قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في حكم الإصرار على الصغائر
فإن قيل قد
جعلتم الإصرار على الصغيرة بمثابة ارتكاب الكبيرة، فما حد
الإصرار أيثبت بمرتين أم بأكثر من ذلك؟ قلنا إذا تكررت منه
الصغيرة تكررا يشعر
ج / 1 ص -23-
بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك ردت شهادته وروايته
بذلك. وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر
مجموعها بما يشعر أصغر الكبائر.
فصل: في إتيان المفاسد ظنا أنها من المصالح
من أتى ما هو مصلحة في ظنه وهو مفسدة في نفس الأمر كمن أكل
مالا يعتقده لنفسه، أو وطئ جاريته يظن أنها في ملكه، أو لبس
ثوبا يعتقده لنفسه، أو سكن دارا يعتقدها في ملكه، أو استخدم
عبدا يعتقده لنفسه، ثم بان أن وكيله أخرج ذلك عن ملكه فلا إثم
عليه لظنه، ولا يتصف فعله بكونه طاعة ولا معصية ولا مباحا،
وإنما هو معفو عنه كأفعال الصبيان والمجانين، ويلزم ضمان ما
فوته من ذلك لأنه جائز، والجوائز لا تتوقف على المآثم. وكذلك
لو وطئ أجنبية يعتقدها زوجته أو أمته فإنه لا يأثم ويلزمه مهر
مثلها.
فصل: فيمن فعل ما يظنه قربة أو واجبا وهو مفسدة
في نفس الأمر
من فعل فعلا يظنه قربة أو مباحا وهو من المفاسد المحرمة في نفس
الأمر؛ كالحاكم إذا حكم بما يظنه حقا بناء على الحجج الشرعية،
وكالمصلي يصلي على ظن أنه متطهر، أو كمن يصلي على مرتد يعتقده
مسلما، وكالشاهد يشهد بحق عرفه بناء على استصحاب بقائه فظهر
كذب الظن في ذلك كله، فهذا خطأ معفو عنه كالذي قبله، ولكن يثاب
فاعله على قصده دون فعله، إلا من صلى محدثا فإنه يثاب على قصده
وعلى ما أتى به في صلاته مما لا تشترط الطهارة فيه. ولو أوجر
مضطرا طعاما قاصدا لحفظ حياته وكان الطعام مسموما فقتل المضطر
فإنه يثاب على قصده دون إيجاره، وتجب الدية على عاقلته
والكفارة في ماله، ونظائر هذا كثيرة، ولو أكل في المخمصة طعاما
يجهل كونه مسموما فقتله فلا دية على عاقلته، وفي وجوب الكفارة
في ماله اختلاف جار في كل من قتل نفسه.
ج / 1 ص -24-
فصل: في بيان تقسيم المصالح والمفاسد
المصالح والمفاسد أقسام: أحدها: ما تعرفه الأذكياء والأغبياء
الثاني ما يختص بمعرفته الأذكياء، الثالث ما يختص بمعرفته
الأولياء، لأن الله تعالى ضمن لمن جاهد في سبيله أن يهديه إلى
سبيله فقال:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}،
ولأن الأولياء يهتمون بمعرفة أحكامه وشرعه فيكون بحثهم عنه أتم
واجتهادهم فيه أكمل، مع أن من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما
لم يعلم. وكيف يستوي المتقون والفاسقون؟ لا والله لا يستوون في
الدرجات ولا في المحيا ولا في الممات. والعلماء ورثة الأنبياء،
فينبغي أن يعرضوا عن الجهلة الأغبياء الذين يطعنون في علومهم
ويلغون في أقوالهم، ويفهمون غير مقصودهم، كما فعل المشركون في
القرآن المبين فقالوا:
{لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}. فكما جعل لكل نبي عدوا من المجرمين، جعل لكل عالم من المقربين عدوا
من المجرمين. فمن صبر من العلماء على عداوة الأغبياء كما صبر
الأنبياء، نصر كما نصروا وأجر كما أجروا وظفر كما ظفروا وكيف
يفلح من يعادي حزب الله ويسعى في إطفاء نور الله؟ والحسد يحمل
على أكثر من ذلك، فإن اليهود لما حسدوا الرسول عليه السلام
حملهم حسدهم على أن قاتلوه وعاندوه، مع أنهم جحدوا رسالته
وكذبوا مقالته.
