قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف
ج / 1 ص -166-
فصل: فيما يشترط فيه التماثل من الزواجر وما لا يشترط
الأصل في
القصاص التماثل إلا أن يؤدي اعتباره إلى إغلاق باب القصاص قطعا
أو غالبا وله أمثلة:
أحدها: التساوي في أجرام الأعضاء كالأيدي والأرجل والأنف
والشفاه والجفون وسمك اللحم في الجراح، لو شرط التساوي بين
أجرامهما لما وجب القصاص إلا في أندر الصور، بل يؤخذ أعظم
العضوين بأدناهما. وكذلك تفاوت الجراح في سمك ما على العظم من
الجلد واللحم، بخلاف التساوي في مساحات الجراحات على الرءوس
والأبدان، فإنا نأخذ مساحتها في الطول والصغر والكبر لأن
اعتبار ذلك لا يؤدي إلى إغلاق باب القصاص، ولا نظر إلى التفاوت
في سمك اللحم المجلل للرأس لأنه لو اعتبر تساويه لأغلق باب
القصاص في الجراح.
المثال الثاني: منافع الأعضاء كبطش اليدين ومشي الرجلين وبصر
العينين وسمع الأذنين وذوق اللسان، لو شرط فيها التساوي على
حيالها لما وجب فيها قصاص. المثال الثالث: التساوي في العقول،
إذا أوجبنا القصاص فيها لو اعتبر التساوي لسقط القصاص فيها،
ولا وقوف لنا على تساوي العقول بل يؤخذ أتم العقول بأقلها،
وأنفذ الأبصار بأضعفها، وكذلك القول في الشم والذوق والمشي
والبطش وسائر منافع الأعضاء.
المثال الرابع: قتل الجماعة بالواحد وقطع أيدي الجماعة بقطع يد
الواحد، لو اعتبرنا فيها التساوي لسقط القصاص في كثير من
الأحوال بتواطؤ الجمع على القتل والقطع، والاجتماع على القطع
في ذلك أندر من الاجتماع على القتل فلذلك خالف فيه أبو حنيفة
كما خالف بعض العلماء في قتل الجماعة بالواحد. وكذلك القول في
الحياة التي لم يبق بها إلا صبابة يسيرة فإنا نأخذ بها الحياة
الطويلة المرجوة الدوام فيقتل الشاب الأيد في عنفوان شبابه
بالشيخ الهرم الذي نضب عمره
ج / 1 ص -167-
وانقضى دهره، وكذلك يؤخذ الشباب في عنفوان شبابه بقتله من
أنفذت مقاتله ويئس بحيث لا يبقى منها إلا ساعة أو ساعتين.
وكذلك لا نظر إلى التفاوت في الصنائع فتؤخذ يد الصانع الماهر
في صناعته بيد الأخرق الذي لا يعرف شيئا مثل أن تؤخذ يد ابن
البواب بيد من لا يعرف من الكتابة شيئا، وكذلك تؤخذ يد أحذق
الناس في الرماية وغيرها من الصنائع بيد من لا يحسن الرماية
ولا شيئا من تلك الصنائع.
فصل: في بيان متعلقات حقوق الله عز وجل ومحالها
مبتدأ
التكاليف كلها ومحلها أو مصدرها القلوب، وأول واجب يجب - بعد
النظر - معرفة الله ومعرفة صفاته، وهي شرط في جميع عباداته
وطاعاته، والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد، ولنفع
العباد في الآجل والمعاد إما بالتسبب أو بالمباشرة، وصلاح
الأجساد موقوف على صلاح القلوب، وفساد الأجساد موقوف على فساد
القلوب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد
كله ألا وهي القلب"،
أي إذا صلحت بالمعارف ومحاسن الأحوال والأعمال صلح الجسد كله
بالطاعة والإذعان، وإذا فسدت بالجهالات ومساوئ الأحوال
والأعمال فسد الجسد كله بالفسوق والعصيان.
وطاعة الأبدان بالأقوال والأعمال نافعة بجلبها لمصالح الدارين
أو إحداهما وبدرئها لمفاسد الدارين أو إحداهما، والأحوال ناشئة
عن المعارف والقصود ناشئة عن المعارف والأحوال، والأعمال
والأقوال ناشئان عن القصود الناشئة عن المعارف والأحوال،
وأحكام الله كلها مصالح لعباده، فطوبى لمن قبل نصح ربه، وتاب
عن ذنبه.
[قاعدة] في بيان متعلقات الأحكام، للأحكام
تعلق بالقلوب والأبدان والجوارح والحواس، والأموال، والأماكن
والأزمان، والطاعات
ج / 1 ص -168-
كلها بدنية، وإنما قسمت إلى البدنية والمالية لتعلق بعضها
بالأموال، والمتعلق بالمالي تارة يكون بالأقوال كالأوقاف
والوصايا، وتارة يكون بالأفعال كإقباض الفقراء الزكاة
والكفارات، وتارة يكون بالإسقاط كالإعتاق في الكفارات.
فنبدأ بما يتعلق بالقلوب من حقوق الله عز وجل وحقوق عباده.
فأما حقوق الله فإنها منقسمة إلى المقاصد والوسائل: فأما
المقاصد فكمعرفة ذاته وصفاته، أما الوسائل فكمعرفة أحكامه
فإنها ليست مقصودة لعينها وإنما مقصودة للعمل بها، وكذلك
الأحوال قسمان أحدهما مقصود في نفسه كالمهابة والإجلال،
والثاني وسيلة إلى غيره كالخوف والرجاء، فإن الخوف وازع عن
المخالفات لما رتب عليها من العقوبات، والرجاء حاث على الطاعات
لما رتب عليها من المثوبات.
وأما حقوق العباد المتعلقة بالقلوب، فكلها وسائل كالنيات،
والحقوق كلها إما فعل للحسنات، وإما كف عن السيئات، فنبدأ من
حقوق الله المتعلقة بالقلوب ما كان من الحسنات دون أضدادها،
فإنا إذا ذكرناها دلت على أن أضدادها من السيئات فلا حاجة إلى
التطويل بذكرها، والحقوق المتعلقة بالقلوب أنواع.
النوع الأول: معرفة ذات الله سبحانه وتعالى وما يجب لها من
الأزلية والأبدية والأحدية وانتفاء الجوهرية والعرضية والجسمية
والاستغناء عن الموجب والموجد والتوجد بذلك عن سائر الذوات.
النوع الثاني: معرفة حياته بالأزلية والأبدية والأحدية
والاستغناء عن الموجب والموجد، والتوحد بذلك عن غيرها من
الحياة.
النوع الثالث: معرفة علمه بالأزلية والأبدية والأحدية
والاستغناء عن
ج / 1 ص -169-
الموجب والموجد، والتعلق بكل واجب وجائز ومستحيل، والتوحد بذلك
عن سائر العلوم.
النوع الرابع: معرفة إرادته بالأزلية والأبدية والأحدية
والاستغناء عن الموجب والموجد، والتعلق بما تتعلق به القدرة
والتوحد بذلك عن سائر الإرادات.
النوع الخامس: معرفة قدرته على الممكنات بالأزلية والأبدية
والأحدية والاستغناء عن الموجب والموجد، والتوحد بذلك عن سائر
القدور.
النوع السادس: معرفة سمعه بالأزلية والأبدية والأحدية
والاستغناء عن الموجب والموجد والتعلق بكل مسموع قديم أو حادث،
والتوحد بذلك من بين سائر الأسماع.
