قواطع الأدلة في الأصول

ج / 2 ص -292-       مسألة أسباب الشرائع
وهى مسألة لابد من ذكرها وللفقهاء إلى ذلك حاجة شديدة لأنها تدخل في مسائل كثيرة.
اعلم أن الواجبات الشرعية عندنا بالخطاب المحض من الله تعالى فكل ما وجب فوجوبه بإيجاب الشرع وكل ما حرم فحرمته بتحريم الشرع ونقول على هذا إن الإيمان وجب على العبد بإيجاب الله تعالى وكذلك الصلاة والزكاة وسائر العبادات وجوبها على العباد بإيجاب الله تعالى.
قال أبو زيد في كتاب تقويم الأدلة: إن أصل الدين وفروعه من العبادات والكفارات والحدود والمعاملات مشروعة بأسباب عرفت أسبابا لها بدليل قام على ذلك.
وأما الأمر فإنه لا إلزام إذا ما وجب علينا بسببه كما يقول البائع للمشترى: اشتريت فأد الثمن كان الأمر طلبا للأداء لا سببا للوجوب في الدية.
قال: وعندنا أن الواجب في الذمة لا يجب نحو الوجوب بل بالطلب من مستحقه وذلك بالخطاب والوجوب بأسباب شرعية غير الخطاب وذلك لأنا نجد وجوب حقوق الله تعالى على من لا يصح خطابه نحو النائم والمغمى عليه والمجنون إذا قصر جنونه وإن قصر وقت العبادة وكذلك الصبى على أصل الشافعى يلزمه الزكاة وكفارات الإحرام وكفارة القتل وإن كان طفلا لا يتصور خطابه فعلمنا أن الوجوب بأسباب غير الخطاب حتى صحت في حقهم كما في حق غيرهم وهو كما يلزمه من حقوق العباد بمداينة الولى وكما يعتق عليه أبوه إذا ورثه لأن السبب هو الملك وقد صح في حقه.
ألا ترى: وجوب الأداء لما كان بالخطاب لم يلزم واحدا من هؤلاء أداء حقوق الناس كما لم يجب أداء حقوق الله تعالى والدليل عليه أن الصلوات تجب متكررة وكذلك سائر الحقوق في الأمر بالفعل لا يقتضى التكرار بحال أطلق أو علق بوقت فإن من قال لآخر: تصدق بدرهم من مالى لم يملك إلا مرة واحدة وكذلك إذا قال حين يصبح أو يسمى أو قال لمجئ عدو لما لم يجب التكرار بنفس الأمر علمنا أن التكرار سبب موجب لتكرار الوجوب كل حين يتكرر.

 

