحكام للآمدي 1/106 المحصول 2/57, 58 روضة الناظر 151 البرهان 1/170.

 

ج / 1 ص -282-       قوله فى مسألة شفعة الجار وقال أن الشريك جار واستدل عليه بقوله امرأتك أقرب إليك أم شريكك فقياس الاسم معنى القرب واحتج فى الأمر باشتقاق اللفظ.
وذهب جماعة من أصحابنا إلى أن إثبات اللغة بالقياس لا يجوز وهو قول أصحاب أبى حنيفة وأكثر المتكلمين1 واحتج على ذلك وقال أن اللغة أما توقيف واصطلاح فلا معنى للرجوع إليه ببينة قوله ما من شىء إلا وله اسم فى اللغة توقيفا فلا يجوز أن يثبت له اسم آخر بالقياس كما إذا ثبت الحكم بالنص لم يجز أن نثبت له حكما آخر بالقياس.
والمعتمد لهم أن الخلاف فى الأسماء المشتقة والعرب تلتزم وجود الاشتقاق فإنهم سموا الدابة دابة لدبيبها ولم يسموا كل ما يدب دابة وسموا الجنين جنينا لاستتاره ولم يسموا كل مستتر جنينا وسموا المجن مجنا لأنه يستتر به الإنسان ولم يسموا كل ما يستتر به مجنا.
وأقرب من هذا أن الخمر ليس فى معنى اسمها الإطراب إنما هى من المخامرة والتخأمر والتخمير فلو ساغ الاستمساك بالاشتقاق لكان كل ما يخأمر العقل خمرا وأن لم يطرب الخمر يدل عليه أن العرب خالفوا بين المتشاكلين فى الاسم فسموا الفرس الأدهم أدهم وسموا الحرير الأسود أدهم وسموا الفرس الأبيض أشهب ولم يسموا الحمار الأبيض أشهب فدل عليه أنه لا مجال للقياس فى هذا.
قالوا: ولأنكم أن أثبتم هذه الأسماء لغة للعرب فلا يجوز أن تكون اللغة أسبق من الشرع ولتقدم اللغة خاطبنا الله تعالى بها فلا يجوز إثبات الأسماء فيها بأمور طويلة.
تنبيه أن الدليل بإثبات الأسامى قياسا أن كان يزعم أن العرب أرادت هذه الأسماء وأن لم يبوحوا بذلك فهو تحكم من غير تثبت ولا نقل فيما يزعمه وأن قال أن العرب لم تمنع بذلك فى مواضع يلحق ذلك بلسانهم وهذا محال لأن إلحاق شىء بالشاهد ليس من لسانهم لا يعرف وأما دلائل من جوز ذلك فى الأسماء المشتقة لأن الاسم الموضوع يبنى على ذلك الشىء فحسب والاسم المشتق يبنى على ذات الشىء وفعله وخاصيته والدليل على جواز تعليله أنه نقل عن الصحابة تعليل الأسماء قال عمر رضى الله عنه الخمر ما خأمر العقل وقال ابن عباس [رضى الله عنهما]2 إشارة كل مخمر خمر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحكام الأحكام للآمدي 1/78 روضة الناظر 152 البرهان 1/172.
2 بياض بالأصل.

 

ج / 1 ص -283-       فالأول إشارة إلى التعليل بالشدة المضرة لأنها بشدتها والتصاقها يمازج السكر منها العقل وكذلك قول ابن عباس رضى الله عنهما إشارة إلى أنها تغطى العقل بالسكر كما يغطى الإناء بالغشاء.
ببينة: أن أهل اللغة جعلوا الأسماء على أقسام فجعلوا المشتقة أحد تلك الأقسام والاشتقاق بأنه القياس وربما استعاروا فى الأسماء الموضوعة واستخرجوا من ذلك أسامى وتصريحات فى مواضع من ذلك قولهم أشياء شد الرحيل إذا نوى وأسدته على كذا إذا شببه وقالوا: كلب أشياء وكلب الدهر علينا وسبع فلان فهذه اشتقاقات من اسم السبع والكلب والأسد.
قال الخطابى ومثل ذلك فى كلامهم كثير وقد استعمله النبي صلى الله عليه وسلم فى كلامه قال صلى الله عليه وسلم:
"من سلم المسلمون من لسانه ويده"1 وقال صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه عز وجل: "أنا الرحمن وهى الرحم شققت لها من اسمى من وصلها وصلته ومن قطعها ثنيته"2.
وقد أحدث فى الشرع أسماء لم تكن فى الجاهلية كالمنافق وإنما اشتق من نافقة السرجوح3 وكالفاسق يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وإذا ثبت أنهم وضعوا الأسماء وصرفوا الكلام تصريفات من جهة الاشتقاق ذلك أنهم جعلوا المشتق بمنزلة الفرع والمشتق منه بمنزلة الأصل والمعنى الذي اشتق لأجله بمنزلة العلة هذا الذى قلناه قدر الإمكان واعلم أن كلماتهم فى نفى إثبات الأسامى لغة العرب بالقياس قوى جدا فالأولى أن نقول يجوز إثبات الأسامى شرعا ولا يجوز إثباتها لغة وهذا هو الذى اختاره ابن سريج والدليل على جواز ذلك أنا نعلم أن الشريعة إنما سمت الصلاة صلاة لأجل صفة من الصفات متى اشتقت تلك الصفة عنها لم تسم صلاة ونعلم أيضا أن ما شاركها فى تلك الصفة تكون صلاة ونبين هذا بثبوت الأسماء الشرعية بالعلل وأن شئت قلت: أن الشريعة وسعت هذه الأسماء الشرعية مثل الصلاة الزكاة الحج وغير ذلك لاختصاصها بأحكام من الشريعة فإذا ثبت هذا الأمر لمعان جاز قياس كل محل وجد فيه ذلك المعنى وتسميته بذلك المعنى الاسم وعلى هذا خرجت الأسماء.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الإيمان 1/70 ح 11 ومسلم الإيمان 1/65 ح 64/40 والترمذي صفة القيامة 4/661 ح 2504.
2 أخرجه البخاري في الأدب 10/430, 431 الحديث 5988 5989.
3 السرجوج: أي االأحمق انظر القاموس المحيط 1/193.

 

ج / 1 ص -284-       اللغوية وأن لم يلزم ما ذكروه من تركهم اطراد معانى الأسماء فعلى هذا ثبت اسم الخمر للنبيذ شرعا ثم حرم بالآية وكذلك ثبت اللواط اسم الزنا شرعا ثم يجب الحد بالآية وثبت اسم السارق للنباش شرعا ثم يجب القطع بالآية والله أعلم.

فصل: فى ذكر وجوه المجاز وطرق استعماله.
اعلم أنا بينا أن الكلام ينقسم إلى الحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمبين والمجمل والمفسر والمبهم والخصوص والعموم والمطلق والمقيد وقد بينا ذلك وهذه الوجوه كلها بلسان العرب وجاء الكتاب والسنة بها والبيان المطلوب متعلق بجميع ذلك وقد كنى الله تعالى عن النساء بالنعاج فقال تعالى:
{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [صّ: 23] وكنى عن الوطء بالإفضاء وكنى عن النساء بالحرث وكنى عنهن باللباس وكنى عن ما يخرج من الإنسان بالغائط وكنى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوطء بالعسيلة وكنى عن النساء بالقوارير وكنى عن قرب المشركين بلفظ النار وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تستضيئوا بنار المشركين"1.
وقد قيل أن الكناية عند العرب أبلغ من الصريح فى معنى البراعة وأكثر أمثال العرب على مجاز من الكنايات ويقولون فلان عفيف الإزار طاهر الذيل وكنوا عن الاقتضاض بثقب اللؤلؤ وكنوا عن بنت الرجل بكريمته وعن الصغير بالريحانة وعن الأخت بالشقيقة وعن الأعمى بالمحجوب وعن الأبرص بالوضاح وعن الأسود الذى قد شاب رأسه بالغراب وعن البخيل بالمتقصد وكنوا عن البخيل بأنه جعد الأصابع وقالوا: فيمن اكتهل سدل الأدهم2 بالأبلق3 وقالوا: استبدل المسك بالكافور وأمثال هذا كثير.
واعلم أن المجاز على وجوه كثيرة ويذكر بعضها من ذلك تسمية الشىء باسم غيره4 إذا كان لسبب كتسميتهم البنت ندى لأنه من الندى يكون بما سموا النجم ندى لأنه عنه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النسائي الزينة 8/154 باب لا تنقشوا على خواتيمكم عربيا وأحمد المسند 3/122 ح 11960.
2 الأدهم: الأسود القاموس المحيط 4/115.
3 الأبلق: الأبيض القاموس المحيط 3/214.
4 انظر المحصول 1/135.

 

ج / 1 ص -285-       ينعقد ومن هذا تسميتهم الوطء نكاحا لأن العقد الذى هو حقيقة النكاح سبب له فسمى باسم سببه كتسميتهم المطر سماء لأنه من السماء ينزل.
تقول العرب ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم وقال الشاعر

إذا سقط السماء بأرض قوم          وأرض القوم ليس لهم حجاب

ومن هذا قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107] يعنى الجنة لأن دخولهم الجنة برحمته يكون.
ومن المجاز أيضا تسمية الشىء باسم ما يقارنه ويجاوزه قال امرؤ القيس.

إذا ما الثريا فى السماء تعرضت

وفى شعر زهير سمى عاقر الناقة أخا عاد وأراد ثمود لقرب ما بينهما وسموا أهداب العين أشفارا وإنما الأشفار مبيت أهداب العين وعبروا أيضا عن الجفن بالعين وبالمحاجر عن الوجه قال الشاعر.

هن الحرائر الأرباب لعمرى          سود المحاجر لا يقرأن بالسور

وقال بعض أصحابنا أن الوجه يعبر به عن العين مجازا ومن هذا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] معناه أعين يومئذ ناضرة ويعبرون عن الوجه بالناصية فيقولون فلان مبارك الناصية أى مبارك الوجه ومن المجاز تسميتهم الشىء باسم ما يؤول إليه1 قال الله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] وقال تعالى لهما يأكلون في بطونهم نارا ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم فى الذى يشرب فى آنية الذهب والفضة: "إنما يجرجر فى بطنه نار جنهم"2.
ومن المجاز تسميتهم الشىء باسم مكانه قال الله تعالى:
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} [قّ: 37] أى عقل فكنى عن العقل بالقلب لأنه مكان العقل ومن هذا قوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة:45] أى بالقوة لأن اليمين محل القوة ومن هذا أيضا تسميتهم قضاء الحاجة غائطا والشىء النجس عذرة ومن هذا تسمية الولد لهوا قال الله تعالى لو أردنا أن نتخذ لهوا أى ولدا لأنه وضع اللهو.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/134.
2 أخرجه البخاري الأشربة 10/98 ح 5634 ومسلم اللباس 3/1634 ح 1/2065 وابن ماجه الأشربة 2/113 ح 3413 ومالك في الموطأ صفة النبي صلى الله عليه وسلم 2/924 ح 11 وأحمد المسند 6/339 ح 26667.

 

ج / 1 ص -286-       ومن المجاز تسميتهم باسم بعض1 يقول القائل من على رأس كذا يريد نفسه وقال تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} النساء 3 أى ملككم ومن ذلك قوله فظلت أعناقهم لها خاضعين الشعراء 4 أى فظلوا ومن ذلك قوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد"2 وقد فرع مشايخنا على هذا مسألة إضافة الطلاق إلى اليد والرجل وقد بينا فى الخلافيات وعلى هذا الأصل تفريعات كثيرة.
ومن المجاز تسميتهم الشىء باسم الشىء على معنى التشبيه3 قال النبي صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد:
"هو سيف من سيوف الله عز وجل"4 أى كالسيف فى إمضائه وركب فرسا لأبى طلحة فقال وجدناه بحرا شبهه به لسعة الجرى ومنه تسمية الشجاع أسدا والبليد حمارا والشرير كلبا.
ومن وجوه المجاز أيضا تسمية الشىء باسم ما يقابله5 مثل قوله تعالى:
{وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] سمى الثانى سيئة وأن كان جزاء السيئة حقيقة لأنه يقابله وكذلك قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فسمى الثانى اعتداء لمكان المقابلة ومن المجاز تسمية الشىء باسم غيره إذا قام مقامه وسد مسده وقد ورد هذا فى الأشعار.
ومن المجاز حذفهم بعض الكلام على وجه لا يؤدى إلى الالتباس قال الله تعالى:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] أى أهل القرية وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أى وقت الحج أشهر معلومات.
ومن المجاز أيضا الاستعارة فإن العرب تستعير الشىء لنوع مقاربة بينهما قال الله تعالى:
{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/136.
2 أخرجه أبو داود البيوع 3/294 ح 3561 والترمذي البيوع 3/557 ح 1266 وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه الصدقات 2/802 ح 2400 وأحمد المسند 5/12 ح 20109 انظر نصب الراية 4/167.
3 انظر المحصول 1/135.
4 أخرجه البخاري فضائل الصحابة 7/126 ح 3757 ومسلم الزكاة 2/743 ح 135/1064 ولفظ الحديث عند البخاري والترمذي المناقب 5/688 ح 3846 وأحمد المسند 4/112 ح 16829.
5 انظر المحصول 1/134.

