قواطع الأدلة في الأصول

ج / 2 ص -302-       القول في الاجتهاد وما يتصل به
وبيان قولنا: إن الحق في قول واحد من المجتهدين وأن الباقى خطأ متروك.
اعلم أن الاجتهاد1 وهو بذل الجهد في استخراج الأحكام من شواهدها الدالة عليها بالنظر المؤدى إليها.
وقال بعضهم: الاجتهاد هو طلب الحق بقياس وغير قياس.
وقال بعضهم: ما اقتضى غالب الظن في الحكم المقصود.
وقال بعضهم: طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه2.
وهذا الأخير أليق بكلام الفقهاء.
ثم اعلم أن المخاطب بالاجتهاد أهله وهم العلماء دون العامة فإذا نزلت بالعالم نازلة وجب عليه طلبها في النصوص والظواهر في منطوقها إلى مفهومها ومن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم وإقراره وفى إجماع علماء الأنصار فإن وجد في شئ من ذلك ما يدل عليه قضى به وإن لم يجده طلبه في الأصول والقياس عليها وبدأ في طلب لعلة بالنص فإن وجد التعليل منصوص عليه عمل به فإن لم يجد في النص عدل إلى المفهوم فإن لم يجد نظر في الأوصاف المؤثرة في الأصول في ذلك الحكم والمؤثر ما بيناه من قبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال: الشيخ الفيروزآبادي: والتجاهد بذل الوسع كالاجتهاد انظر القاموس المحيط "1/286".
2 وقد عرفه العلماء بتعريفات أخرى:
فعرفه الرازي بأنه: تفريغ الوسع في تحصيل المقصود انظر المحصول "2/489".
وعرفه إمام الحرمين بأنه: تفريغ الوسع في تحصي المقصود انظر الكافية في الجدل ص 58.
وعرفه الآمدي بأنه: استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه اليحس من النفس العجز عن المزيد فيه. انظر إحكام الأحكام "4/218".
وعرفه الغزاليبأنه: بذل الجهد واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال. انظر المستصفى "2/350".
وعرفه البيضاوي بأنه: استفراغ الجهد في درك الأحكام الشرعية. انظر نهاية السول "4/524".
وعرفه صاحب حاشية التلويح على التوضيح: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. انظر التلويح "2/117".

 

ج / 2 ص -303-       وقد قيل: إن الاجتهاد في حق العلماء على ثلاثة أضرب:
فرض على العين وفرض على الكفاية وندب.
أما فرضه على الأعيان ففى حالتين:
إحديهما: اجتهاده في حق نفسه فيما نزل به لأن العالم لا يجوز أن يقلد في حقه ولا في حق غيره.
والحالة الثانية: اجتهاده فيما تعين عليه الحكم فيه فإن ضاق وقت الحادثة كان فرضها على الفور وإن اتسع وقتها كان فرضها على التراخى.
وأما فرضه على الكفاية ففى حالتين:
إحديهما
: في حق المستفتى إذا نزلت به حادثة فاستفتى أحد العلماء كان فرضها متوجها على جميعهم وأخصهم بفرضها من خص بالسؤال عنها فإن أجاب هو عنها أو غيره سقط فرضه عن جميعهم فإن أمسكوا مع ظهور الصواب لهم أثموا وإن أمسكوا مع القياسة عليهم عذروا وإن كان فرض الجواب باقيا عند ظهور الصواب.
والحالة الثانية: أن يتردد الحكم بين قاضيين مشتركين في النظر فيكون الاجتهاد مشتركا بينهما فأيهما انفرد بالحكم سقط فرضه عنه.
وأما الندب ففى حالتين:
إحديهما: فيما يجتهد فيه العالم من غير النوازل ليسبق إلى معرفة حكمه على نزوله.
والحالة الثانية: أن يستفتيه سائل قبل وقوعها به فيكون الاجتهاد في الحالتين ندبا.

"فصل"
وإذا عرفنا حقيقة الاجتهاد فنذكر: من يجوز له الاجتهاد. فنقول:
صحة الاجتهاد تكون بمعرفة الأصول الشرعية ومعرفتها بستة شروط:
أحدها: أن يكون عارفا بلسان العرب من لغة وإعراب وموضوع خطأهم في الحقيقة والمجاز ومعانى كلامهم في الأوامر والنواهى والعموم والخصوص إلى غير ذلك1

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "4/551, 255" سلم الوصول "4/551" انظر المحصول "2/498" إحكام الأحكام "4/225" جمع الجوامع ومعه شرح الجلال "2/379" انظر المستصفى "2/351" فتح الغفار بشرح المنار "3/34"انظر أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/227".

 

ج / 2 ص -304-       لأن السمع في شرع الإسلام ورد بلسان العرب لأنه مأخوذ من الكتاب والسنة وهو ما ورد بلسان العرب قال الله تعالى في الكتاب: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195] وقال عز من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم: 4].
فإن قيل: قد كان من تقدم من الأنبياء مبعوثا إلى قوم خاصة فجاز أن يكون مبعوثا بلسانهم ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الأمم فلم صار مبعوثا بلسان بعضهم؟.
قلنا: لا يخلو إما أن يكون مبعوثا بلسان جميعهم وهذا خارج عن العرف والمعهود من الكلام ويبعد بكل محل أن يرد كل كلمة من القرآن مكررا بكل الألسنة وإذا لم يجز هذا وكان لابد أن يكون بلسان بعضهم كان لسان العرب أحق من كل لسان لأنه أوسع وأفصح ولأنه لسان أول المخاطبين ومعرفة لسان العرب فرض على العموم في جميع المكلفين إلا أنه في حق المجتهد على العموم في إشرافه على العلم بألفاظه ومعانيه أما في حق غيره من الأمة خاص في ما ورد التقيد به في الصلاة من القراءة والأذكار لأنه لا يجوز بغير العربية.
فإن قيل: إحاطة المجتهد بجميع لسان العرب ممتنع لأن أحدا من العرب لا يحيط بجميع لغاتهم وكيف يحيط؟ ولأن الإحاطة بجميعه شاغل من الاشتغال بغيره.
قيل: لسان العرب وإن لم يحط به واحد من العرب فإنه يحيط به جميع العرب.
كما قيل لبعض أهل العلم: من يعرف كل العلم. قال: كل الناس والذى يلزم في حق المجتهد أن يكون محيطا بأكثر كلام العرب ويرجع فيما عزب عنه إلى غيره وهو كما أن جميع السبب لا يحيط به أحذ من العلماء وإنما يحيط به جميع العلماء فإذا كان المجتهد محيطا بأكثرها صح اجتهاده ويرجع فيما عزب عنه إلى من يعلمه فكذلك ها هنا.
وأما الشرط الثاني: هو أن يكون مشرفا على ما تضمنه الكتاب من الأحكام الشرعية من عموم وخصوص ومبين ومجمل وناسخ ومنسوخ بنص أو فحوى أو ظاهر أو مجمل1 ليستعمل النص فيما ورد والفحوى فيما يفيده والظاهر فيما يقتضيه والمجمل يطلب المراد منه فإذا كان عالما بأحكام القرآن هل يشترط أن يكون حافظا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر نهاية السول "4/547" انظر جمع الجوامع شرح الجلال "2/383" فواتح الرحموت "2/363" المستصفى "2/350" إحكام الأحكام "4/220" المحصول "2/497" فتح الغفار بشرح المنار "3/34" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/226".

 

ج / 2 ص -305-       لتلاوته: فذهب كثير من أهل العلم إلى أنه يلزم أن يكون حافظا للقرآن لأن الحافظ أضبط لمعانيه من الناظر فيه1.
وقال آخرون: لا يلزمه حفظ تلاوته ويجوز أن يقتصر على مطالعته والنظر فيه كما في السنن2.
وقال آخر: ويجب عليه أن يحفظ ما اختص بالأحكام ولا يلزمه أن يحفظ منه القصص والأمثال والزواجر.
وأما الشرط الثالث: هو بعرفة ما تضمنته السنة من الأحكام وعليه فيها خمسة شروط.
أحدها: معرفة طرقها من تواتر وآحاد ليكون المتواتر معلومة والآحاد مظنونه.
والثاني: معرفة صحة طرق الآحاد ومعرفة رواتها ليعمل بالصحيح منه ويعدل عن ما لا يصح منه.
والثالث: أن يعرف أحكام الأفعال والأقوال ليعلم بما يوجبه كل واحد منهما.
والرابع: أن يحفظ معانى ما انتفى الاحتمال عنه ويحفظ ألفاظ ما دخله الاحتمال ولا يلزمه حفظ الأسانيد وأسماء الرواة إذا عرف عدالتهم.
والخامس: ترجيح ما يعارض من الأخبار ليأخذ ما يلزم العمل به3.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الأسنوي في نهاية السول فقال: لاجرم أن القيرواني في المستوعب نقل عن الشافعي أنه يشترط حفظه جميع القرآن وهو مخالف لكام الإمام من وجهين. انظر نهاية السول "4/549".
وقد علق الشيخ محمد بخيت المطيعي في حاشيته على نهاية السول فقال: أقول أي ماقاله القيرواني في المستوعب يخالف كلام الإمام من جهة اشتراط الحفظ وقد علمت أنه لا يشترط الحفظ بل يكفي معرفة الواضع ومن جهة اشتراط جميع القرآن وقد علمت أنه لا يشترط فليس ما قاله القيرواني مخالفا لكام الإمام فقط بل هو مخالف لكلام أكثر الأصوليين ممن تقدمه وممن تأخر عنه ولذلك لم يعول عليه صاحب جمع الجوامع وغيره ممن تأخر عن الأسنوي لا فرق بين الحنفية والشافعية انظر حاشية الشيخ محمد بخيت المطيعي على نهاية السول "4/549".
2 وقول الجمهور: أن يعرف ما تعلق بالأحكام وهو خمسمائة آية ولا يشترط أن يحفظها عن ظهر قلب بل يكفي أن يكون عارفا بمواقعه حتى يرجع إليه في وقت الحاجة. انظر نهاية السول "4/548" سلم الوصول "4/548" المحصول "2/497" المستصفى "2/350" فواتح الرحموت "2/363" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/446".
3 ولا يشترط فيها الحفظ ولا معرفة ما يتعلق من الأخبار بالمواعظ وأحكام الآخرة. انظر نهاية السول "4/549, 550" سلم الوصول "4/549, 550" إحكام الأحكام "4/220" المحصول "2/498" فواتح الرحموت "2/363" المستصفى "2/351" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/226".

 

ج / 2 ص -306-       وقال بعض أصحابنا: إذا عرف من اللغة ما يعلم به مراد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة والخطاب الوارد فيهما وعرف موارد الخطاب ومصادره من الكتاب والسنة والحقيقة والمجاز والأمر والنهى والعام والخاص والمجمل والمفصل والمنطوق والمفهوم والمطلق والمقيد وعرف الناسخ والمنسوخ وعرف أحكام النسخ فهذا القدر كاف وهذا هو الأولى في الشرائط التي سبق ذكرها.
وأما الشرط الرابع: هو معرفة الإجماع والاختلاف وما ينعقد به الإجماع وما لا ينعقد به الإجماع1 وما يعتد به في الاجماع ومن لا يعتد به في الإجماع ليتبع الإجماع ويجتهد في الاختلاف.
وأما الشرط الخامس: هو معرفة القياس والاجتهاد2 والأصول التي يجوز تعليلها وما لا يجوز تعليلها والأوصاف التي يجوز أن يعلل بها وما لا يجوز أن يعلل بها وترتيب الأدلة بعضها على بعض ومعرفة الأولى فيها فيقدم الأولى ويؤخر ما لا يكون أولى ويعرف وجوه الترجيح ليقدم الراجح على المرجوح
وأما الشرط السادس: فهو أن يكون ثقة مأمونا غير متساهل في أمر الدين3.
فإذا تكاملت هذه الشروط في المجتهد صح اجتهاده في جميع الأحكام وإن لم يوجد واحد من هذه الشروط خرج من أهلية الاجتهاد وليس يعتبر في صحة الاجتهاد أن يكون رجلا ولا أن يكون حرا ولا أن يكون عدلا وهو يصح من الرجل والمرأة والحر والعبد والفاسق وإنما تعتبر العدالة في الحكم والفتوى فلا يجوز استفتاء الفاسق وإن صح استفتاء المرأة والعبد ولا يصح الحكم إلا من رجل حر عدل فصارت شروط الفتيا أغلظ من شروط الاجتهاد بالعدالة لما تضمنه من القبول وشروط الحكم أغلظ من شروط الفتيا بالحرية والذكورية لما تضمنه من الإلزام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ولا يشترط حفظ تلك المسائل انظر نهاية السول "4/550" سلم الوصول "4/550" المحصول "2/489" فواتح الرحموت "2/363" المستصفى "2/351" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/226".
2 انظر نهاية السول "4/551" سلم الوصول "4/551" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/226".
3 وهو من شروط قبول الفتوى.

