قواطع الأدلة في الأصول ج / 2 ص -340-
[التقليد]
التقليد: قبول قول المرء في الدين بغير دليل وحده بعضهم
بأنه العمل على قولين من غير علم1 بصحته ولا نظر في الطريق
إلى معرفته والأول حد الفقهاء ويقال إن التقليد مأخوذ من
تصيير الشئ قلادة في عنق من ينسب إليه2 أو أخذ عنه ومن
التقليد ما يجوز ومنه ما لا يجوز فأما اتباع الرسول صلى
الله عليه وسلم والتسليم لحكمه فواجب ولا نقول إنه تقليد
بل هو اتباع محض وقد قال الله تعالى:
{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] ولأن الدلائل قد قامت في أن قوله حجة فلا يكون قبول
قوله قبول قول في الدين من قائله بلا حجة وقد قال الشافعى
رحمه الله في بعض المواضع: فلا يجوز تقليد أحد سوى الرسول
صلى الله عليه وسلم وهذا مذكور على طريق التوسع لا على
طريق الحقيقة.
وقال بعضهم: إن رجوع العامى إلى قول العالم ليس بتقليد
أيضا3 لأنه لا بد له من نوع اجتهاد فلا يكون تقليدا حتى لو
اعترض إنسانا من غير أن يجتهد في طلب الأعلم فسأله لم يجز
على الأصح بل لا بد أن يتوخى الأفضل والأشهر عند الناس في
درجة العلم والأوثق عند نفسه منهم فيصير الاجتهاد في
اختيار أعيان العلماء كاجتهاد العالم في اختيار أعيان
الأقاويل وعلى أنا إن سمينا ذلك من العامى تقليدا فلا بأس
ولعله الأولى لأنه لا يعرف حجة ما يصير إليه ويقبله فيوجد
فيه حد التقليد وهو قبول القول من قائله بغير حجة.
وأما تقليد الأمة إذا قالت قولا عن إطباق وإجماع فهو حجة
لا يجوز مخالفتها لقيام الدليل أنها لا تجتمع إلا على حق
وإذا أفتى العالم واحدا من العامة في الحادثة تنزل به جاز
تقليده والأخذ به4 لأن العامة لو كلفوا الاجتهاد
والاستدلال لكان فرض طلب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عرفه الآمدي بأنه: العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة
انظر إحكام الأحكام "4/297".
وعرفه ابن السبكي: أخذ القول من غير معرفة دليله انظر جمع
الجوامع ومعه حاشية الجلال "2/392" وعرفه الغزالي بأنه:
قبول قول بلا حجة المستصفى "2/387".
2 انظر إحكام الأحكام "4/297".
3 عزاه إمام الحرمين والآمدي إلى القاضي. انظر البرهان
"2/1358" إحكام الأحكام "4/297".
4 ذكره الأسنوي في مسألة أن من لم يبلغ رتبة الاجتهاد هل
يجوز له الاستفتاء ثلاثة مذاهب: =
ج / 2 ص -341-
العلم
على وجه يصير به الإنسان عالما مجتهدا فرضا على الأعيان
ولو كان كذلك لبطل معايش الناس ولأضر بهم ذلك ضررا بينا
ولحقتهم المشقة التي لا يمكن احتمالها وقد دفع الله مثل
هذا عن الأمة ووضع الإصر عنهم ولم يحملهم ما ليس لهم وسع
في تحملها رحمة من الله تعالى ولطف فعله بهم وإذا لم يجب
عليهم ما ذكرناه بقى فرضهم الأخذ بقول غيرهم وتقليدهم وهذا
التقليد في الفروع جائز.
وأما قبول خبر الواحد إذا كان ظاهر العدالة فعمل يكون
تقليدا اختلف أصحابنا فيه سماه بعضهم تقليدا وامتنع بعضهم
من ذلك1 وهو الأولى لأنه لا يقع التسليم لقوله إلا بعد
الاجتهاد في عدالته فصار قوله مقبولا بدليل والتقليد قبول
قول الغير من غير دليل فلم يكن هذا من باب التقليد والله
أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأول: أصحها عند البيضاوي وعند الإمام وأتباعهما يجوز
مطلقا بل يجب.
الثاني: لا بل يجب عليه أن يقف على الحكم بطريقه وإليه ذهب
المعتزلة البغدادية.
الثال: قال به الجبائي يجوز ذلك في المسائل الاجتهادية.
انظر نهاية السول "4/586, 587" سلم الوصول "4/586, 587"
جمع الجوامع ومعه حاشية الجلال "2/389" إحكام الأحكام
"4/209" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/249,
250".
1 انظر نهاية السول "4/630, 631" سلم الوصول "4/630, 631"
البرهان "2/1358, 1359".
مسألة: لا يجوز للعالم أن يقلد العالم:
ومن الناس
من قال: إنه جائز وهو قول أحمد وإسحاق وعن محمد بن الحسن
قال: يجوز له تقليد من هو أعلم منه ولا يجوز له تقليد
مثله2 وهذا الذى قلناه يستوى فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2 اعلم أن الأصوليين اختلفوا في هذه المسألة على أقوال
كثيرة:
الأول: لا يجوز مطلقا وهو المختار
للبيضاوي.
الثاني: يجوز مطلقا وهو المعروف عند
الإمام أحمد بن حنبل.
الثالث: يجوز فيما يخص المجتهد من الأحكام
ولا يجوز فيما يفتى به غيره.
الرابع: يجوز إذا خاف فوات الوقت ولا يجوز
إذا لم يخف فواته -وذلك فيما يخصه لا فيما يفتى به غيره.
الخامس: يجوز إذا كان المفتى أعلم منه ولا
يجوز إذا كان مساويا له أو أقل منه وهو مذهب محمد بن
الحسن.
السادس: يجوز تقليد غيره -إذا كان الغير
صاحبيا أرجح في نظره من غيره ولا يجوز تقليد =
ج / 2 ص -342-
العالم
من الصحابة وغير الصحابة وقد فرق بعضهم بين الصحابة وغير
الصحابة. وقد قال الشافعى رحمه الله في القديم: يجوز تقليد
الصحابي فيما لم يجعله له غيره فيه وإن لم يظهر قوله ولم
ينتشر.
وقال في الجديد: لا يجوز وقد ذكرنا هذا من قبل وقال بعضهم:
يجوز تقليد الخلفاء الأربعة دون غيرهم. وقال بعضهم: يجوز
تقليد أبى بكر وعمر رضى الله عنهما دون غيرهما1. وقد ورد
من الأخبار ما يدل على كل واحد من هذين القولين. قال النبى
صلى الله عليه وسلم في خبر:
"عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي"2. وقال عليه السلام:
"اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر"3.
ونتكلم في المسألة على الإطلاق فنقول: احتج من جوز للعالم
تقليد العالم بظاهر قوله تعالى: {فَاسْأَلوا
أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}
[النحل: 43] قالوا: فإذا حدثت الحادثة ولم يكن عند الفقيه
علم بها جازت له المسألة عنها وقبول قول العالم فيها لظاهر
هذه الآية لأن العامة إنما يجوز لهم تقليد العلماء لأنهم
لما يعرفون أحكام الحوادث فكذلك العلماء إذا أشكل عليهم
العلم فيها نزلوا بمنزلة العوام في هذه المسألة واستووا في
جواز التقليد لهم واستوى الفريقين في عدم العلم بها.
قالوا: ولأن الاجتهاد يجب في فروض الكفاية فجاز أن يتكل
فيه البعض على البعض كالجهاد فإنه لما كان من فروض الكفاية
جاز أن يتكل فيه البعض على البعض كذلك هاهنا وقد تعلق بعض
أصحاب أبى حنيفة في هذه المسألة بقصة الشورى فإن عبد
الرحمن بن عوف دعا عليا إلى تقليد أبى بكر وعمر فلم يجب
إلى ذلك فأما عثمان فإنه أجاب. فدل هذا من قول
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= غيره -ونقل ذلك عن الشافعي.
السابع: يجوز تقليد الصحابة والتابعين ولا
يجوز تقليد غيرهم.
الثامن: يجوز تقليد الأعلم بشرط تعذر
الاجتهاد -وهو منقول عن ابن سريج.
انظر نهاية السول "4/589, 590, 591" سلم الوصول "4/589,
590, 591" إحكام الأحكام "4/209" جمع الجوامع مع حاشية
الجلال "2/395" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير
"4/252".
1 تم تخريج هذه المسائل سابقا.
2 أخرجه أبو داود: السنة "4/200" ح "4607" والترمذي: العلم
"5/44" ح "2676" وقال: حسن صحيح. وابن ماجه: المقدمة:
"1/15" ح "42" وأحمد: المسند "4/156" ح "17149" انظر
التلخيص "4/209" ح "14".
3 تقدم تخريجه.
ج / 2 ص -343-
عثمان
وعبد الرحمن بن عوف أنه يجوز للعالم تقليد العالم. وقال
بعضهم في تقليد الأعلم أن ألعلم له مزية لكثرة علمه وحسن
معرفته لطريق الاجتهاد.
وأما الاجتهاد فالإنسان نفسه له مزية من وجه آخر وهو أنه
على ثقة وإحاطة من جهة الدليل وما يقتضى الحكم وليس على
ثقة من اجتهاد الأعلم وإذا اجتمعا تساويا فيخير بينهما.
وقالوا أيضا: إن العالم يقول ما يقول عن دليل وحجة في هذا
الموضع أطلق له ذلك كذلك في الصورة الأولى.
وأما دليلنا قوله تبارك وتعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ}
[النساء: 59] فأمر عند وقوع الاختلاف برد المتنازع فيه إلى
الكتاب والسنة فوجب بحق الظاهر أن لا يرد إلى غيرهما من
أقاويل الصحابة والعلماء ويدل عليه أيضا إجماع الصحابة
فإنهم اختلفوا في مسائل كثيرة وتناظروا واجتهدوا ولم يعلم
عن أحد منهم أنه قلد غيره أو دعا أحدا إلى تقليد نفسه
وخالف أبو سلمة بن عبد الرحمن ابن عباس في مسألة فتحاكما
إلى أم سلمه ولم يقل له ابن عباس لا يسوغ لك مخالفتى لأنى
صحابى وانت تابع لى فتقليدك لى واجب عليك فثبت أن من جوز
التقليد مع إطباق الصحابة على المنع منه فقد خالف الإجماع
ويدل عليه أن الله تعالى ذم التقليد وعابه فقال تعالى
حكاية عن الكفار:
{إِنَّا
وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى
آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] وهذا لحقيقة وهو أن قبول قول الغير في الحكم من غير
حجة مع تمكن معرفة الحكم بحجة لا يجوز لأن التقليد مذموم
شرعا وعقلا.
أما الشرع فقد بينا. وأما العقل فلأنه إذا أمكن في نفسه
تقليد غيره فليس قول واحد أولى من قبول قول غيره إلا أنا
إنما جوزنا للعامى لأجل حاجة إلى التقليد فإنه لا يمكنه أن
يصل إلى معرفة الحكم بالحجة فجوز له التقليد ضرورة وهذا لا
يوجد في حق العالم فلم يجز له التقليد لما بينا من قبل
وأما الذى تعلقوا به من قوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فهو في العوام الذين لا يعرفون الدليل أو عو فيمن لا
يعرف نصوص الكتاب والسنة فيرجع إلى من يعرفها وعلى هذا
الجواب يخرج إن تعلقوا بقوله تعالى:
{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ
إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فالمراد من ذلك إنذار العوام أو تبليغ الكتاب إلى من
لم يبلغه وإنما تقليد العوام العلماء فإنما جاز لأنا لو
أوجبنا عليهم معرفة الأحكام والدلائل بالحجج لاشتدت المحنة
عليهم وعظمت البلوى فيهم فإنا إذا ألزمنا الكافة النظر
ج / 2 ص -344-
في
الدليل أدى إلى مفسدة راجعة إلى كافة الناس لأنه لا يكون
منهم من يقوم بأمر مصالح دنياهم وما يقوم به معايشهم ويفسد
نظام الأحوال في الأفعال والأعمال وعلى أنا لا نخليه من
نوع اجتهاد نوجبه عليه وهو بقدر طاقته واتساع باعه له هو
أن يختار من أعيان العلماء أعلمهم عنده وأوثقهم في نفسه
فيرجع إلى قوله ويقلده أمر دينه فليكن العالم كذلك وهو أنه
يتكلف ما يطيقه ويتسع له علمه وهو مطلق للاجتهاد ومتسع
علمه لذلك فلا يجوز له تركه كالعامى الذى يقدر أن يتخير من
العلماء فيقلد الأعلم في نفسه والأوثق في علمه فإنه لا
يجوز له ترك ذلك. وأما اعتبارهم الاجتهاد بالاجتهاد فقد
أجاب بعض أصحابنا عن ذلك وقال: من سهل عليه تناول الأدلة
وقرب مواضعها من فهمه فهو بمنزلة من حضر العدو وقرب مواضعه
منه فلا يجوز له الاتكال على غيره في الجهاد.
وأما العامى الذى تغيب عنه الأدلة فلا يعرف وجوه الاستدلال
فهو يمنزلة من بعدت المسافة بينه وبين عدوه ولحقته المشقة
في قطعها إليه ومن كان بهذه الصفة لا يجب عليه الجهاد فقد
استوى الجانبان من حيث المعنى.
وأما الذى تعلقوا به من قصة الشورى فهو محمول على أنه دعاه
إلى سيرتهما والسياسة والرأى في الأمور وضبط الشرعية
ومجاهدة الأعداء والقيام بالآيات1 الثابتة ويجوز أيضا أنه
دعاه إلى سنتهما في ما عملا به ولم يظهر لهما مخالف فصار
ذلك بمنزلة الإجماع.
وأما الذى قال: إن الأعلم لاجتهاده مزية ولهذا أيضا مزية
فخير بينهما. قلنا العالم والعالم وإن اختلفا في غزارة
العلم وعدم غزارة العلم ولكن غزارة علم صاحبه لا تفيده
علما بلا دليل والواجب هو العلم بالدليل إذا تمكن من
الدليل ولأن التقليد من عمل الجهلة والاجتهاد من عمل
العلماء فلا يجوز أن يترك عمل العلماء وهو علم إلى علم
الجهال. وقوله: إنه يعرف أن ذلك العالم يقول ما يقوله عن
دليل. قلنا: وإن كان كذلك ولكن دليله عند صاحبه لا يفيده
دليلا في نفسه.
واعلم أن أصحاب أبى حنيفة يفرقون بين العالم والعامى
فيقولون: إن العامى يجب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل [بالانات] ولعل الصواب [بالآيات] أو
[بالأباب]. قال في القاموس: هو في أبابه: أي في جهازه وأب
به قصد قصده وأب: هزم بحملة لا مكتوبة فيها. والشيء حركه.
انظر القاموس المحيط "1/35".
ج / 2 ص -345-
عليه
التقليد والعالم يجوز له التقليد ولا يجب عليه لكن غذا
اشتبه عليه الدليل يجوز له التقليد لأنه في هذه الحالة
يحتاج إلى التقليد مثل العامى وهذا ليس بشئ لأن معه آلة
الاجتهاد فلا يعذر بالأشتباه.
مسألة1: إذا نزلت بالعالم نازلة وخاف فوت وقتها
لم يجز له تقليد غيره.
وقال أبو العباس بن سريج: يجوز لأنه في هذه النازلة بمنزلة
العامى من حيث إنه لا يتوصل إلى معرفة حكمها بالإجتهاد
ولأنه مضطر إلى التقليد فإنه إذا اجتهد فاتته العبادة عن
وقتها فجاز له التقليد كالعامى أيضا وأما نحن فنقول: إن
معه آلة الاجتهاد فلا يجوز له التقليد كما لو كان الوقت
واسعا.
بينة: أنه لو جاز له التقليد إذا خاف فوت الوقت لجاز وإن
لم يخف كالعامى والحرف أن الفرض لا يتبدل لخوف الفوت وعدم
الخوف وقوله إنه كالعامى في هذه النازلة قد بينا الفرق.
وقوله: إن به ضرورة. قلنا: ليس كذلك لأنه إن كان ذلك الشئ
مما يجوز تأخيره للغذ يكون اشتباه الحادثة عذرا له في
التأخير إن كان مما لا يجوز غيره أداءه على حسب حالة ثم
يعيده فلا ضرورة في التقليد له.
واعلم: أن العامى يجوز له تقليد العالم في جميع الأحكام
الشرعية.
وقال أبو على الجبائى: لا يجوز له فيما لا يسوغ فيه
الاجتهاد وقال: ما طريقه مقطوع به يصير مثل العقليات.
وأما عندنا: يجوز في الكل لأنه المعنى الذى لأجله يسوغ له
التقليد في مسائل الاجتهاد موجود في غيرها يدل عليه: أنه
إذا أمر العامى بمعرفة الدليل وترك التقليد أدى إلى مفسدة
عظيمة تعود عليهم وتشتد البلوى والمحنة بهم على ماذكرنا من
قبل وقد ذكرنا من قبل أنه لا يقلد العامى إلا بعد أن يجتهد
في أعيان الفقهاء وقد ذكر هذا أبو العباس بن سريج والقفال.
وقد ذكر بعض أصحابنا أنه يجوز له تقليد من شاء من العلماء
من غير أن يجتهد في أعيانهم2 وزعم أن في تكليفه الاجتهاد
في الأحكام مشقة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
2 انظر البرهان "2/1341" انظر نهاية السول "4/609" سلم
الوصول "4/609".
ج / 2 ص -346-
ونحن
نقول: إنه ليس عليه في هذا كثير مشقة ولا ينقطع بإيجابه
عليه عن سائر مصالحه في أمر معايشه وأسبابه ويحصل له بذلك
نوع ظن فإذا كان يحصل له ذلك من غير مشقة فيجئ عليه تحصيله
كما يجئ على الإمام الاجتهاد في سائر الحوادث والنوازل.
وعندي: أن هذا أولى والله أعلم.
مسألة1: وأما الكلام في مسائل الأصول:
فقد ذهب جميع المتكلمين وطائفة من الفقهاء أنه لا يجوز
للعامى التقليد فيها ولا بد أن يعرف ما يعرفه بالدليل
وقالوا: العقائد الأصولية عقلية والناس جميعا مشتركون في
العقل ولأن العلم بها واجب والعلم لا يحصل للمقلد بتقليد
غيره ولأن الدلائل على الأصول ظاهرة وليست غامضة فتكليف
العامى ليعرف الأصول بدلائلها لا يؤدى إلى الحرج الشديد
فيسقط عنهم لذلك.
واعلم أن أكثر الفقهاء على خلاف هذا وقالوا: لا يجوز أن
نكلف العوام اعتقاد الأصول بدلائلها2؛ لأن في ذلك المشقة
العظيمة والبلوى الشديدة وهى في الغموض والخفاء أشد من
الدلائل الفقهية في الفروع ولهذا خفى على كثير من العقلاء
مع شدة عنايتهم في ذلك واهتمامهم العظيم فصارت دلائل
الأصول مثل دلائل الفروع ولأنا نحكم بإيمان العامة ونقطع
أنهم لا يعرفون الدلائل ولا طرقها وإنما شأنهم التقليد
والاتباع المحض وإنما طريقهم أخذ شيئين في التقليد أحدهما
أنهم عرفوا أن العلماء قد قالوا ما قالوا عن حجة ودليل
فيكون اتباعهم لأقوال العلماء اعتقادا عن دليل بهذا الوجه.
وأما لأن العوام يعلمون أن العلماء يقولون ما يقولون عن
النبى صلى الله عليه وسلم وقد عرفوا إقامة النبى صلى الله
عليه وسلم من المعجزات ما يعجز عنه البشر وتحقق في قلوبهم
ثبوته بهذا الطريق وأنه يقول ما يقوله عن الله عز وجل
فحصلت عقائدهم عن علم ودليل قام لهم فيها بهذا الوجه.
وأما إيجاب معرفة الأصول على ما يقوله المتكلمون بعيد جدا
عن اصواب ومتى أوجبنا ذلك متى يوجد في العوام يعرف ذلك
وتصدر عقيدته عنه بل يكون أكثر العوام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 انظر نهاية السول "4/596" انظر إحكام الأحكام "4/300".
ج / 2 ص -347-
بحيث
لو عرض عليهم تلك الدلائل لم يفهموها أصلا فضلا من أن
يصيروا أصحاب دلائل ويقفوا على العقائد بالطرق البرهانية
وإنما غاية العامى هو أن يتلقى ما يريد أن يعتقده ويلقى
زنة1 من العلماء ويتبعهم في ذلك ويقلدهم ثم يسلمون عليها
بقلوب سليمة طاهرة عن الأدغال والأهوال ثم يعضون عليها
بالنواجذ فلا يحولون ولا يزودون ولو قطعوا إربا فهنيئا لهم
السلامة والبعد عن الشبهات الداخلة على أهل الكلام
والورطات التي تورطوا فيها حتى أدت بهم إلى المهاوى
والمهالك ودخلت عليها الشبهات العظيمة وصاروا في الآخرة
متحيدين عمين ولهذا لا يوجد منهم متورع متعفف إلا القليل
لأنهم أعرضوا عن ورع اللسان وأرسلوا بما في صفات الله
تعالى بجرأة عظيمة وعدم مهابة وحرمة ففاتهم ورع سائر
الجوارح. وذهب ذلك عنهم بذهاب ورع اللسان والإنسان
كالبنيان يشد بعضه بعضا وإذا خرب جانب منه تداعى سائر
جوانبه للخراب ولأنه ما من دليل لفريق منهم يعتمدون عليه
إلا ولخصومهم عليه الشبه القوية بل يدعون لأنفسهم مثل ذلك
الدليل سواء وغاية الواحد منهم في الفلح والعلو على صاحبه
بزيادة الحذق في طريقة الجدل وبينهم أوضاع يناظرون عليها
ويطالبون الخصم بطردها فإذا لم يفوا بطردها سموها انقطاعا
وعجزا وعلى أنا لا ننكر من الدلائل العقلية بقدر ما ينال
المسلم به برد اليقين ويزداد به مشقة فيما يعتقده وطمأنينة
وأنما ننكر إيجاب التوصل إلى العقائد في الأصول بالطريق
الذى اعتقدوه وساموا جميع المسلمون سلوك طريقة وزعموا أنه
من لم يفعل ذلك فلم يعرف الله تعالى. ثم أدى بهم ذلك إلى
تكفير العوام أجمع وهذا هو الخطر الشقاء والداء العضال
وإذا كان السواد الأعظم هو العوام وبهم قوام الدين وعليهم
مدار رحى الإسلام ولعله لا يوجد في البلدة الواحدة التي
تجمع المائة الألف والمائتين الألف ممن يقوموا بالشرائط
التي يعتبرونها إلا الفذ الفادر والشاذ النادر ولعله لا
يبلغ عند العشرة فمتى يجد المسلم من قبله أن يحكم بكفر
هؤلاء الناس أجمع ويعتقد أنه لا عقيدة لهم في أصول الدين
أصلا وأنهم أمثال البهائم والدواب المسخرة وعن ثمامة بن
الأشرس وكان من أئمة المعتزلة المذكورين فيهم: أنه رأى
قوما يتعادون يوم الجمعة إلى المسجد لخوفهم فوت الصلاة
فقال: انظروا إلى الفقراء انظروا إلى الحمير وقال عمر بن
النضر: مررت بعمرو بن عبيد فجلست إليه فذكرت شيئا فقلت ما
هكذا يقول أصحابنا قال: ومن أصحابك قلت: يوسف بن عون
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 [زنة] هكذا في الأصل ولعل معناه: قليل. انظر القاموس
المحيط "4/228".
ج / 2 ص -348-
ويونس
بن عبيد والتيمى فقال: أولئك نحانس1 أنجاس أموات غير
أحياء. وقال: واعلم أن هؤلاء الأربعة الذين ذكرهم غرة أهل
زمانهم في العلم والفقة والاجتهاد في العبادة وطلب المطعم
وقد درجوا على ما كان عليه من قبلهم من الصحابة ومقدموا
التابعين وقد اعتقد فيهم مثل هذا فكذلك تكون عقيدته وعقيدة
أمثاله في غير هؤلاء. نعم فقد ذكرت طرفا من هذا صالحا
النمط في كتاب الانتصار لأصحاب الحديث وذكرت الفرق بين طرق
الكلام وطرق الفقه بأبين أوجه وأوضح معنى فعلى الطريقة
التي ذكرتها ينبغى أن يتكلم المسلم ويعتمد عليه ولا يغتر
بزخارف القول وليتبع طريقة السلف الصالح والأئمة المرضية
من الصحابة ومنهج التابعين بإحسان لبيان السعادة العظمى
ويصل إلى الطريقة المثلى والله تعالى يعصم ويؤيد بمنه
وطوله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل ولعل الصواب [أنخاس] والله أعلم.
"فصل"
قد ذكر أبو زيد فصلا في إبطال التقليد ولم أجد في ذكره
كبير فائدة فتركته وذكر بعده فصلا في الإلهام وسأنقل ما
ذكره وأتكلم عليه في الموضع الذى ينبغى أن نتكلم عليه.
قال: الإلهام ما حرك العلم بقلب يدعوك إلى العمل به من غير
استدلال بآية ولا نظر في حجة.
قال جمهور العلماء: إنه خيال لا يجوز العمل به ألا عند فقد
الحجج كلها في باب ما أبيح عمله بغير علم.