 

ج / 1 ص -287-       فالاستعارة فى لفظ الخيط ومن الاستعارة قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4] وإنما الاشتعال للنار ومن ذلك أيضا قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الاسراء: 24] فاستعار اسم الجناح وهو العلو المعروف وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "رجل أخذ بعنان فرسه كلما سمع ضيعته طار إليها"1 أى أسرع إليها فاستعار اسم الطير للإسراع.
ومن المجاز المعروف قوله تعالى:
{جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77] أى قارب وأشرف قال الشاعر:

إن دهرا يلف شملا بشملى       لزمان قد هم بالإحسان

ووجوه المجاز كثيرة فاقتصرنا على ذكر بعضها وتركنا الباقى لئلا يطول.
واعلم أنه قد ذكر أبو زيد ومن نظر طريقته فصلا فى الحقيقة والمجاز لا بد من ذكره لأنه يتعلق بذلك أصل كبير فى مسائل الخلاف الذى بينهم وبيننا قال أبو زيد فى تقويم الأدلة أنواع استعمال الكلام أربعة حقيقة ومجاز وصريح وكناية.
أما الحقيقة كل كلام أريد به ما وضع واضع اللغة الكلام له.
والمجاز كل كلام أريد به غير ما وضع واضع اللغة الكلام به يقال حبك لى مجازا أى هو باللسان لا بالقلب الذى هو معدنه وهذا الوعد منك مجاز لأنه لم يرد به التحقيق قال وقد ظهر المجاز ظهورا عظيما فى كتاب الله عز وجل ورسائل الكتبة وأشعار العرب حتى كاد يغلب على الحقيقة وجودا واستحسانا وبه توسعت اللسان وصلحت ثم قال فالحقيقة تبقى ولا يوقف عليه إلا بالنقل عن واضع اللغة كالنصوص فى باب الشرع وأما المجاز فلا حاجة بنا إلى سماعه ثبت لغه فلا يعتبر فيه السماع بل يعتبر المعنى الذى اعتبره أهل اللغة فإذا تكلم على ذلك المعنى صح والمجاز آت والاستعارات أمر شائع بين الخطباء والكتبة والشعراء حتى استحق الواحد منهم المدح بإبداع اللغة فإذا تكلم بالاستعارات والتعريضات دل أنه ليس بسمعى قال ومن الناس من ظن أن المجاز لا عموم له وهو غلط لأن ما أمكن اعتبار العموم فيه يعتبر ولأن الاستعارة تقم المستعار من اللفظ مقام الحقيقة لذلك المسمى الذى استعير له ولولا هذا لكان المتكلم به مخلا بالغرض وكان لا يحسن به المتكلم فلما كان المستعار أحسن من.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم الإمارة 3/1503 ح 125/1889 وابن ماجه الفتن 2/1316 ح 3977.

 

ج / 1 ص -288-       الحقيقة دل أنه مثله فى البيان أو أكثر.
قال ويتبين مما قلنا أن اللفظ الواحد لا يشتمل على الحقيقة والمجاز لأنهما مختلفان لا يجتمعان كالثوب الواحد لا يجوز أن يكون عارية وملكا قال ولهذا لم يجعل علماؤنا المس حدثا لأن الجماع مراد بقوله:
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فبطل أن يكون الحقيقة مرادا وكذلك قال علماؤنا أن النص المتناول لتحريم الخمر لا يتناول سائر الأشربة لأن الاسم الذى من العنب إذا غلا واشتد حقيقة ولغيره مجاز لاتصال بمعنى مخامرة العقل فلا يدخلان جميعا تحت هذا الكلام وهذا كلام أبى زيد وخرج على هذا سائل له وذكر غيره ممن ينظر طريقته من جملة العصريين وهو أن المعنى الذى اعتبره أهل اللغة فى المجاز هو أن يكون بين المستعار منه والمستعار اشتراك فى المعنى وذلك المعنى فى المستعار منه أبلغ وأبين هكذا قاله أهل اللغة فيما زعمه وحكاه على بن عيسى الريانى صاحب التفسير قال وإنما شرطنا هذا لأن ترك الحقيقة مع القدرة على الاستعمال لها والميل إلى المجاز وفيه نوع إيهام وتلبيس لا يجوز إلا لفائدة لا تجوز إلا فى الحقيقة وذلك ما بينا وهو أن يكون فيه زيادة بيان لا توجد فى الحقيقة قال وهذا مثل قوله فاصدع بما تؤمر ومعناه امتثل بما تؤمر فقد استعار قوله فاصدع فى مكان قوله امتثل والصدع هو الشق والصدع بمعنى الشق مستعار منه والامتثال مستعار له وقوله فاصدع مستعار والمعنى المشترك بين الشق هو التأثير فإن الشق له أثر فى الشقوق والامتثال له أثر فى المأمور به إلا أن تأثير الشق فى المشقوق أبين من تأثير الامتثال فى الشق وكأن فى المجاز زيادة بيان فإن طلب الامتثال بقوله فاصدع بما تؤمر أبلغ من طلب الامتثال بقوله فائتمر وكذلك يقال فى بنى آدم أسد لاشتراكهما فى المعنى وهو الشرط فيه وهذا المعنى فى الأسد أبلغ لأنه أشجع الحيوانات وكذلك أيضا استعارة اسم الحمار فى البليد وزعم على هذا أنه لا يجوز أن يجعل لفظ الطلاق كناية ومجازا عن العتق لأن هذا الشرط لا يجوز أن يوجد فى هذه الصورة لأن العتق أبلغ فى الإزالة والطلاق دونه1 وأما لفظ الهبة أو التمليك يجوز أن يجعل مجازا فى النكاح2 لأن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هذه المسألة قولان للعلماء: الأول: وهو رواية عن أحمد لا تعتق وهو قول أبي حنيفة والقول الثاني: تعتق به الأمة إذا نوى العتق وهو قول مالك والشافعي انظر المغني 12/237.
2 وهذا قول الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأبو عبيد وجاود انظر المغني 7/429.

 

ج / 1 ص -289-       لفظ الهبة والتمليك لإثبات الملك أبلغ من لفظ النكاح إلا ترى أنه يفيد من التمليك ما لا يفيده لفظ النكاح قالوا: ولهذا قلنا فى قوله لعبده وهو أكبر سنا منه هذا ابنى أنه يعتق ويصير قوله هذا ابنى مجازا عن العتق لاشتراكهما فى المعنى فإن كل واحد من اللفظين يوجب حرية العبد وقوله هذا ابنى أبلغ فى إفادة الحرية لأنه يوجب الحرية قبل قوله بزمان كثير لأنه يولد حرا لو ثبت ما قال وقوله أنت حر يوجب الحرية فى الحال وكان المعنى فى المستعار منه أبلغ منه فى المستعار لذلك وصحت الاستعارة قال وإنما استعملنا على جهته المجاز لأن المجاز أحد فسمى الكلام استعمالا على ما مر إلا أن الحقيقة ما سبقهما ثبوتا فإذا تعذرت الحقيقة بصرفه دلالة تعين المجاز مرادا وحمل الكلام عليه وهذا الذى ذكره لا يعرف فى استعمال المجاز ولم يذكر فى كتاب من كتب اللغة وإنما الاستعارة فى الكلام ضرب من التوسع وليظهر براعة المتكلم وحسن تصرفه في الكلام واقتداره عليه وليس لأن الاستعارة أفادت معنى زائدا على ما يفيده حقيقة الكلام إلا ترى أنهم تكلموا بالصريح والكناية وقد استكثروا من الكناية على حسب ما استكثروا من الاستعارة ومعلوم أن الكناية لا تفيد زيادة على ما يفيده الصريح ولا يقال أنهم لما تركوا الصريح مع قدرتهم عليه وجب أن يكون تركهم الصريح إلى الكناية لنوع فائدة لا توجد فيه بل قيل أنه ضرب من التوسع فى الكلام ونوع من البراعة واللمس واقتدار على تصاريف الكلام وفنونه والدليل على أن ما قالوه ليس بشرط أنهم استعاروا لفظ المس للوطء ولفظ القربان للدخول ونحن نعلم قطعا أنه ليس فيه زيادة على ما يفيده لفظ الجماع بل للفظ الجماع والوطء وصريح لفظ النيل من الزيادة على هذه الألفاظ وكذلك لفظ الخيط الأبيض والأسود استعير لضوء النهار وسواد الليل وليس لمعناه زيادة على معنى الضوء والظلام إلا أنا مع هذا كله لا ننكر أن يتفق مثل ما قالوه اتفاقا فإما أن يكون ذلك من شرطه فلا وأما قولهم أنه يقال للشجاع أسد وللبليد حمار وللشرير كلب والمعنى الذى استعير لأجله هذه الأسامى أبلغ فى هذه المعانى قلنا فى هذه الصورة قدر كاف التشبيه فكأنه قيل شجاع كالأسد وللبليد كالحمار أو شرير كالكلب وإنما يشبه الشىء بالشىء فى المعنى إذا كان المشبه به أبلغ فى ذلك المعنى فأما الاستعارة باب آخر وقد ذكرنا أن ما ظاهره ليس بشرط بوجه عام وأما الذى قالوه فى أول الفصل أن الكلام لا يجوز أن يراد به الحقيقة والمجاز وقد بينا وجه صحة ذلك وذكرنا من أصولهم ما ينقض أصلهم الذى زعموه وأما استعمال لفظ.

 

ج / 1 ص -290-       الهبة والبيع فى عقد النكاح فلا يجوز لأن الاشتراك فى المعنى لم يوجد وكذلك السببية التى يدعونها لم توجد أيضا لأن ملك المتعة نكاحا غير ملك المتعة يمينا ويظهر ذلك بأحكامها فعلى هذا لا تكون الهبة والبيع سببا لملك المتعة الذى ثبتت بعقد النكاح بوجه ما وأما لفظ الطلاق فقد بينا صلاحيته كناية ومجازا عن لفظ العتاق وأما إذا قال لغلامه وهو أكبر سنا منه هذا ابنى فإنما لم يصح عندنا مجازا عن العتق لأن اللفظ إنما يصلح مجازا إذا كان له حقيقة وهذا اللفظ فى هذا المحل لا حقيقة له لأنه لغو وهذا باب الكلام وأن قلتم أن النسب فى الجملة يوجب العتق فإنما يوجب فى محل يتصور فيه النسب فأما فى محل لا يتصور فيه النسب فلا يوجب العتق وإذا لم يوجب العتق لم يمكن استعمال اللفظ مجازا فى هذا المحل نعم يجوز هذا المجاز فى معروف النسب لأن النسب فيه متصور فإن لم يثبت كان مجازا عن العتق فأما فى هذه المسألة فبعيد جدا.
أيضا قد بينا وجوه الكلام بقدر ما ذكر فى أصول الفقه والبيان يتعلق بجميعها فنعود الآن إلى ذكر المجمل وما يقع به بيانه وما ألحق بالمجمل وليس منه فنقول قد ذكرنا حد المجمل وحد المبين وقد قيل أن المجمل ما لا يستعمل بنفسه فى معرفة المراد به وقيل أيضا أنه الكلام المبهم الذى لا يطاوع التقييد أولا ببيان ولا يفهم منه المراد بنفسه حتى فضائه تعين كشف هذه.
وقد قال الأصحاب أن المجمل على أوجه1.
منها أن يكون اللفظ لم يوضع للدلالة على شىء بعينه2.
كقوله تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله فإن قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل"3 فإن الحق يشتمل على أشياء كثيرة وهو فى هذا الموضع مجهول لا يعرف ولا بد فيه من بيان يتصل به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي أقسام المجمل.
2 انظر نهاية السول 2/508 إحكام الأحكام للآمدي 3/9, 10 المحصول 1/464 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 2/5.
3 أخرجه البخاري الإيمان 1/94, 95 ح 25 ومسلم الإيمان 1/52 ح 34/21.

 

ج / 1 ص -291-       ومنها أن يكون اللفظ فى الوضع مشتركا بين شيئين كالقرء يقع على الحيض والطهر فيفتقر إلى البيان1.
ومنها أن يكون اللفظ موضوعا لجملة معلومة إلا أن دخلها شيئا مجهول كقوله تعالى:
{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] فإنه قد صار مجملا ما دخله من الاستثناء وفى هذا المعنى العموم الذى علم أنه مخصوص ولم يعلم ما خص منه ومنها أيضا أن يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلا يحتمل وجهين احتمالا واحدا مثل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين2 فى السفر فهو محتمل لأن السفر يحتمل الطويل والقصير فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل وكذلك ما روى أن رجلا أفطر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالكفارة3 وهذا مجمل لأنه يجوز أنه أفطر بجماع ويجوز أنه أفطر بالأكل ولا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر لا بدليل فهذه الوجوه لا يختلف المذهب فى إجمالها لافتقارها إلى البيان واختلف المذهب فى ألفاظ فمنها قول الله عز وجل: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فعلى حد قول الإمام الشافعى رحمه الله هو مجمل لأن الله تعالى أحل البيع وحرم الربا والربا هو الزيادة وما من بيع إلا وفيه زيادة فافتقر إلى بيان ما يحل وبيان ما يحرم وعلى القول الثانى ليس بمجمل وهو الأصح لأن البيع معقول فى اللغة فحمل اللفظ على العموم إلا ما خصه الدليل ومنها الآيات التى ذكر فيها الأسماء الشرعية وهى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] فمن أصحابنا من قال هذه الآيات عامة غير مجملة فتحمل الصلاة على كل دعاء والصوم على كل إمساك والحج على كل قصد إلا ما قام الدليل عليه ومن أصحابنا من قال هى مجملة لأن المراد بها معان لا يدل اللفظ عليها فى اللغة وإنما تعرف من جهة الشرع فافتقر إلى البيان مثل قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وهذا هو.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 نهاية السول 2/508 إحكام الأحكام للآمدي 3/11 المحصول 1/464 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3,5.
2 أخرجه البخاري تقصير الصلاة 2/675 ح 1107 ومسلم المسافرين 1/488 ح 42/703.
3 أخرجه مسلم الصيام 2/782 ح 83/1111 وأبو داود الصوم 2/324.

