قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

ج / 1 ص -142-       فصل: في انقسام الحقوق إلى المتفاوت والمتساوي والمختلف فيه
اعلم أن حقوق الرب وحقوق عباده أقسام: أحدها متساوي، والثاني متفاوت، والثالث مختلف في تساويه وتفاوته؛ وسأذكر لذلك أمثلة في فصول ترشد إلى نظائرها.

الفصل الأول: في تقديم حقوق الله بعضها على بعض عند تعذر جمعها وعند تيسره لتفاوت مصالحها
وله أمثلة: منها تقديم الصلوات المفروضات على الصلوات المندوبات، ومنها تقديم الطاعات الواجبات في أواخر الأوقات على الطاعات المندوبات، ومنها تأخير الظهر للإبراد، ومنها تقديم الصلاة المقضية على الصلاة المؤداة إذا اتسع وقت المؤداة، ومنها تقديم الصلاة المؤداة على الصلاة المقضية إذا ضاق وقت المؤداة عند الشافعي رحمه الله، لئلا تفوت مصلحة الأداء في الصلاتين. ومنها الترتيب في الصلوات الفائتات، ومنها تقديم النوافل المؤقتة التي شرعت فيها الجماعة كالعيدين والكسوفين على الرواتب، ومنها تقديم الرواتب على النوافل المبتدآت، ومنها تقديم الوتر وركعتي الفجر على سائر الرواتب، والأصح تقديم الوتر على ركعتي الفجر، ومنها تقديم الزكاة على سائر الصدقات المندوبات، ومنها تقديم الصوم الواجب على المندوب، ومنها تقديم فرض الحج والعمرة على مندوبيهما، ومنها تقديم الإفراد على القران عند قوم، وتقديم التمتع على الإفراد عند قوم، وتقديم القران عليهما عند آخرين، ومنها التقديم في جمع عرفة، ومنها التأخير في جمع مزدلفة، ومنها رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس، ومنها رمي سائر الجمرات بعد الزوال. ومنها تأخير العشاء على قول، ومنها الإتمام في سفر لا تبلغ مسيرته ثلاثة أيام، ومنها تأخير الصيام في حق من يضره الصيام، وفي تقديم ترتيب أركان الصلاة على الاقتداء في حق المزحوم قولان، ومنها تقديم الكفارات على الوصايا المندوبات عند ضيق التركات

 

ج / 1 ص -143-       ومنها أن المسافر إذا عرف أنه يجد الماء في آخر الوقت فتأخير الصلاة أفضل من المبادرة إليها بالتيمم، وهاتان فضيلتان لا يمكن الجمع بينهما، وإنما قدمنا التأخير لأنه راجع إلى رعاية الشروط وما رجع إلى رعاية الشروط والأركان أولى مما رجع إلى السنن والآداب، ويدل على ذلك أن المبادر مخير بين المبادرة وتركها والقادر على الماء لا يتخير بينه وبين التيمم لشرفه وعلو رتبته، ولو ظن وجود الماء في آخر الوقت فقولان: أحدهما يؤخر لما ذكرناه. والثاني لا يؤخر لأن المبادرة فضيلة محققة فلا يؤخرها لفضيلة مظنونة، وإن لم يظن ذلك فلا خلاف عند المراوزة أن المبادرة أولى إذ لا معارض لها، والمبادرة إلى الصلاة في الانفراد أفضل من انتظار الجماعة في آخر الوقت، لأن الجماعة ليست شرطا والذي قالوه ظاهر السنة. وقد قال بعض العراقيين في انتظار الجماعة قولين، ومنها أن من أراد التبرع بماء الطهارة على أفضل القربات قدم غسل الميت على غسل الجنب والحائض لأنه آخر عهد الميت، والجنب والحائض يصبران إلى طهارة الماء، ويقدم غسل النجاسة على غسل الحيض والجنابة وهو قريب من الجمع بين الحقوق، لأن غسل النجاسة لا بدل له وغسل الحيض والجنابة له بدل وهو التيمم. وفي تقديم غسل الميت على غسل النجاسة وجهان: أحدهما: يقدم غسل الميت لأنه آخر عهده. والثاني: يقدم غسل النجاسة إذ لا بدل له وييمم الميت وفي غسل الحيض والجنابة أوجه ثالثها التسوية بينهما فتقرع بينهما، فإن طلب أحدهما القسمة والآخر القرعة فمن يجاب؟ وجهان ومنها تقديم غسل الجمعة والغسل من غسل الميت على سائر الأغسال المندوبات، وأيهما أفضل فيه قولان، ومنها أن العري عذر في ترك الجماعة غير مانع للصحة، والانفراد فيه أفضل من الاجتماع على الجديد، ويقدم ستر السوأتين على ستر الفخذين عند العجز، فإن لم يجد إلا ما يكفي أحدهما ففي المقدم منهما اختلاف، ولا خلاف في تقديم ستر النساء على ستر الرجال دفعا لأعظم المفسدتين، ولو انحل إزار المصلي أو كشف الريح سوأته، فإن تعذر رده بطلت

