قواعد الأحكام في مصالح الأنام [فَصْلٌ فِي الْبِدَعِ]
ِ الْبِدْعَةُ فِعْلُ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي عَصْرِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهِيَ
مُنْقَسِمَةٌ إلَى: بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ، وَبِدْعَةٌ
مُحَرَّمَةٌ، وَبِدْعَةٌ مَنْدُوبَةٌ، وَبِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ،
وَبِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ، وَالطَّرِيقُ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ
أَنْ تُعْرَضَ الْبِدْعَةُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ:
فَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْإِيجَابِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ،
وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ التَّحْرِيمِ فَهِيَ
مُحَرَّمَةٌ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ الْمَنْدُوبِ
فَهِيَ مَنْدُوبَةٌ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي قَوَاعِدِ
الْمَكْرُوهِ فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، وَإِنْ دَخَلَتْ فِي
قَوَاعِدِ الْمُبَاحِ فَهِيَ مُبَاحَةٌ، وَلِلْبِدَعِ
الْوَاجِبَةِ أَمْثِلَةٌ.
أَحَدُهَا: الِاشْتِغَالُ بِعِلْمِ النَّحْوِ الَّذِي يُفْهَمُ
بِهِ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَلِكَ وَاجِبٌ لِأَنَّ حِفْظَ
الشَّرِيعَةِ وَاجِبٌ وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُهَا إلَّا
بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ
فَهُوَ وَاجِبٌ.
الْمِثَالُ الثَّانِي: حِفْظُ غَرِيبِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
مِنْ اللُّغَةِ.
الْمِثَالُ الثَّالِثُ: تَدْوِينُ أُصُولِ الْفِقْهِ.
الْمِثَالُ الرَّابِعُ: الْكَلَامُ فِي الْجُرْحِ
وَالتَّعْدِيلِ لِتَمْيِيزِ الصَّحِيحِ مِنْ السَّقِيمِ،
وَقَدْ دَلَّتْ قَوَاعِدُ الشَّرِيعَةِ عَلَى أَنَّ حِفْظَ
الشَّرِيعَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِيمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ
الْمُتَعَيَّنِ، وَلَا يَتَأَتَّى حِفْظُ الشَّرِيعَةِ إلَّا
بِمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلِلْبِدَعِ الْمُحَرَّمَةِ أَمْثِلَةٌ. مِنْهَا: مَذْهَبُ
الْقَدَرِيَّةِ، وَمِنْهَا مَذْهَبُ الْجَبْرِيَّةِ، وَمِنْهَا
مَذْهَبُ الْمُرْجِئَةِ، وَمِنْهَا مَذْهَبُ الْمُجَسِّمَةِ،
وَالرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْبِدَعِ الْوَاجِبَةِ.
(2/204)
وَلِلْبِدَعِ الْمَنْدُوبَةِ أَمْثِلَةٌ.
مِنْهَا: إحْدَاثُ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ وَبِنَاءِ
الْقَنَاطِرِ، وَمِنْهَا كُلُّ إحْسَانٍ لَمْ يُعْهَدْ فِي
الْعَصْرِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا: صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ،
وَمِنْهَا الْكَلَامُ فِي دَقَائِقِ التَّصَوُّفِ، وَمِنْهَا
الْكَلَامُ فِي الْجَدَلِ فِي جَمْعِ الْمَحَافِلِ
لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْمَسَائِلِ إذَا قُصِدَ بِذَلِكَ
وَجْهُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَلِلْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ أَمْثِلَةٌ. مِنْهَا: زَخْرَفَةُ
الْمَسَاجِدِ، وَمِنْهَا تَزْوِيقُ الْمَصَاحِفِ، وَأَمَّا
تَلْحِينُ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ تَتَغَيَّرُ أَلْفَاظُهُ عَنْ
الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ
الْمُحَرَّمَةِ.
وَلِلْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ أَمْثِلَةٌ. مِنْهَا:
الْمُصَافَحَةُ عَقِيبَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَمِنْهَا
التَّوَسُّعُ فِي اللَّذِيذِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ
وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ، وَلُبْسِ الطَّيَالِسَةِ،
وَتَوْسِيعِ الْأَكْمَامِ. وَقَدْ يُخْتَلَفُ فِي بَعْضِ
ذَلِكَ، فَيَجْعَلُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْبِدَعِ
الْمَكْرُوهَةِ، وَيَجْعَلُهُ آخَرُونَ مِنْ السُّنَنِ
الْمَفْعُولَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَا بَعْدَهُ، وَذَلِكَ
كَالِاسْتِعَاذَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْبَسْمَلَةِ.
[فَصْلٌ فِي الِاقْتِصَادِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْخُيُورِ]
الِاقْتِصَادُ رُتْبَةٌ بَيْنَ رُتْبَتَيْنِ، وَمَنْزِلَةٌ
بَيْنَ مَنْزِلَتَيْنِ، وَالْمَنَازِلُ ثَلَاثَةٌ:
التَّقْصِيرُ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ، وَالْإِسْرَافِ فِي
جَلْبِهَا، وَالِاقْتِصَادُ بَيْنَهُمَا. قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ
وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا
مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] وَقَالَ: {وَالَّذِينَ إِذَا
أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ
ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وَقَالَ حُذَيْفَةُ:
الْحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ
التَّقْصِيرَ سَيِّئَةٌ، وَالْإِسْرَافَ سَيِّئَةٌ،
وَالْحَسَنَةَ مَا تَوَسَّطَ بَيْنَ الْإِسْرَافِ
وَالتَّقْصِيرِ،
(2/205)
وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا، فَلَا
يُكَلِّفُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ مِنْ الْخُيُورِ
وَالطَّاعَاتِ إلَّا مَا يُطِيقُ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهِ
وَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمَلَالَةِ وَالسَّآمَةِ، وَقَالَ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي قِيَامِ اللَّيْلِ: «لِيَصِلَ
أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ فَإِذَا وَجَدَ كَسَلًا أَوْ فُتُورًا
فَلْيَقْعُدْ - أَوْ قَالَ فَلْيَرْقُدْ» - وَمَنْ تَكَلَّفَ
مِنْ الْعِبَادَةِ مَا لَا يُطِيقُهُ، فَقَدْ تَسَبَّبَ إلَى
تَبْغِيضِ عِبَادَةِ اللَّهِ، وَمَنْ قَصَّرَ عَمَّا
يُطِيقُهُ، فَقَدْ ضَيَّعَ حَظَّهُ مِمَّا نَدَبَهُ اللَّهُ
إلَيْهِ وَحَثَّهُ عَلَيْهِ، قَدْ «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ التَّنَطُّعِ فِي
الدِّينِ وَقَدْ هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» ، «وَأَنْكَرَ
عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الْتِزَامَهُ
قِيَامَ اللَّيْلِ، وَصِيَامَ النَّهَارِ، وَاجْتِنَابَ
النِّسَاءِ وَقَالَ لَهُ أَرَغِبْت عَنْ سُنَّتِي؟ فَقَالَ:
بَلْ سُنَّتَك أَبْغِي، قَالَ: فَإِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ
وَأُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَنْكِحُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ
عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وَقَدْ نَهَى اللَّهُ
عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَأَصْحَابَهُ عَمَّا عَزَمُوا
عَلَيْهِ: مِنْ سَرْدِ الصَّوْمِ وَقِيَامِ اللَّيْلِ
وَالِاخْتِصَاءِ، وَكَانُوا قَدْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ
الْفِطْرَ وَالنَّوْمَ ظَنًّا أَنَّهُ قُرْبَةً إلَى
رَبِّهِمْ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ غُلُوٌّ فِي
الدِّينِ وَاعْتِدَاءٌ عَمَّا شَرَعَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ
اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87] وَالتَّقْدِيرُ وَلَا
تُحَرِّمُوا تَنَاوُلَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالنِّكَاحِ وَلَا
تَعْتَدُوا بِالِاخْتِصَاءِ، إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُخْتَصِّينَ، أَوْ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ
بِالِاخْتِصَاءِ وَغَيْرِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ
وَلَا تَعْتَدُوا بِمَا الْتَزَمْتُمُوهُ: أَيْ وَلَا
تَعْتَدُوا الِاقْتِصَادَ إلَى السَّرَفِ، وَإِنَّمَا عَزَمُوا
عَلَى ذَلِكَ تَحْبِيبًا إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،
فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَا يُحِبُّ مَنْ اعْتَدَى حُدُودَهُ،
وَمَا رَسَمَهُ مِنْ الِاقْتِصَادِ فِي أُمُورِ الدِّينِ.
وَلِلِاقْتِصَادِ أَمْثِلَةٌ: فِي اسْتِعْمَالِ مِيَاهِ
الطَّهَارَةِ فَلَا يُسْتَعْمَلُ مِنْ الْمَاءِ إلَّا قَدْرُ
الْإِسْبَاغِ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ الْمُدِّ فِي
الْوُضُوءِ وَالصَّاعِ فِي الْغُسْلِ، لِأَنَّهُ قَدْ نُقِلَ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
أَنَّهُ «كَانَ يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ
بِالصَّاعِ» ، وَلِلْمُتَوَضِّئِ وَالْمُغْتَسَلِ فِي ذَلِكَ
ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ
(2/206)
مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ كَاعْتِدَالِ خَلْقِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقْتَدِي
بِهِ فِي اجْتِنَابِ التَّنْقِيصِ عَنْ الْمُدِّ وَالصَّاعِ.
الْحَالُ الثَّانِيَةُ أَنْ يَكُونَ ضَئِيلًا لَطِيفَ
الْخَلْقِ بِحَيْثُ يُعَادِلُ جَسَدُهُ بَعْضَ جَسَدِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُسْتَحَبُّ
لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْ الْمَاءِ مَا تَكُونُ نِسْبَتُهُ
إلَى جَسَدِهِ كَنِسْبَةِ الْمُدِّ وَالصَّاعِ إلَى جَسَدِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الْحَالُ الثَّالِثَةُ أَنْ يَكُونَ مُتَفَاحِشَ الْخَلْقِ فِي
الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَعَظْمِ الْبَطْنِ وَفَخَامَةِ
الْأَعْضَاءِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَنْ مِقْدَارٍ
تَكُونُ نِسْبَتُهُ إلَى بَدَنِهِ كَنِسْبَةِ الْمُدِّ
وَالصَّاعِ إلَى بَدَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
تَوَضَّأَ مُفْرِدًا وَمُثَنِّيًا وَمُثَلِّثًا، وَقَالَ
وَهَذَا وُضُوئِي، وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي،
وَوُضُوءُ خَلِيلِي إبْرَاهِيمَ، فَمَنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ
فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ» .
وَلَفْظُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد عَنْ عَمْرِو بْنِ
شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ رَجُلًا أَتَى
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الطُّهُورُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَغَسَلَ
كَفَّيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا، ثُمَّ
غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ
أَدْخَلَ إصْبَعَيْهِ السَّبَّابَتَيْنِ فِي أُذُنِهِ وَمَسَحَ
إبْهَامَهُ عَلَى ظَاهِرِ أُذُنَيْهِ وَبِالسِّبَابَتَيْنِ
بَاطِنَ أُذُنَيْهِ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلَاثًا
ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ؛ فَمَنْ زَادَ
عَلَى هَذَا أَوْ نَقَصَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ - أَوْ
ظَلَمَ وَأَسَاءَ» - وَأَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ
مَاجَهْ؛ وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ نَقَصَ عَنْ الْمَرَّةِ
فَقَدْ أَسَاءَ وَمَنْ زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ فَإِنْ كَانَ
قَاصِدًا لِلْقُرْبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ فَقَدْ
أَسَاءَ لِتَقَرُّبِهِ إلَى الرَّبِّ بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ،
وَإِنْ قَصَدَ بِهِ تَبَرُّدًا أَوْ تَنَظُّفًا بِالْمَاءِ
الْحَارِّ أَوْ تَدَاوِيًا، فَإِنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ
أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ فَرَّقَ
بَيْنَهَا فَقَدْ أَسَاءَ بِتَفْرِيقِ الْوُضُوءِ لَا
بِمُجَرَّدِ الزِّيَادَةِ.
(2/207)
وَمِنْهَا الِاقْتِصَادُ فِي الْمَوَاعِظِ:
«كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَوَّلُ
أَصْحَابُهُ بِالْمَوْعِظَةِ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْهِمْ»
، وَالْمَوَاعِظُ إذَا كَثُرَتْ لَمْ تُؤْثِرْ فِي الْقُلُوبِ
فَيَسْقُطُ بِالْإِكْثَارِ فَائِدَةُ الْوَعْظِ.
وَمِنْهَا الِاقْتِصَادُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، وَقَدْ نَهَى
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ
السَّرَفِ فِيهِ، وَقَالَ: «خُذُوا مِنْ الْعَمَلِ مَا
تُطِيقُونَ، فَوَاَللَّهِ لَا يَسْأَمُ اللَّهُ حَتَّى
تَسْأَمُوا» .
وَمِنْهَا الِاقْتِصَادُ فِي الْعُقُوبَاتِ وَالْحُدُودِ
وَالتَّعْزِيرَاتِ فَيُعَاقَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجُنَاةِ
عَلَى حَسَبِ قُوَّتِهِ وَضَعْفِهِ، وَكَذَلِكَ رَجْمُ
الزُّنَاةِ لَا يُرْجَمُ بِحَصَيَاتٍ وَلَا بِصَخَرَاتٍ
وَإِنَّمَا يُضْرَبُ بِحَجَرٍ لَطِيفٍ يُرْجَمُ بِمِثْلِهِ فِي
الْعَادَةِ، وَكَذَلِكَ الِاقْتِصَادُ فِي الضَّرْبِ لَا
يُبَالَغُ فِيهِ إلَى سَفْحِ الدَّمِ، وَلَا يُضْرَبُ ضَرْبًا
لَا أَثَرَ لَهُ فِي الزَّجْرِ وَالرَّدْعِ، بَلْ يَكُونُ
ضَرْبُهُ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ سَوْطُ
الضَّرْبِ بَيْنَ سَوْطَيْنِ، لَيْسَ بِحَدِيدٍ يَقْطَعُ
الْجُلُودَ وَلَا بِبَالٍ لَا يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ،
وَكَذَلِكَ الزَّمَنُ يَكُونُ بَيْنَ زَمَانَيْنِ كَزَمَنَيْ
الرَّبِيعِ وَالْخَرِيفِ دُونَ زَمَنَيْ الْحَرِّ الشَّدِيدِ
وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ، وَهَذَا الِاقْتِصَادُ فِي الضَّرْبِ
وَالسَّوْطُ جَارٍ فِي ضَرْبِ الرَّقِيقِ وَالصِّبْيَانِ
وَالْبَهَائِمِ وَالنِّسْوَانِ عِنْدَ التَّأْدِيبِ
وَالرِّيَاضَةِ وَالنُّشُوزِ.