 

ج / 1 ص -292-       الأصح لأنا بينا هذه الأسماء منقولة من اللغة إلى الشريعة ومنها الألفاظ التى علق التحليل والتحريم فيها على البيان كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] فقال بعض أصحابنا إنها مجملة لأن العين لا توصف بالتحليل ولا بالتحريم وإنما الذى يوصف بذلك أفعالنا وأفعالنا غير مذكورة فافتقر إلى بيان ما يحرم من الأفعال وما لا يحرم ومنهم من قال إنها ليست مجملة1 وهو الأصح لأن التحريم والتحليل فى مثل هذا إذا[....] الأفعال مقصورة فى هذه الأيمان ولا يراد أنه إذا قال لغيره هذا الطعام عقل منه تحريم الأكل وكذلك إذا قال حرمت عليك هذا الشراب يعقل منه الشراب فصار المراد معقولا من هذا اللفظ وما عقل من اللفظ لا يكون مجملا فصار هذا الطريق أولى من الأول.
ومنها الألفاظ التى تتضمن النفى والإثبات كقوله صلى الله عليه وسلم:
"إنما الأعمال بالنيات"2 وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلى بولى"3 وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"4 وكقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل"5 وما شبه هذا.
فقد زعم بعض أصحاب أبى حنيفة أن هذا مجمل لأن الذى نفاه هو العمل أو النكاح أو الصلاة وهذه الأشياء موجودة لا يمكن نفيها فيكون المراد بالنفى نفى صفة غير مذكورة فافتقر إلى بيان تلك الصفة وقال الكرخى وأبو عبد الله البصرى إذا لم يكن المراد به نفى صوة الصلاة والصوم كان المراد بذلك نفى الحكم شرعا فيجوز أنه أراد به نفى حكم الجواز ويجوز أنه أراد به نفى الفضيلة فلا يمكن الحمل عليها جميعا لأن نفى الفضيلة من ضرورته وجود الجواز ولأنه مضمر ودعوى العموم فى المضمر لا يجوز وإذا لم يصح دعوى العموم وجب التوقف إلى أن يعلم المراد وأما أصحابنا فقد زعموا أن هذه الألفاظ ليست مجملة وهو الأصح6 لأن صاحب الشرع لا يثبت ولا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/466 إحكام الأحكام 3/14 نهاية السول 2/519, 520.
2 أخرجه البخاري بدء الوحي 1/15 ح 1 مسلم الإمارة 3/1515 ح 155/1907.
3 أخرجه أبو داود النكاح 2/236 ح 2085 والترمذي النكاح ح 82/ 398 ح 1101 وابن ماجه النكاح 1/605 ح 1881 والدارمي النكاح 1/184 ح 82/2 وأحمد المسند 4/481 ح 19537.
4 أخرجه البخاري الأذان 2/276 ح 756 ومسلم الصلاة 1/295 ح 34/394.
5 تقدم تخريجه.
6 انظر نهاية السول 2/514, 515 المحصول 1/468 إحكام الأحكام للآمدي 3/20, 21 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/7, 8.

 

ج / 1 ص -293-       ينفى المشاهدات وإنما يثبت وينفى الشرعيات فكأنه صلى الله عليه وسلم قال لا عمل فى الشرع إلا بالنية ولا نكاح فى الشرع إلا بولى وذلك معقول من اللفظ فلا يجوز أن يكون مجملا.
وزعم جماعة من أصحاب أبى حنيفة أن قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه مجمل لأن ظاهر اللفظ رفع الخطأ والنسيان والإكراه وهذه الأشياء موجودة قطعا فيجب أن يكون المراد منه معنى غير مذكور فافتقر إلى البيان.
وأما عندنا فالأصح أنه ليس مجمل لأن معقول المعنى فى الاستعمال1 ويمكن أن يقال أنه معقول المعنى لعلة أيضا لأن المراد من مثل هذا اللفظ رفع المؤأخذة ألا ترى أنه إذا قال لعبد رفعت عنك جنايتك عقل منه رفع المؤأخذة ورفع كل ما يتعلق بهذه الأفعال من التبعات وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبى رمثة وابنه حين قدما عليه: "
أما أنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه"2 وليس المراد منه رفع صورة الجناية ولكن المراد منه نفى المؤأخذة فإن معناه لا تؤخذ بجنايته ولا يؤخذ بجنايتك وزعم بعض أصحاب أبى حنيفة أيضا فى قوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فقوله أيديهما مجمل لأنه يجوز أن يقال أنه أراد من المنكب ويجوز أنه أراد من المرفق ويجوز أنه أراد من الزند لأن الجميع تناوله باسم قطع اليد ويقال أيضا إذا برى القلم وجرح شيئا من أصابعه قطع فلان يده.
وقيل فى قوله تعالى:
{فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] أنه أراد بذلك خدش اليدين لا القطع حقيقة.
والصحيح أن الآية ليست بمجملة بل هى عامة وحملها على القطع من المنكب صحيح لو لم ترد السنة بالقصر على الزند فقد خص ذلك بدليل دل عليه وقال دليل على التخصيص لا يخرج اللفظ من عمومه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 3/18, 19 المحصول 1/472 نهاية السول 2/518.
2 أخرجه أبو داود الديات 4/167 ح 4495 والنسائي القسامة 8/47 باب هل يؤخذ أحد بجريرة غيره؟ وأحمد المسند 4/202 ح 17505.
3 إحاكم الأحكام للآمدي 3/23 المحصول 1/471 نهاية السول 2/522 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/11.

 

ج / 1 ص -294-       فصل فيما يقع به بيان المجمل.
اعلم أن بيان المجمل يقع من ستة أوجه.
أحدها بالقول وهو أكبرها وأوكدها كبيان نصيب الزكوات وكقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا قطع فى كثر" وكقوله: "القطع فى ربع دينار فصاعدا".
والوجه الثانى بالفعل مثل قوله صلى الله عليه وسلم:
"صلوا كما رأيتمونى أصلى" وكقوله صلى الله عليه وسلم فى الحج: "خذوا عنى مناسككم".
والوجه الثالث بيانه بالكتاب كبيانه لأسنان الديات وكذلك ديات أعضاء البدن بالكتاب وكذلك الزكوات وكذلك ما بين بما كتب إلى عماله من الأحكام ومن دعاء الملوك إلى الإسلام.
والوجه الرابع بيانه بالإشارة مثل قوله صلى الله عليه وسلم الشهر هكذا وهكذا وهكذا يعنى ثلاثين يوما ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات وحبس إبهامه فى الثالثة يكون تسعة وعشرون يوما.
والوجه الخامس بيانه بالتفسير وهو المعانى والعلل التى نبه بها على بيان الأحكام كقوله صلى الله عليه وسلم فى بيع الرطب بالتمر أينقص إذا يبس وكقوله صلى الله عليه وسلم فى قبلة الصائم:
"أرأيت لو تمضمضت".
والوجه السادس اختص العلماء ببيانه عن اجتهادهم وهو ما قدمت فيه الوجوه الخمسة إذا كان الاجتهاد موصلا إليه من أحد وجهين أما من أصل يعتبر هذا الفرع به وأما من طريق أمارة يدل عليه1.
فهذه وجوه البيان والله أعلم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/473, 474 إحكام الأحكام 3/34, 35 نهاية السول 2/525, 526, 527 روضة الناظر 163 المعتمد 1/311 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/16, 17.

 

ج / 1 ص -295-       فصل: وأما الكلام فى وقت البيان.
اعلم أن لا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا اختلاف أيضا أنه يجوز تأخير البيان إلى وقت الفعل لأن المكلف قد يؤخر النظر وقد يخطىء إذا نظر فهذان الضربان متفق عليهما لا اختلاف بين أهل العلم فيهما.
وإنما اختلفوا فى تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل فى بيان المجمل وتخصيص العموم ولهذا قال من أصحاب الشافعى أبو العباس بن سريج وأبو سعيد الإصطخرى وأبو على بن أبى هريرة وأبو على بن خيران وطائفة من أصحاب أبى حنيفة وهو قول أبى الحسن الأشعرى واختيار القاضى أبو بكر.
والمذهب الثانى: أنه لا يجوز تأخيره عن وقت الخطاب فى بيان المجمل وتخصيص العموم وبه قال من أصحاب الشافعى أبو إسحاق المروزى وأبو بكر الصيرفى والقاضى أبو حامد ومذهب طائفة من أصحاب أبى حنيفة وهو قول أكثر المعتزلة.
والمذهب الثالث: أنه يجوز تأخير بيان المجمل ولا يجوز تأخير تخصيص العموم وهذا قول أبى الحسن الكرخى وهو اختيار أبى الحسين البصرى صاحب المعتمد وبهذا قال أصحاب الشافعى.
والمذهب الرابع: أنه يجوز تأخير تخصيص العموم ولا يجوز تأخير بيان المجمل وبهذا قال بعض أصحاب الشافعى رحمه الله.
والمذهب الخامس أنه يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهى ولا يجوز تأخير بيان الأخبار1 حكاه الماوردى عن الكرخى وبعض المعتزلة وعندى أن مذهب الكرخى هو ما قدمنا من قبل قال الماوردى ولم يقل بهذا القول أحد من أصحاب الشافعى رحمة الله عليه.
مسألة: واعلم أن الذى ننصره جواز التأخير فى الكل وهو المذهب الأول خلافا لما ذهب إليه طائفة من أصحاب أبى حنيفة وأكثر المعتزلة ونصره عبد الجبار الهمذانى فى العمد وحكاه عن أبى على وأبى هاشم رجلى رجال المعتزلة من المتأخرين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المحصول 1/477 نهاية السول 2/531, 532, 533 إحكام الأحكام للآمدي 3/41, 42, 43 المعتمد 1/315 روضة الناظر 164 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/20.

 

ج / 1 ص -296-       قال أبو زيد فى أصوله بعد أن جعل البيان أربعة أقسام أن بيان المجمل إذا لم يكن تبديلا ولا تغييرا يجوز مقارنا وطارئا وذكر أن بيان الاستثناء بيان تغيير ولا يجوز طارئا بحال ثم ذكر أن الخلاف بيننا وبين الشافعى فى بيان الخصوص فعندنا هو من قبيل بيان الاستثناء فلا يجوز إلا مقارنا وعند الشافعى هو من قبيل بيان المجمل فيصح مقارنا وطارئا قال ولهذا قال علماؤنا إذا قال أوصيت لفلان بهذا الخاتم ولهذا بفصه بكلام متصل فالفص كله لصاحب الفص ويكون تخصيصه بيانا كالاستثناء ولو فصل وقال وأوصيت لهذا بفصه كان الفص بين الأول والثانى ولا يصير بيانا عند الفصل قال وأما بيان المجمل منفصلا جائز إلا ترى أن أصحابنا قالوا: فيمن أقر لفلان على شىء يكون البيان إليه متصلا ومنفصلا وهو تفسير منهم قالوا: لذلك إذا قال لامرأته أنت بائن فالبيان إليه ويجوز متصلا ومنفصلا وذكر مسائل سوى ما ذكرنا واحتج من أثبت تأخير بيان المجمل بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقال لا يخلو أما أن يكون أراد منها الاعتداد بالطهر أن شاءت أو بالحيض أن شاءت أو أراد منها الاعتداد بواحد منهما بعينه وأى الأمرين أراده فقد أراد منهما ما لا سبيل إلى فهمه من اللفظ لأن اللفظ لا يجنى عن التخير ولا عن واحد منهما بعينه وأن قلتم أنه لم يرد منها شيئا فهو محال ولم يقل به أحد.
وقالوا: أيضا لو حسن الخطاب المجمل من غير بيان فى الحال لحسن خطاب العربى بالزنجية مع القدرة على مخاطبته بالعربية وكذلك مخاطبة الزنجى بالعربية فيخاطب ثم لا يبين فى الحال وحين قبح ذلك فليقبح هاهنا أيضا لأنه لا يعرف السامع مراد المخاطب بكلامه فإن قلتم لم يحسن مخاطبة العربى بالزنجية لأن العربى لا يعرف بكلام الزنج شيئا ويعرف بكلام المجمل شيئا وهو أن المتكلم أراد بخطابه إيجاب شىء عليه أو نهيه عن شىء فى الاسم المشترك يعلم أن المتكلم أراد بخطابه أخذ معنى الاسم المشترك قالوا: هذا لا يصح لأنه لا يخلو لنا أن يعتبروا فى حسن الخطاب العلم بكل المراد ويعتبروا العلم ببعض المراد فإن اعتبرتم المعرفة بنقد المراد لزمكم أن لا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه لا يمكن مع فقد معرفة كمال المراد وأن اعتبرتم المعرفة ببعض المراد لزمكم حسن المخاطبة العربى بالزنجية لأن العربى إذا عرف بحكمه الزنجى المخاطب له علم أن أراد بخطابه له شيئا أما الأمر وأما النهى وأما غيرهما فهذا دليلهم المعتمد.
وقال بعضهم أن المجمل مع البيان بمنزلة الشىء الواحد مثل المبتدأ مع خبره ثم لا.

 

ج / 1 ص -297-       يجوز فصل المبتدأ من خبره مثل أن يقول زيد ثم يقول بعد مدة قائم كذلك هاهنا لا يجوز أيضا تأخير البيان عن المبين قالوا: وأما تأخير بيان النسخ فنسلم أنه يجوز ولكن للفصل بينهما أن تأخير بيان النسخ لا يخل بالمعرفة بصفة العبادة فلم يمكن أداؤها وأيضا فإن النسخ بيان مدة الحكم وحقيقته سقوط الأمر عنه عند وجود مدة ينتهى إليها والخطاب المطلق يعلم قطعا أن حكمه يرتفع عنه لعلمنا بانقطاع التكليف وليس كذلك العموم لأنا لا نعلم خصوصه بإطلاقه وكذلك المجمل لا نعلم بيانه بإطلاقه.
وأما الذين منعوا تأخير بيان العموم وتأخير المجمل فقد قالوا: بهذا المذهب فى كل كلام له ظاهر وذكروا أنه لا يجوز تأخير بيانه.
واستدلوا فى ذلك وقالوا: أن بيان العموم خطاب لنا فى الحال بالإجماع ولا يخلو المخاطب أما أن يقصد أنها منا فى الحال أو لا يقصد ذلك فإن لم يقصد أنها منا بطل كونه مخاطبا لنا ونحن نعلم أنه باللفظ العام قصد اتهامنا وأنه لو لم يقصد اتهامنا كان عبثا لأن الفائدة فى الخطاب إفهام المخاطب ولأنه لو جاز لا يقصد إفهام المخاطب بالخطاب لجازت مخاطبة العربى بالزنجية وهو لا يحسنها إذا كان غير واجب إفهام المخاطب على زعمكم وليس من هذا الخطاب إلا ترك إفهام المخاطب وأن كان أراد اتهامنا فى الحال فلا يخلو أما أن يريد أن يفهم مراده على ظاهر اللفظ وعلى غير ظاهر اللفظ فإن أراد منا أن نفهم على ظاهر اللفظ فلفظه فظاهره العموم وهو مخصوص عنده فقد أراد منا اعتقاد غير الحق وأن أراد منا أن نفهم على غير ظاهره وهو بعد لم ينصب دليلا على تخصيصه فقد أراد منا أن من ما لا سبيل إليه فيكون تكليف لنا كما ليس فى وسعنا وطاقتنا وهذا باطل قالوا: فعلى هذا لا بد أن يبين لنا الخصوص متصلا بالعموم أو يشعر بالخصوص وكذلك النسخ لا بد أن يشعر بالنسخ وهذا لأن الخطاب مع هذا الإشعار يصير مفيدا فى الجملة ولا يكون إغراء باعتقاد غير الحق قالوا: والإشعار بالتخصيص أن يقول: اعلموا أن هذا العموم مخصص لا يبين ما الخارج عن العموم أو يقول: جوزوا خصوصه حتى أبينه وقال صاحب هذه الطريقة يجوز تأخير بيان المجمل لأن المجمل لا ظاهر له فلا ينكر الإجمال ثم تأخير البيان لأنه لا يجوز من الحكيم أن يفيد غير مراده على الجملة كما يجوز أن يفيد مراده على التفصيل إلا ترى أن زيدا قد يعلم أن فى الدار عمرا بعينه فيكون له غرض أن يعرفه أن فى الدار عمرا ويكون له غرض أن يعلم خالدا أن فى الدار عمرا ويكون له غرض أن يعرفه أن فى