 

ج / 2 ص -307-       واعلم أن الثقة والأمانة في أن لا يكون متساهلا في أمر الدين فلابد منه لأنه إذا لم يكن كذلك لا يستقصى النظر في الدلائل ومن لا يستقصى النظر في الدلائل لا يصل إلى المقصود وأما الذى ذكره الأصحاب أنه لا تعتبر العدالة فيجوز أن يكون المراد ما وراء هذا وأما هذا القدر فلابد منه وقد ذكر المتكلمون كلاما في شرائط الاجتهاد على غيرهذا الوجه وهذا الذى قلناه كلام االفقهاء وهو الصحيح وحين عرفنا صفة المجتهد فنذكر صفة أقوال المجتهدين إذا اختلفوا فيما بينهم.
مسألة
قد بينا حد الاجتهاد ويمكن أن يعبر عن ذلك فيقال هو استفراغ الوسع وبذل المجهود في طلب الحكم الشرعى.
واعلم أن الأحكام ضربان: عقلى وشرعى والأولى أن يقال: أصول وفروع.
فأما أصول الدين فالحق في قول واحد منهما والثانى باطل قطعا.
وحكى عن عبد الله بن الحسن العنبرى أنه قال: كل مجتهد في الأصول مصيب1.
وكان يقول في مثبتى القدر: هؤلاء عظموا الله.
ويقول في نافى القدر: هؤلاء نزهوا الله.
وقد قيل: إن هذا القول منه في أصول الديانات التي يختلف فيها أهل القبلة ويرجع المخالفون فيها إلى آيات وآثار صحيحة للتأويل كالرؤية وخلف الأفعال وما أشبه ذلك.
وأما ما اختلف فيه المسلمون وغيرهم من أهل الملل كاليهود والنصارى والمجوس فإن في هذا الموضع نقطع بأن الحق فيما يقوله أهل الإسلام وينبغى أن يكون التأويل على هذا الوجه لأنا نظن أن أحدا من هذه الأمة [لا بد أن]2 يقطع بتضليل اليهود والنصارى والمجوس وأن قولهم باطل قطعا ولأن الدلائل القطعية قد قامت لأهل الإسلام في بطلان قول هؤلاء الفرق والدلائل القطعية توجب الإعتقاد القطعى فلم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قول الجاحظ وهما محجوجان بالإجماع انظر نهاية السول "4/558" إحكام الأحكام "4/239" البرهان "2/1316" المستصفى "2/354" فواتح الرحموت "2/376" المحصول "2/500" جمع الجوامع ومعه حاشية الجلال "2/288".
2 زيادة ليست في الأصل لابد منها لصحة الكلام.

 

ج / 2 ص -308-       يكن بد من القول بأنهم ضالون مخطئون قطعا وإذا ثبت هذا فيما يخالفنا أهل الملل فكذلك فيما يخالفنا فيه القدرية والمجسمة والجهمية والروافض والخوارج وسائر من يخالف أهل السنة لأنا نقول إن الدلائل القطعية قد قامت لأهل السنة على ما يوافق عقائدهم فثبت ما اعتقدوه قطعا فحكم ببطلان ما يخالفه قطعا وإذا حكمنا ببطلان ذلك قطعا ثبت أنهم ضلال ومبتدعة ونذكر مشروع هذا الكلام ومدخله على وجه آخر فنقول: إن الاختلاف بين الأمة على ضربين اختلاف يوجب البراءة ويوقع الفرقة ويرفع الألفة واختلاف لا يوجب البراءة ولا يرفع الألفة فالأول كالاختلاف في التوحيد.
قال: من خالف أصله كان كافرا وعلى المسلمين مفارقته والتبرؤ منه وذلك لأن أدلة التوحيد كثيرة ظاهرة متواترة قد طبقت العالم وعم وجودها في كل مصنوع فلم يعذر أحد بالذهاب عنها وكذلك الأمر في النبوة لقوة براهينها وكثرة الأدلة الباهرة الدالة عليها وكذلك كل ما كان من أصول الدين فالأدلة عليها ظاهرة باهرة والمخالف فيه معاند مكابر والقول بتضليله واجب والبراءة منه شرع.
ولهذا قال ابن عمر حين قيل له: إن قوما يقولون: لا قدر. فقال: بلغوهم أن ابن عمر منهم برئ وأنهم منى براء وقد استجار مثل هذا التعنيف في الفروع.
وقال ابن عباس: من شاء باهلته أن الله تعالى لم يجعل في المال نصفا ونصفا وثلثا.
وقالت عائشة رضى الله عنها: أبلغوا زيد بن أرقم أن جهاده مع رسول صلى الله عليه وسلم قد بطل.
ونحو هذا من الآثار إلا أن هذا النوع من الوعيد ليس هو على المذهب الأول إنما هو تعنيف على التقصير في النظر وتحريض على الاجتهاد وتحريض1 على التأمل.
والضرب الآخر من الاختلاف لا يزيل الألفة ولا يوجب الوحشة ولا يوجب البراءة ولا يقطع موافقة الإسلام وهو الاختلاف الواقع في النوازل التي عدمت فيها النصوص في الفروع وغمضت فيها الأدلة فيرجع في معرفة أحكامها إلى الاجتهاد ويشبه أن يكون إنما غمضت أدلتها وصعب الوصول إلى عين المراد منها امتحانا من الله سبحانه وتعالى لعباده لتفاضل في درجات العلم ومراتب الكرامة كما قال تعالى:
{يَرْفَعِ اللَّهُ الذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ثبت في الأصل "تخريد" ولعل ما أثبتناه هو الصواب.

 

ج / 2 ص -309-       وعلى هذا يتأول ما ورد في بعض الأخبار: "اختلاف أمتى رحمة"1 فعلى هذا النوع يحمل هذا اللفظ دون النوع الآخر فيكون لفظا عاما والمراد به خاصا ثم أعلم أنه اختلف العلماء في حكم أقوال هؤلاء المجتهدين وذكر ذلك في ما يسوغ فيه الاجتهاد من المسائل التي اختلف فيها فقهاء الأمصار وظاهر مذهب الشافعى رحمه الله أن المصيب من المجتهدين واحد والباقون مخطئون غير أنه خطأ يعذر فيه المخطئ ولا يؤثم وقد قال بعض أصحابنا: إن هذا قول الشافعى ومذهبه ولا يعرف له قول سواه وقد ذهب إلى هذا القول جماعة من أصحاب أبى حنيفة.
وقال بعض أصحابنا: إن للشافعى قولين. أحدهما: ما قلناه والآخر إن كل مجتهد مصيب وهو ظاهر قول مالك وإليه ذهب أكثر أصحاب أبى حنيفة وزعموا أن قوله هو قول المعتزلة وهو قول أبى الحسن الأشعرى وقال الأصم وابن عليه والمريسى: إن الحق في واحد من أقوال المجتهدين وما خالفه خطأ وصاحبه مأزور مأثوم2. وقال أبو زيد في أصوله: قال فريق من المتكلمين: الحق في هذه الحوادث التي يجوز الفتوى في أحد أحكامها بالقياس والاجتهاد حقوق وكل مجتهد مصيب للحق بعينه. ثم إنهم افترقوا. فقال قوم: إذا لم يصب المجتهد الحق عند الله مكان مخطئا ابتداء وانتهاء حتى أن عمله لا يصح.
وقال علماؤنا: كان مخطئا للحق عند الله مصيبا في حق عمله حتى أن عمله به يقع صحيحا شرعا كأنه أصاب الحق عند الله.
قال: وبلغنا عن أبى حنيفة أنه قال ليوسف بن خالد السمتى: كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد فتبين لك أن الذى أخطأ ما عند الله مصيب في حق عمله.
وقال محمد بن الحسن في كتاب الطلاق: إذا تلاعن الزوجان ثلاثا ثلاثا فرق القاضى

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ذكره الحافظ الجعلوني وقال: قال في المقاصد رواه البيهقي في المداخل بسند من قطع عن ابن عباس بلفظ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مهما أوتيتم من كتاب الله فالعمل به لا عذر لأحد في تركه فإن لم يكن في كتاب الله فسنة مني ماضية فإن لم تكن سنة مني فما قاله أصحابي إن أصحابي بمنزلة النجوم في السماء فأيما أخذتم به اهتديتم واختلاف أصحابي لكم رحمة"؛ ومن هذا الوجه أخرجه الطبراني والديلمي بلفظ وفيه ضعف انظر كشف الخفا للعجلوني "1/66" ح "153".
2 انظر نهاية السول "4/560, 561" فواتح الرحموت "2/380" انظر المستصفى "2/363" إحكام الأحكام "2/246" أصول الفقه للشيخ محمد أبو النور زهير "4/238, 239".

 

ج / 2 ص -310-       بينهما نفذ قضاؤه وقد أخطأ السنة فجعل قضاؤه في حقه صوابا مع قوله إنه مخطئ الحق عند الله تعالى قال أبو زيد: وهذا هو القول المتوسط وهو بين الغلو والتقصير واعلم أن هذا القول هو القول بالأشبه وهو أن يكون المجتهد مصيبا في اجتهاده مخطئا في الحكم فإنهم جعلوا أشبه عند الله تعالى قالوا: وهو مطلوب المجتهد وذلك الذى لو نص الله سبحانه وتعالى على الحكم لنص عليه وهو الحق وما عداه خطأ. وقال: هؤلاء وما كلف الإنسان إلا إضافة الأشبه ونقل بعضهم هذا نصا عن أبى حنيفة ومحمد وقد حكى القول بالأشبه عن أبى على الجبائى وهذا القول هو اختيار المزنى وحين عرفنا هذه الأقوال على مما نقله الأصوليون. فنقول: في بيان الصحيح من الأقاويل إن الصحيح من هذه الأقاويل هو أن الحق عند الله عز وجل واحد والناس مأمورون بطلبه مكلفون أصابته فإذا اجتهدوا وأصابوا حمدوا وأجروا وإن أخطئوا عذروا ولم يأثموا إلا أن يقصروا في أسباب الطلب وهذا هو مذهب الشافعى وهو الحق وما سواه باطل. ثم نقول: إنه مأجور في الطلب إذا لم يقصر وإن أخطأ الحق ومعذور على خطئه وعدم إصابته للحق وقد يوجد للشافعى في بعض كلامه ومناظراته مع خصومه أن المجتهد إذا اجتهد فقد أصاب وتأويله أنه أصاب عند نفسه فإنه بلغ عند نفسه مبلغ الصواب وإن لم يكن أصاب عين الحق.
واعلم أنه لا يصح على مذهب الشافعى إلا فيما قلناه ومن قال غير هذا فقد أخطأ على مذهبه.
وقال ما قال على شهوته.
احتج القائلون: بأن كل مجتهد مصيب بقوله تعالى:
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء: 78] إلى أن قال: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] فإذا كان أحدهما مخطئا لم يكن الذى قاله عن علم ولأن الصحابة اختلفوا في المسائل.
وقال: كل واحد قولا وصوب بعضهم بعضا بدليل أنه ينفى بينهم تعظيم بعضهم للبعض وترك إنكار بعضهم قول البعض ولو اعتقد كل واحد منهم أن صاحبه مخطئ لأنكره لأن إنكار المنكر واجب فصار هذا دليلا من إجماعهم أنهم لم يعتقدوا تخطئة بعضهم بعضا. بل كانون على تصويب بعضهم البعض ولأنه لو كان الحق واحدا من الأقاويل وما عداه كان خطأ لكان الله سبحانه وتعالى كلفه بالعدول إلى الصواب ولو كان على الحق دليل قاطع لفسق مخالفه ولمنع المفتى من الفتوى

 

ج / 2 ص -311-       والحاكم من الحكم به وكان ينبغى إذا حكم الحاكم به ينقض حكمه وحين لم يقل بهذا أحد علمنا أن كل مجتهد مصيب للحق وهذا دليل معتمد لهم.
دليل أكثرهم قالوا: لو كان المجتهد في الفروع مخطئا لأدى إلى أقسام كلها باطلة وذلك لأنه لا يخلو إما أن يقطعوا في الجملة أن المخطئ من المجتهدين مغفور له تقصيره في النظر وإما أن لا يقطعوا بذلك فإن لم يقطعوا بذلك فهو باطل لأنهم لا يقولون به على ما زعمتم ولأن الصحابة ما كان ينكر بعضهم على بعضهم أقاويلهم في مسائل الاجتهاد إنكار فعل من يجوز أنه من أهل النار وإن كان غفران خطئه في الجملة مقطوعا به لم تخل إما أن يكون المجتهد إذا أخطأ يجوز كونه مخطئا ومخلا بنظر يلزمه فعله ولا يجوز ذلك فإن قلتم لا يجوز أن يكون مخلا بالنظر فمحال لأنه على هذا لا يصح تكليفه النظر الذى فرط فيه لأنه قاطع على أنه ما فرط في النظر ولأنه في حكم الذاهل والساهى والذاهل والساهى لا يكلف في حال ذهوله وسهوه ولا يستحق عقابا. فيقال: إنه غفر له وإن كان يجوز كونه مخطئا ومخلا ببعض النظر فلا يخلو إما أن يعلم أنه مغفور له في ذلك الحال إخلاله بما أخل به من النظر أو لا يعلم ذلك ومحال أن يعلم ذلك لأن المجتهد لا يميز المرتبة التي إذا انتهى إليها غفر له إخلاله مما بعدها من النظر وذلك أنه يعلم بأنهم إن اقتصروا على أول النظر لم يغفر له ما بعده وبعد هذا ليس مرتبة أولى من مرتبة ولا يمكن الإشارة إلى ما تتميز به بعض المراتب عن البعض مع أنه مجوز في جميع ذلك أنه مخل بنظر يلزمه فعله وبعد فلو علم المجتهد أنه مغفور له إخلاله بالنظر لكان إغراء بالمعصية لأنه يكون قد علم أنه لا ضرر عليه في تركه النظر الزائد وإن كان المجتهد المخطئ إنما يعلم في الجملة أن المخطئ من المجتهدين مغفور له إذا انتهى إلى مرتبة ما من مراتب النظر وداخل بما بعدها ولم يتعين له تلك المرتبة وجوز أن يكون أخل بالنظر الزائدما انتهى إلى تلك المرتبة التي تغفر له بما بعدها من النظر لزم أن يجوزوا كون المجتهد من المخطئين ما انتهوا إلى هذه المرتبة وفى ذلك تجويز كونهم غير مغفور لهم وأنهم من أهل العقاب وقد أجمع أهل الاجتهاد على خلاف هذا فقد بان أن القول بخطأ المجتهدين وإصابة الواحد منهم فحسب يؤدى إلى أقسام كلها فاسدة وفى القول بإصابتهم خلاص من هذه الوجوه أجمع وهذا الذى ذكرناه دليل المتكلمين.
وأما أبو زيد احتج بهذا القول وقال: إن المجتهد كلف الفتوى بغالب رأيه وما