ج / 2 ص -293-       قال: فنقول وبالله التوفيق: إن سبب وجوب أصل الدين وهو معرفة الله تعالى هو الآيات في العالم الدالة على حدث العالم1 وهى دائمة أبدا لا يمكن زوالها عنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الشيخ الصعيدي: للفلاسفة في هذا الموضوع آراء غريبة وأقوال لا مدلول لها إلا في مخيلتهم يقولون: إن المبدأ الفياض هو الله تعالى لكونه واحدا من كل الجهات لم يصدر عنه غير شيء واحد ويستحيل أن يصدر عن غيره على قاعدتهم المشهورة "الواحد لا يعمد عنه إلا الواحد" وسموه العقل الأول ثم هذا باعتبار جهاته الوجود والوجوب بالغير والإمكان يصدر عنه أشياء ثلاثة: عفل ثان ونفس وجسم "جرم الفلك" وهكذا إلى آخر العقول العشرة ثم عن العاشر تصدر العناصر الأربعة النار والهواء والماء والأرض منها تكون المواليد الثلاثى والمعادن والنباتات والحيوانات ويسمى العنصر باعتبار تركب الجسم منه اسطقسا وباعتبار تحليله إليه عنصرا والفلكيات عندهم قديمة بموادها وصورها وأشكالها سوى الجزئى من الأوضاع والحركات والعناصر القديمة بموادها وصورها لكن بالنوع أما الصورة الشخصية لها فحادثة والمشهورة أن صورها قديمة بالجنس وهي الصورة الجسمية أعم من أن تكون فلكية أو عنصرية نارية أو هوائية أو غيرهما وأما بالنوع فحادثة أيضا فيجوز أن يكون نوع النار حادثا بسبب الحركات الفلكية عن نوع الهواء ويرد عليه بأنهم صرحوا الاسطقسان باقية في أمزجة المواليد الثلاثة وهي قديمة بالنوع عندهم بحسب تواردها أفرادها فيلزم قدم الصورة العنصرية كذلك والكون والفساد في العناصر إنما هو في الأفراد الشخصية لا النوعية.
هذا ملخص مذهبهم في قدم العالم وأشهر أدلتهم عليه أن العالم جائز أن يكون محالا أو واجبا لذاته اما هو ظاهر فتعين أن يكون جائزا وعليه فإن وجد الأزل مايلزم لوجوده وجب وجوده فيه لاستحالة تخلف المعلول من علته التامة وإن لم يوجد لزم نقص الواجب وهو محال وردوا دليلنا التاي "بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث" بأنه غير تام لجواز أن يكون حدوثهما باعتبار الشخص وتوكن قديمة باعتبارها النوع كما هو عندهم فلا يكون ماقامت به حادثا وأجيب عن هذا بأمور منها: أن النوع كلى والكلى لا وجود له إلا في ضمن الجزئي فيستحيل أن يكون قديما مع حدوث جزئيه بل لا بد أن يكون قديما مثله وهو باطل إذ الجزئي حادث بالمشاهدة ولهم الرد على هذا بأنه يعد جعلهم الجزيئات لا نهاية لها لا يلزم قدم جزئي منها لأن تلك السلسلة الغير متناهية كافية في أن يوجد في ضمنها النوع ولا يلزم ذلك المحزور ورد دليلهم مبني على أن العالم صادر عن الله جل شأنه بطريق التعليل من غير أن يكون فيثبت حدوثه قالوا: هذا في اختيار الحادث يحتاج إلى التوجه وصرف القدرة نجو المقدرو والتهيؤ للإيجاد ومحال ذلك في اختيار الواجب وورد بالمنع وأنه يستحيل أن يكون له اختيار في إيجاد العالم مع كون وجوده مقارنا لوجوده بالضرورة وإرادة الله شأنها الترجيح والتخصيص أي وقت شاء فالله يسبق اختياره للإيجاد ولكن لايكون الإيجاد إلا في الوقت الذي شاءه فيه ولا شيء من تلك النقائض التي في الحادث هنا قطعا. =

 

ج / 2 ص -294-       فلأن وجوب أصل الدين كذلك بحيث لا يحتمل النسخ والزوال والتبدل وإنما يسقط

