قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

فصل: فيما يتعلق به الأحكام من الجوارح
كالألسن والشفاه والأفواه والبطون والأنوف والعيون والآذان والوجوه والأيدي والأرجل والركب والأصابع والأنامل والفروج وغيرها. فأما اللسان فيتعلق به من الواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات ما لا يتعلق بغيره من الجوارح والأركان، بل يتعلق به من ذلك ما يتعلق بالجنان كالإكراه على الكبائر كلها والصغائر بأسرها، والأمر بكل منكر والنهي عن كل معروف، والقذف وتكذيب من لا يجوز تكذيبه وتصديق من لا يجوز تصديقه، والكفر وشهادة الزور، والحكم بالباطل والسحر، والهجو، وكل كلمة محرمة: كالغيبة والنميمة والطعن في الأنساب والتفاخر بالأحساب والنياحة. وكذلك يتعلق به الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتصديق من يجب تصديقه وتكذيب من يجب تكذيبه، والأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، والشهادة بالحق، والحكم بالقسط وأمر الأئمة بما يأمرون به وتعليم العلوم الشرعية، والعبادات المرضية، والفتاوى

 

ج / 1 ص -191-       والأحكام، وزجر المفسدين، وإرشاد الضالين، وتعليم الجاهلين، والثناء على رب العالمين بجميع أوصافه المذكورة والدعاء إليه، فلا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وكذلك يتعلق به الاستغفار، والدعاء، والوعظ والتذكير، والإقامة والأذان وقراءة القرآن، وغير ذلك: كتشميت العاطس وحمدلته، والسلام ورده وإجابة المؤذن والمقيم. وقد قال لقمان عليه السلام في ذلك: ليس في الإنسان أحسن من مضغتين وأفسد من مضغتين وهما: القلب واللسان، وصدق فيما قاله لامتيازهما بما ذكرناه من الأحكام عن سائر الجوارح والأركان. وكذلك يتعلق باللسان الكف عن كل قبيح من الكفر فما دونه من أنواع الفسوق والعصيان المتعلقة باللسان كما يتعلق به الأمر من محاسن الكلام. وليس للجنان في مثل هذا كله إلا القصد إليه والعزم عليه مع إخلاصه لله عز وجل، إثم المعاصي أعظم من إثم قصدها، كما أن أجر الطاعات أعظم من أجر قصدها، فإن من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة واحدة، وإن عملها كتبت له عشرا. وأما قوله عليه السلام: "نية المؤمن خير من عمله"، ففيه وجهان: أحدهما أن أجر النية المجردة عن العمل خير من العمل المجرد عن النية. الوجه الثاني: ما روي أنه عليه السلام وعد على حفر بئر بأجر فنوى عثمان رضي الله عنه أن يحفرها فسبقه إلى حفرها يهودي فقال صلى الله عليه وسلم: "نية المؤمن خير من عمله"، أي نية عثمان خير من حفر اليهودي البئر، فإن عثمان يؤجر على نية الحفر وإن لم يحفر، ولا أجر لليهودي بحفره لإحباطه بيهوديته.
وأما الشفاه فإنها معينة على الكلام فيتعلق بها من الأحكام ما يتعلق بإتمام الكلام المأمور به والمنهي عنه، وكذلك يتعلق بها التقبيل المحرم والمأمور به، كتقبيل الأجنبيات وتقبيل الحجر الأسود.
وأما الأفواه والبطون فلا يجوز أن يلقى فيها ما يحرم أكله كالميتة والدم

 