 

ج / 2 ص -312-       كلف إلا الفتوى بالحق فلولا أنه مصيب الحق وإلا لما توجه التكليف عليه بإصابته بغالب الرأى لأن الله تعالى لم يكلف مما ليس في الوسع فدل أن كل مجتهد مصيب للحق وأن الحق حقوق لا واحد وهذا كاستقبال القبلة فإنه شرط لصحة الصلاة وهى إلى جهة واحدة حال التبين عند الاشتباه تصير الجهات كلها قبلة على ما قال الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] حتى قالوا: إن المتحرين إذا صلوا إلى أربع جهات مختلفة أجزأتهم صلاتهم قالوا: ولا نمنع أن تكون أقوال المجتهدين كلها حقا في الحادثة الواحدة لكنه في أناس مختلفين لبعضهم الحظر ولبعضهم الإباحة وهذا كما صح في باب قبلة الصلاة حال الأشتباه إذا اختلفوا وكانت قبلة كل فريق ما أدى إليه تحريه يدل عليه أنه يجوز من الله تعالى بعث رسولين في زمان واحد إلى قومين مختلفين بحكمين مختلفين في نازلة واحدة ويكون كل واحد من الحكمين حقا عند الله فكذلك جاز بالاجتهاد مثل ذلك فيختلف عالمان في الاجتهاد ويلزم كل واحد اتباع إمامه ويكون كل واحد منهم محقا مصيبا وهذا لأن الله تعالى ابتلى عباده بهذه الأحكام ليمتاز الخبيث من الطيب ويجوز اختلاف الحكم بين الناس باختلاف الأزمان فيختلف الابتلاء لأجله فكذلك يجوز الاختلاف باختلاف الطبقات في زمان واحد ألا ترى أن مصالح الأطعمة كما تختلف باختلاف الأزمنة كذلك تختلف باختلاف الناس في زمان واحد وهذه الدلائل لهذا القول.
فأما من يقول بالأشبه فسنبين الكلام فيه بعد هذا ونبين ما يكون الصواب منه.
وأما دليلنا على أن الحق واحد في أقوال المجتهدين وما عدا ذلك خطأ قوله تعالى:
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 78, 79] فلو كانا مصيبين لما خص سليمان بفهم الحكم لأن داود عليه السلام قد فهم من الحكم ما فهم سليمان.
فإن قيل: هذا شريعة من قبلنا ويجوز أن لم يكن داود وسليمان مصيبين وذلك شريعتهما وأما في شريعتنا فيكون كل مجتهد مصيبا.
والجواب: أن الأصل أن كل ما ذكره الله تعالى في القرآن فإنما ذكره لنستفيد به في شرعنا ولم يكن ذكره على مجرد حكاية وسرد قصة وليست فائدة هذا إلا أن نعلم ما قلناه ونحن إذا جعلنا حكمنا على خلاف حكمهم بطلت هذه الفائدة وعلى أنا نقول: شريعة من قبلنا لازمة لنا على قول جماعة من أصحابنا إلا في موضع قام الدليل على

 

ج / 2 ص -313-       خلاف ذلك.
وأما الذى تعلقوا به من قوله تعالى:
{وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79].
قلنا: لم يذكر الله تعال أنه آتى كلاهما حكما وعلما فيما حكما به في هذه الحادثة فيجوز أن المعنى من ذلك إعطاء العلم بوجوه الاجتهاد في طرق الأحكام وعلى أنه يرد عليهم ما قالوه فإنه ليس يجب إذا كانا قد أصابا أن يكون كل مجتهد مصيبا في هذه الشريعة ويدل على ذلك من جهة السنة قوله عليه السلام:
"إذا اجتهد الحاكم فأصاب له أجران وإن اجتهد فأخطأ له أجر واحد".
فأخبر صلى الله عليه وسلم بأن منهم من يصيب ومنهم من يخطئ وإن حكم المصيب كذا ولو كانوا مصيبين كلهم لم يكن لهذا التقسيم معنى.
فإن قيل: معنى قوله فأخطأ أى أخطأ النص. ثم قالوا: لو كان خطأ كما قلتم لم يستحق الأجر لأن أحسن أحوال المخطى العفو فأما استحقاق الأجر فلا.
والجواب الأول: قلنا: لو كان معنى قوله فأخطأ أى أخطأ النص لكان معنى قوله: فأصاب أى أصاب النص لا يكون حينئذ للاجتهاد حكم ما والخبر ورد في موضع إثبات حكم الاجتهاد وإصابة الحق أو عدم إصابته وأيضا فإنه لا يقال: من لم يبلغه النص ولم يتمكن منه أنه مخطئ للنص كما لا يوصف من لم يبلغه شريعة النبى صلى الله عليه وسلم بأنه قد أخطأها وأيضا فإن من طلب النص واستقصى في طلبه فلم يظفر به واجتهد فهو مصيب عندكم وإن طلب فقصر في الطلب فهو مخطئ في الاجتهاد فلا يستحق الأجر عند أحد فكيف يصح الحمل على هذا الموضع وأما الأجر الذى يستحقه إذا أخطأه فهو بقصده طلب الصواب باجتهاده فيؤجر بذلك وإن كان قد فاته المقصود وسبيل هذا سبيل رجل قصد مكة للحج فسلك بعض الطريق ثم انقطع فهو على ما قطعه من الطريق مأجور وإن كان بانقطاعه عن بلوغ بلوغ البت منقوصا كمن افتتح الصلاة ثم تبين أنه لم يكن على طهارة فإنه لم يكن مأجورا وإن لم يحصل الغرض له منها وكمن أخرج درهما ليتصدق به ففعل. ثم استحق فإنه يكون مأجورا على قصده التقرب به إلى الله تعالى وإن كان لم يحصل غرضه ومقصوده والمعتمد من الدليل الإجماع من الصحابة فإنهم اتفقوا على الاجتهاد في المسائل وأنكر بعضهم على البعض وخطأ بعضهم بعضا ونصوا على الخطأ في اجتهادهم فلو كان كل مجتهد مصيبا وكانوا يعتقدون ذلك لم يصح

 

ج / 2 ص -314-       تخطئة بعضهم على بعض ولا إنكار بعضهم بعضا ولكان لا يجوز لبعضهم إذا بلغ إليهم قول البعض أن يخالفه لأنه حينئذ يكون مخالفا للحق والصواب.
وبيان ما ادعيناه من أقوال الصحابة وقول أبى بكر رضى الله عنه: أقول في الكلالة برأيى فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان1.
ويدل عليه أن عمر رضى الله حكم بحكم. فقال رجل حضره: هذا والله الحق.
ثم حكم بحكم. آخر فقال الرجل: هذا والله الحق فقال عمر: إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألوا جهدا.
وعن عمر رضى الله عنه أنه قال: لكاتبه اكتب هذا ما رأى عمر فإن كان خطأ فمنه وإن كان صوابا فمن الله.
وعن على رضى الله عنه أنه قال في قصة المجهضة: إن كانوا لم يجتهدوا فقد غشوك وإن كانوا اجتهدوا فقد أخطأوا عليك وعلى قومك الدية.
وقال ابن مسعود رضى الله عنه: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله تعالى وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان2.
وقال عثمان رضى الله عنه في امرأة أقرت بالزنا عند عمر رضى الله عنه: أراها تستهل كأنها لا تعلم وإنما الحد عن من علم فبين خطأه في اجتهاده.
وعن على رضى الله عنه: أنه ندم على إحراق المرتدين لما بلغه قول ابن عباس رضى الله عنهما: لا يعذب بالنار إلى ربها.
وبلغ أيضا عليا تحكيم الحكمين فقال في ذلك شعرا:

لقد عثرت عثرة لا أتحير            سوف أكيس بعدها وأستمر

وأجمع الرأى الشتيت المنتشر

وقال عبيدة السلماني [فى مسألة بيع]3 أم الولد: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة وهذا تعريض له أنه قد أخطأ.
وروى أن عليا وزيدا وابن مسعودد خطأوا ابن عباس في ترك القول بالعول حتى قال ابن عباس: من شاء باهلته إن الذى أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في ماله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الدارمي: الفرائض "2/462" ح "2972".
2 تقدم تخريجه.
3 كشط بالأصل ولعل الصواب ما أثبتناه.

 

ج / 2 ص -315-       واحدا نصفا ونصفا وثلثا ذهب النصفان بالمال فأين موضع الثلث.
وروى عن ابن عباس أنه قال: ألا يتق الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابن ولا يجعل أب الأب أبا وهذا طريق المبالغة في التخطئة وليس على طريق أنه ترك التقوى فهذا إجماع منهم على أن جميع المجتهدين ليسوا بمصيبين وأن بعضهم مخطئ وبعضهم مصيب وليس لهم أن يقولوا: إن الصحابة إنما خطأ بعضهم بعضا لأنها جوزت أن يكون غيرهم قصروا في النظر ولم يبالغوا فيه ولهذا جوزوا الخطأ وقالوا ما قالوا هذا لا يصح لأن المخالف في هذه المسائل ابن عمر أن المختلفين فيها مصيبون ولا يفرقون بين هذه المسائل وبين سائر مسائل الاجتهاد ولا يجوز أن يقال: إنهم لم يقولوا ما قالوه عن اجتهاد والكلام فيما إذا قالوا ما قالوه عن اجتهاد لأن هذا إساءة الظن بالصحابة وحمل أمرهم على أنهم قالوا ما قالوه عن جزاف وتنجيم وهذا محال ولأنهم كانوا يؤبون إلى أماراتهم التي اعتمدوها في الدلالة على الأحكام.
فإن قال قائل: إن المراد بالخطأ المذكور في هذه خطأ الأشبه ونحن نقول: يجوز خطأ الأشبه.
والجواب: إنما قلناه دليل قاطع على من قال: إن كل مجتهد مصيب للحق عند الله تعالى وأما القول بالأشبه فهو باطل وسنبين ذلك من بعد.
وأما الذى قالوا: في حجتهم إن الصحابة كان يصوب بعضهم بعضا في الاجتهاد.
قلنا: ليس كذلك بدليل ما بينا من قبل وليس نعلم أحدا منهم قال لصاحبه في اجتهاد وجد منه: أصبت في قولك.
وقولهم: إنه بقى بينهم تعظيم بعضهم بعض.
قلنا: إنما كان كذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن الخطأ خطأ مغفور أو جوزوا كونه صغيرة وبارتكاب الصغائر لا يذهب تعظيم بعضهم للبعض ثم نقول: قد تناظروا فيما بينهم ومنع بعضهم البعض من الذهاب إلى ما صار إليه بقول بليغ يشبه الإنكار الشديد وقد حكينا مثال هذا عن ابن عباس وقد روى عن على أنه قال في عبد الله ابن عباس حين بلغه أنه يخالفه في مسائل: إنه رجل نابه فثبت أن إجماع الصحابة معنا في هذه المسألة وهو دليل مقطوع به لا يجوز العدول عنه بحال ومما نقل عن الصحابة من تصويب بعضهم بعضا فيجوز أن يدعى ذلك في القراءات وفى الآراء وفى الحروب.