فصل: في بيان تفاوت رتب المصالح والمفاسد
وتساويها
المصالح والمفاسد في رتب متفاوتة، وعلى رتب المصالح تترتب
الفضائل في الدنيا، والأجور في العقبى، وعلى رتب المفاسد تترتب
الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة، وقد تستوي مصلحة
الفعلين من كل وجه فيوجب الرب تحصيل إحدى المصلحتين نظرا لمن
أوجبها له أو عليه، ويجعل أجرها أتم من أجر التي لم يوجبها.
فإن درهم النفل مساو لدرهم الزكاة لكنه أوجبه لأنه لو لم يوجبه
لتقاعد الأغنياء عن بر الفقراء فيهلك الفقراء، وجعل الأجر
ج / 1 ص -25-
عليه أكثر من الأجر على غيره، ترغيبا في التزامه والقيام به، فإنه
قد يؤجر على أحد العملين المتماثلين ما لا يؤجر على نظيره، مع
أنه لا تفاوت بينهما إلا بتحمل مشقة الإيجاب ووجوب العقاب على
الترك ولذلك أمثلة: أحدها: أن حج الفرض وعمرته متساويان بحج
النفل وعمرته من كل وجه. الثاني: أن صوم رمضان مساو لصوم شعبان
من كل وجه، مع أن صوم رمضان أفضل من صوم شعبان، بل لو وقع صوم
رمضان في أقصر الأيام وصوم غيره في أطولها لكان صوم رمضان أفضل
مع خفته وقصره من صوم سائر الأيام مع ثقلها وطولها. المثال
الثالث: أن الذكر الواجب والمندوب متساويان من كل وجه فإن
تكبيرة الإحرام مماثلة لسائر التكبيرات وهي أفضل منها بلا
خلاف، وكذلك قراءة حمدلة الفاتحة في الصلاة مساوية لقراءتها في
غير الصلاة مع أنها أفضل منها إذا قرئت خارج الصلاة وكذلك
الأذكار التي في القرآن إذا قصد بها القراءة شرطت فيها الطهارة
عن الجنابة، ولو قصد بها الذكر كالبسملة على الطعام والشراب،
والحمدلة عند الفراغ منها، والتسبيحات المذكورة في القرآن، لم
يشترط فيها الطهارة عن الجنابة، مع تساوي هذه الأذكار من كل
وجه. وكذلك ما فرضه الله في الزكاة قد تساوي مصلحته مصلحة
نظيره من الصدقات في سد الخلات ودفع الحاجات وله أمثلة: أحدها
إخراج درهمين متساويين أحدهما زكاة والآخر صدقة. الثاني: شاتان
متساويتان تصدق بأحدهما وزكى بالأخرى، الثالث إخراج العشر في
الزكاة مع عشر آخر من ذلك الجنس، فالزكاة في ذلك كله أفضل من
الصدقة مع القطع بالاستواء في دفع الحاجات وسد الخلات، وقد
يكون النفل من الصدقات أكمل مصلحة من الفرض في الزكاة وتكون
الزكاة أفضل. وله أمثلة. أحدها: أن يتصدق بشاة نفيسة أو بغير
نفيس أو حنطة جيدة ويزكي بشاة خسيسة أو بعير رذل أو بحنطة
ردية. الثاني: أن يخرج بنت مخاض في الزكاة ويتصدق بحقة أو
جذعة. الثالث أن يتصدق بفضة لينة حسنة ويزكي بفضة خشنة ردية من
جنس النصاب
ج / 1 ص -26-
فإن الجيد من جنس هذه الأجناس أكمل مصلحة وأتم فائدة في باب
الصدقات، مع القطع بأن أجره دون أجر ما ذكرناه في الزكاة،
ومدار ذلك كله قوله عليه السلام عن ربه عز وجل أنه قال:
"ولن يتقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه"، ولا شك أن هذا الحديث معمول به إذا ساوى الفرض النفل كما ذكرناه في
درهم الصدقة ودرهم الزكاة، وفي حج الفرض وحج النفل وفي صوم
الفرض وصوم النفل، فإنهما متساويان من كل وجه، أما إذا تفاوتا