 

ج / 1 ص -298-       الدار رجلا ويكره أن يعرفه أنه عمرو فيقول: أن فى الدار رجلا ولا يبين له أنه عمرو ولغرض له كذلك فى المجمل يكون الأمر هكذا وهو أن يريد المخاطب أن يعلم المخاطب أن عليه حقا فى الجملة ولا يبين فى الحال لمعنى له ثم يبين ذلك فى ثانى الحال فهذا معتمد هؤلاء الطائفة
وأما أبو زيد فقال فى هذا الفصل أن لفظ العموم للعموم والاستيعاب على سبيل القطع بلا احتمال خصوص كالألف اسم للعدد لكن ذلك العدد على سبيل القطع بلا احتمال لغيره فيكون التخصيص رفعا للحكم عن بعضه بعد ثبوته كما فى الألف إذا استثنى منها شىء فيكون بيان تعيين مثل الاستثناء ولا يجوز الاستثناء إلا متصلا باللفظ كذلك هذا البيان هذا كله وأما دليلنا فيدل أولا على وجود بيان تأخير المجمل والعموم فى الشرع ويتعلق أولا بقوله تعالى:
{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[القيامة: 18, 19] وكلمة ثم للتراخى وقال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الانبياء:98] وكان المراد بذلك الأصنام دون عيسى والملائكة عليهم السلام وإنما بين ذلك ببيان التراخى فإن من المزهر الشاعر خاصم فى ذلك على ما ورد فى القصة المعروفة وقال أن دخلها عيسى والملائكة فنحن ندخل أيضا فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الانبياء:101] وهم يقولون على هذا الدليل أن الملائكة وعيسى لم يكونوا دخلوا تحت الآية لأنه تعالى قال: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وما لا يعقل ومن لم يعقل وقد كانت الكفرة متعنتين معارضتهم فيمكن أن يقال أن الاحتجاج صحيح ولو كان الأمر كما قالوا: لبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولم يسكت حتى نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} وتعلق الأصحاب أيضا بقوله تعالى مخبرا عن الملائكة أنهم قالوا: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] والمراد غير لوط وأهله وتأخير البيان إلى أن قال إبراهيم عليه السلام: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} [العنكبوت: 32] قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله قال الله تعالى لنوح عليه السلام: {احْمِلْ فِيهَا} [هود: 40] يعنى فى السفينة من كل زوجين اثنين وأهلك والمراد غير ابنه وتآخر إلى أن قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] وهم يقولون على هذا أن البيان كان معروفا بالخطاب لأن الله تعالى قال: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} [العنكبوت: 31] وهذا اللفظ يخرج لوطا ومن أسلم معه من الخطاب وقد قال تعالى فى.

 

ج / 1 ص -299-       موضع آخر مخبرا عن الملائكة: {إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ*إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 58, 60] وكذلك قالوا: فى قصة نوح أن البيان كان مقرونا لأن الله تعالى: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ} والجواب عن السؤال ممكن بمراجعة إبراهيم ونوح عليهما السلام ولو كان البيان مقرونا لم يكن لمراجعتهما وجزائهما عن ذلك معنى وتعلق الأصحاب بقوله تعالى فى خمس الغنائم: {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] تآخر البيان فى إخراج بنى عبد شمس وبنى نوفل إلى أن سأل عثمان بن عفان رضى الله عنه وجبير بن مطعم عن ذلك وهم يقولون على هذا أن آية القربى لا عموم لها لأن القربى تحتمل ضروب قرب وضروب قرابات بنفسه وبأبيه وجده وجد جده إلى آدم عليه السلام فلم يمكن تعميمها وكل لفظ لا يمكن إثبات عمومه يجب التوقف فيصبح البيان فيه متراخيا وهذا ضعيف لأن القرن معلوم يعرف الاستعمال ولم يكن يخفى عليهم وإنما خفى على هؤلاء الأعتام الجهال الذين خلوا من بعد وعلى هذا الدليل فى المجمل قائم.
وتعلق الأصحاب أيضا بأمر الله تعالى بذبح بقرة مطلقة فى بنى إسرائيل وتأخير بيان أوصافها إلى أن سألوا وهم يقولون على هذا أنه قد روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أنهم لو عمدوا إلى بقرة فذبحوها لكفاهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم1.
ونحن نقول هذا خلاف ظاهر الآية لأن بنى إسرائيل قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ثم قالوا: ثالثا:
{ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} ولو كان البيان حصل لم يكن لهذه الأسئلة معنى.
وتعلق الأصحاب أيضا بما روى أن جبريل قال للنبى صلى الله عليه وسلم فى ابتداء الوحى اقرأ فقال وما أقرأ ولست بقارىء إلى ثلاث مرات وجبريل عليه السلام يكرر القول وهو يجيب هذا وروى أنه كان يغطه حتى بلغ منه الجهد إلى أن قال اقرأ باسم ربك2 فقد آخر البيان قال الشافعى محتجا أن الله تعالى أثبت المواريث بين الناس ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم بين إلا ميراث بين الكفر والإسلام وبين أيضا أن الله تعالى أمرنا بالصلاة مطلقا والزكاة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قاله الحافظ السيوطي انظر الدرر المنثور للسيوطي.
2 أخرجه البخاري التعبير 12/368 ح 6982 ومسلم الإيمان 1/139 ح 252/160 وأحمد المسند 6/259 ح 26014.

 

ج / 1 ص -300-       مطلقا وتآخر بيان ذلك وأمرنا بالحج مطلقا وتآخر بيان ذلك حتى حج حجة الوداع وقال: "خذوا عنى مناسككم"1 وسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال: "يكفيك آية القيد"2 وهى الآية التى فى آخر سورة النساء وكان عمر رضى الله عنه يقول: اللهم من يبين لهم فإن عمر لم يبين وأمثال هذا تكثر فهذه الظواهر والنصوص دلائل سمعية وفيها مقتصر لو اقتصرنا عليها ثم مع هذا نبين من الدلائل العقلية ما يدل على ما ذكرناه فنقول أن البيان ما يجب لتمكن المكلف من إذا ما كلف والتمكين من ذلك غير محتاج إليه عند الخطاب وإنما يحتاج إليه قبل التعليق بلا فعل فلم يجب تقديمه عند الخطاب وهو كالاقتصار على الفعل فإنه لما كان ليتمكن من أداء الفعل لم يجب تقديمه على وقت الحاجة إلى الفعل وأيضا لو صح تأخير البيان لكان وجه متجه فقد بين المكلف ما أمر به وذلك يقتضى فتح الخطاب إذا لم يبين المكلف وأن بين له ولا يقال أنه إذا لم يبينه فقد أتى بالجهل من قبل نفسه بخلاف إذا لم يبين له ذلك وذلك لأن الجهل لا يختلف سواء أتى الإنسان ذلك من قبل نفسه أو من قبل غيره إلا أن الإنسان سقط تكليفه إذا مات سواء أماته الله تعالى أو قتل نفسه.
ودليل آخر معتمد أنه لو قبح تأخير البيان لكان وجه متجه أنه لا يمكن للسامع له أنه يعرف به كمال المراد ولو قبح ذلك لقبح تأخير بيان النسخ أيضا لأنه فى معناه وهو أنه لا يعرف به كمال المراد مثل التخصيص.
يبينه أن النسخ تخصيص من حيث الزمان وتخصيص العموم تخصيص من حيث الأعيان.
أما الجواب عن دلائلهم أما ما تعلقوا به من أنه أمر بالاعتداد.
قلنا نقول أن الله عز وجل إنما أراد بالآية اعتداد النساء بواحد بعينه من الطهر والحيض إلا أنه لو لم يرد من المخاطبين أن يفهموه فى الحال لأنه لم يدلهم فى الحال بلفظ الحيضة فيريد منهم فهمه وإنما دلهم على الجملة فهو يريد منهم فهم الجملة كما لو كان اعتد بواحد من أحد شيئين بعينه أما الطهر وأما الحيض وسأبين ذلك وكما لو قال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم الحج 2/943 ح 310/1297 وأبو داود المناسك 2/207 ح 1970 وأحمد المسند 3/390 ح 14432.
2 أخرجه مسلم الفرائض 3/1236 ح 9/1617 وانن ماجه الفرائض 2/910 ح 2726 وأحمد المسند 1/33 ح 180.

 

 

ج / 1 ص -301-       القائل لغيره اضرب رجلا واعلم أنه رجل معين وسأبين ذلك وكما لو علم أن زيدا فى الدار وأراد إعلام عمرو أن فى الدار رجلا فإنه قد عنى به زيدا ولم يرد أن يعرفه أنه زيدا.
وأما الثانى الذى قالوه وهو تعلقهم بكلام العربى الزنجى بالعربية أو الزنجى العربى بالزنجية فهذا تعلق فاسد والفرق بين الموضعين أن العرب لا تعرف ما وضع له خطاب الزنج فلم يحسن أن يخاطبه به منفصلا عن بيان ذلك الخطاب أما أن يكون أمرا أو نهيا أو خبرا أو استخبارا أو غير ذلك والسامع من العرب غير متمكن من معرفة ذلك وأما هاهنا فإن المخاطب بالمجمل متمكن من معرفة ما يفيده الخطاب فى الجملة فإنه يعلم أنه أمر أو نهى أو خبر أو استخبار أو غير ذلك وكذلك يعرف ما وضع له الاسم المشترك لأنه وضع لواحد من هذين على انفراده وتصور هذا فى القرء فإنه يعلم أنه يريد بالخطاب أما الاعتداد بالطهر أو الاعتداد بالحيض ألا ترى أن القائل إذا قال للمرأة أريد منك أن تعتدى بشىء يعنى من شيئين أما الطهر وأما الحيض فإنها قد فهمت معنى هذا الخطاب من التردد بين الطهر والحيض وأنها مأمورة بالاعتداد بأحد هذين وكذلك فى قوله تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] يفهم المخاطب أن المراد بالخطاب إيجاب شىء فى ماله وهذا مثل قول القائل فى الدار رجل فإنه يعلم بهذا وجود شخص بوصف الدخول فى الدار وأن لم يعلم حقيقة وهذا لأن الأمر ابتلاء فإذا لزمه أن يعتقد أن الله تعالى أراد منه حقا فى ماله وقد حصل الابتلاء وهذا لعلة أعظم من الابتلاء بالعقل.
قال أبو زيد فى أصوله وهذا كما أن فى القرآن ما هو متشابه أجبنا عن بيانه وقد صح وروده لإيجاب اعتقاد الحقيقة فى الجملة قال ولهذا لو قال لفلان على شيئا يكون البيان إلى المقر منفصلا ومتصلا لأنه تكلم بكلام مجمل وإذا قال لفلان على ألف درهم وفى البلد نقد يختلف كان البيان إليه منفصلا ومتصلا وإذا قال لامرأته أنت بائن فالبيان إليه متصلا ومنفصلا وأما كلامهم فى منع تأخير بيان التخصيص للعموم فنحن نقول إذا ثبت جواز بيان تأخير المجمل ثبت جواز تأخير بيان التخصيص لأن فى الموضعين الموجود بيان متصل بما يحسن فيه البيان.
والذى قالوا: أنه يريد إفهام المخاطب أو لا يريد.
قلنا يريد به إفهامه وقد فهم بالمجمل شيئا فى الجملة وهو الخطاب بإيجاب شىء.

 

ج / 1 ص -302-       عليه وفارق هذا فصل المتكلم بالزنجى مع العربى لأنه لا يفهم منه شيئا ما.
وأما قوله أنه كيف يريد إفهامه مقتضى اللفظ من العموم وأن لم يتصل به دليل يوجب التخصيص والخطاب على هذا الوجه حسن إلا ترى أن لو صرح به حسن فكذلك إذا لم يصرح به وأراده صح أيضا وعلى أن فصل النسخ داخل على ما قالوه وليس لهم على فصل النسخ عذر بيان وقولهم أنه يموت هوش لأن أمده ينقضى بموته إذا مد كل إنسان مدة حياته وأما النسخ فيه قطع الأمد الموت إنهاء الأمد فكيف يتشابهان وأما الذى قالوا: أنه لا بد من إشعاره بالنسخ فنقول مخترع لم يقل به أحد ويبطل بما ورد من نسخ تحليل الخمر ونسخ التوجه إلى بيت المقدس وما أشبه ذلك فإنه قد صح هذه الوجوه من النسخ ولم يتقدم إشعار بذلك من قبل ولا يمكنهم دعوى وجوده فبطل هذا وأما طريقة أبى زيد فضعيفة ولا نسلم أن لفظ العموم فيما يتناوله من الأعيان مثل لفظ الألف فى الأعداد التى اشتمل عليها وإنما العموم مجرد ظاهر فيما يتناوله من الأعيان وهو محتمل الخصوص وتأخير بيان التخصيص عنه لا يمنع منه شرع ولا عقل وهذا خير الكلام فى البيان وما يتصل به القول فى أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وما يتصل بها يذكر أو لا مقدمة فنقول اعلم أن الأفعال على ضربين.
أحدهما ما لا صفة له زائدة على وجوه وهو كبعض أفعال التناهى وبعض أفعال الناس فقد لا توصف بحسن ولا قبح وهذا الفعل الذى لا مضرة فيه ولا منفعة من فعل النائم والساهى وأما ما يكون من أفعال الساهى فيه مضرة أو منفعة فقد قال بعضهم أنه لا بد أن يوصف بالحسن أو القبح وقال بعضهم لا يوصف بشىء من ذلك وهذا هو الأولى لأن الحسن والقبح يتبع التكليف فمن لا يكون عليه تكليف لا يوصف فعله بشىء من هذين وعلى هذا كل فعل يفيد زمن لا تكليف عليه.
وأما الضرب الثانى وهو أفعال المكلفين فينقسم خمسة أقسام واجب وندب ومباح ومحظور ومكروه وقال بعضهم ينقسم إلى قبيح وحسن ثم ينقسم القبيح إلى مكروه ومحظور والحسن إلى مباح وندب وواجب وقد بينا حدود هذه الأشياء ثم اعلم أن الواجب والندب والمباح يصح وقوعها من جميع المكلفين فأما المحظور فقد اتفقوا على صحة وقوع ذلك من بنى آدم وهل يصح وقوع ذلك من الملائكة فذهبت.