 

ج / 2 ص -316-       أما في القرآن لأنهم اعتقدوا أن الكل بمنزلة من الله تعالى وأن الإنسان متخير في القراءة بأى آي شاء على ما ثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف"1.
فأما الآراء في الحروب فيجوز أن يقال: إنهم صوب بعضهم بعضا لأنهم ربما كانوا يعتقدون أن غيرهم أعلم بوجوب الحرب ومعرفة المكائد فيها أو كان يعتقد أنه كانت التجربة فيها بصاحبه أكثر منه وهذا غير مستنكر منهم.
فأما تصويب بعضهم بعضا في الاجتهادات فلا يعرف ذلك بحال.
واستدل الأصحاب أيضا وقالوا: إن القولين المتضادين في مسائل الاجتهاد كالتحليل والتحريم والإيجاب والإفساد لا يخلو إما أن يكونا صحيحين أو فاسدين أو أحدهما صحيحا والآخر فاسدا ولا يجوز أن يكونا فاسدين لأنه يؤدى إلى أن يكون الشئ الواحد حراما وحلالا صحيحا فاسدا وهذا محال فلم يبق إلا أن يقال: إن أحدهما صحيح والآخر فاسد وهذا الحقيقة وهو أن كل واحد من مسائل الاجتهاد إما أن يكون فيها أمارة هى أقوى من غيرها وإما أن يكون فيها أماراتان متكافئتان على قول من يجوز ذلك وإن كان فيها أمارة هي أقوى من غيرها فقد كلفت المجتهد إصابتها والظن لها والحكم بها فمتى عدل عنه فقد أخطأ وإن كانت فيه أماراتان متكافئتان فقد كلف إذا إصابة تكافئهما الظن لهما أو يحكم بالتخيير بين حكميهما فمتى عدل عن ذلك فقد أخطأ فلا بد من وجود الخطأ في كل واحد من الموضعين والدليل على أنه كلف إصابة الأمارة القوية من حيث غلبة الظن أو الإصابة لتساوى الأمارتين إن جاز تساويهما بأن المجتهد طالب وإنما هو طالب في هذا الموضع أمارة مقربة للظن ومعلوم أن المجتهد ليس يقصد باجتهاده الظفر بأضعف الأمارات ولا هو كلف ذلك فصح أنه كلف الظفر بأقواهما.
فإن قيل: فهل يجوز أن تعتدل الأمارات عند المجتهد في المجتهد.
قلنا: لا يجوز ذلك وإنما قلنا ما قلناه على التقدير ومذهب الفقهاء أنه لا يجوز اعتدال الأمارات بحال ولا بد أن يكون لإحدى الأمارتين ترجيح على الأخرى.
وقد جوز أبو على وأبو هاشم ذلك.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه النسائي: الافتتاح "2/113" "باب جامع ما جاء في القرآن" وأحمد: المسند "5/52" ح "20450".

 

ج / 2 ص -317-       وندل في هذا الموضع على أنه يجوز. فنقول: لو تعادلت الأمارتان في القوة لم يكن الحكم لإحديهما أولى من الحكم بالأخرى وفى ذلك إثبات حكميهما.
أما على الجمع فذلك غير ممكن وأما على التخيير فالأمة مجمعة على أن المكلفين غير متخيرين في مسائل الاجتهاد ولأنه لو تعادلت الأمارتان أدى إلى الشك في الحكم وذلك لا يجوز.
وإنما قلنا: إنه يؤدى إلى الشك لأن الرجلين المتساويين في الصدق لو أخبرها أحدهما أن النبى صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة وأخبر الآخر أنه صلى في الكعبة وأنه شاهده منذ دخلها إلى أن خرج منها وقد عرف أنه لم يدخلها إلا مرة واحده وأخبر الآخر انه رآه صلى فيها فإنها تشكك هل صلى فيها أو لم يصل فيها ولا يظن أحدهما ولا كل واحد منهما وإنما لا يظن أحدهما لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر وكيف يترجح ولا دلالة في الترجيح ولا يجوز أن يظن كلاهما لأن ذلك مستحيل فإنه يستحيل أنه صلى ولم يصل وإذا عرف هذا في هذه الصورة فهكذا تكون الأمارات المستنبطة.
فإن قال قائل: هلا قلتم بالتخيير إذا تعادلت الأمارتان؟
قلنا: التخيير بين النفى والإثبات لا يصح إلا على معنى الإباحة والإباحة حكم واحد فكيف يقال فيه: إنه مخير؟
فإن قالوا: إن الإباحة هى التخيير بين الفعل والكف عنه على الإطلاق وأما في هذه المواضع فإنما يقال للمكلف: افعل إن اعتقدت كون الفعل مباحا ولا تفعله إن اعتقدت حظره.
الجواب أنه يقال لهم أليس إن الاعتقاد بحظره وإباحته علم فلا بد أن يقال بلى فيقال له فما الطريق إلى كون ذلك علما فإن قالوا بثبوت الأماره أو الدلالة.
قلنا: وفى كل واحد من القولين أمارة ودلالة فكيف يجوز أن يقال: إن الطريق له في العلم بالإباحة أمارة أو دلالة وأنتم تجوزون ألا يعتقد الإباحة ويعتقد الحظر.
فإن قالوا: إن الطريق إلى العلم بالإباحة أو العلم بالحظر أن يختار المكلف اعتقاد أحدهما.
قيل: اختيار الإنسان أن يعتقد شيئا ليس بدليل على صحة معتقده فيكون اعتقاده علما ولو جاز ذلك لجاز أن يختار الاعتقادات كلها باختيارنا علوما وكيف يجوز ذلك

 

ج / 2 ص -318-       مع أن الإنسان قد يختار الصحيح كما يختار الفاسد وأيضا فحسن الاختيار للاختيار تابع الاعتقاد لأنه إنما يحسن أن يختار ما هو حسن في نفسه وحسن الاعتقاد تابع للمعتقد لأنه إنما يحسن أن يعتقد بما هو صحيح في نفسه فالاختيار تابع للمعتقد وهم عكسوا القصة فجعلوا الاعتقاد تابعا للاختيار وجعلوا صحة المعتقد تابعة للاعتقاد وهذا الذى ذكرناه يقتضى أن العامى إذا أفتاه مفتى بالحظر وأفتاه آخر بالإباحة.
وقلنا: إنه يجب عليه أن يجتهد فيها فإنه إذا اجتهد فيها فلا بد أن يترجح عنده أحدهما على الآخر.
فإن قال قائل: هلا قلتم أنه يصير الفعل مباحا إذا تساوت الأمارتان قلنا: لو وجعلناه مباحا لكنا قد عملنا على أمارة الإبحاة مع مساواة أمارة الحظر لها وليس يجوز ذلك لأنهما إذا تساويا وجب الشك والعمل في المسائل يتبع الظن لا الشك.
فإن قال قائل: أليس إن الشافعى قال بالقولين في مسائل كثيرة وهذا يدل على أنه قد جوز اعتدال الأمارة عند المجتهد بحيث لا يكون لأحدهما ترجيح على ما بينا والكلام في القولين سيأتى من بعد ويتبين بهذا الذى قلنا أن الذى صار إليه أبو حنيفة من اعتقاد الشك في سؤر الحمار والبغل باطل وهو أن ما صار إلى ذلك بدعواه أنه اعتدلت الأمارات وهى موجبة للطهارة والنجاسة من غير ترجيح ونحن قد بينا أن الترجيح عند المجتهد لا بد منه وأن الاعتدال على وجه لا يكون ترجيحا ولا ترجيح يجوز إلى هذا الموضع إن جر الكلام في هذه المسألة رجعنا إلى تمام الكلام في مسألة المجتهدين واحتج الأصحاب أيضا وقالوا لو كان المجتهدين على اختلافهم مصيبين لم يكن في مناظرة بعضهم بعضا معنى لأن كل واحد منهم يعتقد أن الآخر أدى ما كلف وأصاب في فعله فما وجه مناظرته ونحن نعلم أن كل واحد يناظر صاحبة ليرده عن ما هو عليه فلو كان مصيبا لما كان له أن يقصد رده من الصواب وهم يقولون إنما يناظره ليريه أن أماراته أقوى من أمارته فهو يناظره ليريه ذلك وإن كان فرض غيره بما هو عليه فإذا بان له أن أمارة من ناظره أقوى من أمارته تغير فرضه وصارت مصلحته أن يحكم بالأمارة التي بانت له قوتها فإن قلتم: فما الفائدة؟ فيقال: الفائدة في ذلك أنه لا يمتنع أن يكون إذا تغير فرضه ولزمه أن يحكم بالأمارة التي بان له قوتها كان ثوابه على ذلك أكثر فكذلك يتناظر الجتهدان ولأجل إن هذه المناظرة

 

ج / 2 ص -319-       غير راجعة إلا إلى هذه الفائدة لم تجب المناظره بل يندب المتناظران إلى ذلك فحسب.
واحتج أبو زيد بهذا القول. وقال: إنه ممتنع في العقول لثبوته الحظر والإباحة والصوم والفطر حقين يلزم اعتقادهما في ساعة واحدة لأنه لا يمكن العمل بهما.
ألا ترى: أنه يمتنع ذلك في النصين فإن النصين إذا اختلفا وأباح أحدهما وحظر الآخر لم يجب العمل بهما بل يجب الوقفة إلى أن يظهر الرجحان لأحدهما ولأنه لو كان الحق حقوقا على ما قالوا لجاز للعامى الذى يعمل باتباع العلماء أن يختار من كل مذهب ما يهواه لنفسه كما أن الله تعالى لما أثبت الكفارة في باب اليمين أنواعا كان للعبد الخيار بينهما على ما يهواه بلا دليل من أباح هذا فقد شرع طريق الإباحة وبنى الدين على الهوى والله تعالى ما نهج الدين إلا على طريق غير الهوى من نص ثابت أو قياس شرعى على ما بينا وقرر هذا الكلام تقريرا طويلا والاعتماد على ما سبق من إجماع الصحابة والدليل الذى ذكرناه بذكر الحقيقة.
فأما الجواب: قلنا: أما تعلقهم بالاية وما ذكر من أحوال الصحابة وتصويب بعضهم بعضا فقد سبق الجواب عنه.
فأما قولهم: إنه لو كان الصواب في واحد من أقوال المجتهدين لوجب أن ينصب الله تعالى دليلا قاطعا عليه ليعدل إليه.
قلنا: قد دلنا الله تعالى على الحكم الذى كلفناه بدلالة قاطعة لأن الله تعالى قد كلفنا العمل بأقوى العلل وأولاها وقد جعل لنا طريقا نقطع معه بان أحد الظنين أولى أن يعلق الحكم به وإنه إذا وجد في الأصل والفرع يلزمنا الحكم به في الفرع ونعنى بالدلالة القاطعة الدليل الذى ذكرناه في وجوب استعمال القياس وقد بينا وجوه التأثير من قبل.
واعلم أنا إذا استنبطنا معنى من أصل وجدناه في الفرع يجب علينا أن يثبت مثل حكم الأصل في الفرع ونقطع أن الحكم في الفرع بهذه العلة لكن إذا ثبت أنه علة الأصل غير أنا لا نقطع بكونه علة الأصل وليس بممتنع أن يكون علمنا بكون العلة علة الحكم في الفرع يستند إلى ظننا أن العلة علة حكم الأصل لأنه لا يمتنع أن يقف العمل في الشئ على شرط مظنون كما علمنا لوجوب التحرير من مضرة مخصومة على الظن لنزولها بنا فيكون المعنى المستنبط علة الحكم ظنى وأما ثبوت

 

ج / 2 ص -320-       الحكم في الفرع بذلك المعنى قطعى.
وأما قولهم: لو كان على الصواب من الحق دليل من قبل الله تعالى لنقض الحكم ما عداه ولم يسع الفتوى.
قلنا: ليس يجب هذا وليس مع الخصم إلا مجرد الدعوى.
ببينة: أن كثيرا من المجتهدين يستدل بالقرآن في مواضع وبالنصوص في مواضع ولا شك أنه الدليل ما عداه ومع ذلك لا يفسق تارك ذلك لأن كل واحد من المجتهدين يرجع إلى دليل عنده ويصير إلى تأويل لما يتعلق به من مخالفة لذلك في الأقيسة لما كان كل واحد من القائسين يصير إلى تأثير عند نفسه وهو في الأصل الذى يسنبط منه ظنى لم يفسق من يخالف ولم ينقض الحكم الصادر مما يخالفه وساغ الفتوى والحكم به لمن يظن أنه الحق.
وأما قولهم: إن القول بتخطئة بعض المجتهدين وتصويب البعض يؤدى إلى اقسام كلها فاسدة.
قلنا: لا يؤدى لأنا بينا أن على الحق دليلا منصوبا من قبل الله تعالى لكن إنما يوصل إليه بطريق ظنى فما يعود إلى معرفة علة الأصل في الظنيات ميل عظيم وكل واحد يظن غير ما يظن صاحبه وليس يستقر على شئ واحد فالشرع سامح في ذلك ولم يؤاخذنا بخطأ. بل أصاب بقصد طلب الحق وبذل الجهد منه عند نفسه وغفر له ماأخطأه وجعله من المعفو عنهم وأما في الأصول الدينية فلما كان الوصول إليها بالدلائل القطعية من كل وجه شدد الله تعالى في ذلك ولم يعذر بالخطأ وفسق بالخلاف تارة وكفر أخرى وعفى مرة ولم يعف أخرى فهذا هو الفرق بين مسائل الأصول بين مسائل الفروع وهو أيضا يبين وجه قولنا: إنه مع خطأه الصواب عند الله عز وجل مغفور له.
وأما قولهم: إنما قلتم يؤدى إلى تكليفه ما ليس في الوسع.
قلنا: ليس كذلك لأنا أمرناه بطلب الحق وقد يجوز أن يصيبه في الجملة وإذا لم يصب لا يكون عليه مؤاخذة ولا تبعة فأين قولهم: إنه تكليف لما لا يكون في وسعه.
وأما تعلقهم بفصل القبلة.
قلنا: نحن نقول: إنما يكون مصيبا إذا أصاب القبلة فأما إذا لم يصيب القبلة يكون مخطئا حقيقة ويلزمه إعادة الصلاة فإن قيل: إذا اجتهد أربعة أنفس في القبلة فأدى