وَمِنْهَا الِاقْتِصَادُ فِي الدُّعَاءِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ
عَلَى أَدْعِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا اخْتِيَارُ
الْأَدْعِيَةِ، فَنُقِلَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - دَعَوَاتٌ مُخْتَصَرَاتٌ جَامِعَاتٌ، وَعِلَّةُ
ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَنَا بِالتَّضَرُّعِ وَالْخُفْيَةِ
فِي الدُّعَاءِ، وَلَا يَحْضُرُ ذَلِكَ غَالِبًا إلَّا
بِالتَّكَلُّفِ، وَإِذَا أَطَالَ الدُّعَاءَ عَزَبَ
التَّضَرُّعُ وَالْإِخْفَاءُ وَذَهَبَ أَدَبُ الدُّعَاءِ،
وَقَدْ اسْتَحَبَّ الشَّافِعِيُّ أَنْ يَكُونَ دُعَاءُ
التَّشَهُّدِ دُونَ قَدْرِ التَّشَهُّدِ.
وَمِنْهَا الْجَهْرُ بِالْكَلَامِ لَا يُخَافِتُ فِيهِ
بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ حَاضِرُوهُ، وَلَا
(2/208)
يَرْفَعُهُ فَوْقَ حَدِّ أَسْمَاعِهِمْ،
لِأَنَّ رَفْعَهُ فَوْقَ أَسْمَاعِهِمْ فُضُولٌ لَا حَاجَةَ
إلَيْهِ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ إخْفَاءُ الدُّعَاءِ فَإِنَّ
اللَّهَ يَسْمَعُ الْخَفِيَّ كَمَا يَسْمَعُ الْجَلِيَّ،
فَرَفْعُ الصَّوْتِ فِي مُنَاجَاةِ الرَّبِّ فُضُولٌ لَا
حَاجَة إلَيْهِ.
وَمِنْهَا الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ لَا يَتَجَاوَزُ فِيهِمَا
حَدَّ الشِّبَعِ وَالرَّيِّ، وَلَا يَقْتَصِرُ مِنْهُمَا عَلَى
مَا يُضْعِفُهُ وَيُضْنِيهِ وَيُقْعِدُهُ عَنْ الْعِبَادَاتِ
وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ
الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31] وَقَالَ: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ
إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا
تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141]
.
وَمِنْهَا إمْكَانُ السَّيْرِ إلَى الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا
تُزَادُ فِيهِ شِدَّةُ الْإِسْرَاعِ الْمُضْنِيَةِ
لِلْأَجْسَادِ وَلَا التَّبَاطُؤُ الْخَارِجُ عَنْ
الْمُعْتَادِ.
وَمِنْهَا زِيَارَةُ الْإِخْوَانِ لَا يُكْثِرُ مِنْهَا
بِحَيْثُ يَمَلُّونَهُ وَيَسْتَثْقِلُونَهُ، وَلَا يَقِلُّ
مِنْهَا بِحَيْثُ يَشْتَاقُونَهُ وَيَعْتِبُونَهُ.
وَمِنْهَا مُخَالَطَةُ النِّسَاءِ لَا يُكْثِرُ بِحَيْثُ
تَغْلِبُ عَلَيْهِ أَخْلَاقُهُنَّ، وَلَا يُقَلِّلُهَا
بِحَيْثُ يَتَأَذَّيْنَ بِذَلِكَ.
وَمِنْهَا دِرَاسَةُ الْعُلُومِ لَا يُكْثِرُ مِنْهَا بِحَيْثُ
يُؤَدِّي إلَى السَّآمَةِ وَالْكَرَاهَةِ، وَلَا يُقَلِّلُهَا
بِحَيْثُ يُعَدُّ مُقَصِّرًا فِيهَا.
وَمِنْهَا السُّؤَالُ عَمَّا تَدْعُوَا الْحَاجَةُ إلَيْهِ
إلَى السُّؤَالِ عَنْهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا لَا يُكْثِرُ
مِنْهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ.
وَكَذَلِكَ الْمِزَاحُ وَالضَّحِكُ وَاللَّعِبُ.
وَكَذَلِكَ الْمَدْحُ الْمُبَاحُ لَا يُكْثِرُ مِنْهُ وَلَا
يَتَقَاعَدُ عَنْ الْيَسِيرِ مِنْهُ عِنْدَ مَسِيسِ
(2/209)
الْحَاجَةِ تَرْغِيبًا لِلْمَمْدُوحِ فِي
الْإِكْثَارِ مِمَّا مَدَحَ بِهِ أَوْ تَذْكِيرًا لَهُ
بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ لِيَشْكُرَهَا وَلِيَذْكُرَهَا
بِشَرْطِ الْأَمْنِ عَلَى الْمَمْدُوحِ مِنْ الْفِتْنَةِ.
وَكَذَلِكَ الْهِجَاءُ الَّذِي تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ لَا
يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ إلَّا حَيْثُ أُمِرَ بِهِ فِي
الشَّهَادَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالْمَشُورَاتِ، وَلَا تَكَادُ
تَجِدُ مَدَّاحًا إلَّا رَذْلًا، وَلَا هَجَّاءً إلَّا
نَذْلًا، إذْ الْأَغْلَبُ عَلَى الْمَدَّاحِينَ الْهَجَّائِينَ
الْكَذِبُ وَالتَّغْرِيرُ، وَمَدْحُك نَفْسَك أَقْبَحُ مِنْ
مَدْحِك غَيْرِك، فَإِنَّ غَلَطَ الْإِنْسَانِ فِي حَقِّ
نَفْسِهِ أَكْثَرُ مِنْ غَلَطِهِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، فَإِنَّ
حُبَّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ، وَلَا شَيْءَ أَحَبُّ
إلَى الْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يَرَى عُيُوبَ
غَيْرِهِ وَلَا يَرَى عُيُوبَ نَفْسِهِ، وَيَعْذُرُ بِهِ
نَفْسَهُ بِمَا لَا يَعْذُرُ بِهِ غَيْرَهُ، وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ
اتَّقَى} [النجم: 32] وَقَالَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ
يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}
[النساء: 49] . مَبْحَثٌ قَدْ يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ
إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ وَلَا يَمْدَحُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ
إلَّا إذَا دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ
خَاطِبًا إلَى قَوْمٍ فَيُرَغِّبَهُمْ فِي نِكَاحِهِ، أَوْ
فَيُعَرِّفَ أَهْلِيَّتَهُ الْوِلَايَاتِ الشَّرْعِيَّةَ
وَالْمَنَاصِبَ الدِّينِيَّةَ لِيَقُومَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ
عَلَيْهِ عَيْنًا أَوْ كِفَايَةً كَقَوْلِ يُوسُفَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي
حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] وَقَدْ يَمْدَحُ الْمَرْءُ
نَفْسَهُ لِيُقْتَدَى بِهِ فِيمَا مَدَحَ بِهِ نَفْسَهُ
كَقَوْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا تَعَنَّيْت
مُنْذُ أَسْلَمْت، وَلَا تَمَنَّيْت، وَلَا مَسِسْت ذَكَرِي
بِيَمِينِي مُنْذُ بَايَعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْأَقْوِيَاءِ
الَّذِينَ يَأْمَنُونَ التَّسْمِيعَ وَيُقْتَدَى
بِأَمْثَالِهِمْ.
(2/210)
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَالْأَوْلَى
بِالْمَرْءِ أَنْ لَا يَأْتِيَ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَعْمَالِهِ
الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ إلَّا بِمَا فِيهِ جَلْبُ
مَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ أَوْ آجِلَةٍ أَوْ دَرْءِ مُفْسِدَةٍ
عَاجِلَةٍ أَوْ آجِلَةٍ، مَعَ الِاقْتِصَادِ الْمُتَوَسِّطِ
بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، فَلَا يَأْتِي فِي
طَهَارَتِهِ إلَّا بِمَا يُكْمِلُ طَهَارَتَهُ، لِأَنَّ
الزَّائِدَ عَلَيْهِ عَبَثٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ فِي الْكَلَامِ إلَّا
بِمِقْدَارِ مَا يَبْلُغُ سَامِعِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي
وَعْظٍ أَوْ زَجْرٍ، «فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَطَبَ اشْتَدَّ
غَضَبُهُ وَعَلَا صَوْتُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ مُنْذِرُ جَيْشٍ،
وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّلْبِيَةِ تَذْكِيرًا
لِلنَّاسِ بِهَا حَتَّى يُلَبُّوا» ، وَلِذَلِكَ شُرِعَ رَفْعُ
الصَّوْتِ فِي الْأَذَانِ لِكَثْرَةِ السَّامِعِينَ وَخَفْضُهُ
فِي الْإِقَامَةِ لِقِلَّةِ الْحَاضِرِينَ، وَلِهَذَا
الْمَعْنَى قَالَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ: {ادْعُوا رَبَّكُمْ
تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] أَنَّهُ إذَا سَمِعَ
الدُّعَاءَ الْخَفِيَّ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعِ الصَّوْتِ
لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا
عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:
55] فَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَرَادَ الَّذِينَ
يَعْتَدُونَ بِرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي الدُّعَاءِ، وَقَالَ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ لَمَّا
رَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالذِّكْرِ: «أَرْبِعُوا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا
إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا دُونَ رُءُوسِ
رِحَالِكُمْ» وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ فِي
الدُّعَاءِ وَلَا فِي غَيْرِهِ.
وَنُقِلَ «عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ جَهَرَ فِي أَدْعِيَةٍ» وَلَكِنْ كَانَ
جَهْرُهُ تَعْلِيمًا لِأَصْحَابِهِ دُونَ النَّوْعِ مِنْ
الدُّعَاءِ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَّا التَّعْلِيمُ
فَيَكُونُ لِلْجَاهِرِ بِذَلِكَ أَجْرَانِ
أَحَدُهُمَا: أَجْرُ الدُّعَاءِ.
وَالثَّانِي: أَجْرُ التَّعْلِيمِ.
وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ لَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَتَكَلَّمَ
إلَّا بِمَا يَجُرُّ مَصْلَحَةً أَوْ يَدْرَأُ مَفْسَدَةً،
وَكَذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» فَإِنْ قِيلَ فَمَا
تَقُولُونَ فِي الْمِزَاحِ؟ قُلْنَا: إنَّمَا
(2/211)
يَجُوزُ الْمِزَاحُ لِمَا فِيهِ مِنْ
الِاسْتِرْوَاحِ إمَّا لِلْمَازِحِ أَوْ لِلْمَمْزُوحِ مَعَهُ
وَإِمَّا لَهُمَا.
وَأَمَّا الْمِزَاحُ الْمُؤْذِي الْمُغَيِّرُ لِلْقُلُوبِ
الْمُوجِسُ لِلنُّفُوسِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ
تَحْرِيمٍ أَوْ كَرَاهَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْزَحُ جَبْرًا
لِلْمَمْزُوحِ مَعَهُ وَإِينَاسًا وَبَسْطًا، كَقَوْلِهِ
لِأَخِي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: «يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ
النُّغَيْرُ» وَشَرْطُ الْمِزَاحِ الْمُبَاحِ أَنْ يَكُونَ
بِالصِّدْقِ دُونَ الْكَذِبِ.
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ أَخْذِ الْمَتَاعِ
عَلَى سَبِيلِ الْمِزَاحِ فَهَذَا مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ
تَرْوِيعِ صَاحِبِ الْمَتَاعِ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
«لَا يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا جَادًّا»
جَعَلَهُ لَاعِبًا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ أَخَذَهُ بِنِيَّةِ
رَدِّهِ، جَادًّا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ رَوَّعَ أَخَاهُ
الْمُسْلِمَ بِفَقْدِ مَتَاعِهِ، وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَا
يَنْبَغِي لِعَاقِلٍ أَنْ يَخْطِرَ بِقَلْبِهِ وَلَا يَجْرِي
عَلَى جَوَارِحِهِ إلَّا مَا يُوجِبُ صَلَاحًا أَوْ يَدْرَأُ
فَسَادًا، فَإِنْ سَنَحَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ فَلْيَدْرَأْ مَا
اسْتَطَاعَ.
وَالطَّرِيقُ فِي إصْلَاحِ الْقُلُوبِ الَّتِي تَصْلُحُ
الْأَجْسَادَ بِصَلَاحِهَا وَتَفْسُدُ بِفَسَادِهَا
تَطْهِيرُهَا مِنْ كُلِّ مَا يُبَاعِدُ عَنْ اللَّهِ
وَتَزْيِينُهَا بِكُلِّ مَا يُقَرِّبُ إلَيْهِ وَيُزْلِفُهُ
لَدَيْهِ مِنْ الْأَحْوَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ
وَحُسْنِ الْآمَالِ وَلُزُومِ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ
وَالْإِصْغَاءِ إلَيْهِ وَالْمُثُولِ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي
كُلِّ وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ وَحَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ
عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً إلَى
السَّآمَةِ وَالْمَلَالِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ هِيَ
الْمُلَقَّبَةُ بِعِلْمِ الْحَقِيقَةِ، وَلَيْسَتْ
الْحَقِيقَةُ خَارِجَةً عَنْ الشَّرِيعَةِ، بَلْ الشَّرِيعَةُ
طَافِحَةٌ بِإِصْلَاحِ الْقُلُوبِ بِالْمَعَارِفِ
وَالْأَحْوَالِ وَالْعُزُومِ وَالنِّيَّاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ
مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَمَعْرِفَةُ
أَحْكَامِ الظَّوَاهِرِ مَعْرِفَةٌ لِجُلِّ الشَّرْعِ،
وَمَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الْبَوَاطِنِ مَعْرِفَةٌ لِدَقِّ
الشَّرِيعَةِ، وَلَا يُنْكِرُ شَيْئًا مِنْهُمَا إلَّا كَافِرٌ
أَوْ فَاجِرٌ، وَقَدْ يَتَشَبَّهُ بِالْقَوْمِ مَنْ لَيْسَ
مِنْهُمْ وَلَا يُقَارِبُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ الصِّفَاتِ
وَهُمْ شَرٌّ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَلِأَنَّهُمْ
يَقْطَعُونَ طُرُقَ الذَّاهِبِينَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَقَدْ اعْتَمَدُوا عَلَى كَلِمَاتٍ قَبِيحَاتٍ يُطْلِقُونَهَا
عَلَى اللَّهِ وَيُسِيئُونَ الْأَدَبَ
(2/212)
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ
وَأَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْأَتْقِيَاءِ،
وَيَنْهَوْنَ مَنْ يَصْحَبُهُمْ عَنْ السَّمَاعِ مِنْ
الْفُقَهَاءِ، لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ يَنْهَوْنَ
عَنْ صُحْبَتِهِمْ وَعَنْ سُلُوكِ طَرِيقِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُصُولَ أَنْوَاعٌ أَحَدُهَا. الْخَوْفُ
وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ مَعْرِفَةِ شِدَّةِ الِانْتِقَامِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الرَّجَاءُ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ
مَعْرِفَةِ الرَّحْمَةِ وَالْإِنْعَامِ.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: التَّوَكُّلُ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ
مَعْرِفَةِ تَفَرُّدِ الرَّبِّ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ
وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ،
وَالْإِعْزَازِ وَالْإِذْلَالِ، وَالْإِكْثَارِ
وَالْإِقْلَالِ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْمَحَبَّةُ وَلَهَا سَبَبَانِ
أَحَدُهُمَا: مَعْرِفَةُ إحْسَانِهِ وَعَنْهَا تَنْشَأُ
مَحَبَّةِ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ
مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ
إلَيْهَا فَمَا الظَّنُّ بِمَحَبَّةِ مَنْ الْإِنْعَامُ
كُلُّهُ مِنْهُ وَالْإِحْسَانُ كُلُّهُ صَادِرٌ عَنْهُ.