وقال بعض الجهمية: إنه حجة بمنزلة الوحى المسموع عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم واحتج ذلك بقوله تعالى:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7] أى عرفها بالإيقاع في القلب وبقوله تعالى:
{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125]. وشرح الصدر بنور العلم والحرج والضيق بظلمة الجهل
فالله تعالى أخبر أنه الفاعل لذلك بلا واسطة ولا صنع من
العبيد وبقوله تعالى:
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً} [الأنعام: 122] فالحياة هى العلم والنور هو الهدى وقد أخبر أنه
الجاعل لذلك فلا صنع منا بقوله تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي
فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا}
[الروم: 30] فأخبر أن الناس
ج / 2 ص -349-
قد
خلقوا على الدين الحنيفي بلا صنع منهم. وقال تعالى:
{وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ}
[النحل: 68] فأوحى إليها أى ألهمها حتى عرفت مصالحها فلا ينكر مثل
ذلك للآدمى وقال تعالى:
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7] وكان ذلك بطريق الإلهام وقال عليه السلام:
"كل مولود يولد على الفطرة"1 أي على دين الحق وليس للمولود نظر واستدلال وقال صلى الله عليه
وسلم:
"اتقوا فراسة
المؤمن فإنه ينظر بنور الله عز وجل"2
والفراسة شئ يقع في القلب بلا نظر في حجة. وقال صلى الله
عليه وسلم لوابصة وقد سأله عن البر والإثم: "ضع يدك على
صدرك فما شك فيه قلبك فدعه وإن أفتاك الناس"
فقد جعل النبى صلى الله عليه وسلم شهادة قلبه بلا حجة أولى
من الفتوى. وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم:
"قد كان
في الأمم محدثون فإن يكن في هذه الأمة أحد منهم فهو عمر"3 أى منهم كأنه يوحى إليه ويحدثه ربه أو تحدثة الملائكة في قلبه.
وقد روى عن أبى بكر رضى الله عنه أنه قال: ألقى في روعى أن
ذا بطن خارجة جارية. وإلا لغى الإلهام وقد روى عن عمر رضى
الله عنه أنه تكلم في أشياء فنزل الوحى بذللك وقد كان ألهم
قبل. وقد كان لأنبياء بني إسرائيل إلهام يتكلمون عنه وينزل
ذلك بمنزلة الوحى إلى غيرهم. وقالت الأئمة فيمن اشتبهت
عليه القبلة فصلى بغير تحرى بقلبة: لا تجوز.
وإن أصاب القبلة وإن صلى بتحرى قلبه تجوز صلاته وإن أصاب
غير القبلة.
قالوا: فثبت أن الإلهام حق من قبل الله تعالى وأنه كرامة
للآدمى وأنه وحى باطن إلا أنه إذا عصى ربه وعمل بهواه يحرم
هذه الكرامة ويستولى عليه وحى الشيطان قال الله تعالى: {وَإِنَّ
الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121] فالمطيع لا يخفى عليه وحيه عن وحى الملك إلا على
سبيل الغفلة التي تعترى القلب فينزل ثم ينتبه من ساعته ولا
يقر عليه.
قالوا: بالقلب يمتاز له الحق من الباطل فاحتج أهل الإلهام
بمثل هذه الحجج التي ذكرناها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: الجنائز "3/290" ح "1385" ومسلم: القدر
"2047" ح "22/2658".
2 أخرجه الترمذي: التفسير "5/298" ح "3127" عن أبي سعيد
الخدري وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب والطبراني في الكبير
"8/102" ح "7497" عن أبي أمامة وذكره الحافظ الهيثمي في
المجمع "10/271" وقال: وإسناده حسن.
3 أخرجه البخاري: أحاديث الأنبياء "6/591" ح "3469" ومسلم:
فضائل الصحابة "4/1864" ح "23/2398".
ج / 2 ص -350-
قال:
وأما حجة أهل السنة والجماعة قوله تعالى: {وَقَالُوا
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ
نَصَارَى} [البقرة: 111] الآيه فألزمهم الكذب لعجزهم عن إظهار الحجة لأن
الإلهام حجة باطنة فلا يمكن إظهارها وقال:
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] فقد وبخهم بدعوى إله غير الله لا برهان لهم به ولو
كانت شهادة قلوبهم حجة لهم لما لحقهم التوبيخ فثبت أن
الحجة التي يصح العمل لها ما يمكن إظهاره من النصوص
والآيات التي عرفت حججا ويدل قوله تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] وهذا يدل على أن العلم بالله تعالى لا يكون إلا بالآيات
والآيات لا تدلنا إلا بعد الاستدلال بها عن نظر عقلى ويدل
عليه قوله تعالى:
{أَفَلا
يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}
[الغاشية: 17] الآية وقال تعالى:
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] وقال تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] والله تعالى أمر بالنظر والاستدلال ولم يأمر بالرجوع
إلى القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه
إلى اليمن:
"بم تقضي؟" قال: بكتاب الله قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: بسنة
رسول الله قال: "فإن لم تجد بسنة رسول الله؟" قال: أجتهد برأيى1 فلم يذكر بعد الكتاب والسنة إلهام القلب وإنما
ذكر الرجوع إلى النظر والاستدلال
وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"2 وأجمعنا على أنه يجوز ترائى النظر والاستدلال بالأصول فدل أن
المراد به الرأى بلا نظر ولأن الرأى بلا نظر لو كان حجة
يعمل بها كالوحى لحل كل إنسان أن يدعوا الخلق إلى ما عنده
بل وجب كما وجب على نفسه العمل به وكما كان يجب على النبى
صلى الله عليه وسلم قال: ومن قال هذا فقد كفر.
قال: ونقول أيضا على أهل الإلهام: ما قولكم في الإلهام؟
أهو حجة بلا موافقة الشرع أو ما كان وافق أم خالف؟
فإن قال: يكون حجة وإن خالف فهذا لا يقوله مسلم وفيه رفع
الإسلام وإن قال: بموافقة فلا تثبت الموافقة إلا بالنظر في
أصول الشرع وأيضا فإن الإلهام قد يكون من الله تعالى وقد
يكون من الشيطان وقد يكون من النفس فإن كان من الله تعالى
يكون حقا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود: الأقضية "3/302" ح "3592" والترمذي:
الأحكام "3/607" ح "1327".
2 أخرجه الترمذي: التفسير "5/199" ح "2950- 2952" وأحمد:
المسند "1/306" ح "2074" نحوه.
ج / 2 ص -351-
وإن
كان من الشيطان أو من النفس لا يكون حقا بل يكون باطلا
فإذا احتمل أن لا يكون حقا يدل أن كل إنسان1 في دعوى
الإلهام مثل صاحبه فإن قال ألهمت أن ما أقوله حق وصواب
فيقول الآخر إن ما تقوله خطأ وباطل.
ونحن نقول لهؤلاء: إنا ألهمنا أن ما تقولنه خطأ وباطل.
قالوا هذا دعوى منكم نقول ما تقولنه أيضا دعوى. فإن قالوا:
إنكم لستم من أهل الإلهام نقول أيضا إنكم لستم من أهل
الإلهام وبأى دليل صرتم من أهل الإلهام دوننا.
قال أبو زيد: وقد ابتليت بقوم زعموا أن العبد يرى ربه
بقلبه فيعرفه بلا نظر واستدلال بالآيات وهذا قول لم يكن في
السلف والقلب مضغة ليس لها حاسة رؤية مثل ما ليس لسائر
الأعضاء حاسة رؤية فلا فرقق بين قول من يقول رأيت ربى
بقلبى وبين قول من يقول رأيت ربى بيدى أو سمعني قال وأما
رؤية القلب علمه بنظره ونظره التفكير لا يتصور غيره ولهذا
قال النبى صلى الله عليه وسلم:
"تفكروا في الآيات ولا تتفكروا في الذات"2 لأن الآيات محسوسة فالتفكر فيها يدلنا على الله تبارك وتعالى وأما
التفكر في الذات يوجب التعطيل كنظر العين إلى ما لا يرى
وإنما مثله نجار في بيت لا يرى ويخرج منه الخشب المنجورة
فيقيل نظر الناظر إلى الخشب المنجورة العلم بالنجار ولا
علم له بوجود النجار. فأما نفسه فلا علم له بها.
وحكى لنا عن محمد بن زكريا أنه قال لأصحابه: إذا كلمكم
الموحدون في الآيات فكلموهم في الذات وبه تعلق فرعون [فى]3
محاجة موسى عليه السلام. قال: وما رب العالمين؟ فأعرض موسى
عن جواب المحال وأجاب بالوصف قال رب السماوات والأرض. وما
[أخطأ]4 الحكماء الأوائل إلا بتفكرهم في الذات والماهية.
قال: فأما الجواب عن تمسكهم بقوله تعالى:
{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] تأويله والله أعلم عرفها بطريق العلم وهو الآيات والحجج
طريق الفجور والتقوى وكذلك شرح الصدور بنور التوفيق وهو
النظر والحجج وكذلك الأخبار المذكورة فى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل [الإنسان] ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 من حديث ابن عمر بلفظ "تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا
في الله" أخرجه البيهقي "1/136" ح "120" وقال: وفيه نظر
وذكره الحافظ الهيثمي في المجمع "1/86" وقال: رواه
الطبراني في الأوسط وفيه الوازع بن نافع وهو متروك.
3 بياض في الأصل.
4 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -352-
القرآن
للقلب هو بنور الأدلة وبما أراه من الآيات والاهتداء
للعبرة إنما يكون بهداية الله تعالى وذلك بطريق الهداية
بعد جهاد العبد قال الله تعالى:
{وَالذينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] "وقال تعالى:
{وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] وإنها أدنى الدرجتين والأعلى بالإصطفاء والاختيار كما
قال تعالى:
{يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ}
[الشورى: 13] وقال: {وَوَجَدَكَ
ضَالاً فَهَدَى} [الضخى: 7] ولم يذكر جهاده. فالله تعالى يجتبى إليه من يشاء بروح
القدس وكمال نور العقل وزكا الطريق والتوفيق بأداة الحجج
كرامة ابتداء حتى يصير موكلا على النظر في الآيات فتبين له
أنه الحق كما يتبين للكافر يوم القيامة.
قال وأما الفطرة فتأويلها أن الآدمى يخلق وعليه أمانة الله
التي قبلها آدم عليه السلام فيكون على فطرة الدين ما لم
يخن فيما عليه من الأمانة وكان على عذر في ترك الأداء عن
عجز على مابينا في باب حمل الأمانة. فأما وحى النحل فإنما
أنكرنا مثل ذلك في علم خوطبنا بكسبه وابتلينا به وأما وحى
أم موسى فإنا نقول به وبيانه أن أم موسى خافت على موسى
القتل من فرعون لما ظهرت من سنته ومن خاف على نفسه الهلاك
حل له إلقاؤه في البحر إن نجا فيه النجاة بوجه وراكب
السفينة إذا ابتلى بالحريق حل له ركوب لوح في البحر ولأن
من ابتلى بشرين لزمه اختيار أهونهما فقد فعلت الذى فعلت
بالنظر ومعنى الوحى هو إلقاء النظر في قلبها وأما كرامة
الفراسة فلا ننكرها أصلا ولكنا لا نجعل شهادة القلب لجهلنا
أنها عن الله تعالى أو من إبلييس أو من نفسه وأما قول
الصحابة رضوان الله عليهم فلم يثبت توحيد قول منهم بعد إلا
على نظر واستدلال فهذا جملة الذى نقلته من قوله في الإلهام
وقد تركت بعض ما أورده طلبا للاختصار.
واعلم أن إنكار أصل الإلهام لا يجوز ويجوز أن يفعل الله
تعالى بعبد بلطفه كرامة له. ونقول في التمييز بين الحق
والباطل من ذلك أن كل من استقام على شرع النبى صلى الله
عليه وسلم ولم يكن في الكتاب والسنة ما يرده فهو مقبول وكل
ما لا يستقيم على شرع النبى صلى الله عليه وسلم فهو مردود
ويكون ذلك من تسويلات التفس ووساوس الشيطان ويجب رده على
أنا لا ننكر زيادة نور الله تعالى كرامة للعبد وزيادة نظر
له فإما على القول الذى يقولونه وهو أن يرجع إلى قوله في
جميع الأمور فلا نعرفه والله تعالى أعلم وأحكم.
ج / 2 ص -353-
"فصل"1: وإذا فرغنا من الكلام في الاجتهاد والمجتهد فنذكر: الكلام في
المفتى والمستفتى وما يتصل في ذلك
فنقول:
المفتي من العلماء من استكملت فيه ثلاث شرائط
أحدها: أن يكون من أهل الاجتهاد2 وقد
قدمنا شروط المجتهد وصفته
والشرط الثانى: ان يستكمل أوصاف العدالة
في الدين حتى يثق بنفسه في التزام حقوقه ويوثق به في
القيام بشروط3.
والشرط الثالث: أن يكون ضابطا نفسه من
التسهيل كافا لها عن الترخيص حتى يقوم بحق الله تعالى في
إظهار دينه ويقوم بحق مستفتيه.
وللمتسهل حالتان:
إحديهما: أن يتسهل في طلب الأدلة وطرق
الأحكام ويأخذ بمبادىء النظر وأوائل الفكر فهذا مقصر في حق
الاجتهاد فلا يحل له أن يفتي ولا يجوز أن يستفتى وأن جاز
أن يكون ما أجاب به حقا لأنه غير مستوف لشروط الاجتهاد
لجواز أن يكون الصواب مع استيفاء النظر في غير ما اختلف
فيه.
والحالة الثانية: أن يتسهل في طلب الرخص وتأويل الشبه
ومعنى النظر ليتوصل إليها وتعليق بأضعفها وهذا متجوز في
دينه متعد في حق الله تعالى أو غار لمستفتيه عادل عما أمر
الله سبحانه به في قوله:
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الذينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] وهو في هذه الحالة أعظم مأثما منه في الأولى لأنه
في الحالة الأولى مقصر. وفى الثانية متعد وإن كان في
الحالتين آثما متجوزا. لكن الثانى أعظم وكما لا يجوز أن
يطلب الرخص والشبه كذلك لا يجوز أن يطلب التغليظ والتشديد
وليعدل في الجواب إلى ما يوجبه صحه النظر من الحكم الذى
تقتضيه الأدلة الصحيحة فإن دلت على التغليظ أصاب وإن دلت
على الترخيص أصاب وإن كان للتغليظ وجه في الاجتهاد أمسك عن
ذكره فهذه الشروط التي يجب أن يكون عليها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
2 انظر نهاية السول "4/579" إحكام الأحكام "4/298".
3 انظر البرهان "2/1333" إحكام الأحكام "4/298".
ج / 2 ص -354-
المفتى
فإن أخل بها لم يحل للفتيا ولايحل لسائل علم بحالة أن
يستفتيه.
فأما إذا علم المفتى جنسا من العلم بدلائل وأصوله وقضى
فيما سواه كعلم الفرائض وعلم المناسك لم يجز أن يفتى في
غيره.
واختلفوا في جواز فتياه في الذى اختص بعلمه فجوزه بعضهم
لإحاطته بأصوله وقصره فيما سواه كعلم الفرائض وعلم المناسك
لم يجز أن يفتى في غيره. واختلفوا في جواز فتياه في الذى
اختص بعلمه فجوزه بعضهم لإحاطته بأصوله ودلائله ومنعه
أكثرهم في الفتيا فيه لتجانس الدلائل وتناسب الأحكام
امتزاجا لا يتحقق أحكام بعضها إلا بعد الإشراف على جميعها
ويلزم الحاكم من الاستظهار في الاجتهاد أكثر مما يلزم
المفتى ويأثم بالتسهيل وطلب الترخيص أكثر مما يأثم المفتى
وإن كان كل واحد منهما مأمور بإمعان النظر واجتناب الرخص
لأن في القضاء إلزاما ليس في الفتيا ويجب فيه ما لا يجب في
الفتيا [فافترقا].
[مسألة]1: وقد قال أصحابنا: إنه لا بد
للقاضى أن يكون عالما عدلا2.
وعند أبى حنيفة: يجوز أن يكون القاضى جاهلا فاسقا3 على
معنى أنه يصلح لذلك.
ويقولون إنه لا ينبغى ان يولى القاضى إلا العالم العدل.
قالوا: واذا فسق بعد تقليد القضاء يجب على السلطان أن
يعزله وقد ذكر الخصاف من أصحابهم في كتاب آداب القضاة أن
القاضى إن ارتشى وقضى لا ينفذ قضاؤه وأن كان القضاء بحق
فبعضهم قال بهذا على القول الذى اختاره أصحابنا أنه إذا
فسق ينعزل.
وقال بعضهم: الانعزال بالفسق ليس بمذهب وانما قاله بعض
أصحابنا من غير أن نعرف أنه مذهب أبى حنيفة4 لكن على ظاهر
مذهبه وإن كان لا ينعزل لكن في هذه الصورة لاينفذ قضاؤه
لأنه وجب عليه القضاء لله عز وجل فإن القضاء رأس الطاعات
والعبادات ولهذا لا يجوز للقاضى أن يأخذ الأجرة على القضاء
فاذا ارتشى وقضى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
2 روضة الطالبين "11/96".
3 انظر الهداية "3/112".
4 روضة الطالبين "11/95".
ج / 2 ص -355-
صار
قاضيا لنفسه فلم يكن عبادة لله تعالى فلا يكون قضاء.
ببينة: أنه قضى لنفسه حيث ارتشى وقضى
وقضاؤه لنفسه باطل.
قالوا: واذا كان جاهلا يقضى بقول العالم كأنه يسأله ويقلده
ثم يقضى به.
وأما مذهبنا: فإنه لا يجوز أن يكون القاضى إلا عالما عدلا1
لأن الشهادة دون القضاء فإذا اعتبرت العدالة في الشهادة
ففى القضاء أولى وكذلك الفتوى فإن الفتوى أولى من القضاء
فإذا لم يجز للمفتى إلا أن يكون عالما كذلك القاضي لا يجوز
إلا أن يكون عالما وقد فرقوا بين القاضى والمفتى وقالوا
المفتى لا يقدر أن يفتى بعلم غيره. وأما القاضى يقدر أن
يقضى بعلم غيره بأن يرجع في قضاياه إلى عالم يقضى بذلك.
ونحن نقول: إن قلتم لا يمكن الفتوى بعلم غيره من حيث
الصورة فليس كذلك لأنه يمكنه أن يسأل غيره ثم يفتى به كما
يمكنه أن يسأل غيره ثم يقضى به وإن قلتم حقيقة ففى
الموضعين واحد لأن الفتوى والقضاء كل واحد منهما ينبغى أن
يكون عن علم والتقليد لا يرجع إلى علم لأنه التقليد لا
يفيد علما للمقلد ولأن العلم يكون بطريق ولم يوجد طريق
العلم في واحد منهما رجعنا إلى بقية الكلام في الفتوى
والمستفتى.
واعلم أن المفتى يجب عليه أن يفتى من استفتاه ويعلم من طلب
منه التعليم فإن لم يكن في الإقليم الذى هو فيه غيره تعين
عليه التعليم والفتيا وإن كان هناك غيره لم يتعين عليه لأن
ذلك من فروض الكفاية وإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين
فرضه وعلى هذا نقول إن الإنسان إذا تعين لطلب العلم بإنه
لم يكن في ناحيته من يصلح لطلب العلم سواه يجب عليه أن
يطلبه ولا يحل له أن يتركه وهذا إذا وجد فيه شروط الطلب
وشروط الطلب في الإنسان صحة حواسه ووفور عقله وسلامة اليته
فإذا تكاملت فيه الية الطلب وجب عليه الطلب ويجب على
المطلوب منه أن يجيب ويعلم إذا تعين لذلك والأصل فيه قوله
عليه السلام:
"كن عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامس
فتهلك"2 وروى عن علي رضى الله عنه أنه قال: الناس ثلاث عالم ربانى ومتعلم
على سبيل النجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستطيبوا
العلم فأن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الهداية "3/112".
2 وذكره الحافظ الهيثمي في المجمع "1/127" عن أبي بكرة
قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم: فذكره وقال: رواه
الطبراني في الثلاثة والبزار ورجاله موثقون وانظر كشف
الخفاء للعجلوني "1/167" ح "437".
ج / 2 ص -356-
أمسك
الطالب عن الطلب سقط الفرض عن المطلوب منه وكان الطالب
بالإمساك عاصيا وإن طلب الطالب وأمسك المطلوب منه عن فرض
التعليم كان المطلوب منه بالإمساك عن التعلم عاصيا وهذا
إذا لم يوجد غيره وأما الطالب فقد سقط عنه فرض المطلوب.
والحالة الثانية: أنه لا يتعين على الطالب
فرض الطلب لوجود غيره ولا يتعين على المطلوب منه فرض
التعلم لوجود غيره فيكون الطلب والتعليم ندبا في حقهما ومن
فروض الكفاية في حق الكافة وإذا شرع الطالب في الطلب سقط
به الفرض عن المطلوب منه وإذا أجاب المطلوب منه سقط به
الفرض عن المطلوبين أعنى فرض الكفاية.
والحالة الثالثة: أن يتعين على الطالب فرض
الطلب لعدم غيره ولا يتعين على المطلوب منه التعلم لوجود
غيره فيكون التعلم متعينا على الطلاب والتعليم ندبا في حق
المطلوب منه.
والحالة الرابعة: أن لا يتعين على الطالب
فرض الطلب لوجود غيره ويتعين على المطلوب منه فرض التعليم
لعدم غيره فيكون الطلب ندبا في حق الطالب والتعليم فرضا
متعينا على المطلوب منه وإذا استفتى المفتى من لا يجد غيره
وجب عليه أن يفتيه ويتعين فرض الفتيا عليه إن علم أنه يعمل
بقوله ولا يجب عليه إن علم أنه لا يعمل بقوله وإن كان
المستفتى يجد غيره كان فتياه ندبا ولم يكن فرضا متعينا ولا
يجوز للمفتى أن يطلب على الفتوى أجرا لقوله تعالى:
{وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] أى ياخذوا عليه أجرا ويجوز أن يقبل الهدية بخلاف
الحاكم لأن الحاكم يلزمه حكمه.
وإن اجتهد المفتى في حادثة مرة فأجاب فيها ثم نزلت تلك
الحادثة مرة أخرى فهل يجب عليه إعادة الاجتهاد؟ فيه وجهان:
فمن أصحابنا من قال: يفتى بالاجتهاد الأول.
ومنهم من قال: يحتاج أن يجدد الاجتهاد1 والأول أصح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هذه المسألة ثلاثة مذاهب:
أحدها: لا يجب عليه تجديد الاجتهاد مطلقا.
الثاني: يجب عليه تجديده مطلقا.
الثالث: لا يجب عليه التجديد إن كان ذاكرا
لما مضى من طرق الاجتهاد في المرة الأولى ويجب عليه
التجديد إن كان ناسيا.
انظر نهاية السول "4/606, 607, 608, 609" سلم الوصول
"4/606, 607, 608, 609" إحكام الأحكام "4/312, 313" أصول
الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/256".
ج / 2 ص -357-
فأما
المستفتى فلا يجوز له أن يستفتى من شاء على الإطلاق لأنه
ربما يستفتى من لا يعرف الفقه بل يجب أن يتعرف حال الفقيه
في الفقه والأمانه ويكفيه في ذلك خبر العدل الواحد فإذا
عرف أنه فقيه نظر فإن كان وحده قلده وإن كان هناك غيره فهل
يجب عليه الاجتهاد؟ فيه وجهان: فمن أصحابنا من قال: يقلد
من شاء منهم.
وقال أبو العباس والقفال: يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين
وهذا قد ذكرناه من قبل.
وإن استفتى رجلين نظر في الجواب فإن اتفقا في الجواب عمل
بما قالا وإن اختلفا فأفتاه أحدهما بالحظر والآخر بالإباحة
فاختلف فيه أصحابنا على ثلاثه أوجه:
منهم من قال: لا يأخذ بما شاء منهما.
ومنهم من قال: يجتهد فيمن يأخذ بقوله منهما.
ومنهم من قال: يأخذ بأغلظ الجوابين لأن الحق ثقيل والأولى
أن يقال يجتهد ممن يأخذ بقوله منهما1.
وأما الذى قال: إنه يأخذ بأغلظ الجوابين فقد يكون الحق في
أخف الجوابين قال الله تعالى:
{يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال النبى صلى الله عليه وسلم:
"بعثت بالدين الحنيفية السهلة السمحة"2 وقد قيل يأخذ بأخف الجوابين لهذا الدليل.
فإن قال قائل: هل يجوز للعامى أن يطالب العالم بدليل؟
الجواب قلنا: لا يمنعه أن يطالب به لأجل احتياطه لنفسه
ويلزم العالم أن يذكر الدليل إن كان مقطوعا به لإشرافه على
العلم بصحته ولا يلزمه أن يذكر له الدليل إن لم يكن مقطوعا
به لافتقاره إلى الاجتهاد ويقصر عنه العامى.
فإن قال قائل قد اخترتم إن يكون على العامى الاجتهاد في
أعيان الفقهاء فأيش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هذه المسألة ستة أوجه:
أصحها: يتخير ويأخذ بقول أيهما شاء.
والثاني: يأخذ بأغلظ الجوابين. وذكره
السمعاني.
والثالث: يأخذ بأخفهما.