 

ج / 1 ص -144-       صلاته لندرته وعظم المفسدة، وإن رده قريبا لم تبطل، وإن تكشف أو تحرف عن القبلة أو لاقى نجاسة يابسة فإن تعمد بطلت صلاته، وإن لم يتعمد لم تبطل إلا أن يطول الزمان.

الفصل الثاني: فيما يتساوى من حقوق الرب فيتخير فيه العبد
وله أمثلة: منها أنه إذا كان عليه صوم أيام من رمضانين فإنه يتخير بينهما، ومنها أنه إذا كان على الشيخ الفاني فدية من رمضانين فما زاد فإنه يتخير بينهما. وكذلك لو اجتمع عليه زكاة إبل وبقر وغنم وذهب وفضة فإنه يتخير في تقديم أيتها شاء، ومنها أنه إذا لزمه حج أو عمرة بنذر واحد أو بنذور مختلفة فإنه يبدأ بأيهما شاء، متخير بين العمر والحجج، ويرتب العمر على الحجج.

الفصل الثالث: فيما اختلف في تفاوته وتساويه من حقوق الإله لاختلاف في تساوي مصلحته وتفاوتها
وله أمثلة: منها أن العاري هل يصلي قاعدا موميا بالركوع والسجود محافظة على ستر العورة، أو يصلي قائما متما لركوعه وسجوده وقيامه لأنها أركان عظيمة الوقوع في الصلاة فكانت المحافظة عليها أولى من المحافظة على ستر العورة الذي هو شرط مختلف في اشتراطه بين العلماء، أو يتخير بينهما لاستوائهما؟ فيه خلاف والمختار إتمام الركوع والسجود والقيام، ومنها أن من حبس في حبس لا يقدر فيه على مكان طاهر فهل يسجد على النجاسة إتماما للسجود أو يقاربها من غير أن يمسها أو يتخير، فيه الأوجه الماضية، فإن كانت النجاسة رطبة فقد قطع بعضهم بأنه لا يضع جبهته على النجاسة فيستصحب النجاسة في جميع صلاته، ومنها أنه إذ لم يكن له إلا ثوب واحد نجس فهل يصلي عاريا توقيا للنجاسة أو مستترا توقيا لكشف العورة، أو يتخير؟ فيه الأوجه الثلاثة. ومنها أنه إذا كان معه ثوب

 

ج / 1 ص -145-       طاهر وهو في مكان نجس فهل يبسط ثوبه ويصلي عليه توقيا للنجاسة أو يصلي بثوبه على النجاسة توقيا للعري أو يتخير؟ فيها الأوجه الثلاثة.