ج / 1 ص -192-       والخمر، ويجب أن يطرح فيها ما يجب أكله في حال الاضطرار. وكذلك يستحب أن يطرح فيها ما يندب إلى أكله من الولائم والضحايا والهدايا، وكذلك الابتلاع والمضغ بالأسنان، والشرب كالأكل فيما ذكرناه، وقد أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من في الحسين رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة، وتقيأ العمران رضي الله عنه لحم جزور أكلاه ثم تبين لهما أنه حرام، وأوجب الشافعي رحمه الله على من شرب خمرا أن يتقيأها فيحتمل أن يعلل ذلك بدفع مفسدة الإسكار وإن كان لكونها محرمة اطرد ذلك في جميع المأكولات بالحرام فيحرم تغذية الأجساد بالحرام كما يحرم بناء الدور بالآلات المحرمة، ويجب نثرتها إن بنيت بها، ويحتمل أن يفرق بأن الغذاء قد تعذر الوصول إليه وبطلت ماليته واستقر بدله في الذمة بخلاف أبنية الدور، ويدل على ذلك أن من غذى شاة عشر سنين بمال محرم، فإن أكلها لا يحرم عليه ولا على غيره، فإن استحالة الأغذية عن صفاتها إلى صفات الأعضاء إتلاف لها لتعذر الوصول إليها واستحقاق مالكها لبدلها.
فإن قيل: إذا مضغ الطعام المغصوب في الأفواه فقد فسدت ماليته وبطلت قيمته واستقر بدله، فهل يبقى اختصاص مالكه كما يبقى العبد المغصوب على اختصاص مالكه إذ بطلت ماليته بالموت فيحرم ابتلاعه؟ قلت: لا يبطل اختصاصه كما لا يبطل الاختصاص بالعبد لوجوب تغسيله وتكفينه وحفر قبره ودفنه على مالكه وهذا أولى من العبد، ولا نسلم إبطال ماليته فإنه طاهر منتفع به ويجوز إطعامه للطيور والبهائم والأطفال، وإن أكل ما يحرم لضره كالسموم وغيرها وجب استقياؤه إذا كانت دافعة لضرره أو لبعض ضرره. وكذلك لو ابتلع جوهرة لغيره وتمكن من استقاءتها لزمه استقاءتها إذ يجب تسليمها إلى ربها مع الإمكان، وتسليمها بالاستقاءة ممكن في الحال، ورد المغصوبات واجب على الفور، ويتعلق بالأفواه من المأمورات التطهير

 

ج / 1 ص -193-       بالمضمضة من الأحداث والأنجاس كما يتعلق الاستنشاق وغسل النجاسة ببواطن الأنوف ويتعلق بالأفواه أيضا النهي عن فتحها عند التثاؤب، ويتعلق بالأنوف التحميد عند العطاس وغض الصوت به، ويتعلق بها أيضا السجود عليها ندبا.
وأما العيون: فيتعلق بها غسلها من الأنجاس دون الأحداث ولا يتعلق بها حكم الحدث الأصغر والأكبر وجوبا ولا استحبابا.
وأما الآذان: فيتعلق بها الأغسال الواجبة والمندوبة والمسح في الوضوء.
وأما الوجوه: فيتعلق بها الإيجاب والندب، فأما الإيجاب فكالسجود على الجبهة. وأما الندب فكالإطراق في الصلاة والبشاشة في وجوه المؤمنين والعبوسة عند الإنكار على الكافرين والفاسقين، ويتعلق بها أيضا تحريم سترها في النساء في الإحرام واستحباب كشفها للرجال فيه.
وأما الرءوس: فيتعلق بها الغسل الواجب والمندوب والمسح في الوضوء، وكذلك يتعلق بها تضمخها بالطيب واستحبابه في حال الإحلال، وقيل الإحرام والإحلال، وكذلك يتعلق بها تحريم سترها في الإحرام، وكذلك يتعلق بها الغسل بشعور الوجه والأجساد، وقص الشوارب وحلق العانة ونتف الإبط، وتقصير شعر الرءوس وحلقها في الحج والعمرة، وكذلك جز الشعور حيال المناكب والآذان على الدوام والاستمرار، ويتعلق بالشعور أيضا تحريم دهنها في حال الإحرام.
وأما الأيدي: فيتعلق بها كل بطش أمر به في سبيل الله والرجم والجلد في الحدود والتعزيرات، وكذلك يتعلق بها كتابة ما أمرنا بكتابته والرفع في التكبيرات وفي بعض الدعوات، والوضع على الركب في الركوع وعلى الأرض في السجود، واستلام الحجر الأسود والركن اليماني باليمنى منهما، وكذلك بسطها إلى كل مصلحة من الواجبات والمندوبات، وكذلك قبضها عند كل مفسدة من

 