والرابع: بقول من يبني قوله على الأثر دون
الرأي.
والخامس: بقول من سأله أولا.
وزاد الشيخ النووى رحمه الله سادسا وهو أن يسأل ثالثا
فيأخذ بفتوى من وافقه انظر روضة الطالبين "11/105".
2 أخرجه أحمد: المسند "5/314" ح "22354" بنحوه.
ج / 2 ص -358-
يجب
عليه من ذلك؟
الجواب: أن الذى عليه في الإخبار والاستخبار أن يعرف شواهد
حاله ويسأل عنه من يثق بصدقه ويجب على من استخبر منه أن
يخبر على ما عرفه من حاله فإن لم يغلب على ظنه صدق الواحد
والاثنين استزاد والاحتياط أن يزيد بقدر ما يمكنه ليزداد
ثقة وطمأنينة.
وقد قيل: إنه إذا اجتمع عالمان على جواب وتفرد أحدهما
بخلافه أخذ بقول الاثنين لأن النبى صلى الله عليه وسلم
قال:
"الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد"1
وهذا إنما يأتى عند استواء الكل بعد اجتهاده منهم وأما إذا
تفاضلا في العلم فلا بد أن يكون الأخذ بقول الأفضل أولى
وقد قيل: يجوز الأخذ بقول المفضول2 كما يجوز للحاكم أن
يقبل شهادة العدل وإن كان هناك من هو أعدل منه ولأن
الصحابة قد تفاضلوا تفاضلا بينا فما منعوا من استفتاء
المفضول مع وجود من هو أفضل منه. وإذا سمع المستفتى جواب
المفتى لم يلزمه العمل به إلا بالتزامه فيصير العمل لازما
بالانقياد ويجوز أن يقال: إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به
وقد قيل: إنه يلزمه إذا وقع في نفسه صحته وحقيقته وهذا
أولى الإوجه وأذا لم يعلم المستفتى لسان المفتى فيكفى
ترجمة الواحد ويجوز أن يجيب باللسان ويجوز أن يجيب
بالكتبه.
مسألة: ويجب على العامى أن يستفتى إذا وقعت له الحادثة:
ولم يحتمل التأخير فيلزمه تعجيل السؤال وهذا في
الديانات إذا توجه فرضها عليه لزمه الاستفتاء بأعجل ما
يمكنه فأما في المعاملات فإن توجه الحق عليه لزمه
الاستفتاء فيه وأن كان الحق له مخيرا فيه ثم ما يسأل عنه
من فروض الديانات ينقسم على خمسة أقسام:
أحدها: ما تعين فرضه على كل مكلف على
الإطلاق وهو الإيمان ومسألة الصلاة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي: الفتن "4/465" ح "2165" وقال: هذا حديث
حسن صحيح غريب وأحمد: المسند "1/24" ح "115".
2 ورجح ابن الحاجب جواز تقليد المفضول انظر نهاية السول
"4/613" سلم الوصول "4/613" إحكام الأحكام "4/316, 317"
المستصفى "2/390, 391".
ج / 2 ص -359-
التى
لا تسقط عمن عقلها من المكلفين ولا مهلة في تأخير العمل
بها.
والقسم الثانى: ما يجب على المكلف بوجود
شرط ولا يجب عليه مع عدم الشرط وهوالحج الواجب بوجود الزاد
والراحلة والزكاة الواجبه بوجود المزكى فلا يلزمه العمل
بتفصيل أحكامها إلا بعد وجود الشرط.
والقسم الثالث: ما تغير فرضه بتغير صفة
المكلف وهو الحر والعبد والمسلم والكافر فيلزمهم بعد
اختلاف أحوالهم أن يعلموا ما اختلف منها بانتقالهم عن
أحوالهم.
والقسم الرابع: ما يختلف أحكام الإنسان
باختلاف أحواله كالمسافر والمقيم والطاهر والحائض فيلزمهم
بعد اختلاف أحوالهم أن يعلموا ما عليهم من العزائم وهم
مخيرون في استعلام ما لهم من الرخص.
والقسم الخامس: فرضه على الكفاية كالجهاد
وطلب العلم وغسل الموتى والصلاة عليهم فلا يلزم مع طهور
الكفاية أن تعلم ويلزم العلم بها عند التعين عليه.
واعلم أن فرض التعليم الذى على الآباء للأولاد وذلك إذا
بلغ الولد ستة فينبغى الإب أن بذكر أن الله عز وجل خالقه
ومعبوده وأن محمدا صلى الله عليه وسلم1 نبيه ورسوله وأنه
على دين الإسلام وأنه لا نبى بعد نبينا محمد صلى الله عليه
وسلم2 وأنه بعث بمكة ودفن بالمدينة.
ويذكر له بحيث تزول عنه الشبه ليألفه وينشأ عليه إذا بلغ
سبعا وصار بحيث يؤمر وينهى عليه الطهارة ومواجبها والصلاة
وما يشتمل عليها فبأمر بفعلها ولا يضربه على تركها لضعفه
عن احتمال الضرب حتى يبلغ عشرا فإذا بلغ عشرا يضربه3 إن
تركها لأن هذا أولى زمان البلوغ ومبادى القوة ويذكر للغلام
والجارية ما يكون بلوغهما به ويذكر لهما استقرار الفرض
عليهما بالبلوغ ويعلمهما ستر العورة واجتناب القبائح
ويعلمهما من مصالح الدنيا ما يكون باعثا على صلاح أحوالهم
ويكون التعليم بما اختص بأمور الدين فرضا وبما اختص بأمور
الدنيا ندبا لأن أمور الدين محمولة على الاعتقاد وأمور
الدنيا محمولة على النفل.
وهذا الذى ذكرناه واجب على الآباء في مبادى التربية وتختلف
مبادىء التعليم على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل [صلعم] وما ذكرناه أليق بمقام النبي صلى
الله عليه وسلم
2 ثبت في الأصل [صلعم] وما ذكرناه أليق بمقام النبي صلى
الله عليه وسلم
3 ثبت في الأصل [يضربها] وما ذكرناه أصوب.
ج / 2 ص -360-
قدر ما
ركب الله فيهم من العقول ليثبتوا عليها فتصيرمستقرة في
غرائزهم فإن لم يكن لهم آباء فعلى الأمهات فإن لم يكن لهم
أمهات فعلى الأولياء الأقرب فالأقرب منهم فإن لم يكن لهم
أولياء فعلى الإمام وإن اشتغل الإمام عنهم فعلى جميع
المسلمين ويتوجه فرض كفايته على من علم بحاله منهم إذا كان
قريب الدار ولا يلزمه من لا يعلم ولا من بعد وإن علم وإذا
كانت الصغيرة ذات زوج وأبوين وجب تعليمها على الأبوين فأن
عدما فالزوج أحق بتعليمها من سائر أوليائها وإن كان الصغير
ذا زوجة لم يكن عليها فرض تعليمه وفى الصغيرة لها زوج يجوز
أن يقال يجب على الزوج تعليمها مثل ما يجب على حق الأولياء
ويجوز أن يقال إنه يكون ندبا في حق الزوج وإن كان واجبا في
الأولياء وإذا كان الزوجان فقيهين وقد آلى منها وقد مضت
عليها أربعة أشهر فإن اعتقدت الزوجة أنها قد بانت منه
وحرمت عليه واعتقد الزوج أنها لم تبن فعلى كل واحد منهما
أن يعمل بمعتقده فيلزم الزوجة منعه من نفسها وتهرب منه
وللزوج أن يستمتع بها ويكرهها ويتوصل كل واحد منها إلى
معتقده بما هو دون القتل والضرب يفضى إلى تلف النفس فإن
أفضى إلى القتل وتلف النفس كف وكان حكمه فيما قيل حكم
المكره يئول فيه المأثم عن الموطؤة لإكراهها وعن الوطىء
لاعتقاده وهكذا لو أفتاهما فقيه بالجوبين المختليفين وكان
جاهلين بالحكام وإذا اعتدت الزوجة لاعتقادها أنها1 قد بانت
منه حل لها أن تتزوج في الباطن لغيره وحرمت في الظاهر على
من يريد أن يتزوج بها وحل للأول وطئها في الظاهر كما بينا
وحل للثانى وطئها في الباطن فإن حكم بينهما حاكم عدل بأحد
الحكمبن تعين وثبت الحكم له وإذا تنازع اثنان في حق ودعا
أحدهما صاحبه إلى الحاكم وجب على صاحبه إجابته في الظاهر
والباطن وإن كان الحاكم عدلا من أهل الاجتهاد وإن كان غير
عدل أو كان من غير أهل الاجتهاد لزم إجابته في الظاهر لئلا
يتظاهر بشق العصا ومخالفة الولاة ولا يلزمه الإجابة باطنا
فيما بينه وبين الله تعالى لأن طاعة الولاه تجب على أهل
العدل منهم دون من يجوز منهم وقد قال أبو بكر رضى الله
عنه: أطيعونى ما أطعتكم في الله عز وجل فإن عصيت الله فلا
طاعة لى عليكم. فأن حكم غير العدل بينهما التزما في الظاهر
وإن كان في الباطن غير لازم. وحكى أبو سعيد الإصطخرى أنه
إذا ادعى كان له الامتناع ظاهرا وباطنا وإن أفضى الإمتناع
إلى قتله وحمله على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل [أنه] وما ذكرناه أصوب.
ج / 2 ص -361-
قوله
عليه السلام:
"من قتل دون ماله فهو شهيد"1 وإذا حكم العدل بين خصمين لم يخل حالهما من أن يكونا من أهل
الاجتهاد أو من غير أهله فإن لم يكونا من أهل الاجتهاد
لزمهما ما حكم به عليهما في الظاهر والباطن وإن استفتيا
فأفتى يلزمهما أيضا حكم ما أفتى به لكن يكون حكم الحاكم
ألزم من فتيا المفتى وإن كان المتحاكمان من أهل الاجتهاد
ولم يخل حكمه عليهما من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون حقا عندهما فعليهما
إلزامه.
والحالة الثانية: أن يكون باطلا عندهما
فيلزمهما عملا ولا يلزمهما معتقدا ويجوز أن يقال يلزم
المحكوم عليه ولا يلزمه المحكوم له لأن المحكوم له مخير
والمحكوم عليه مخير.
والحالة الثالثة: إن يكون عند احدهما حقا
وعند الآخر باطلا فإن كان معتقدا لحق هو المحكوم له وجب له
استيفاؤه وعلى المحكوم عليه أداؤه وينبغى على قول الشافعى
رحمه الله أن لا يجب على المحكوم عليه أداؤه في الباطن وإن
أوجب الحكم أداؤه في الظاهر وإن كان معتقدا لحق هو المحكوم
عليه ومعتقد الباطل هو المحكوم له وجب على المحكوم عليه
أداؤه في الظاهر والباطن واستيفاؤه وللمحكوم له استيفاؤه
في الظاهر وفى استباحته له في الباطن مذهبان2 وإذا استفتى
المتنازعان فقيها مع وجود الحاكم فإن التزما فتياه عملا
بها وإن لم يلزما فتياه كان الحاكم أحق بالنظر بينهما ولو
لم يجدا حاكما فقد قيل: يلزمهما فتيا الفقيه إذا لم يجد
غيره مفتيا ولا حاكما. وقيل: لا يلزمهما حتى يلتزماها ولو
وجدا غيره لزمهما من الفقهاء ولم يجدا حاكما لم يلزمهما
فتيا الفقيه حتى يلتزماها ويفتيهما باقى الفقهاء بمثل فتيا
الأول وإن التزما فتيا الفقيه ثم تنازعا إلى الحاكم فحكم
بينهما بغيره لزمهما فتيا الفقيه في الباطن وحكم الحاكم في
الظاهر. وقيل: يلزمهما حكم الحاكم في الظاهر ولو استفتيا
فقيها فأفتاهما ورضى به أحدهما وامتنع الآخر لم يلزم
الممتنع ولو تحاكما إلى حاكم فرضى به أحدهما وامتنع الآخر
لزم الممتنع ولو اختلفا فدعا أحدهما إلى فتاوى الفقهاء
ودعا الآخر إلى حكم الحاكم أجيب الداعى إلى حكم الحاكم لأن
فتيا المفتى إخبار وحكم الحاكم إخبار وإذا دعى إلى حكم
الحاكم أجبر وإذا كان الفقيه عدلا والحاكم ليس بعدل
فأفتاهما الفقيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: المظالم "5/147" ح "2480" ومسلم: الإيمان
"1/124" ح "226/141".
2 انظر روضة الطالبين "11/153".
ج / 2 ص -362-
بحكم
وحكم الحاكم بغير لزمهما في الباطن أن يعملا بفتيا الفقيه
ولزمهما في الظاهر أن يعملا بحكم الحاكم.
هذه جملة مسائل على الوجه الذى سردتها لا بد من معرفتها في
فروع المفتى والمستفتى أوردتها في هذا الموضع فليغتنمها
الناظر عليها فإنها عزيزة الوجود جدا وقل ما يجدها الإنسان
في المذهب وليس ما يقع عنها الغنية للفقيه الفقيه والله
أعلم بالصواب [ ]1.
اعلم أنه قد ذكر بعض الأصوليين في فصل المفتى والمستفتى
كلمات أحببت أن أذكرها هاهنا ويوجد في أثنائها فوائد لم
تدخل فيما قد ثناه ذكر فصلا في كيفية فتوى المفتى وقال: لا
يجوز للمفتى أن يفتى بأحكام عن غيره بل إنما يفتى باجتهاده
لأنه إنما سئل عنه ولم يسأل عن قول غيره وإن سئل أن يحكى
قول غيره جازت حكايته ولو جاز للمفتى أن يفتى بالحكاية جاز
للعامى أن يفتى بما يجده في كتب الفقهاء وذكر أنه إذا أجاب
الفقيه في مسألة ثم وقعت تلك المسألة قال: لا يجب لاجتهاد
إذا كان ذاكرا لذلك القول وذاكرا لطريقة الاجتهاد لأنه
كالمجتهد في الحال وإن لم يذكر طريقة الاجتهاد فهو في حكم
من لا اجتهاد له فالواجب عليه تجديد فتواه وهذا حسن جدا
فينبغى أن يكون المختار هذا الوجه لأننا قلناه من قبل. ثم
قال: إذا لم يجز للمفتى أن يفتى فتواه السابق فأولى أن لا
يأخذ بفتوى من مات قال:: وإذا أفتى المفتى باجتهاده ثم
تغير اجتهاده لم يلزمه تعريف المستفتى تغاير اجتهاده إذا
كان قد عمل به وإن لم يكن عمل به فينبغى أن يعرفه إن تمكن
منه لأن العامى إنما يعمل به لأنه قول المفتى ومعلوم أنه
ليس قوله [....]2 الذى يريد أن يعمل فينبغى أن يخيره بذلك.
قال: وإذا أفتاه بقول مجمع عليه لم يخيره في القبول منه
وإن كان مختلفا فيه خيره بين أن يقبل منه أو من غيره وهذا
لا شبهة فيه على قول من يقول كل مجتهد مصيب وعلى قول من
قال: إن الحق واحد.
يكون هكذا أيضا لأنه ليس بأن يجب عليه الآخر بقول أحد من
المفتين بغير حجة بأولى من الآخر فإن كان التخيير معلوما
من قصد المفتى لم يجب عليه أن يخيره لفظا بل يذكر له قوله
فقط وليس كذلك الحكم لأن الحاكم منصوب لقطع الخصومات فلو
كان الخصم مخيرا بين الدخول تحت حكمه وترك الدخول لم تنقطع
الخصومة أبدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
2 بياض بمقدار أربع كلمات في الأصل.
ج / 2 ص -363-
قال
الإمام: وعندمى أنه لا يجب عليه أن يبين له تخيره لأنا
بينا أنه لا بد للمستفتى في الاجتهاد في أعيان العلماء
وإذا وجب عليه ذلك فاختار أحد العلماء باجتهاده واستفتاه
فقد صار في هذه المسألة بمنزلة مجتهد والمجتهد لا يتخير
بين الأخذ بقول غيره أو باجتهاده بل يلزمه الأخذ باجتهاد
فكذلك العامى يلزمه الأخذ بقول هذا العالم ولا يجب تخييره.
واعلم أن جماعة من المعتزلة منعوا العامى تقليد العالم
أصلا1. وقالوا: إن العامى لا يأمن أن يكون من قلده لم ينصح
له في الاجتهاد فيكون فاعلا مفسدة ومع توهم المفسدة لا
يجوز الرجوع وقاسوا أيضا التقليد في الفروع على التقليد في
الأصول.
وقالوا: إذا لم يجز في أحدهما لا يجوز في الآخر قالوا:
ولأنه إذا قلده في مسائل الاجتهاد وقلتم إن الحق في واحد
فلا يؤمن أن يقلده في شىء يكون الحق بخلافه.
وعلى هذا قال أبو على الجبائى: يجوز للعامى تقليد العالم
في مسائل الاجتهاد لأن كل مجتهد مصيب فأما فيما ليس من
مسائل الاجتهاد إذا قلنا: إن العامى يقلد فيه الحق واحد
فلا نأمن أن يكون قلده فيما هو خلاف الحق وقال: هؤلاء لا
يجوز أن يأخذ العامى بقول العالم إلا بعد أن يبين له حجته
ونحن نقول إن هذا غلط عظيم وخطأ فاحش فأن الصحابة والأمة
من بعدهم دليل على خلافه فإن الصحابة ومن بعدهم ما زالوا
يفتون العوام في غوامض الفقه ولم يرو عن أحد أنه عرف
العامى أدلته ولا نبه على ذلك ولا أنكروا عليهم اقتصارهم
على مجرد الأقاويل من غير أن يستخبروا عن الأدلة ولأن
العامى إذا حدثت له حادثه فلا بد أن يكون مستعبدا شىء فإن
ألزمناه التعلم عند بلوغه خفى فيصير مجتهدا وأوجبنا هذا
على كل أحد يؤدى إلى إهمال أمور الدنيا أجمع لأنهم إذا
اشتغلوا بذلك فلا بد أن يتعطل أمر الدنيا وأمر مصالحها فإن
قالوا: لا يلزمه الاجتهاد لكن العالم يبين له الدلائل يجوز
هذا في آية يتلوها عليه أو خبر يذكره عن النبى صلى الله
عليه وسلم.
فأما القياس إنما يكون حجة ويجوز للأنسان أن يتوصل به إلى
معرفة الحكم الشرعى مقدما فلا يتصور حصولهما لهذا العامى
بخبر يخبره العالم له عن ذلك فلا ندرى كيف وقع هذا السهو
[....]2 ولكن قد بينا أن من لا يكون من أهل الفقه يقع لهم
السهو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المعتمد "2/260".
2 بياض في الأصل بقدر كلمتين.
ج / 2 ص -364-
الكبير
والأولى بالمتكلمين أن يدعوا هذا الفن للفقهاء وأن يقتصروا
على الخوض فيما انتصبوا له مع أنهم لو تركوا ذلك أيضا كان
أولى بهم وأسلم لدينهم يدل أنه إذا وقع للأنسان حادثه في
صلاته أو صيامه فإذا لم يرجع إلى العالم في الجواب عنها
فلا بد أن يسلك طريقا يصير به عالما مجتهدا وذلك بالابتداء
بالتفقه والحادثه وحكمها كيف تحتمل هذا التأخير إلى أن
يصير هذا الرجل فقيها ومن يضمن له أنه يصير مجتهدا وأكثر
طالبى العلم قد قطع الطريق بهم وبقوا مقلدين وإنما يصير
الشاذ النادر مجتهدا ويكون بحيث يسلم له النظر وإن قال في
الحال يذكر له الدليل فقد بينا أنه لا بد من مقدمات كثيرة
ومعرفة طرق وأسباب ووجوه وترتيبات تضل عنها فهوم المتبحرين
مثل الفقهاء فكيف يدركه العامى بمجرد ذكره له حتى يصير
عالما ويكون وصوله إلى الحكم بعلم نفسه واجتهاده.
وأما قولهم: إنه ربما لا ينصح له. قلنا: هذا باطل فمن روى
خبرا في حكم يلزمه الأخذ به لا يقال إنه ربما كذب له ولأنه
إذا كان قد اجتمع في المجتهد شرائط الاجتهاد فيمنع ذلك
التوهم وهذا كالراوى إذا كان عدلا فإن عدالته تمنع هذا
التوهم.
وأما التقليد في الأصول فقد بينا من قبل وقد قال جماعة من
أصحابنا الذين يمنعون التقليد في الأصول في الفرق بين
الموضعين: إن العامى إنما يلزمه النظر في مسائل مخصوصة في
التوحيد وسائل الصفات وإثبات القضاء والقدر وبيان النبوات
وما يتصل لها ومدار1 هذه الأشياء أكثرها عقلية وإنما يحتاج
العاقل فيها إلى تنبيه يسير فلا يؤدى إلى أن يستغرق ذلك
عمره وتعطل عليه مصالحه.
وأما الحوادث الطارئة من الفروع بغير إحصاء ولا عد
فالاجتهاد فيها لا يمكن إلا بأمور شرعية لا يمكن ضبطها
والاستدلال بها إلا في الزمان الأطول فيؤدى إلى ما قدمنا
من دخول المفاسد في أمور عامة الناس. وأما الذى قاله أبو
على الجبائى فضعيف لأن ذلك إنما يكون بأن يلزم العامى أن
يعرف مسائل الاجتهاد مما ليس في مسائل الاجتهاد وإذا فعلنا
ذلك فقد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد لأن ذلك لا يميز
إلا أهل الاجتهاد وفى ذلك من المفاسد ما قدمناه وذكر فصلا
في شرائط المستفتى وما يجب عليه إذا أفتاه أهل الاجتهاد
قال أما شرائط الاستفتاء أن يغلب على ظن المستفتى أن من
يستفتيه من أهل الاجتهاد مما يراه من انتصابه للفتوى بمشهد
من أعيان الناس ويرى أخذ الناس عنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل: [وأدار] ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -365-
وأن
يظنه من أهل الدين بما يرى من اجتماع الجماعات على سؤاله
واستفتائه فيما يراه من سمات الستر والدين والأشبه أنه ليس
للعامى أن يستفتى من يظنه غير عالم ولا متدين وإنما أخذ
عليه ذلك [....]1 الظن لأن ذلك القدر ممكن له وأما ما يجب
على العامى إذا أفتاه أهل الاجتهاد هو أنهم إن اتفقوا يجب
على المستفتى أن يصير إلى الفتوى التي اتفقوا عليها وإن
اختلفوا وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأدينهم لأن ذلك طريق
قوة ظنه وهو ممكن له فجرى مجرى قوة ظن مجتهد في المسائل
التي يجتهد فيها
وقد ذكرنا أن قوما من أصحابنا وغيرهم أسقطوا عنهم الاجتهاد
لأن العلماء في كل عصر لم ينكروا على العامة ترك النظر في
أحوال العلماء والأول أحسن فإن اجتهد واستوى عنده علمهم
ودينهم كان مخيرا في الأخذ بأى أقاويلهم شاء فأيها اختاره
وجب عليه كما بينا وإن كان عنده أن واحد من هؤلاء المفتين
أدين فيجب عليه اتباع الأدين لأن الثقة تكون بقوله أقوى
وكذلك إذا كان في ظنه أن أحدهما أعلم وجب عليه الأخذ بقول
الأعلم لأن النفس إليه أسكن ويجرى التفاضل في العلم بمنزلة
التفاضل في الدين وأما إذا كانا عالمين دينين وأحدهما أدين
إلا أن أدينهما أنقصهما علما فإنه يحتمل أن يقال هما سواء
والأولى أن يرجع قول الأعلم بزيادته فيما يعين على
الاجتهاد والوقوف والصواب.
قال: ومثل هذا النظر لا يخفى على العوام فهو كتدبير أمور
الدنيا لا يخفى عليهم فلا يسقط عنهم ونذكر مسألة تقليد
العالم العالم. وقال: وإن اكثر الفقهاء منعوا من ذلك وذلك
لأن الصحابة لم يقلد بعضهم بعضا بل ناظروا ولو جاز ذلك
لفعلوا ولم يكن لمناظرتهم في المسائل فائدة وأيضا فإن
المجتهد متمكن من الإجتهاد لتكامل الآلة فلم يجز مع تمكنه
من العمل على اجتهاده أن يصير إلى قول غيره كما لم يجز أن
يصير إلى قول غيره في العقليات لما تمكن من النظر
والاستدلال عليها ولأن المجتهد لو أداه إلى خلاف قول عالم
آخر وإن كان أعلم منه لا يجوز له بالاجماع ترك رأيه والأخذ
بقول الأعلم فيجب أن يجوز له ذلك وإن لم يجتهد لأنه لا
يأمن لو اجتهد أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف ذلك القول.
قال: ولأن التقليد دون الاجتهاد فإذا تمكن من الاجتهاد لم
يجز له العدول إلى ما دونه كما لا يجوز للمتمكن من العلم
أن يعدل إلى الظن وأيضا فإن المجتهد متعبد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بقدر ثلاث كلمات.
ج / 2 ص -366-
بالاجتهاد وعلمه بحسبه ويكون بذلك مطيعا لله عز وجل وهذا
لأن الله تعالى ما نصب الأمارة إلا وقد أراد من المجتهد أن
يجتهد فيها وليس بعض المجتهدين بذلك أولى من البعض ولا
يجوز إثبات بدل هذا التعليل الواجب إلا بدلالة عقلية أو
سمعية ولا دليل يدل عليه فوجب نفيه واعتمد هذا الذى أوردنا
كلامه وهذا بالدليل ثم ذكر احتجاج المخالفين في تقليد
الصحابة بقول صلى الله عليه وسلم:
"عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى"1 وبقوله عليه السلام:
"اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر"2
رضى الله عنهما.