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والعام حادث عند المتكلمين والدليل على أنه لا يخلو إما أن يكون أعراضا أو أعيانا فالأعراض بعضها حادث بالمشاهدة كالحركة الحادثة بعد السكون والضوء الآتي بعد الظلمة وبعضها بالدليل وهو طريان العدم كالسكون ينعدم بالحركة والظلمة بالضوء وانعدام الشيء ينافي قدمه وذلك لأن القديم إما أن يكون واجبا بذاته أو يستند إلى الواجب بذاته بطريق التعليل لا بالقصد والاختيار لأنه لا يكون إلا في الحادث على ماتقدم فيه لإإن كان واجبا بذاته فامنافاة ظاهرة وإن كان مستندا إليه على طريق الإيجاب يمتنع عدمه من حيث أنه يلزم عليه تخلف المعلوا على علته وهي الواجب لذاته والتخلف محال وما يقال من أنه لا يجوز أن يستند لشرط متعاقبة لا إلى نهاية ثم ينعدم مردود ببرهان التطبيق الآتي أما في الأول فظاهر وأما في الثاني فلأن عدم الحادث لابد أن يشترط بأمور لا نهاية لها ينقطع بعدمها فيجري في تلك الأمور البرهان أيضا.
وللأشعري طريق آخر في إثبات حدوث الأعراض وهو أنها لو كانت باقية والبقاء عرض يلزم قيام العرض بالعرض وهو بديهي البطلان وسيأتي بيان ضعف هذا الدليل.
وأما الأعيان فهي حادثة لأنها لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وبيان المقدمة الأولى أن الأعيان لا تخلو إما أن تكون متحركة أو ساكنة إذا الحركة على آخر تحقيق لها كون أو في مكان ثان والسكون كذلك كون ثان في مكان أول وقيل: إن الحركة هي الكون في الحيز المسبوق بكون آخر في حين آخر والسكون مالم يكن كذلك فيشمل مالم يكن مسبوقا بكون أصلا كما في أن الحدوث بخلافه على الأول ورد ذلك بأن آن الحدوث لا لبث فيه فلا يصح جعله من السكون وخروجه عن الحركة والسكون على ماهو التحقيق ل يضر في دعوى حدوث الأعيان لأن هذا الكون حادث أيضا فعدم الخلو عنه يستلزم حدوث الأعيان وقيل: إن الحركة هي مجموع الكونين في الخبرين والسكون مجموع الكونين في الحيز ويرد عليه بأنه في صورة ما إذا حدث شيء في مكان واستقر فيه آنين وانتقل منه في الآن الثالث إلى مكان آخر يلزم أن يكون الثاني جزءا من الحركة والسكون ويكون الساكن في آن سكونه الثاني شارعا في الحركة وذلك بديهي البطلان ولأجله حمل المحققون هذا القول على غير ما يقيده ظاهره وأن الكون السابق لتوقف الحركة والسكون عليه سهل جعله جزءا منهما على طريق المسامحة والتجوز وإطلاق الجزء على هو شرط شائع كثير الوقوع.
والحركة والسكون حادثان لا محالة أما أولا فلأنهما من الأعراض وقد ثبت حدوثهما ولأن الحركات لما فيها من الانتقال من حال إلى حال تقتضي المسبوقية بالحال الأول والأزلية تنافيها والسكون قابل للحركة بدلالة التماثل في التركب من الجواهر الفردة المتماثلة وأيضا فهو جائز العدم فيمتنع قدمه على ماتقدم والقول بأن قدمه بطريق التعليل لا ينافى كونه ممكنا بالنظر لذاته يبطل بأن كونه كذلك أمر يعتبره العقل وهو غير جواز وقوع العدم فإن هذا مستحيل فيه لما يلزم عليه عن علته وهذا الجواب هو مايقبله الذوق السليم وبه يندفع الشبهات الواردة في هذا المقام التي جعلت البعض في حيرة حتى ألجأته إلى أن يقول كل قديم فهو واجب لذاته حتى لا يرد هذا الاعتراض من أصله وما قاله ظاهر البطلان.
وأما المقدمة الثانية فبديهية الثبوت إذ ما لايخلو من الحوادث لو كان قديما لزم قدم الحادث وهو محال انظر زبدة العقائد النسفية ص "26, 27, 28, 29, 30".

 

ج / 2 ص -295-       الأداء في بعص الأحوال للعجز كما يسقط أداء الصلاة عن النائم مع وجوب عليه وسبب الوجوب الصلاة أوقاتها بدليل تكرر الوجوب بتكرر الوقت فإنها لو كانت شروطا لما تكرر الوجوب بتكررها بدون أسبابها ولا يعقل غير الخطاب سببا آخر للوجوب مع الوقت ولما بطل أن يكون الخطاب موجبا للتكرار بقى الوقت سببا بنفسه وصار الخطاب سببا ملزما إذا وجب في ذمته بسبب آخر ويدل عليه أنه يضاف إليه.
فيقال: صلاة الظهر والعصر ومطلق إضافة الحادث إلى شئ يدل على حدوثه كما يقال: كفارة القتل وغرامة الإتلاف ووجوب هو الحادث عند وجود الوقت دل أن الوجوب كان بالوقت وقد يضاف إلى الشرط أيضا لكنه يكون على وجه المجاز كما أن الحكم وجد عنده والكلام لحقيقته إلى أن يقوم الدليل على المجاز ويدل عليه أن الله تعالى قال:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] واللام تذكر للتعليل في مثل هذه المواضع كما يقول القائل: يتطهر للصلاة وتأهب للشتاء فثبت أن السبب هو الوقت وكل جزء من الوقت سبب تام فإنه لو كانت السببية تتعلق بالجميع لوجبت بعد الوقت كالزكاة تجب بعد الحول قال: وأما الصوم فسببه الشهر لأنه يضاف إليه فيقال صوم رمضان ويتكرر بتكرره كالصلاة مع الوقت.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"1.
كما قال تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].
وقال تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
علق إيجاب الأداء بشهود الشهر فعلم أنه سبب الوجوب حيث استقام طلب الأداء بعده كالرجل يقول: من اشترى شيئا ليؤد ثمنه أى ليؤد الواجب بالشراء قال: وسبب وجوب الزكاة النصاب من المال الذى عرف في الزكاة بدليل تضاعف الوجوب بتضاعف النصاب في وقت واحد وبدليل الإضافة إليه. فيقال: زكاة السائمة وزكاة مال التجارة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: الصوم "4/143" ح "1909" ومسلم: الصيام "2/762" ح "18/1081".