النوع السابع: معرفة بصره بالأزلية والأبدية والأحدية
والاستغناء عن الموجب والموجد، والتعلق بكل موجود قديم أو
حادث، والتوحد بذلك على سائر الأبصار.
النوع الثامن: معرفة كلامه بالأزلية والأبدية والتعلق بجميع ما
يتعلق به العلم، والتوحد بذلك عن سائر أنواع الكلام. فهذه
الصفات كلها قائمة بذات الله، وهي منقسمة إلى ما يتعلق بغيره
حكما كالحياة، وإلى ما يتعلق بغيره كالعلم والسمع والبصر، وإلى
ما يتعلق بغيره تأثيرا كالقدرة، وإلى ما يتعلق بغيره من غير
كشف ولا تأثير كالكلام، وأعمها تعلقا العلم والكلام، وأخصها
السمع، ومتوسطها البصر.
النوع التاسع: معرفة ما يجب سلبه عن ذاته من كل عيب ونقص، ومن
كل صفة لا كمال فيها ولا نقصان.
النوع العاشر: معرفة تفرده بالإلهية والاختراع.
النوع الحادي عشر: معرفة صفاته الفعلية الصادرة من قدرته
الخارجة عن ذاته
ج / 1 ص -170-
وهي منقسمة إلى الجواهر والأعراض، فالأعراض أنواع كالخفض
والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإغناء والإقناء والإماتة
والإحياء، والإعادة والإفناء.
النوع الثاني عشر: معرفة ما له أن يفعله وأن لا يفعله كإرسال
الرسل وإنزال الكتب، والتكليف والجزاء بالثواب والعقاب.
النوع الثالث عشر: معرفة حسن أفعاله كلها خيرها وشرها نفعها
وضرها قليلها وكثيرها، وأنه لا حق لأحد عليه، ولا ملجأ منه إلا
إليه، له حق وليس عليه حق ومهما قال فالحسن الجميل. وكذلك لو
عذب أهل السماوات والأرضين وأقصاهم لكان عادلا في ذلك كله. ولو
أثابهم وأدناهم لكان منعما متفضلا بذلك كله.
النوع الرابع عشر: اعتقاد جميع ما ذكرناه في حق العامة، وهو
قائم مقام العلم في حق الخاصة، لما في تعرف ذلك من المشقة
الظاهرة للعامة، فإن الله كلف الخاصة أن يعرفوه بالأزلية
والأبدية والتفرد بالإلهية وأنه حي عالم قادر مريد سميع بصير
متكلم صادق في أخباره، وكلف العامة أن يعتقدوا ذلك لعسر وقوفهم
على أدلة معرفته فاجتزى منهم باعتقاد ذلك. وأما كونه عالما
بعلم قادرا بقدرة فإنه مما يلتبس، وقد اختلف الناس فيه
لالتباسه، وكذلك القول في قدم كلامه وفي أن ما وصف به نفسه من
الوجه واليدين والعينين صفات معنوية قائمة بذاته أو هي متأولة
بما يرجع إلى الصفات فيعبر بالوجه عن الذات، وباليدين عن
القدرة، وبالعينين عن العلم. وكذلك اختلف الناس أهي جهة أم لا
جهة له مما يطول النزاع فيه ويعسر الوقوف على أدلته، وقد تردد
أصحاب الأشعري رحمهم الله في القدم والبقاء أهما من صفات السلب
أم من صفات الذات؟ وقد كثرت مقالات الأشعري حتى جمعها ابن فورك
في مجلدين وكل ذلك مما لا يمكن تصويب للمجتهدين فيه بل الحق مع
واحد منهم، والباقون مخطئون خطأ معفوا عنه لمشقة الخروج منه
والانفكاك عنه، ولا سيما قول معتقد الجهة فإن اعتقاد موجود
ج / 1 ص -171-
ليس بمتحرك ولا ساكن ولا منفصل عن العالم ولا متصل به، ولا
داخل فيه ولا خارج عنه لا يهتدي إليه أحد بأصل الخلقة في
العادة، ولا يهتدي إليه أحد إلا بعد الوقوف على أدلة صعبة
المدرك عسرة الفهم فلأجل هذه المشقة عفا الله عنها في حق
العادي. ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يلزم أحدا ممن أسلم
على البحث عن ذلك بل كان يقرهم على ما يعلم أنه لا انفكاك لهم
عنه، وما زال الخلفاء الراشدون والعلماء المهتدون يقرون على
ذلك مع علمهم بأن العامة لم يقفوا على الحق فيه ولم يهتدوا
إليه، وأجروا عليهم أحكام الإسلام من جواز المناكحات والتوارث
والصلاة عليهم إذا ماتوا وتغسيلهم وتكفينهم وحملهم ودفنهم في
مقابر المسلمين، ولولا أن الله قد سامحهم بذلك وعفا عنه لعسر
الانفصال منه ولما أجريت عليهم أحكام المسلمين بإجماع
المسلمين، ومن زعم أن الإله يحل في شيء من أجساد الناس أو
غيرهم فهو كافر لأن الشرع إنما عفا عن المجسمة لغلبة التجسم
على الناس فإنهم لا يفهمون موجودا في غير جهة بخلاف الحلول
فإنه لا يعم الابتلاء به ولا يخطر على قلب عاقل ولا يعفى عنه،
ولا عبرة بقول من أوجب النظر عند البلوغ على جميع المكلفين فإن
معظم الناس مهملون لذلك غير واقفين عليه ولا مهتدين إليه، ومع
ذلك لم يفسقهم أحد من السلف الصالحين كالصحابة والتابعين،
والأصح أن النظر لا يجب على المكلفين إلا أن يكونوا شاكين فيما
يجب اعتقاده فيلزمهم البحث عنه والنظر فيه إلى أن يعتقدوه أو
يعرفوه، وكيف نكفر العامة الذين لا يعرفون أن كلام الله معنى
قديم قائم بنفسه متجه مع القضاء بكونه أمرا ونهيا ووعدا ووعيدا
وخبرا واستخبارا ونداء ومسموعا مع أنه ليس بصوت وأن اعتقاد مثل
هذا لصعب جدا على المعتقدين الذاهبين إلى أنه من القواطع،
المكفرين لجاحديه. وكذلك كيف نكفر العامي بجهله أن النبوة
عبارة عن كون النبي مخبرا عن الله فلا ترجع النبوة إلى صفة
وجودية بل تكون عبارة عن نسبة تعلق الخطاب به، والقول لا يوجب
صفة
ج / 1 ص -172-
ثبوتية للمقول له ولا للمقول فيه أو عن كون النبوات عبارة عن
إخباره عن الله فترجع إلى صفة ثبوتية قائمة به، فعلى الأول
يكون فعيلا بمعنى مفعول وعلى الثاني يكون فعيلا بمعنى فاعل،
وقد رجع الأشعري رحمه الله عند موته عن تكفير أهل القبلة لأن
الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات، وقد اختلف في عبارات
والمشار إليه واحد، وقد مثل ما ذكره رحمه الله بمن كتب إلى
عبيده يأمرهم بأشياء وينهاهم عن أشياء فاختلفوا في صفاته مع
اتفاقهم على أنه سيدهم فقال بعضهم: هو أكحل العينين، وقال
آخرون أزرق العينين، وقال: بعضهم هو أدعج العينين وقال بعضهم
هو ربعة، وقال آخرون بل هو طوال. وكذلك اختلفوا في لونه أبيض
أو أسود أو أسمر أو أحمر فلا يجوز أن يقال إن اختلافهم في صفته
اختلاف في كونه سيدهم المستحق لطاعتهم وعبادتهم، فكذلك لا يكون
اختلاف المسلمين في صفات الإله اختلافا في كونه خالقهم وسيدهم
المستحق لطاعتهم وعبادتهم. وكذلك اختلف قوم في صفات أبيهم مع
اتفاقهم على أنه أصلهم الذي خلقوا من مائه ولا يكون اختلافهم
في أوصافه اختلافا في كونهم نشئوا عنه وخلقوا منه.