ج / 1 ص -194-       المحرمات والمكروهات، وكذلك البداءة بغسل الأيمان في الوضوء والأغسال الواجبات والمندوبات، وكذلك انتقاض الوضوء بمس أحد الفرجين بباطن الكف.
وأما الأرجل: فيتعلق بها كل ما فيه مصلحة من الواجبات والمندوبات كما يتعلق بها كل ما فيه مفسدة من المحرمات والمكروهات، فأما المصالح فكالمشي إلى المساجد وإلى الجهاد وإلى تشييع الجنائز والأعياد والطواف والسعي بين الصفا والمروة والرمل والإسراع، وصفها مع تفريقها في قيام الصلاة وكشفها في الإحرام.
وأما المفاسد: فكالمشي إلى كل محرم أو مكروه.
وأما الركب: فإنه يتعلق بها السجود عليها ونصبها في حال الركوع وتقديمها في الوضع على الأيدي في السجود.
وأما الأصابع: فيتعلق بها كل ما لا يتأتى إلا بها من الواجبات والمحرمات والمندوبات والمكروهات. فأما الواجبات فكالرمي في سبيل الله وكتابة ما يجب كتابته، وأما المندوبات فكقبض أصابع اليد اليمنى في التشهدين وعقد الإبهام مع المسبحة ورفع المسبحة عند الشهادة لله بالوحدانية، وبسط أصابع اليد اليسرى على الفخذ اليسرى، وفتح أصابع الرجلين في السجود، والبداءة بتخليل خنصر أصابع الرجل اليمنى، والختم بخنصر أصابع الرجل اليسرى، لأن خنصر الرجل اليمنى هي يمين أصابعها وإبهامها هو يمين إبهام الرجل اليسرى وإبهام الرجل اليسرى يمين التي تليها. وكذلك إلى آخرها، وكذلك مسح الآذان بأصابع اليدين ولم يقدم الشرع مسح يمين الأذنين على يسراهما إذ لا فضل ليمناهما على يسراهما في المصلحة المقصودة منهما. وكذلك لم يقدم يمين الخدين على الآخر بخلاف الأيدي والأرجل فإنه قدمت يمناها على يسراها في الطهارات والمصافحات والأكل والشرب والذبح لتمييزها بالقوى التي أودعها

 

ج / 1 ص -195-       الله فيها ولأنها أشرف العضوين فكان من تعظيم العبادة وشكر النعم أن يستعمل فيها أفضل العضوين، ولما شرفت بمباشرة العبادات كره الاستنجاء بها وأن يمس بها السوآت، وكذلك لا يبدأ بها في الدخول في الحشوش ولا في الخروج من المساجد ولا شك أن مقابلة الشريف بالشريف حسنة في العقول، وكذلك يبدأ بها في الانتقال لأنه إكرام لها ويؤخر نزعها لذلك، ولأجل هذا المعنى بدئ بوجه البيت في الطواف لأنه أشرف جدرانه، وابتدئ بالطواف من الحجر الأسود لأنه يمين البيت فيبدأ الطائف بوجه البيت من يمين الوجه، وكذلك يدخل إلى مكة من ثنية كداء لأن الداخل منها يأتي البيت من قبل وجهه، ولا يؤتى من ورائه ولا عن يمينه وشماله ولشرف وجه البيت أمرنا بصلاة ركعتي الطواف إليه دون سائر جهاته وهذا معروف في كل من جاء إلى بيت مكرما لربه أو زائرا فإنه يأتيه من قبل وجهه الذي فيه بابه، وعليه يقف القاصدون، ولذلك تزخرف الناس وجوه بيوتهم التي فيها أبوابهم، وكل من أتى البيوت من أبوابها فقد أصاب. وسمي اليمين يمينا لوقوعه على يمين البيت، وسمي الشام شاما لأنه على شامة البيت، وسمي الدبور دبورا لأنها تأتي من قبل دبر البيت وبابه نحو المشرق، والذي يدل على ما ذكرته من اليمين واليسار ههنا أن كل شيء قابلته كان ما حذاء يمينك يسارا له وما حذاء يسارك يمينا له، ولذلك يسمى جانباه الركنين اليمانيين ولذلك يسمى جانباه الآخران الركنين الشاميين، وكذلك قدمنا الأعالي على الأسافل في الطهارة لشرفها فبدئ بالوجه لشرفه على سائر الأعضاء ولما اشتمل من الحواس والنطق، وثنى باليدين لكثرة جدواهما في الطاعة وغيرها، وقدم الرأس على الرجلين لشرفه عليهما ولا سيما لما استودع فيه من القوى الداركة والقوى الموجبة لحركات الأعضاء وأخرت الرجلان لتقاعدهما عما ذكرناه. وقد أوجب الشافعي ذلك وخالفه أكثر العلماء، وكذلك