السَّبَبُ الثَّانِي: مَعْرِفَةُ جَمَالِهِ وَعَنْهَا تَنْشَأُ
مَحَبَّةِ الْجَلَالِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْ الْمُحِبِّينَ أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ مَحَبَّةٍ إذْ لَا
إفْضَالَ كَإِفْضَالِهِ، وَلَا جَمَالَ كَجَمَالِهِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَيَاءُ وَهُوَ نَاشِئٌ عَنْ
مَعْرِفَةِ نَظَرِهِ إلَيْنَا وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْنَا فَمَنْ
حَضَرَتْهُ هَذِهِ الْمَعْرِفَةُ اسْتَحْيَا مِنْ نَظَرِهِ
إلَيْنَا وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْنَا، فَلَمْ يَأْتِ إلَّا بِمَا
يُقَرِّبُهُ إلَيْهِ وَيُزْلِفُهُ لَدَيْهِ، وَلَا يَأْتِي
بِمَا يُبْعِدُهُ مِنْهُ وَيُنَحِّيهِ عَنْهُ.
النَّوْعُ السَّادِسُ وَالسَّابِعُ: الْمَهَابَةُ
وَالْإِجْلَالُ وَمُنْشَؤُهُمَا مَعْرِفَةُ جَلَالِهِ
وَكَمَالِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَهَابَتُهُ
وَإِجْلَالُهُ، أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ مَهَابَةٍ وَإِجْلَالٍ إذْ
لَا إجْلَالَ كَإِجْلَالِهِ وَلَا كَمَالٍ كَكَمَالِهِ.
(2/213)
النَّوْعُ الثَّامِنُ: الْفَنَاءُ
النَّاشِئُ عَنْ الِاسْتِغْرَاقِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ
وَحَقِيقَةُ الْفَنَاءِ غَفْلَةٌ وَغَيْبَةٌ، وَفَرَاغُ
الْقَلْبِ عَنْ الْأَكْوَانِ إلَّا عَنْ السَّبَبِ الْمُفْنِي،
فَمَنْ فَقَدَ مَعْرِفَةً مِنْ هَذِهِ الْمَعَارِفِ فَقَدْ مَا
يُبْتَنَى عَلَيْهَا مِنْ الْأَحْوَالِ، وَمَا يُنَاسَبُ
تِلْكَ الْأَحْوَالِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَنْ
دَامَتْ مَعَارِفُهُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ دَامَتْ لَهُ
الْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا وَالْمُسْتَفَادَةُ
مِنْهَا، وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُ الْقَوْمِ بِتَفَاوُتِ دَوَامِ
الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا،
وَكَذَلِكَ تَتَفَاوَتُ رُتَبُهُمْ بِشَرَفِ الْأَحْوَالِ
النَّاشِئَةِ عَنْ الْمَعَارِفِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَرَاتِبُ
الْخَائِفِينَ وَالرَّاجِينَ دُونَ مَرَاتِبِ الْمُحِبِّينَ
لِتَعَلُّقِ أَسْبَابِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ بِالْمَخُوفِ
مِنْ الشُّرُورِ، وَالْمَرْجُوِّ مِنْ الْخُيُورِ
وَتَتَعَلَّقُ الْمَحَبَّةُ بِالْإِلَهِ.
ثُمَّ الْمَحَبَّةُ النَّاشِئَةُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْجَمَالِ
أَفْضَلُ مِنْ الْمَحَبَّةِ النَّاشِئَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ
الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ، لِأَنَّ مَحَبَّةَ الْجَمَالِ
نَشَأَتْ عَنْ جَمَالِ الْإِلَهِ، وَمَحَبَّةَ الْإِنْعَامِ
وَالْإِفْضَالِ نَشَأَتْ عَمَّا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ إنْعَامِهِ
وَإِفْضَالِهِ، وَالتَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ أَفْضَلُ مِنْ
الْكُلِّ، لِأَنَّهُمَا نَشَآ عَنْ مَعْرِفَةِ الْجَلَالِ
وَالْجَمَالِ فَنَشَآ عَنْ جَلَالِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ
وَتَعَلُّقَاتِهِ فَلَهُمَا شَرَفٌ مِنْ وَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ،
وَمَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى أَوْصَافٍ غَيْرِ هَذِهِ
الْأَوْصَافِ، فَنَشَأَتْ عَنْهَا أَحْوَالٌ تُنَاسِبُهَا
غَيْرَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لَا يُمْكِنُهُمْ الْعِبَارَةُ
عَنْهَا، إذْ لَمْ تُوضَعْ عِبَارَةٌ عَلَيْهَا وَلَا
الْإِشَارَةُ إلَيْهَا، فَإِنَّ دَلَالَةَ الْإِشَارَةِ دُونَ
دَلَالَةِ الْعِبَارَةِ، فَإِنَّ لِلْأَكَابِرِ عُلُومًا
خَارِجَةً عَنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ النَّظَرِيِّ وَهُمْ
فِيهَا مُتَفَاوِتُونَ وَلِحُضُورِ هَذِهِ الْمَعَارِفِ
الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُلُوبِ رُتِّبَ أَعْلَاهَا أَنْ
تَبْدَأَ الْقُلُوبُ مِنْ غَيْرِ سَعْيٍ فِي اسْتِحْضَارِهَا
وَاكْتِسَابِهَا، فَيَصْدُرُ عَنْهَا الْأَحْوَالُ
النَّاشِئَةُ لَهَا، ثُمَّ تَدُومُ بِدَوَامِهَا وَتَنْقَطِعُ
بِانْقِطَاعِهَا، وَهَذَا ثَابِتٌ لِلنَّبِيِّينَ
وَالْمُرْسَلِينَ فِي أَغْلِبْ الْأَحْوَالِ وَالْقَلِيلِ مِنْ
الْأَبْدَالِ.
الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْتَحْضِرَهَا الْعَبْدُ
بِاسْتِجْلَابِهَا وَاسْتِذْكَارِهَا حَتَّى تَحْضُرَ
وَيَنْشَأَ عَنْهَا أَحْوَالُهَا اللَّائِقَةُ بِهَا
وَيَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي ذَلِكَ: فَمِنْهُمْ مَنْ
تَسْتَمِرُّ
(2/214)
عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَعَارِفُ،
فَتَسْتَمِرُّ بِهِ الْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا،
وَهَذَا دَأْبُ الْأَوْلِيَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَنْقَطِعُ
عَنْهُمْ هَذِهِ الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ عَلَى الْفَوْرِ
مِنْ اسْتِحْضَارِهَا وَهَذَا حَالُ مِثْلِنَا وَأَمْثَالِنَا،
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقَعُ انْقِطَاعُهَا بَيْنَ هَاتَيْنِ
الرُّتْبَتَيْنِ وَهُمْ يَتَفَاوَتُونَ فِي سُرْعَةِ
الِانْقِطَاعِ وَبُطْئِهِ.
الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ لَا تَحْضُرُهُ هَذِهِ
الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَنْهَا إلَّا
بِسَبَبٍ خَارِجٍ، وَلَهُمْ رُتَبٌ.
أَحَدُهَا: مَنْ تَحْضُرُهُ الْمَعَارِفُ وَأَحْوَالُهَا
عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهَؤُلَاءِ أَفْضَلُ أَهْلِ
السَّمَاعِ.
الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ تَحْضُرُهُ الْمَعَارِفُ
وَالْأَحْوَالُ عِنْدَ سَمَاعِ الْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ،
وَهَؤُلَاءِ فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ.
الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ: مَنْ تَحْضُرُهُ هَذِهِ
الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ عِنْدَ سَمَاعِ الْحِدَاءِ
وَالنَّشِيدِ، وَهَذَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ
لِارْتِيَاحِ النُّفُوسِ وَالْتِذَاذِهَا بِسَمَاعِ
الْمُتَّزِنِ مِنْ الْأَشْعَارِ وَالنَّشِيدِ، وَفِي هَذَا
نَقْصٌ مِنْ جِهَةِ مَا فِيهِ مِنْ حَظِّ النَّفْسِ.
الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ: مَنْ تَحْضُرُهُ هَذِهِ
الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا عِنْدَ
سَمَاعِ الْمُطْرِبَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَحْلِيلِهَا
كَسَمَاعِ الدُّفِّ وَالشَّبَّابَاتِ، فَهَذَا إنْ اعْتَقَدَ
تَحْرِيمَ ذَلِكَ فَهُوَ مُسِيءٌ بِسَمَاعِهِ مُحْسِنٌ بِمَا
يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ، وَإِنْ
اعْتَقَدَ إبَاحَتَهَا تَقْلِيدًا لِمَنْ قَالَ بِهَا مِنْ
الْعُلَمَاءِ فَهُوَ تَارِكٌ لِلْوَرَعِ بِاسْتِمَاعِهَا
مُحْسِنٌ بِمَا حَضَرَهُ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ
النَّاشِئَةِ عَنْهَا.
الرُّتْبَةُ الْخَامِسَةُ: مَنْ تَحْضُرُهُ هَذِهِ
الْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ عِنْدَ سَمَاعِ الْمُطْرِبَاتِ
الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ كَسَمَاعِ
الْأَوْتَارِ وَالْمِزْمَارِ فَهَذَا مُرْتَكِبٌ لِمُحَرَّمٍ
مُلْتَذُّ النَّفْسِ بِسَبَبٍ مُحَرَّمٍ، فَإِنْ حَضَرَهُ
مَعْرِفَةٌ وَحَالٌ تُنَاسِبُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ، كَانَ
(2/215)
مَازِجًا لِلْخَيْرِ بِالشَّرِّ،
وَالنَّفْعِ بِالضُّرِّ، مُرْتَكِبًا لِحَسَنَاتٍ وَسَيِّئَاتٍ
وَلَعَلَّ حَسَنَاتِهِ لَا تَفِي بِسَيِّئَاتِهِ فَإِنْ
انْضَمَّ إلَى ذَلِكَ نَظَرٌ إلَى مُطْرِبٍ لَا يَحِلُّ
النَّظَرُ إلَيْهِ، فَقَدْ زَادَتْ شِقْوَتُهُ وَمَعْصِيَتُهُ.
فَهَذِهِ رُتَبُ مَنْ تَحْضُرُهُمْ الْمَعَارِفُ
وَالْأَحْوَالُ بِسَبَبِ مَا يَسْتَمِعُونَهُ،
فَالْمُسْتَمِعُونَ بِالْقُرْآنِ أَفْضَلُ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ
سَبَبَهُمْ أَفْضَلُ الْأَسْبَابِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ الْوَعْظَ وَالتَّذْكِيرَ إذْ لَيْسَ فِيهِ غَرَضٌ
لِلنُّفُوسِ حَاصِلٌ مِنْ الْأَوْزَانِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ
يَسْتَمِعُ الْحِدَاءَ وَالْأَشْعَارَ، لِمَا فِيهِ مِنْ حَظِّ
النُّفُوسِ بِلَذَّةِ سَمَاعِ مَوْزُونِ الْكَلَامِ، فَإِنَّهُ
يَلْتَذُّ بِهِ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَالْبَرُّ
وَالْفَاجِرُ، وَلَيْسَ لَذَّةُ النُّفُوسِ بِذَلِكَ مِنْ
أَمْرِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَسْمَعُ
الْمُطْرِبَاتِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَحْرِيمِهَا لِلِاخْتِلَافِ
فِي قُبْحِ سَبَبِهِ، وَيَلِيهِمْ مَنْ يَسْمَعُ مَا ذَهَبَ
الْجُمْهُورُ إلَى تَحْرِيمِهِ، لِأَنَّهُ أَسْوَأُ حَالًا
مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ: فَالسَّمَاعُ بِالْحِدَاءِ وَنَشِيدِ
الْأَشْعَارِ بِدْعَةٌ لَا بَأْسَ بِسَمَاعِ بَعْضِهَا.
وَأَمَّا سَمَاعُ الْمُطْرِبَاتِ الْمُحَرَّمَاتِ فَغَلَطٌ
مِنْ الْجَهَلَةِ الْمُتَشَيِّعِينَ الْمُتَشَبِّهِينَ
الْمُجْتَرِئِينَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ كَانَ
ذَلِكَ قُرْبَةً كَمَا زَعَمُوهُ لَمَا أَهْمَلَ
الْأَنْبِيَاءُ أَنْ يَفْعَلُوهُ وَيُعَرِّفُوهُ
لِأَتْبَاعِهِمْ وَأَشْيَاعِهِمْ، وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ
أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مِنْ أَكَابِرِ
الْأَوْلِيَاءِ، وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ كِتَابٌ مِنْ الْكُتُبِ
الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة: 3] وَلَوْ كَانَ السَّمَاعُ
بِالْمَلَاهِي الْمُطْرِبَاتِ مِنْ الدِّينِ، لَبَيَّنَهُ
رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا تَرَكْت
شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنْ النَّارِ وَيُبَاعِدُكُمْ عَنْ
الْجَنَّةِ إلَّا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ السَّمَاعَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
السَّامِعِينَ وَالْمَسْمُوعِ مِنْهُمْ، وَهُمْ أَقْسَامٌ
(2/216)
أَحَدُهَا الْعَارِفُونَ بِاَللَّهِ،
وَيَخْتَلِفُ سَمَاعُهُمْ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فَمَنْ
غَلَبَ، عَلَيْهِ الْخَوْفُ أَثَّرَ فِيهِ السَّمَاعُ عِنْدَ
ذِكْرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَظَهَرَتْ آثَارُهُ عَلَيْهِ مِنْ
الْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ وَتَغْيِيرِ اللَّوْنِ.