 

ج / 2 ص -321-       اجتهاد كل واحد منهم إلى جهة تخالف جهة صاحبه هل يصلون على ما أدى اجتهادهم إليه.
فإن قلتم: يصلون فقد صوبتموهم وإن قلتم لا يصلون فهذا منع لهم من الاجتهاد وتعطيل لصلواتهم.
والجواب: أنا لا نستدل عليكم إلا بفصل القبلة فإن المجتهدين في القبلة مطلوبهم القبلة بعينها فكذلك يجب أن يكون مطلوب المجتهدين في الحوادث حكما معينا عند الله تعالى.
ببينة: أن المجتهد في القبلة يعلم أن القبلة عين من الأعيان يجوز أن يكون في الجهة التي يظن بأقوى الأمارات أن القبلة فيها ويجوز أن لا يكون فيها فيقولوا في حكم المسألة هو حكم معين عند الله تعالى يجوز أن يكون هو حكم أقوى الأمارات ويجوز أن يكون غيره.
وما المسألة التي ذكرتموها. قلنا: إنما جازت صلاة هى واحد منهم في الحال لجواز أن يكون المصيب هو دون غيره لكن نقطع بإصابة بعضهم وخطأ البعض ولو تبين الخطأ فإنا لا نوجب الإعادة على المخطئ.
واعلم أن الذين يقولون بإصابة المجتهدين كلهم على الإطلاق يزعمون أن الدليل ليس الظن المجتهد بأمارة وكلهم في هذا الظن واحد فيكون كلهم في الإصابة واحد.
قال أبو هاشم: ليس على المجتهد إلا أن يحكم بما هو أولى عنده في ظنه وفى هذا المعنى لا يجوز تخطئة البعض وتصويب البعض ونحن نقول: إن الدليل هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس على الأصول الثابتة بأحد هذه الدلائل والدليل على هذا قوله تعالى:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ثم القياس دليل مستند إلى الكتاب والسنة ثم الظن الذى قالوه لا يجوز أن يكون مجرد الظن حجة لأن ذلك يوجد للعامى كما يوجد للعالم ولكن الحجة ظن بأمارة من كتاب أو سنة أو إجماع ويجوز أن يصيبه الواحد ولا يصيبه الواحد وهذا لأن العلل إنما تكون عللا صحيحة إذا كانت مؤثرة وقد بينا وجه التأثير وكيفيته ولا يتصور اعتدال المؤثرات على السواء بحيث لا يكون لجانب رجحان على الجانب وبينا أن اعتدال الأمارات والتأثيرات في حكمين مختلفين يؤدى إلى الحكم بالشك وهذ لا يجوز وإذا لم يكن

 

ج / 2 ص -322-       بد من ترجيح إحدى الأمارتين على الأخرى ثبت أن القول بتصويب المجتهدين باطل وعندي أن هذا القول وهو القول بإصابة المجتهدين يؤدى إلى أن يعود على الإجماع بالخرق وعلى الأمة بالتخطئة لأن الاجتهاد شئ معهود من لدن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم إلى أيامنا هذه وقد أجمعوا على تخطئة بعضهم بعضا ويرتقون عن هذه الدرجة وينسبون مخالفتهم إلى القول بالباطل واعتقاد غير الحق على الإطلاق من غير تحاش وامتناع وكذلك ما زال بعضهم يقيم على البعض الدليل ويدعوه إلى ترك قوله بقوله وإنما فعلوا ذلك لاعتقادهم بإصابتهم وخطأ صاحبتهم وظهر أيضا بين الأمة التفرق حتى انتسب كل طائفة إلى ما لا ينتسب لطائفة أخرى وادعى من إصابة الحق ما لم يعترف من إصابة صاحبه وهذا شئ مشهور لا يخفى على أحد هذا في جانب المجتهدين الطالبين الباحثين وإنما في جانب المطلوب وهو حكم الشارع في الحادثة.
فنحن نعلم أيضا إذ اتدبرنا قانون الشريعة وأصولها وقواعدها أن الحق أيضا هو أن يكون الحكم في الحادثة واحدا وأنه أمر المجتهد بإصابته وطلبه وذلك لأنا نطلب الأحكام في الحوادث التي لم يرد فيها نص من الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على منهاج الإحكام التي ورد فيها نصوص فإن موضع التعلق إما بالمعانى المؤثرة العالقة بالقلوب عند عرضها على الأصول أو الأشباه التي هى موافقة للأصول ملائمة لها ونحن نعلم قطعا أنه لا يوجد في الأحكام المنصوص عليها في الحوادث إلا القول الواحد في الحادثة ولم يعرف وجود حكمين مختلفين يتناولهما النص بحادثة ما من الحوادث بل النصوص في الكتاب والسنة تتناول الحكم الواحد في الحادثة الواحدة فينبغى أن يكون المطلوب على وفق ذلك في الحوادث التي لم يتناولها النص بل ينبغى أن يكون الحق ليكون حكم الحوادث المتفرعة عن الأصول على وفق أحكام الأصول وهذا هو الأولى. بحكمة الله تعالى أن يكون حكمه في الحادثة واحد غير مختلف وأن يجعل الناس في شرعه على السواء خصوصا في الزمان الواحد والشئ الواحد وهو الأولى أيضا عند إرادته جل جلاله لتعريض العبد للثواب وابتلائه لطلبه لأن العبد إذا اعتقد أن كل مجتهد مصيب الحق عند الله تعالى للحقه الكلال والكسل في الطلب بل يتوانى ويقصر ويعتمد على أنه إن أصاب أو أصاب صاحبه فقد أصاب الحق. وإذا علم أن الحق واحد وأن الله عز وجل كلفه الإصابة ببذل مجهوده يتكلف ويتحمل كل كد وتعب في الطلب ليصيب الحق عند الله تعالى ثم يكون التوفيق والهداية له من الهوى على قدر سعيه وكده وبذله

 

ج / 2 ص -323-       وجهده فثبت عند التقريرات أن اللائق منهج الشرع ومحاسن الدين ومسالك الحق أن يكون الحق على ما اخترناه.
ولقد تدبرت فرأيت أكثر من يقول بإصابة المجتهدين هم المتكلمون الذين ليس لهم في الفقه ومعرفة أحكام الشريعة كثير حظ ولم يقفوا على شرف هذا العلم وعلى منصبه في الدين ومرتبته في مسالك الكتاب والسنة وإنما نهاية رأس ما لهم المجادلات الوحشة وإلزام بعضهم بعضا في منصوبات وموضوعات اتفقوا عليها فيما بينهم فكل يلزم صاحبه طرد دعواه وعند عجزه يعتقد عجز صاحبه وفلح نفسه وقد رضى بهذا المقدار من غير أن يطلب النفائس أو تلج صدورا في إقامة دليل يفيد يقينا أو بصيرة وهذا هو أعم أحوالهم إلا في النازلات النادرة فنظر هؤلاء إلى الفقه ومعانيه بأفهام كليلة وعقول حسيرة فعدوا ذلك ظاهرا في الأمر ولم يعتقدوا لها كثير معانى يلزم الوجوب عليها.
وقالوا: لم يكلف المجتهد إلا محض ظن يعثر عليه بنوع أمارة وليس يستقيم تكليفه سوى ذلك وليس هاهنا حق واحد مطلوب وربما عبروا عن ذلك فقالوا: إنما كلف المجتهد أن يعمل بحسب ظن الأمارة لا بحسب الدلالة وليس على أعيان الفروع أدلة أصلا وقالوا ليس مطلوب المجتهد إلا الظن للأمارة ليعمل على حسب ظنه وهذا الذى قالوه في غاية البعد وهو أن يكون مطلوب المجتهد مجرد ظن والظن قد يستوى فيه العالم والعامى وقد يكون بدليل وقد يكون لا بدليل فدل أن المطلوب حكم الله تعالى في الحادثة بالعلل المؤثرة والإشارة القوية ولابد من الترجيح لمعنى على معنى ولشبه على شبه وهذا إنما يقف عليه الراسخون من الفقهاء والذين عرفوا معانى الشرع وطلبوها بالجهد الشديد والكد العظيم حتى أصابوها فأما من ينظر إليه من بعد ويظنه سهلا من الأمر ولا يعرف إلا مجرد ظن يظنه الإنسان يعثر هذه العثرة العظيمة التي لا انتعاش عنها ويعتقد تصويب المجتهدين بمجرد ظنونهم فيؤدى قوله إلى اعتقاد الأقوال المتناقضة في أحكام الشرع وأن يكون الشئ حلالا وحراما واجبا مباحا صحيحا فاسدا موجودا معدوما في وقت واحد والكل عند الله تعالى صواب وحق ثم يؤدى قوله إلى خرق الإجماع. والخروج على الأمة وحمل أمرهم على الجهل وقلة العلم وترك الحفل1 والمبالاة بما نصبوا الأدلة لها وكدوا فيها وأسهروا لياليهم

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الجماعة. انظر القاموس المحيط "3/358".

 

ج / 2 ص -324-       وأتعبوا فكرهم واستخراجها وإظهار تأثيراتها لما ادعوها من العلل ثم كان نهاية وصولهم عند هؤلاء الجهلة أنهم وصلوا إلى مثل ما وصل إليه مخالفوهم وأن ذلك الذى وصلوا إليه حق عند الله تعالى وضده حق وقوله صواب وقول مخالفيه صواب فيكون سعيه وكده شبه ضائع وثمرته كلا ثمرة وفائدته كلا فائدة.
وبطلان مثل هذا القول ظاهر ولعل حكايته تغنى كثيرا من العقلاء عن إقامة البرهان عليه.
وأما أصحاب أبى حنيفة فقد قال من قال بتصويب المجتهدين فهم أن عند الله تعالى أشبه مطلوب وأن المجتهد يجتهد ليصيبه وأنه لو ورد النص من الله سبحانه في حكم الحادثة لكان النص على ذلك. ومن قال: هذا فقد قال: إن الحق واحد وما سواه ليس بحق وهذا هو الذى يطلبه ويقيم الدلالة عليه.
فإن قالوا إن العبد لم يكلف إصابته.
قلنا: إذا سلمتم أن الحق واحد وأن المجتهد طالب وقد كلف الطلب فلابد أن يكون كلف الحق وإصابته. وقد قال أصحابنا: إن الله تعالى قد كلف المجتهد إصابة الحق ونصب الدليل عليه إلا أن من أخطأ لا يأثم ولا يفسق لأن طريق التأثيم والتفسيق الشرع وقد جاء الشرع بإسقاط الإثم على المجتهد على ما سبق بيانه ويحتمل أيضا أن يكون أيضا أسقط عنهم المأثم لخفاء الأدلة وكثرة وجوه الشبه فتفضل الله تعالى ورحم المجتهدين بخفى لطفه وخفى صنعه وأزال عنه الإثم وأثابه على قصده واجتهاده.
وقال الأصحاب فيما إذا حكم حاكم باجتهاده إنما لا ينقضه مجتهد آخر وإن كان عنده أنه أخطأ لأنا لو صرنا إلى ذلك أدى إلى أن لا يستقر حكمه في الشرع ولا يثبت ملك لأنه متى حكم حاكم بحق أو ملك يجئ آخر وينقض ذلك ثم بعد ذلك يجئ ثالث وينقضه هكذا أبدا وهذا في نهاية القبح والفساد. وقد قال الأصحاب أيضا: على قول من قال: إن العامى يقلد من شاء من العلماء فدل أن قولهم جميعا صواب وحتى قالوا: نحن لا نسوغ التقليد لمن خالف الحق بل نقول له قلد عالما بشرط أن يكون مصيبا كما نقول له قلد عالما بشرط أن لا تخالف النص على أن لو منعنا العامى أن يقلد إلا من معه الصواب لم يجد إلى معرفة ذلك سبيلا إلا بعد أن يتعلم الفقه وفى إيجاب ذلك على كل واحدة مشقة وحرج عظيم وفساد مصاح يرجع إلى أحوالهم فسومح العامى وأمر

 