بالقلة والكثرة مثل أن يزكي بخمسة دراهم ويتصدق بعشرة آلاف
درهم، وزكى بشاة وتصدق بعشرة آلاف شاة، فيحتمل في مثل هذا أن
يكون الفرض أفضل من النفل من غير نظر إلى تفاوت المصلحتين،
ويحتمل أن يخص الحديث بالعملين المتساويين في المصلحة كدرهم
الزكاة مع درهم الصدقة، وشاة الزكاة مع شاة الصدقة، ولكن فيه
مخالفة لظاهر الحديث، وليس ببعيد من تفضل الرب أن يؤجر على أقل
العملين المتجانسين، أكبر مما يؤجر على أكثرهما، كما فضل أجر
هذه الأمة مع قلة عملها على أجر اليهود والنصارى مع كثرة
عملهم، وكما فضل أجر الفرائض على مساويها من النوافل طولا على
من يشاء من عباده، وكما أن قيام ليلة القدر موجب لغفران الذنوب
مع مساواته لقيام كل ليلة من ليالي رمضان. وكذلك العمل في ليلة
القدر خير من العمل في ألف شهر مع التساوي. وكذلك الصلاة في
المسجدين أفضل منها في سائر المساجد مع تساويهما في جميع ما
شرع فيها، وإذا كانت الحسنة في ليلة القدر أفضل من ثلاثين ألف
حسنة في غيرها، مع أن تسبيحها كتسبيح غيرها، وصلاتها كصلاة
غيرها، وقراءتها كقراءة غيرها؛ علم أن الله يتفضل على عباده في
بعض الأزمان بما لا يتفضل به في غيره مع القطع بالتساوي، وليس
ذلك إلا تفضلا من الإله، إذ لا فرق بين وقت ووقت. وكذلك تفضله
سبحانه في بعض الأماكن بتضعيف الأجور؛ كما جعل الصلاة في مسجد
المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد
الحرام مع التساوي بين الصلوات. ومما يدل أيضا
ج / 1 ص -27-
على أن الله قد يؤجر على قليل الأعمال ما لا يؤجر على كثيرها ما روي
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"مثلكم ومثل أهل الكتابين كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة
إلى نصف النهار على قيراط، فعملت اليهود، ثم قال من يعمل لي من
نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى، ثم قال:
من يعمل لي من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين، فهم
أنتم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملا وأقل
عطاء ؟، فقال: هل نقصتكم من حقكم شيئا؟ قالوا: لا, قال: فذلك
فضلي أوتيه من أشاء"، أخرجه
البخاري. ويدل هذا الحديث أيضا على أن الثواب ليس على قدر
النصب قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وستون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى
عن الطريق"،
وهو من المصالح العامة لكل مجتاز بالطريق بإزالة الشوك
والأحجار والأقذار مع مشقة ذلك وخفة النطق بكلمة الإيمان. فإن
قيل هل تتفاوت رتب المعارف والإيمان بالفرض والنفل، كما تفاوتت
رتب العبادات بالفرض والنفل؟ قلنا نعم فإن الإيمان الأول
والتعرف الأول مفروض بالإجماع، واستحضارها بعد ذلك نفل لا يلزم
تعاطيه، فيكون تفاوتهما لسبب الفرضية والنفلية لا بتفاوت
شرفهما في أنفسهما فإنهما متساويان في الشرف والكمال، إلا ما
استثني من وجوب التشهد في الصلاة ونحوه. وأما التفاوت في
الأحوال فظاهر فإن مرتبة التعظيم والإجلال أكمل من مرتبة الخوف