الفصل الرابع: فيما يقدم من حقوق بعض العباد على بعض لترجح التقديم على التأخير في جلب المصالح ودرء المفاسد
وله أمثلة: منها تقديم نفقة المرء وكسوته وسكناه على نفقة زوجته وأصوله وفصوله وكسوتهم وسكناهم، ومنها تقديم نفقة زوجه وكسوتها وسكناها على نفقة أصوله وفصوله وكسوتهم وسكناهم، ومنها بيع ماله ومسكنه وعبيده وإمائه في نفقة هؤلاء وكسوتهم وسكناهم، ومنها تقديم غرمائه عليه في جميع أمواله في قضاء ديونهم، ومنها تقديمه على غرمائه بنفقته ونفقة عياله وكسوته وكسوة عياله من حين يحجز عليه إلى يوم وفاء دينه. ومنها تقديم المضطر عليه بالطعام والشراب إن لم يكن مضطرا إليهما. ومنها تقديم المرأة على الرجل والمسافر على المقيم في المخاصمات عند الحكام، ومنها تقدم الأفاضل على الأراذل في الولايات، ومنها تقديم الأفضل على الفاضل في المناصب الدينيات، ومنها تقديم ذوي الضرورات على ذوي الحاجات فيما ينفق من الأموال العامة. وكذلك التقديم بالحاجة الماسة على ما دونها من الحاجات، وكذلك التقديم بالسبق في الفتاوى والحكومات، وكذلك التقديم في القصاص بالسبق إلى الجنايات، بأن يبدأ بقصاص الأول فالأول من القتلى أو الجرحى أو مقطوعي الأعضاء، وتقديم القاتل بسلب القتيل على سائر الغزاة. وكذلك التقديم بالسبق إلى المساجد ومقاعد الأسواق واكتساب المباحات، وكذلك تقديم أحد الزوجين على الآخر بالفسخ بعيوب النكاح، وكذلك تقديم حق المرأة على الرجل في الفسخ بالإعسار وفي الطلاق بالإيلاء، وكذلك التقديم بالفسوخ في المعاوضات.

 

ج / 1 ص -146-       الفصل الخامس: فيما يتساوى من حقوق العباد فيتخير فيه المكلف جمعا بين المصلحتين ودفعا للضررين
وله أمثلة: منها النفقات على الزوجات والعبيد والأولاد والآباء والأجداد إذا وسعتهم النفقات، ومنها إذن المرأة لأوليائها في النكاح والإنكاح عند التساوي في الدرجات، ومنها التسوية بين الزوجات في القسم والنفقات، وكذلك تسوية الحكام بين الخصوم في المحاكمات. وكذلك تسوية الشركاء في طلب القسمة وفي الإجبار عليها في المثليات، وكذلك ما يقبل قسمة التعديل في المقومات، وكذلك التسوية بين البائع والمشتري في الإجبار على قبض العوضين. وكذلك تسوية الحكام في قسمة مال المحجوز عليه بالفلس، وكذلك التسوية بين الشركاء في حق الشفعة، وكذلك التسوية بين السابقين إلى شيء من المباحات.

الفصل السادس: فيما يتقدم من حقوق الرب على حقوق عباده إحسانا إليهم في أخراهم
وله أمثلة: منها تقديم الصلوات المفروضات عند ضيق الأوقات على الرفاهية والشراب والطعام وسائر التصرفات، وليس تقديم إنقاذ الغرقى وتخليص الهلكى على الصلوات من هذا الباب وإنما هو من باب تقديم حق الله وحق العباد على الصلوات، ومنها تحمل المشقات في العبادات فإنها مقدمة على قضاء الأوطار والراحات، ومنها تقديم الزكاة على الحاجات، ومنها بذل النفوس والأموال في قتال الكفار مع تعريض النفوس والأعضاء للفوات، ومنها تقديم سراية العتق على صرف الأموال في قضاء الأوطار ودفع الحاجات، وهذا على الحقيقة حق لله وحق للعبد، لكن غلب فيه حق الله إذ لا يسقط بإسقاط العبد، ولا يجوز له تأخيره تغليبا لحق الله عز وجل، ومنها التغرير بالنفوس والأعضاء في قتال من يجب قتاله، فمن يمتنع من أداء حق يجب أداؤه بالمحاربة