فإن قيل: يلزم من الاختلاف في كونه سبحانه في جهة أن يكون
حادثا؟ قلنا: لازم المذهب ليس بمذهب، لأن المجسمة جازمون بأنه
في جهة وجازمون بأنه قديم أزلي ليس بمحدث فلا يجوز أن ينسب إلى
مذهب من يصرح بخلافه وإن كان لازما من قوله. والعجب أن
الأشعرية اختلفوا في كثير من الصفات كالقدم والبقاء والوجه
واليدين والعينين. وفي الأحوال كالعالمية والقادرية وفي تعدد
الكلام واتحاده ومع ذلك لم يكفر بعضهم بعضا، واختلفوا في تكفير
نفاة الصفات مع اتفاقهم على كونه حيا قادرا سميعا بصيرا
متكلما، فاتفقوا على كماله بذلك واختلفوا في تعليله بالصفات
المذكورة.
[فائدة] اتفق المسلمون على أن الله موصوف بكل
كمال، بريء من كل نقصان
ج / 1 ص -173-
لكنهم اختلفوا في بعض الأوصاف فاعتقد بعضهم أنها كمال فأثبتها
له، واعتقد آخرون أنها نقصان فنفوها عنه، ولذلك أمثلة:
أحدها: قول المعتزلة إن الإنسان خالق لأفعاله لأن الله لو
خلقها ثم سبه عليها ولامه لما فعلها مع أنه لم يفعلها، وعذبه
عليها مع أنه لم يوجدها، لكان ظالما والظلم نقصان وكيف يصح أن
يفعل شيئا ثم يلوم غيره عليه ويقول له كيف فعلته ولم فعلته؟ ؟
وأهل السنة يقولون: إن الله خالق لأفعال الإنسان لأن الإنسان
لو خلقها لما قدر الإله على خلقها ونفي القدرة عيب ونقصان،
وليس تعذيب الرب على ما خلقه بظلم بدليل تعذيبه للبهائم
والمجانين والأطفال لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، والقول
بالتحسين والتقبيح باطل، فرأوا أن يكون كماله في خلق أفعال
العباد ورأوا تعذيبهم على ما لم يخلقوه جائزا من أفعاله غير
قبيح.
المثال الثاني: اختلاف المجسمة مع المنزهة لو كان جسما لكان
حادثا ولفاته كمال الأزلية.
المثال الثالث: إيجاب المعتزلي على الله سبحانه أن يثيب
الطائعين كي لا يظلمهم والظلم نقصان، وقول الأشعري ليس ذلك
بنقص إذ لا يجب عليه حق ولو وجب عليه حق لغيره لكان في قيده،
والتقيد بالأغيار نقصان.
المثال الرابع: قول المعتزلة بأن الله يريد الطاعات وإن لم
تقع، لأن إرادتها كمال ويكره المعاصي وإن وقعت لأن إرادتها
نقصان، وقول الأشعري لو أراد ما لا يقع لكان ذلك نقصا في
إرادته لكلالها عن النفوذ فيما تعلقت به، ولو كره المعاصي مع
وقوعها لكان ذلك كلالا في كراهيته وذلك نقصان.
المثال الخامس: إيجاب المعتزلة على الله رعاية الصلاح لعباده
لما في تركه من النقصان، وقول الأشعري لا يلزم ذلك لأن الإلزام
نقصان وكمال الإله أن يكون في قيد المتألهين.
ج / 1 ص -174-
النوع الخامس عشر: من الحقوق المتعلقة بالقلوب: تصديق القلب
بجميع ما ذكرناه من الاعتقاد والعرفان.
النوع السادس عشر: النظر في تعريف ذلك أو اعتقاده وهو واجب
وجوب الوسائل. النوع السابع عشر: معرفة ما أمر بفعله من طاعته
بأركانها وشرائطها وسننها وآدابها، وموانعها ومبطلاتها،
وأوقاتها ومقدمها ومؤخرها، ومضيقها وموسعها، ومعينها ومخيرها
ومؤداها ومقضيها.
النوع الثامن عشر: معرفة ما زجر عن فعله من معاصيه ليجتنب لما
فيه من المفاسد، قال الله تعالى:
{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}.
النوع التاسع عشر: معرفة أحكام تصرفات العباد ومعاملاتهم
صحيحها وفاسدها وبيان المحللات والمحرمات والمكروهات والواجبات
والمندوبات والولايات ولواحقها وغير ذلك.
النوع العشرون: معرفة أدلة أحكامه من كتابه وسنة نبيه صلى الله
عليه وسلم وإجماع أمته والأقيسة الصحيحة، والاستدلالات
المستقيمة، والعبارات القويمة.
النوع الحادي والعشرون: معرفة ما يتوقف عليه فهم خطابه وخطاب
رسوله صلى الله عليه وسلم من اللغة العربية.
النوع الثاني والعشرون: النظر في معرفة ما التبس من أحكامه
وأدلتها ومتعلقاتها
النوع الثالث والعشرون: الظنون المعتبرة في معرفة الأحكام
وأسبابها وسائر متعلقاتها، ولا يشترط فيها العلم إذ لو شرط
فيها العلم لفات معظم المصالح الدنيوية والأخروية، ولا يكفي
فيما يتعلق بأوصاف الإله إلا العلم أو الاعتقاد، والفرق بينهما
أن الظان مجوز بخلاف مظنونه، وإذا ظن صفة من صفات الإله فإنه
يجوز نقيضها وهو نقص ولا يجوز تجويز النقص على الإله، لأن الظن
لا يمنع من تجويز نقيض المظنون، بخلاف الأحكام فإنه لو ظن
الحلال حراما
ج / 1 ص -175-
والحرام حلالا لم يكن ذلك تجويز نقص على الرب سبحانه وتعالى،
لأنه لو أحل الحرام وحرم الحلال لم يكن ذلك نقصا فدار تجويزه
بين أمرين، كل واحد منهما كمال، بخلاف الصفات فإن كمالها شرف
وضده نقصان، ولا يشترط في المعارف والاعتقادات الواجبة
الاستمرار والدوام لما في ذلك من المشقة والضرر العام والمقصود
بالشرائع إرفاق العباد بل يكفي في ذلك الإيمان الحكمي مع عزوب
الإيمان الحقيقي ما لم يطرأ ضد يناقض المعارف والاعتقاد،
والعرفان أفضل من الاعتقاد، وحكم العرفان أفضل من حكم
الاعتقاد.