والرجاء، لأن الإعظام والإجلال صدرا عن ملاحظة الذات والصفات
فكان لهما شرفان: أحدهما من مصدرهما، والثاني من تعلقهما. وأما
الخوف والرجاء فإن الخوف صدر على ملاحظة العقوبات والرجاء صدر
عن ملاحظة المثوبات، وتعلقا بما صدرا عنه فانحطا عن التعظيم
والإجلال بمرتبتين، وكذلك رتبة المحبة الصادرة عن ملاحظة
الإنعام والأفضال منحطة عن رتبة المحبة الصادرة عن ملاحظة
الكمال والجمال، لصدور تلك المحبة عن ملاحظة الأغيار، وصدور
محبة الإجلال عن ملاحظة أوصاف
ج / 1 ص -28-
الجمال والكمال، والتعظيم والمهابة أفضل من المحبة الصادرة عن معرفة
الجلال والجمال لما في المحبة من اللذة بجمال المحبوب، بخلاف
المعظم الهائب فإن الهيبة والتعظيم يقتضيان التصاغر والانقباض،
ولا حظ للنفس في ذلك فخلص لله وحده. فإن قيل هل يستوي الحاج عن
نفسه والمحجوج عنه في مقاصد الحج؟ قلنا: قيل يستويان في براءة
الذمة ولا يستويان في الأجر، وأين مجرد بذل الأجرة في مباشرة
الحج والقيام بأركانه وشرائطه وسننه وآدابه مع تحمل مشقته، وما
يحصل فيه من الخضوع والخشوع والتناوش والاستكانة والتعظيم،
وهكذا الأبدال كلها لا تساوي مبدلاتها، فليس التيمم كالوضوء
والغسل، وليس صوم الكفارة كإعتاقها ولا إطعامها كصيامها، ولا
تساوت الأبدال والمبدلات في المصالح لما في شرط الانتقال إلى
أحدهما من فقد الآخر. فإن قيل لو حصل للأجير على الحج تذلل
وتمسكن وتناوش وخضوع وخشوع وإجلال وتعظيم ومهابة ومحبة وأنس
وفرح وسرور وخوف ورجاء وبكاء واستحياء، فهل يحصل أجر ذلك
للمحجوج عنه؟ قلنا: لا فإن الإجارة متعلقة بأركان الحج
وواجباته وسننه ولا يحصل فيه من أعمال القلوب إلا النية لوقوف
الصحة عليها، ولا يحصل شيء من ذلك للمحجوج عنه، لأن الإجارة لم
تتناوله، بل لو استؤجر عليه لم يصح للعجز عنه في الغالب، وعدم
الاحتياج إليه بخلاف الحج وسننه.
فإن قيل. ما تقولون في من سد جوعة مسكين في عشرة أيام؟ هل
يساوي أجره أجر من سد جوعة عشرة مساكين، مع أن الفرض سد عشر
جوعات، والكل عباد الله، والفرض الإحسان إليهم، فأي فرق بين
تحصيل هذه المصالح في محل واحد أو في محال متعددة؟ قلنا لا
يستويان لأن الجماعة يمكن أن يكون فيهم ولي لله أو أولياء له
فيكون إطعامهم أفضل من تكرير إطعام واحد.
وقد حث الرب سبحانه وتعالى على الإحسان إلى الصالحين بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ
عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}،
ومثل هذا لا يتحقق في واحد بعينه،
ج / 1 ص -29-
ولأنه يرجى من دعاء الجماعة ما لا يرجى من دعاء الواحد، كما يرجى من
دعاء المصلين على الميت إذا بلغوا أربعين ما لا يرجى من دعائهم
إذا نقصوا عن ذلك، كما جاء في الحديث، ولمثل هذا أوجب الشافعي
رضي الله عنه صرف الزكاة إلى الأصناف، لما فيه من دفع أنواع من
المفاسد وجلب أنواع من المصالح، فإن دفع الفقر والمسكنة نوع
مخالف لدفع الرق عن المكاتبين، والغرم عن الغارمين، والغربة
والانقطاع عن أبناء السبيل.