 

ج / 1 ص -196-       قال أكثرهم لا يجب ترتيب الغسل وخالف فيه بعضهم وقدمت المضمضة على الاستنشاق لشرف منافع الفم على منافع الأنف
فإن قيل: كيف بدئ بغسل الفرجين في الإغسال؟ قلنا: بدئ بهما لأنهما لو أخرا لانتقضت الطهارة بمسهما فقدما محافظة على الطهارة من الانتقاض من غير استعمال في طاعة، وقد خرج عما ذكرته في تقديم اليمنى بالشرف، حلق الرأس مع تساوي الشعر إذ لا فرق بين الفودين. وكذلك في مواضع نادرة ككحل إحدى العينين وقص إحدى الشاربين. وأما تقليم أظفار اليدين فإن نظرنا إلى الأفضل الأنفع فينبغي أن يبدأ بالمسبحة والإبهام، وقد ذكر الغزالي في البداءة أشياء لا أصل لها، ولعل البداءة بيمنى المتساويين تفعل تيمنا وتفاؤلا باليمنى والبركة، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل ويكره الطيرة، لأن التفاؤل حسن الظن بالله والتطير سوء ظن بالله وقد قال تعالى:
"أنا عند ظن عبدي بي فيظن بي ما شاء"، والتفاؤل أن يرى أو يسمع ما يدل على الخير فيرجوه ويطلبه وذلك حسن ظن بالله، والطيرة أن يرى أو يسمع ما يدل على الشر فيخافه ويرهبه، وذلك سوء ظن بالله.
فإن قيل: لم استحب حسن الظن عند الموت وترك الخوف بمعزل؟ قلت: لأنه إنما شرع الخوف لأنه وسيلة زاجرة عن العصيان، وإذا حضر الموت انقطعت المعاصي فسقط الخوف الذي هو رادع عنها مانع منها بخلاف حسن الظن.
وأما الأنامل فإدخالها في صماخي الأذنين وما يتعلق بها من عدد التسبيحات والتكبيرات المأمور بعدها، والكتابة المأمور بها والمنهي عنها وكل ذلك فعل لا يتأتى إلا بها، وكذلك استحباب تقليم الأظفار للمحلين وتحريم قلمها على المحرمين، وترك قلمها في عشر ذي الحجة للمضحين.
وأما الفروج: فيتعلق بها تحريم كشفها من عذر شرعي. وكذلك الختان المتعلق بفروج النساء والرجال، ويتعلق انتقاض الطهارة بمسها، وبما يخرج

 

ج / 1 ص -197-       منها من بول أو مني أو حيض، وكذلك يتعلق بها تحريم الاستمتاع بما لم يأذن الله فيه منها، وتحريم الاستمناء بها، وكذلك يتعلق بها الندب إلى النكاح المندوب إليه كتعاهد المرأة والسرية بين الضرات والسريات فيه، وفي إيجاب الوطء في بعض الصور اختلاف، ويتعلق بالوطء أحكام كثيرة، وهي قريب من ستين حكما سنذكرها إن شاء الله تعالى عند تعديد أحكام الأسباب وإيجادها، ويتعلق بالأليتين الجلوس على الأرض بهما في تشهد التحلل وعلى الرجل اليسرى في سائر جلسات الصلوات.