وأجاب وقال: هذه أخبار آحاد لا يكون [....]3 العلم على أن
أكثر هذه الأخبار خطاب مواجهة لمن كان في ذلك العصر فمن لم
يكن صحابيا أن يتبع الصحابة ومن لم يكن صحابيا في ذلك
العصر لم يكن من أهل الاجتهاد فجاز له التقليد وعلى انه
يجوز أن يكون المراد به الأمر بالاقتداء بهم في رويتهم
لأنه يقال لمن اتبع رواية غيره إنه اقتدى به أى اقتدى
بروايته ثم قال:
"اقتدوا باللذين من بعدى"
وقوله:
"عليكم بسنتى"
وما يشبه هذه الألفاظ أمر والأمر للإيجاب وليس يجب التقليد
إلا على العامى فدل أن المراد به هو العامى دون العالم.
وأما الدعاء الذى قاله لعمر وعلى فيجوز أن يكون ذلك في شىء
مخصوص والدليل عليه أن سائر الصحابة اجتهدوا وأفتوا بما
أدى إليه اجتهادهم ولم يرجعوا إلى قولهم معتقدين أن ما
قالوه هو الحق والصواب دون غيره فإن قالوا: أليس أنه روى
أن عمر رجع إلى قول على ومعاذ رضى الله عنهما حين قال له
ذلك برأيه وأن سألهما عن وجه الحجة فدل أنه كان محض تقليد.
قلنا: مجهول على التنبيه على وجه الدليل وحين ينبهان على
ذلك ننتبه.
فقال ما قال لهذا المعنى ويجوز أنه خطر له وجه قولهما حين
سمع كلامهما فرجع إلى ذلك لهذا ويكون على هذا عمله بعلمه
واجتهاده لا بتقليدهما يبين ذلك أن الإنسان إذا تردد بين
رأيين في الحدث ثم صمم على أحدهما فقال له قائل: ليس هذا
بصواب إنما الصواب كذا وكذا فقال له: صدقت فهم الحاضرون
أنه صدقه لأنه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه.
3 بياض في الأصل بقدرثلاث كلمات.
ج / 2 ص -367-
تنبه
على وجه الرأي إما من ذلك الكلام أو من غيره.
واحتج ايضا لهم وقال: إن المجتهد مصيب صواب وقوله صواب
فجاز اتباعه.
قلنا: قولك له: صواب دعوى ويجوز أنه خطا وهذا لأنا نقول إن
الصواب في قول واحد من المجتهدين فالذى يظن أنه الصواب
بعينه يجوز أنه الخطأ بعينه فهذا حكاية ما نقله في أصوله
ذكرته مع اقتصار على البعض وأفردته لأنه اشتمل على فوائد
في هذه المسائل المذكورة وهذه المسائل وإن دخلت فيما
أوردناه من قبل فقد تضمن نقله تقرير للصحيح المختار من
الأقوال والله تعالى يهدى إلى الصواب ويرشد بمنه إليه.
وقد أتينا على ما أورده أصحابنا من الكلام في الأصول
وذكرنا المختار من ذلك وأوردنا الدلائل الصحيحة في ذلك على
ما يوجبه التحقيق ويصلح لتثبيت الأصول التي بنينا عليها
الفروع في مسائل الخلاف وبلغنا النهاية في الإيضاح وكان
قصدنا بذلك إن شاء الله سنبين الحق من الباطل ولم نقصد قصر
الميل إلى جانب دون جانب وخلينا سرد كثير مما قاله أصحابنا
حين لم نجد على ذلك دليلا قويا يعتمد عليه فاخترنا في الكل
ما أمكن تحقيقة وإثباته بطريق الزمان ولم نقنع بمحض الجدل
والله تعاله يجعل سعينا في ذلك لوجهه وطلب مرضاته والأولى
أن نقنع بالكفاف لا لنا ولا علينا وفيه الربح العظيم
والنجاة من الخسارة.
ج / 2 ص -368-
"فصل"1: وقد بقيت علينا مسألة النسبه إلى الإمام المطلبى الشافعى رحمه
الله:
وهذا أمر
يعرف باستقراء المسائل والنظر في دلائلها فإن المجتهد لا
يقنع بمجرد التقليد والنسبة من غير معنى وقد ذكرت في كتاب
الاقتصار طرفا من تقديم أصحاب الحديث على أصحاب الرأى
وقد ذكرنا دررا من فضل الشافعى رحمة الله وذكرت أيضا في
الكتاب الذى سميته البرهان المسائل من أصول المخالفين يأتى
على تشنيعات عليهم في أشياء اختاروها لا يصح ذلك على أصول
الشرع وسردت ذلك سردا من أول كتاب الطهارة إلى آخر الكتب
فلم أحب إعادته في هذا الموضع وأيضا فإن سائر أصحابنا قد
اعتنوا في ذلك وصنفوا الكتب وقد بالغوا ولم يقصروا وعلى
الجملة نقول إن الانتساب إلى الشافعى استنان فإن النبى صلى
الله عليه وسلم قال:
"الأئمة
من قريش"2. وقال في موضع آخر:
"الناس تبع لقريش في هذا الأمر أبرارهم تبع لأبرارهم
وفجارهم تبع لفجارهم"3 فذكر أنهم الأصل وأن باقى الناس تبع لهم ولا بد للمتبع من مقتدى
به في الجملة والتقليد وإن لم نجوزه للعالم ولكن لأجل حرمة
ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن بد من أمام
ينتسب إليه لنكون ممتثلين لقول صاحب الشرع صلوات الله
وسلامه عليه:
"الناس
تبع لقريش" فاخترنا الأمام المطلبى محمد بن إدريس الشافعى رحمه الله ورضوان
الله عليه لأنا لم نجد في الأئمة الذين مهدوا الأصول
وفرعوا التفريعات وتكلموا في المسائل على ما توجبه الأصول
والاجتهاد الصحيح المبتنى على القواعد الصحيحة أحدا من
قريش سوى الشافعى رحمه الله والباقون لا مطعن عليهم وقد
تحروا الحق وطلبوه بجهدهم لكن العالم الذى لا يجوز له
التقليد وإنما يطلب الانتساب المحض بوجه الاستنان بقول
الرسول صلى الله عليه وسلم فتعين الانتساب إلى الشافعى
رحمه الله لما بينا من قبل.
وأما العامى الذى يقلد ويطلب الانتساب إيضا فالأولى له وبه
أن ينتسب إلى هذا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
2 أخرجه أحمد: المسند "3/255" ح "12905" والطبراني في
الكبير "1/252" ح "725".
3 أخرجه البخاري: المناقب "6/608" ح "3495" ومسلم: الإمارة
"3/1451" ح "1/1818" بنحوه.
ج / 2 ص -369-
الإمام
لأن القرشى إمام مقتدى به بقول صاحب الشرع مؤيد بزيادة لا
توجد في غيره وهو قوله عليه السلام: "رأى رجل من قريش مثل
رأى رجلين من غير قريش" يعنى في إصابة الصواب فيكون أبو
حنيفة ومالك وغيرهما على النصف من الشافعى في إجابة الحق
فيتعين لهذا أيضا الانتساب إلى مثل هذا الإمام ثم بعد هذا
إذا نظر العالم إلى المسائل وأصولها وفروعها وجد أصول
الشافعى رضى الله عنه موافقة للكتاب والسنة مؤيدة بهما
مستمرة على الإخبار إذا وجدها استمرارا صحيحا مستقيما
ويتبع الصحيح منها ويدع الرأى حين يجده فلا يأمر بعرض حديث
على قياس ولكن يأمر بعرض القياس على الأحاديث فإن وجدها
معترضا على خبر من ذلك حكم برده وقدم الحديث ويقول بطرح
المراسيل والمناكير ويعرض عن رواية المجاهيل ولا يفرع إلا
على أصل صحيح وفى القياس يطرد القياس طردا ولا يدعه
باستحسان ولا يمنع أيضا في موضع يمكنه استعماله فيه ويطلب
المعانى المؤئرة والأشباه الصحيحة ويطلب المعانى المؤثرة
في العلل ليكون برىء الجانب.
مسألة1: من المناقضة الموحشة وفى كلام
كثير وخطب عظيم لكنا اقتصرنا على هذا القدر وأشرنا إلى طرف
منه والله ولى التسديد بمنه وعونه ويتلوه إن شاء الله ذكر
مسائل وفصول اختصر أبو زيد بإيرادها في أوصله والكلام
عليها والله المعين.
واعلم أنا قد أتينا على مقصودنا من الكلام في أصول الفقه
على ما ذكره الصحابة وأوردنا الصحيح من ذلك على سبيل
التحقيق لا على سبيل المجاز والتجوز على ما يفعله كثير من
المتفقهة وحين فرغنا من ذلك فقد ذكر القاضى أبو زيد
الدبوسى في آخر كتابه الذى صنفه في أصول الفقه وسماه تقويم
الأدلة فصولا لا توجد في سائر الأصول وللفقهاء حاجة إليها
خصوصا في الطريقه التي هى معهودة الوقت فأحببت إيراد ذلك
والكلام عليه في المواضع التي يجب الكلام عليها فيكون
مخالفا لأصولنا التي تبنى عليها التفريعات لنزول حيرة
السامع لذلك حين يسمعه ويعرف وجه الكلام عليه إذا احتاج
إليه ونسأل الله تعالى المعونة في ذلك والتأييد بمنه بدأ
يذكر [فصلا]2 في خبر أهلية الآدمى لوجوب الحقوق الشرعية
وهى الأمانة التي حملها الإنسان قال: لا خلاف أن الآدمى
يخلق وهو أهل لإيجاب الحقوق عليه فإنه يخلق وعليه عشر
الأرض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
2 بياض في الأصل
ج / 2 ص -370-
وخراجها بالإجماع وعليه الزكاة على قول أهل الحجاز
واختلفوا فيما سقط عنه بعذر الصبى كما يسقط بعذر الحيض عن
الحائض لا أنها ليست بأهل للإيجاب عليها فإن الصوم قد
لزمها وهذا لأن الآدمى أهل الوجوب عليه بالذمة فمحل الوجوب
هو الذمة.
يقال: وجب في ذمته كذا ولا يضاف الوجوب إلى غيرها والآدمى
كما خلق خلق وله ذمة أترى أن الطفل إذا انقلب على مال
إنسان فأتلفه يلزمه ضمانه بخلاف البهيمة وكذلك يلزمه مهر
أمراته وسائر حقوق الناس وإنما عرف وجوهها بالشرع ولأن
الذمة عبارة عن العهد فالله تعالى لما خلق الإنسان ليتحمل
أمانته أكرمه بالعقل والذمة حتى صار أهلا لوجوب الحقوق له
وعليه فثبت له حق العصمة والحرية والمالكية بأن حمل حقوقه
وثبتت عليه حقوق الله تعالى التي سماها أمانة كما إذا
عاهدنا الكفار وأعطيناهم الذمة ثبت لهم وعليهم حقوق
المسلمين في الدنيا والآدمى لا يخلق إلا وله هذا العهد
والذمة فلا يخلق الا وهو أهل لوجوب حقوق الشرع عليه كما لا
يخلق إلا وهو حر مالك لحقوقه ولأن هذه الحقوق الشرعية التي
تلزم الآدمى بعد البلوغ تجب بلا اختيار منه جبرا وشاء أو
أبى وإذا لم يتعلق الوجوب عليه بتمييزه واختياره لم يفتقر
الوجوب إلى قدرة العمل ولا قدرة التمييز.
ألا ترى: أن الصلاة تلزم النائم والمجنون على أصلنا إذا
كان الجنون أقل من يوم وليلة ثم قال: لا يجوز أن يقال: إن
وجوب الحقوق بالخطاب بل الوجوب بالأسباب التي جعلها الشرع
أسبابا للوجوب وليس بالأمر والخطاب والأسباب هى ملك النصاب
للزكاة والأراضى العشرية للعشر والأراضى الخراجية للخراج
والبيت للحج والأوقات للصلوات وشهر رمضان للصوم والآيات
الدالة على الله تعالى للإيمان والنكاح للمهر والشراء
للثمن والقرابه للنفقة ويجوز ذلك ثم الخطاب بعد ذلك لطلب
أداء الواجب بسببه نحو قولك لغيرك اشتريت عبدا بألف درهم
فأد ثمنه فيكون وجوب الثمن في الذمة بالشراء لا بقولك أد
الثمن. بل قولك أد الثمن طلب للخروج عن الواجب بالأداء إلى
مستحقه فكذا قول الله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي: ليؤد الواجب عليه بشهود الشهر وقوله:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] أي: أدوا ما يلزمكم بأوقاتها وهذه الأسباب قائمة في
حق البالغ والصبى على السواء فلا ينبغى أن يقع الفرق
بينهما في صحة الوجوب فعلمنا أن سقوط ما سقط عن الصبى كان
بعذر يسقط بمثله بعد البلوغ تيسيرا علينا لأنه ليس بأهل له
وإنما يفارق الصبى الذى لا يعقل
ج / 2 ص -371-
العاقل
في وجوب أداء ما لزم ذمته بأن تعلق من صاحب الحق بالأمر
والخطاب وغير العاقل ليس من أهله فلا يلزمه الأداء إلا على
ما نذكر بعد هذا وهذا كما قيل إن النائم يلزمه حقوق الله
تعالى ولا يلزمه أداؤها حتى يستيقظ لأنه لا يقدر عليه ولا
يعلم به وهذا لأن الأداء إنما يكون بفعل منا على سبيل
الاختيار فلا بد من العلم به ثم القدرة عليه.
فأما الوجوب في الذمة فصحيح بدون اختيارنا فلم يكن من شرط
صحته إلا قدرتنا ولا علمنا به.
قالوا: ولا يجوز أن يقال: إن الوجوب للأداء لا لنفسه فلا
يجوز الإيجاب على من لا يقدر على الأداء فإن الوجوب
بالأداء لا يتعين حال الوجوب بل يجوز بعده بزمان إما أداء
وإما قضاء فصح الإيجاب على ما من حالة قدرة الأداء والقضاء
في الجملة والصبى من تلك الجملة كالنائم والمغمى عليه. فإن
قيل: وأى واجب علينا في باب العبادات البدنية سوى الأداء
قلنا: قال: الوجوب حكم إيجاب الله تعالى بسببه والواجب اسم
ما لزمه في ذمته بالإيجاب والأداء فعل العبد الذى يسقط
الواجب عنه وإنما هذا بمنزلة رجل استأجر خياطا ليخيط له
ثوبا بدرهم فليلزم الخياط فعل الخياطة نفسها وبها يقع
تسليم ما لزمه بالعقد والأداء بالخياطة وكان الفعل المسمى
واجبا في الذمة غير المؤدى حالا بالقميص وكذلك دراهم مؤداة
عينا بدراهم في الذمة فيكونان غيرين لا محالة فإن قيل:
أرأيت لو مات الولد قبل أن يعقل حتى لم يقدر على الأداء لم
نجعله أنه أمانة الله سبحانه وتعالى واستحقاق الجزاء في
الآخرة.
قلنا: اختلفوا في هذه المسألة روى عن أبى حنيفة أنه توقف
في جواب هذه المسألة.
وحكى عن محمد أنه قال: إنما أنا أعلم أن الله تعالى لا
يعذب أحدا بغير ذنب وقد جاءت الأخبار بأن الأطفال يكونون
شفعاء لآبائهم يوم القيامة فأما الخلاف بينهم في وقوع
الحمل عليهم على ما مر اختلافهم في الجزاء لا يدل على
خلافهم في الحمل فالجزاء يقابل الأداء لحمل الأمانة فإنها
تقع عليها بإيجاب الله تعالى شئنا أو أبينا كما بعد البلوغ
لا يجب الجزاء لوجوب الصلاة علينا بل الأداء.
ويحتمل أن يقال: بأن الله تعالى لما حمل الأطفال أمانته
بالإيجاب عليهم أهلهم لذلك باستحقاق الجزاء ولم يؤاخذهم
بتركهم الأداء وأنابهم كرما وألحق غير المؤدى بالمؤدى بعذر
العجز بمنزلة البالغ يدركه وقت الصلاة وهو لا يجد ما يتطهر
به فإنه يلزمه
ج / 2 ص -372-
الصلاة
ولا يؤاخذ إذا مات قبل الأداء ويثاب وهذا لأن الإيجاب شرعا
بنى على ظاهر الحال لا على ما يكون في الغيب ولظاهر الحال
كل صبى ممن يرجى منه الأداء أرأيت طفلا له أرض عشرية ولا
ولى له أليس يلزمه العشر أو الخراج إن كانت خراجيه وإن مات
قبل أن يلى عليه أحدا ويقدر بنفسه وكم من بالغ يلزمه حقوق
الله تعالى ثم لا يقدر على الأداء فيسقط عنه.
فإن قيل: قد قال النبى صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن ثلاثة عن الصبى حتى يحتلم"1 الخبر قلنا: رفع القلم لا يدل على رفع الوجوب في الذمة وإنما يدل
على سقوط أداء الوجوب لأن القلم للحاسب والحساب على ترك ما
عليه من الأداء لا على الوجوب في ذمة فإن الواجب إذا تأجل
لم يؤاخذ العبد به والوجوب قائم ألا ترى: أنه قرنه بالنائم
والنائم يلزمه الصلاة في ذمته ولا يلزمه الأداء حتى يستيقظ
فكذلك الصبى هذا كلامه في هذا الفصل أوردته على الوجه.
واعلم أن هذا الفصل الذى زعمه وهو أن وجوب العبادات لا
يكون بالخطاب بل إنما يكون بالأسباب قد بينا من قبل أن هذا
خطأ عظيم وإنما الوجوب بالأمر والأوقات المذكورة علامات
وأمارات للوجود وذكرنا الدليل على ذلك بأوضح مما يكون فلا
معنى للإعادة.
فإن قالوا: نحن نقول إن الموجب هو الله تعالى لكن بهذه
الأسباب لأن هذه الأسباب مجعولة أسبابا من قبل الله تعالى.
قلنا: إذا اعترفتم أن الأسباب من قبل الله تعالى فيكون
الأمر أدل على الإيجاب من السبب فيكون إحالة الإيجاب عليه
اولى من إحالته على السبب وهذا لأن أمر الرب تبارك وتعالى
مؤثر في الإيجاب على العبد لأن للموالى أن يستعملوا عبيدهم
في أوامرهم فإما وقت يمضى ومكان يتغير وبيت يبنى ولا يعرف
لهذه الأشياء تأثير في إيجاب شئ على أحد والذى ذكر من كون
الذمة محل الوجوب.
قلنا: بلى ولكن بالأمر والخطاب لا غير.
وقولهم: إن الأمر بالصلاة إنما يقتضى الأداء فحسب.
قلنا: يقتضى الأداء ويقدم الوجوب كما بنيا في أمر السيد
وعبده وإذا ثبت أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود: الحدود "4/139" ح "4403" والدارمي:
الحدود "2/225" ح "2296" وأحمد: المسند "1/175" ح "1187".
ج / 2 ص -373-
و
الوجوب بالخطاب فكل من ثبت في حقه الخطاب ثبت الوجوب ومن
لم يثبت في حقه الخطاب لم يثبت في حقه الوجوب إما بصغر أو
جنون أو نوم.
ونقول على هذا في النائم والمغمى عليه والحائض إنما يجب
عليهم كما يجب بعد اليقظة والإفاقة والطهر من الحيض.
وهذا لأن القضاء يجب بأمر جديد لا بالأمر السابق فاستقام
أن يجب على هؤلاء هذه العبادات بعد زوال الأسباب المانعة
في الخطاب ووجوبه باسم القضاء لا يدل على أن الوجوب ثبت
عليهم في حال النوم والإغماء وحال الحيض لما بينا أنه وجب
بأمر جديد لا بالأمر الأول غير أنه لولا الأمر الأول
وامتناعه بالعوارض المعلومة لم يجب شئ بهذا الأمر الثانى.
فمن هذا الوجه سمى قضاء فيمكن أن يقال: إن الإيجاب ليس إلا
إيجاب الأداء فإذا سلموا بثبوت الأداء بالخطاب فقد سلموا
أن أصل الوجوب بالخطاب لأنه لا يعرف الوجوب إلا وجوب
الأداء وقد قررنا هذا في الخلافيات وهذا لأن الأمر لا يكون
إلا لفائدة ولا فائدة للإيجاب إلا الأداء فدل أن الإيجاب
ليس إلا أيجاب الأداء ويقال لهم: أيش وجب عليه؟ ولا يمكنهم
أن يحققوا وجوب شئ عليه بأى معنى ذكروا سوى فعل هذه
الأشياء أصلا.
"فصل"1:
ثم ذكر بعد هذا الكلام
في حين الخطاب شرعا قال: لا خلاف أن حين الخطاب شرعا حين
البلوغ عن قدرتين: قدرة فهم الخطاب بالعقل وقدرة العمل وهو
بالبدن بدليل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ولا وسع إلا بعدها بين القدرتين وقال تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] أى ضيق.
وقال تعالى:
{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ}
[الأعراف: 157] أى الثقل فدل رفع الحرج والإصر على رفع ما
لا يطاق بطريق الأولى فدلت آية الوسع أنه لا تكليف. لأول
حال الأدمى لأنه لا قدرة له أصلا ودلت الآية الثانية على
سقوطه لأول ما يعقل لأنه يخرج للفهم بأدنى عقله ويثقل عليه
الأداء إلى أن يعتدل عقله وقدرته فيشق عليه الفهم والعمل
به ثم وقت الاعتدال متفاوت في جنس بنى آدم فلا يمكن الوقوف
عليه إلا بعد تجربة وتكليف عظيم فوقت الله تعالى بحال
تعتدل لديه العقول في الأغلب على سلامة الفطرة من الآفات
وهو البلوغ فقام البلوغ شرعا مقام اعتدال العقل فتوجه لديه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
ج / 2 ص -374-
الخطاب
وإن لم يعتدل وسقط قبله وإن اعتدل دفعا للحرج الذى كان
يلحقنا بالوقوف على الاعتدال بالتجربة لكل صبى.
قال: وقد بينا إقامة الأسباب مقام العلل وتعطيل العلل في
أنفسها تيسيرا.
قال: وقد أيد هذا القول قول النبى صلى الله عليه وسلم:
"رفع القلم عن ثلاثة" الخبر والقلم لا يكون إلا للحساب ولا حساب إلا بعد الخطاب على ما
قلنا أن الحساب لا يكون إلا على الوجوب في الذمة بل هو بعد
طلب الأداء بالخطاب ونحن نقول هذا الذى ذكره هذا الفاضل
تكليف عظيم ولا حاجة إلى هذا التكليف أصلا لأنا قد بينا أن
الوجوب بالخطاب والخطاب وجد من الشرع بعد البلوغ لا قبل
البلوغ ويجوز أن يقال: إن العمل إنما يكمل بعد البلوغ.
فأما قبل البلوغ فلا. فاعتبرنا ما يغلب وجوده في بناء
الخطاب عليه وسقط ما يندر وجوده.
وأما العشر والخراج والزكاة على أصلنا فنحن نقول: إن
الإيجاب على الصبى اعتبار نيابة الولى عنه وهذا ممكن في
العبادات المالية لجريان النيابة فيها فأما في العبادات
البدنية فلا يمكن لأن النيابة لا تجرى فيها وفى هذه
الأشياء المالية يكون أيجاب فعل الشئ وأيفائه إلا أنه
يستقيم بما يتأدى في حق الصبيان والمجانين بالطريق الذى
بينا ومثل هذا لما لم يسقم في العبادات البدنية قلنا إنها
تسقط أصلا ثم ذكر بعد ما حكيناه فصلا في بيان ما أسقط من
الحقوق بعذر الصبى رحمة أما الأول أمره فللعجز الحقيقى
وفيه الحكمة وأما بعد ما عقل فللحرج وأنه رحمة وأنه بمنزلة
ديون على معسر فيكون أصل الحق على الغريم وحق الأداء ساقط
إلى أن ينقضى الأجل الثابت بالعشر ولأن سقوط الخطاب
بالأداء يدل على سقوط وجوب الأداء فإن الوجوب في الذمة لا
يوجب الأداء عقيبة بحال.
ألا ترى أن من باع عبدا بألف درهم وجب الألف ولا يجب
الأداء إلا بعد الطلب وكذلك إذا استأجر رجلا ليخيط له ثوبا
بدرهم وجب عليه ولا يجب الأداء في الحال حتى ينقضى مطالبه
فكذلك حق الله علينا فإن قيل: أليس لا يحل تأخير المغرب1
عن أول الوقت ولا تأخير العصر2 إلى آخره ولا عن الوقت؟
قلنا: ثبت ذلك بخطاب غير
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكر ابن قدامة المقدسي أن المغرب لا خلاف في استحباب
تأخيره في غير حال العذر وأنه قول أهل العلم من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم قاله الترمذي انظر
المغنى "1/403".
2 صلاة العصر تعجيلها مستحب بكل حال عند عمر وابن مسعود
وعائشة وأنس وابن المباركوأهل المدينة والأوزاعي وروى عن
أبي قلابة وابن شبرمة أن تأخيرها أفضل انظر المغنى
"1/402".