وكذلك التأليف على الدين عند من يرى أن سهم المؤلفة باق، وكذلك
إعانة المجاهدين على الجهاد الذي هو تلو الإيمان برب العالمين.
فإن قيل: قد يترتب الشرع على الفعل اليسير مثل ما يترتب على
الفعل الخطير، كما رتب غفران الذنوب على الحج المبرور، ورتب
مثل ذلك على موافقة تأمين المصلي تأمين الملائكة، ورتب غفران
الذنوب على قيام ليلة القدر، كما رتبه على قيام جميع رمضان،
فالجواب أن هذه الطاعات وإن تساوت في التكفير فلا تساوي بينها
في الأجور؛ فإن الله سبحانه وتعالى رتب على الحسنات رفع
الدرجات وتكفير السيئات، ولا يلزم من التساوي في تكفير السيئات
التساوي في رفع الدرجات، وكلامنا في جملة ما يترتب على الفعل
من جلب المصالح ودرء المفاسد، وذلك مختلف فيه باختلاف الأعمال.
فمن الأعمال ما يكون شريفا بنفسه وفيما رتب عليه من جلب
المصالح ودرء المفاسد، فيكون القليل منه أفضل من الكثير من
غيره، والخفيف منه أفضل من الشاق من غيره، ولا يكون الثواب على
قدر النصب في مثل هذا الباب كما ظن بعض الجهلة، بل ثوابه على
قدر خطره في نفسه، كالمعارف العلية والأحوال السنية والكلمات
المرضية. فرب عبادة خفيفة على اللسان ثقيلة في الميزان وعبادة
ثقيلة على الإنسان خفيفة في الميزان بدليل أن التوحيد خفيف على
الجنان واللسان وهو أفضل ما أعطيه الإنسان ومن به الرحمن،
والتفوه به أفضل كل كلام، بدليل أنه يوجب الجنان ويدرأ غضب
الديان، وقد صرح
ج / 1 ص -30-
عليه الصلاة السلام بأنه أفضل الأعمال، لما قيل له أي الأعمال أفضل؟
فقال:
"إيمان
بالله"، وجعل الجهاد دونه مع أنه أشق منه، وكذلك معرفة التوحيد أفضل
المعارف، واعتقاده أفضل الاعتقادات، مع سهولة ذلك وخفته مع
تحققه، وقد كانت قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة،
وكانت شاقة على غيره، وليست صلاة غيره مع مشقتها مساوية لصلاته
مع خفتها وقرتها، وكذلك إعطاء الزكاة عن طيب نفس أفضل من
إعطائها مع البخل، ومجاهدة النفس.
وكذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الماهر بالقرآن مع
السفرة الكرام البررة.
وجعل للذي يقرؤه يتعتع فيه وهو عليه شاق أجرين، ومما يدل على
أن الثواب لا يترتب على قدر النصب في جميع العبادات ما روى أبو
الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ألا أنبئكم
بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير
لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم
فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟" قالوا: بلى قال:
"ذكر الله"، قال معاذ
بن جبل: ما شيء أنجا من عذاب الله من ذكر الله، رواه الترمذي.
ومما يدل على ذلك أيضا ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد
يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد
عليه"، أخرجه مسلم في صحيحه. وكذلك قوله عليه السلام فيما رواه أبو هريرة
أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن،
سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، أخرجاه في الصحيحين.
والحاصل بأن الثواب يترتب على تفاوت الرتب في الشرف، فإن تساوى
العملان من كل وجه كان أكثر الثواب على أكثرهما لقوله تعالى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}.
|