فصل: فيما تتعلق به الأحكام من الحواس
وهي خمس: إحداها حاسة البصر، ويتعلق بها الأحكام الخمسة: أما الإيجاب: فكإيجاب الحراسة في سبيل الله وحراسة الأجير ما استؤجر على حراسته وحراسة كل أمين ما استؤجر على حراسته، وكنظر الشهود إلى ما يجب النظر إليه لإثبات الحقوق وإسقاطها في الدعاوى والمخاصمات.
وأما الاستحباب: فكالنظر إلى الكعبة وإلى المصاحف وكتب العلم للقراءة وإلى الخاطبين في الخطب المشروعات والخاطبين السائلين والمجيبين، وإلى المصنوعات كلها للتفكر في القدرة ونفوذ الإرادة وبديع الحكمة، وكذلك النظر إلى منازل الهالكين للاتعاظ والاعتبار.
وأما التحريم: فكتحريم النظر إلى السوآت والعورات والصور المشتهاة كالمرد والأجنبيات.
وأما الكراهة: فككراهة نظر الإنسان إلى سوأته وسوأة جاريته وزوجته. وأما الإباحة: فكالنظر إلى كل ما خرج عن الأحكام الأربعة: كالنظر إلى الزوجة والمملوك والمناظر الحسنة من الديار والأشجار والأنهار.
الثانية حاسة السمع: ويتعلق بها الأحكام الخمسة.
أما الإيجاب: فكالاستماع إلى كل ما يجب استماعه كاستماع الخطب الواجب
 

 

ج / 1 ص -198-       استماعها واستماع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكاستماع ما يجب تعلمه من الفتاوى والأحكام، وكذلك استماع الحكام للدعاوى والبينات والأقارير والشهادات.
وأما الاستحباب: فكاستماع القرآن والأذان والثناء على الله بما هو أهله والإصغاء إلى الخطب المندوبة كخطبة الكسوفين والعيدين.
وأما التحريم فكاستماع كلمة الكفر والقذف والتسميع إلى حديث قوم هم له كارهون، وكاستماع الملاهي المحرمات وأصوات النساء الفاتنات.
وأما الكراهة: فكاستماع الملاهي المكروهات ونحوها من كل كلمة كرهتها الشريعة. ولا يخفى أمثلة المباح كاستماع كل كلمة مباحة أو صوت مطرب مباح كأصوات الأطيار الطيبة، ونشد الأشعار المطربة.
الثالثة حاسة الشم ويتعلق به الأحكام الخمسة:
أما الإيجاب: فكإيجاب ما يجب على الحاكم شمه أو على الشهود بأمره إياهم فيما يختلف فيه الخصوم عند التنازع في روائح المشموم، لأجل الرد بالعيب أو لمنع الرد إذا حدث عند المشتري.
وأما الاستحباب: فكاستحباب شم ما في شمه شفاء من الأمراض والأسقام. وأما الطيب المحبوب للجماعات والجمعات والأعياد والتحليل للإحرام ففيه مصلحتان: إحداهما للمتطيب، والثانية لمن يقاربه ويدانيه من الناس.
وأما التحريم: فكتحريم شم الطيب في حال الإحرام وتحريم اشتمام طيب النساء الأجنبيات الحسان.
وأما الكراهة: فككراهة شم الأدهان المضرة بالأمزجة والحواس والأبدان.
وأما الإباحة فكإباحة ما يباح شمه من أنواع الطيب والأزهار، ولو شم طيبا لا يملكه كشم الإمام الطيب الذي يختص بالمسلمين إذا لم يتصرف في جرمه فلا بأس به، وقد تورع عنه بعض الأكابر، وقال وهل ينتفع من الطيب إلا

 