ج / 2 ص -375-
الوجوب
عليه بدخول الوقت.
ألا ترى أن الفقهاء اختلفوا في التأخير بقدر بما ثبت عندهم
من الدلائل مع اتفاقهم على أصل الوجوب بدخول الوقت وأما
التأخير عن الوقت فتفويت لعين الوجوب إلى ذيله وتفويت الحق
تعدى زائد عن ترك الأداء فيحرم كإتلاف عين الغير عنده
ولهذا لا يأثم الصبى ولا يحاسب وكذلك إذا استوصف الله
تعالى في حال صباه فلم يصف لا يكون كفر بعد البلوغ لأن
الوصف أداء لفرض الإيمان ولا أداء عليه حال الصبا ولذلك
إذا لم يستدل بالإيمان حتى بقى على جهله وإن كان في حكم
المسلمين كالذى لا يعقل.
فإن قيل: إذا أسلمت امرأة الصبى الكافر عرض عليه الإسلام
عندكم وإذا أبى فرق بينهما.
قلنا: ذلك السقوط الذى ذكرناه في حق الله تعالى رحمة منه
دون حق العبد لأن النظر واجب لخصمه كما وجب له فمتى سقط
عنه الأداء لحق الصبى تضرر به ألاخر فلم يسقط ونحن نقول في
هذا الذى ذكره أن هذا كله بناء على الأصل الذى زعمه في
الابتداء وقد تكلمنا عليه وعلى أنه يجوز أن يقال إن الخطاب
سقط عن الصبى رحمة لكن الفرق بين البدنية والمالية بما سبق
من قبل.
وقد تبين مناقضة في ابتداء كلامه فإن عندهم إن ردة الصبى
صحيحة مثل ما يصح إسلامه ثم قالوا في الصبى إذا استوصف
الإسلام فلم يصف لا يحكم بكفره.
وقالوا في البالغ في مثل هذه الصورة يكفر فعندهم ترك وصف
الإسلام ردة بدليل البالغ ومع ذلك لم يكن ردة من الصبى.
وقولهم: إن الأداء ساقط عنه لعذر الصبى.
قلنا: إذا سقط فعل الإسلام عن الشخص لا يبقي عليه واجب آخر
لأن الواجب لم يكن إلا فعل الإسلام ثم من وجب عليه الإسلام
ثم لا يؤمر بالإسلام هذا مما لا يعقل ولا يتصور وجوده ولا
نفيه.
ثم ذكر فصلا في بيان ما يسقط من حقوق الله تعالى بأصله
قال: حقوق الله تعالى أربعة:
النظر في الآيات الدالة على الله تعالى ثم الاعتقاد على ما
توجبه الدلائل ثم
ج / 2 ص -376-
العبادات ثم الأجزية وقال علماؤنا: وجوب الأجزية والعبادات
ساقط عن الصبى أصلا1 ووجوب النظر في الآيات والاعتقاد حقا
لله تعالى غير ساقط وإنما الساقط عنه الأداء
وقال الشافعى وجوب البدنى ساقط عنه ووجوب المالى غي ساقط
عنه وتفسير الاعتقاد ما يتأتى بفعل القلب كأصل الإيمان
بالله وملائكته وكتبه ورسله وتفسير العبادة ما يتأدى بفعل
البدن تعظيما لله تعالى بطاعته إياه وتعتبر الأجزية ما شرع
جزاء على أفعال محظورة في الجملة والبدنى من العبادات
والأجزية ما لا يتأدى إلا بالبدن والمالى منها ما لا يتأدى
إلا بالمال.
أما الشافعى رحمه الله احتج وقال: أجمعنا على أن العشر
يلزمه وفيه معنى العبادة حتى لم يجب على الكفار وكذلك صدقة
الفطر حتى تؤدى من ماله ولا يلزمه الصلاة2 والصوم3 لأن
الجنس الأول بدنى والثانى مالى ولأنا ذكرنا أن الصبى أهل
للوجوب عليه بذمته وإنما سقط لعجزه عن الأداء ما لم يعقل
ويقدر ولو لم يسقط عنه الواجبات في مدة الصبا وهى مدة
مديدة ثم كان يلزمه القضاء بعد البلوغ لكان يخرج والله
تعالى ما جعل عليكم في الدين من حرج فأسقطهما عنه أصلا
نفيا للحرج كما أسقط الصلاة عن الحائض بعذر الحيض لأنها
تحيض كل شهر عادة والصلاة تتكرر كل يوم فلو لم يسقط القضاء
بقى عليها أبدا فكانت تخرج في القضاء ولما كان السقوط بسبب
العجز عن الأداء اقتصر السقوط على البدنى دون المالى لأنه
يتأدى بالنيابة فلا يقع العجز عنه لقيام ولى الشرع مقام
ولى ثبت بأمره بعد البلوغ فقال يلزمه الزكاة وكفارة القتل
وكفارات ارتكاب محظورات الإحرام وكل ما صح سببه في حق
الصبى وأما كفارة اليمين فإنه لا يلزمه لأن سببها اليمين
ويمينه باطلة شرعا بخلاف إحرامه فإنه صحيح شرعا. وقال:
إسلام لا يصح لأنه بدني والشرع إنما علق بالإسلام ما علق
من الأحكام بإسلامه واجب شرعا ولا وجوب قبل البلوغ لأنه
وجب بدنيا وكذلك الردة لا تصح من الصبى لأن الردة قد تعلق
أحكامها بترك الإسلام الواجب ولا وجوب في حق الصبى فلم
يعتبر في حق أحكام الدنيا ولا يلزمنا إذا صلى الظهر ثم بلغ
في الوقت أو أحرم بالوقت ثم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قول أهل العلم لا خلاف انظر المغنى "10/581".
2 انظر المغنى "1/409".
3 انظر المغنى "/90".
ج / 2 ص -377-
بلغ
قبل الوقوف أنه يقع عن الفرض لأنا أسقطنا عنه الوجوب رحمة
ونظرا له دفعا للحرج عنه والنظر له في هذه الحالة أن لا
يسقط الوجوب لأن الفرض لزمه لما بلغ قبل مضى الوقت وكذلك
فرض الحج يلزمه الوقوف إذا بلغ الوقوف بعرفة فمتى جعل
الوجوب عليه من حال صباه [يزفه]1 بالسقوط عنه بما أدى ومتى
لم يجعل على الوجوب بقى تحت عهدة الوجوب إلى أن يؤدى ثانيا
وهذا كما قلتم في المعاملات أن قبوله للهبة يصح وهبته لا
تصح لأن في الهبة ضررا وفى قبوله نفعا.
وقلنا: نحن: إن صدقته باطلة ووصيته بالصدقة صحيحة لأن
الصدقة في حال الحياة مضرة في الحال ومنفعته بعد الممات
لأن الملك يزول بالموت لولا الصدقة.
وقلنا جميعا: إن نفل الصلاة مشروع في حقه دون الفرض لأن
شروع النفل نفع محض أن فعل ينتفع به وإن ترك لم يؤاخذ به
والفرض مضرة من وجه وهو المؤاخذة على الترك ولا يلزمنى
إبطال قبول هبته لأن الشرع لما جعل ذلك النظر مسوقا له من
قبل الولى وقعت الغنيمة به عن ترك الأصل المجتهد في بابه
فإنه لاستيفائه النظر له كما لا يجوز بيعه ما ساوى درهما
بألف درهم وفيه نفع لأنه مما استوفى له ذلك بالولى.
قال: والحجة لعلمائنا أنه لما سبق ثبت أن الصبى مثل البالغ
في أهلية الوجوب وأن السقوط عنه بعذر الحرج كما في البالغ
لم يسقط إلا ما احتمل أن لا يكون مشروعا حقا لله تعالى
كالصلوات الخمس والفروع التي تحتمل النسخ والتبديل وثبوتها
مشروع بعد البلوغ في وقت دون وقت وأما معرفة الله تعالى
بصفاته لا أن لا يكون ثابتا مشروعا حقا لله تعالى.
ألا ترى أنا لا نجد شيئا من العبادات والأجزية إلا ويسقط
بعذر ما بعد البلوغ فكان السقوط بعذر الصبا أولى لأنه رأس
الأعذار لأنه في أول أمره لا يقدر أصلا ولا يتم قدرته ما
لم يعتدل قوامه ولأن سقوط ما سقط عن الصبى لم يكن إلا
للعجز عن الأداء دفعا للحرج عنه حتى لا يتضاعف عليه القضاء
بعد البلوغ ووجوب أصل الإيمان عليه لحال الصبا لا يوجب
تضاعف الأداء بعد البلوغ ولأن الصبى مثل البالغ في صحة
الوجوب عليه متى تقرر سبب الوجوب في حقه.
والدليل عليه حقوق العباد وهذا لأن السبب لا يعتبر صحيحا
شرعيا بنفسه وإنما يعتبر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل.
ج / 2 ص -378-
صحيحا
بحكم فإذا وجب صحيحا لا بد أن يكون حكمه فإنه متى تخلف عنه
حكمه أصلا لم يكن السبب سببا وإذا عرف هذا والآيات الدالة
على الله تعالى لا يتصور أن لا يكون أنه على [....]1
العالم للمستدلين ولا حدث العالم لم يتصور إلا يكون دلالة
على محدث وكذلك ما يتعلق بها في وجوب النظر فيها علينا ولا
يجوز أن لا يكون ساقطا بحال وإن كان يسقط الأداء عنا لعقد
شرط الأداء من القدرة فأما وقت الصلاة فيجوز أن لا يكون
سببا للوجود ولم يكن كذلك قبل الشرع فجاز أن لا يثبت شيئا
في حق الصبى وكل معذور سقط عنه الوجوب وكذلك أسباب الأجزية
ما صارت أسبابا إلا شرعا ولولا الشرع ما كانت أسبابا ولا
عللا في نفسها فثبت أن الصبى إنما يسقط عنه وجوب ما يحتمل
أن لا يكون في نفسه حقا لله تعالى واجبا دون ما لا يحتمل
ثم المالى والبدنى من العبادات سواء وكذلك الجزية لأن
العبادة اسم لنوع فعل ابتلى الآدمى بفعله تعظيما لله تعالى
مختارا لطاعته على خلاف هوى نفسه لا على سبيل الإكراه
والجبر لأنه يجازى على وفاق فعله ولا جزاء يستقيم في الحكم
مع الجبر فإنه لا فعل للمجبر على الحقيقة فلا يستحق
الجزاء.
ألا ترى أن الحقوق التي تجب يستحقها فيما بيننا بإزاء
الأفعال لا يثبت إلا لمن يفعله مختارا بنفسه أو نائب عنه
يثبت نائبا بأمره واختياره إلا أنا في البدنى ابتلينا بفعل
يتأدى بالبدنى وفى المالى ابتلينا بفعل يتأدى بالمال إما
فعل لسان نحو الإعتاق أو فعل يد كالإعطاء إلا أن المالى
مرة يتأدى بمباشرة الإنسان وتارة بغيره ولا بد أن يكون
الفعل مضافا إليه على سبيل الاختيار ولا يتصور الاختيار عن
الإنسان إلا أن يكون الولى عنه بأمره فأما إذا ثبت شرعا لا
بالاختيار من الإنسان فيكون كإعطاء الإنسان خيرا فلا يكون
عبادة.
قال: والخصم ذل خاطر قلبه عن اختيار الصدقه الاختيارية
وأما الأجزية فلا تجب إلا على ارتكاب ما يلزم العبد
الانتهاء عنه حقا لله تعالى والانتهاء أداء حق النهى
كالائتمار أداء حق الأمر وقد ذكرنا أن الصبى غير مخاطب
بحقوق الله تعالى لا ائتمار ولا انتهاء ولهذا لا يأثم
بالإجماع ولا تقام عليه العقوبات البدنية وإذا لم يكن عليه
الانتهاء لم يلزمه ما شرع من الجزاء على مخالفته واعتبره
بإثم الآخرة ولهذا لا يحرم الصبى القاتل الميراث لأنه شرع
جزاء على قتل محظور كالكفارة على ما قلنا فى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار كلمة.
ج / 2 ص -379-
موضعه
لأن هذه الأجزية مما يحتمل النسخ ولم تكن مشروعة على هذا
الوجه قبل شرعنا والصبى مما يلحقه بوجوبها ضرر فيسقط عنه
بعذر الصبا كالعبادات رحمة عليه ولهذا قلنا: إن الصبى إذا
أحرم يصح في حقه أن يثاب عليه ولا يجب الكف عن محظوراته
ولا يلزمه الكفارة ويمكنه نقضه لأن اللزوم في الإحرام حكم
ثبت شرعا ويحتمل [أن يكون]1 ويحتمل أن لا يكون ولأنه مما
يزول بعد البلوغ بالإحصار والرق والنكاح وكذلك الكفارة
سقطت عندكم بعذر [الإكراه]2 والنسيان فلأن تسقط بعذر الصبا
أولى ولهذا قلنا: إن الصبى إذا أحرم ثم ترك وجامع لم يلزمه
القضاء3 كما قال الشافعى في البالغ المتطوع إذا أحصر فتحلل
ولأن اللزوم حق ثبت لله تعالى شرعا ويجوز أن لا يكون فلا
يثبت في حق الصبى. قال: ولا يجوز أن ينوب عن الفرض ما أداه
في الصبا لأن الوجوب شرع في حقه حال البلوغ فيكون بمنزلة
رجل صلى أربع ركعات قبل الزوال ثم ترك ثم شرع في الظهر بعد
ذلك فإنه لا ينوب عن الشروع بعد الأداء ما سبق وتكلم في
مسألة وصية الصبى. وقال: إنها باطلة لأنها تمليك بعد الموت
بلا عوض فإنه في عوضه ضرر كما لو وهب في حال الحياة وإنما
انقلبت نفعا باتفاق حالة الموت فلم تعتبر وأما قبول الهبة
تصح في الصبى إذا عقل القبول لأن الحجر بعد معرفته التصرف
ما ثبت إلا نظرا له كيلا يخدع في ماله ونفسه ولا يغبن وليس
في قبول الهبة مخافة غبن فلا يثبت الحجر في حقه وصار قبول
الهبة محض نظر. قال: ولهذا قلنا: يصح إسلامه لأن الوجوب
كان ثابتا على ما مر أنه لا يحتمل السقوط فإذا جاء الأداء
كما وجب كان عن الواجب لا محالة وأن لم يكن مخاطبا بالأداء
كالصلاة لأول الوقت والصوم في السفر والدين المؤجل وما
للأداء في الشرع حد الصحة إلا أن يعتقد وحدانية الله تعالى
عن معرفة ويشهد بلسانه أنه كما اعتقد والخلاف في صبى يتصور
منه ذلك مثل ما يتصور إذا كان بالغا قال: وعلى هذا ردة
الصبى فصح أيضا وزعم أن ما يحتمل ألا يكون إلا حقا مستحقا
لله تعالى فلا يعتبر فيه المضرة والمنفعة بل يكون مشروعا
في حق البالغ والصبى على السواء وإنما يختلفان في وجوب
أداء الشرع فإن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل 0
2 ثبت في الأصل "المره".
3 مسألة: إذا فسد حج الصبي هل عليه قضاء قولان عند
الشافعية أظهرهما: نعم لأنه إحرام صحيح فوجب بإفساده
القضاء كحج التطوع انظر روضة الطالبين "3/122".
ج / 2 ص -380-
الأداء
يلزم دون الصبى إذا صار الإسلام مشروعا وجوبه حقا لله
تعالى على الصبى لأنه يحتمل غير ذلك وكذلك وجوب حرمة الردة
لا يحتمل غير ذلك فاستوى فيه الصبى والبالغ فصح ذلك في
الصبى كما يصح منه الإسلام إلا أنه لا يلزمه الجزاء
المشروع في الدنيا على الردة لأن الجزاء المتعجل في الدنيا
يحتمل أن لا يكون مشروعا على أن القتل في حق المرتد مشروع
لصيرورته حربيا كافرا حتى لا تقتل المرأة لأنها ليست في
أهل الحرب والصبى بمنزلتها وأما حرمان الإرث وفساد النكاح
فليس بجزاء فعل الردة لا محالة فإنهما يثبتان بالكفر
الأصلى.
فإن قيل: أليس أن الصبى يؤدب إذا أساء فعله.
قلنا: التأديب لا يقام جزاء على ما مضى بل تقويما في
المستقبل. ألا ترى: أن الدابة تراض وتقوم تقويما وإصلاحا
وتسوية الأخلاق بمنزلة الدواء لطلب الشفاء وبمنزلة
الحجامة. فإن قيل: أليس يسترق الصبى وأنه عقوبة شرع جزاء
للكفر. قلنا: الاستيلاء على المباح شرع سببا للملك كما في
حق الصيود وأهل الحرب ما بهم عصمة فلا يكون ملكهم بسبب
الاستيلاء عقوبة كما في حق البهائم وإنما لم يملك عندهم
بالاستيلاء العصمة ثبتت لهم من الله تعالى كرامة فيكون
زوال العصمة بالكفر حقيقة أو تبعا لأبوية بمنزلة زوال نعمة
فلا يكون يكون عقوبة واجبة على [....]1 زوال الصحة والحياة
وسائر الكرامات.
قالوا: وأما صدقة الفطر فتجب على الأب بسبب ولايته على رأس
الصبى ومؤنته كما تجب على المولى بسبب رأس العبد حتى
أوجبنا في العبد الكافر وأما جواز الأداء من مال الصبى
فلأن وجوبها وجوب المؤنة عن رأسه والمؤنة تتأدى بولية
جبرية كالخراج والعشر ولأنه شبهة لا في هذه المسألة وقد
خالف محمد أستاذه فيه فأما العشر فمؤنة الأرض كالخراج
ولهذا لا يجتمعان وإذا كان العشر في حقوق الله تعالى صح
تأدية بولاية جبرية على ما عليه الحق صح أخذ القاضى من
البالغ كرها ولا يكون لمن أخذ منه ثواب فعل العبادة وإنما
يكون له ثواب ذهاب ماله في وجه الله تعالى بمنزلة ثواب
المصاب. فأما إذا كان الحق لله تعالى صار الأصل فيه الفعل
فإن العبادة فيه اسم للفعل ولا بد أن يكون فعله على وجه
الاختيار ليثاب عليه ولا يجوز بدون فعل منه على اختياره.
قال: ولهذا لا يجوز للسلطان أن يأخذ الزكاة من صاحبها كرها
كما يأخذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كشط بقدر كلمتين.
ج / 2 ص -381-
ديون
الناس.
قال: ولهذا قلنا إنه لا يؤخذ من تركته بعد موته بدون
الوصية بخلاف العشر وسائر حقوق الناس فصار المعنى الذى
اعتبره الخصم للفرق بين المالى والبدنى حال عجز الصبى عن
الأداء بنفسه معتبرا في حقوق غير الله تعالى والمالى
بينهما يلزم الصبى دون البدنى. فأما الذى يجب لله تعالى
فالمالى والبدنى فيه سواء وسقط عن الصبى ما يحتمل السقوط
ولا يسقط عنه ما لا يحتمل وأما الأداء ساقط في الأحوال
كلها هذا كلامه في هذا الفصل.
ونحن نقول: إن أصل هذا الكلام مبنى على مسألة الأسباب وقد
سبق الكلام عليه وقد اشتمل كلامه الذى ذكره على مسائل منها
مسألة زكاة الصبى وهو جعل حرفه في سقوط الزكاة عن الصبى
دعواه أن الزكاة عبادة والعبادة لا تتأدى إلا بولاية
اختيارية ولا تتأدى بولاية جبرية ويدخل عليه صدقة الفطر
والعشر فإنهما عبادتان ومع ذلك قد تأدتا بولاية جبرية من
غير اختيار أو علم يوجد لمن عليه وعذرهم عن المسلمين في
نهاية الضعف لأنه إذا قال في صدقة الفطر أنها تجب على
الولى لا الصبى فينبغى أن لا يجوز إعطاؤها من مال الصبى.
والذى ذكر أن محمدا لا يجوز وقد خالف أستاذه فهذا ليس
بجواب والإلزام على أبى حنيفة وهو أستاذهم الكبير فحين
يضيق بهم الخناق لا يترك لهم ترك مذهبه.
وأما العشر فلازم أيضا.
والذى قالوا: إنه مؤنة الأرض.
فيقال أيضا: إن الزكاة مؤنة المال والعشر مثل زكاة سائر
الأموال لأنه زكاة وزكاه وكل دليل كون سائر أنواع الزكاة
عبادة فكذلك يدل على كون العشر عباده.
وعلى الجملة لا يتضح لهم فرق صحيح بين صدقة الفطر والعشر
وزكاة المواشى هذا على أصلهم وأما على أصلنا فنقول: إن هذه
الحقوق حقوق الفقراء وهى لهم ومعنى العبادة تبع فيكون حكمه
مثل سائر حقوق بنى آدم وهذا فصل قد أحكمناه في الخلافيات
ودللنا عليه بدلائل معتمدة وعلى أنا إن قلنا: إن الزكاة
عبادة فيستقيم إيجابها على الصبيان والمجانين لأنها وإن
كانت عبادة لكنها مالية والنيابة فبها جارية وكما يقوم فعل
الولى مقام فعل الصبى فيقوم اختياره مقام اختيار الصبى
وهذا لأن العبادة في الفعل لا في الاختيار الذى زعموه ومع
ذلك صح إقامة فعل النائب مقام فعل من عليه وكان
ج / 2 ص -382-
الفعل
عبادة ممن عليه كذلك يصح إقامة نيته واختياره مقام نية من
عليه واختياره وكان ذلك عبادة ممن عليه وهذا لأن الوجب حق
مالى فاعتبر تصور أدائه من المال وتصور أدائه من مال الصبى
مثل تصور الأداء من مال البالغ ونقصان المال في الموضعين
على وجه واحد والابتلاء والاختيار يوجد إما باعتبار حال
البلوغ إن لم يكن اتصل الأداء بالمال فيؤمر بالأداء بعد
البلوغ أو بإقامة فعل الولى مقام على ما سبق بيانه.
وعندي: أن الأول هو قولنا: إن الزكاة حق الفقراء وهو منزل
منزلة سائر حقوق الآدميين ومعنى زيادة فيها تبع وإنما
ابتنى فيها معنى العبادة لأن الله تعالى أوجبها ابتداء من
غير أن سبق من العبد فيه شئ فيكون فيها مصلحة شكر نعمة
المال مثل ما أوجبنا الصلاة والصوم فيكون فيها معنى شكر
نعمة البدن فهذا الوجه أحد معانى العبادة لكن هذا المعنى
تبع والأصل حق الفقراء لأنها واجب مالى والله تعالى خلق
المال لنفع العباد وكلما وجب في المال لا بد أن يبقى فيه
المعنى الذى خلق له أصل المال وذلك نفع العبد فلهذا أوجب
الزكاة للفقراء نفعا لهم وإذا أوجب لنفعهم كان حقا لهم
وعلى هذا وقع الفرق بين هذا وبين العبادة البدنية لأنها لم
تجب لنفع أحد من الآدميين فتمحض حقا لله تعالى.
وأما مسألة إسلام الصبى فقد بيناها أيضا وعلى وجوب الإيمان
ينصب الدلالات وهذا ليس بصحيح بل وجوب الإيمان بإيجاب الله
تعالى ولا إيمان يجب على الصبيان لأن الله تعالى لم يوجبه
عليهم وقوله إن الإيمان لا يحتمل أن لا يجب.
قلنا: على المكلفين فأما على غير المكلفين فيحتمل أن لا
يجب عليهم ببينة أنه كما لا يحتمل أن لا يكون غير مشروع في
الأصل فلا يحتمل أن يكون مشروعا في حق شخص ثم لا يجب عليه
فعله ثم قد بينا في مسألة إسلام الصبى وجه عدم صحته من
الصبى من طريقين مخيلين مؤثرين فمن أراد الوقوف عليه
فليراجع تلك المسألة ولم تجب الإعادة هاهنا لوقوع الغنيمة
عن ذلك بذكره في الفروع والأولى فيما يرجع إلى الأصول أن
نبين أن الوجوب لا يثبت في حق الصبى أصلا لأنه بالخطاب
يكون الوجوب والخطاب عنه ساقط وإذا سقط الخطاب سقط الوجوب
وأما الوجوب بما نصب من الآيات والعلامات فلا يجوز لأن
الآيات والدلالات توجد قبل وجود الشرع ولا وجوب.
فإن قالوا: يجب قبل ورود الشرع فالدليل على فساده ما سبق
ولأن الأمة اختلفت
ج / 2 ص -383-
على
قولين في هذه المسألة فقال بعضهم يجب الإيمان بالفعل.
وقال بعضهم: يجب بالسمع ولم يعرف قول ثالث والذى قالوه
إحداث قول ثالث في هذا أنه وجب بالآيات والعلامات فيكون
خلافا للأمة فلا يسلم لقائله ذلك ثم ذكر فصلا في حيز صحة
عبارات الصبى شرعا وقال لا خلاف أن عباراته فاسدة قبل أن
يعقل ويميز لأن الكلام وضع للتمييز بين السمعيات ولن يتصور
ذلك إلا بعد المعرفة عن عقل ولهذا لم يتعلق بكلام النائم
والمجنون والمغمى عليه حكم ولا خلاف أنه إذا ميز وعقل يصح
كلامه حتى إذا قال: أنا جائع سمع منه وأطعم وكذلك إذا دعا
ربه أثيب عليه ويصح أذكاره في صلاته كما لو كان بالغا
وإنما اختلفوا فيما أفسد عليه شرعا نظرا ورحمة كما لا يصح
منه فرض العبادات نظرا له.