وَالْخَوْفُ عَلَى أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: خَوْفُ الْعِقَابِ،
وَالثَّانِي خَوْفُ فَوَاتِ الثَّوَابِ، وَالثَّالِثُ خَوْفُ
فَوَاتِ الْحَظِّ مِنْ الْأُنْسِ وَالْقُرْبِ بِالْمَلِكِ
الْوَهَّابِ، وَهَذَا مِنْ أَفْضَلِ الْخَائِفِينَ وَأَفْضَلِ
السَّامِعِينَ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَصَنَّعُ فِي
السَّمَاعِ، وَلَا يُصْدَرُ عَنْهُ إلَّا مَا غَلَبَ عَلَيْهِ
مِنْ آثَارِ الْخَوْفِ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَازِعٌ عَنْ
التَّصَنُّعِ وَالرِّيَاءِ، وَهَذَا إذَا سَمِعَ الْقُرْآنُ
كَانَ تَأْثِيرُهُ فِيهِ أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ النَّشِيدِ
وَالْغِنَاءِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجَاءُ
فَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّمَاعُ عِنْدَ ذِكْرِ
الْمُطْمِعَاتِ وَالْمُرْجِيَاتِ؛ فَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُ
لِلْأُنْسِ وَالْقُرْبِ كَانَ سَمَاعُهُ أَفْضَلَ سَمَاعِ
الرَّاجِينَ، وَإِنْ كَانَ رَجَاؤُهُ لِلثَّوَابِ فَهَذَا فِي
الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَتَأْثِيرُ السَّمَاعِ فِي
الْأَوَّلِ أَشَدُّ مِنْ تَأْثِيرِهِ فِي الثَّانِي.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْحُبُّ وَهُوَ
قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا مَنْ أَحَبَّ اللَّهُ لِإِنْعَامِهِ
عَلَيْهِ وَإِحْسَانِهِ إلَيْهِ فَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهِ
سَمَاعُ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ وَالْإِحْسَانِ
وَالْإِكْرَامِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ اللَّهِ
لِشَرَفِ ذَاتِهِ وَكَمَالِ صِفَاتِهِ فَهَذَا يُؤَثِّرُ فِيهِ
ذِكْرُ شَرَفِ الذَّاتِ وَكَمَالِ الصِّفَاتِ، وَيَشْتَدُّ
تَأْثِيرُهُ فِيهِ عِنْدَ ذَكَرِ الْإِقْصَاءِ وَالْإِبْعَادِ،
وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، لِأَنَّ سَبَبَ
حُبِّهِ أَفْضَلُ الْأَسْبَابِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ التَّعْظِيمُ
وَالْإِجْلَالُ فَهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الْأَقْسَامِ
الثَّلَاثَةِ إذْ لَا حَظَّ لَهُ فِي سَمَاعِهِ لِنَفْسِهِ،
فَإِنَّ النَّفْسَ تَتَضَاءَلُ وَتَتَصَاغَرُ لِلتَّعْظِيمِ
وَالْإِجْلَالِ، فَلَا حَظَّ لِنَفْسِهِ فِي هَذَا السَّمَاعِ
بِخِلَافِ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَقْسَامِ
(2/217)
فَإِنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ رَبِّهِمْ
مِنْ وَجْهٍ، وَمَعَ أَنْفُسِهِمْ مِنْ وَجْهٍ أَوْ وُجُوهٍ
وَشَتَّانَ بَيْنَ مَا خَلَصَ لِلَّهِ، وَبَيْنَ مَا
شَارَكَتْهُ فِيهِ النُّفُوسُ، فَإِنَّ الْمُحِبَّ مُلْتَذٌّ
بِجَمَالِ مَحْبُوبِهِ وَهُوَ حَظُّ نَفْسِهِ، وَالْهَائِبُ
لَيْسَ كَذَلِكَ.
وَتَخْتَلِفُ أَحْوَالُ هَؤُلَاءِ فِي الْمَسْمُوعِ مِنْهُ،
فَالسَّمَاعُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ
السَّمَاعِ مِنْ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ، وَالسَّمَاعُ
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ السَّمَاعِ مِنْ
الْأَوْلِيَاءِ وَالسَّمَاعُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ
وَالسَّمَاءِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا مِنْ السَّمَاعِ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ لِأَنَّ كَلَامَ الْمَهِيبِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا
فِي الْهَائِبِ مِنْ كَلَامِ غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ كَلَامَ
الْحَبِيبِ أَشَدُّ تَأْثِيرًا فِي الْمُحِبِّ مِنْ كَلَامِ
غَيْرِهِ. وَلِهَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ الْأَنْبِيَاءُ
وَالصِّدِّيقُونَ وَأَصْحَابُهُمْ بِسَمَاعِ الْمَلَاهِي
وَالْغِنَاءِ وَاقْتَصَرُوا عَلَى كَلَامِ رَبِّهِمْ لِشِدَّةِ
تَأْثِيرِهِ فِي أَحْوَالِهِمْ، وَلَقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِنْ
النَّاسِ فِي سَمَاعِ النَّشِيدِ وَطَيِّبِ نَغَمَاتِ
الْغِنَاءِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ أَصْوَاتَ الْمَلَاهِي وَطَيِّبِ
النَّشِيدِ وَطَيِّبِ نَغَمَاتِ الْغِنَاءِ فِيهَا حَظٌّ
لِلنُّفُوسِ، وَإِذَا سَمِعَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا مِمَّا
يُحَرِّكُ الْتَذَّتْ نَفْسُهُ بِأَصْوَاتِ الْمَلَاهِي
وَنَغَمَاتِ الْغِنَاءِ وَذَكَّرَهُ النَّشِيدُ وَالْغِنَاءُ
بِمَا يَقْتَضِيهِ حَالُهُ: مِنْ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ
وَالرَّجَاءِ فَتَثُورُ فِيهِ تِلْكَ الْأَحْوَالُ فَتَلْتَذُّ
النُّفُوسُ مِنْ وَجْهِ مُؤَثِّرِهِ، وَيُؤَثِّرُ السَّمَاعُ
مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْغِنَاءُ مِنْ الْحُبِّ وَالْخَوْفِ
وَالرَّجَاءِ فَيَحْصُلُ الْأَمْرَانِ: لَذَّةُ نَفْسِهِ،
وَالتَّعَلُّقُ بِأَوْصَافِ رَبِّهِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْكُلَّ
مُتَعَلِّقٍ بِاَللَّهِ وَهُوَ غَالِطٌ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ هَوًى مُبَاحٌ،
كَمَنْ يَعْشَقُ زَوْجَتَهُ وَأُسْرِيَّتَهُ فَهَذَا
يُهَيِّجُهُ السَّمَاعُ وَيُؤَثِّرُ فِيهِ آثَارَ الشَّوْقِ
وَخَوْفَ الْفِرَاقِ وَرَجَاءَ التَّلَاقِ فَيَطْرَبُ
لِذَلِكَ، فَسَمَاعُ هَذَا لَا بَأْسَ بِهِ.
الْقِسْمُ السَّادِسُ: مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ هَوًى
مُحَرَّمٌ، كَهَوَى الْمُرْدِ وَمَنْ لَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
النِّسَاءِ، فَهَذَا يُهَيِّجُهُ السَّمَاعُ إلَى السَّعْيِ
فِي الْحَرَامِ وَمَا أَدَّى إلَى الْحَرَامِ فَهُوَ حَرَامٌ.
الْقِسْمُ السَّابِعُ: مَنْ قَالَ لِأَحَدٍ: فِي نَفْسِي
شَيْءٌ مِمَّا ذَكَرْتُمُوهُ فِي الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ
فَمَا حُكْمُ السَّمَاعِ فِي حَقِّي؟ قُلْنَا هُوَ مَكْرُوهٌ،
مِنْ وَجْهِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى
(2/218)
الْعَامَّةِ إنَّمَا هُوَ الْأَهْوَاءُ
الْفَاسِدَةُ، فَرُبَّمَا هَاجَهُ السَّمَاعُ عَلَى صُورَةٍ
مُحَرَّمَةٍ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا وَيَمِيلُ إلَيْهَا وَلَا
يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّا لَا نَتَحَقَّقُ السَّبَبَ
الْمُحَرِّمَ، وَقَدْ يَحْضُرُ السَّمَاعَ قَوْمٌ مِنْ
الْفَجَرَةِ فَيَبْكُونَ وَيَنْزَعِجُونَ لِأَسْبَابٍ
خَبِيثَةٍ انْطَوَوْا عَلَيْهَا وَيُرَاءُونَ الْحَاضِرِينَ
بِأَنَّ سَمَاعَهُمْ لِلْأَسْبَابِ الْمَذْكُورَةِ فِي
الْأَقْسَامِ السِّتَّةِ وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ الْمَعْصِيَةِ
وَبَيْنَ إيهَامِ كَوْنِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ، وَقَدْ
يَحْضُرُ السَّمَاعَ قَوْمٌ قَدْ فَقَدُوا أَهَالِيَهُمْ
وَمَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِمْ وَيَذْكُرُ الْمُنْشِدُ فِرَاقَ
الْأَحِبَّةِ وَعَدَمَ الْأُنْسِ بِهِمْ فَيَبْكِي أَحَدُهُمْ
وَيُوهِمُ الْحَاضِرِينَ أَنَّ بُكَاءَهُ لِأَجْلِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ، وَهَذَا مِرَاءٌ بِأَمْرٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَدَبِ السَّمَاعِ أَنْ
يُشَبِّهَ غَلَبَ الْمَحَبَّةِ بِالسُّكْرِ مِنْ الْخَمْرِ
فَإِنَّهُ سُوءُ أَدَبٍ، لِأَنَّ الْخَمْرَ أُمُّ الْخَبَائِثِ
فَلَا يُشَبِّهُ مَا أَحَبَّهُ اللَّهُ بِمَا أَبْغَضَهُ
وَقَضَى بِخُبْثِهِ وَنَجَاسَتِهِ، لِأَنَّ تَشْبِيهَ
النَّفِيسِ بِالْخَسِيسِ سُوءُ أَدَبٍ لَا شَكَّ فِيهِ،
وَكَذَلِكَ التَّشْبِيهُ بِالْخَصْرِ وَالرِّدْفِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِنْ التَّشْبِيهَاتِ الْمُسْتَقْبَحَاتِ.
وَلَقَدْ كَرِهَ بَعْضُهُمْ: أَنْتُمْ رُوحِي وَمَعَكُمْ
رَاحَتِي، وَبَعْضُهُمْ: فَأَنْتَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ،
لِأَنَّهُ شَبَّهَ مَا لَا شَبِيهَ لَهُ بِرُوحِهِ
الْخَسِيسَةِ وَسَمْعِهِ وَبَصَرِهِ اللَّذَيْنِ لَا قَدْرَ
لَهُمَا.
وَلَهُمْ أَلْفَاظٌ يُطْلِقُونَهَا يَسْتَعْظِمُهَا سَامِعُهَا
مِنْهَا: التَّجَلِّي وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ
وَالْعِرْفَانِ، وَكَذَلِكَ الْمُشَاهَدَةُ، وَمِنْهَا
الذَّوْقُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وِجْدَانِ لَذَّةِ
الْأَحْوَالِ وَوَقْعِ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ،
وَمِنْهَا: الْحِجَابُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْجَهْلِ
وَالْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَمِنْهَا: قَوْلُهُمْ قَالَ
لِي رَبِّي، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَوْلِ
بِلِسَانِ الْحَالِ دُونَ لِسَانِ الْمَقَالِ.
كَمَا قَالَتْ الْعَرَبُ: امْتَلَأَ الْحَوْضُ، وَقَالَ
قُطْنِيٌّ، كَذَلِكَ قَوْلُهُ: إذَا قَالَتْ الْإِشْبَاعُ
لِلْبَطْنِ أُلْحِقَ. وَمِنْهَا قَوْلُهُمْ الْقَلْبُ بَيْتُ
الرَّبِّ، وَمَعْنَاهُ الْقَلْبُ بَيْتُ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ،
شَبَّهُوا حُلُولَ الْمَعَارِفِ بِالْقُلُوبِ بِحُلُولِ
الْأَشْخَاصِ فِي الْبُيُوتِ،
(2/219)
وَمِنْهَا: الْبَيْتُوتَةُ عِنْدَ الرَّبِّ
سُبْحَانَهُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنِّي
أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» تَجَوُّزٌ
بِالْمَبِيتِ عَنْ التَّقَرُّبِ، وَبِالْإِطْعَامِ وَالسَّقْيِ
عَنْ التَّقْوِيَةِ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ مِنْ السُّرُورِ وَالتَّقْرِيبِ، وَمِنْهَا
الْقُرْبُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ
لِتَقْرِيبِ الْإِلَهِ، وَمِنْهَا الْبُعْدُ وَهُوَ عِبَارَةٌ
عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْإِبْعَادِ، وَمِنْهَا
الْمُجَالَسَةُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ لَذَّةٍ يَخْلُقُهَا
الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُجَانِسَةٍ لِلَذَّةِ
الْأُنْسِ وَبِمُجَالَسَةِ الْأَكَابِرِ.
وَأَمَّا الرَّقْصُ وَالتَّصْفِيقُ فَخِفَّةٌ وَرُعُونَةٌ
مُشْبِهَةٌ لِرُعُونَةِ الْإِنَاثِ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا
رَاعِنٌ أَوْ مُتَصَنِّعٌ كَذَّابٌ وَكَيْفَ يَتَأَتَّى
الرَّقْصُ الْمُتَّزِنُ بِأَوْزَانِ الْغِنَاءِ مِمَّنْ طَاشَ
لُبُّهُ وَذَهَبَ قَلْبُهُ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ -: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» ، وَلَمْ يَكُنْ
أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُقْتَدَى بِهِمْ يَفْعَلُ
شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا اسْتَحْوَذَ الشَّيْطَانُ عَلَى قَوْمٍ يَظُنُّونَ
أَنَّ طَرَبَهُمْ عِنْدَ السَّمَاعِ إنَّمَا هُوَ مُتَعَلِّقٌ
بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَقَدْ مَانُوا فِيمَا قَالُوا
وَكَذَبُوا فِيمَا ادَّعَوْا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ عِنْدَ
سَمَاعِ الْمُطْرِبَاتِ وَجَدُوا لَذَّتَيْنِ اثْنَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا لَذَّةُ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِذِي الْجَلَالِ.
وَالثَّانِيَةُ: لَذَّةُ الْأَصْوَاتِ وَالنَّغَمَاتِ
وَالْكَلِمَاتِ الْمَوْزُونَاتِ الْمُوجِبَاتِ لِلذَّاتِ
النَّفْسِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ وَلَا مُتَعَلِّقَةً
بِأُمُورِ الدِّينِ، فَلَمَّا عَظُمَتْ عِنْدَهُمْ
اللَّذَّتَانِ غَلِطُوا فَظَنُّوا أَنَّ مَجْمُوعَ اللَّذَّةِ
إنَّمَا حَصَلَ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ، وَلَيْسَ
كَذَلِكَ بَلْ الْأَغْلَبُ عَلَيْهِمْ حُصُولُ لَذَّاتِ
النُّفُوسِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الدِّينِ بِشَيْءٍ.
وَقَدْ حَرَّمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ التَّصْفِيقَ لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ»
«وَلَعَنَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ
النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ، وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ
بِالنِّسَاءِ» ، وَمَنْ هَابَ الْإِلَهَ وَأَدْرَكَ شَيْئًا
مِنْ تَعْظِيمِهِ لَمْ يُتَصَوَّرَ مِنْهُ رَقْصٌ
(2/220)
وَلَا تَصْفِيقٌ، وَلَا يَصْدُرُ
التَّصْفِيقُ وَالرَّقْصُ إلَّا مِنْ غَبِيٍّ جَاهِلٍ، وَلَا
يَصْدُرَانِ مِنْ عَاقِلٍ فَاضِلٍ، وَيَدُلُّ عَلَى جَهَالَةِ
فَاعِلِهِمَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَرِدْ بِهِمَا فِي
كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَحَدُ
الْأَنْبِيَاءِ وَلَا مُعْتَبَرٌ مِنْ أَتْبَاعِ
الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْجَهَلَةُ
السُّفَهَاءُ الَّذِينَ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِمْ الْحَقَائِقُ
بِالْأَهْوَاءِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]
وَقَدْ مَضَى السَّلَفُ وَأَفَاضِلُ الْخَلَفِ وَلَمْ
يُلَابِسُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ
اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَرَضٌ مِنْ أَغْرَاضِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ
بِقُرْبَةٍ إلَى رَبِّهِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ
وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ إلَّا لِكَوْنِهِ
قُرْبَةً فَبِئْسَ مَا صَنَعَ لِإِيهَامِهِ أَنَّ هَذَا مِنْ
الطَّاعَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ أَقْبَحِ الرَّعُونَاتِ.