 

ج / 1 ص -147-       كقتال البغاة ومانعي الزكاة، ومنها تحريم الوطء في الصوم والحج والعمرة والاعتكاف، ومنها تحريم وطء الحيض في جميع الأحوال إلا في حال إلجاء أو إكراه، ومنها تحريم وطء المتحيرة في جميع الأوقات وتضعيف الصوم عليها حتى يبلغ شهرين فما زاد. وكذلك الصلوات في جميع الأوقات، وكذلك غسل العصائب عند أوقات الصلوات، ومنها تحريم لباس المخيط وتحريم ستر رءوس الرجال ووجوه النساء في الإحرام، وكذلك تحريم قلم الأظفار وإبانة الشعر والطيب والإدهان في الإحرام والتلذذ بالنساء، وتحريم أكل الصيد والاصطياد، ومنها تحريم النكاح والإنكاح في الإحرام، ومنها تحريم الطعام والشراب والجماع على الصوام، ومنها تزكية الشهود فإن الغالب عليها حق الله إذ لا تسقط بإسقاط المشهود عليه، ومنها الأنساب فإنها حق لله ولعباده ولا تسقط بإسقاط مسقطيها، ومنها تحليف المدعى عليه فإن الغالب عليه حق الله، فلو رضي المدعي بأن يجعل القول قول المدعى عليه من غير نكول لم يسمع ذلك منه، ومنها دفع الغرر عن البياعات فإنه اعتبر للحقين، والغالب عليه حق الله بدليل أنه لا يسقط بإسقاط عصبات المزني بها لأن الشرع لو فوض استيفاءه إليهم لما استوفوه خوفا من العار والشنار، بخلاف استيفاء القصاص وحد القذف فإنهما حقان لله ولعباده، غلب عليهما حق العبد بالاستيفاء والإسقاط شفاء لغليل المقذوف والمجني عليه إن كان حيا ولورثته إن كان ميتا، ومن ذلك حد السرقة وجب صيانة للأموال، ولم يفوض إلى المسروق منه لغلبة الرحمة على الملاك أن يقطعوا السارق بسرقة ربع دينار ونظائر هذا كثيرة.

الفصل السابع: فيما يتقدم من حقوق العباد على حقوق الرب رفقا بهم في دنياهم
وله أمثلة: منها التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه حفظا للنفوس والأعضاء، ليقوم المكلف بعد ذلك بوظائف الطاعات والعبادات، ومنها ترك الصلاة والصيام وكل حق يجب لله على الفور بالإلجاء والإكراه، ومنها الأعذار

 

ج / 1 ص -148-       المجوزة لقطع الصلوات، ومنها الأعذار المجوزة لترك الجماعات والجمعات، ومنها الأعذار المجوزة لترك الجهاد، ومنها الانهزام يوم الزحف وهو جائز إذا أربى عدد الكفرة على عدد الإسلام مع التقارب في الصفات، وليس منها وجوب الفرار من الكفار في حق من علم أنه لو ثبت لقتل من غير نكاية في الكفار، فإن ثبوته لا جدوى له إلا كسر قلوب المسلمين وشفاء صدور الكافرين، ومنها التحلل بالإحصار بالعدو وفي الإحصار بغيره من الأعذار خلاف بين العلماء، ومنها تأخير الصيام بالأمراض والأسفار، ومنها قصر الصلوات الثلاث في السفر، ومنها جمع التقديم بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالأسفار والأمطار، ومنها الشرب في أواني الذهب والفضة عند الحاجة ولبس الحرير عند الحكة وفي حال الاضراب.