قال علماؤنا: عباراته في الأصل صحيحة لا فيما يضره ويتوهم
لحوق الضرر به.
وقال الشافعي رحمه الله: عباراته فاسدة شرعا فيما صار
موليا عليه فيها فأما فيما لم يصر فثابت له إلا أن الشرع
حجره عن الاستيفاء نظرا له حتى لا يخدع كما سقط عنه الفرض
نظرا له فلم يثبت الحجر فيما يتمحض نفعا كما لم ينعدم
الشرع في حق نوافل العبادات التي تتمحض نفعا فعلى هذا لا
يصح قبول هبة منه لأنه مولى عليه فيها وهى نفع محض لأن
الملك يزول إلى خلف له وهو الثواب وإذا وقعت الفرقة بين
الأبوين وقد بلغ سبع سنين خير وعمل باختياره أيهما اختاره
لأنه يعرف الذى هو أرق له وأعطف عليه وهذا الاختيار نفع
محض والشرع لم يجعله موليا عليه فيه.
وقال: لا تصح عباراته في البيع لا لنفسه ولا لغيره لأنه
مولى عليه فيها ولا يصح طلاقه وإقراره لأنه ضرر.
قال: ولعلمائنا أن كون الإنسان فاسد العبارة من أعظم
النقصان لأنه امتاز عن غيره من سائر الحيوانات بصحة
العبارات حتى قيل إن المرء بالتعزية بقلبه ولسانه. وقيل:
لسان الفتى نصف ونصف فؤداه فلا يجوز أن نفسد على الصبى بعد
إصابته شرط الصحة إلا على سبيل النظر له وذلك في دفع ما
يتعلق به في المضار عنه وإذا ثبت هذا الأصل.
قلنا: لا ضرر عليه في صحة قبول الهبة والصدقة والوصية فيصح
كما قال الخصم في صحة وصيته بالصدقة.
وأما قوله: إن كونه موليا عليه ينافى ثبوت الولاية له فليس
كذلك لما مر في باب حقوق الله تعالى.
ج / 2 ص -384-
قال:
فلا يصح هبته ولا صدقته لأنها من المضار وكذلك بعد الموت
لا يصح أيضا لما بينا وكذلك لا يصح اختياره في الحضانة
لأنه يتضرر بين ضر ونفع ولربما يختار الذى يضره لعاقبة
أمره بل يميل إليه لا محالة لأن طبعه ينفر عمن يؤدبه
ويحمله على التخلق بآداب الشرع والمروءة ويميل إلى من يدعه
للهو وارتكاب الهوى فكانت عبارته في هذا الباب كعبارته في
باب التجارة التي تتردد بين ضر ونفع فلا يجب العمل بها.
وقال علماؤنا: يصح إسلامه لأنه نفع محض فإن العصمة في
الدارين بحق الإسلام وكرامات الآدميين كلها لحق الدين ولا
شك أن الخير فيه فوق ما في نوافل العبادات.
فإن قيل: ولربما يبتنى عليه حرمان الإرث وفساد النكاح.
قلنا: لا عبرة لهذه الزوائد التي ليست من أحكام أصل الدين
بل تثبت بواسطة أخرى وحالة يتفق بدلائل تفسد إسلامه وإن
تعلق به الإرث وصحة النكاح نحو أن كانت أسلمت امرأة الصبى
الكافر وعمه مسلم لا وارث للعم غيره فإنه بالإسلام يعصم
نكاحه ويرث عمه وعلى أن حرمة النكاح والإرث حرمة تثبيت
مضافة إلى كفر الكافر منهما على ما بينا في موضعهما.
قال: وتنعقد التصرفات كلها بعباراته كما تنعقد بعبارة
البالغ وينفذ إذا كان وكيلا عن أهلها لأنه لا ضرر عليه في
انعقاد التصرف نحو الوكالة لأنه لا عهدة تلزمه ونفس فساد
العبارة ضرر على مابينا فلا تثبيت الحجة في حقها.
وإذا ثبت أنها تصح في حال الغير بإذن الولى صحت كذلك في
حال نفسه بإذن الولى من طريق الأولى لأنهما لا يفترقان إلا
فيما يلزمه إذا كان في ماله وهذا اللزوم جعل من الصالح إذا
حضره رأى الولى بدليل أن الولى لو فعله بنفسه أو أمر به
غيره صح وما أثبت له ذلك إلا مصلحة للمولى عليه نظرا له
وقد مر أن الفساد لا يجوز أن يثبت من طريق أنه مولى عليه
بل لما جعل موليا عليه لماله من النفع في تصرف الولى عليه
بذلك ولا ضرر في صحة عبارته في ماله وكان النظر آن يكون
صحيح العبارة مع ثبوت الولاية للمولى ليثبت له نفعها من
طريقين فثبت أن ما قلناه أولى الوجهين.
فإن قيل لو شهد الصبى لم تقبل1 وكانت العبارة فاسدة وإن لم
يلزمه بها حكم.
قلنا: العبارة صحيحة ولكن مع هذا لا يكون حجة على غيره كما
لو شهد العبد أو شهد الكافر على مسلم وهذا لأن الشهادة
بمنزلة الولاية على غيره وإنما يتعلق بكمال الحال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر روضة الطالبين "11/222".
ج / 2 ص -385-
في
ولاية مع صحة العبارة هذا كلامه في هذا الفصل وهذا الفصل
أكثر كلام فيه يتصل بتصرفات الصبى وقد وضع هذا الرجل
لأصحابنا كلاما وتكلم عليه ونحن قد بينا هذه المسألة في
خلافيات الفروع وذكرنا طريق سلب أهلية التصرفات وكان
اعتمادنا في ذلك على نقصان عقل الصبى واعتمدنا على ثبوت
النظر له من قبل الشرع ومن النظر له أخراجه عن أهلية
التصرفات الدائرة بين النفع والضر حتى يكمل عقله ويعلم
خيره من شره ونفعه من ضره على التمام وقد ذكرنا تقرير هذا
بحيث يشفى الصدور ويزيل الإشكال.
وأما كونه موليا عليه في هذه التصرفات فهو كلام حسن لكن
ليس بما يستدل ابتداء في هذه المسألة ولكنه يدخل في أثناء
الكلام لتقرير الكلام والله أعلم.
ثم ذكر فصلا في حين لزوم ما يتجدد بالشرع من الأحكام. قال:
حكم الشرع إنما يلزم بعد بلوغنا إيانا لما مر أن الله
تعالى لم يكلف نفسا إلا وسعها ولا وسع إلا بعد العلم فسقط
أصلا ضرر ما يحتمل النسخ لقصور الخطاب دفعا للحرج كما سقط
بالصبا وقد روى أن أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس
بعد ما حول القبلة إلى الكعبة فأتاهم آت وهم في الصلاة
فأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا كهيئتهم
ولم ينكرها عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم1 وقد شرب
جماعة الخمر بعد التحريم قبل العلم به فأنزل الله تعالى:
{لَيْسَ عَلَى الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] وهذا فصل لا خلاف فيه ثم البلوغ نوعان حقيقة إسماع
وحلم لشيوع في قومه فإن النبى صلى الله عليه وسلم أمر
بتبليغ الناس القرآن كافة وما أمكنه التبليغ إلى كافة
الناس وإنما بلغ أكابر كل قوم في جماعتهم وكان مؤديا بذلك
حكم الأمر فيكون الأمر بقدر الوسع وعلى سبيل لا حرج فيه
ولأن الخطاب متى شاع أمكن كل إنسان العمل به متى لم يقصر
في الحجة من قومه وإذا لم يطلب حتى جهل كان بتقصير منه ولم
يصر ذلك الجهل له عذر أو صار كأنه علم ثم لم يعمل. ألا ترى
أن الواحد منا لو لم يعلم الشرائع وجهلها لم يعذر ويلزمه
كلها لشيوعها في دار الإسلام وكذلك الذى إذا أسلم وهو لم
يعلم بالصلاة لزمته ولو أسلم الحربى في دار الحرب ولم يعلم
بها لم يلزمه قضاء ما فات منها لأن الخطاب غير شائع فيها.
قال: وهذا كما قال علماؤنا فيمن أذن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: الصلاة "1/603" ح "403" ومسلم: المساجد
"1/375" ح "13/526" بنحوه.
ج / 2 ص -386-
لعبده
في التجارة وشاع إذنه ثم حجر عليه لم يثبت الحجر في حق أهل
السوق حتى يحجر حجرا عاما ولهذا قالت الأمة في الحربى
يتزوج أختين معا أو على التعاقب ثم فارق إحديهما ثم أسلم
بقى نكاح الباقية صحيحا وإن كانت الأخيرة هى الباقية لأن
خطاب التحريم قاصر عنهم فبقوا على الحال الثابت قبل الخطاب
وكذلك لو تزوج وثنيا ثم فارق الأولى منهن ثم أسلم بقين على
الصحة ولو وقع فاسد في الأصل لم ينقلب صحيحا بالإسلام
وكذلك لو تزوج في عدة من كافر أو تزوج بغير شهود. وقال أبو
حنيفه: لو تزوج الكافر محرما ودخل بها لم يسقط إحصانه وكان
بمنزلة ما لو تزوج مجوسية.
وكذلك الجواب في أهل الذمة في مسائل الجمع والنكاح بغير
شهود بلا خلاف لأن أهل الذمة وإن كانوا في دار الإسلام
فالخطاب قاصر عنهم لأن الخطاب إنما يصح بعد ثبوت الرسالة
وهم ينكرون الرسالة فلا يصير حجة عليهم بحق الشرع بل يقدر
ما عهدوا عليه ولأن الخطاب من الله تعالى بأن أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الكافر إلى الإيمان بالله
ورسوله فإن أبوا فبأى الذمتين فيمن جعل لهم الذمة وأى دين
يتدينون؟ إلا ما استثنى عليهم فإذا دعاهم إلى الذمة بشرطها
فقد بلغهم خطاب الشرع في حقهم فلا يلزمهم ما يتبدل من
أحكام الله بهذا الشرع إلا ما كانوا فيها على الفساد وإن
كانت صحيحة عند الله تعالى ولهذا لا يحدون على شرب الخمر
وإذا تبايعوا فيما بينهم ثم أسلموا على ملك الأثمان لم
تتفرع الأثمان من أيدى متملكيها بالعقود ولم تنقض تلك
البيوع ولو وقعت فاسدة لأبطلت عليهم الإسلام وصاروا بحيث
لا يقرون على الفاسد كما لو أربوا ثم أسلموا قال: وقال
علماؤنا إذا أتلف مسلم عليهم الخمر ضمن لهم كما لو أتلف
الخل لبقاء الخمر في حقهم على ما كان قبل التحريم قال:
وإنما قال الشافعى لا يضمن لأن الحرمة ثابتة في حق المسلم
وديانتهم لا تكون حجة على المسلم ولا قصور الخطاب في حقهم
يبدل حكم الخطاب في حق من بلغه وكذلك إذا أتلف الذمى على
ذمى [فتحاكموا إلى]1 قاضيا لا يلزم قاضيا الحكم بما عندهم.
قال: وجوابنا أن الحكم بما عندنا وعندنا أنه مال متقوم في
حقهم وقال أبو حنيفة: لا يفسد نكاحهم المحرم بمراجعه أحدهم
لأن دليله المراجع لا يكون حجة على الآخر هذا كلام وهذا
فصل يأتى في مسائل كثيرة من الخلافيات وقد ذكرها وذكرناها
ونحن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -387-
نقول:
إن الخطاب المبتنى على شرع الإسلام بأجمعه قد لزم الكفار
إلا في مواضع يسيرة أخرجها الشرع من الخطاب لدلائل قامت
على ذلك فقد دللنا على هذا الأصل من قبل.
وأما قوله: إن الخطاب قاصر عنهم فهو لفظ باطل والبلوغ إنما
هو ببلوغهم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم وقيام الدليل
على صحتها وثبوتها وقد تظاهرت الدلائل القاطعة على ثبوت
نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يبق لأحد عذر
في العالم بترك قبول الإسلام ولأجل قيام الحجج وتظاهر
البراهين والأدلة ينزل جميع الكفار منزلة المعاندين
المكابرين ولولا أن الأمر على هذا الوجه لعذروا بالجهل وقد
اجتمعت الأمة أنه لا عذر لأحد في شئ من الإسلام وشرعه وإن
تعلق متعلق بتقريرهم على كثير من الأشياء فذلك من حكم
الوفاء بالعهد لا من حيث قصور الخطاب عنهم في شئ ما وإن
تعلق متعلق بالأنكحة فصحتها كان يعارض دليل لا من حيث إن
خطاب الشرع قصر عنهم أو لم يبلغهم بل إنما حكمنا بصحتها
لأنا لو لم نحكم بصحتها أدى إلى مفسدة عظيمة تعود إلى
الإنسان وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم ولد كافر وكذلك
عامة الصحابة رضى الله عنهم فإذا قلنا إن أنكحتهم لا تصح
إذا عقد على غير شرط الشرع كان يؤدى ذلك إلى اعتقادنا أن
النبى صلى الله عليه وسلم وسائر الصحابة خلقوا من أنساب
فاسدة محرمة وكان يؤدى ذلك إلى القدح والطعن في أنسابهم
وقد ورد الشرع بإثبات نكاحهم نصا. قال الله تعالى:
{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}
[المسد: 4] فقد أثبت [كونها زوجته]1 وقال النبى صلى الله
عليه وسلم:
"ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح"2 وقال صلى الله عليه وسلم:
"أنا ابن عبد المطلب"3 وقال:
"نحن بنو النضر بن كنانة"4
فلمثل هذه الدلائل حملتنا الضرورة على الحكم بصحة أنكحتهم
ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
2 ذكره ابن حجر في التلخيص وقال: رواه الطبراني والبيهقي
من طريق أبي الحويرث عن ابن عباس وسنده ضعيف ورواه الحارث
بن أبي أسامة ومحمد بن سعد من طريق عائشة وفيه الواقدي
ورواه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن جعفر بن محمد عن أبيه
مرسلا بلفظ "إني خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح" ووصله ابن
عدي والطبراني في الأوسط من حديث أنس وإسناده ضعيف انظر
التلخيص "3/200, 201" ح "4".
3 أخرجه البخاري: الجهاد "6/81" ح "2864" ومسلم: الجهاد
"3/1400" ح "78/1776".
4 أخرجه ابن ماجه: الحدود "2/871" ح "2612" وفي الزوائد:
هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. لأن عقيل بن طلحة وثقة ابن
معين والنسائي وذكره ابن حبان في الثقات وباقي رجال
الإسناد على شرط مسلم وأحمد: المسند "5/250" ح "21898".
ج / 2 ص -388-
يكن
ذلك لقصور الخطاب عنهم. وأما سقوط حكم الشرب فلم يكن لهذا
أيضا بل إنما كان لأن الكافر شرب الخمر معتقدا إباحته فشرب
الخمر باعتقاد إباحتها كفر والكفر لا يوجب الجلدات بحال
ولأنه قد أعطى عوض الحقن عن إباحته الثابتة نسب الكفر وهو
الجزية فلا يجب عليه شئ آخر.
وأما قصة أهل قباء فنحن لا ننكر مثل ذلك في ابتداء الخطاب
ولأنه لا يثبت إلا بالسماع فأما في حق الكفار فقد وجد
البلوغ قطعا من حيث البلوغ لأنهم قد كفروا بخروج نبى يدعو
إلى الله بشريعة مخصوصة والدليل [أنهم]1 على لزومهم ذلك
ولم يبق لهم عذر أصلا والدليل على هذا [الجماع الأمثل]2
إجماع الأمة على تأثيمهم في [كل ما خالفوا]3 من الذى جاء
به النبى صلى الله عليه وسلم ولو قصر الخطاب عنهم أو لم
يحكم ببلوغهم ذلك لم يتصور الإثم والدليل على ما ذكرنا
أيضا إقامة الحدود على أهل الذمة في أرتكاب المحرمات على
ما يوافق شرع الإسلام فدل أن الخطاب قد بلغهم وأن اللزوم
قد ثبت في حقهم وأن اعتقاد قصور الخطاب وعدم البلوغ اعتقاد
باطل وشئ مخترع لا يمكن إقامة دليل عليه مستقيم على أصول
الشرع وقواعده والله الموفق للصواب.
ثم ذكر فصلا في الأعذار المسقطة للوجوب بعد البلوغ. قال:
هذه الأعذار أربعة أنواع الجنون والعته نوع وهو عذر عدم
العقل ونقصانه. والنوم ولإغماء نوع وهو العجز عن استعمال
نور العقل بفترة عارضة مع قيام أصوله. والنسيان والخطأ
والكره والجهل بأسباب الوجوب ونحوها من الأعذار الطبيعية
نوع فإن العقل ينعدم معها بسبب الترك مختار. والرابع قسم
الرق والحيض فإنه مما ينعدم به شرع بعض العبادات حكما
فيثبت العجز شرعا لا طبعا وقد قال بعضهم: الأعذار الاثنا
عشر.
النوم والاغماء والاكراه والصبا والجنون والعته والسكر
والحيض والنفاس وهما واحد والمرض وعدم السماع والنسيان
والخطأ.
قال أبو زيد: أما الجنون فهو بمنزلة الصبى قبل أن يعقل
الصبا إذا طال الجنون وبمنزلة النوم إذا قصر والعتة بمنزلة
الصبى بعد ما عقل الصبى لأن المعتوه هو الذى اختلط
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
2 هكذا ثبت في الأصل.
3 بياض في الأصل.
ج / 2 ص -389-
كلامه
فكان بعض كلام العاقل بعض كلام الغافل بعض كلام المجنون
وكان ذلك الاختلاط لنقصان عقله كما يكون في حق الصبى إلا
في حق العبادات فإنا لم نسقط به العبادات.
وأنا أقول: إن هذا الكلام باطل لأن العته نوع جنون إلا أنه
يعقل قليلا وهو في التأثير في العقل أكثر من الصبى بعد أن
عقل فإذا كان ذلك يمنع وجوب العبادات فالعته أولى بالمنع.
وقولهم: إن الجنون إذا قصرت مدته يكون كالنوم كلام باطل
أيضا لأن العقل قائم في النائم زائل في المجنون رجعنا إلى
كلامه.
قال: وأما السفه بعد البلوغ فلا يوجب الحجر لأن السفه ليس
بنقصان العقل وإنما هو مكابرة العقل بغلبة الهوى وقد نهاه
الشرع عن اتباع الهوى فلا يصير اتباعه الهوى بخلاف موجب
العقل عذرا لم يوجب الحجر نظرا له ولم يجعل السفيه وإن كان
مغلوبا هو له كالمكروه الذى هو مغلوب لغيره لأن ذلك عذر
عند الله تعالى وهذا لم يجعل عذرا عند الله تعالى لقدرته
لا محالة على الدفع ولو لم تساعده نفسه وإنما يصير مغلوبا
بالمساعدة للهوى مختارا ونحن قد أجبنا عن هذا في مسألة
المحجور عليه بالسفه ذكرنا طريقة توجب الحجر على السفيه.
قال: وأما النوم والإغماء فنوع واحد وهو فترة بعارض منع من
أستعمال العقل مع قيامه وحكم النوم تأخير حكم الخطاب في حق
العمل به لا سقوط الوجوب أصلا على ما قال عليه السلام:
"من نام عن
صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها"1
ولما ذكرنا أن نفس العجز لا يسقط الوجوب أصلا وإنما يسقط
وجوب العمل إلى حين القدرة إلا أن يطول فيسقطه دفعا للحرج
والنوم لا يمتد عادة بحيث يخرج العبد في قضاء ما يفوته في
حال نومه لأنه عادة لا يمتد مع الليل يوما كاملا إلا
يستيقظ فيه وإنما يكون بالليالي والإغماء بمنزلته إلا في
حق الصلاة فإذا كان مدة ست صلوات سقط القضاء لأن الصلاة
تتكرر إذا كانت ستا وفى ذلك حرج والإغماء يمتد هذا القدر
من المدة فيجعل مسقطا لوجوب الصلاة دفعا للحرج. بمنزلة
الجنون وكان الإغماء كالنوم في حق الصوم والزكاة لأنه لا
يمتد في العادات شهور وسنين وفى الصلاة كما ذكرنا.
فإن قيل: إن السكر بمنزلة الإغماء ولم يتأخر به الخطاب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: المواقيت "2/48" "597" ومسلم: المساجد
"1/477" ح "315/684" بنحوه.
ج / 2 ص -390-
قلنا:
إن السكر يحصل بسبب هو معصية وهو شرب الخمر المسكر واجتماع
ذلك الحرام في معدته لم يجعل عذرا شرعا على ما عرف في غير
هذا الموضع وأما باب النسيان فيتعلق به انعدام فعل ما أمر
به لعدم القصد إليه. بسبب النسيان للعجز. إلا أن القصد لا
يتصور منا إلى فعل بعينه قبل العلم به كقصده ديار زيد لا
يتصور بدون زيد وقصد صوم رمضان قبل العلم به لا يتوصر
وكذلك قصد استعمال الماء لا يتصور إلا بعد العلم به فصار
في حكم العجز وإن نفيت القول الغريزية معه وصار أيضا في
حكم النوم لأنه آفة مخلوقة جبلية كالنوم وقد قرن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بين نسيان الصلاة والنوم عنها على ما
مر ذكره إلا أن يكون نسيانا عن لهو أو لعب فيؤاخذ به
كالنوم عن سكر ولهذا قلنا: إن من نسى الماء في رحله وهو
مسافر فتيمم يجزئه لأنه عجز عن استعماله بالنسيان كما يعجز
بعدم الماء فيسقط به خطاب استعمال الماء إلى الخطاب
بالتيمم.
قال: وأما كلام الناس إنما يبطل الصلاة لأن أصل حظرية
الكلام لا ترتفع بالنسيان وإنما بما ينبنى في الحرمة فحسب
حتى لا يأثم إلا أن فعل الكف عن الكلام شرط لصحة الصلاة
فلا يتأدى بدونه كما لو نسى الطهارة وصلى بدونها لم يأثم
ولا تجوز صلاته.
قال: ونقول أيضا: أن القياس أن يفسد الصوم بأكل الناسى
وكذلك الخطأ في حكم النسيان بدليل أن المخطئ لا يأثم ولهذا
استثنى الله تعالى الخطأ من الحظر في قوله:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء: 52] وقوله: {وَمَا كَانَ}
للتحريم وقد استثنى منه ما يكون خطأ فثبت أنه في حكم
المباح في حق الفاعل.
قال: ونقول إن كلام المخطئ صحيح مثل كلام العامد فإن يمين
المخطئ صحيحة مثل يمينه وكذلك نكاح المخطئ وطلاقه وعتاقه
ونذره وكل ما لا يبطل بالهزل لا يبطل بالخطأ لأن الموجب
لصحة كلامه شرعا قائم مع الخطأ وأما البيع خطأ فلا ينبغى
أن يلزم الهزل والكره لأن الشرع بنى لزومه على التراضى مع
صحة المعاقدة ولا رضى إلا بعد قصد صحيح.
[قلنا]1: عقد يلزمنا حكمه بلا شرط رضى وبقى الخيار لعدم
الرضى نفسه.
قال: ولنا إذا أسلم الشفعة خطأ بطلت الشفعة لا بالتسليم
فإنه يخطئ غير راض به ولكن يترك الطلب كما لو سلمت لوم
يلزم ولهذا لم يلزم القاتل الخطأ الكفارة وتحريم الإرث ولو
سقط بالخطأ حرمة القتل أصلا ما لزمه حكم القتل المحظور
وكذلك الكره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل.
ج / 2 ص -391-
بمنزلة
الخطأ أو دونه لأن المكره محظور بما فعله قاصد إياه لأنه
عرف الشرين فاختار أهونهما عليه عن علم وقصد إلا أنه قصد
فاسد لأنه قصد لا راضيا به [وتفويته إتيانه]1 بل أوقع الشر
عن نفسه فلا يحكم إلا بالفساد ولعدم القصد ولا يقع هدرا
وإنما يبطل به ما يتعلق لزومه بالرضى كالبيع والإجارة وما
لا يلزم مع استثناء الخيار أوقع الهزل وأما يمين المكره
ونكاحه وطلاقه وعتاقه فلازم وكذلك الكلام مكرها في الصلاة
يبطلها وكذلك الأكل في الصوم مكرها أو سبق الماء إلى حلقه
خطأ يفسده.
قلنا: لم يهدر حكم وكذلك من ارتكب محظورا من محظورات الحج
خطأ أو مكرها لزمته الكفاره
فإن قيل: أليس المكره على القتل لا يقتل عندكم. قلنا لم
يهدر حكم الفعل فإن القصاص واجب به لكن لم يجب على الفعل
كرها بحكم انعدام الفعل منه فإنه جعل المكره الذى حمله
عليه كأنه قبض على يديه وقتل بيده إنسانا على ما بينا في
موضعه وكذلك وجب على الذى أكرهه لأن الفعل أضيف إليه ومتى
انعدم الفعل لم يكن عدم حكمه بالكره لكن بعدم القتل كما لو
لم يفعل بغير كره.