النوع الرابع والعشرون: الأحوال الناشئة عن معرفة الصفات. اعلم
أن الخوف ناشئ عن معرفة شدة النقمة، والرجاء ناشئ عن معرفة سعة
الرحمة، والتوكل ناشئ عن معرفة تفرد الرب بالضر والنفع والخفض
والرفع. والمحبة تنشأ تارة عن معرفة الإحسان والإنعام، وتارة
عن معرفة الجلال والجمال، والمهابة ناشئة عن معرفة كمال الذات
والصفات، وكل واحدة من هذه الأحوال حاثة على الطاعة التي
تناسبها، فالخوف حاث على ترك المعاصي والمخالفات، والرجاء حاث
على الإكثار من المندوبات وعلى كثير من الواجبات لما يرجى على
ذلك من المثوبات، والتوكل حاث على الإجمال في الطلب والدعاء،
والابتهال زاجر عن الوقوف مع الأسباب، والمحبة حاثة على طاعة
مثل طاعة الهائبين المجلين المعظمين المستحيين، وهو أكمل من
طاعة المحبين، ولا يمكن اكتساب هذه الأحوال في العادة إلا
باستحضار المعارف التي هي منشأ لهذه الأحوال.
النوع الخامس والعشرون؛ القصود والنيات والعزوم على الطاعات
فيما يستقبل من الأوقات، فيجب على المكلف أن يعزم على الطاعات
قبل وجوبها ووجوب أسبابها، فإذا حضرت العبادات وجبت فيها
القصود إلى اكتسابها والنية بالتقرب بها إلى رب السموات.
واعلم أن الإيمان والنيات والإخلاص ينقسم إلى حقيقي وحكمي،
فالإيمان
ج / 1 ص -176-
الحكمي شرط في العبادات من أولها إلى آخرها، والنية الحقيقية
مشروطة في أول العبادات دون استمرارها، والحكمية كافية في
استمرارها، وكذلك إخلاص العبادة شرط في أولها، والحكمي كاف في
دوامها، ولو وجب الإيمان الحقيقي في جميع الأوقات، والنية
الحقيقية في استمرار العبادات لحصلت المشقة في استحضار الإيمان
والنيات، ولم يشترط الإيمان الحقيقي في ابتداء العبادة لأن
استحضار النية شاق عسير ولأن نية القربة تتضمن الإيمان،
والإيمان لا يتضمن نية القربات، والغرض من النيات تمييز
العبادات عن العادات، أو تمييز رتب العبادات أثناء تمييز
العبادات عن العادات فله أمثلة:
أحدها: الغسل فإنه مردد بين ما يفعل قربة إلى الله كالغسل عن
الأحداث، وغيرها يفعل لأغراض العباد من التبرد والتنظيف
والاستحمام والمداواة وإزالات الأوضار والأقذار، فلما تردد بين
هذه المقاصد وجب تمييز ما يفعل لرب الأرباب عما يفعل لأغراض
العباد.
المثال الثاني: دفع الأموال مردد بين أن يفعل هبة أو هدية أو
وديعة، وبين أن يفعل قربة إلى الله كالزكاة والصدقات
والكفارات، فلما تردد بين هذه الأغراض، وجب أن تميز النية لما
يفعل لله عما يفعل لغير الله.
المثال الثالث: الإمساك عن المفطرات تارة يفعل لغرض الإمساك عن
المفطرات وتارة يفعل قربة إلى رب الأرضين والسموات، فوجب فيه
النية لتصرفه عن أغراض العباد إلى التقرب إلى المعبود.
المثال الرابع: حضور المساجد قد يكون للصلوات أو الراحات أو
للقربة بالحضور فيها زيارة للرب سبحانه وتعالى. لما تردد بين
هذه الجهات وجب أن يميز الحضور في المسجد زيارة لرب الأرباب
عما يفعل لغير ذلك من الأغراض.
المثال الخامس: الضحايا والهدايا لما كان ذبح الذبائح في
الغالب لغير الله
ج / 1 ص -177-
من ضيافة الضيفان وتغذية الأبدان، ونادر أحواله أن يفعل تقربا
إلى الملك الديان شرطت فيه النية تمييزا لذبح القربة عن الذبح
للاقتيات والضيافات، لأن تطهر الحيوان بالذكاة كتطهير الأعضاء
بالمياه من الأحداث، تارة يكون لله وتارة يكون لغير الله
فتميزه الطهارة الواقعة لله عن الطهارة الواقعة لغيره.
المثال السادس: الحج لما كانت أفعاله مرددة بين العبادات
والعادات وجب فيه النية تمييزا للعبادات عن العادات. وأما مثال
تمييز رتب العبادات فكالصلاة تنقسم إلى فرض ونفل، والنفل ينقسم
إلى راتب وغير راتب، والفرض ينقسم إلى منذور وغير منذور، وغير
المنذور ينقسم إلى ظهر وعصر ومغرب وعشاء وصبح، وإلى قضاء وأداء
فيجب في النفل أن يميز الراتب عن غيره بالنية وكذلك تميز صلاة
الاستسقاء عن صلاة العيد. وكذلك في الفرض تميز الظهر عن العصر،
والمنذورة عن المفروضة بأصل الشرع، وكذلك في العبادة المالية
تميز الصدقة الواجبة عن النافلة، والزكاة عن المنذورة
والنافلة. وكذلك يميز صوم النذر عن صوم النفل، وصوم الكفارة
عنهما، وصوم رمضان عما سواه، ويميز الحج عن العمرة تميزا لبعض
راتب العبادات عن بعض. ولا يكفيه مجرد نية القربة دون تعيين
الرتبة، فإن أطلق نية الصوم والصلاة حمل على أقلها، لأنه لم
ينو التقرب بما زاد على رتبتها، فإذا نوى الراتبة لم يكفه ذلك
حتى يعينها بتعين الصلاة التي شرعت لها بأن يضيفها إلى الصلاة
التابعة لها، وإذا نوى العيد أو الكسوف أو الاستسقاء فلا بد من
إضافتها إلى أسبابها لتمييز رتبتها عن رتب الرواتب، وإن نوى
الفرائض فلا بد من تمييزها بالإضافة إلى أوقاتها وأسبابها،
وليست الأوقات والأسباب قربة ولا صفة للقربة وإنما تذكر في
النية لتبيين المرتبة، وإن نوى الكفارة ولم يذكر سببها أجزأته
لأن رتبتها متساوية لا تفاوت فيها، إذ العتق في كفارة القتل
مثل العتق في كفارة الظهار وكفارة الجماع في رمضان. وقد خالف
أبو حنيفة رحمه الله في ذلك وجعل إضافة الكفارات إلى أسبابها
ج / 1 ص -178-
كإضافة الصلاة إلى أوقاتها، والأول أوجه لما ذكرنا من تساوي
الرتب، وليست الأوقات والأسباب من العبادات حتى يجب ذكرها لا
سيما أسباب الكفارات فإن معظمها جنايات، فإذا لم تكن الأسباب
قربة ولا دالة على تفاوت رتبة فلا حاجة إلى قصدها لأن العتق
بنية الكفارة قد يميز عن العتق المندوب برتبته، بخلاف رتب
الصلاة فإنها مختلفة، ولذلك شرع بعضها ما لم يشرع في بعض