الفصل الثامن: فيما اختلف فيه من تقديم حقوق الله على حقوق عباده
وله أمثلة: أحدها إذا مات وعليه ديون وزكوات فإن كانت نصب الزكوات باقية قدمت الزكوات لأن تعلقها بالنصب يشبه تعلق الديون بالرهون، وإن كانت تالفة فمن العلماء من قدم الديون نظرا إلى رجحان المصلحة في حقوق العباد، ومنهم من سوى بينهما لتكافؤ المصلحتين عنده، ومنهم من قدم الزكوات نظرا إلى رجحان المصلحة في حقوق الله وهذا هو المختار لوجهين: أحدهما قوله عليه السلام:
"فدين الله أحق بالقضاء"؛ فجعل دين الله أحق بالقضاء من ديون العباد. والثاني: أن الزكوات فيها حق لله وحق للفقراء والمساكين فكانوا أحق بالتقديم، فلا يجوز تقديم واحد على حقين، ولا سيما إذا كان الدين لغني، إذ لا نسبة لحقه إلى حق الفقراء مع ضرورتهم وخصاصتهم، وإذا كان في الكفارة عتق كان أولى بالتقديم لاهتمام الشرع به وكثرة تشوقه إليه، فإنه يكمل مبعضه فيمن أعتق بعض عبده، ويسري إلى أنصباء الشركاء.
فإن قيل: لو وجبت الكفارة في الغلاء الشديد والخوف على النفوس فهل

 

ج / 1 ص -149-       يقدم الطعام فيها على العتق والكسوة أم لا؟ قلنا: أما الكفارة المرتبة فلا يجوز تغيير ترتيبها بل يقدم فيها ما قدمه الله، ويؤخر فيها ما أخره الله، وأما كفارة الأيمان وكفارة الحلق في الحج فيقدم فيها الطعام والنسك على الصيام، وكذلك يقدم الطعام في الكفارة على الإعتاق ولا سيما إذا كان الرقيق عاجزا عن الاكتساب مع غلاء الأسعار، فإن إعتاقه يضر به وبالمساكين، لأنه مسقط لنفقته على مولاه، ومانع للمساكين من الارتفاق بالطعام مع سوء الحال وغلاء الأسعار.
المثال الثاني: اجتماع الحج والديون على الميت فمنهم من يقدم الحج لورود النص في تقديمه بقوله عليه السلام:
"فدين الله أحق بالقضاء" ومنهم من يقدم الدين، ومنهم من يسوي بينهما إن وجد من يحج بالحصة.
المثال الثالث: إذ اجتمع حق سراية العتق مع الديون ففيه نفس الأقوال، والمختار تقديم سراية العتق، لما ذكرناه في اجتماع الديون والزكوات.

فصل: فيما يثاب عليه من الطاعات
الواجبات أقسام: أحدها ما تميز لله بصورته فهذا يثاب عليه مهما قصد إليه وإن لم ينو به القربة كالمعرفة والإيمان والأذان والتسبيح والتقديس وقراءة القرآن. القسم الثاني: ما لم يتميز من الطاعات لله بصورته لكنه شرع قربة لله عز وجل، فهذا لا يثاب عليه إلا بنيتين: إحداهما: نية إيجاد الفعل. والثانية: نية التقرب به إلى الله عز وجل، فإن تجرد عن نية التقرب أثيب على أجزائه التي لا تقف على نية القربة كالتسبيحات والتكبيرات والتهليلات الواقعة في الصلوات الفاسدة.
القسم الثالث: ما شرع للمصالح الدنيوية ولا تتعلق به المصالح الأخروية إلا تبعا كإقباض الحقوق الواجبة، وفروض الكفايات التي تتعلق بها المصالح الدنيوية من الحرث والزرع، والنسج والغزل، والصنائع التي يتوقف عليها بقاء العالم، ودفع ما يجب دفعه وقطع ما يجب قطعه، فهذا لا يؤجر عليه إذا قصد إليه إلا أن ينوي به القربة إلى الله عز وجل، فإن الله لا يقبل من الأعمال