 

ج / 1 ص -303-       المعتزلة1 وكثير ممن سواهم إلى أنه لا يصح وقوع ذلك منهم وتعلقوا بقوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وعند أهل السنة أنه يصح وقوع ذلك منهم بدليل قصة إبليس وقد كان من الملائكة وقصة هاروت وماروت وقد كانا من الملائكة وأما قوله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] فيجوز أن يكون ذلك فى طائفة منهم أو فى زمان مخصوص والله أعلم وأما الأنبياء عليهم السلام فلا يصح منهم وقوع الكبائر لعصمة الله تعالى إياهم عن ذلك فأما الصغائر فقالوا: لا يصح منهم وقوع ما ينفر عنهم مثل الكذب وما يضع من أقدارهم وما يدعوا إلى البعد عنهم مثل الغلظة والفظاظة ولا يصح منهم أيضا وقوع ما ورد السمع بحظره عليهم من الكبائر وقول الشعر فى حق نبينا صلى الله عليه وسلم.
وعندى أن هذا الحد لا يصح فى حق سائر الأنبياء وقد ورد السمع بحظر الأكل من الشجرة وصح منه ذلك وأما ما عدا ما ذكرناه من الصغائر فقد أبى بعض المتكلمين وقوع ذلك من الأنبياء أيضا والأصح أن ذلك يصح وقوعه منهم ويتداركون ذلك إبان موته قبل اخترام المنية وأما الخطأ والسهو فيجوز وقوع ذلك من الأنبياء وقد حمل كثيرا مما فعلوه مما حكى الله تعالى على ذلك وفى الباب خطب كثيرة وليس هذا موضعه.
وإذا تقرر هذا رجعنا إلى أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فنقول أفعاله على ثلاثة أضرب.
أحدها: حركاته التى تدور عليها هواجس النفوس كتصرف الأعضاء وحركات الجسد فلا يتعلق بذلك أمر باتباع ولا نهى عن مخالفة.
والضرب الثانى: أفعاله التى لا تتعلق بالعبادات كأحواله فى مأكله ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته فيدل فعل ذلك على الإباحة دون الوجوب.
وأما الضرب الثالث: ما اختص بالديانات وهو على ثلاثة أضرب.
أحدها: ما يكون بيانا.
والثانى: ما يكون تنفيذا وامتثالا.
والثالث: ما يكون ابتداء شرع فأما البيان فحكمه مأخوذ من المبين فإن كان المبين واجبا كان البيان واجبا وأن كان ندبا كان البيان ندبا ويعرف أنه بيان بأن يصرح بأنه بيان كذلك ويعلم فى القرآن أنها مجملة تفتقر إلى البيان ولم يظهر بيانها بالقول فنعلم أن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المعتمد 1/342 المحصول 1/501 إحكام الأحكام للآمدي 2/242 نهاية السول 3/7 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 87.

 

ج / 1 ص -304-       هذا الفعل بيان لها والثانى أن يفعل امتثالا وتنفيذا له فيعتبر أيضا بالأمر وأن كان الأمر على الوجوب علمنا أنه فعل واجبا وأن كان الفعل على الندب علمنا أنه فعل ندبا والثالث أن يعمل ابتداء من غير سبب ولم يوجد منه فى ذلك أمر باتباع ولا نهى عنه فاختلف أصحابنا فى ذلك على ثلاثة مذاهب وكذلك سائر الفقهاء والمتكلمين وهذا الاختلاف فيما يرجع إلى حقوق الأمة.
المذهب الأول: أن اتباعه فى هذه الأفعال واجب على الأمة إلا ما خصه ذلك وهذا مذهب مالك والحسن وبه قال من أصحاب الشافعى أبو العباس بن سريج والإصطخرى وأبو على بن أبى هريرة وأبو على بن خيران وهذا هو الأشبه بمذهب الشافعى رحمة الله عليه وبهذا قال من أصحاب أبى حنيفة أبو الحسن الكرخى وهو قول طائفة من المتكلمين.
والمذهب [الثانى]1: المستحب للأمة اتباعه فى هذه الأفعال ويندب إلى ذلك ولا يجب وهو قول الأكثر من أصحاب أبى حنيفة وهو قول أكثر أهل المعتزلة وبه قال من أصحاب الشافعى أبو بكر الصيرفى وأبو بكر القفال.
والمذهب [الثالث]2 أن الأمر فى ذلك على الوقف حتى يقوم دليل على ما أريد منا فى ذلك وإلى هذا ذهب أكثر الأشاعرة واختاره من أصحاب الشافعى أبو بكر الدقاق وأبو القاسم بن كج3.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سقط من الأصل.
2 ثبت في الأصل "الأول".
3 لا خلاف بين العلماء في أن أفعله صلى الله عليه وسلم إذا كانت مما تقتضيه الجبلة والطبيعة كالقيام والقعود والأكل والشرب لا تدل على الإباحة بالنسبة له ولأمته.
ولا خلاف بينهم أيضا في أن ما ثبت خاصا به عليه السلام لا يتعداه إلى أمته كتزوجه بأكثر من أربع سنوة ودخوله حلالا ووجوب التهجد والمشاورة.
ولا نزاع بينهم أيضا في أن فعله المبين للمجمل الذي علمت صفته من الوجوب والندب يكون حكمه حكم ذلك المجمل الذي بينه الفعل فإن كان واجبا كان الفعل واجبا وإن كان مندوبا كان الفعل مندوبا لأن المبين يأخذ حكم المبين.
وإنما الخلاف بينهم في أفعاله عليه السلام التي لم يقم دليل على اختصاصها به وليست من الأفعال التي تقتضيها الطبيعة البشرية ولم تكن بيانا لمجمل معلوم الصفة.
وجملة ما قالوه في ذلك أن الفعل إذا لم تعلم صفته من الوجوب أو غيره إما أن يظهر فيه قصد القربة أو لا يظهر فيه ذلك..........=

 

ج / 1 ص -305-       ..................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فإن ظهر فيه قصد القربة ففيه أقوال ثلاثة:
أحدها: أنه يفيد الندب وهو المختار للإمام الرازي والبيضاوي وابن الحاجب.
ثانيهما: أنه يفيد الوجوب وهذا القول نقله القرافي عن مالك رضي الله عنه.
وإن لم يظهر في الفعل قصد القربة: ففيه أقوال الأول: يدل على الإباحة وإليه ذهب الإمام مالك وابن الحاجب وجماعة.
ووجتهم في ذلك: أن الفعل باعتبار صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو حكمه عن واحد من أمور ثلاثة: الوجوب أو الندب أو الإباحة ولا يكون فعله محرما لأنه كبيرة والرسل معصومون من الكبائر ولا يكون مكروها كذلك لأن صدور المكروه من عدول المسلمين نادر فكيف بمن هو أشرف الخلق أجمعين ولا سك أن كلا من الوجوب والندب جانب الفعل فيه أرجح وجانب الترك مرجوح والأصل استواء الفعل والترك من غير رجحان لأحدهما على الآخر: فلا يكون الفعل واجبا ولا مندوبا لأن ذلك خلاف الأصل وهو لا يثبت إلا بدليل والمفورض أنه لا دليل لواحد منهما فلم يبق إلا الإباحة نوقش هذا: بأن الغالب في أفعاله عليه السلام التي علمت صفتها الوجوب أو الندب والإباحة قليلة بالنسبة إليهما فإذا وجد فعل لم تعلم صفته وجب أن يلحق بالكثير الغالب وهو الوجوب أو الندب ولا يلحق بالقليل وهو الإباحة لأن الحمل على القليل فيه عمل بالمرجوح وترك للراجح وهو مخالف لما تقتضيه العقول السليمة وبذلك تنتفي الإباحة ويثبت إما الوجوب أو الندب.
القول الثاني: يدل على الندب وإليه ذهب الشافعي واستدل عليه بقوله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}
ووجه الدلالة من الآية: أن الله قال "لكم" ولم يقل: "عليكم" وهذا مشعر بأن الاقتداء به عليه السلام في الفعل الذي لم يقم دليل عليه وجوبه ليس واجبا لانتقاء ما يدل على الوجوب وهو "عليكم" ووصف الأسوة بأنها حسنة وذلك يوجب رجحان الاقتداء به عليه السلام على ترك الاقتداء به فتنتفي الإباحة لانتفاء استواء الطرفين "الاقتداء وعدم الاقتداء" كما ينتفي كل من التحريم والكراهة لأن جانب الترك فيها راجح والثابت من الآية ترجح جانب الفعل فلم يبق بعد ذلك من الأحكام إلا الندب وهو المطلوب.
نوقش بأن التأسي والاقتداء والمتابعة ألفاظ مترادفة معناها: الإتيان بمثل الفعل الذي فعل على الوجه الذي فعل عليه من الوجوب أو الندب أوالإباحة فهذه الأمور الثلاثة لا تكون إلا في الفعل المعلوم الجهة وبما أننا نتكلم في الفعل الذي لم تعلم جهته تكون الآية في غير محل النزاع.
القول الثالث: يدل على الوجوب وإليه ذهب بعض الشافعية كابن سريج وابن خيران وأبي سعيد الإصطخري.
واستدلوا على ذلك بالكتاب والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى:
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ} ووجه الاستدلال أن: {اتَّبِعُوهُ} في الآية أمر والأوامر يدل على الوجوب لأنه لا قرينة تصرفه.........=

 

ج / 1 ص -306-       مسألة: التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا واجب فى القرب.
وعند من ذكرناه لا يجب1 واستدل من ذهب إلى ذلك بوجوه من الدليل وقالوا: تقدم أولا معنى التأسى فمعناه أن يفعل صورة ما فعله على الوجه الذى فعله لأجل أنه فعل وما لم يكن على هذا الوجه لا يكون تأسيا وقالوا: يدل أولا أنه لا يجب علينا أن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عنه إلى غيره فكانت متابعة الرسول واجبة من غير فرق بين ما علمت صفته وما جهلت وبذلك يكون الفعل غير معلوم الصفة واجبا ويجاب عن هذا بأن الآية ويجاب عن هذا بأن الآية في غير محل النزاع لأن المتابعة كما تقدم لا تتحقق إلا في الفعل الذي علمت جهته وموضوع الخلاف الفعل مجهول الجهة.
وأما الإجماع فإن الصحابة رضوان الله عليهم اتفقوا على وجوب الغسل من التقاء الختانين بدون إنزال بعد أن كانوا مختلفين فيه ومستندهم في الاتفاق قول عائشة رضي الله عنها لمن سألها عن ذلك فعلته أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا فلو كان فعله عليه السلام غير مفيد للوجوب ما أجمع الصحابة على وجوب الغسل مما ذكر لمجرد فعله عليه السلام ذلك ولوجد منهم من يقول بالندب أو الإباحة لأن الفعل من حيث هو محتمل وأجيب عن هذا بأن الصحابة لم يجمعوا على ذلك لمجرد الفعل بل لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا يعتبر من باب المناسك وهم مأمورون بأخذ المناسك عنه لقوله عليه السلام:
"خذوا عني مناسككم" فيكون فعله عليه السلام مبينا لواجب فيكون واجبا تبعا لما بينه وبذلك يكون الدليل في غير محل النزاع كذلك لأن الفعل المبين لما هو معلوم الصفة ليس من محل النزاع.
القول الرابع: وهو المختار للبيضاوي والصيرفي وجماعة الوقف بمعنى أنه لا يحكم لا بالوجوب ولا بالندب ولا بالإباحة حتى يدل الدليل الخاص على واحد من هذه الأمور.
ووجهتم في ذلك أن فعله عليه السلام محتمل للوجوب والندب والإباحة وأنه ليس خاصا به بل الأمة مثله في ذلك ومحتمل لأن يكون خاصا به فلا تكون الأمة تابعا له فيه وليس هناك ما يعين واحدا من هذه الأمور السابقة فوجب التوقف وعدم الحكم بشيء بخصوصه حتى يقوم الدليل عليه دفعا للتحكم
ويمكن لأصحاب المذاهب السابقة أن تناقش هذا الدليل فتمنع احتمال الخصوصية بأن الأصل عدمها ثم يعين كل واحد منهم ما اختاره من الندب أو الإباحة أو الوجوب بالدليل الذي ساقه عليه. فلا يتم للواقف مدعاه وللواقف أن يرد هذه المناقشات بأن الأدلة السابقة لم تسلم من المناقشات فلم تثبت مدلولاتها فلا عبرة بها وبذلك يسلم دليل الواقف مما ورد عليه ويترجح مذهبه لترجيح دليله انظر البرهان 1/487, 488, 489 وإحكام الأحكام للآمدي 1/245 والمعتمد 1/343 نهاية السول 3/17 المحصول 1/502 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/88, 89, 90.
1 انظر البرهان 1/488 المحصول 1/511 إحكام الأحكام للآمدي 1/245 المعتمد 1/353, 354 نهاية السول 3/18, 19.