ج / 2 ص -325-       بتقليد الأوثق عنده في نفسه وقد سمعت بعضهم يقول: إن المجتهد إذا بذل وسعه وأدى اجتهاده إلى شيء يلزمه الأخذ بذلك وإذا ترك ذم وعيب على تركه ولولا أنه قد أصاب الحق لم يلحقه ذم وعيب وقال هذا القائل أيضا: إن أدلة الأحكام في الغالب تقع متكافئة وليس فيها ما يقتضى قطعا وكل واحد من الخصمين يمكنه أن يبين تأثير مثل ما يبينه صاحبه أو يبين قوة شبهته على حسب ما بينه صاحبه فلا يظهر لأحدهما مزية على الآخر وكذلك في تأويل الظواهر من الآيات والسنة فإنه يمكن كل واحد من المستدلين أن يؤول ما تعلق به صاحبه قبل ما يؤول صاحبه ما يتعلق هو به فلا يظهر لأحدهما على الآخر رجحان ومزية. ونحن نقول على الأول إنما يلزمه حقيقة ما يؤدى إليه اجتهاده بشرط صحته وسلامته عما يبطله فإن بان خلافه لم يجز الاعتقاد بكون ما أدى إليه اجتهاده حقا وهذا كما أنه إذا اجتهد يعتقد أنه مصيب للحق بشرط أن لا يكون مخالفا للنص فإذا ظهر أنه مخالف لنص كتاب أو سنة فإنه لا يجوز له أن يعتقد ما أداه إليه اجتهاده وعلى أن الذى قالوه دليل عليهم لأنه متى أدى اجتهاده إلى شئ يلزمه أن يعتقده ولا يجوز أن يعتقد خلافه ولو كان ما يؤدى إليه اجتهاده حقا وثوابا جاز له ترك ما أدى إليه اجتهاده إلى ما أدى إليه اجتهاد صاحبه ألا ترى أن في كفارة اليمين لما كان كل الأنواع مأمورا به وكفارة عند الله تعالى تخير المكفر وكان له أن يكفر بأيهما شاء وأما كلامه الثانى فباطل أيضا لأنه إذا اجتهد المجتهدان فلا بد أن يكون لأحدهما ترجيح على صاحبه بوجه ما إما في التأثير وإما في الشبه وكذلك في الظواهر ولهذا إذا تناظر الخصمان بان أن أحدهما أظهر حجة من صاحبه وقلما تخلوا مناظرة من ذلك ويعرف ذلك من يعتقد تصويب المجتهدين كما يعرف ذلك من لا يعتقد وعلى أن هذا الذى قالوه لو كان دليلا على تصويب المجتهدين في الفروع لكان في الأصول كذلك وذلك مثل الأشعرية والمعتزلة إذا تكلموا في تخليد الفساق أو تكلموا في الصفات أو تكلموا في القدر وفى جواز الرؤية على الله تعالى فيوجد من كل واحد أيضا ما يوجد لصاحبه وإنما يفترق الخصمان على التكافئ والتساوي في التأويلات وإيراد الأدلة والشبه ومع ذلك لا يدل ذلك على أن الجميع حق والكل صواب والاعتماد على الجواب الأول.

 

ج / 2 ص -326-       باب اختلاف القولين
وحين ذكرنا اختلاف الثانى من أقوال المجتهدين وأردنا حجة كل فريق على الإشباع والتمام وذكرنا الصحيح من ذلك فلا بد من ذكر القولين المنسوبين إلى الشافعى رحمه الله في المسائل وبيان الكلام فيه ووجه ذلك في الموضع الذى يصح وبيان ما لايصح من ذلك.
اعلم أن الأقاويل المتناقضة لا يجوز أن يعتقدها أحد من الناس نحو أن يعتقد أن فعلا حرام عليه ثم يعتقد أن ذلك الفعل بعينه على شرطه وجهته جائز له.
ويجوز اعتقاد وجوب أحد الفعلين عل البدل والتخيير مثل ما يعتقد من عليه كفارة اليمين أنه يجب التكفير عليه بأحد الأشياء الثلاثة.
ويجوز أيضا في فعلين وإن كانا ضدين كما يجوز أن يعتقد أن عليه الخروج الواحد من أحد هذه الأبواب أو عليه الصلاة الواحدة في أحد هذه الأماكن أو على المرأة أن تعتد بالأطهار أو بالحيض.
واعلم أن القول المختلف في الحادثة الواحدة على ضربين ضرب لا يسوغ فيه الاختلاف وضرب يسوغ فيه الاختلاف.
فأما الضرب الذى لا يسوغ فيه الاختلاف كأصول الديانات من التوحيد وصفات البارى عز اسمه وهى تكون على وجه واحد لا يجوز فيها الاختلاف وكذلك في فروع الديانات التي يعلم وجوبها بدليل مقطوع به مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج وكذلك المناهى الثابته بدليل مقطوع به فلا يجوز اختلاف القول في شئ من ذلك.
فأما الذى يسوغ ففيه الاختلاف وهى فروع الديانات إذا استخرجت أحكامها بأمارات الاجتهاد ومعانى الاستنباط فاختلاف العلماء فيه مسوغ ولكل واحد منهم أن يعمل فيه مما يؤدى إليه اجتهاده فأما قول العالم الواحد فيه بقولين مختلفين فلم يعلم قبل الشافعى رحمه الله تعالى من قال بذلك تصريحا وهو رحمه الله قد ابتكر هذه العباره وذكرها في كتبه وقد أنكر ذلك كثير من مخالفيه ونسبوه إلى الخطأ في ذلك وقالوا هذا دليل على نقصان الآلة وقلة المعرفة حين لم يعرف الحق من أحد القولين فاحتاج إلى تخريج المسألة على قولين وأيضا فإنه خرق الإجماع فإنه لم يتقدم أحد يقول بقولين فى

 

ج / 2 ص -327-       مسألة واحدة في حالة واحدة وإنما كانوا من استقر له [حق أثر]1 ذكره أو خفى عليه فأمسك عنه وأيضا فإن اعتقاد قولين مختلفين مناقضة ويمتنع أن يكون بالشئ الواحد حلالا وحراما ويمتنع أن يكون العقد الواحد صحيحا وفاسدا أو يكون الشئ الواحد مثبتا منفيا.
قالوا: وأما الروايتان عن أبي حنيفة ومالك فذلك في حالتين مختلفتين والمجتهد قد يجتهد في وقت فيؤدى اجتهاده إلى شئ ثم يجتهد في وقت آخر فيؤدى اجتهاده إلى خلافه إلا أن الثانى يكون رجوعا عن الأول ويكون الذي استقر عليه قول المجتهد هو الثانى وإن كان فتوى أو قضاء فيكون على ما قال عمر رضى الله عنه ذاك على ما قضينا وهذا على ما نقضى وإنما المستنكر اعتقاد قولين مختلفين في وقت واحد في حادثة واحدة فهذا طعن المخالفين في القولين وقد صنف بعضهم في ذلك تصنيفا مفردا ورأيت لأبى عبد الله البصرى الملقب يجعل في هذا الكتاب مفردا بل صنفه المعروف بالصاحب وهو إسماعيل بن عباد وإذا عرفت هذا فنقول: قد قسموا ما نسبوا إلى الشافعى رحمه الله من القولين أقساما وسنذكر تلك الأقسام حين نبين أن الذى قاله الشافعى ليس بموضع الإنكار والذى هو موضع الإنكار فإنه لا يقول به وهذا شئ ورد على طريق النقل فإن شيوخ المذهب أعلم بهذا من غيرهم.
وقال القاضي أبو الحسن الماوردى هو على أربعة عشر قسما:
أحدها: أن يقيد جوابه في موضع ويطلق في موضع آخر مثل قوله في أقل الحيض أنه يوم وليلة2 وقال في موضع آخر: أقله يوم يريد به مع ليلة وهذا معهود في كلام العرب من وجهين جاء القرآن بهما:
أحدهما: حمل المطلق على المقيد في جنسه لقوله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال في موضع آخر: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يحمل المطلق من الشهادة على ما فيه بها.
والثاني: إطلاق ذكر الأيام يقتضى إضافة الليالى إليها كما قال تعالى:
{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] والمراد مع الليالى فعلى هذين أحد القولين يخرج من جملة الاعتراض ولا نقول أن له في المسألة قولين ومن قال أبلغ فيه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا ثبت في الأصل "جوائر" ولعل الصواب ما أثبتناه.
2 انظر روضة الطالبين "1/134".

 

ج / 2 ص -328-       قولين فقد وهم:
والقسم الثاني: ما اختلف فيه ألفاظه مع اتفاق معانيها من وجه واختلاف معانيها من وجه فغلب بعض أصحابنا حكمها في الاختلاف ولم يغلب حكمها في الاتفاق فخرج حكم المسألة على قولين مثل قوله في المظاهر إذا منع الجماع أحببت أن يمنع القبلة والتلذذ وقال في القديم: رأيت أن يمنع القبلة والتلذذ1 وهى لفظة محتملة فيحتمل أن تحمل على الاستحباب والإيجاب فكان حملنا على ما صرح به من الاستحباب أولى من حملها على ما يجوز أن يحتمله من الإيجاب لأنه غير مذكور فإن توسع بعض الأصحاب وعدل باللفظ إلى ما يذكره في موضع الذى حمله على إيجاب الاجتناب بوجه الاعتراض عليه لكن بلا معترض على الشافعى فإن الشافعى له قول واحد والمحتمل محمول على غير المحتمل.
والقسم الثالث: ما اختلف قوله فيه لاختلاف حاله فينزل به بعض أصحابه عن اختلاف الحاليين إلى اختلاف القولين.
ومثاله: في الصداق إذا قدر في السر بتقدير وذكر أكثر منه في العلانية قال في موضع: الصداق صداق السر وقال في موضع الصداق صداق العلانية وليس ذلك منه لاختلاف قولين وإما هو لاختلاف حالين. فإن اختلف العقد بصداق السر فهو المستحق ويكون صداق العلانية تحملا وإن افترق العقد بصداق العلانية وهو المستحق ويكون صداق السر موعدا.
فإن قيل: فيستعمل هذا في كل ما يمكن من اختلاف القولين أو لا؟
قلنا يعتبر ذلك أصول مذهبه ويوجد ذلك على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يقتضى أصول مذهبه حكمها على اختلاف حالين فيحمل على اختلاف حالين ولا يحمل على اختلاف قولين.
والضرب الثاني: يمنع أصول مذهبه من حملها على اختلاف حالين فيحمل على اختلاف قولين على ما سبق صحته.
والضرب الثالث: أن تتقابل أصول مذهبه في أمرين فمن أصحابه من غلب حمله.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الإمام النووي "تكره القبلة لمن حركت شهوته ولا يأمن على نفسه وهي كراهة تحريم على الأصح والثاني: كراهة تنزيه ولا تكره لغيره ولكن الأولى تركها" انظر روضة الطالبين "2/362".

 

ج / 2 ص -329-       على اختلاف حالين ومن أصحابه من غلب على اختلاف قولين والأول أولى لأن ما أمكن حمله على الوفاق كان أولى من حمله على الخلاف.
والقسم الرابع: ما اختلف قوله فيه لاختلاف القراءة أو لاختلاف الرواية باختلاف القراءة مثل قوله تعالى:
{أَوْ لمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فقرئ "أو لامستم النساء" و "لامستم" يوجب الوضوء على الملامس والملموس ولمستم يوجب على اللامس دون الملموس1. واختلاف الرواية كالمروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان المواقيت أنه صلى العشاء الآخرة في اليوم الثاني حين ذهب من الليل نصفه وفى رواية أخرى: حين ذهب الليل ثلثه2 فلأجل اختلاف الرواية واختلاف القراءة اختلف قوله ولا يتوجه عليه في مثل هذا إنكار لأن اختلاف الدليل أوجب اختلاف المدلول فإن ترجح عنده إحدى القراءتين أو إحدى الروايتين كان مذهبه ما ترجح وإن لم يترجح أحدهما كان الترجيح مذهبا لمن ترجح عنده ولم يكن مذهبا للإمام الشافعى لأنه لم يترجح عنده ولا يجوز أن يضاف إليه مذهب هو عنده مجهول وإن كان عند غيره معلوما.
وأما القسم الخامس: فهو ما اختلف قوله فيه لأنه عمل على أحد القولين بظاهر من كتاب الله تعالى ثم بلغته مسألة ثابته نقلته عن الظاهر إلى قول آخر كقول الله تعالى في صيام المتمتع:
{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] فأخذ بظاهره وأوجب صيامها في أيام التشريق لأنها الظاهر من أيام الحج ثم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيامها3 فعدل بهذه الرواية عما عمله به من ظاهر الكتاب وأوجب صيامها بعد إحرامه. وقيل: يوم عرفة اتباعا للسنة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ النووي "لمس بشرة امرأة مشتهاة فإن لمس شعرا أو سنا أو ظفرا وعضوا مبانا من امرأة أو بشرة صغيرة لم تبلغ حد الشهوة لم ينتقض وضوءه على الأصح وإن لمس محرما بنسب أو رضاع أو مصاهرة لم ينقص على الأظهر وإن لمس ميتة أو عجوزا لا تشتهي أو عضوا أشل أو زائدا أو لمس بغيره شهوة أو عن غير قصد انتقض على الصحيح في جميع ذلك وينتقض وضوء الملموس على الأظهر والمرأة كالرجل في انتقاض طهرها بلمسها من الرجل ما ينقضه منها ولنا وجه شاذ أنها لاتزال نلموسة فإذا لمست رجلا كان في انتقاضها القولان وليس بشيء انظر روضة الطالبين "2/74, 95".
2 أخرجه مسلم: المساجد "1/428" ح "176/613" والترمذي: الصلاة "1/286" ح "152".
3 أخرجه مسلم: الصيام "2/800" ح "144/1141" وأبو داود: الصوم "2/332" ح "2419" والترمذي: الصوم "3/134" ح "773".