وَأَمَّا الصِّيَاحُ وَالتَّغَاشِي وَالتَّبَاكِي تَصَنُّعًا
وَرِيَاءً فَإِنْ كَانَ حَالٌ لَا تَقْتَضِيهِ فَقَدْ أَثِمَ
مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إيهَامُهُ الْحَالَ التَّامَّةَ
الْمُوجِبَةَ لِذَلِكَ.
وَالثَّانِي: تَصَنُّعُهُ بِهِ وَرِيَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ عَنْ
حَالٍ تَقْتَضِيهِ أَثِمَ إثْمَ رِيَائِهِ لَا غَيْرَ،
وَكَذَلِكَ نَتْفُ الشُّعُورِ وَضَرْبُ الصُّدُورِ،
وَتَمْزِيقُ الثِّيَابِ مُحَرَّمٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ
الْمَالِ، وَأَيُّ ثَمَرَةٍ لِضَرْبِ الصُّدُورِ وَنَتْفِ
الشُّعُورِ وَشَقِّ الْجُيُوبِ إلَّا رَعُونَاتٌ صَادِرَةٌ
عَنْ النُّفُوسِ.
[فَائِدَةٌ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ السَّمَاعُ
الْمَحْمُودُ إلَّا عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ]
(فَائِدَةٌ) اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ السَّمَاعُ
الْمَحْمُودُ إلَّا عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ حَالَ يَخْتَصُّ
بِهَا، فَمَنْ ذَكَرَ صِفَةَ الرَّحْمَةِ أَوْ ذُكِّرَ بِهَا
كَانَتْ حَالُهُ حَالَةَ الرَّاجِينَ، وَسَمَاعُهُ سَمَاعَ
الرَّاجِينَ، وَمَنْ ذَكَرَ شِدَّةَ النِّقْمَةِ أَوْ ذُكِّرَ
بِهَا كَانَتْ حَالُهُ حَالَ الْخَائِفِينَ، وَسَمَاعُهُ
سَمَاعَ الْخَائِفِينَ، وَمَنْ حَالُهُ حَالُ الْمَحَبَّةِ
إذَا ذَكَرَ حَالَ الْمَحْبُوبِ أَوْ ذُكِّرَ بِهِ كَانَتْ
حَالُهُ حَالَ الْمُحِبِّينَ، وَسَمَاعُهُ سَمَاعَ
الْمُحِبِّينَ، وَمَنْ كَانَتْ حَالُهُ حَالَ الْمُعَظِّمِينَ
الْهَائِبِينَ فَذَكَرَ الْعَظَمَةَ أَوْ ذُكِّرَ بِهَا
كَانَتْ حَالُهُ حَالَ الْمُعَظِّمِينَ، وَسَمَاعُهُ سَمَاعَ
الْهَائِبِينَ الْمُعَظِّمِينَ، وَمَنْ كَانَتْ حَالُهُ حَالَ
التَّوَكُّلِ فَذَكَرَ تَفَرُّدَ الرَّبِّ بِالضُّرِّ
وَالنَّفْعِ، وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَالتَّقَرُّبِ
وَالْإِبْعَادِ، وَالْإِشْقَاءِ وَالْإِسْعَادِ، فَذَكَرَ
ذَلِكَ أَوْ ذُكِّرَ بِهِ فِي السَّمَاعِ كَانَتْ حَالُهُ
حَالَ
(2/221)
الْمُتَوَكِّلِينَ الْمُفَوِّضِينَ،
وَسَمَاعُهُ سَمَاعَهُمْ، وَقَدْ يَنْتَقِلُ كَثِيرٌ مِنْ
النَّاسِ فِي السَّمَاعِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ
فَيَنْتَقِلُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ
بِحَسَبِ اخْتِلَافِ التَّذْكِيرِ، وَقَدْ يَغْلِبُ الْحَالُ
عَلَى بَعْضِهِمْ بِحَيْثُ لَا يُصْغِي إلَى مَا يَقُولُهُ
الْمُنْشِدُ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ لِغَلَبَةِ حَالِ
الْأَوَّلِ عَلَيْهِ.
وَمِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ: الْخُضُوعُ وَالْخُشُوعُ.
وَكِلَاهُمَا ذُلٌّ فِي الْقُلُوبِ وَالرِّضَا وَالصَّبْرُ
وَالتَّوْبَةُ وَالزُّهْدُ فَأَمَّا الرِّضَا: فَهُوَ سُكُونُ
النَّفْسِ إلَى سَابِقِ الْقَضَاءِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ عَلَى
الْقَاضِي بِمَا قَضَى، وَأَمَّا الصَّبْرُ فَهُوَ حَبْسُ
النَّفْسِ عَنْ الْجَزَعِ، وَالرِّضَا جُزْءٌ مِنْهُ لِأَنَّهُ
سُكُونٌ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ، وَلَا يُشْتَرَطُ
أَنْ يَرْضَى بِالْمَقْضِيِّ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ
الْمَقْضِيُّ بِهِ خَيْرًا، فَإِنْ كَانَ الْمُقْضَى بِهِ
مَعْصِيَةً فَلْيَرْضَ بِالْقَضَاءِ وَلْيَكْرَهْ الْمَقْضِيَّ
بِهِ، لِأَنَّ الْقَضَاءَ حُكْمُ اللَّهِ وَالْمَقْضِيَّ هُوَ
الْمَحْكُومُ بِهِ. وَهَذَا كَالْمَرِيضِ إذَا وَصَفَ
الطَّبِيبُ الدَّوَاءَ الْمُرَّ أَوْ قَطَعَ الْيَدَ
الْمُتَآكِلَةَ فَإِنَّهُ يَرْضَى لِوَصْفِ الطَّبِيبِ
وَقَضَائِهِ وَإِنْ كَرِهَ الْمَقْضِيَّ بِهِ مِنْ مَرَارَةِ
الدَّوَاءِ وَأَلَمِ الْقَطْعِ.
وَأَمَّا التَّوْبَةُ فَأَقْسَامٌ: أَحَدُهَا: التَّوْبَةُ
مِنْ تَرْكِ الْوَاجِبَاتِ وَفِعْلِ الْمُحَرَّمَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: التَّوْبَةُ مِنْ ارْتِكَابِ
الْمَكْرُوهَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: التَّوْبَةُ مِنْ الشُّبُهَاتِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: التَّوْبَةُ مِنْ مُلَابَسَةِ
الْمُبَاحَاتِ إلَّا مَا تَدْعُو إلَيْهِ الضَّرُورَاتُ أَوْ
تَمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَاتُ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: التَّوْبَةُ مِنْ رُؤْيَةِ التَّوْبَةِ
وَرُؤْيَةِ جَمِيعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى ذِي الْجَلَالِ
وَمَعْنَى ذَلِكَ تَرْكُ الِاعْتِمَادِ وَالِاسْتِنَادِ إلَى
شَيْءٍ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ
(2/222)
وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، إذْ لَا
يُنْجِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبَهُ؛ فَإِنَّهُ لَا
اعْتِمَادَ فِي النَّجَاةِ إلَّا عَلَى ذِي الْجَلَالِ، وَقَدْ
قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدَكُمْ
عَمَلُهُ قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ
مِنْهُ وَفَضْلٍ» .
وَأَمَّا الزُّهْدُ فَأَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: الزُّهْدُ فِي الْحَرَامِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الزُّهْدُ فِي الْمَكْرُوهَاتِ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: الزُّهْدُ فِي الشُّبُهَاتِ.
الْقِسْمُ الرَّابِعُ: الزُّهْدُ فِي الْمُبَاحَاتِ إلَّا مَا
تَدْعُو إلَيْهِ الضَّرُورَاتُ أَوْ تَمَسُّ إلَيْهِ
الْحَاجَاتُ.
الْقِسْمُ الْخَامِسُ: الزُّهْدُ فِي رُؤْيَةِ الزُّهْدِ
وَالِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالزُّهْدِ وَإِنْ كَانَا
مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ: أَنَّ التَّوْبَةَ ذَاتُ أَرْكَانٍ
ثَلَاثَةٍ:
أَحَدُهَا: النَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ الطَّاعَاتِ.
وَالرُّكْنُ الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَى
تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ.
الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الْإِقْلَاعُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ
الْمَتُوبِ عَنْهَا فِي الْحَالِ.
وَيَتَحَقَّقُ الزُّهْدُ بِقَطْعِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ عَمَّا
ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ
وَالْمُبَاحَاتِ، وَلَيْسَ الزُّهْدُ عِبَارَةً عَنْ خُلُوِّ
الْيَدِ مِنْ الْمَالِ، وَإِنَّمَا الزُّهْدُ خُلُوُّ
الْقَلْبِ عَنْ التَّعَلُّقِ بِهِ، فَلَيْسَ الْغِنَى
بِمُنَافٍ لِلزُّهْدِ.
فَإِنْ قِيلَ أَيُّمَا أَفْضَلُ حَالُ الْأَغْنِيَاءِ أَمْ
حَالُ الْفُقَرَاءِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ النَّاسَ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: مَنْ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْغِنَى وَتَفْسُدُ
أَحْوَالُهُ بِالْفَقْرِ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ غِنَى هَذَا
خَيْرٌ لَهُ مِنْ فَقْرِهِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مَنْ يَسْتَقِيمُ عَلَى الْفَقْرِ
وَيُفْسِدُهُ الْغِنَى وَيَحْمِلُهُ عَلَى الطُّغْيَانِ فَلَا
خِلَافَ أَنَّ هَذَا فَقْرُهُ خَيْرٌ مِنْ غِنَاهُ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَنْ إذَا افْتَقَرَ قَامَ بِجَمِيعِ
وَظَائِفِ الْفَقْرِ كَالرِّضَا وَالصَّبْرِ، وَإِنْ
اسْتَغْنَى قَامَ بِجَمِيعِ وَظَائِفِ الْغِنَى مِنْ الْبَذْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَشُكْرِ الْمَلِكِ الدَّيَّانِ، فَقَدْ
اُخْتُلِفَ فِي أَيِّ حَالَيْ هَذَا أَفْضَلُ فَذَهَبَ قَوْمٌ:
إلَى أَنَّ الْفَقْرَ لِهَذَا أَفْضَلُ.
وَقَالَ
(2/223)
آخَرُونَ: غِنَاهُ أَفْضَلُ وَهُوَ
الْمُخْتَارُ، لِاسْتِعَاذَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، مِنْ الْفَقْرِ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى
فَقْرِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ خِلَافٌ لِلظَّاهِرِ بِغَيْرِ
دَلِيلٍ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِهَؤُلَاءِ لِأَنَّ الرَّسُولَ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ أَغْلِبُ أَحْوَالِهِ الْفَقْرَ
إلَى أَنْ أَغْنَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِحُصُونِ خَيْبَرَ
وَفَدَكَ وَالْعَوَالِي وَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ
وَالْأَوْلِيَاءَ لَا يَأْتِي عَلَيْهِمْ يَوْمٌ إلَّا كَانَ
أَفْضَلَ مِنْ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَوَى
يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ وَمَنْ كَانَ أَمْسُهُ خَيْرًا
مِنْ يَوْمِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ أَيْ مَطْرُودٌ مَغْبُونٌ،
وَقَدْ خُتِمَ آخِرُ أَمْرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِالْغِنَى وَلَمْ يُخْرِجْهُ غِنَاهُ
عَمَّا كَانَ يَتَعَاطَاهُ فِي أَيَّامِ فَقْرِهِ مِنْ
الْبَذْلِ وَالْإِيثَارِ وَالتَّقَلُّلِ حَتَّى أَنَّهُ مَاتَ
وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى آصُعٍ مِنْ
شَعِيرٍ، وَكَيْفَ لَا يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - يَقُولُ: «ابْنَ آدَمَ إنَّك إنْ تَبْذُلْ
الْفَضْلَ خَيْرٌ لَك وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَك» أَرَادَ
بِالْفَضْلِ مَا فَضَلَ عَنْ الْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ كَمَا
فَعَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمَنْ سَلَكَ
مِنْ الْأَغْنِيَاءِ هَذَا الطَّرِيقَ فَبَذَلَ الْفَضْلَ
كُلَّهُ مُقْتَصِرًا عَلَى عَيْشٍ مِثْلِ عَيْشِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا
امْتِرَاءَ بِأَنَّ غِنَى هَذَا خَيْرٌ مِنْ فَقْرِهِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «أَتَى فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ
إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ ذَوُو الْأَمْوَالِ
بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ يُعْتِقُونَ
وَلَا نَجِدُ مَا نُعْتِقُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَجِدُ مَا
نَتَصَدَّقُ، وَيُنْفِقُونَ وَلَا نَجِدُ مَا نُنْفِقُ؟
فَقَالَ أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ
أَدْرَكْتُمْ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَفُتُّمْ بِهِ مَنْ
بَعْدَكُمْ؟ قَالُوا بَلَى، قَالَ: تُسَبِّحُونَ اللَّهَ
تَعَالَى وَتَحْمَدُونَهُ وَتُكَبِّرُونَهُ عَلَى إثْرِ كُلِّ
صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً فَلَمَّا صَنَعُوا
ذَلِكَ سَمِعَ الْأَغْنِيَاءُ بِذَلِكَ فَقَالُوا مِثْلَ مَا
قَالُوا، فَذَهَبَ الْفُقَرَاءُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ أَنَّهُمْ قَدْ
قَالُوا مِثْلَ
(2/224)
مَا قُلْنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ» .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ
الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ»
وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «اطَّلَعْت عَلَى
الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكْثَرَهَا الْفُقَرَاءَ وَاطَّلَعْت
عَلَى النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَهَا النِّسَاءَ» فَإِنَّ
ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ
الْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، إذْ لَا يَتَّصِفُ مِنْ
الْأَغْنِيَاءِ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْ يَعِيشَ عَيْشَ
الْفُقَرَاءِ وَيَتَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا
فَضَلَ مِنْ عَيْشِهِ مُقَدِّمًا فَضْلَ الْبَذْلِ
فَأَفْضَلَهُ، إلَّا الشُّذُوذُ النَّادِرُونَ الَّذِينَ لَا
يَكَادُونَ يُوجَدُونَ، الصَّابِرُونَ عَلَى الْفَقْرِ
وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، وَالرَّاضُونَ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ
الْقَلِيلِ.
وَيُحَقِّقُ هَذَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ
قَبْلَ الْغِنَى قَائِمًا بِوَظَائِفِ الْفُقَرَاءِ فَلَمَّا
أَغْنَاهُ اللَّهُ قَامَ بِوَظَائِفِ الْفُقَرَاءِ
وَالْأَغْنِيَاءِ، فَكَانَ غَنِيًّا فَقِيرًا صَبُورًا
شَكُورًا رَاضِيًا بِعَيْشِ الْفُقَرَاءِ جَوَادًا بِأَفْضَلِ
جُودِ الْأَغْنِيَاءِ.
وَمِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ احْتِقَارُ مَا حَقَّرَهُ اللَّهُ
مِنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، وَتَعْظِيمُ مَا عَظَّمَهُ
اللَّهُ مِنْ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ
وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَالْغُرْبَةِ وَعَدَمِ الْجَاهِ
وَالْمَالِ: لِأَنَّ الْغِنَى بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ
أَفْضَلُ وَأَلَذُّ مِنْ الْغِنَى بِالْجَاهِ وَالْأَمْوَالِ،
وَالْبَذْلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالْفَقْرُ غِنًى،
وَالْغُرْبَةُ لِأَجَلِهِ اسْتِيطَانٌ.
لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ عِنْدَ سَيِّدِهِ فَهُوَ فِي
أَفْضَلِ الْأَوْطَانِ، وَإِنْ عَظُمَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ
فَأَعْظِمْ بِهِ مِنْ خُسْرَانٍ.
وَمِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ أَنْ نُكْثِرَ مِنْ ذِكْرِ
اللَّهِ بِقُلُوبِنَا فَإِنَّهُ مِنْ الْمُثْمِرِ
لِلْأَحْوَالِ عِنْدَ ذِي الْجَلَالِ مِنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ،
وَأَنْ نَخْتَارَ مِنْ الْمَعَارِفِ أَفْضَلَهَا
فَأَفْضَلَهَا، وَمِنْ الْأَحْوَالِ أَكْمَلَهَا
فَأَكْمَلَهَا، وَأَنْ نَحْفَظَ الْأَوْقَاتِ فَلَا نَصْرِفُ
شَيْئًا إلَّا
(2/225)
فِي أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ اللَّائِقَةِ
بِتِلْكَ الْأَوْقَاتِ، فَقَدْ يَكُونُ الِاشْتِغَالُ
بِالْمَفْضُولِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى مِنْ
الِاشْتِغَالِ بِالْفَاضِلِ فِي غَيْرِهَا كَالِاشْتِغَالِ
بِالدُّعَاءِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ
بِالذِّكْرِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ كَالدُّعَاءِ بَيْنَ
السَّجْدَتَيْنِ فَالِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلُ مِنْ
الِاشْتِغَالِ بِالتَّسْبِيحِ وَالثَّنَاءِ، كَذَلِكَ
قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
وَالْقُعُودِ فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِكُلِّ وَقْتٍ طَاعَةً
هِيَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا
يَشْتَغِلُ بِالْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ إذَا كَانَ صَالِحًا
لَهُمَا جَمِيعًا، وَالْهِدَايَةُ لِأَفْضَلِ الْأَعْمَالِ
وَالْأَحْوَالِ وَالْأَقْوَالِ فِي أَوْقَاتِهَا
الْمَضْرُوبَةِ لَهَا أَفْضَلُ مَا مَنَّ بِهِ الْإِلَهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
[فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْفَضَائِلِ]
ِ الْفَضَائِلُ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَمَا
يَتْبَعُهُمَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ، وَلَقَدْ
نَالَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَنَالٍ، فَوَرِثَ
عَنْهُمْ الْعَارِفُونَ بَعْضَ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ،
وَوَرِثَ عَنْهُمْ الْعَارِفُونَ التَّقَرُّبَ بِالْأَقْوَالِ
وَالْأَعْمَالِ، وَوَرِثَ عَنْهُمْ الْفُقَهَاءُ التَّقَرُّبَ
بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْجَوَارِحِ
وَالْأَبْدَانِ، وَوَرِثَ عَنْهُمْ أَهْلُ الطَّرِيقَةِ
الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْبَوَاطِنِ، وَوَرِثَ
عَنْهُمْ الزُّهَّادُ التَّرْكَ وَالْإِقْلَالَ، وَاخْتَصَّ
الْأَنْبِيَاءُ بِمَعَارِفَ لَا تُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعُقُولِ
لَا بِضَرُورَتِهَا، وَاخْتَصُّوا بِالْأَحْوَالِ
الْمَبْنِيَّةِ عَلَى تِلْكَ الْمَعَارِفِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ
الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَبْدَالِ وَرِثُوا أَشْيَاءَ مِنْ
ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ اخْتَصَّ الْأَنْبِيَاءُ بِالْمُعْجِزَاتِ
وَالْكَرَامَاتِ، وَشَارَكَهُمْ الْأَوْلِيَاءُ فِي بَعْضِ
الْكَرَامَاتِ.
وَالْمَعَارِفُ وَالْأَحْوَالُ غَيْرُ الْكَرَامَاتِ وَخَرْقِ
الْعَادَاتِ، لِتَعَلُّقِ الْمَعَارِفِ بِاَللَّهِ وَتَعَلُّقِ
الْكَرَامَاتِ بِخَرْقِ الْعَادَاتِ فِي بَعْضِ
الْمَخْلُوقَاتِ. وَفُرِّقَ فِيمَا تَعَلَّقَ بِرَبِّ
الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ. وَفِيمَا تَعَلَّقَ بِفَكِّ
اطِّرَادِ الْعَادَاتِ مِنْ النَّظَرِ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ
وَمَالِكِ الرِّقَابِ مِنْ النَّظَرِ إلَى مَنْ هُوَ سِتْرٌ
وَحِجَابٌ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَبَيْنَ الْمَلِكِ الْوَهَّابِ،
وَكَفَى بِالْغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ عِقَابًا.
(2/226)
ارْضَ لِمَنْ غَابَ عَنْك غَيْبَتَهُ ...
فَذَاكَ ذَنْبٌ عِقَابُهُ فِيهِ
وَفَّقَنَا اللَّهُ لِلْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالْإِصْغَاءِ،
إلَيْهِ، وَلَمَّا لَمْ يُدَانِ الْأَنْبِيَاءَ أَحَدٌ فِي
شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ،
وَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، لَمْ يُدَانِهِمْ فِي أَدَائِهَا
أَحَدٌ، لِأَنَّ رَكْعَةً مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلُ مِنْ
رَكَعَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ غَيْرِهِمْ لِكَمَالِهَا فِي
الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ آدَابِهَا: مِنْ التَّعْظِيمِ
وَالْإِجْلَالِ وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ حَتَّى كَأَنَّهُمْ
يَنْظُرُونَ إلَى رَبِّهِمْ، وَكَذَلِكَ قِيَامُ لَيْلَةٍ
مِنْهُمْ أَفْضَلُ مِنْ قِيَامِ لَيَالٍ كَثِيرَةٍ مِنْ
غَيْرِهِمْ لِمَا فِي عِبَادَاتِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ كَمَالِ
التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ وَمَا فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِمْ
مِنْ النَّقْصِ وَالْإِخْلَالِ، وَكَذَلِكَ أَحْوَالُهُمْ
وَمَعَارِفُهُمْ فِي حُضُورِهِمْ بِغَيْرِ اسْتِحْضَارٍ
وَدَوَامُهَا عَلَى مَرِّ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ.
[فَصْلٌ فِي تَعْرِيفِ مَا يَظْهَرُ مِنْ مَعَارِفِ
الْأَوْلِيَاءِ وَأَحْوَالِهِمْ]
ْ لِلْأَحْوَالِ آثَارٌ تَظْهَرُ عَلَى الْجَوَارِحِ
وَالْأَبْدَانِ، فَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ مَرَاتِبِ
الرِّجَالِ فَانْظُرْ إلَى مَا يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنْ
الْآثَارِ، وَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَقْوَالِ
وَالْأَعْمَالِ، فَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ آثَارُ الْخَوْفِ
كَالْبُكَاءِ وَالِاقْشِعْرَارِ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعِيدِ
فَهُوَ مِنْ الْخَائِفِينَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ السُّرُورُ
وَالِاسْتِبْشَارُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعْدِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ
مِنْ الرَّاجِينَ وَمَنْ غَلَبَا عَلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا
فَهُوَ مِنْ الْخَائِفِينَ الرَّاجِينَ، وَمَنْ غَلَبَ
عَلَيْهِ الْهَشَاشَةُ وَالْبَشَاشَةُ عِنْدَ ذِكْرِ
الْجَمَالِ فَهُوَ مِنْ الْمُحِبِّينَ، الرَّاجِينَ، وَمَنْ
غَلَبَ عَلَيْهِ الِانْقِبَاضُ وَالذُّلُّ عِنْدَ ذِكْرِ
الْعَظَمَةِ وَالْجَلَالِ فَهُوَ مِنْ الْهَائِبِينَ
الْمُعَظِّمِينَ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الِانْقِطَاعُ عَنْ
الْأَسْبَابِ عِنْدَ نُزُولِ النَّوَازِلِ وَحُلُولِ
الْمَصَائِبِ فَهُوَ مِنْ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَمَنْ غَلَبَ
عَلَيْهِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَفْضَلُ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ
فَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْخَوْفُ
وَالرَّجَاءُ فَهُوَ
(2/227)
الْأَسْفَلُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ
مَحَبَّةُ الْإِجْلَالِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ غَلَبَ
عَلَيْهِ مَحَبَّةُ الْإِنْعَامِ وَالْإِفْضَالِ، وَغَلَبَةُ
الْخَوْفِ خَيْرٌ مِنْ غَلَبَةِ الرَّجَاءِ.
وَكَانَ الْأَنْبِيَاءُ يَتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ
فِي مَظَانِّهَا وَعِنْدَ تَحَقُّقِ أَسْبَابِهَا وَقَدْ
يَغْلِبُ الْحَالُ عَلَى الضَّعِيفِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ
فَيَفْقِدُ لُبَّهُ لِعَظَمَةِ رَبِّهِ، وَقَدْ يَضْحَكُ
أَحَدُهُمْ طَمَعًا فِي قُرْبِ رَبِّهِ وَإِسْعَادِهِ،
وَيَبْكِي أَحَدُهُمْ خَوْفًا مِنْ طَرْدِهِ وَإِبْعَادِهِ.
فَكُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ إذَا ذَكَّرَ نَفْسَهُ بِهَذِهِ
الصِّفَاتِ فِي خَلْوَةٍ نَشَأَ عَنْ تَذَكُّرِهِ بِهَذِهِ
الْأَحْوَالِ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِمْ
وَأَحْسَنَ إلَيْهِمْ بِمَا وَصَلُوا إلَيْهِ وَقَدِمُوا
عَلَيْهِ، فَإِذَا غَلَبَ الْحَالُ عَلَى أَحَدِهِمْ خَرَجَ
عَنْ الْإِدْرَاكِ وَالْإِحْسَاسِ، فَلَوْ ضُرِبَ وَجْهُ
أَحَدِهِمْ بِالسَّيْفِ لَمَا أَحَسَّ بِهِ، وَقَدْ كَانَ
أَحَدُ هَؤُلَاءِ فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ لَيُنْشَرُ
بِالْمَنَاشِرِ فَلَا يُبَالِي بِذَلِكَ، وَلِمِثْلِ هَذِهِ
لَمَّا تَهَدَّدَ فِرْعَوْنُ السَّحَرَةَ بِالْقَطْعِ
وَالصَّلْبِ قَالُوا: لَا ضَيْرَ، فَيُحْتَمَلُ أَنَّ
حَالَاتِهِمْ اقْتَضَتْ ذَلِكَ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ
قَالُوا ذَلِكَ صَبْرًا عَلَى الْبَلَاءِ فِي ذَاتِ اللَّهِ،
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا
صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ.
[فَصْلٌ فِي بَيَانِ أَحْوَالِ النَّاسِ]
ِ مُعْظَمُ النَّاسِ خَاسِرُونَ، وَأَقَلُّهُمْ رَابِحُونَ،
فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ فِي خُسْرِهِ وَرِبْحِهِ
فَلْيَعْرِضْ نَفْسَهُ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنْ
وَافَقَهُمَا فَهُوَ الرَّابِحُ إنْ صَدَقَ ظَنُّهُ فِي
مُوَافَقَتِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَ ظَنُّهُ فَيَا حَسْرَةً
عَلَيْهِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ بِخُسْرَانِ الْخَاسِرِينَ
وَرِبْحِ الرَّابِحِينَ، وَأَقْسَمَ بِالْعَصْرِ إنَّ
الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إلَّا مَنْ
(2/228)
اجْتَمَعَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْصَافٍ:
أَحَدُهَا: الْإِيمَانُ.
وَالثَّانِي: الْعَمَلُ الصَّالِحُ
وَالثَّالِثُ: التَّوَاصِي بِالْحَقِّ.
وَالرَّابِعُ: التَّوَاصِي بِالصَّبْرِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إذَا اجْتَمَعُوا
لَمْ يَفْتَرِقُوا حَتَّى يَقْرَءُوهَا، وَاخْتُلِفَ فِي
الْعَصْرِ فَقِيلَ: هِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى، صَلَاةُ
الْعَصْرِ، وَقِيلَ: الْعَصْرُ آخِرُ النَّهَارِ، وَقِيلَ:
الْعَصْرُ الدَّهْرُ، وَاخْتُلِفَ فِي الصَّالِحَاتِ فَقِيلَ:
هِيَ الْفَرَائِضُ، وَقِيلَ هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَاتُ،
وَاخْتُلِفَ فِي الْحَقِّ فَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ،
وَالتَّقْدِيرُ تَوَاصَوْا بِطَاعَةِ الْحَقِّ وَقِيلَ:
الْإِسْلَامُ، وَقِيلَ الْقُرْآنُ وَالتَّقْدِيرُ تَوَاصَوْا
بِاتِّبَاعِ الْحَقِّ كَقَوْلِهِ: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] وَقَوْلِهِ:
{وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأحزاب: 2]
وَأَمَّا الصَّبْرُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الصَّبْرُ
عَلَى الطَّاعَاتِ فَيَدْخُلُ الصَّبْرُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ
وَعَلَى الطَّاعَةِ، وَيُحْتَمَلُ الصَّبْرُ عَلَى
الْمَصَائِبِ وَالْبَلِيَّاتِ، وَيُحْتَمَلُ عَلَى
الْبَلِيَّاتِ وَالطَّاعَاتِ، وَعَنْ الْمَعَاصِي
وَالْمُخَالَفَاتِ وَاجْتِمَاعُ هَذِهِ الْخِصَالِ فِي
الْإِنْسَانِ عَزِيزٌ نَادِرٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَكَيْفَ
يَتَحَقَّقُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ جَامِعٌ لِهَذِهِ الصِّفَاتِ
الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ عَلَى خُسْرَانِ مَنْ خَرَجَ عَنْهَا
وَبَعُدَ مِنْهَا مَعَ عِلْمِهِ بِقُبْحِ أَقْوَالِهِ وَسُوءِ
أَعْمَالِهِ، فَكَمْ مِنْ عَاصٍ يَظُنُّ أَنَّهُ مُطِيعٌ،
وَمِنْ بَعِيدٍ يَظُنُّ أَنَّهُ قَرِيبٌ، وَمِنْ مُخَالِفٍ
يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُوَافِقٌ، وَمِنْ مُنْتَهِكٍ يَعْتَقِدُ
أَنَّهُ مُتَنَسِّكٌ، وَمِنْ مُدْبِرٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ
مُقْبِلٌ، وَمِنْ هَارِبٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ طَالِبٌ، وَمِنْ
جَاهِلٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَارِفٌ، وَمِنْ آمِنٍ يَعْتَقِدُ
أَنَّهُ خَائِفٌ، وَمِنْ مُرَاءٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُخْلِصٌ،
وَمِنْ ضَالٍّ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُهْتَدٍ، وَمِنْ عَمٍ
يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُبْصِرٌ، وَمِنْ رَاغِبٍ يَعْتَقِدُ
أَنَّهُ زَاهِدٌ؟ ، وَكَمْ مِنْ عَمَلٍ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ
الْمُرَائِي وَهُوَ وَبَالٌ عَلَيْهِ؟ ، وَكَمْ مِنْ طَاعَةٍ
يَهْلِكُ بِهَا الْمُتَسَمِّعُ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ إلَيْهِ؟ ،
وَالشَّرْعُ مِيزَانٌ يُوزَنُ بِهِ الرِّجَالُ، وَبِهِ
يُتَيَقَّنُ الرِّبْحُ مِنْ الْخُسْرَانِ، فَمَنْ رَجَحَ فِي
مِيزَانِ الشَّرْعِ كَانَ مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ،
وَتَخْتَلِفُ مَرَاتِبُ الرُّجْحَانِ، وَمَنْ نَقَصَ
(2/229)
فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ فَأُولَئِكَ أَهْلُ
الْخُسْرَانِ، وَتَتَفَاوَتُ خِفَّتُهُمْ فِي الْمِيزَانِ،
وَأَخَسُّهَا مَرَاتِبُ الْكَفَّارَةِ، وَلَا تَزَالُ
الْمَرَاتِبُ تَتَنَاقَصُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إلَى مَنْزِلَةِ
مُرْتَكِبِ أَصْغَرِ الصَّغَائِرِ، فَإِذَا رَأَيْت إنْسَانًا
يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَيَمْشِي عَلَى الْمَاءِ أَوْ
يُخْبِرُ بِالْمَغِيبَاتِ، وَيُخَالِفُ الشَّرْعَ بِارْتِكَابِ
الْمُحَرَّمَاتِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُحَلِّلٍ، أَوْ يَتْرُكُ
الْوَاجِبَاتِ بِغَيْرِ سَبَبٍ مُجَوِّزٍ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ
شَيْطَانٌ نَصَبَهُ اللَّهُ فِتْنَةً لِلْجَهَلَةِ وَلَيْسَ
ذَلِكَ بِبَعِيدٍ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّهُ
لِلضَّلَالِ، فَإِنَّ الدَّجَّالَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فِتْنَةً
لِأَهْلِ الضَّلَالِ، وَكَذَلِكَ يَأْتِي الْخَرِبَةَ
فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، وَكَذَلِكَ
يُظْهِرُ لِلنَّاسِ أَنَّهُ مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ
جَنَّةٌ، وَجَنَّتُهُ نَارٌ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَأْكُلُ
الْحَيَّاتِ وَيَدْخُلُ النِّيرَانَ فَإِنَّهُ مُرْتَكِبٌ
الْحَرَامَ بِأَكْلِ الْحَيَّاتِ، وَفَاتِنُ النَّاسِ
بِدُخُولِ النِّيرَانِ لِيَقْتَدُوا بِهِ فِي ضَلَالَتِهِ
وَيُتَابِعُوهُ عَلَى جَهَالَتِهِ.