وأما فعل لا يستقيم أن نجعل المكره المباشرة آلة للمكره
فالفعل لا ينقل عنه وبقى مقتصرا عليه على ما بينا في موضعه
وإذا بقى عليه وصار فاعلا لزمه حكمه إلا ما يبطله الهزل
والأقوال كلها لا يمكن أن يجعل الفاعل عن كره آلة فيه
للآمر إذا أمر ولا يمكنه التكلم بلسان غيره وأما القتل
فيمكن بيد غيره والأكل والزنا مثل الأول وسائر الإتلافات
مثل الثاني.
قال: وأما الجهل فمثل الخطأ والنسيان لأن الجهل بالحق لا
يكون للجهل بدليله وسبب وجوبه فيكون الإعراض عن إقامته لا
عن قصد العصيان والخلاف بل كما يكون من المخطئ والناسى
ويكون الجاهل عاجزا حكما كالناسى ويكون الجهل عذرا يؤخر
حكم الخطاب ولا يسقط الوجوب أصلا كالخطأ والنسيان ولهذا
قيل: إن العبد إذا عمل باجتهاده في حادثة لا نص فيها عنده
ثم بلغه نص بخلاف رأيه لم يأثم على ما مضى ولزمه نقض ما
مضى باجتهاده ولو سقط أصلا بالجهل ما لزمه النقض كما لو
ترك النص بعد رأيه في زمن الوحى. هذا كلامه في هذا الفصل
نقلته على ما كان في أصله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلمتين غير مقروءتين في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -392-
ونحن
نقول في هذه المسائل على خلاف ما ذكروا أما النوم فلا يسقط
الفرض بحال1 لأنه لا يزيل العقل ويجوز أن يقال إن الواجب
عليه بعد اليقظة ولا يجب في حال النوم جريا على ظاهر الخبر
وأما الإغماء فإنه يسقط الفرض لأنه مما يزيل العقل.
فإن قالوا: كيف يقال إنه يزيل العقل وهو جائز على
الأنبياء.
قلنا: جاز على الأنبياء لأنه يزول في مدة يسيرة وذلك لا
يخل بأمرهم فأما إذا طال ووصف بالجنون فلا يجوز لأنه يخل
بأمرهم وأما الفرق الذى قالوا في الصلاة وإنه إذا استوعب
ست صلوات سقط وإذا لم يستوعب لم يسقط.
ففرق لا يعرف وإنما هو محض تحكم على الشرع والحرج الذى
قالوه ليس بشئ لأنه لا حرج في قضاء ست صلوات والمراد في
نفى المذكور في القرآن [...]2 شيئا لم يجعل لهم من ذلك
مخرجا.
فأما الناسى فلا خطاب عليه في حال النسيان وقد بينا أن
الكلام [الناسى]3 يبطل الصلاة وأكل الناسى لا يبطل الصوم
وكذا في كل موضع وجد النسيان فيه فإنه مؤثر في إسقاط
الخطاب وطرد [.....]4 هذا الشافعى رحمه الله وهو صحيح على
قواعد الشرع.
وأما مسألة التيمم إذا رأى الماء في رحله وأنه لم يجز
تيممه لأن الله تعالى علقه بالعدم وهناك هو واجد لأنه إذا
كان الماء موضوعا في رحله غير أنه نسى موضعه فهو واجد له
غير أنه غفل موضعه ولأن رحل المسافر موضع الماء ولو طلب
وجد وأى عذر له في ترك الطلب وإن لم يتذكر كما لو كان في
قرية عامرة وعدم الماء مكانه ونسى أن يطلب فتيمم فإنه لا
يجوز لأن القرية معدن الماء ولو طلب وجد فلما كان العجز
بسبب هو قصر فيه لم يجعل عذرا وأما الإكراه فهو عندنا معدم
للرضى والرضى شرط في كل العقود ليلزم حكمها لأن هذه الحقوق
إنما تلزم بإلزامه إياها فلا بد من رضاه بلزومها ليلزم وقد
بينا صحيح هذه الطريقة في طلاق المكره وأجبنا عن فصل
الخيار.
وأما الذى ادعوه في مسألة الإكراه على القتل وقوله إن
المكره آلة وهذا أيضا أصل باطل لأن المكره عاقل بفعل ما
يفعله عن قصد صحيح فلا يتصور أن يكون آلة لأحد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر المغنى "1/411".
2 بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات.
3 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
4 بياض في الأصل بمقدار ست كلمات.
ج / 2 ص -393-
وتنزيل
عاقل بالغ منزلة خشبة يستعملها في أفعاله محال.
وأما قولهم: إنه يحمل عليه من قبل المكره ويفسد قصده.
قلنا: فساد القصد لا يعرف ولا يعقل والقصد عمل القلب وهو
في المحسوس كأعمال الجوارح فتكون صحتها بوجوبها وهذه كلمات
أحكمناها في خلافيات الفروع فلا معنى لإعادتها في هذا
الموضع.
ثم ذكر فصلا في الحيض والرق فقال: إن الحيض لا يوجب حجرا
من حيث ذهاب قدرة القلب بعلمه وعقله أو قدرة البدن ولكنه
يوجب عجزا حكميا من حيث فوات الشرط بالأداء في الصوم
والصلاة وهو دون العجز الذى يثبت بالنوم وكان القياس أن لا
يسقط أصل الوجوب بل يؤخر.
إلا أنا أسقطنا الوجوب به بشرع ورد به وذلك بغلبة الحرج
فإن الحيض تعتاده النساء في كل شهر والصلوات تتكرر في كل
يوم فلو أمرناها لتضاعف الوجوب عليها ولحرجت في ذلك فسقط
بسبب ذلك الحرج كما يسقط بالجنون الممتد وهذا المعنى معدوم
في حق الصوم فلم يسقط. والرق من هذا القبيل لأنه مما ينعدم
به شرط بعض العبادات كالكفارات المالية فإن ملك المال شرط
لأدائها وهو لا يملك المال ما دام رقيقا وكذلك وجوب الحج
يسقط عنه أصلا لا لعدم ملك الزاد والراحلة فإن الفقير إذا
أدى جاز وكان فرضا بخلاف العبد ولكن إنما لم يجب على العبد
لعدم ملك المنافع التي يتأدى بها الحج فإنها عبادة بدنية
ومنافعة قد صارت لمولاه إلا ما استثنى الله تعالى في باب
الصوم والصلاة ولم يستثنى في باب الحج لأنه لا وجوب بلا
زاد ولا راحلة ولما لم يستبن صارت للمولى فلا يعود إليه
[.....]1 كما لا يملك منافع غيره ولا سائر الأموال بتمليك
المؤن ولا يصح الأداء بمنافع [.....]2 كما لا يصح التكفير
بمال المولى وكذلك يسقط بالرق إباحة نكاح الأربع من النساء
والحدود التي تحتمل التنصيف [.....]3 وكذلك [.....]4 العدة
والتطليقات وحق القسم وتبطل الولاية وما يبتنى على الولاية
من الإرث والشهادة وهذا الكلام الذى قال في الابتداء لا
بأس به ونحن نقول بذلك وأما الذى قال في آخر كلامه في
التنصيف بالرق فنحن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
2 بياض في الأصل بمقدار كلمة واحدة.
3 بياض في الأصل بمقدار كلمة واحدة.
4 كشط بمقدار كلمة.
ج / 2 ص -394-
نقول:
إن الرق منصف لما يقبل التنصيف وهذا صحيح في كل ما يتبعض
ويتنصف.
فأما الذى لا يقبل التنصيف من الحل فنقول إن الحل في الأمة
نكاحا مثل الحل في الحرة ولا ينصف لأنه لا يقبل التنصيف
ولأن الرق يفتح باب الحل في محل الرق وما لا يوجد في محل
الحرية فلأن يؤثر في الحل الذى يوجد قى محل الحرية أولى
وهذا فصل في مسألة طول الحرة ومسألة الطلاق بالرجال
والنساء وقد ذكرنا وجه قولهم في ذلك ووجه جوابنا عنه ثم
ذكر فصلا في الكفر.
فإن قال قائل: فإنكم لم تذكروا قسم الكفر.
قلنا: الكفر ليس من جملة الإعذار ولأنه غير مسقط للخطاب
عند أهل الكلام وهو مذهب الشافعى من الفقهاء ومذهب عامة
مشايخنا من أهل العراق.
وذكر مسألة خطاب الكفار بالشرعيات واحتج من الجانبين وقد
سبق ذكرنا لها وأوردنا حجة الفريقين على التمام والكمال
فاستغنينا عن الإعادة وهذا جملة ما ذكروه من الأعذار
العامة في أحكام الشرع وقد أوردنا هذا على ما ذكروه
وتكلمنا عليه بحيث ما يسر الله تعالى والله أعلم.
ثم ذكر القول في الحجج العقلية قال: وقد أجمع العقلاء على
إصابة المطلوبات الغائبة عن الحواس بدلائل العقول كإجماعهم
على إصابة الحاضرة بالحواس حتى أنك لا تكاد تجد أحدا خاليا
عن الاستدلال بها لجديرا به وعقله حتى لم يكن السمع حججا
إلا باستدلال عقلى ولا يقع الفرق بين المعجزة والمخرقة
والنبى والمتنبئ إلا بنظر عن عقل وكذلك تعرف النار مرة
ببصرك ومرة بدخانها مستدلا عليها بعقلك لا طريق للعلم إلا
طريق الحواس أو الاستدلال بنظر عقلى في المحسوس ليدرك ما
غاب عنه.
قالوا: ولا خلاف في هذا بين العقلاء وإنما اختلفوا بعد
ذلك.
وقال بعضهم: لا يعرف الله تعالى بمجرد دلائل العقول حتى
تتأيد بالشرع.
وقال بعضهم: يعرف ويجب الاستدلال قبل الشرع.
وقال بعضهم: لا يستقل بهذا لأن الله تعالى لم يدعنا
والعقول فلا معنى للاشتغال بها.
قال: وقال علماؤنا: من لم تبلغهم الدعوة من الكفار لا
يقاتل إلا بعد الدعوة وإن قوتلوا أو قتلوا لم يجب شيء.
وقال الشافعي: يضمن.
ج / 2 ص -395-
وقال
أيضا: إنهم يعذبون في الآخرة فجعلهم كأطفال المسلمين.
قال ولا نص عن علمائنا في المبسوط إلا ما ذكرنا من هدر
الدماء وأنه لا يدل على التزام الكفر بترك الاستدلال فإن
المسلم منافيهم عندنا ما يهدر دمه ما لم يجوز نفسه بدار
الإسلام.
قال: قال علماؤنا: إن الصبى إذا أسلم وعقل صح إسلامه ولو
لم يستدل بعقله ولم يجر كلمة الشهادة على لسانه لم يحكم
بكفره وإن امتنع بعد الاستنصاب بل كان في حكم المسلم ما لم
يبلغ ولو امتنع بعد البلوغ كفر لأن خطاب الشرع بالأداء
ساقط قبل البلوغ فصار معذورا.
قال: واحتمل مثل هذا بعد البلوغ قبل أن تبلغه دعوة أحد فلا
نحكم بكفره لجهله بالله تعالى وغفلته عن الاستدلال بالآيات
ويحكى عن أبى حنيفه أنه قال: لا عذر لأحد في الجهل بالخالق
لما يرى في العالم من آثار الخلق فيحتمل أن يكون ذلك بعد
ورود السمع بذلك. فقد حكينا أنهم عذروا الصبى لجهله.
قالوا: وأما الذى قالوا إن الله تعالى لا يعرف بدون الشرع
فقد ذهبوا في ذلك إلى أن العقلاء أجمعوا أن الأداء لا يجب
إلا بعد ورود الشرع ولو كان العقل حجة كافية وجب قبل الشرع
ولأنا نرى العقلاء مختلفين في إثبات القديم مع شدة تأملهم
واشتهارهم بالحكمة ولا يعرف واحد منهم إصابة ما يتبين
بالشرع ولو كان بالعقل كفاية لما اختلفوا فإن اختلفوا يجب
أن يكون فيهم من أصابه وحين لم يعرف أن أحدا ممن طلب الحق
بعقله أصابه على ما عرف بالشرع علمنا أنه لا يعرف بدون
الشرع.
قال: وأما الذين قالوا: إنه تقع الكفاية بالعقل ذهبوا إلى
أن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه:
{إِنِّي
أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
[الأنعام: 74] ولم يقل [أوحى إلى] فثبت أن العقل بنفسه
يهدى ولذلك الله تعالى أخبر أن إبراهيم عليه السلام استدل
بالنجوم فعرف ربه عز وجل وكان استدلاله حجة على قومه فقال
تعالى:
{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى
قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] وليس في الآية من باب الوحى ذكر وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] ولم يقل نسمهم ونوحى إليهم. وقال تعالى:
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] ولم يقل بعدما أوحى إليه أو بلغته الدعوة فثبت أن
العذر ينقطع بالعقل وحده ولو لم يكن فيه كفاية لما انقطع
العذر.
ج / 2 ص -396-
قال:
وقول من قال: إن الله تعالى لم يدعنا والعقول فذلك رحمة من
قبل الله تعالى وتفضل منه وربما يقولون بعث الرسول لبيان
تتمة الدين.
ببينة: أن الله تعالى لم يدعنا ورسولا
واحدا وقد كانت الحجة قائمة لرسول واحد منهم.
قالوا: وأما اختلاف العقلاء فقد وجد اختلاف العقلاء بعد
دعوة الرسل أيضا على أن من لم ينل ذلك لتقصير في اجتهاده
والمقصر في اجتهاده لا ينال كان الحقيقة وكذلك الغالى
يتعداها وإذا جاء الوحى والعصمة عن التقصير والغلو صار
الدين واحدا.
وأما الذين قالوا: إن الاستدلال لا يجب قبل الشرع فقد
احتجوا بالشرع والعقل. أما الدليل من قبل الشرع قول الله
تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] وقال تعالى:
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وقال:
{رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [النساء: 165] الآية وقال:
{أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ
جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ}
وقال عقيب قوله:
{أَلَمْ
يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}
[الأنعام: 130]
{ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ
وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}
[الأنعام: 131] فأخبر أن الإهلاك كان ظلما وهذه الآيات
دالة على أن العذر لا ينقطع بمجرد العقل لأن الهوى غالب
على الإنسان وطرق هوى الدين محضة تحت غالبة الهوى ومنام
القلب والغفلة في دلائل العقل وفى تنبهه عن مؤلم الغفلة
بالشرع حرج عظيم أكثر مما يحرج الصبى العاقل بسبب نقصان
عقله لإدراكه ما يدركه البالغ من الخطاب المسموع. وقد أخبر
الله تعالى لأن لا حرج في الدين وقد ذكر الرسول صلى الله
عليه وسلم أن الخطاب ساقط عن الصبى مع وجود العقل ويمكنه
من الاستدلال فكذلك بعد البلوغ يسقط أيضا بمجرد العقل لأنه
لا تفرقة بين الحالين من حيث العقل. ألا ترى: أن العبادات
كما سقطت بعذر الصبى سقطت بعذر الجهل عمن أسلم في دار
الحرب ولا يعلم بالعبادات ولأن النفس بهواها غالبة
[.....]1 في أول الفطرة وإذا حدثت حدثت مغلوبة إلا من شاء
الله من الخواص وإذا كانت مغلوبة بقيت العبرة للراجح وبقى
الحكم على ما كان قبل العقل حتى يتأيد العقل بالوحى فيرجح
على الهوى حينئذ فلا يجوز في الحكمة التزام العمل حسا
والعامل مغلوبا بالمانع حسا فكذلك لا يحسن إلزام العمل
بالحجة والحجة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات.
ج / 2 ص -397-
مغلوبة
مدفوعة بغيرها.
قال: وهذا القول قول بين القولين من التقصير والغلو فقصر
من أنكر وجود الله تعالى بدلالات العقول وحدها وغال من
التزم بالاستدلال بالوحى ولم يعذر بغلبة الهوى وهو من الله
تعالى وقرب من الإنصاف من قال: إن الله تعالى يعرف بدلالات
العقول وحدها ولكن لا يجب فعل الاستدلال إلا بشرع والحق
بالشرع ونفس العقل لا يميز بين امرأة عقلت وحاضت لتسع سنين
وصبى عقل وبلغ أربع عشرة سنة ونصف بل حال الصبى أكمل من
حال البالغة بحيضها بالتسع سنين.
ببينة: أن العاقل لا يرى بناء إلا عرف لها
بانيا ولا يعرف نقشا إلا عرف له ناقشا ولا يعرف صورة إلا
عرف لها مصورا فكيف يعذر بعد رؤية الصورة في جهله بمصورها
وإذا لم يعذر فلا بد أن تقع المعرفة بفاعل الصورة فقد تنبه
بعقله وكيف ينكر هذا والله تعالى يقول حاكيا عن الكفرة:
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وكذلك لا ترى أحدا من الكفار إلا وهو يخبر عن الصانع
إنما كفرهم كان لوصفهم الله تعالى بما لا يليق به من الولد
والشريك وكان كفر بإنكارهم البعث بعد الموت للجزاء وكلامنا
في نفس الجاهل للصانع عن ذكره وكيف يعذر والجهل جاء من
استخفافه بالحجة بعدما لاحت له بلا تمثل فالبناء شاهد على
البانى بلا تمثل في العقول والاستخفاف بالحجة فوق الغفلة
عن سكر يقع بالخمر وأنه لم يعذر فهذا أولى بخلاف أول حالة
العقل لأنه لأول حالة لا يتنبه لما يتنبه له الكبير ألا
بجهد وحرج كالنائم يتنبه فلا يدرك لأول مرة ما يدركه بعد
مدة فانتبه قام أن يعذره الله تعالى رحمة ثم قدر مدة العذر
ولا يعرف ذلك بالعقل.
قال: والدليل على أن التنبيه لا يقع لأول العقل قوله
تعالى:
{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر: 37] ولم يذكر العقل وقال:
{وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] وقيل: إنه السبب.
وقال:
{أَوَلَمْ
يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الروم: 8] ولم يذكر الوحى بل عايبهم على ترك التفكر.
وقال:
{سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] أخبره أنه يريهم الآيات حتى يتبين لهم أنه الحق فثبت أن
اللبس لا يقع إلا بالاستخفاف بالحجة كما يكون بعد دعوة
الرسل.
ج / 2 ص -398-
قال:
وأما قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الزمر: 71] وهو كلام توبيخ فيكون بأظهر الأمور وأعلاها وأما قوله
تعالى: {لِئَلَّا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ
الرُّسُلِ} [النساء: 165] أي حجة نفاذ ولا حجة تقبل وكذلك أخذ الله تعالى
الميثاق لقطع حجة نفاد وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [هود: 117] أى: لم يهلكهم بظلمهم حتى أرسل الرسول وظهر تعنتهم ولو
أهلك لكان عدلا ولكنا أمهلنا إلى حين [.....]1 عذاب الآخرة
أى أخرنا عنهم العذاب إلى بعثة الرسل تأكيدا عليهم كما
جعلناه بعد الحساب والشهود تأكيدا عليهم
ثم نذكر أقسام دلائل العقل الموجبة فقال: منها ما يدرك
بدلائل العقول كحدث العالم ودلالة [.....]2 ما لا يكون
دلالة إلا بجد تأمل ونظر كدلالة العالم على صانع هو الله
تعالى ولهذا اختلف العقلاء في ذلك لا لاختلافهم في استعمال
النظر ولم يختلف في حدث العالم المحسوس.
ومنها: ما لا يكون دلالة إلا بتجربة كمعرفة الأدوية
والأغلبة ولكن إذا دق المطلوب اختلف فيه الشبة.
ومنها: ما لا يكون دلالة إلا بمعرفة الحس كالنجوم على
الطرق والجبال والأميال حتى شاركت البهائم العقلاء في هذه
المعرفة لمشاركتها إيانا فيما يدرك بالحواس.
واعلم أننا بينا المذهب الصحيح من قبل وقد ذكرنا أن العقل
لا يوجب بنصه شيئا ولا يحرمه والذى ذكره فيه ضبط عظيم لأنه
إذا اختار أن الله تعالى يعرف بمجرد العقل فيكون قد ناقض
وارتكب مالا تتجه صحته لأنه إذا عرف بمجرد العقل وقد أعطاه
العقل ولا يحتمل أن يكون واجبا على الخلق فوجب أن يجب عليه
إذا كان قد أصاب العقل الذى هو طريق معرفة الله تعالى
ولأنه إذا حقق دلائل العقول بنفسها فيجب شكر المنعم والنظر
المؤدى إلى معرفة الله تعالى على ما قاله أهل الكلام وقد
مهدوا لهذا قواعد لا بد لمن عرف بها أن يحكم بأن العقل
بنفسه يوجب ولم أحب ذكر ذلك ولأنه ليس مما يتصل بهذا
الكتاب والقول بين القولين إنما يستحب اختياره وسلوك طريق
بين الغالى والمقصر إنما يكون أولى إذا أمكن تمشيته فأما
إذا لم يمكن تمشيته فلا وعلى أنه قد ذكر أن الموجب للإيمان
ليس هو الله تعالى إنما الموجب للإيمان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار ثمان كلمات.
2 بياض في الأصل بمقدار سبع كلمات.
ج / 2 ص -399-
هو
الدلالات التي نصبها في العالم من رفع السماء وبسط الأرض
ونصب الجبال وخلق المنيرين والكواكب وغيرها وقد ذكرنا فساد
هذه المقالة بل الصحيح والذى يليق بحكمة البارى تعالى
ولطفه بخلقه أنه لا يجب الإيمان إلا بعد بعث الرسل وختم
الأمر بالوحى الصادق إلى ما نصب من الدلائل الدالة عليه ثم
بوجود معونته عليه وتوفيقه له فإن معرفة الله تعالى بصفاته
التي هو عليها من أشق المعارف وأعسرها ولهذا ارتبك فيها
أكثر الناظرين وتحيروا والتبس عليهم هذا الأمر بحقيقته
وأيضا فإن عقلهم مشوب بالهوى وتنبههم غير تام لاستيلاء
الغفلة عليهم وفجورهم راجح على تقوتهم فيكون نظرهم بهذه
الأسباب مدخولا وفكرهم وارتيابهم معلولا ولهذا لم يخل
العبد وعقولهم ولهذا لم يوجد أحد يهتدى إلى الحق على ما هو
به بمجرد عقله وظهر لنا أن الحكمة الشرعية مقتضية على ما
مهده واستنه ووضعه وهو إعطاء العقل آلة الإدراك ونزول
الوحى الصادق بالأمر الصادق والتكليف ثم المعونة من الله
تعالى من غير أن يخليه وأمره ويغنيه عن نفسه فإن أغناه عن
نفسه فيما كلفه وأمره ويخليه ومحض معقوله لهلك بل هو مخالف
بما عرف من تفضل الخالق مع خلقه وجوده وكرمه معهم ونظره
لهم وهو الذى قلناه أيضا لا يعرف بمجرد العقل بلا لا يبصر
إلا من أيده الله إليه بنوره ورفع بيده من ارتكابه في
الظلمات ونجاه من المهاوى والمهالك التي هى [.....]1 ويسأل
الله مما لا وجود له إلا به ولا وصول إليه إلا بمعونته
ومنه.
ثم ذكر فصلا في موجبات العقل دينا وقال يعنى بالوجوب:
الوجوب في الذمة حقا لله تعالى لوقوعه علينا لا وجوب
الأداء والتسليم إلى الله تعالى وذكر أن هذه الواجبات
أربعة: معرفة نفسه بالعبودية ومعرفة الله تعالى بالإلهية
ومعرفة العبيد للابتلاء إلى حين الموت بطاعة الله تعالى
للجزاء الوفاق ومعرفة الدنيا وما فيها بالعبيد المبتلين
بضرب يقع يعود إليهم فيها وذكر في هذا قصة طويلة وكلاما
كثيرا فلم أر في ذكرها كبير فائدة فيما يرجع إلى أصول
الفقة ثم ذكر محرمات العقل وجعلها أربعة أيضا: الجهل
والظلمة والعته والسفه وزعم أن الجهل إنما يكون بترك
الاستدلال بنور عقله والعاقل ما ركب فيه العقل إلا ليقف به
على مصالح لا تنال غايتها بالحواس وبه غلب على ما في البر
والبحر واستسخرها وادعى لنفسه كل شئ منها فيحرم بالعقل ما
يفوت به أغراض العقلاء كما يحرم به ترك الأكل الذى فيه
حياته وكما يحرم بالعقل ترك البصر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار سبع كلمات.
ج / 2 ص -400-
بالعين
عند إرادة الشئ إلى موضع يحتاج إليه ويحرم إطفاء السراج مع
إرادته سلوك طريق لا يهتدى إليه بالسراج وإذا حرم الجهل
حرمة الظلم لأن حقيقة الظلم وضع الشئ في غير موضعه فيكون
الظلم مكابرة لما رأى بنور عقله ويكون الأول تركا للرؤية
كالذى لم يفتح عينيه حتى وقع في بئر فيقبح منه ذلك والذى
فتح فرأى البئر ثم أوقع نفسه فيها قصدا كان الفعل منه أقبح
ومثاله من باب الشرع من بلغته الدعوة والمعجزة فلم يتأمل
وكفر كان قبيحا والذى تامل وعرف ورد تعنتا كان أقبح نحو
كفر إبليس وفرعون وقارون حيث جحدوا بعدما اشتدت منة أنفسهم
وأما العبث فيحرم أيضا لأنه اسم لفعل يخلو عن الفائدة لأن
نفس الفعل وإن قل ففيه أدنى مشقة فلا يحتمل عقلا إلا
لفائدة أولى.