 

ج / 2 ص -296-       وقال عليه السلام: "لا صدقة إلا عن ظهر غنى"1.
وقال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "
أعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم"2.
والغنى يكون بالمال.
وأما الحول إنما اعتبره الشرع تيسيرا للعباد وهذا لأن المال إنما يعتبر سببا إذا أعد للنماء بسببه من تجارة أو إسامة والنمو لا يكون إلا بمدة وقام الحول مقام النمو الذى يصير به المال سببا ولما قام مقام السبب تكرر الوجوب بتكرره.
قال: وسبب وجوب الجزية الرءوس3 بأوصاف معلومة لأمه لأنه يقال: خراج الرأس يتضاعف بعدد الرءوس.
قال: وسبب العشر الأراضى النامية وكذلك الخراج بدليل أنه يقال: عشر الأرض وخراج الأرض.
وأما الحج فسبب وجوبه البيت دون الوقت بدليل أنه لا يتكرر بتكرر الوقت ولذلك يضاف الحج إلى البيت. فيقال: حج البيت.
قال الله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97].
قال: وأما الوقت فشرط في هذا الموضع عنده يجب الحج وأما الاستطاعة فصفه للعبد عندها يحل الوجوب وكان اعتبارها تيسيرا على العباد كما في السفر بلا زاد ولا راحلة من المشقة وليست الاستطاعه بصفة لما هو سبب فلم يجعل من السبب.
ولهذا قيل: إذا عجل العبد الحج قبل الاستطاعة أجزأه4 وتيسير الاستطاعة بملك الزاد والراحلة وقد جاز الأداء قبل ملك ذلك دل أن السبب قد وجد كما يجوز للمسافر أن يصوم قبل الإقامة لأن السبب وهو الشهر قد وجد ولذلك لا يتجدد الوجود بتجدد ملك الزاد والراحلة لأنه ليس بسبب وأما سبب وجوب صدقة الفطر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أصله عند البخاري ومسلم أخرجه البخاري: الزكاة "3/345" ح "1426" عن أبي هريرة بلفظ "خير الصدقة ما كان..." ومسلم: الزكاة "2/717" ح "95/1034" عن حكيم بن حزام بلفظ البخاري وأحمد: المسند "2/309" ح "7174" ولفظه.
2 أخرجه البخاري: الزكاة "3/307" ح "1395" ومسلم: الإيمان "1/50" ح "29/19".
3 انظر الهداية "2/452".
4 مذهب الحنفية أن العبد إذا حج قبل العتق وعتق لم يجزيه هذا عن حجة الإسلام انظر الهداية "1/147".

 