[فَصْلٌ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِ الْحَادِثَاتِ عَلَى بَعْضِ
الْجَوَاهِرِ]
فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ تَفْضِيلِ بَعْضِ الْمَوْجُودَاتِ
الْحَادِثَاتِ عَلَى بَعْضِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَجْسَامِ
الْأَجْسَامُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ ذَوَاتِهَا،
وَإِنَّمَا يُفَضَّلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِصِفَاتِهَا
وَأَعْرَاضِهَا وَأَنْسَابِهَا إلَى الْأَوْصَافِ الشَّرِيفَةِ
وَالْأَفْعَالِ النَّفِيسَةِ.
وَالْفَضَائِلُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا فَضَائِلُ
الْجَمَادَاتِ كَفَضْلِ الْجَوْهَرِ عَلَى الذَّهَبِ وَفَضْلِ
الذَّهَبِ عَلَى الْفِضَّةِ، وَفَضْلِ الْفِضَّةِ عَلَى
الْحَدِيدِ، وَفَضْلِ الْأَنْوَارِ عَلَى الظُّلُمَاتِ،
وَفَضْلِ الشَّفَّافِ عَلَى غَيْرِ الشَّفَّافِ، وَفَضْلِ
اللَّطِيفِ عَلَى الْكَثِيفِ، وَالنَّيِّرِ عَلَى الْمُظْلِمِ،
وَالْحَسَنِ عَلَى الْقَبِيحِ.
(2/230)
الضَّرْبُ الثَّانِي فَضَائِلُ
الْخَيْرَاتِ وَهِيَ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: حُسْنُ الصُّورَةِ.
وَالثَّانِي: قُوَى الْأَجْسَامِ، كَالْقُوَى الْحَادِثَةِ
وَالْمُمْسِكَةِ وَالدَّافِعَةِ وَالْغَاذِيَةِ، وَالْقُوَى
عَلَى الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ وَحَمْلِ الْأَعْبَاءِ
وَالْأَثْقَالِ.
الثَّالِثُ: الصِّفَاتُ الدَّاعِيَةُ إلَى الْخُيُورِ،
وَالْوَازِعَةِ عَنْ الشُّرُورِ: كَالْغَيْرَةِ وَالنَّخْوَةِ
وَالْحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ
وَالسَّخَاءِ.
الرَّابِعُ: الْعُقُولُ.
الْخَامِسُ: الْحَوَاسُّ.
السَّادِسُ: الْعُلُومُ الْمُكْتَسَبَةُ وَهِيَ أَقْسَامٌ:
أَحَدُهَا: مَعْرِفَةُ وُجُودِ الْإِلَهِ وَصِفَاتِهِ
الذَّاتِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ.
الثَّانِي: مَعْرِفَةُ إرْسَالِ الرُّسُلِ وَإِنْزَالِ
الْكُتُبِ وَتَنْبِيهِ الْأَنْبِيَاءِ.
الثَّالِثُ: مَعْرِفَةُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ مِنْ
الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ وَأَسْبَابِهَا وَشَرَائِعِهَا
وَتَوَابِعِهَا.
السَّابِعُ: الْأَحْوَالُ النَّاشِئَةُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ
الْمَعَارِفِ.
الثَّامِنُ: الْقِيَامُ بِطَاعَةِ اللَّهِ فِي كُلِّ مَا
أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ.
التَّاسِعُ: مَا رَتَّبَهُ اللَّهُ عَلَى هَذِهِ الْمَعَارِفِ
وَالْأَحْوَالِ وَالطَّاعَاتِ مِنْ لَذَّاتِ الْآخِرَةِ
وَأَفْرَاحِهَا بِالنَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ: كَلَذَّةِ
الْأَمْنِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَالْأُنْسِ بِقُرْبِهِ
وَجِوَارِهِ، وَسَمَاعِهِ وَكَلَامِهِ، وَتَبْشِيرِهِ
بِالرِّضَا الدَّائِمِ، وَكَذَلِكَ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهِ
الْكَرِيمِ مَعَ الْخَلَاصِ مِنْ عَذَابِهِ الْأَلِيمِ.
فَهَذِهِ فَضَائِلُ بَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ
اتَّصَفَ بِأَفْضَلِهَا كَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْبَرِيَّةِ،
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَعْرِفَةَ صِفَاتِهِ
وَلَذَّاتِ رِضَاهُ وَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ
أَفْضَلُ مِمَّا عَدَاهُنَّ، وَأَفْضَلُ الْمَلَائِكَةِ مَنْ
قَامَ بِهِ أَفْضَلُ هَذِهِ الصِّفَاتِ، فَإِنْ تَسَاوَى
اثْنَانِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ فِي ذَلِكَ لَمْ يُفَضَّلْ
أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ
(2/231)
وَإِنْ فُضِّلَ الْبَشَرُ عَلَى الْمَلَكِ
بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ، وَإِنْ فُضِّلَ
الْمَلَكُ عَلَى الْبَشَرِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَ
أَفْضَلَ مِنْهُ، وَالْفَضْلُ مُنْحَصِرٌ فِي أَوْصَافِ
الْكَمَالِ، وَالْكَمَالُ إنَّمَا يَكُونُ بِالْمَعَارِفِ
وَالطَّاعَاتِ وَالْأَحْوَالِ.
أَمَّا بِالْأَفْرَاحِ وَاللَّذَّاتِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ إلَى
أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ بِمَا لَا عَيْنٌ
رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ
بَشَرٍ. وَأَحْسَنُ إلَى أَرْوَاحِهِمْ بِالْمَعَارِفِ
الْكَامِلَةِ وَالْأَحْوَالِ الْمُتَوَالِيَةِ، وَأَذَاقَهُمْ
لَذَّةَ النَّظَرِ إلَيْهِ وَسُرُورِ رِضَاهُ عَنْهُمْ
وَكَرَامَةِ تَسْلِيمِهِ عَلَيْهِمْ فَمِنْ أَيْنَ
لِلْمَلَائِكَةِ مِثْلُ هَذَا؟
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَجْسَادَ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ
وَلِلسَّاكِنِ وَالْمُسْكَنِ أَحْوَالٌ:
إحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ السَّاكِنُ أَشْرَفَ مِنْ
الْمُسْكَنِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ الْمُسْكَنُ أَشْرَفَ مِنْ
السَّاكِنِ الثَّالِثُ: يَتَسَاوَيَا فِي الشَّرَفِ فَلَا
يُفَضَّلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَإِذَا كَانَ الشَّرَفُ
لِلسَّاكِنِ فَلَا مُبَالَاةَ بِخَسَاسَةِ الْمُسْكَنِ،
وَإِذَا كَانَ الشَّرَفُ لِلْمُسْكَنِ فَلَا يَتَشَرَّفُ بِهِ
السَّاكِنُ وَالْأَجْسَادُ مَسَاكِنُ الْأَرْوَاحِ، وَقَدْ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي التَّفْضِيلِ الْوَاقِعِ بَيْنَ
الْبَشَرِ وَالْمَلَكِ: فَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَهُمَا مُفَضِّلٌ
مِنْ جِهَةِ تَفَاوُتِ الْأَجْسَادِ الَّتِي هِيَ مَسَاكِنُ
الْأَرْوَاحِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ
وَأَشْرَفُ مِنْ أَجْسَادِ الْبَشَرِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ
الْأَخْلَاطِ الْمُسْتَقْذَرَةِ، وَإِنْ فَاضَلَ بَيْنَ
أَرْوَاحِ الْبَشَرِ وَأَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ مَعَ قَطْعِ
النَّظَرِ إلَى الْأَجْسَادِ، فَأَرْوَاحُ الْأَنْبِيَاءِ
أَفْضَلُ مِنْ أَرْوَاحِ الْمَلَائِكَةِ، لِأَنَّهُمْ
فُضِّلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا الْإِرْسَالُ
وَرُسُلُ الْمَلَائِكَةِ قَلِيلٌ، وَلِأَنَّ رَسُولَ
الْمَلَائِكَةِ يَأْتِي إلَى نَبِيٍّ وَاحِدٍ، وَرَسُولَ
الْأُمَمِ يَأْتِي إلَى أُمَمٍ وَإِلَى أُمَّةٍ وَاحِدَةٍ
فَيَهْدِيهِمْ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ
تَبْلِيغِهِ، وَمِثْلُ أَجْرِ كُلِّ مَنْ اهْتَدَى عَلَى
يَدَيْهِ، وَلَيْسَ مِثْلَ هَذَا الْمَلَكُ.
الثَّانِي: الْقِيَامُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
الثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى الْمَصَائِبِ الدُّنْيَا
وَمِحَنِهَا وَاَللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.
الرَّابِعُ: الرِّضَا بِمُرِّ الْقَضَاءِ وَحُلْوِهِ.
الْخَامِسُ: نَفْعُ الْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَجَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ
الْمَكَارِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَلَائِكَةِ شَيْءٌ مِثْلُ هَذَا
السَّادِسُ: مَا أَعَدَّهُ فِي الْآخِرَةِ لِعِبَادِهِ
الصَّالِحِينَ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ
(2/232)
وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى
قَلْبِ بَشَرٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ مِثْلُ هَذَا لِلْمَلَائِكَةِ.
السَّابِعُ: مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ
النَّعِيمِ الرُّوحَانِيِّ كَالْأُنْسِ وَالرِّضَا وَالنَّظَرِ
إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَلَيْسَ لِلْمَلَائِكَةِ مِثْلُ
هَذَا.
فَإِنْ قِيلَ الْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ
وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَالْأَنْبِيَاءُ يَفْتُرُونَ
وَيَنَامُونَ؟ قُلْت إذَا فَتَرَتْ الْأَنْبِيَاءُ عَنْ
التَّسْبِيحِ فَقَدْ يَأْتُونَ فِي حَالِ فُتُورِهِمْ مِنْ
الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَمِنْ الطَّاعَاتِ وَالْعِبَادَاتِ
بِمَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ، وَالنَّوْمُ مُخْتَصٌّ
بِأَجْسَادِهِمْ، وَقُلُوبُهُمْ مُتَيَقِّظَةٌ غَيْرُ
نَائِمَةٍ وَسَيُسَاوُونَهُمْ فِي الْآخِرَةِ فِي إلْهَامِ
التَّسْبِيحِ كَمَا يُلْهِمُونَ النَّفْسَ.
الْوَجْهُ الثَّامِنُ: وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِآدَمَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أَنَّ اللَّهَ عَرَّفَهُ مِنْ أَسْمَاءِ كُلِّ
شَيْءٍ وَمَنَافِعِهِ مَا لَا يَعْرِفُونَ. الْوَجْهُ
التَّاسِعُ: وَهُوَ أَيْضًا مُخْتَصٌّ بِهِ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وَلَا
شَكَّ أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ أَفْضَلُ وَأَشْرَفُ مِنْ
السَّاجِدِينَ.
وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَمَا يُفَضِّلُ الْمَلَائِكَةَ عَلَى
الْأَنْبِيَاءِ إلَّا هِجَامٌ يُبْنَى التَّفْضِيلُ عَلَى
خَيَالَاتِ تَوَهَّمَهَا، وَأَوْهَامٌ فَاسِدَةٌ اعْتَمَدَهَا
وَلَمْ يَتَقَرَّرْ بِالْخَيَالَاتِ وَالتَّوَهُّمَاتِ مِنْ
أُمُورٍ يَعْلَمُ اللَّهُ خِلَافَهَا، بَلْ قَدْ يَرَى
الْإِنْسَانُ اثْنَيْنِ فَيَظُنُّ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَفْضَلُ
مِنْ الْآخَرِ، لِمَا يَرَى مِنْ طَاعَتِهِ الظَّاهِرَةِ،
وَالْآخَرُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِدَرَجَاتٍ كَثِيرَةٍ لِمَا
اشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ،
وَالْقَلِيلُ مِنْ أَعْمَالِ الْأَعْرَفِ خَيْرٌ مِنْ
الْكَثِيرِ مِنْ أَعْمَالِ الْعَارِفِ، وَأَيْنَ الثَّنَاءُ
مِنْ الْمُسْتَحْضِرِينَ لِأَوْصَافِ الْجَلَالِ وَتَعَرُّفِ
الْكَمَالِ مِنْ ثَنَاءِ الْمُسَبِّحِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ
الْغَافِلِينَ بِقُلُوبِهِمْ.