كالجهر والإسرار والتطويل والتقصير، ولو تساوت مقاصد الصلاة
تساوت مقاصد العتق لما اختلفت أحكام الصلاة وأوصافها، وعندي
وقفة في صلاتي العيدين لأنهما مستويان في جميع الصفات فينبغي
أن تلحق بالكفارات فيكفيه أن ينوي صلاة العيدين من غير تعرض
لصلاة فطر أو أضحى، بخلاف صلاة الكسوف والخسوف فإنهما يختلفان
بالجهر والإسرار، فإن كانت العبادة غير ملتبسة بالعادة
كالإيمان والتعظيم والإجلال والخوف والرجاء والتوكل والحياء
والمحبة والمهابة، فهذه متعلقة بالله عز وجل قربة في أنفسها
متميزة لله بصورتها لا تفتقر إلى قصد تمييزها وبجعلها قربة
متميزة، فلا حاجة في هذا النوع إلى نية تصرفه إلى الله عز وجل
وكذلك التسبيح والتقديس والتهليل والتكبير والثناء على الله عز
وجل بما لا يشارك فيه والأذان وقراءة القرآن فإنه لا يحتاج إلى
نية، إذ لا تردد بين العبادة والعادة ولا بين رتب العبادة كما
ذكرناه، ولا حاجة إلى التعليل بأن النية لو افتقرت إلى نية
لأدى ذلك إلى التسلسل لأن انصرافها بصورتها إلى الرب سبحانه
وتعالى مميز لها فلا تحتاج إلى مميز، ولأن النية لا رتب لها في
نفسها، ومثل هذا نقول في الكلام إن كان صريحا لم يفتقر إلى نية
لأنه بصراحته منصرف إلى ما دل عليه، وإن كان كناية افتقر إلى
نية مميزة لتردده، وكذلك نقول في المعاملات إن امتاز المقصود
عن غيره فلا حاجة إلى ما يميزه، فمن استأجر عمامة أو ثوبا أو
قدوما أو سيفا أو بساطا لم يحتج إلى ذكر منفعة لأن صورته
منصرفة إلى منفعته مميزة لها فلا حاجة إلى مميز، وإن كانت
المنفعة مرددة كالدابة تكترى للعمل
ج / 1 ص -179-
والركوب، والأرض تكترى للزرع والغرس والبناء فلا بد من تمييز
المنفعة باللفظ، وكذلك إن كان في البلد نقد غالب حمل العقد
عليه لامتيازه بغلبته وإن كان في البلد نقود مختلفة لا غالب
فيها فلا بد من تمييز باللفظ، وكذلك الحقوق المتعينة لا يفتقر
أداؤها إلى نية بل تصح وتبرى من غير نية لتعينها لمستحقها، وإن
ترددت مثل أن يقبض المدين مالا لرب الدين من جنس حقه فإنه مردد
بين الوديعة والهبة والعارية والإباحة وقضاء الدين فلا بد من
نية تميز إقباض الدين عن سائر أنواع الإقباض. وكذلك كل من جاز
له الشراء لنفسه ولغيره فإنه لا ينصرف إلى غيره إلا بنية تميزه
عن الشراء لنفسه. وكذلك لو ملك التصرف بأسباب مختلفة كالوكيل
والوصي فإنه يملك الشراء لنفسه ولغيره بنية فلو أطلق الشراء عن
النية لانصرف إلى نفسه لأنه الغالب من أفعاله، ولا ينصرف إلى
يتيمه إلا بنية وليس المقصود من نية التصرف التقرب إلى
المستحق، بخلاف نية العبادات فإن القصد بتمييزها التقرب إلى
المعبود بذلك المقصود، وكذلك ما تشترط فيه النية من التصرفات
ليس الغرض منها إلا مجرد التمييز دون التقرب.
فإن قيل: لم أثيب ناوي القربة على مجرد نيته من غير عمل ولا
يثاب على أكثر الأعمال إلا إذا نواه؟
فالجواب: ما ذكرناه من أن النية منصرفة إلى الله تعالى بنفسها،
والفعل المردد بين العادة والعبادة غير منصرف إلى الله فلذلك
لا يثاب عليه.
فإذا قيل: لم أثيب على النية ثواب حسنة واحدة، وإن اتصل بها
الفعل أثيب بعشر مع كون النية متصلة إلى الله بنفسها؟
فالجواب: أن الفعل المنوي، به تتحقق المصالح المطلوبة من
العبادات فلذلك كان أجره أعظم وثوابه أوفر.
ج / 1 ص -180-
[فائدة]
هل يشترط أن يستحضر إضافة النية إلى الله أو يكفيه استلزامه
القربة للإضافة إلى الله؟ فيه اختلاف.
[فائدة] الذي ينوى من العبادات ضربان: أحدهما ما هو مقصود في
نفسه فيوجه النية إلى التقرب به إلى الله عز وجل.
الضرب الثاني: ما يكون المقصود به غيره وهو ضربان: أحدهما ما
لا يكون مقصودا في نفسه كالتيمم فهذا ينوي به استباحة ما يحرمه
الحدث ويدل على أنه غير مقصود في نفسه أنه لا يشرع تحديده، وإن
نوى أداء التيمم أو فريضة التيمم فوجهان. أحدهما لا يصح لأنه
غير مقصود والثاني: يصح كما يصح مثله في سائر العبادات. الضرب
الثاني: ما كان مقصودا في نفسه كطهارة الأحداث بالماء، فهذا
يخير بين أن ينويه في نفسه كسائر العبادات، وبين أن ينوي
مقصوده، وله حالان. أحدهما: أن ينوي رفع شيء يحرمه ذلك الحدث.
والثانية: أن ينوي استباحة شيء مما يحرمه ذلك الحدث، وإنما
كفارة ذلك في حصول العبادة لأن الحدث لا يرتفع إلا بطهارة وهي
قربة.
فإن قيل الصلاة والتيمم ممتازان بصورتيهما عن العادات وعن
غيرهما من العبادات فلم افتقر إلى النية - مع تمييزهما؟ قلنا.
أما التيمم فإنه افتقر إلى النية - لأنه خارج عما يفعل عبادة
أو عادة، وليس مسح الوجه بالتراب نوعا من التعظيم في مطرد
العادات بل صورته كصورة اللعب والعبث الذي لا فائدة فيه، فلذلك
افتقر إلى نية تصرفه عن اللعب والعبث إلى العبادة إذ لا تعظيم
في صورته، والعبادات كلها إجلال وتعظيم. وأما الصلاة فإنما
وجبت النية فيها لوجوب ترتيبها، وإذا بطل أولها بطل ما ابتنى
عليه فلم تجب النية فيها لتمييزها عن العادة، وإنما وجبت
لتمييز رتب العبادة، فإن مرتبة التكبير في النافلة المطلقة دون
مرتبته في النوافل المرتبة والمؤقتة، ورتب العبادة في النوافل
المؤقتة دون
ج / 1 ص -181-
رتب المفروضة والمنذورة، فإذا وقع مرددا بين هذه الجهات، فقد
تردد بين رتب مختلفة فلا يعتقد به في رتبة عليا وحمل على أدنى
الرتب، وكان ما بعده من أفعال الصلاة مبنيا على رتبته وهو مردد
والمبني على المردد مثله في التردد، بل رتبة التكبير في النفل
المطلق أعلى من رتبته خارج الصلاة، ولا بد أن ينوي به أصل
الصلاة وإلا وقع مرددا بين رتبة تكبير الصلاة ورتبة التكبير
الخارج عن الصلاة.