ج / 1 ص -199-       بريحه وفي كونه ورعا نظر من جهة أن شمه لا يؤثر فيه نقضا ولا عيبا فيكون إدراك الشم له بمثابة النظر إليه، بخلاف وضع اليد عليه، ولو نظر الإنسان إلى بساتين الناس وغرفهم ودورهم لم يمنع من ذلك إلا إذا خشى الافتتان بالنظر إلى أموال الأغنياء، فقد قال رب العالمين لسيد المرسلين: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وكذلك لو مس جدار إنسان لم يمنع من مسه، ولو استند إلى جدار إنسان لجاز كما لو جاز مطيبا أو جالسه متطيب، فإن ذلك مأذون بحكم العرف ولو منعه من الاستناد إلى جداره فقد اختلفوا فيه إذا كان الاستناد لا يؤثر في الجدار ألبتة، ولا ينبغي أن يطرد في ذلك شم ريح المتطيب، وكذلك مما لا أعده ورعا أكل طعام حلال محض حمله ظالم ولا سيما الطعام الذي ندب الشرع إليه كطعام الولائم، لأن ما كان حلالا بوصفه وسببه فلا وجه لاجتنابه إلا بالوسواس والأوهام التي لا لفتة للشرع إلى مثلها.
الرابعة حاسة الذوق: فلا يذاق بها مكروه ولا حرام ويذاق بها الطعام المندوب إلى أكله وذوقه كطعام الولائم لما في ذوقه من جبر قلوب الإخوان. وكذلك يجب الذوق على الحاكم والشاهد عند اختلاف الخصوم في مطعم المبيع.
الخامسة حاسة اللمس ويتعلق بها الأحكام الخمسة:
أما الإيجاب: فكإيجاب لمس المصلي بالجباه.
وأما الاستحباب: فكاستحباب لمس المصلي بالأنوف والأكف ولمس أركان البيت وتقبيل الحجر وتقبيل الوالدين وأكابر الأولياء والعلماء، وكذا لمس المصافحة والمعانقة في لقاء الإخوان.
وأما التحريم: فكلمس عورات الأجانب، وكذلك لمس ما خرج عن العورة من أبدان النساء الأجنبيات والمرد الحسان عند مخافة الافتتان، وكذلك التلامس بين الزوجين المحرمين بشهوة في حال الإحرام.
وأما الكراهة: فككراهة لمس الفروج بالأيمان، وكذلك لمس السرية

 

ج / 1 ص -200-       والمملوكة وتقبيلهما عند الخوف على فساد الصيام، وقد اختلف في تحريم ذلك. وأما الإباحة: فعام لكل ما جوز الشرع لمسه من الزوجات والمملوكات وسائر الأعيان ومعظم ما يتعلق بالحواس وسائل إلى ما يبتنى عليها من المصالح والمفاسد، بخلاف ما يتعلق بالقلوب والجوارح والأركان فإن معظمه مقاصد إلى جلب المصالح ودرء المفاسد.

فصل: فيما تتعلق به الطاعات من الأموال
أما بعد: فإن الله عز وجل جعل الأموال والمنافع وسائل إلى مصالح دنيوية وأخروية، ولم يسو بين عباده فيها ابتلاء وامتحانا لمن قدر عليه رزقه، واتخذ الأغنياء الفقراء سخريا في القيام بمصالحهم كالحرث والزرع والحصد والطحن والخبز والعجن والنساجة والخياطة وبناء المساكن وحمل ونقل الأثقال وحراسة الأموال وغير ذلك من المنافع. وكذلك تمنن على عباده بما أباحه من البيع والشراء، وبما جوزه من الإجارات والجعالات والوكالات تحصيلا للمنافع التي لا تحصى كثرة فإن البيع لو لم يشرعه الشرع لفاتت مصالح الخلق فيما يرجع إلى أقواتهم ولباسهم ومساكنهم ومزارعهم ومغارسهم وسواتر عوراتهم وما يتقربون به إلى عالم خفياتهم، ولا عبرة بالهبات والوصايا والصدقات لأنها نادرة لا يجود مستحقها إلا نادرا. وكذلك الإجارات لو لم يجوزها الشرع لفاتت مصالحها من الانتفاع بالمساكن والمراكب والمزارعة والحراثة والسقي والحصاد والتنقية والنقل والطحن والعجن والخبز ولا عبرة بالعواري وبذل المنافع كالخدمة نحوها فإنها لا تقع إلا نادرا لضنة أربابها مع ما فيها من مشقة المنة على من بذلت له، ولتعطل الحج والغزو والأسفار إلا على من يملك رقبة الظهر والأدوات والآلات ولكان الإنسان جمالا بغالا سائسا لدوابه حمالا لأمتعته ضاربا لأخبيته، ولتعطلت المداواة والفصد والحجامة والحلق والدلك وجبر الفك، ولتعطلت إقامة الحدود لافتقار المرء إلى أن يكون كاتبا حاسبا فلاحا