ج / 2 ص -297-       على المسلم وأيش يلزمه مؤنته1 فولايته عليه ووقت الفطر شرط عمل السبب في الإيجاب عنده بدليل تضاعف الوجوب بتضاعف الرأس وإن كان يوم الفطر واحدا.
وأما إضافة الصدقة إلى الفطر فمجاز لأنها تجب فيه لا لأنه سبب وهذا لأن الرأس ليس سبب كل حين لأن صدقة الفطر لا تجب كل حين وكل ساعة وإنما هو سبب للوجوب في وقت خاص وهو انفجار الصبح يوم الفطر فإذا لم يكن أهلا للوجوب عليه لم يجب كما لا يجب الحج على المستطيع إذا كان كافرا أو صبيا في أشهر الحج ولا فرق بينهما إلا أن ذلك الوقت ممدود وهذا الوقت مقصور فعلى هذا لا تجب صدقة الفطر على كل كافر يسلم بعد الصبح لأنه ليس بأهل للوجوب عليه.
قال: وأما الكفارات فأسبابها ما أضيفت إليها كالزنا والسرقة والقذف وشرب الخمر والسكر وسبب وجوب الطهارة الصلاة لأنه يقال: طهارة الصلاة ويسقط في نفسه إذا سقطت الصلاة والشروط لا تجب إلا بما علق صفتها بها كالشهادة في النكاح واستقبال القبلة في الصلاة.
وأما أسباب المعاملات فتعلق بقاء المقدور بتعاطيها وبيان ذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم وقدر بقاء جنسه إلى القيامة من طرق التناسل ولا تناسل إلا بإتيان الذكور النساء في موضع الحرث فشرع الله تبارك وتعالى له طريقا يتأدى به ما قدر الله تعالى من غير أن يتصل به فساد وضياع وهو طريق الازدواج بلا شركة في الوطء ففى الوطء على التغالب فساد وفى الشركة ضياع النسل فإن الأب متى اشتبه عليه الولد بقى على الأم وما بها قوة كسب الكفارات في أصل الجبلة ولذلك خلق النفوس وقدر بقاءها إلى آجالها ولا طريق للبقاء غير إصابة المال بعضهم من بعض بقدر المحتاج إليه لكل شخص أن يتهيأ له إلا بأناس آخرين وعافى أيديهم فشرع لذلك أسبابا للإصابة على تراض ليكون طريقا لبقاء ما قدره الله تعالى من غير فساد ففى الأخذ بالتغالب فساد ويدل عليه أن الله تعالى خلق الدنيا دار محنة وابتلاء بخلاف هوى النفس على ما قال الله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. والعبادة إعمال بخلاف هوى النفوس وما خلق الدنيا دار نعيم واقتضاء شهوة للمؤمنين وإنما هو للمؤمنين في الدار الآخرة فعلمنا أن الله تعالى ما شرع لنا طريق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر الهداية "1/124".

 

ج / 2 ص -298-       الأكل والوطء وما يسستوفي من الشهوات بالأموال لأنفسنا. بل بحكم ابتلائنا بإقامته وفى الناس مطيع يعمل لله تعالى بلا شهوة له وعاص لا يعمل فخلق الشهوات مقرونة بها ليأتيها المطيع بحق الأمر والعاصى فيتأدى بالفريقين جميعا حكم قدرة الله تعالى فيكونوا جميعا فيما فعلوا مبتلين بأمر حكمه عاملين له بخلاف هوى نفوسهم فالكافر يهوى خلاف الله تعالى فيما أمره وقدره جميعا وعلى هذا أفعال الكفرة جهلا وتعنتا لا يخرجهم من كونهم مبتلين بها من الله تعالى بخلاف هوى نفوسهم فإن الله تعالى قد قدر أن يكون للنار قوم استوحبوها بما كان منهم وكذلك قدر أن يكون للجنة خلق استوحبوها بما كان منهم جزاء وفاقا فحفت النار بالشهوات والجنة بالمكاره فصار مرتكب الشهوة مع الصابر على المكروه مبتلى بإقامة حكم الله تعالى على ما قال: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الأعراف: 179] كثيرا من الجن والإنس وإنما كانوا لجهنم لما كان منهم من خلاف الأمر على سبيل الاختيار وقال تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] وقال {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 10] وقال صلى الله عليه وسلم: "كل ميسر لما خلق له"1.
فصار كل منا مبتلا بما خلق له في عاقبة أمره تقديرا أطاع الأمر وارتكب النهى إثباتا لقهر العبودية عليهم وعظمة الألوهية تبارك الله الواحد القهار فالمطيع في طاعة ربه.
لأول أمر مبتلا بخلاف هوى نفسه والآخر مبتلا في طاعة نفسه لإقامة حكم الله في عاقبة أمره بخلاف هوى نفسه إلا أن ابتلاء المطيع بالأمر وابتلاء الكافر بالقدر والحكم لله الأكبر هذا كلام أبى زيد سردته بما فيه ولم أترك منه إلا الذيل الذى لا يعبأ به.
واعلم أن الذى قاله خطأ واختراع ولا أظن أن أحدا قبله صار إليه وإنما الناس كانوا على أحد قولين في الإيمان فذهب أهل السنة إلى أن الوجوب بالخطاب من الشارع وذهب طائفة إلى أن الوجوب بالعقل ولم يعرف أن أحدا من الأمة قال: إن وجوب الإيمان ينصب الدلائل من رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال وخلق الشمس والقمر والكواكب فإنما في هذا القول أنه خلاف الأمة ومكابرتهم باختراع قول ثالث لم يعرف.
وأما سائر العبادات وكل الأوامر والنواهى الواردة من الشرع فقد قالت الأمة: إن عامتها سمعية وإنما قال من قال بإيجاب العقل وحظره في أشياء يسييره وذلك مثل شكر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه البخاري: لاتوحيد "13/530" ح "7551" ومسلم: القدر "4/2041" ح "9/2649".