فصل: في وقت النية المشروطة في العبادة
إذا كان الغرض بالنيات التمييز كما ذكرنا وجب أن تقترن النية
بأول العبادة ليقع أولها مميزا ثم يبتنى عليه ما بعده، إلا أن
يشق مقارنتها إياها كما في نية الصوم، وقد اختلف في نية تقديم
الزكاة، لما في التوكيل في إخراجها من مصلحة الإخلاص ودفع
إخجال الفقير من باذلها، فإن تأخرت النية عن أول العبادة لم
يجز ذلك إلا في صوم التطوع لأن ما مضى يقع مرددا بين العبادة
والعادة، أو بين رتب العبادة، وإن تقدمت النية فإن استمرت إلى
أن شرع في العبادة أجزأه ما اقترن منها بالعبادة وإن انقطعت
النية قبل الشروع في العبادة لم تصح العبادة لترددها، فإن قرب
انقطاعها أجزأت عند بعض العلماء وفيه بعد، لأنها إذا انقطعت
وقع ابتداء العبادة مرددا فإن اكتفى بالنية السابقة فلا فرق
بين بعيدها وقريبها لتحقق ترددها ابتداء العبادة مع القرب
والبعد، وينبغي أن يستصحب ذكر النية في الوضوء إلى آخره لأنه
أقرب إلى مقصود النيات، ولا يفعل مثل ذلك في الصلاة، لأن قلبه
مشغول عن ذكر النية بملاحظة معنى الأذكار والقراءة والدعاء،
فكان الاشتغال بالأهم في الصلاة أولى من ملاحظة النية وذكرها.
فإن قيل: هل يشترط أن ينوي الاقتداء في صلاة الجمعة كما ينوي
سائر الصلاة؟ فالذي أراه أنه لا يشترط لأن الاقتداء شرط في
صلاة الجمعة فلا يفرد بالنية كسائر الشرائط والأركان.
[فائدة] يكفي في العبادات نية فردة لقوله عليه
السلام: "إنما الأعمال بالنيات"،
ج / 1 ص -182-
وقد قال الشافعي رحمه الله في الصلاة: ينوي مع التكبير لا قبله
ولا بعده. واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من قال لا بد من
استمرار النية من أول التكبير إلى آخره، وهذا مخالف للنية في
جميع العبادات مع ما فيه من العسر الموجب للوسواس، والمختار
أنه تجزئ نية فردة مقرونة بالتكبير كما تجزئ في الصوم والزكاة
والكفارات والاعتكاف والحج والعمرة نية فردة، وليس قول الشافعي
مع التكبير لا قبله ولا بعده نصا في بسط النية على التكبير،
لأن اسم الشيء يطلق على ابتدائه وعلى انتهائه كما يطلق لفظ
الصلاة على أول أجزائها وعلى آخر أجزائها كما في حديث جبريل
عليه السلام، فكذلك يطلق لفظ التكبير على أول أجزائه وهو
الهمزة، وقال بعض أصحابنا: لا يتصور بسط النية لأنها عرض فرد
لا يتصور فيه البسط، وإنما يبسط العلم بالنية وهذا لا يصح لأن
العلم عرض لا يتصور الغرض منه كما لا يتصور بسط الغرض من النية
وإنما المعنى. يبسطها تكريرها بتوالي أمثالها.
فصل: في قطع النية في أثناء العبادة
إذا قطع نية العبادة في أثناء الصلاة بطلت صلاته لانقطاع النية
المستصحبة كما يبطل الإيمان المستصحب بطريان ضد من أضداده. ولو
قطع نية الحج أو العمرة لم يبطل حجه ولا عمرته، وإن قطع نية
الصيام بطل على الأصح، فأحكام النية في الصلاة أغلظ من أحكامها
في النسك، ولو شك هل نوى شيئا من هذه العبادات أو لم ينو لم
يحكم بانعقاده لأن الأصل عدم نيته، ولو تردد أيستمر على شيء من
هذه العبادات أم يخرج منها لم يخرج بذلك من صومه ولا من نسكه
وتبطل صلاته، ولو تردد في أصل النية ثم تذكر في أثناء العبادة
أنه نوى في أولها صح صومه ونسكه. وأما الصلاة فإن فعل في حال
شكه ركنا لا يزاد مثله في الصلاة كالركوع والسجود بطلت صلاته
لأنه زاد فيها متعمدا ركنا لا يعتد به لفوات النية الحكمية
فيه، فصار كما لو تعمد زيادته من غير نسيان، وإن لم
ج / 1 ص -183-
يأت بركن لا يزاد مثله في الصلاة فإن قصر زمان الشك لم تبطل
صلاته كما لا تبطل بالكلام القليل والفعل اليسير في حال
النسيان، وإن طال زمن التردد ففي البطلان وجهان كالوجهين في
البطلان بالكلام الكثير والفعل الكثير في حال النسيان والفرق
بينهما أن النسيان اليسير غالب والكلام اليسير نادر، وقد فرق
في الأعذار بين غالبها ونادرها، وإن أتى في حال الشك بركن يزاد
مثله في الصلاة كالفاتحة والصلاة على الرسول صلى الله عليه
وسلم يعتد به لخلوه عن النية الحكمية والحقيقية، ويلزمه إعادته
إن قصر زمان الشك وإن طال فوجهان والفرق في تغليظ أحكام النية
بين الصلاة وغيرها أن المصلي مناج لربه مقبل عليه، ولذلك نهي
عن الالتفات فيها والإعراض عن الله عز وجل لما فيه من سوء
الأدب، وزجر عن الفعل الكثير والكلام الكثير وأمر باستقبال جهة
واحدة لأنه أكمل في الإقبال على مناجاة ذي الجلال وقد قال: "أنا جليس من ذكرني" فكان تردده في الخروج عن المجالسة تركا للإقبال على ذي الجلال وسوء
أدب، فلذلك أبطل تردده في قطع نية الصلاة. فإن من أمره بعض
الكبراء بمناجاته ومجالسته فجالسه وناجاه ثم عزم على قطع
مجالسته أو مناجاته أو تردد في قطعها فإنه يعد ذلك - إذا اطلع
عليه - من سوء أدب المناجاة والمجالسة، وليس سائر العبادات
بمثابة الصلاة في المجالسة والمناجاة، والفرق بين النسك
والصيام أن الناسك لا يخرج من نسكه بأقوى المفسدات وهو الجماع،
فكذلك لم تؤثر فيه قواعد النيات فجاز أن ينوي إحراما كإحرام
غيره، وجاز أن يبهم إحرامه ثم يصرفه إلى أحد النسكين أو
إليهما، وجاز أن ينوي النفل فيقع عن الفرض أو ينوي الحج عن
غيره فيقع عن نفسه ولو أبطله الشرع بمثل ذلك لعظمت المشقة في
قضائه بخلاف الصلاة والصيام.
فإن قيل: هل تصح العبادة بنية تقع في أثنائها؟ قلنا: نعم وله
صور: أحدها:
ج / 1 ص -184-
أن ينوي المتنفل ركعة واحدة ثم ينوي أن يزيد عليها ركعة أو
أكثر فتصح الركعة الأولى بالنية الأولى وصح ما زاد عليها
بالنية الثانية، وليس هذا كتفريق النية على الصلاة لأن المفرق
ينوي ما لا يكون صلاة مفردة وههنا قد نوى بالنية الأولى الركعة
الأولى وهي صلاة على حيالها ونوى الزيادة بنية ثانية وهي صلاة
أيضا على حيالها، وليس كمن نوى تكبيرة أو قومة أو نوى من الظهر
ركعة على انفرادها فإن الركعة المنفردة لا تكون ظهرا.