 

ج / 1 ص -307-       نفعل مثل ما فعله على جهة الواجب فنقول أنه لا يجوز أن يعلم ذلك بالعقل لأنه لو علم ذلك بالعقل لكان من أحد الوجهين أما أنه لا يجوز أن يختص بوجوب شىء عليه وما وجب عليه لا بد من كونه واجبا علينا أو لأنا إذا لم نتبعه فى أفعاله أدى ذلك إلى التنفير عنه والأول باطل لأنه عليه السلام إنما تعبد بالفعل لأنه مصلحة له ولسنا نعلم وجه كونه مصلحة حتى نعلم شياعه فى جميع الناس وهذا لأنه ليس يجب اشتراك المكلفين فى المصالح فيجوز أن يكون هذا الفعل مصلحة له ولا يكون مصلحة لنا إلا ترى أنه قد أبيح له ما لم يبح لنا مثل العدد فى الأنكحة والصفى من المغنم وغير ذلك وقد أوجب عليه ما لم يوجب علينا مثل قيام الليل والوتر والتضحية وغير ذلك والثانى باطل لأنه أما أن يقال أن التنفير يحصل إذا فارقناه فى فعل واحد أو يحصل إذا فارقناه فى جميع الأحوال والأول لا يصح لأن المفارقة قد حصلت فى أشياء كثيرة مثل المفارقة فى صلاة الضحى والمناكح فقد حصل التنفير إذا والثانى لا يصلح لأنه إذا كان التنفير يحصل بالمفارقة فى جميع الأفعال لا فى بعض الأفعال فلا بد من دليل غير العقل يميز لنا ما تعبدنا به من أفعاله وبين ما لم نتعبد به ولأنه لو قال اعلموا إنما تفعلوه مصلحة لكم دونى أو ما أفعله مصلحة لى دونكم لم يكن هذا مؤديا إلى التنفير فكذلك ما ذكرناه لا يؤدى إلى التنفير أيضا.
قالوا: وليس الأفعال كالأقوال من الأوامر والنواهى لأن الأقوال موضوعة لمعان معلومة على ما ذكرناه من قبل فإذا لم يقتض ذلك الإيجاب أو التحريم علينا إذا كان أمرا ونهيا يطلب معانيها وهذا لا يوجد فى الأفعال لأن الأفعال مفيدة صحيحة فى حق فاعليها فالقول فى ترك إيجاب أمثالها علينا لا يؤدى إلى إبطالها وإلغائها وإذا ثبت أنه لا يجب التأسى به من حيث العقل وأن عرفنا أنه فعل واجبا فكيف يجب علينا أنه فعل ما فعل على وجه الوجوب وهذا لأنا إذا لم نعلم الجهة التى فعل عليها لم يكن ما يفعله تأسيا لوجه ما إلا ترى أنه لو صار واجبا فتطوعنا لم نكن متأسين به وكذلك إذا فعل تطوعا وفعلنا فرضا لم نكن متأسين به أيضا وحرفهم فى هذا الدليل أنه لا دليل على ما قلتم من وجوب التأسى لا من حيث العقل ولا من حيث السمع فسقط لعدم الدليل واستدلوا أيضا بأنه لو دل فعله على وجوب مثله علينا لدل على وجوب مثله عليه وحين لم يكن دليلا عليه فلا يكون دليلا علينا لدل أنه كان واجبا عليه لأنا إنما نفعله تبعا له فإذا لم يدل على أنه كان واجبا عليه فالأولى أن لا يدل على أنه يجب علينا.

 

ج / 1 ص -308-       مثله وإذا ثبت انتفاء الوجوب علينا مجرد فعله فقد قال بعضهم أن فعله1 يدل على الإباحة لأنها أقل الأحوال2.
وقل بعضهم3 يدل على الندب4 لأن الكلام فى القرب وأدنى أحوال القرب الندبية فأخذنا بها أخذ باليقين ومنهم من يوقف ليقوم الدليل على أحد هذه الأمور وأما دليلنا فاعلم أن المعتمد هو الاستدلال بالشرع فى وجوب الاتباع والدليل على ذلك قوله تعالى:
{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] الآية وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فأمر الله تعالى فى هذه الآيات باتباعه واتباعه قد يكون فى قوله وقد يكون فى فعله فكان بيان الشريعة من جهته واقعا بالأمرين جميعا إلا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما رأيتمونى أصلى"5 وقال: "خذوا عنى مناسككم"6 والصلاة والحج من الأحكام المجملة وقد حصل بيانها بالفعل فثبت أن مجمل الفعل فى البيان محل القول وأن من اتبعه فى فعله كان كمن اتبعه فى قوله وإنما يكون بيان الفعل أوكد من بيان القول.
ألا ترى أنه إذا أمر بشىء فأراد تحقيقه حققه بفعله كحلقه حين أحصر عام الحديبية وقد كان أمر فلم يفعلوا وتربصوا وتوقفوا فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تبادر الناس عند ذلك إلى الحلق فدل أن الفعل من المكانة فى القلوب ما ليس للقول ومما يدل أن محل فعله محل قوله أنه عليه السلام لما سئل عن القبلة للصائم فقال أنا أقبل وأنا صائم فقال السائل إنك لست كأحدنا فغضب وقال:
"أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدود الله"7 ولما قيل لابن عمر أن ناسا يقولون إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي المجرد.
2 وهذا مذهب مالك وجزم به الإمام الرازي انظر نهاية السول 3/21.
3 وهو قول الشافعي انظر نهاية السول 3/12.
4 وقد قال بالوجوب أبو سعيد الإصطخري وابن خيران من الشافعية واختاره الإمام فخر الدين الرازي في معالم السنة انظر نهاية السول 3/21, 22.
5 أخرجه البخاري الأذان 2/131 ح 631 والدارمي الصلاة 1/317 ح 1253 وأحمد المسند 5/65 ح 20555.
6 تقدم تخريجه.
7 أخرجه مسلم الصيام 2/779 ح 74/1108 ومالك في الموطأ الصيام 1/291 - 292 ح 13.

 

ج / 1 ص -309-       القبلة ولا تستدبرها قال لقد ارتقيت على ظهر بيت لنا فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليقين مستقبل بيت المقدس لحاجته1 فاستدل ابن عمر بذلك على جواز فعله ودل به على بطلان قولهم وأجزأه مجزءا قوله لوروده بإطلاقه وإباحته وقد قال عامة أهل العلم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا صلى الإمام قاعدا فصلوا قعودا أجمعين"2 بفعله حين أم قاعدا فى مرضه الذى توفى فيه وهم قيام وغفلوا أن نسخ القول واقع بالفعل منه وأنهما فى بيان الشريعة على السواء وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أصبح جنبا فقد أفطر"3 ثم زاد أنه منسوخ بما روى أنه كان يصبح جنبا ثم يغتسل ويتم صومه وكذلك زاد أنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الثيب بالثيب جلد مائة والرجم"4 منسوخ بترك جلد ماعز والغامدية وأن قوله فى السارق: "فإن عاد فاقتلوه"5 منسوخ بترك قتله حين أتى فى المرة الخامسة ومن هذا الباب جلوسه صلى الله عليه وسلم: "بين الخطبتين يوم الجمعة"6 وليس فيه إلا فعله فقط وروى الشافعى رحمه الله فساد الصلاة بتركه7 ومما يزيد ما قلناه بيانا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خلع نعله فى صلاته خلع أصحابه نعالهم فلما سلم قال: "ما لكم خلعتم نعالكم" فقالوا: رأيناك خلعت نعلك فقال: "أن جبريل أخبرنى أن بهما قذرا"8 وأيضا فإن عمر رضى الله عنه لما قبل الحجر قال إنى أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولكنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك9 فيرى أن متابعته على الظاهر من فعله واجبة مع علمه أنه لا يقع فيه أكثر من الاتباع وأمثال هذه الأخبار كثيرة فهذه الأخبار تبين أن أفعاله جارية فى بيان الشرع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الوضوء 1/297 ح 145 ومسلم الطهارة 1/224 ح 61/266.
2 أخرجه البخاري الأذان 2/204 ح 689 ومسلم الصلاة 1/308 ح 77/411.
3 أخرجه مسلم الصيام 2/779 ح 75/1109 بلفظ "من أدركه الفجر جنبا فلا يصم" ومالك في الموطأ الصيام 1/290 ح 11 ولفظ الحديث عند مالك.
4 أخرجه مسلم الحدود 3/1316 ح 12/169 وأبو داود الحدود 4/142 ح 4416 والترمذي الحدود 4/41 ح 1434 وابن ماجه الحدود 2/852 ح 2550.
5 أخرجه أبو داود الحدود 4/140 ح 4410 والنسائي السارق 8/83 باب قطع اليدين والرجلين من السارق انظر نصب الراية 3/371.
6 أخرجه البخاري الجمعة 2/471 ح 928 ومسلم الجمعة 2/589 ح 34/862.
7 انظر روضة الطالبين 2/27.
8 أخرجه أبو داود الصلاة 1/172 ح 650 والدارمي الصلاة 1/370 ح 1378 وأحمد المسند 3/113 ح 11883.
9 أخرجه البخاري الحج 3/540 ح 1597 ومسلم الحج 2/925 ح 25/127.

 

ج / 1 ص -310-       مجرى أقواله ومن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يعتقدون ذلك ويرون أن المبادرة إلى أفعاله فى المتابعة مثل المبادرة إلى أقواله وقد دل على هذا الأصل الكبير قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] وأمره هو شأنه وذلك مشتمل على أفعاله وأقواله ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} [يوسف: 15] أى شأنهم وإلى قوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] أى شأنه وطريقته ومذهبه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدخل فى أمرنا ما ليس فيه فهو رد"1 يريد دينه وشريعته وأقواله وأفعاله وأن ادعوا أن الأمر حقيقة فى القول مجاز فى الفعل نقول فى هذا الموضع لما كان المعنى الثانى كان منتظما بالقول والفعل على وجه واحد ودل أيضا قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وهذا على الإلزام والإيجاب بدليل أن أتبعه قوله: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21] وهذا وعند التعقيب بالمواعيد دليل الوجوب ويبين هذا الجواب عن قولهم أنه لو كان المراد بالآية الإيجاب لقال لقد كان عليكم ولم يقل لكم لأن الذى قلناه من ذكر الوجوب واللزوم والشىء الواجب علينا إذا فعلناه كتب لنا أمره فهو لنا من هذا الوجه وقد دل أيضا على ما ذكرناه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} [الأحزاب: 37] فجعل فعله صلى الله عليه وسلم علما على القدرة والأسوة وثبت بالآية أن الائتساء به صلى الله عليه وسلم ثابت على العموم حتى ورد دليل الخصوص إلا ترى أنه لما جاء الخصوص قال تعالى: {إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فثبت أن الائتساء وجب شرعا والذى ذكرناه يعرف من الدلائل القطعية التى يحرم خلافها ولا يدخل الاجتهاد فى تجاوزها وعلى هذا الأصل الذى ثبتناه لا يحتاج إلى الجواب عن شىء من كلامهم لأنهم إذا ادعوا انتفاء الوجوب من حيث العقل ونحن ادعينا وجوبه من حيث الشرع ولا ملاقاة بين طرفى الدليلين فوقعت الغنية عن الاشتغال بم ذكروه وأوردوه والله المشكور بالهداية إلى ما يوافق السنة فإن ذكروا شيئا اختص به النبي صلى الله عليه وسلم نقول قام دليل التخصيص مع ذلك فلا يدخل على الأصل الذى أصلناه.
فإن قيل لو كان الفعل منه صلى الله عليه وسلم على الوجوب لكان الترك على الوجوب قلنا نقول.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الصلح 5/355 ح 2697 بلفظ
"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" ومسلم الأقضية 3/1343 ولفظه لفظ البخاري.

 

ج / 1 ص -311-       إذا ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الأشياء وجب علينا متابعته فيه إلا ترى أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم إليه الضب فأمسك عنه أصحابه وتركوه إلى أن قال لهم إنى أعافه وأذن لهم فى تناوله وهذا وجه الكلام فى هذه المسألة وقد تبين جدا وقد رأيت لبعض المتأخرين فى هذه المسألة كلاما مختلطا ورأيته متردد الرأى فى المسألة وأشار إلى طرف مما ذكرناه من أن الصحابة رضى الله عنهم كانوا يبتدرون إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم ابتدارهم إلى أقواله وهو صلى الله عليه وسلم إمام الخليقة فى جميع أموره وذكر أنه يبنى فعله على الإيجاب والإلزام أخذا بالأحوط ثم رأيته يميل إلى القول بالإباحة على معنى أنه إذا ظهر منه صلى الله عليه وسلم فعل لم يكن على الأمة حرج أن يفعلوا مثل فعله قال وأما القول بالإيجاب والندب فلا دليل عليهما ونحن نحمد الله عليهما قد دللنا على ذلك بأبين وجه وأظهر مسلك فليعتقد المرء ذلك يجد نفسه على سواء الصراط والله المغنى بمنه.
وإذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا وعرف أنه فعله على وجه الوجوب أو على وجه الندب كان ذلك شرعا لنا إلا أن يدل الدليل على التخصيص بذلك فقال أبو بكر الدقاق لا يكون ذلك شرعا لنا إلا بدليل يدل عليه هكذا ذكر الأصحاب وعندى أن ما فعل فى القرب سواء عرف أنه فعله على جهته أو لم يعرف فإنه شرع لنا إلا أن يقوم الدليل على تخصيصه والذى ذكرناه فى المسألة الأولى دليل في هذه المسألة ولا معنى للإعادة والمعتمد رجوع الصحابة إلى أقواله وأفعاله جميعا على السواء.
وإذا ثبت هذا فنقول اعلم أنه يحصل بالفعل جميع أنواع البيان من بيانه المجمل وتخصيص العموم وتأويل الظاهر والنسخ فأما بيان المجمل فهو كما روى من فعله صلى الله عليه وسلم الصلاة والحج وتصمن فعله بيان المجمل الذى فى القرآن وأما تخصيص العموم فهو كما روى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس1 ثم روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى بعد العصر صلاة لها سبب2 وكان ذلك تخصيص عموم النهى وأما تأويل الظاهر فهو كما روى أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن القود فى الطرف قبل الاندمال ثم روى أنه أفاد قبل الاندمال فيعلم أنه صلى الله عليه وسلم أراد بالنهى الكراهة فى وقت دون التحريم وأما النسخ فقد بيناه فى موضعين فلا يفيد
وإن تعارض قوله وفعله فى البيان ففيه أوجه من أصحابنا من قال القول أولى من.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري المواقيت 2/73 ح 586 ومسلم المسافرين 1/567 ح 288/827.
2 أخرجه البخاري السهو 3/126 ح 1233 ومسلم المسافرين 1/571 ح 297/834.