 

ج / 2 ص -330-       ومثل هذا قال في الصلاة الوسطى ولا إنكار عليه في هذا العدول لأنه في الحالتين عمل بدليل صار الثانى منهما أولى من الأول ويكون مذهبه هو القول الثانى دون الأول وكان القول الأول مذهبا له قبل الثانى فصار كالمنسوخ بالثانى وعلى هذا نظائر كثيرة في مثل هذين القولين والمذهب في الكل هو الثاني.
والقسم السادس: ما اختلف فيه قوله لأنه عمل بالقياس ثم بلغته سنته لم تثبت عند تخالف موجب القياس فجعل مذهبه من بعد ذكر السنة موقوفا على ثبوتها كالذى جاءت به السنة:من الصيام عن الميت1 والغسل من غسل الميت. رويا له من طريقين ضعيفين فقال بموجب القياس في أن الصيام على الميت ولا غسل من غسله ثم ذكر ما روى في السنة فقال: إن صح الحديث قلت به وأظهر موجب القياس وأوجب العدول عنه إن صح الحديث وقد قال كل قول قلته فثبت عن النبى صلى الله عليه وسلم خلافه فأنا أول راجع عما قلته وقائل بموجب الحديث وهذا مما يجب إظهار الاختلاف فيه وإن نقول بالسنة إن ثبتت وبالقياس إن لم يثبت ويكون ومذهبه في الحالتين ما يوجبه القياس دون السنة فإن ثبت ففى أى وقت ثبت يكون مذهبا له.
والقسم السابع: أن يذكر القولين لإبطال ما عداها من أقاويل كثيرة قد ذهب إليها المجتهدون أو يكون مذهبه موقوفا على ما يؤدى إليه اجتهاده من صحة أحدهما وإن لم يكن قائلا بهما في الحال ومثل هذا قد جابه الشرع والعمل:
أما الشرع فقول النبى صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر:
"التمسوها في العشر الأواخر في رمضان"2 فنفى أن يكون في غير العشر الأواخر من رمضان وجعل غير الليلة موقوفة على الاجتهاد في العشر الأواخر كأنها إذا اجتهد في الكل أصابها.
وأما العمل المأثور ما عمله عمر بن الخطاب رضى الله عنه في أهل الشورى فجعل الإمامة في ستة نفر ونفى بذلك طلب الإمامة من غيرهم وجعلها موقوفة على ما يؤدى إليه الاجتهاد منهم وهذا شئ انعقد إجماعهم وكان الشافعى رحمه الله مقتديا بالشرع من الرسول صلى الله عليه وسلم والعمل من الصحابة في مثله فلم يمتنع أن يبطل بالقولين ما عداهما ليكون الاجتهاد مقصورا عليهما ولا يعدوهما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: الصوم "4/227" ح "1953" ومسلم: الصيام "2/804" ح "155/1148".
2 أخرجه البخاري: ليلة القدر "4/301" ح "2016" ومسلم: الصيام "2/826" ح "216/1167".

 

ج / 2 ص -331-       والقسم الثامن: أن يقصد بالقولين إبطال ما توسط منهما ويكون مذهبه منهما ما حكم به وفرع عليه مثل قوله في وضع الحوائج وقد قيدها مالك بوضع الثلث فقال الشافعى ليس إلا واحد من القولين إما أن يوضع جميعها أو لا يوضع شئ منها ومثل قوله في الجارية الموصى بها إذا ولدت أو وهب لها مال بعد موت الموصى قبل قبول الموصى له أنه لما جعل بعض العلماء ولدها وبعض ما وهب لها لورثة الموصى وبعضها الموصى له قال: ليس إلا واحد من القولين إما أن ملكها الموصى له بالموت فيكون قبل ذلك بحدوثه على ملكه وإما أن يملك بالقول فيكون كل ذلك للورثة بحدوثه على ملكهم وليس لتبعيضه وجه وهذا تحقيق يبطل به ما خالف القولين وليس فيها تغيير لأحد القولين وإن كل الحق لا يخرج لأحدهما فإن اقترن ما يدل على اختياره كان هو المذهب المضاف إليه دون الآخر وإن تجرد عن قرينه لم يضف إليه واحد من القولين وإن علم أن الحق لا يخرج منها لعدم ما عداهما.
والقسم التاسع: أن يذكر قولين مختلفين في مسألتين منفضتين فيذكر أحد القولين في إحدى المسألتين ويذكر القول الآخر في المسألة الثانية فيخرجها أصحابه على قوله وهذا على الإطلاق غلط لأنه إذا كان بين المسألتين فرق من وجه امتنع أن يكون قوله في واحدة من المسألتين إلا ما نص عليه فيها سواء ذكر الفرق أو لم يذكر وتخريجها على قولين خطأ وإن لم يكن بينهما فرق لم يخل قولان له من أن يكون في وقت أو في وقتين فإن كان في وقتين كان كما قال في مسألة بقول ثم قال بعده فيها بقول آخر فيكون على ما سنذكره وإن كان قال لها في وقت فيكون على ما نذكره في مسألة واحدة بقولين في حالة واحدة.
والقسم العاشر: ما اختلف قوله فيه لأنه أداه اجتهاده إلى أحدهما وقال إنما أداه اجتهاده إلى القول الآخر فعدل إليه وهذا غير مستنكر في الصحابة ومن بعدهم من علماء الأمصار لأنه أدل على مداومة الاجتهاد وإمعان النظر هذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه اختلف قوله في ميراث الأخوة مع الجد فأسقطهم في أول قولهم وأشركهم معه في آخره وحكم في المشركة في العام الأول بالتشريك وفى العام الثانى بإسقاط التشريك وقال تلك على ما قضينا وهذا على ما نقضى واختلف قول على بن أبى طالب رضى الله عنه في ميراث الجد على أقاويل.
وقال في بيع أمهات الأولاد اجتمع رأيه ورأى أبى بكر وعمر رضى الله عنهم على

 

ج / 2 ص -332-       تحريم بيعهن وقد رأيت بيعهن جائز وليس أحد من الأئمة وجلة العلماء إلا وقد اختلفت الرواية عنه في كثير من أحكام الشرع فسماه أصحابهم روايات وسماه أصحاب الشافعى أقاويل وإذا كان كذلك فمذهبه القول الثانى لعدوله إليه ولا يرسل القولين إلا بعد التقييد بالجديد أو القديم والثانى يكون هو المذهب دون الأول.
والقسم الحادي عشر: أن يكون قال في المسألة بقول في موضع وقال فيها بقول آخر في موضع آخر فيخرجها أصحابه على قولين وهذا وإن كان في النقل صحيحا فهو في إضافتهما إليه على التساوى غلط وينظر في اختلاف القولين فإنهما على ضربين:
أحدهما: أن يتقدم أحدهما على الآخر فيكون كأنه قال بأحدهما ثم رجع عنه إلى الآخر فيكون على ما ذكرناه من قب.ل
والضرب الثاني: أن يشكل المتقدم منهما من المتأخر فلا يجوز أن يضافا إليه معا لأنه لم يقل بهما في حالة واحدة فإن كانت أصول مذهبه توافق أحدهما فقد اقترن بنصه عليه دليل من مذهبه فكان هو المذهب المضاف إليه وإن لم يكن في أصول مذهبه موافقة أحدهما فإن تكرر منه ذكر أحد القولين وفرع عليه دون الآخر فالذى عليه المزنى وطائفة من أصحاب الشافعى رحمه الله أنه المتكرر وذا التفريع هو مذهبه دون الآخر لترجيحه له على الآخر وإن استويا صار مذهبه فيهما مشتبها. فإذا قلنا: إن ألحق واحد من أقوال المجتهدين على ما هو المشهور عنه لم يجز أن يضاف إليه القولان لتنافيهما ولم يجز أن يضاف إليه أحدهما لأنه لم يتعين ويقال قد أشكل مذهبه في أحد القولين وإن لم يخرج عن أحدهما. وأما إذا أضيف إليه أن كل مجتهد مصيب جاز أن يضاف إلى مذهبه القولان على الانفراد بأحدهما دون الجمع بينهما ولم يجز أن ينفى عنه أحدهما لأنه قائل بما أضيف إليه غير عادل عما نفى عنه.
والقسم الثاني عشر: أن يذكر القولين حكاية عن مذهبه غيره ولا يوجب حكايته لهما أن يكون قولين لأن الحاكى يخبر عن معتقده غيره فلم يجز أن يضاف حاكيته إليه أنه يعتقده وهذا كمن حكى الكفر لا يصير كافرا ومن نقل الخلاف لا يكون مخالفا فإن أشار إليهما بالإنكار كان الحق عنده في غيرهما وإن أشار إليهما بالجواز جاز أن يكون الحق عنده فيها وفى غيرها وإن أشار إليها بالاختيار كان الحق عنده فيها ولم يكون في غيرها.
والقسم الثالث عشر: أن يذكر القولين معتقدا لأحدهما وزاجرا بالآخر كما فعل في

 

ج / 2 ص -333-       قضاء القاضى بعلمه وفى تضمين الأجير المشترك فإن مذهبه أن للقاضى أن يحكم بعلمه1 وأن لا ضمان على الأجير2. لكن ذكر الآخر زاجرا ومرهبا وقد قال الشافعى رحمة الله عليه بعد ذكر القولين فيهما ولولا خوفى ميل القضاة وخيانة الأجراء لجعلت للقاضى أن يحكم بعلمه وأسقط الضمان عن الأجير. فعلل منع القاضى بميله وضمان الأجير بخيانته فدل أن مذهبه فيمن لم يمل من القضاة جواز حكمه بعلمه وفيمن لم يخن من الأجراء سقوط الضمان عنه وإذا صح هذا فيمن أمن ميله وخيانته ثبت حكمه فيمن خيف ميله وخيانته لعموم الحكم في الجميع ولا عيب على الشافعى بمثل هذا لأن من كان ترغيما في الدين فحقيق أن يكون زاجرا.
واعلم أن جميع هذه الأقسام لا يتوجه عليها المنكر القولين اعتراض بما أوضحناه في كل قسم منه.
والقسم الرابع عشر: وهو المختص باعتراض منكر القولين وهو أن نقول في المسألة الواحدة في الحالة الواحدة بقولين مختلفين مجمع فيهما بين قولين متضادين فيحكم بحلية الشئ في أحدهما وتحريمه في الآخر ويوجب الشئ في أحدهما ويسقطه في الآخر فهذا على ضربين أحدهما أن يميز أحد القولين بما ينبه على اختياره. والثاني: أن يطلق ولا يميز فإن ميز أحدهما بما ينبه على اختياره فهو ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يرجح أحدهما فيقول: وبه أقول أو يقول: وهذا مما أستخير الله تعالى فيه أو يقول هذا أصح أو هو أشبه فيكون مذهبه منهما هو القول الذى أشار إلى ترجيحه.
والضرب الثاني: أن يفرع على أحدهما أو يكرر ذكره ولا يكرر ذكر الآخر فقد جعل بعض أصحابنا دليلا على الترجيح وبعض أصحابنا لم يجعله دليلا على الترجيح.
والضرب الثالث: أن يعمل بأحدهما دون الآخر فيكون عمله بذلك دليلا على أنه القول المختار. وأما الضرب الثاني: فهو إذا جمع بين القولين وأطلقهما ولم يميز أحدهما باختيار ولا ترجيح فهذا على ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يتوقف في القولين المتعارضين لاحتمال الأدلة وتعارضهما ويعلم أن الحق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر روضة الطالبين "11/156".
2 انظر روضة الطالبين "5/288".