الصورة الثانية: إذا نوى الاقتصار في الصلاة على الأركان
والشرائط ثم نوى التطويل المشروع أو السنن المشروعة فإن ذلك
يجزئه لاشتمال النية الأولى على الأركان والشرائط، والثانية
على السنن النابعة، فإنها وإن لم تكن صلاة مستقلة فقد ثبت
للتابع ما لا يثبت للمتبوع، أو يكون ذلك من رخص النوافل كما
رخص للمسافر في صلاتها إلى غير القبلة توسعة لتكثير النوافل،
وكذلك لو نوى التسليم بعد انقضاء التشهد ثم بدا له أن يطول في
الأدعية والأذكار.
الصورة الثالثة: إذا نوى المسافر القصر ثم نوى الإتمام فإن
الركعتين الأولتين يجزئانه بالنية الأولى والركعتان الأخريان
يجزئانه بالنية الثانية لأن المقصود بالنيتين تمييز رتبة الظهر
عن غيرها، وقد تحقق ذلك بالنيتين.
الصورة الرابعة: إذا اقترن بصلاة القاصر ما يوجب الإتمام أو
طرأ عليها ما يوجب إتمامها وهو لا يشعر به في أثناء الصلاة
فإنه يتم الصلاة بالنية الثانية وقد قال بعض أصحابنا تجزئه
بالنية الأولى، وقد جعل القصر معلقا على شرط أن لا يطرأ ما
يوجب الإتمام وهذا لا يصح في حق من لا يشعر بهذا الحكم ولم
يخطر بباله مع أنه حكمه الإتمام.
الصورة الخامسة: إذا مات الأجير في الحج قبل إتمامه الحج
وجوزنا البناء عليه فاستأجرنا من يبني عليه وقد وقع ما تقدم
بنية الأجير الأول وما تأخر
ج / 1 ص -185-
بنية الأجير الثاني فيؤدى الحج بنيتين من شخصين: إحداهما في
ابتدائه والثانية في انتهائه.
فإن قيل: النية قصد ولا بد للقصد من مقصود مكتسب يتعلق به
القصد، فأي كسب مقصود للإمام إذا نوى الإمامة فإن صلاته مع
القوم لا تزيد على صلاته وحده؟ وكذلك إذا أحرم الناسك بالعمرة
والحج مع اتحاد الفعل بخلاف ما لو أدخل الحج على العمرة فإن
أفعال الحج تزيد على أفعال العمرة.
وقد قال الشافعي رحمة الله عليه: لو أدخل العمرة على الحج لم
تصح على قول إذ لا ينوي بهذه المسائل مشكلة ولا يصح أن يقال
نوى الأحكام لأن الأحكام ليست من كسبه ولا من صفات كسبه،
والنيات لا تتعلق إلا بكسب أو صفة تابعة للكسب، ومن المشكل قول
الشافعي ومالك رحمهما الله: إن الحج والعمرة ينعقدان بمجرد نية
الإحرام من غير قول ولا فعل، فإن أريد بالإحرام أفعال الحج لم
يصح لأنه لم يتلبس بشيء منها في وقت النية ولأن محظورات الحج
لا تتقدم عليه كما لا تتقدم محظورات العبادة عليها، وإن أريد
به الانفكاك عن محظورات الإحرام لم يصح لأنه إن نوى الإحرام مع
ملابسته لمحظورات سوى الجماع لصح إحرامه وإن كان الكف عنهما هو
الإحرام لما صح مع ملابستها كما لا يصح الصيام مع ملابسته
الأكل والشرب، وإن كان الإحرام هو الكف عن الجماع لما صح إحرام
من يجهل وجوب الكف عن الجماع لأن الجهل به يمنع من توجه النية،
إذ لا يصح قصد ما يجهل حقيقته، وشرط ابن خيران التلبية متجه
لأن التلبية في الحج كتكبيرة الإحرام في الصلاة وشرط بعض
العلماء التلبية أو سوق الهدي.
فصل: في تردد النية مع ترجح أحد الطرفين
النية قصد
لا يتصور توجهه إلا إلى معلوم أو مظنون فلا تتعلق بمشكوك فيه.
وكذلك لا تتعلق بالموهوم ولا بد أن يكون جزمها مستندا إلى علم
أو اعتقاد أو ظن،
ج / 1 ص -186-
فإذا نوى ما يتردد فيه فإن كان تحققه راجحا صحت نيته مثل أن
ينوي الزكاة عن مال شك في هلاكه أو ينوي الصيام ليلة الثلاثين
من رمضان فتصح نيته لأن ما نواه ثابت محقق باستصحاب الأصل، وإن
كان عدم ما نواه راجحا بالاستصحاب لم تصح نيته لأنها لا تتحقق
إلا مع علم أو ظن كما لو أخرج الزكاة عن مال شك هل ملكه أم لا،
وكما لو نوى الصيام ليلة الثلاثين من شعبان.
فإن قيل: كيف يصح صوم المستحاضة المتحيرة وصلاتها مع عدم رجحان
الطهارة على الحيض والحيض على الطهارة؟ قلنا: هذا مما استثني
للضرورة بخلاف ما سنذكره إن شاء الله في مسألة السبيكة لأنه
يقدر على تمييز الذهب من الفضة فيزول الشك، ولا قدرة للمستحاضة
على مثل ذلك، ولو نوى الصيام معلقا على مشيئة الله تعالى، فإن
جزم النية واعتقد أن ما جزمه موقوف التحقق على مشيئة الله فهذه
نية صحيحة لجزمها وقد أضاف إليها الاعتراف بوقوف عبادته على
مشيئة الله، وذلك إتيان بطاعتين، وإن تشكك بالفعل لم تصح نيته
لتردده، وذلك مثل أن يقول إن شاء الله وقع مني الصوم ولا يجزم
بذلك فهذا لا يصح تردده وشكه.
فصل: في تفريق النيات على الطاعات
تفريق النية على الطاعة يختلف باختلاف الطاعات، والطاعات
أقسام: أحدهما: طاعة متحدة وهي التي يفسد أولها بفساد آخرها
كالصلاة والصيام، فلا يجوز تفريق النية على أبعاضها، مثاله في
الصيام أن ينوي إمساك الساعة الأولى وحدها ثم ينوي إمساك
الساعة الثانية وكذلك يفرد كل إمساك بنية تختص بها إلى آخر
النهار، فإن صومه لا يصح. وكذلك لو فرق نية الصلاة على أركانها
وأبعاضها مثل أن أفرد التكبير بنية والقيام بنية ثانية والركوع
ثالثة وكذلك إلى انقضاء الصلاة، فإن صلاته لا تصح لأن ما نواه
من هذه المفردات ليس بجزء من الصلاة على حياله.
القسم الثاني: طاعة متعددة كالزكاة والصدقات وقراءة القرآن
فهذا يجوز
ج / 1 ص -187-
أن يفرد أبعاضه بالنية وأن يجمعه في نية واحدة، فلو فرق النية
على أحد جزئي الجملة في القراءة مثل أن قال بسم الله، أو قال
فالذين آمنوا، فالذي أراه أنه لا يثاب على ذلك، ولا يثاب إلا
إذا فرق النية على الجمل المفيدة، إذ لا قيمة في الإتيان بأحد
جزئي الجملة وجمل القرآن أحدها ما لا يذكر إلا قرآنا كقوله:
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} فهذا يحرم على الجنب قراءته.
الضرب الثاني: ما يغلب عليه كونه ذكرا ليس بقرآن كقوله بسم
الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، فهذا لا يحرم على الجنب
قراءته إلا أن ينوي القراءة لغلبة الذكر عليه.