لَيْسَ التَّكَحُّلُ فِي الْعَيْنَيْنِ كَالْكُحْلِ
لَيْسَ اسْتِجْلَابُ الْأَحْوَالِ بِاسْتِذْكَارِهَا
الْمَعَارِفَ كَمَنْ تَحْضُرُهُ الْمَعَارِفُ بِغَيْرِ سَعْيٍ
وَلَا اكْتِسَابٍ، وَلَا عِبْرَةَ بِفَضْلِ أَجْسَادِ
الْمَلَائِكَةِ عَلَى أَجْسَادِ الْأَنْبِيَاءِ، لِأَنَّ
الْأَجْسَادَ مَسَاكِنُ وَلَا شَرَفَ بِالْمَسَاكِنِ،
وَإِنَّمَا الشَّرَفُ بِالْأَوْصَافِ الْقَائِمَةِ
(2/233)
بِالسَّاكِنِ، وَالِاعْتِبَارُ إنَّمَا
هُوَ بِالسَّاكِنِينَ دُونَ الْمَسَاكِنِ، فَإِنَّ
الْأَنْبِيَاءَ قَدْ سَكَنُوا بُطُونَ أُمَّهَاتِهِمْ مَعَ
الْقَطْعِ بِأَنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ أُمَّهَاتِهِمْ.
نَفْسُ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَامًا
فَرُوحُ الْمَسِيحِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَفْضَلُ مِنْ
جَسَدِ مَرْيَمَ، وَكَذَلِكَ رُوحُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أَفْضَلُ مِنْ جَسَدِ أُمِّهِ.
وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنَاتِ فَهُمْ
شَرُّ الْبَرِيَّةِ، وَمَسَاكِنُهُمْ خَيْرٌ مِنْهُمْ، فَإِذَا
حَمَلَتْ مُؤْمِنَةٌ بِكَافِرٍ كَانَ جَسَدُهَا خَيْرًا مِنْ
رُوحِهِ، إذْ قَامَ بِرُوحِهِ أَخَسُّ الصِّفَاتِ وَهُوَ
الْكُفْرُ بِرَبِّ الْأَرْضِينَ وَالسَّمَوَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ أَيْنَ مَحَلُّ الْأَرْوَاحِ مِنْ الْأَجْسَادِ؟
قُلْنَا فِي كُلِّ جَسَدٍ رُوحَانِ: إحْدَاهُمَا: رُوحُ
الْيَقَظَةِ، وَهِيَ الرُّوحُ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ
الْعَادَةَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي الْجَسَدِ كَانَ
الْإِنْسَانُ مُسْتَيْقِظًا، فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ الْجَسَدِ
نَامَ الْإِنْسَانُ وَرَأَتْ تِلْكَ الرُّوحُ الْمَنَامَاتِ
إذَا فَارَقَتْ الْجَسَدَ، فَإِنْ رَأَتْهَا فِي السَّمَوَاتِ
صَحَّتْ الرُّؤْيَا فَلَا سَبِيلَ لِلشَّيَاطِينِ إلَى
السَّمَوَاتِ، وَإِنْ رَأَتْهَا دُونَ السَّمَاءِ كَانَ مِنْ
إلْقَاءِ الشَّيَاطِينِ وَتَحْرِيفِهِمْ، فَإِذَا رَجَعَتْ
هَذِهِ الرُّوحُ إلَى الْإِنْسَانِ يَسْتَيْقِظُ الْإِنْسَانُ
كَمَا كَانَ.
الرُّوحُ الثَّانِيَةُ: رُوحُ الْحَيَاةِ وَهِيَ الرُّوحُ
الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي
الْجَسَدِ كَانَ حَيًّا، فَإِذَا فَارَقَتْهُ مَاتَ الْجَسَدُ
فَإِذَا رَجَعَتْ إلَيْهِ حَيِيَ.
وَهَاتَانِ الرُّوحَانِ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ لَا يَعْرِفُ
بَاطِنَ مُقِرِّهِمَا إلَّا مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى
ذَلِكَ، فَهُمَا كَجَنِينَيْنِ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ
وَاحِدَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ فِي بَطْنِ
(2/234)
الْإِنْسَانِ رُوحٌ ثَالِثَةٌ وَهِيَ رُوحُ
الشَّيْطَانِ وَمَقَرُّهَا الصُّدُورُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ:
{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] وَجَاءَ
فِي [الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّ الْمُتَثَائِبَ إذَا قَالَ
هاه هاه ضَحِكَ الشَّيْطَانُ فِي جَوْفِهِ» وَجَاءَ فِي
الْحَدِيثِ: «إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةٌ وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ
لَمَّةٌ» وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: الَّذِي يُظْهِرُ
أَنَّ الرُّوحَ بِقُرْبِ الْقَلْبِ، وَلَا يَبْعُدُ عِنْدِي
أَنْ يَكُونَ الرُّوحُ فِي الْقَلْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَحْضُرَ
الْمَلَكُ فِي بَاطِنِ الْإِنْسَانِ حَيْثُ يَحِلُّ
الرُّوحَانِ، وَيَحْضُرُ الشَّيْطَانُ.
وَيَجُوزُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأَرْوَاحِ أَنْ تَكُونَ
جَوْهَرًا فَرْدًا يَقُومُ بِهِ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ
الصِّفَاتِ الْخَسِيسَةِ وَالنَّفِيسَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ جِسْمًا لَطِيفًا حَيًّا
سَمِيعًا بَصِيرًا عَلِيمًا قَدِيرًا مُرِيدًا مُتَكَلِّمًا،
فَتَكُونُ حَيَوَانًا كَامِلًا فِي دَاخِلِ حَيَوَانٍ نَاقِصٍ،
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَرْوَاحُ كُلُّهَا نُورَانِيَّةً
لَطِيفَةً شَفَّافَةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ ذَلِكَ
بِأَرْوَاحِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةِ، دُونَ أَرْوَاحِ
الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ.
فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - فِي صُورَةِ دَحْيَةَ فَأَيْنَ تَكُونُ رُوحُهُ؟
فِي الْجَسَدِ الَّذِي يَتَشَبَّهُ بِجَسَدِ دَحْيَةَ، أَمْ
فِي الْجَسَدِ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ؟
فَإِنْ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْأَعْظَمِ فَمَا الَّذِي أَتَى
إلَى الرَّسُولِ جِبْرِيلُ لَا مِنْ جِهَةِ رُوحِهِ وَلَا مِنْ
جِهَةِ جَسَدِهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْجَسَدِ الْمُشَبَّهِ
دِحْيَةُ فَهَلْ يَمُوتُ الْجَسَدُ الَّذِي لَهُ سِتُّمِائَةِ
جَنَاحٍ كَمَا تَمُوتُ الْأَجْسَادُ إذَا فَارَقَتْهَا
الْأَرْوَاحُ أَمْ يَبْقَى حَيًّا خَالِيًا مِنْ الرُّوحِ
الْمُنْتَقِلَةِ مِنْ الْجَسَدِ الْمُشَبَّهِ بِجَسَدِ
دَحْيَةَ؟ قُلْت: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ انْتِقَالُهَا
مِنْ الْجَسَدِ الْأَوَّلِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِمَوْتِهِ، لِأَنَّ
مَوْتَ الْأَجْسَادِ بِمُفَارَقَةِ الْأَرْوَاحِ لَيْسَ
بِوَاجِبٍ عَقْلًا، وَإِنَّمَا هُوَ بِعِبَادَةٍ مُطَّرِدَةٍ
(2/235)
أَجْرَاهَا اللَّهُ فِي أَرْوَاحِ بَنِي
آدَمَ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْجَسَدُ حَيًّا لَا يُنْقِصُ
مَعَارِفَهُ وَلَا طَاعَتَهُ شَيْءٌ، وَيَكُونُ انْتِقَالُ
رُوحِهِ إلَى الْجَسَدِ الثَّانِي كَانْتِقَالِ أَرْوَاحِ
الشُّهَدَاءِ إلَى أَجْوَافِ الطُّيُورِ الْخُضْرِ، تَأْكُلُ
تِلْكَ الطُّيُورِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ وَتَشْرَبُ مِنْ
أَنْهَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ
بِالْعَرْشِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْأَرْوَاحُ بَاقِيَةٌ فِي الْقُبُورِ،
وَلِذَلِكَ سَلَّمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَيْهِمْ
وَأَمَرَنَا بِالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ: «سَلَامٌ
عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُؤْمِنِينَ» وَأَهْلُ الدَّارِ فِي عُرْفِ النَّاسِ مَنْ
سَكَنَ الدَّارَ أَوْ كَانَ بِفِنَائِهَا، وَقَدْ أَمَرَنَا
بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمَرَّ
بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ وَمَا
يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ» وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
الْأَرْوَاحَ فِي الْقُبُورِ دُونَ أَفْنِيَتِهَا وَهُوَ
الْمُخْتَارُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْمُؤْمِنِ:
«وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خَضِرًا
إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» وَقِيلَ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ
تُرْفَعُ أَجْسَادُهُمْ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ، وَزَعَمَتْ
طَائِفَةٌ أَنَّ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ بِبِئْرٍ بِالْيَمَنِ
وَظَاهِرُ السُّنَّةِ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - أَمَرَ بِالتَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ،
وَقَالَ: «لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْت اللَّهَ
أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْمَوْتَى فِي قُبُورِهِمْ»
وَالْأَرْوَاحُ كُلُّهَا تَنْتَقِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى
أَجْسَادٍ غَيْرِ أَجْسَادِهَا، لِأَنَّ ضِرْسَ الْكَافِرِ
مِثْلُ أُحُدٍ، وَغِلَظَ جَسَدِهِ مَسِيرَةُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ، وَمَقْعَدَهُ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ،
وَأَجْسَادُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى هَيْئَةِ جَسَدِ آدَمَ
سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ
(فَمَا الدِّيَارُ الدِّيَارُ وَلَا الْخِيَامُ الْخِيَامُ)
[فَائِدَةٌ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ النُّبُوَّةُ أَمْ
الْإِرْسَالُ]
(فَائِدَةٌ) إنْ قِيلَ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ النُّبُوَّةُ أَمْ
الْإِرْسَالُ؟ فَنَقُولُ النُّبُوَّةُ أَفْضَلُ لِأَنَّ
النُّبُوَّةَ إخْبَارٌ عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ مِنْ
صِفَاتِ الْجَمَالِ وَنُعُوتِ الْكَمَالِ وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ
بِاَللَّهِ مِنْ طَرَفَيْهَا، وَالْإِرْسَالُ دُونَهَا، أَمْرٌ
بِالْإِبْلَاغِ إلَى الْعِبَادِ
(2/236)
فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ مِنْ أَحَدِ
طَرَفَيْهِ وَبِالْعِبَادِ مِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ، وَلَا
شَكَّ أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ مِنْ طَرَفَيْهِ أَفْضَلُ مِمَّا
يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ، وَالنُّبُوَّةُ
سَابِقَةٌ عَلَى الْإِرْسَالِ فَإِنَّ قَوْلَ اللَّهِ
لِمُوسَى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:
30] مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ
إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17] فَجَمِيعُ مَا تَحَدَّثَ بِهِ
قَبْلَ قَوْلِهِ: اذْهَبْ إلَى فِرْعَوْنَ نُبُوَّةٌ، وَمَا
أَمَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ التَّبْلِيغِ فَهُوَ إرْسَالٌ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النُّبُوَّةَ رَاجِعَةٌ إلَى التَّعْرِيفِ
بِالْإِلَهِ وَبِمَا يَجِبُ لَهُ، وَالْإِرْسَالَ إلَى أَمْرِ
الرَّسُولِ بِأَنْ يُبَلِّغَ عَنْهُ إلَى عِبَادِهِ أَوْ إلَى
بَعْضِ عِبَادِهِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَعْرِفَتِهِ
وَطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَكَذَلِكَ الرَّسُولُ
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِمَا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: {اقْرَأْ
بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] إلَى قَوْلِهِ:
{إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] كَانَ هَذَا نُبُوَّةً،
وَكَانَ ابْتِدَاءُ الرِّسَالَةِ حِينَ جَاءَ جِبْرِيلُ: بِ
{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1] {قُمْ فَأَنْذِرْ}
[المدثر: 2] .
[فَائِدَةٌ إذَا اسْتَوَى اثْنَانِ فِي حَالٍ مِنْ
الْأَحْوَالِ]
(فَائِدَةٌ) إذَا اسْتَوَى اثْنَانِ فِي حَالِ مِنْ
الْأَحْوَالِ فَهُمَا فِي التَّفَضُّلِ سِيَّانِ، وَإِنْ
تَفَاوَتَا فِي ذَلِكَ بِطُولِ الزَّمَانِ وَقِصَرِهِ كَانَ
مَنْ طَالَ زَمَانُهُ أَفْضَلَ مِمَّنْ قَصُرَ زَمَانُهُ
عِنْدَ اتِّحَادِ الْحَالِ، فَإِنْ تَفَاوَتَا فِي
الْأَحْوَالِ: فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَشْرَفَ
وَأَطْوَلَ زَمَانًا، فَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَهَا أَشْرَفُ
وَأَفْضَلُ، مِثَالُهُ الْخَائِفُ مَعَ الْهَائِبِ، فَإِنَّ
الْهَيْبَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْخَوْفِ، فَإِذَا طَالَ زَمَانُ
الْهَيْبَةِ وَقَصُرَ زَمَنُ الْخَوْفِ فَقَدْ فَضَلَتْهُ مِنْ
وَجْهَيْنِ اثْنَيْنِ، وَإِنْ اسْتَوَى الزَّمَانُ كَانَ
الْهَائِبُ أَفْضَلَ وَكَذَلِكَ إنْ قَصُرَ زَمَانُ
الْهَيْبَةِ عَنْ زَمَنِ الْخَوْفِ كَانَ الْهَيْبَةُ أَفْضَلَ
لِعُلُوِّ رُتْبَتِهَا وَشَرَفِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ وَزْنَ
دِينَارٍ مِنْ الْجَوْهَرِ أَفْضَلُ مِنْ الدِّينَارِ،
وَالدِّينَارُ أَفْضَلُ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ وَالْعَشَرَةِ
لِشَرَفِ وَصْفِهِ عَلَى وَصْفِ الْفِضَّةِ، وَالدِّرْهَمُ
أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ النُّحَاسِ لِشَرَفِ
وَصْفِهِ، وَبِهَذَا الْمِيزَانِ يُعْرَفُ تَفَاوُتُ
(2/237)
الرِّجَالِ وَكَذَلِكَ تُعْرَفُ مَرَاتِبُ
الطَّائِعِينَ بِمُلَابَسَةِ بَعْضِهِمْ لِأَفْضَلِ
الطَّاعَاتِ وَبِمُلَابَسَةِ الْآخَرِينَ لِأَدْنَى
الطَّاعَاتِ وَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الطَّاعَاتِ لَمْ يَجُزْ
التَّفَضُّلُ فِي بَابِ الطَّاعَاتِ، وَإِنْ كَثُرَتْ طَاعَاتُ
أَحَدِهِمْ وَقَلَّتْ مَعَارِفُ الْآخَرِ وَأَحْوَالُهُ
يُقَدَّمُ شَرَفُ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ عَلَى شَرَفِ
الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ:
«مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِصَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَكِنْ
بِأَمْرٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ» وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ
- لَمَّا اسْتَعْظَمَ بَعْضُهُمْ طَاعَاتِهِ: «إنِّي لَأَرْجُو
أَنْ أَكُونَ أَعْلَمَكُمْ بِاَللَّهِ وَأَشَدَّكُمْ لَهُ
خَشْيَةً» لِفَضْلِ الْمَعْرِفَةِ وَشِدَّةِ الْخَشْيَةِ عَلَى
كَثْرَةِ الْأَعْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(2/238)
|