 

ج / 2 ص -334-       فى أحدهما ولم يتعين له فجمع بينهما وتوقف فيهما وأبطل بهما ما عداهما وجعل الاجتهاد مقصورا عليهما ليستوضح الحق في أحدهما بمراجعة الاجتهاد فيهما وليس بمستنكر عند العلماء التوقف عند الأشباه وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف في اللعان وغيره حتى نزل القرآن وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمن وقاف" وهذا أدل على الورع وأبلغ في النظر ولا إنكار في مثل هذا إذا تجاذبت الأصول وتعارضت الأدلة ويكون القصد بذكر القولين في الحال بيان أن لكل واحد منها وجها في أحدهما الاجتهاد ويكون القصد أيضا إبطال ما عداهما ويكون من بينة إعادة الاجتهاد عند الفتيا والحكم به.
والضرب الثانى: أن يجمع بينهما في القول لتردد الفرع بين أصلين يحله أحدهما ويحرمه الآخر أو يوجبه أحدهما ويسقطه الآخر فيجمع بينهما في رد الفرع إليهما فيجعله حراما وحلالا واجبا ساقطا وهذا مستحيل أن يكون قائلا به. ومن المستحيل أن يجمع بين ضدين حسا فيستحيل أن يجمع بينهما حكما وهذا لا يقول به الشافعى ولا أحد من الأئمة.
والضرب الثالث: أن يجمع بين القولين على التخيير في أحدهما دون الجمع بينهما لتردد الفرع بين أصلين يحله أحدهما ويحرمه الآخر ويوجبه أحدهما ويسقطه الآخر فتخير في رده إلى أى الأصلين شاء لتساوى الشبه فيهما وتعارض الأدلة. وقيل: إن مثل هذا لا يوجد للشافعى رحمه الله إلا في سبعة عشر مسألة.
وقد أنكر أصحاب أبى حنيفه هذا. قالوا: لا يجوز أن يعتمد الفرع في الشبه بين أصلين متجاذبين وقالوا إنما يستحيل في الشرع التخيير بين حكمين متناقضين.
وأما عندنا فهو جائز وهو قول كثير من المتكلمين وإنما جاز التخيير بينهما على وجه البدل دون الجمع لأمرين:
أحدهما: أنه لا يمتنع اعتدال الفرع في الشبه بين أصلين متجاذبين لوجود ذلك عيانا كما لا يمتنع اعتدال جهتين مختلفتين في القبلة ثم كان لا يمتنع اعتدال جهتين مختلفتين في القبلة ثم كان لا يمتنع اعتدال جهتين في القبلة في التخيير في الصلاة إلى أيهما شاء أجماعا وكذلك جاز مثل هذا اعتدال فروع بين أصلين في تخيير رده إلى أيهما شاء.
والثانى: أن القياس طريق إلى الأحكام كالنصوص فلا جاز ورود النص بالتخيير في الكفارة جاز أيضا أن يكون القياس موجبا للتخيير كالنص وليس بمستحيل في الشرع ورود النص بالتخيير بين حكمين متنافيين كما تخير المسافر بين الصوم والفطر زمن الإتمام

 

ج / 2 ص -335-       والقصر وتخيير العبد بين الجمعة والظهر.
واعلم أن هذا الذى يقوله هذا القائل إنما يصح عند اعتقاد الإنسان جواز تكافؤ الأدلة واعتقاد إصابة المجتهدين ونحن قد بينا أن واحدا منهما لا يصح والأولى أن يقال: إن الشافعى لم يذكر القولين في هذا المعنى أيضا على معنى أنه معتقد لهما أو مخبر وإنما ذكرهما لأن الحادثة تحتمل كلا القولين ولم يترجح عنده بعد أحدهما فذكرهما لينظر فيهما ويختار بينهما الصواب فأدركه الموت قبل البيان وليس في هذا عيب على المجتهد بل هو دليل على غزارة علم المجتهد وكمال فضله وشدة توقيه فإن طلبوا الفائدة من ذكر القولين.
قلنا: قد بينا من قبل فائدة ذكر القولين وهذا الذى قلناه هو المختار وهو الأولى وعليه الاعتماد وإذا استقررنا على هذا سقط طعن الطاعن وعنت المتعنت والله الهادى إلى الصواب والمرشد فيه بمنه وطوله.
"فصل"
ونذكر في هذا الموضع مواضع اختلف فيها الأصحاب فيما يرجع إلى إثبات القولين أو إثبات قول واحد إذا ذكر في القديم قولا ثم ذكر في الجديد قولا بمذهبه الثانى والأول مرجوع عنه. ومن أصحابنا من قال لا يكون رجوعا عن الأول حتى يصرح بالرجوع عنه.
والصحيح: هو الأول وهو مثل ما لو وجد من صاحب الشرع قولان مختلفان في وقتين مختلفين في حادثة واحدة فإنه يكون الثانى نسخا للأول كذلك هاهنا يكون القول الثانى رجوعا عن الأول.
موضع آخر: إذا نص الشافعى رحمه الله في مسألتين على قولين ثم أعاد المسألتين وذكر فيهما أحد القولين كان ذلك اختيارا للقول المعاد وكذلك إذا فرع على أحد القولين كان ذلك اختيار للقول الذى فرع عليه وهو قول المزنى. ومن أصحابنا من قال: لا يكون ذلك دليلا على الاختيار.
والصحيح: هو الأول لأنه لما أعاد أحد القولين أو فرع عليه فالظاهر أن مذهبه هو ذلك لأنه لو كان مقيما على القولين لأعادهما وفرع عليهما جميعا فلما أفرد أحدهما

 

ج / 2 ص -336-       بالإعادة والتفريع دل أنه هو الذى يذهب إليه ويختاره.
موضع آخر: إذا نص في مسألتين على حكم ونص في غيرهما على حكم آخر وأمكن الفصل بين المسألتين لم ينقل جواب إحديهما على الأخرى بل يحمل كل واحد على ظاهره.
ومن أصحابنا من قال: ينقل الجواب إلى الآخر وتكون المسألتان على قولين.
الصحيح: هو الأول لأن القول إنما يجوز أن يضاف إلى الإنسان وإذا قال أو دل عليه بما يجرى مجرى القول وأما الذى لم يقله ولم يدل عليه فلا يجوز أن ينسب إليه لأن إذا كان صاحب المذهب قد نص على المخالفة فكيف يجوز الجمع بين ما خالف فيه بل ينبغى أن يفرق إذا أمكن الفرق ولا يخترع له قول لم يقل به.
موضع آخر: لا يجوز أن ينسب إلى الشافعى رحمه الله ما يخرج عنه قوله فيجعل قولا له.
ومن أصحابنا من قال: يجوز ذلك.
والصحيح: هو الأول كما ذكرناه في الفصل الأول.
فإن قيل: أليس ينسب إلى الله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم ما يقتضيه قياس قولهما فكذلك يثبت إلى صاحب المذهب ما يقتضيه قياس مذهبه قوله؟
الجواب: أن ما دل عليه القياس في الشرع لا يجوز أن يقال إنه قول الله ولا قول رسوله وإنما يقال هذا من الله ومن رسوله بمعنى أن الله تعالى دل عليه وكذلك رسوله ومثل هذا لا يصح في قول الشافعى فسقط ما قالوه.
موضع آخر: إذا قال الشافعى في موضع بقول ثم قال: ولو قال قائل كذا كان مذهبا لم يجز أن يجعل ذلك قولا به له وقال بعض أصحابنا يجعل ذلك قولا له.
والصحيح: هو الأول لأن قوله: فلو قال قائل كان مذهبا ليس فيه دليل على أن ذلك مذهب بل هو إخبار عن احتمال المسألة وجها من وجوه الاجتهاد فلا يجوز أن ينسب إليه قول بهذا القدر فهذه المواضع لا بد من معرفتها لمن يريد أن يقف على مذهب الشافعي.

 

ج / 2 ص -337-       فصل: فى الوجوه النى يجوز معها تخريج المذهب:
اعلم أن مذهب الإنسان هو اعتقاده فمتى ظننا أن اعتقاد الإنسان أو عرفناه ضرورة أو بدليل مجمل أو مفصل قلنا: إنه مذهبه ومتى لم نظن ذلك ولم نعلمه لم نقل إنه مذهبه ويدل الإنسان على مذهبه في المسألة بوجوه.
منها: أن يحكم في المسألة بعينها بحكم معين.
ومنها: أن تأتى بلفظ عام يشمل تلك المسألة وغيرها فيقول الشافعى رحمه الله الكل جائزا وغير جائز.
ومنها: أن يعلم أنه لا يفرق بين المسألتين وينص على حكم أحدهما فيعلم أن حكم الآخر عند ذلك الحكم مثل أن يقول الشفعة لجار الدار فنعلم أن جار الدكان مثل جار الدار.
ومنها: أن يعلل الحكم بعلة توجد في عدة مسائل فنعلم أن مذهبه شمول ذلك الحكم فتلك المسائل سواء قال بتخصيص العلة أو لم يقل أما إذا لم يقل بتخصيص العلة فلا يشكل ذلك وأما من قال بتخصيص العلة فإنما يقول بتخصيص العلة إذا دل على تخصيصها دلالة كالعموم وكما أن الكلام العام يدل على مذهبه فكذلك تعليله وأما إذا نص العالم في مسألة على حكم وكانت المسألة تشبه مسألة أخرى شبها يجوز أن يذهب على بعض المجتهدين فإنه لا يجوز أن يقال: قوله في هذه المسألة هو قوله في المسألة الأخرى لأنه قد لا تخطر المسألأة بباله ولم ينبه على حكمها لفظا ولا معنى ولا يمتنع لو خطر بباله لصار فيها إلى الاجتهاد الآخر وهذا قد سبق بيانه من قبل.
مسألة
ومما يتصل بباب الاجتهاد مسألة اختلفوا فيها وهى أنه هل يجوز أن يقال للرسول أو للعالم احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فقد منع من ذلك كثير من الناس وأجازه آخرون على العموم وذهب إليه يونس بن عمران وقال بعضهم: يجوز للنبى صلى الله عليه وسلم على الخصوص ولا يجوز لغيره وهذا هو المختار وقد ذكر الشافعى في كتاب الرسالة ما

 

ج / 2 ص -338-       يدل على هذا واستدل من منع ذلك وقال: إن الشرائع إنما تعبد الله تعالى بها لكونها مصالح.
والإنسان قد يختار الصلاح وقد يختار الفساد فلو أباح الله سبحانه للمكلف أن يحكم بما اختاره المكلف لكان قد أباحه الحكم مما لا نأمن كونه فسادا واستدل من جوز ذلك بأنه إذا جوز أن يفوض الله تعالى إلى المكلف أن يختار واحدة من الكفالات جاز أن يفوض إليه الحكم بواحد من الأحكام بحسب اختياره ولأنه إذا جاز أن يتعبد الله تعالى العامى ليختار العمل على فتوى واحد من الفقهاء ويتعين ذلك باختياره جاز مثل ذلك في أصل التعبد ولأنه إذا جاز أن يكلف الله من الإنسان العمل على الأمارات مع أنها قد تخطئ جاز أن يكلف الإنسان أيضا العمل على اختياره وإن كان الإنسان قد يختار الصواب كما يختار غير الصواب. وأما من قال: يجوز للأنبياء ولا يجوز لغيرهم فاستدل على ذلك بالوجود وهو قوله تعالى:
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] ولأن السنة مضافة إلى النبى صلى الله عليه وسلم وحقيقة الإضافة تقتضى أنها من قبله ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال في مكة: "لا يختلا خلاها ولا يعضد شجرها" قال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله فإنه لقبورها وأفنيتها. قال: "إلا الإذخر"1 ولأن النبى صلى الله عليه وسلم سئل عن الحج فقيل: أحجتنا هذه لعامنا أم للأبد فقال: "للأبد ولو قلت لعامنا لوجب -يعنى في كل سنة- وما استطعتم"2 ولأن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "ولولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"3 ويدل عليه قوله عليه السلام: "عفوت عن أمتى صدقة الخيل والرقيق إلا أن في الرقيق صدقة الفطر"4 قالوا: ولأنه روى أن موسى عليه السلام أثبت الأحكام كلها من جهته إلا تسع آيات أنزلها الله تعالى والأولى أن يتعلق في هذه المسألة بوجود وجوب الأشياء عن اختيار من الموجب وقد تحقق هذا من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم.
فأما في حق غيره فلم يوجد وهذا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معصوما من الخطأ فيجوز أن يقال: له احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب وهذا لا يوجد في حق غيره فلم يامن خطأه ولأن الله تعالى قد قال:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: الصيد "4/55" ح "1833" ومسلم: الحج "2/986" ح "445/1353".
2 أخرجه البخاري: العمرة "3/709" ح "1785" ومسلم:الحج "2/883" ح "141/1216".
3 أخرجه البخاري: الجمعة "2/534" ح "887" ومسلم:الطهارة "1/220" ح "42/252".
4 أخرجه أبو داود: الزكاة "2/103" ح "1574" والترمذي: "3/7" ح "620" والنسائي: الزكاة "5/26" "باب زكاة الزرق" انظر نصب الراية "2/356".

 

ج / 2 ص -339-       {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] وقال في موضع: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] ولم يقل إلى اختيار الرجال. وأما مسألة الكفارات فالإيجاب قد كان من قبل الله تعالى فإنه قد أوجب واحدة من الكفارات على العبد وإنما يختار واجبا لا أنه يجب باختياره عليه شئ وكذلك في العامى إذا استفتى فإنما وجد منه مجرد اختيار فواجب لأنه قد وجب على العامى الرجوع إلى العالم في الأحكام. وأما هاهنا الكلام فيما ذكرناه وهو أنه يوجب باختياره فإن قال قائل: أليس من نذر شيئا فقد أوجب على نفسه باختياره. قلنا: ليس هذا من مسألتنا في شئ لأن مسألتنا هى أن يحكم بشئ ابتداء في شئ من غير دليل يرجع إليه فيوجبه على نفسه أو غيره أو يحرمه على نفسه أو غيره فيثبت شرعا مبتدأ يرجع إليه تماما النذر فأما النذر فمن باب الالتزامات وهو عقد مشروع من قبل الله تعالى للعباد يعقدونها أو يلتزمونها مثل سائر العقود وليس شرع مبتدأ من قبل العبد واعلم أن هذه المسألة أوردها متكلموا الأصوليين وليست بمعروفة بين الفقهاء وليس فيها كثير فائدة لأن هذا في غير الأنبياء لم يوجد ولا يوجد توهمه في المستقبل فأما في حق النبى صلى الله عليه وسلم فقد وجد فقلنا على ما وجد وهذا القدر كاف في هذه المسألة والله أعلم.
ولما تم ما أوردناه من الكلام في الاجتهاد وذكرنا صفة المجتهد والمختار مما ينبغى أن يعتقد في أقوال المجتهدين فيكون الكلام بعد هذا في التقليد وما يتصل به وسنذكر من بعد ذلك ما يقع الحاجة إليه.