القسم الثالث: ما اختلف في اتحاده كالوضوء والغسل فمن رآهما
متحدين منع من تفريق النية على أجزائهما، ومن رآهما متعددين
جوز تفريق النية على أبعاضها.
النوع السادس والعشرين من أعمال القلوب التوبة ولها ثلاثة
أركان
أحدهما: الندم على المعصية والمخالفة. والثاني: العزم على أن
لا يعود إلى مثل تلك المعصية في الاستقبال. والثالث: إقلاع عن
تلك المعصية في الحال، فهذه التوبة مركبة من ثلاثة أركان:
العزم، والندم، والإقلاع، وقد تكون التوبة مجرد الندم في حق من
عجز عن العزم والإقلاع فلا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه،
كما لا يسقط ما قدر عليه من الأركان في الصلاة بما عجز عنه،
وذلك كتوبة الأعمى عن النظر المحرم، وتوبة المجبوب عن الزنا
وهذا مبني على قاعدة مستفادة من قوله عليه السلام:
"إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"، أي إذا أمرتكم بمأمور فأتوا من ذلك المأمور ما استطعتموه، أي ما
قدرتم عليه، فالأعمى والمجبوب قادران على الندم عاجزان عن
العزم والإقلاع.
ويستحب للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب منه أن يجدد الندم على
فعله، والعزم على ترك العود إلى مثله، وعلى هذا يحمل قوله صلى
الله عليه وسلم:
"إني لأستغفر الله
ج / 1 ص -188-
وأتوب إليه مائة مرة"، لا يعني بذلك أنه يذنب في كل يوم مائة مرة، بل معناه تجديد التوبة
وتكريرها عن ذنب واحد صغير، وذكره صلى الله عليه وسلم إياه في
اليوم مائة مرة يدل على استعظامه له مع صغره، وذلك يدل على فرط
تعظيمه وإجلاله لربه، فشتان بين من لا ينسى الصغير الحقير من
الذنوب حتى يجدد التوبة منه في كل يوم مائة مرة إجلالا لربه
وبين من ينسى عظيم ذنوبه ولا تمر على باله احتقارا لذنوبه
وجهلا بعظمة ربه، وقد ذم الله من وعظ بآيات ربه فأعرض عن سماع
الموعظة ونسي ما قدمت يداه، والعارف الموقن إذا ذكر الصغيرة
خجل منها وندم عليها وتألم لها، وعزم على أن لا يعود إلى مثلها
إجلالا لربه وفرقا من ذنبه، والتوبة واجبة على الفور فمن أخرها
زمانا صار عاصيا بتأخيرها، وكذلك يتكرر عصيانه بتكرر الأزمنة
المتسعة لها، فيحتاج إلى توبة من تأخيرها وهذا جار في تأخير كل
ما يجب تقديمه من الطاعات.
فإن قيل: كيف تتصور التوبة مع ملاحظة توحد الله بالأفعال خيرها
وشرها مع أن الندم على فعل الأغيار لا يتصور؟ قلنا: من رأى
للآدمي كسبا خصص الندم والعزم بكسبه دون صنع ربه، ومن لا يرى
الكسب خصص التوبة بحال الغفلة عن التوحد، وهذا مشكل جدا من جهة
أنه يتوب على ما يظنه فعلا له وليس بفعل له في نفس الأمر.
النوع السابع والعشرون: الإخلاص وهو أن يقصد بطاعته وجه الله
ولا يريد بها سواه، فإن قصد بها سواه كان مرائيا، سواء قصد
الناس على انفرادهم أو قصد الرب والناس جميعا.
النوع الثامن والعشرون: الرضا بالقضاء: فإن كان المقضي به طاعة
فليرض بالقضاء والمقضي به جميعا، وإن كان معصية فليرض بالقضاء
ولا يرضى بالمقضي به بل يكرهه، وإن لم يكن طاعة ولا معصية
فليرض بالقضاء ولا يتسخط بالمقضي به وإن رضي به كان أفضل.
النوع التاسع والعشرون: التفكير في ملكوت السموات والأرض وجميع
ج / 1 ص -189-
مخلوقات الله، ليستدل بذلك على قدرته وحكمته ونفوذ إرادته.
وكذلك التفكر في آيات كتابه وفي فهم شرائعه وأحكامه، وكذلك
تدبر آيات كتابه وكذلك التفكر في الحشر والنشر والثواب
والعقاب، ليكون المتفكر بين الخوف والرجاء، ليعمل بطاعته رجاء
لثوابه، وبتجنب معصيته.
وأفعال القلوب كثيرة: منها حسن الظن بالله، ومنها الحزن على ما
فات من طاعته، ومنها الفرح بفضله ورحمته، ومنها محبة الطاعة
والإيمان، وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، ومنها الحب في الله
والبغض في الله كحب الأنبياء وبغض العصاة والأشقياء، ومنها
الصبر على البليات والطاعات، وعن المعاصي والمخالفات، ومنها
التذلل والتخضع والتخشع والتذكر والتيقظ، وغبطة الأبرار على
برهم، والأخيار على خيرهم، والأتقياء على تقواهم، ومنها الكف
عن أضداد هذه المأمورات، ومنها الشوق إلى لقاء الله، ومنها أن
يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه، وأن يكره لهم مثل ما يكره لنفسه،
ومنها مجاهدة النفس والشيطان إذا دعوا إلى المخالفات والعصيان،
ومنها ذكرها ذم اللذات وذكر الوقوف بين يدي رب السموات، ومنها
السرور بطاعة الله والاغتمام بمعصية الله فنعم من سرته حسنته
وساءته سيئته كما قال عليه السلام، ومنها الإيمان بجميع ما
أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم به من السابق واللاحق،
ومنها إضمار النصيحة لكل مسلم، ومنها استحضار المخلوقات عند
نزوع النفس إلى اتباع الشهوات. ومنها أن يقدر إذا عبد ربه كأنه
يراه لتقع العبادة على أكمل الأحوال، فإن عجز عن ذلك فليقدر أن
الله ناظر إليه، ومطلع عليه، وهذا هو إحسان العبادات، ومنها
تفريغ القلب من الأكوان الحادثات شغلا برب الأرض والسموات،
وهذا هو المعبر عنه بالفناء عند أهل الصفوة والصفاء، وحقيقته
غفلة عن كل شيء للشغل برب كل شيء، ومنها الزهد في كل ما يمكن
الاستغناء عنه من متاع الدنيا إلا ما استثناه الشرع بالحث عليه
والندب إليه كالنكاح، والزهد في الشيء خلو
ج / 1 ص -190-
القلب من التعلق به مع الرغبة عنه، والفراغ منه، ولا يشترط خلو
اليد منه ولا انقطاع الملك عنه، فإن سيد المرسلين وقدوة
الزاهدين مات عن فدك والعوالي ونصف وادي القرى وسهامه من خيبر،
وملك سليمان الأرض كلها وكان شغلهما بالله مانعا لهما من
التعلق بكل ما ملكا.
فصل: فيما تتعلق به الأحكام من الأبدان
وهو قسمان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل. فالمقاصد: كالقيام في
الصلاة والطواف، والاعتكاف والسعي، والتعريف، والمبيت بمزدلفة
وبمنى والأغسال الواجبات والمندوبات. والوسائل: كالمشي إلى
الجماعات والجمعات وجميع العبادات والطاعات وإلى تغيير
المذكرات والمشي إلى عيادة المرضى وزيارة الأموات، ومن
المحرمات لبس المخيط في الإحرام والتضمخ والأدهان. |