ومنها السفه لما أوجب مضرة كان أقبح من الأول لوجوب معنى
الأول فيه من فوت الفائدة وزيادة من ضرر فكان السفه من
العبث كالظلم من الجهل ثم ذكروا أربعة أخرى تحرم بالعقل
وقال هى الإيمان بالطاغوت وكون الخلق للحياة الدنيا
واقتضاء الشهوات فيه والإنكار بالصانع والإنكار بالعبث
للجزاء. وذكر أن الطاغوت كل ما عبد من دون الله وأورد في
هذا فصلا بعباراته ونحن نقول إن الفعل بمجرده لا يوجب شيئا
ولا يحرم شيئا ولا يفصل فيها تفصيلا بوجه ما والأصل أن كل
ما ينال بفعله أو كل ما ينال بالانتهاء عنه السعادة
الأبدية.
قلنا: لايثبت سببا من الأمر به أو النهى عنه إلى مجرد
العقل لما ذكرنا فلا نعيد.
ثم ذكر فصلا في مباحات العقول وهذا قد سبق الكلام فيه وهى
المسألة المعروفة أن الأشياء أصلها على الحظر والإباحة أو
على التوقف عن غير اعتقاد حظر ولا إباحة وهذه المسألة سبقت
بجوانبها وحواشيها فلا نعيد ثم ذكر في آخره فصلا في أحوال
قلب الآدمى قبل العلم وأحواله بعد العلم.
قال: يولد الإنسان وهو بصير كالمجنون في عدم العقل ليس معه
قدرة التمييز الذى بها خواطب الإنسان بهذه العلوم وضده
العاقل لا العالم ثم يصير غافلا [.....]1 عن نور في الصدر
يبصر به القلب الأمور الغائبة عن الحواس إذا نظر الحجج كما
أن العيين إنما تبصر مع نور الهواء إذا نظر فيصير الإنسان
إذا عقل قادرا على البصر لكنه على جهل ما لم يبصر وضد
الجهل العلم ثم ينظر نظرا ضعيفا فيصير شاكا والميل والشك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
ج / 2 ص -401-
ضد
اليقين وذلك كالشئ يبدو للعين إذا نظر إليه بدرا غير قوى
فلا يميز الناظر إليه بين حقيقة وجود الشئ وبين خيال يميل
العين ثم يبصر بعد ذلك نظرا فوق ذلك غير تام فيصير ظانا
والظن في اعتقاد العلم احد وجهى الشك برجحانه على الآخر
بهوى لا بدليل هو دليل على الحقيقة وضد الظن الحق على ما
قال الله تعالى:
{وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم: 28] ثم إذا صار النظر على وجهه وميز بين الدليل وما ليس
بدليل وطلب الرجحان لأحد وجهى الشك بالحجة ورجح ومال القلب
إليه من غير تعلم فذلك مبدأ العلم فغالب الرأى والعلم الذى
يقع بالمقاييس والاجتهادات التي تحتمل الخطأ وأخبار الآحاد
ونحوها من الأدلة المجوزة وهذا يسمى علما لكنه على المجاز
لقيام شبهة الخطأ واحتماله مع هذا الدليل واسمه على الخصوص
من الحق لأنه ثبت عن دليل وضده الظن وإذا ثبت لا عن دليل
لكن بهوى النفس ثم إذا جد في النظر وقعت الإصابة وزالت
الشبهة من كل وجه صار عالما فصار حكم العلم رؤية للقلب
المنظر فيه كرؤية العين المنظور إليه فالعلم للقلب صفة
خاصة كالرؤية للعين وقد تستبعد الرؤية عن العين للقلب
كالرؤية إنما تكون بتبدى المنظور إليه وكذلك العلم يتبدى
المنظور فيه للقلب.
قالوا: واللاعتقاد صفة زائدة للقلب بعد العلم يعلم ثم
يعتقد الإنسان بقلبه على ما رأى.
قال: وقد كان إبليس عالما بالله ولم يكن معتقدا والاعتقاد
بالقلب كالطاعة للبدن يعلم بوجوب الصلاة ثم حمل بها فيكون
الاعتقاد تصديقا بقلبه على ما علم وإن ترك الاعتقاد كان
تكذيبا لقلبه.
قال: ثم العلم الأول ما يقع للقلب يكون رؤية بالقلب فإذا
دامت الرؤية وزال الاضطراب صار العلم معرفة كالغريب إذا
دخل بلدة وصحب أهلها تثبت بينهم المعرفة وإن كان قد ثبت
العلم باول رؤية ولهذا يقال للبهائم عرفت كذا ولا يقال
علمت كذا لأنها لا تعرف شيئا إلا بالعيان الذى يزيل كل
اضطراب والعلم ما يكون [إلا]1 بنظر القلب والاستدلال الذى
هو دون العيان حتى إذا زال الاضطراب بدوام الصحبة قبل
المعرفة وضد المعرفة نكرة وضد العلم الجهل ويقال علمت
فلانا ولكنه ليس من معارفى إذا لم يكن بينهما صحبة فعلمنا
أن المعرفة فوق العلم بزيادة صفة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 زيادة ليست في الأصل.
ج / 2 ص -402-
للصحبة
للقلب لا زيادة درجة الثبوت فإنهما سببان في اليقين ثم
العلم بعدما يصير معرفة يتنوع إلى ضربين: علم الظاهر دون
المعنى والباطن الذى فيه الحكمة وعند تأيد القلب به يصير
معقولا له ويجرى مجرى الطبيعة فمتى نظر بدلالة عقلية وقف
على الباطن [وتأيد]1 القلب به بعد ما اطمأنت إليه [.....]2
فقهاء والفقه على ضربين ضرب علم أصيب باستنباط المعنى وضد
الفقيه صاحب الظاهر وهو الذى يعمل بظاهر النصوص من غير
تأمل في معانيها ولا يرى القياس حجة ولو كان العلم والفقه
سواء لكان ضد الفقيه هو الجاهل لا عالم يعلم نوعا من العلم
فإلى هذا تناهى حد العلم فيرى القلب أول ما يرى بغالب أنه
من غير يقين فيميل إليه ثم تزول الشبهة فيصير علما حقيقة
ثم ينزل علمه فيصير معرفة ثم ينظر في معناه وحكمته فيقف
عليها فيصير فقها وقد فسر عبد الله بن عباس الحكمة بالفقه
في جميع القرآن ولهذا نص بهذا الاسم العلماء الذين يرون
القياس حجة لأن القياس لا يكون إلا بالوقوف على المعانى
الباطنة غير أن الله تعالى يوصف بالعلم ولا يوصف بالمعرفة
والفقه
لأن العلم يبتدى المعلوم للعالم على حقيقته والله تعالى لا
يخفى عليه شئ فكان عالما والفقه والمعرفة اسمان إلى العلم
على ما مر ذلك وليس لله تعالى أحوال في صفاته وأسمائه
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ولا علم لنا إلا عن دليل
والدليل قد يكون حسيا وقد يكون عقليا فالحسيات تشارك
البهائم الأدميين في المعرفة الواقعة بها فإنها تعرف
أولادها وأحبائها ومراحها ومسرحها لأن لها حواس كما في
الآدميين إنما يفارق الآدمى غيره فيما لا يعرف إلا بدلائل
العقل إلى آخر ما ذكره.
وهذه الكلمات لا بأس بها وقد تمهدت لنا أصول وقواعد في
الديانات بفروعها فما استقام عليها قبلناها وما لا يستقيم
عليها رددناها والله الموفق للأرشد والأصوب.
وذكر بعضهم فصلا في تباين ما خص الله تعالى الآدمى بها.
قال: ومنها: الذمة اختص بها الآدمى من بين سائر الحيوانات
وسميت رقبة الآدمى الحر ذمة وإنما سميت رقبته ذمة لأن
الذمة عبارة عن العهد والحرية ولهذا سمى الكافر المعاهد
ذميا لأنه ذو عهد وحرمة والله تعالى جعل الآدمى ذا حرمة
عظيمة وشرفه على سائر الحيوانات ولما صارت رقبة الآدمى
الحر محترمة كانت محلا لوجوب الحقوق له
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كلمة غير مقروءة بالأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
ج / 2 ص -403-
وعليه
من الحقوق فيقال: وجبت الحقوق في ذمته وذكروا على هذا في
مسألة الميت المفلس وعندي أن هذه القاعدة ليست بشئ والرقبة
لا تكون ذمة وإنما الذمة عبارة عن محل الوجوب فحسب وقد جعل
الله تعالى الآدمى بمحل أن يجب له وعليه ثم عبر عن محل
الوجوب بالذمة ولا يمكن أن يعبر بأكثر من هذا ومما وراء
هذا القدر كله فضول من الكلام.
قال: ومنها الملك اختص الآدمى بملك الأموال وبملك النكاح
من بين سائر الحيوانات فإنه ليس بشئ من الحيوانات يملك سوى
الآدمى وهو نوع شرف للآدمى حتى التحق بسبب تلك الحرمة
بالأحرار والملوك في الآخرة وإن كان عبدا خلقه والملك
عبارة: عن قدرة حكمية. يقال: ملك فلان أكل الطعام وملك
الشئ إذا قدر عليه وهذه القدرة الحكمية هي القدرة على
التصرفات المشروعة المباحة والملك صفة الملك على الحقيقة
وقد يوصف به المملوك أيضا يقال لفلان ملك في هذه العين
وإنما وصف المملوك به لأن الملك ثبت للمالك لمعنى في
المملوك وهو المالية فاتصف المملوك به لكونه سببا.
ومنها: الولاية وهى عبارة عن القدرة الحكمية وهى القدرة
على التصرفات وهى قدرته على أداء الشهادات وتعبد الأحكام
وفعل العقود فمتى كان الإنسان أهل الولاية على غيره
بالأسباب التي جعلها الشرع أسبابا وتلك الأسباب السلطنة
والقرابة وغير ذلك والولاية حق المولى لأن المولى عليه هو
المتنفع بها.
ومنها [.....]1 فإن الآدمى يدا حكمية كما له يد محسوسة وهى
عبارة عن القدرة على الحفظ يقال هذا الشئ في يد فلان أى هو
القادر على حفظه.
قال: ومنها ملك اليد وهى عبارة عن ثبوت ولاية الحفظ
فللمرتهن ملك اليد وكذلك المودع لأن لكل واحد منهما ولاية
الحفظ.
قال: العبد أليس له ملك يمين وله ملك نكاح وهذا التفريق
بالشرع لأن ملك اليمين يثبت للحاجة ولا حاجة للعبد إلى
إثبات الملك له فلا يثبت وله حاجة إلى إثبات ملك النكاح
فثبت وهو أيضا قدرة شرعية مخصوصة تثبت بسبب مخصوص.
قالوا: وأما الرق عبارة عن الضعف الحكمى الذى به يصير
الآدمى محلا للتملك وما هو بعقوبة لكنه سبب يحمل الكافر
على الإسلام لأن حرمان القوة الحقيقة لا تثبت عقوبة وكذلك
حرمان القوة الحكمية لا تكون عقوبة
ولهذا نقول: إن الرق لا يدخل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
ج / 2 ص -404-
تحت
الملك لأن الضعف الحقيقى لا يتصور دخوله تحت الملك كذلك
الضعف الحكمى ولهذا يجوز استرقاق الصبى والمجنون وهما لا
يعاقبان في الدنيا.
وقول من قال: إنهما يسترقان ليس بصحيح لأن الاتباع في
العقوبة غير مشروع فلا يمكن أن يقال: إنهما يعاقبان به.
قال: وأما الكافر فله ملك يمين وملك نكاح وله جميع
الولايات في حق الكفار لمساس الحاجة إليها وهو مرقوق مال
فإنه غرضه التمليك بالأسباب كالصيود والجمادات. وأما
المالية فهى غير الملك والرق وهى عبارة عن منافع ذات غير
العين وكل عين ينفع به غير الآدمى الحر فهو مال لأن الله
تعالى جعل الآدمى مالك الأموال يستحيل أن يكون مالا ولهذه
الأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها بنفسها وهو مما لا يضمن
بها كحبة حنطة وشعير وكسرة خبز وقطرة ماء.
قال: وأما الأشياء التي حرمها الشرع ومنع الناس من
الانتفاع بها إن كان شيئا يرغب الناس في إمساكه للانتفاع
به في حالة يباح الانتفاع يكون مالا كالخمور وجلود الميتات
فإن الناس يضنون بها لينتفعوا بها في [ثانى]1 الحال فيكون
مالا لأن المال ما يميل طباع الناس إليه ولهذه سمى مالا
وطباع الناس تميل إلى هذه الأشياء لمنافع تظهر لها في ثانى
الحال فيكون مالا مثل الأطفال والجحوش للحمر والمهر
للأفراس وأما الميتات والعذرات وما لا يقصد الناس إلى
إمساكه فليس بمال وأما الحر فهو مال في حق الكفار وأما في
حق المسلمين يجب أن لا يكون مالا وأما الصيود في البرارى
فهى مال وهذه كلمات تكلمنا عليها في الخلافيات.
وعندنا الرق والمالية بمعنى واحد إلا أن المالية والملك في
الآدمى يسمى رقا ولأن الرق يدخل تحت الاستحقاق ويدخل تحت
الإثبات عن الآدمى ويدخل تحت الإسقاط بالعتق فيكون حقا
ثابتا لبنى آدم مثل سائر الحقوق والباقى قد تكلمنا عليه.
ثم ذكر فصلا في انعقاد العقود الشرعية وحكى عن بعضهم أن
الانعقاد هو أن [يأتى]2 أحد العاقدين بكلام [.....]3 وهو
كلام البائع بكلام المشترى في الشراء وسائر العقود من حيث
الشرع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل [حال] ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 بياض في الأصل ولعله ما أثبتناه.
3 بياض في الأصل.
ج / 2 ص -405-
وقال
بعضهم: انعقاد العقد هو اعتبار الكلام من حيث الشرع في
الحكم الموضوع للعقد شرعا وبنى على هذا مسألة توقف العقد
[.....]1 الانعقاد موجود في حق المتعاقدين ثم ذكر فصلا في
بقاء العقد وقال: زعم بعضهم أن العقد يبقى بعد الفراغ.
وقال بعضهم: لا يبقى واحتج من قال لا يبقى بأنه كلام مضى
وانقضى لا يتصور بقاؤه والأصل أن ما لا يبقى حقيقة لا يبقى
[.....]2 بدليل قاطع والأصح أنه يبقى لحاجة الإنسان إلى
بقائه وأعرض على هذا وقال: لا حاجة بالناس إلى بقاء العقد
لأن الحكم لا يبقى بلا بقاء السبب لأن ما وجد يبقى إلى أن
يوجد ما يقطعه.
ويجاب عن هذا فيقال: في البقاء حاجة لأن الحاجة تقع إلى
فسخ العقد كما تقع إلى نفس فعله وفسخ الحكم لا يمكن إلا
بعد فسخ العقد لأن الحكم غير منعقد حتى يمكن فسخه وتقضه
فأما الحكم فيثبت شرعا فكيف يتصور نقضهما له ولأن العاقدين
ينصان على فسخ العقد لا على فسخ حكمه ولذلك القاضى يفسخ
عقودا كثيرة بأسباب شرعية وما لا يتحقق بقاؤه لا يتصور
فسخه ولأن التولية صحيحة من العاقد وما لم يبق العقد لا
يصح التولية.
قال: والحكم يبقى العقد ببقاء المحل.
والأصل أن ما ثبت في المحل يبقى ببقاء المحل ولهذا نقول:
إن الزيادة في الثمن والمثمن في حال قيام المعقود عليه
يكون جائزا لقيام المحل حتى إذا هلك المحل ارتفع العقد
لأنه لا يتصور بقاء العقد من غير محل يتعلق به.
قال: ويبتنى على هذا جواز تغيير العقد من وصف إلى وصف
لبقائه وذلك في مسألة زيادة الثمن وذكر اختلافهم في توريث
العقد فزعم بعضهم أنه يورث العقد لبقائه حكما وتعلقه
بالمحل.
وزعم بعضهم أنه لا يورث لأنه كلام قائم بالمتكلم فلا يورثه
وذكر مسألة خيار الشرط أنه هل يورث أو لا؟ واستدل في أنه
لا يورث3 بأن الإرث إنما يكون فيما يبقى بعد الموت ومن له
الخيار يعجز عن التصرف بحكم الخيار في آخر جزء من أجزاء
حياته فيبطل خياره ويبرم العقد لأن الأصل أن من له الخيار
متى عجز عن التصرف بحكم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات
2 بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات
3 وهو مذهب الأحناف انظر الهداية "3/34".
ج / 2 ص -406-
خياره
يبطل خياره ويبرم العقد ولأن الخيار ليس إلا تخيره في
إثبات حكم العقد في مدة الخيار وتخيره قائم به وما يقوم
بالمورث لا يورث ونحن نقول: إن العقد قائم والفسخ يتناوله
والإرث ثابت فيه وثابت في الخيار المتعلق به1 وقد تكلمنا
في هذا بما فيه الغنية ثم ذكر فصلا في الانفساخ العقود
الشرعية.
قال: والانفساخ ضد الانعقاد فعند بعضهم يكون الانفساخ
انفساخ الكلامين.
وعند بعضهم: يكون الانفساخ هو خروج الكلام من كونه معتبرا
في حق الحكم المشروع له قال: ومن العقود ما يقبل الفسخ
بالإجماع كالبيع والهبة والإجارة والصرف والسلم والرهن
والوديعة والعارية ومنها: ما لا يقبل الفسخ وهو الطلاق
والعتقا والخلع والصلح عن دم العمد فإن العقد لا يبقى في
هذه المواضع بعد وجوده [.....]2 ثم الذى يقوم به عقد
الطلاق وهو ملك النكاح وحل المحلية فإن الطلاق يسقط وملك
النكاح وحل المحلية [.....]3 النكاح وحل المحلية لا يبقى
بعد السقوط والمعقود عليه الذى يقوم به عقد العتاق وهو ملك
المال وذلك باطل [.....]4 والباطل غير باق وكذلك المنتهى
غير موجود بعد الانتهاء والمعقود عليه في الخلع أيضا ما هو
المعقود عليه في الطلاق والمعقود عليه الذى يقوم به الصلح
عن دم العمد هو ملك القصاص وذلك يسقط ولا يبقى فيما لم يبق
المعقود عليه في هذه المواضع لم يبق [..... إذا]5 لم يبق
العقد لم يمكن فسخه وأما النكاح: قال: عندنا لا يقبل الفسخ
وعند الشافعى رضى الله عنه يقبل لأن العقد قائم لقيام
المعقود عليه وهو منافع البضع فيقبل الفسخ كالإجارة.
قال: وأما عندنا لا يقبل الفسخ لأن عقد النكاح إنما انعقد
باعتبار الحاجة مع وجود ما ينافى العقد وهو الحرمة لأن
الحرمة تنافى انعقاد سبب الملك وتنافى الأملاك فيكون
النكاح منعقدا فيما فيه حاجة ولا يكون منعقدا فيما لا حاجة
فيه ولا حاجة إلى الانعقاد في حق الفسخ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مذهب الشافعية انظر روضة الطالبين "3/441".
2 بياض في الأصل بمقدار ست كلمات.
3 بياض في الأصل
4 بياض في الأصل بمقدار سبع كلمات.
5 بياض في الأصل بمقدار ثلاث كلمات
ج / 2 ص -407-
قال:
وفى الأمة إذا أعتقت يثبت الخيار ولا يكون ذلك فسخا بل
العقد غير منعقد في نصف الملك فقد كان العقد منعقدا في نصف
الحل ولم يكن منعقدا في النصف فلا ينعقد في هذا النصف إلا
برضاها.
وقال في حق الصغير والصغيرة إذا بلغا ذلك العقد غير منعقد
في حق صفة الملك وهو صفة التمام واللزوم وكانت ولاية هؤلاء
ناقصة غير تامة وكان العقد كذلك فعند البلوغ برضاهما ينعقد
في حق الوصف فكان لهما أن لا يرضيا بالانعقاد في حق الوصف
ولا يبطل في الأصل لعدم الانعقاد في حق الوصف لأنه لو بطل
في حق الأصل لصار تبعا للوصف في البطلان وهذا لا يجوز.
ثم ذكر أن العقد ينفسخ تارة ويرتفع تارة وينتهى أخرى.
قال: وهى ثلاثة أشياء: انفساخ وارتفاع وانتهاء. وكل واحد
غير صاحبه فالانفساخ والانتفاض نظيران والإرتفاع والفوات
نظيران والإجارة تمضى مدتها تنتهى وكذلك النكاح بموت أحد
الزوجين أو بموتهما ينتهى وكذلك البيع بهلاك المعقود عليه
بعد القبض ينتهى والبيع إذا انتهى بالموت أو النكاح انتهى
بالموت لا يبقى كما النمو إذا انتهى ببلوغه غايته لا يبقى
النمو.
قال: وأما إقالة البيع فهى فسخ في حق العاقدين مع جديد في
حق غيرهما وكذلك الرد بالعيب بعد القبض بالتراضي.
وأما الرد بالعيب قبل قبض المبيع فهو فسخ في حق كافة الناس
وكذلك إذا [قضى]1 القاضى بالرد بالعيب فهو فسخ على العموم
سواء كان قبل القبض أو بعد القبض وهذا كله مذهبه.
فأما عندنا فالإقالة2 فسخ3 في حق الناس كافة وذلك لأن
العاقدين بالإقالة يعضدان فسخ العقد وفسخ العقد مملوك لهما
فثبت الفسخ في حق الناس كافة كما إذا كان قبل القبض أو كان
الفسخ بقضاء القاضى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل [أقضى] ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 الإقالة هي أن يقول المتبايعان: تقايلنا أو تفاسخنا أو
يقول أحدهما: أقلتك فيقول الآخر: قبلت وما أشبهه انظر روضة
الطالبين "3/594".
3 ومسألة: كون الإقالة فسخا أو بيعا قولان عند الشافعية.
أظهرهما فسخ وقيل: القولان في لفظ الإقالة انظر روضة
الطالبين "3/495".
ج / 2 ص -408-
والدليل على أن الفسخ مملوك لهما ثبوت الفسخ في حقهما وقد
ذكر هذا الرجل كلام أصحابه في أن الإقالة فسخ [.....]1 على
أنفسهما ولا ولاية لهما على غيرهما وقد وجد تناقل الملك
بالتراضى وكان [.....]2 وأما قبل القبض فلا يمكن بجعله
بيعا جديدا فلا بد أن يكون فسخا في حق الناس [.....]3 لأن
له ولاية على الناس كافة فلا يمكن أن يجعل فسخا في حق
[.....]4.
وأما عندنا فنقول: يعتبر قصد المتعاقدين فماذا [.....]5
وإذا قصد الفسخ يكون فسخا [.....]6 فصل صحيح يشهد له كل
الأصول فإن العقود والفسوخ مرتبة على [.....]7 والفاسخين
وأما التفريق بين المتعاقدين وغير المتعاقدين شئ عجب لا
يعرف لذلك معنى بحال.
وأما الذى قال أن لهما ولاية على أنفسهما.
قلنا: [إن حكم]8 العقود والفسوخ راجعة إلى المتعاقدين وإن
رجع إلى غير المتعاقدين فذلك يكون على النادر وإذا كان
المعقود فسخا في حق المتعاقدين فلا بد أن يكون فسخا في حق
غيرهما.
وحين انتهينا إلى هذا الموضع تم المقصود في هذا الفصل الذى
أوردنا فيه كلام الخصوم في المسائل التي أشرنا إليها
وتكلمنا عليها بما سنح له الوقت وجاد به الخاطر وتمام ذلك
في خلافيات الفروع وقد ذكرنا أكثر ذلك في المصنف الذى
صنفناه فيه فمن أراد أكثر مما قلنا فليرجع إليه فيه والله
تعالى المعين على ذلك والمرشد إلى الصواب والحق وهو خير
معين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض في الأصل بمقدار عشر كلمات.
2 بياض في الأصل بمقدار ثمان كلمات.
3 بياض في الأصل بمقدارخمس عشرة كلمة.
4 بياض في الأصل بمقدار عشرين كلمة.
5 بياض في الأصل بمقدار ثمان كلمات.
6 بياض في الأصل بمقدار كلمتين.
7 بياض في الأصل بمقدار خمس كلمات.
8 بياض في الأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.
ج / 2 ص -409-
وتم
الكتاب المبارك بحمد الله تعالى ومنه وصلواته على محمد خير
خلقه وأله وصحبه أجمعين على يد أضعف العباد وأحوجهم أحمد
بن عبد الله المصرى تعليقا بحسب الطاقة بتاريخ خامس عشر ذى
الحجة الحرام من شهور سنة خمس عشر وثمان مائة أحسن الله
عاقبتها وغفر للكاتب وللقارئ وللمجتهد ولجميع المسلمين
أجمعين آمين1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد انتهينا بفضل الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد
ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد من تحقيق وضبط هذا النص بعد
عمل دام سنة ونصف فخرج على هذا النحو الضعيف الحقير فنسأل
الله العفو والعافية.
طالب العلم: أبو عبد الله محمد حسن محمد حسن إسماعيل
الشافعي الشهير بـ [محمد فارس] |