 

ج / 1 ص -312-       الفعل لتعديه بصيغته.
ومنهم من قال الفعل أولى لأنه أدل وأقوى فى البيان على ما سبق من خبر حلق الرأس فى الحديبية.
ومن أصحابنا من قال هما سواء1 وعندى أن هذا هو الأولى ولا بد من دليل آخر لترجيح أحدهما على الآخر ووجه التسوية بينهما ما ذكرنا فى المسألة الأولى وهو اتفاق الصحابة رضى الله عنهم على التسوية بين القول والفعل وأخذهم بيان الشرع منهما على وجه واحد من غير ترجيح والكتاب يدل أيضا على ذلك وهو فى المواضع التى ذكرناها والله أعلم.
ونذكر حكم ما أقر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عصره فنقول وإذا شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على استدامة أفعال فى بيعات أو غيره من معاملات يتعاملونها فيما بينهم أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو أبنية أو مقاعد فى أسواق فأقرهم عليها ولم ينكرها منهم فجميعها فى الشرع مباح إذا لم يتقدم إقراره إنكار لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستجيز أن يقر الناس على منكر ومحظور كما وصفه الله تعالى فى قوله:
{النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157] فدل أن ما أقرعليه داخل فى المعروف خارج عن المنكر فإن مدح فاعله وذم تاركه دل على وجوبه وأن ذم فاعله ومدح تاركه دل على حظره وهكذا لو أمره بالتوبة لأنه لا يأمر بها إلا فى معصية وأن مدح فاعله ولم يذم تاركه دل على استحبابه وهكذا لو وعد فاعله بالثواب أو لم يتوعد تاركه بالعقاب دل على استحبابه وأن لم يمدح فاعله ولم يذم تاركه دل على إباحته وأن أقر فاعلا بعد ذمه على فعل مثله دل على.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعلم ان في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: وهو رأي الجمهور أن القول هو المبين سواء علم تقدمه وتأخر الفعل أو بالعكس أو لم يعلم شيء من ذلك.
القول الثاني: لأبي حسين البصري: وهو أنه عند علم التقدم والتأخر يكون المتقدم هو المبين قولا أو فعلا وعند عدم العلم يجعل القول لجحانه من جهة أنه لا يفتقر في إفادته البيان إلى غيره بخلاف الفعل فإنه يفتقر إلى واحد من الأمور الثلاثة السابقة.
القول الثالث: وهو المختار للآمدي: أنه إن علم تقدم القول على الفعل كان القول مبينا وكان الفعل على استحباب الطواف الثاني انظر نهاية السول 3/45, 46 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/18, 19.

 

ج / 1 ص -313-       إباحته بعد حظره وأن ذم واحدا على فعل وأقر آخر على مثله فإن علم افتراقهما فى السبب تعلق الحظر والإباحة بالسبب الذى افترقا فيه وأن جهل بسبب الافتراق عليه حكم الآخر منهما فإن كان الآخر الإقرار بعد الذم دل على الإباحة بعد الحظر وأن كان الآخر الذم بعد الإقرار دل على الحظر بعد الإباحة وإذا علم من حال مرتكب المنكر الإنكار أن كان الإنكار عليه يزيده إغراء على فعل مثله فإن علم به غير الرسول لم يجب عليه الإنكار لئلا يزداد من المنكر بالإغراء.
وإن علم به الرسول ففى وجوب إنكاره وجهان أحدهما لا يجب لهذا التعليل وهو قول المعتزلة والوجه الثانى يجب إنكاره ليزول بالإنكار توهم الإباحة وهذا الوجه أظهر وهو قول الأشعرية من هذا الوجه يكون الرسول مخالفا لغيره لأن الإباحة والحظر شرع مختص بالرسول دون غيره.
مسألة وإذا قال الصحابى كانوا يفعلون كذا فهو على ثلاثة أضرب.
أحدها أن يضيفه إلى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم والآخر إلى عصر الصحابة رضى الله عنهم والثالث أن ينطق فإن أضافه إلى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مما لا يخفى مثله حمل على إقرار الرسول وصار شرعا وأن كان مثله يخفى كأن يكرر منهم وكثر حمله على إقراره لأن الأغلب فيما كثر منهم أنه لا يخفى عليه كما روى عن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه قال كنا نخرج صدقة الفطر فى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعا من بر أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر1 الخبر وعلى هذا إذا أخرج الراوى الرواية مخرج التكثير بأن قالوا: كانوا يفعلون كذا حمل الرواية على علمه وإقراره فصار المنقول شرعا وأن تجرد عن لفظ التكثير كقوله فعلوا كذا فهو محتمل ولا يثبت شرع باحتمال وأما أن أضيف الفعل إلى عصر الصحابة رضى الله عنهم نظر فإن كان مع بقاء عصر الصحابة لم يكن حجة وأن كان انقراض عصرهم فهو حكاية عن إجماعهم فيكون حجة وأن أطلقه ولم يضفه إلى أحد العصرين نظر فإن كان عصر الصحابة باقيا فهو مضاف إلى عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وأن كان بعد عصر الصحابة فالماضى قبله عصر الصحابة.
وإذا قال الراوى من السنة كذا كما قال على رضى الله عنه من السنة أن لا يقتل حر بعبد فقد اختلف فيه الفقهاء فعند أبى بكر الصيرفى من أصحاب الشافعى وأبى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري في الزكاة 3/434 الحديث 1506 ومسلم في الزكاة 2/678 الحديث 17/985.

 

ج / 1 ص -314-       الحسن الكرخى من أصحاب أبى حنيفة أنه لا يحمل ذلك على سنة الرسول1 لأن الصحابة ربما سنوا بالقياس والاجتهاد أحكاما كما قال على رضى الله عنه جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الخمر أربعين وجلد أبو بكر رضى الله عنه ثمانين فى كل سنة2 وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى"3 وأما مذهب الشافعى رحمه الله أن مطلق السنة ما سنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأضافها إلى غيره4 فجاز لا قتدائه فيها بسنة النبي صلى الله عليه وسلم فوجب أن يحمل الإطلاق على حقيقته دون مجازه وأما قول على رضى الله عنه وكل سنة يعنى بالزيادة أنها تقرير جاءت به السنة وقوله صلى الله عليه وسلم: "وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى" ما أخبروكم به عن سنتى وأن كان ذلك حجة نظر فإن كان الراوى لذلك صحابيا كان روايته مسندة يجب العمل بها وأن كان تابعيا كان روايته مرسلة فحكمها حكم المراسيل.
مسألة: وإذا قال الصحابى أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا فلا يوجب هذا أن يقطع بأنه عن الرسول ولا يقطع بأنه ليس عن الرسول صلى الله عليه وسلم لجواز الأمرين.
واختلفوا فيما يوجب هذا الظاهر فحكى عن أبى الحسن الكرخى من أصحاب أبى حنيفة وأبى بكر الصيرفى من أصحاب الشافعى أنه يحمل على أنه من الصحابة دون الرسول صلوات الله عليه إلا أن يقوم دليل على أنه من الرسول عليه السلام.
ومذهب الشافعى أنه يحمل على أنه من الرسول صلوات الله عليه دون الصحابة5 لأن الصحابة لقربهم من عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يستعملون هذه اللفظة فى أوامره ونواهيه فوجب أن يحمل على عرف الاستعمال وهذا مثل ما روى عن أنس أنه قال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر إحاكم الأحكام 2/139 نهاية السول 3/187, 188 البرهان 1/649 المحصول 2/220 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/130.
2 أخرجه مسلم الحدود 3/1331 ح 38/1707 وأبو داود الحدود 4/162 ح 4480 وابن ماجه الحدود 2/858 ح 2571.
3 أخرجه أبو داود السنة 4/200 ح 4607 والترمذي العلم 5/44 ح 2676 وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه المقدمة 1/16 ح 43 وأحمد المسند 4/156 ح 17149.
4 انظر إحاكم الأحكام 2/139 نهاية السول 3/187, 188 البرهان 1/649 المحصول 2/220 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/130.
5 انظر إحاكم الأحكام للآمدي 2/139 نهاية السول 3/186 المحصول 2/219,. 220 روضة الناظر 84 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/130.

 

ج / 1 ص -315-       "أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة"1 وهذا محمول على أن الأمر هو النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من جعل الأمر على الوقف حتى يقوم دليل والصحيح ما قدمنا ومما يلحق بالفصل الذى ذكرناه من قبل أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم غيره على ما يشاهده منه شرع استدل به الشافعى فى إثبات القافة2 من خبر محرز المدلجى ونظره إلى أسامة بن زيد وهما نائمان وعليهما قطيفة وقد بدت أقدامهما فقال هذه الأقدام بعضها من بعض3 وسرور النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وذكره لعائشة رضى الله عنها مستبشرا بقوله ووجه الاحتجاج بالخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يسره إلا الحق وقد قال محرز ما قاله بالقافة فإنه كان معروفا بهذا العلم فلما سره قوله تبين أنه مسلك صحيح وقوله مصدر عما صدر عنه حق وهذا هو الجواب عن قول من قال معترضا على الخبر أن قول محرز كان موافقا للشرع فإن أسامة ولد على فراش زيد والقول الصادر على وفق الشرع لا يكون دليلا على أنه فى نفسه حق وحجة ألا ترى أن الفاسق لو قال أن هذه الدار لفلان وعزاها إلى مالكها فلو قرر الشرع مثل هذا على قولكم لم يكن دليلا على أن قول الفاسق مقبول محكم به.
والجواب على هذا ما سبق ويقال: أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو لم يكن معتقدا قبول قول القائف لعده من الزجر والفال وما يقال بالحدس والتخمين ولما أبعد أن يخطىء فى تواضع أن أصاب فى هذا الموضع وكان ينبغى أن لم يكن القافة حقا أن ينبهه على غلط وهو قوله بهذا الطريق حتى لا يتخذه مسلكا يسلكه فى سائر المواضع فيخطىء فى غير هذا الموضع وأن أصاب فى هذا الموضع فمقداره الاحتجاج بالخبر وهو وجه حسن واضح داخل فى أستار القلوب والله أعلم.
مسألة: ويلحق بهذا الفصل الكلام فى تعبد نبينا عليه السلام بشريعة من قبله
اعلم أنه يجوز أن يتعبده الله تعالى بشريعة من قبله من الأنبياء ويأمره باتباعها ويجوز أن يتعبده بالنهى عن اتباعها ولا لبس فى وجوب هذا أو عدمه استبعاد ولا استنكار ولأن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري الأذان 2/92 ح 603 ومسلم الصلاة 1/216 ح 2/378.
2 انظر البرهان 1/498.
3 أخرجه البخاري الفرائض 12/57 ح 6771 ومسلم الرضاع 2/1082 ح 39/1459.

 

ج / 1 ص -316-       مصالح العباد قد تتفق وقد تختلف فيجوز أن يكون الشىء مصلحة فى زمان النبى الأول دون الثانى ويجوز أن يكون مصلحة فى زمان الثانى دون الأول ويجوز أن يكون مصلحة فى زمان الأول والثانى وإذا جاز هذا فيجوز أن تختلف الشرائع وتتفق فإن قيل إذا جاء الثانى بمثل ما جاء به الأول لم يكن لبعثه وإظهار المعجزة عليه فائدة لأن الشريعة معلومة من قبل قلنا الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته لا يسأل عما يفعل وهم يسألون وعلى أن فيه فوائد كثيرة منها أنهما وأن اتفقا فى بعض الأحكام فيجوز أن يختلفا فى بعضها ومنها أنه يجوز أن يكون الأول مبعوثا إلى قومه والثانى إلى غيرهم ومنها أن يندر من شريعة الأول فلا يعلم إلا من جهة الثانى ومنها أن يحدث فى الأول بدع فيزيلها الثانى فيعلم أن الأمرين جائزان.
ثم اختلف أصحابنا وغيرهم هل تعبده لله تعالى أعنى نبينا صلى الله عليه وسلم باتباعها أعنى شريعة من قبلنا أم كان منهيا عن اتباعها على ثلاثة مذاهب.
أحدها: أنه لم يكن متعبدا باتباعها بل كان منهيا عنها وقد ذهب إلى هذا جماعة من أصحابنا وأكثر المتكلمين وطائفة من أصحاب أبى حنيفة.
والمذهب الثانى: أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبدا باتباعها إلا ما نسخ منها وإلى هذا مال أكثر أصحابنا وكثير من أصحاب أبى حنيفة وطائفة من المتكلمين.
والمذهب الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم لم يتعبد فيها بأمر ولا نهى وقال بعض الفقهاء كان متعبدا بشريعة إبراهيم عليه السلام على الخصوص دون غيره1 وهو قول شاذ والمعروف ما قدمنا من قبل والمذهب الصحيح هو الأول وإنه كان المذهب الثانى قد نصره كثير من أصحابنا وقد أومىء إليه الشافعى فى بعض كتبه وقيل أنه بنى عليه أصلا من أصوله فى كتاب الأطعمة غير أنا نقول أن العقل لا يحل اتباع شريعة من قبلنا غير أنه قد ثبت شرعا أنا غير متعبدين بشىء من أحكام الشرائع المتقدمة فأما وجه قول من قال إنا تعبدنا بذلك قوله تعالى:
{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [آل عمران: 95] فهذا نص أن هذه الشريعة ملة إبراهيم ونحن نعلم أنها لم تجعل الملة فى الحال فثبت أنها ملة له على معنى أنها كانت ملة له فبقيت حقا لذلك وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل عليه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول 3/47 انظر البرهان 1/503 وانظر المحصول 1/518 انظر الإبهاج في شرح المنهاج 2/302 شرح المنار 251 أصول الفقه للشيخ أبو النور زهير 3/97, 98.