 

ج / 2 ص -299-       المنعم ومنع الظلم وغير ذلك.
فأما العبادات المعروفة والكفارات والتحميدات وغاية الحدود فقد أجمعت الأمة أنها سمعية ومعنى قولهم نحن نقول إنها سمعية أنها وجبت بالسمع وهو خطاب الله تبارك وتعالى بالإيجاب فإن قالوا: نحن نقول: إنها سمعية على معنى أن الله تعالى وضع هذه الأسباب وجعلها موجبة.
قلنا قولنا: واجبات سمعية أنها وجبت بأقوال مسموعة لأن ما لا يسمع لا يكون سمعية والسمع يختص بالأقوال وإذا كان على ما قالوا لم تكن سمعية ولا عقلية إما لا يكون سمعية لأنه لم يكن وجوبها بقول يسمع وإما لم تكن عقلية لأن ما قلتم يقتضى وجوبها على من لايعقل هذه بالأسباب في حق الكل على العموم من العقلاء وغير العقلاء. ثم يدل بدليلين واقعين في أن الوجوب بالخطاب. فنقول: أمر الله تعالى مؤثر في الإيجاب لأن الله تعالى رب الخلق والفهم والخلق عبيد له وأمر المالك مؤثر في الإيجاب على العبد مثل ما تعرفه من أمرنا على عبيدنا ومماليكنا فأما زمان يأتى ويمضى وما كان يوجد ويذهب ومال يملكه العبد ويفنى لا يعرف لها تأثير في إيجاب شئ على العبد ويعنى بالأزمان أزمان الصلوات وزمان الصوم ويعنى بالمكان ما ذكروه من البيت وأنه سبب الحج ويعنى بالمال مال النصاب فلا يعرف لهذه الأشياء تأثير في إيجاب شئ منها. نعم يجوز أن يكون الزمان علامة وأمارة وكذلك المكان. أو يقال: إن الزمان ظرف العبادة والمكان مكان العبادة والمال محل الواجب من الزكاة والكفارات والنصوص التي وردت في الكتاب والسنة تذكر هذه الأشياء فإنما هى على هذا المعنى لا غير وقد ورد النص في أن الله تعالى هو الموجب للأشياء. قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:
"ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك فأعلمهم أن الله تعالى فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم"1.
والحديث الآخر حديث ضمام بن ثعلبة أنه قال: يا رسول الله إن رسولك أتانا وأخبرنا أن الله تعالى فرض علينا كذا وكذا الخبر ويدل عليه قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97].
وهذا نص في أن الله تعالى هو الذى أوجبه علينا فإن قيل: نحن نقول: إن الله

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.

 