حصادا حطابا صانعا دباغا خياطا حشاشا زبالا بناء نبالا رماحا قواسا حراثا لأمواله حمالا لأعداله وأثقاله، وكذلك الجعالة لو لم تجز لفات على الملاك ما يحصل لهم من رد المفقود من أموالها كالعبد الآبق، والفرس العائر، والجمل الشارد فشرعت الجعالة رفقا بالفاقد والواجد، وكذلك الوكالة لو لم تشرع لتضرر من يبتذل ولا يعرف التصرف بما يفوته من مصلحة ذلك التصرف، ولتضرر الوكيل بما يفوته من الثواب إن كان متبرعا أو من الجعل إن كان غير متبرع، وقد حرم الله أخذ الأموال إلا بأسباب نصبها، ومعظمها حقوق تتعلق بالدماء والأبضاع والأعراض والأموال كما ذكرناه ولا يجوز أخذ شيء منها إلا بحقه ولا صرفه إلا لمستحقه وأوجب لنفسه حقوقا في الأموال على خلقه ليعود بها على المحتاجين، ويدفع بها ضرورة المضطرين وذلك في الزكاة والكفارات والمنذورات وندب إلى الصدقات والضحايا والهدايا والوصايا والأوقاف والضيافات.

(1/201)


فصل: فيما يتعلق بالأماكن من الطاعات
يتعلق بالأماكن قربات مالية وبدنية: فأما المالية فمنها ما يتعلق بالحرم كالهدايا ودماء القربات كدم التمتع والقران ومنها ما تختص تفرقته ببلدان الأموال ندبا ووجوبا كتفرقة الزكاة على أهل بلدان الأموال، ومنها ما يتعين لأهل بلد الباذل على الأظهر وهو زكاة الفطر من رمضان، ومنها ما ينذر من الذبح والتفرقة على أهل البلدان.
وأما البدنية فأنواع أحدها الذبح والنحر المتعينان في الحرم من النسائك المختصة بأهله.
النوع الثاني: الاعتكاف ولا يصح إلا في المساجد الثلاثة عند بعض العلماء وعند الجمهور يصح في جميع المساجد.
النوع الثالث: ما يتعلق بالمناسك كالطواف ومحله المسجد الحرام ولو طاف

(1/201)


خارجا عنه لم يجزه ولو وسع لأجزأ فيه الطواف كالسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة والرمي بمنى إلى الجمرات الثلاث.
النوع الرابع: ما يختص بدار الإقامة كالجمعات والجماعات، وما يختص فضله بالبيوت كصلوات النوافل فيها.
النوع الخامس: ما يختص بالمسجدين من فضيلة الصلوات المكتوبات.
النوع السادس: ما يختص بالمساجد من فضيلة الجماعات.
النوع السابع: ما يختص بالمساجد الثلاث من شد الرحال إليها للقربات والزيارات.

(1/202)


فصل: فيما يتعلق بالأزمان من الطاعات
وهي أنواع: أحدها صلاة الكسوف والخسوف، وهما مختصتان بزمن الكسوف والخسوف.
النوع الثاني: الصلوات المكتوبات وهي مختصة الأداء بالأوقات المعروفة جائزة القضاء بعد خروج وقت الأداء.
النوع الثالث: الجمعات وهي مختصة بوقت الظهر لا تقبل القضاء.
النوع الرابع: الصيام الواجب وهو مخصوص بشهر رمضان قابل للقضاء.
النوع الخامس: الصيام المندوب المعين الأوقات، كصيام الاثنين والخميس، والأيام البيض، وعاشر ذي الحجة وعاشر المحرم.
النوع السادس: الضحايا وهي مؤقتة بيوم العيد وبأيام التشريق، ولا تقبل القضاء إلا أن تكون منذورة.
النوع السابع: الحج وهو مؤقت عند بعضهم بشوال وذي القعدة وذي الحجة، وعند آخرين بالشهرين المذكورين وعشر من ذي الحجة وعند الشافعي رحمه الله بالشهرين المذكورين وتسع ليال من ذي الحجة.
النوع الثامن: العمرة ولا وقت لها خلافا لبعض العلماء.

(1/202)


النوع التاسع: الصلوات والأوقات كلها قابلة لها إلا الأوقات الخمسة المكروهات.
النوع العاشر: صوم التطوع والأوقات كلها قابلة له إلا رمضان والعيدين وأيام التشريق، وأكثر اختصاص العبادات بالأماكن والأزمان مما لا يعرف معناه كما ذكرناه.

(1/203)