 

ج / 1 ص -317-       قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] والهدى اسم الإيمان والشرائع جميعا لأن الاهتداء بها كلها ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] وقوله النبيون الذين أسلموا قد دخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقيل أنه أراد بها النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوص وقوله فى قصة اليهوديين اللذين زنيا ورجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة وحكمه بها على هذا القول أكثر أهل التفسير وبه وردت الرواية ويدل عليه أن ابن عباس رضى الله عنهما سئل عن سجدة ص فقال سجدها داود وهو ممن أمر نبيكم أن يقتدى به1 وأيضا فإن الله تعالى قال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] والدين اسم لما يدان الله به من الشرائع ولأن ما أنزله الله تعالى من الشرع شرع ثبت لكل الناس ما لم يثبت نسخه وليس فى بعث الرسول الثانى ما يدل على نسخ ما كان شرعا من قبل لما بينا أنه غير ممتنع أن يكون شرع الأول شرعا للثانى فعلى هذا شرائع من قبلنا شرائع الله تعالى ولم يعرف نسخها ثبت حقا وشرعا إلى أن يعرف نسخها قال أبو زيد فى أصوله والصحيح هذا المذهب وهو أنه كان متعبدا بشرع من قبله إلا أن بقاء ذلك الشرع لا يثبت بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا لحكايته أنها ثابتة لأن الله تعالى أنبأنا أنهم حرفوا الكلم عن مواضعها وخانوا فى النقل فصاروا مردودين الشهادة ولأن عداوة الدين كانت ظاهرة منهم واتهموا بالحيل واللبس فيما يظهرون من شر لبعض فلم يصر كلامهم حجة علينا إلا ما نقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرنا أنها ثابتة بوحى متلو وغير متلو قال فالشرائع التى كانت من قبل تبقى حقا فى نفسها لأنها كانت مطلقة غير مقبولة فبعث نبى آخر ولكن لا يثبت شرعهم بنقلهم ولكن بنقل الثانى.
قال وفيه كان عرف المصطفى صلى الله عليه وسلم حيث لم يصدق غيره عليه ولزم الماضين من الرسل اتباعه لو كانوا أحياء قالوا: ولهذا لم يرجع إليهم ولم يراجعهم فى معرفة الأحكام وربما يستدل من ذهب إلى هذا المذهب بحال النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحى بأنه كان متبعا شريعة من قبله بدليل أنه صلى الله عليه وسلم كان يحج ويعتمر ويفعل وجوه الخيرات ويذبح وينحر ويطوف ويعظم البيت ولا بد أن هذه الأفعال كانت منه باتباعه شريعة من قبله لأنه لم يكن ينزل عليه الوحى بشرع يدل عليه أن الله تعالى لا يخلى زمانا من شرع وإذا لم يكن عليه شرع فلا بد أن يكون الذى عليه شريعة من قبله فأما دليلنا قوله تعالى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري التفسير 8/405 ح 4807.

 

ج / 1 ص -318-       {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] والرسول الذى ذكر هاهنا هو رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد جعلهم بعد مبعثه بمنزلة أمته فدل أن شرائعهم قد انتهت بمبعثه ويدل عليه قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا المائدة 48 قال أبو زيد على هذه الآية فيه دليل على جواز النسخ فى الجملة وليس فيه دليل على انتساخ كلى فإن تبدل الطريقة يثبت بتغيير الأحكام ولا شك أن بعض الأحكام قد تغيرت بتبدل الطريقة فاستقام قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] قال يبينه أنهم أجمعوا كلهم على طريقة واحدة بالإيمان بالله تعالى وطاعتهم إياه فى أوامره ونواهيه ويمكن أن يجاب عن هذا فيقال أن هذه الآية تقتضى تفرد كل واحد من الأنبياء بشرعة ومنهاج إلا ما قام عليه الدليل والدليل على أن شرائع من قبلنا انتهت بمبعث نبينا صلى الله عليه وسلم ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صحيفة فى يد عمر رضى الله عنه فقال له ما هذه الصحيفة فقال فيها شىء من التوراة فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعى1 فجعله بمنزلة واحد من أمته لو كان حيا فهذا نص أن شريعته انتهت ببعثه ولأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يرجعون فى الحوادث إلى الكتاب والسنة والاجتهاد إذا لم يجدوا متعلقا من الكتاب والسنة والدليل عليه قول معاذ حين بعث إلى اليمن الخبر المعروف ولم يرو أن أحدا منهم رجع إلى شىء من أحكام الكتب المنزلة من قبل ولا بحث عنها ولا أمر أحدا بالبحث عما فيها ولو كانوا متعبدين بذلك لنقل عنهم أو نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولو فعل لنقلوا عنه عليه السلام ذلك وهذا دليل معتمد لكن نبسط بساطا لهذا الدليل ليظهر وجه الاعتماد عليه فيقول القائل بوجوب اتباع شريعة من تقدمه لا يخلو أما أن نقول أن الله تعالى أوحى إليه بلزوم العبادات التى تعبد بها من قبله وأوحى إليه تلك العبادات وصفاتها وهيئاتها فرجع إلى ما أوحى إليه منها ولم يرجع إلى النقل عمن تقدم أو يقول: أنه رجع فى معرفة شرع من تقدم إلى النقل كما نفعله نحن فى شرع نبينا صلوات الله عليه أو نقول رجع فى البعض إلى الوحى وفى البعض إلى النقل ولا يجوز الأول لأن هذا مجرد دعوى ولا بد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أحمد المسند 3/473 ح 15164 وقال الحافظ الهيثمي فيه مجالد بن سعد ضعفه أحمد ويحيى بن سعيد وغيرهما وعزاه أيضا إلى أبي يعلى والبزار انظر مجمع الزوائد 1/179 8/265.

 

ج / 1 ص -319-       فى ذلك من نقل وأما الظن والتخمين لا يثبت ولأنه لا يخلو أما أن نقول أن جميع ما أوحى إليه شرع نبي متقدم أما موسى عليه السلام أو غيره وأما أن نقول أن بعض ما أوحى إليه شرع نبى متقدم والبعض لا والأول باطل لأن كثيرا من شرعه لا يوافق شرع موسى والمسيح وغيرهما وهذا معلوم قطعا وأما الثانى فغير ممتنع أن يكون بعض شرعه موافقا لشرع من تقدمه ولكن وقوع الاتفاق لا يدل أنه متعبد بشريعة من تقدمه لأنه عليه السلام إنما علمه بالوحى فصار شريعته وإذا صار شريعته بالوحى ولا سند إلى أنه شريعة له بكونه شريعة من قبله وأن قال أنه أنزل إليه أن هذه شريعة من قبلك وأنت متعبد بها فاتبعها فهذا لا بد فيه من نقل على هذا الوجه وأن رجعوا إلى الآيات التى ذكروها فليس فيها ذكر شرع من شرائعهم وحملها على جميع شرائعهم لا يمكن لما ذكرنا من قبل ولا يجوز الثانى وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى نقل من تقدم وهو باطل لما بينا أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع فى شىء من الحوادث إليها بل كان ينتظر الوحى مثل ما انتظر فى الظهار والإيلاء واللعان وغير ذلك ولم يرو أنه سأل أحد من أهل التوراة والإنجيل عن حكم من الأحكام ولو كان متعبدا بما فيها لم يتصور أن لا يرجع ولذلك أحد من السلف لم يرو أنه رجع إلى نقل أحد من أهل الملل ولا سألهم عن شرائعهم ولو كانوا متعبدين كما قلتم لكانت كتب الأنبياء المتقدمين عليهم السلام فى الأحكام بمنزلة الكتاب والسنة فكان ينبغى أن يجب الرجوع إلى ذلك كما أوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة فإن ذكروا الرجوع إلى أمر الرجم سنجيب عنه فإن قالوا: إنما امتنع ذلك لأن أهل الأديان السالفة حرفوا كتبهم وغيروها عن الوجوه التى عليها نزلت قلنا إذا ثبت أن الرجوع إلى نقل من تقدم ممتنع ولم ينقل الوحى بذلك ولا ثبت فساد الرجوع فإذا سقط عرفنا قطعا أنه لم يكن متعبدا بشرع من قبله ولأنه لو كان متعبدا بشرع من قبله على ما زعموا وكانوا قد حرفوا وغيروا ونحن نعلم قطعا أنهم لم يحرفوا الجميع فكان ينبغى أن يقع التنبيه من الله تعالى على مواضع اللبس والتمويه والتحريف حتى لا يتعطل مرجع الأحكام ويدل عليه أنه كان قد أعلم من أحبارهم جماعة مثل عبد الله بن سلام وزيد بن شعبة وغيرهما فى زمان النبي صلى الله عليه وسلم ومثل كعب الأحبار وغيره بعده فكان يمكن أن يعرف مواضع التحريف من غير مواضع التحريف منهم وقد استشهد الله تعالى بعبد الله بن سلام فى نص التنزيل وهو قوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43] وهو عبد الله بن سلام فى قول جماعة المفسرين فإن قالوا.

 

ج / 1 ص -320-       بقول الواحد والاثنين لا نعرف قلنا فيما طريقة العلم يعرف وعلى أنه كان يخالط أهل العلم النقل للكتب المتقدمة ليعرف ما فيها بطريق التواتر حتى لا يذهب عليه شرع من الشرائع التى تعبد به والذى قاله أبو زيد فى حجتهم أنه لا يثبت بما شرعهم إلا بقول من الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا فإن ذلك القول وكان ينبغى أن يوقفه الله عليه وليس أوقفه الله عليه وكان ينبغى أن يعلمنا ذلك حتى لا يذهب علينا شريعة من الشرائع التى تعبدنا الله تعالى بها وقد قال بعض من ذهب إلى هذا المذهب أنه لو كان متعبدا بشرع من سلف لم ينسب جميع شرعه إليه كما لا ينسب شرعه عليه السلام إلى بعض أمته وفيما قالوه جعل الرسول كأنه أمة من تقدمه وهذا غض من درجته وحط عظيم من مرتبته ومنزلته واعتقاد أنه تبع لكل نبى من تقدمه وهذا لا يستجيزه أحد من أهل الملة بل فيه التنفير عنه لأنه يكون تابعا بعد أن كان متبوعا ومدعوا بعد أن كان داعيا أما الجواب عما تعلقوا به قلنا أما الآية الأولى فلا تعلق لكم بها لأن المذكور اسم الملة واسم الملة لا يقع إلا على الأصول من التوحيد والإخلاص لله تعالى بالعبادة وغير ذلك ولا يقع هذا الاسم على فروع الشرائع التى يقع اختلافنا فى ذلك ولهذا لا يقال ملة أبى حنيفة وملة الشافعى ويقال مذاهبهما مختلفة ولا يقال ملتهما مختلفة ويدل عليه أن الله تعالى قال: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123] فعلمنا أنه أراد بالملة أصل الدين ويدل عليه أن شريعة إبراهيم قد انقطع نقلها وكيف يحثه الله تعالى على اتباع ما لا سبيل له.
وأما قوله تعالى:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فقد أمر الله تعالى باتباعه هدى يضاف إلى جماعتهم والهدى المضاف إلى جماعتهم هدى التوحيد الذى اجتمعوا عليه دون الشرائع التى اختلفوا فيها وأما قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: 44] قلنا ظاهر هذا يقتضى أن يحكم بها كل النبيين فعلى هذا لا بد من حمله على التوحيد ليدخل جميع النبيين فيه لأننا نقطع أن بعض الشرائع قد تنسخ بعضا على تفاصيل معلومة وأما قولهم أنها نزلت فى شأن اليهوديين اللذين زنيا قلنا قد يسقط استدلالكم بالطريق الذى قلناه ويجوز أن يكون المراد بالذين أسلموا جماعة من أنبياء بنى إسرائيل بعثوا على شرع التوراة والدليل على أن المراد بالآية ما ذكرنا أنه لم ينقل رجوع النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوراة فى طلب الأحكام وأما قصة اليهوديين فليس يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رجع إليها مستفيدا لحكم منها ويجوز أن نرجع إليها لنتبين كذبهم فيما ادعوا أنه ليس حد الزنا.

 

ج / 1 ص -321-       هو الرجم فى التوراة وقد كان إلى ذلك لأن اليهود كانوا يموهون على المسلمين ويقولون أنه لم يوجد صفة محمد صلى الله عليه وسلم فى التوراة فأراد أن يبين كذبهم فيما ادعوا من حكم الزانى ليعرف كذبهم فى غير ذلك مما يدعونه وأيضا يجوز أنه عليه السلام حكى أن الرجم هو حد الزانى فى التوراة فرجع إليها ليقررهم على صدقه فى حكاية أن الرجم موجود فيها ولو رجع فى استفادة الحكم منها لرجع إليها فى غير ذلك من الأحكام ورجع إليها في شرائط الإحصان وغيره.
وأما قوله تعالى:
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] قلنا اسم الدين يقع على الأصول دون الفروع ولهذا لا يقال دين الشافعى ويراد به مذهبه ولا يقال دينه ودين أبى حنيفة مختلف وعلى أن قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] دليل على أن الدين شرعه لنا ما وصى به نوحا وهو ترك التفرق وأن يتمسك بما شرع وأما قولهم أن الشريعة التى شرعها الله تعالى وأنزلها لا يثبت نسخها إلا بدليل قلنا قد قام الدليل على نسخها على ما سبق وقد أقمنا الدلالة على ذلك وهذا لأن جميع الشرائع السابقة قد انتهت بشرع رسولنا صلوات الله وسلامه عليه ونستدل بما ذكرناه على انتهائها وقد سبق بما فيه وأما قولهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متعبدا بشرع من قبله قبل الوحى قلنا هذا لا نسلمه أيضا والدليل عليه أنه لو كان متعبدا بذلك لكان يفعل ما تعبد به ولو فعل ذلك كان يخالط من ينقل ذلك الشرع من النصارى واليهود وغيرهم ولو فعل معهم ما كانوا يفعلونه وقد نقلت أفعاله قبل البعث وعرفت أحواله ولم ينقل أنه كان يخالط أحدا من النصارى واليهود أو يفعل شيئا من أفعالهم والحق أنه لو تعبد بها لفعلها ولو فعلها لظهرت منه ولو ظهرت لاتبعه فيها الموافق لنازعه فيها المخالف وقد عدم هذا كله فدل أنه لم يكن متعبدا بذلك وأما قولهم أنه كان يحج ويعتمر ويطوف قلنا لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حج واعتمر قبل المبعث ولم يثبت أنه تولى التذكية وأمر بها ويمكن أن يقال أنه وجد قومه على أدب من أدب إبراهيم عليه السلام فوافقهم فيما فعلوه من الأفعال التى كانوا فيها على طريقة إبراهيم وهذا غير ممتنع فعله وموافقته قومه فيها خصوصا إذا كانوا قوما نشأ فيهم وكان فيما بينهم ولم يكن الفعل مما هو محرم فى شريعة معروفة فهذا وجه الكلام فى هذه المسألة والله أعلم.