ج / 2 ص -300-       تعالى فرض علينا لكن على معنى أنه تعالى نصب الأسباب وهذه الأسباب للإيجاب.
ثم قالوا: إن الأوامر الواردة في الشرع من قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. وقوله عليه السلام: "صوموا شهركم وصلوا خمسكم وأدوا زكاة اموالكم طيبة بها أنفسكم وحجوا بيت ربكم"1. مفيدة فعل الأداء فأما أصل الإيجاب فكان الذى قدمناه وهذا لأن قوله: صل وزك وصم وحج أمر بالفعل والأمر بالفعل تالى الوجوب ففذا لم يتقدم الوجوب لم يتصور الأمر بالأداء.
والجواب: أنا قد بينا أن هذه الأشياء لا تصح أسبابا وأما الخطاب فصالح للسببية.
وأما قولهم: إن الله تعالى جعل هذه الأشياء أسبابا للوجوب.
قلنا: هذه دعوى لابد عليها من دليل ومجرد الإضافة لا تدل على السببية لأن الشئ قد يضاف إلى سببه وقد يضاف إلى شرطه ويضاف إلى محله.
فإن قالوا: إن الأصل ما قلنا.
قلنا: ليس كذلك لأن الإضافة لا تدل إلا على التعريف وكل ما يصلح تعريفا للشئ يصلح للإضافة التي قلتم وعلى أنه يقال: دين الله فيضاف إلى الله. فهل نقول إن الله تعالى سبب للوجوب.
وأما قولهم: في الدليل على ما ادعوه بثبوت تكرره عند تكرر الوقت قلنا: هو لقيام الدليل وهذا لأن الأمر لا يدل على التكرار بنفسه.
فأما عند وجود قرينة تنضم إليه يدل على التكرار فيدل عليه وعلى أنه قد قال جماعة من أصحابنا: إن الأمر المعلق بالوقت يتكرر بتكرر الوقت وهذه الأوامر معلقة بالأوقات فتكررت بتكرر الأوقات فسقط ما قالوه جملة.
وأما قولهم: إن الأوامر الواردة في الكتاب والسنة إنما تدل على فعل الأداء قلنا يدل على الوجوب أولا. ثم يدل على فعل الأداء مثل السيد إذا قال لعبده: اسقنى فإنه يدلل على الوجوب عليه ويدل على فعل السقى ونحن نعلم قطعا أن وجوب السقى في هذه الصورة كان بقوله: اسقنى لا بشئ آخر فقدم عليه فعلمنا أن الأمر المجرد على الوجوب الذى يعتقدونه بالسبب ودل على الفعل أيضا وهذا فصل معتمد وقد ذكرنا في الخلافيات: أن الواجب ليس إلا أداء الفعل وهو مستفاد بخطاب

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه الترمذي: الصلاة "2/516" ح "616" وقال: حسن صحيح أحمد: المسند "5/309" ح "22323".

 

 

ج / 2 ص -301-       الشرع بالاتفاق والوجوب الذى يدعونه لا يمكن تحقيقه إلا بإيجاب الفعل وهذا لأن الصلاة فعل والصوم فعل وكذلك سائر العبادات والكفارات في نظائر هذا والخصم يورد على هذا الواجبات التي تأخر أداؤها مثل الصوم على الحائض وعلى المسافر والمريض والصوم على المغمى عليه.
وأجبنا عن هذا: بأن في هذه المواضع لا نقول بالوجوب من قبل إنما يجب الصوم على الحائض إذا طهرت وأما المريض والمسافر فقد وجب الصوم عليهما والتأخير رخصة ونحن لا ننكر أن يتوجه الوجوب ثم تعترض رخصة مؤخرة وهذا قد قررناه في مسائل الفروع ولكن اخترنا في الأصول الجواب الأول وهو أحسن وأبين وأقطع للخصومة والمنازعة.
وأما وجوب الزكاة والكفارات عندنا في أموال الصبيان فذاك بأمر الشرع والأصل أن كل ما أدى إليه إيجابه إلى إيقاع الصبى والمجنون في كلفة وطلبه فهو موضوع عنه رحمه من قول الله تعالى وذلك كالعبادات البدنية فأما ما يكون وجوبه في الذمة والأداء بالمال ويتأدى بفعل الغير فإيجابها عليه لا يوقعه في كلفة فيجب في ذمة بخطاب الشرع وإيجابه ثم الخطاب بالأداء يتوجه على الولى دون الصبى وهذا على ما عرف في مسألة زكاة الصبى وقد اقتصرنا في الجواب على هذا القدر لئلا يطول وفى كلامه الذى حكيناه خبط عظيم وصدقة الفطر لازمة لأنه إنما يعرف صدقة الفطر بالإضافة إلى الفطر ومع ذلك لم يجعلوا الفطر سببا وفى الجزية يقال: خراج الرأس فيبقى على هذا أن لا يتكرر كما أنهم لما قالوا: إن سبب الحج هو البيت بحكم الإضافة لا يتكرر وفيما قلناه من قبل كفاية. والله أعلم.
وحين انتهى الكلام في القياس فنذكر الكلام الآن في الاجتهاد وما يتصل به.