 

ج / 1 ص -150-       إلا ما أريد به وجهه، وإنما الأعمال بالنيات. فكم من مقيم لصور الطاعات ولا أجر له عليها، وكذلك لا يثاب على ترك العصيان إلا إذا قصد بذلك طاعة الديان، فحينئذ يثاب عليه، بل لو قصد الإنسان القربة بوسيلة ليست بقربة لا يثاب على قصده دون فعله، كمن قصد نوم بعض الليل ليتقوى به على قيام بقيته، وكمن قصد الأكل ليتقوى به على الجهاد وغيره من الطاعات، ولو نذر ذلك لم يلزمه، ولو قصد المعصية بما ليس بمعصية لعوقب على قصده دون فعله، مثل أن يقصد وطء جارية أو أكل طعام يظنهما لغيره، فوطئ وأكل مع كونهما ملكا له، فإنه يعاقب على قصده دون فعله.
[قاعدة في الجوابر والزواجر.] الجوابر مشروعة لجلب ما فات من المصالح، والزواجر مشروعة لدرء المفاسد، والغرض من الجوابر جبر ما فات من مصالح حقوق الله وحقوق عباده، ولا يشترط في ذلك أن يكون من وجب عليه الجبر آثما، وكذلك شرع الجبر مع الخطأ والعمد والجهل والعلم والذكر والنسيان، وعلى المجانين والصبيان، بخلاف الزواجر فإن معظمها لا يجب إلا على عاص زجرا له عن المعصية، وقد تجب الزواجر دفعا للمفاسد من غير إثم ولا عدوان، كما في حد الحنفي إذا شرب النبيذ، ورياضة البهائم، وتأديب الصبيان استصلاحا لهم. وقد اختلف في بعض الكفارات هل هي زواجر أم جوابر فمنهم من جعلها زواجر عن العصيان لأن تفويت الأموال وتحميل المشاق رادع زاجر عن الإثم والعدوان، والظاهر أنها جوابر لأنها عبادات وقربات لا تصح إلا بالنيات، وليس التقرب إلى الله زاجرا، بخلاف الحدود والتعزيرات فإنها ليست بقربات إذ ليست فعلا للمزجور، وإنما يفعلها الأئمة ونوابهم. والجوابر تقع في العبادات والأموال والنفوس والأعضاء ومنافع الأعضاء والجراح. والجوابر تقع في العبادات وغيرها وهي أنواع كثيرة. فأما الجوابر المتعلقة بالعبادات فمنها جبر الطهارة بالماء بالطهارة بالتراب، ومنها جبر ما فات

 

ج / 1 ص -151-       بالسهو من ترتيب الصلاة والكف عن الأفعال المفسدة بالسجود، ومنها التشهد الأول والقنوت بالسجود، ومنها جبر ما فات من القبلة وقت المسابقة بجهة المقاتلة، ومنها جبر القبلة بصوب السفر في حق النوافل، ومنها صلاة الجماعة لمن صلى منفردا فإنها جابرة لما فات من فضيلة الجماعة في صلاة الانفراد، ومنها جبر ما بين السنتين من التفاوت في الزكاة بشاتين أو عشرين درهما، وهذا جبر خارج عن قياس الجبر بالقيم، ومنها جبر الصوم في حق الشيخ الكبير بمد من الطعام، وكذلك جبر المرضع والحامل بالفدية لما فاتهما من أداء الصيام، ومنها جبر تأخير قضاء صوم رمضان إلى رمضان آخر عن كل يوم بمد من طعام، ومنها جبر مناهي النسك بالدماء والطعام والصيام. ومنها نقص التمتع والقران بالدم ثم بالصيام، ومنها جبر الرمي وترك الإحرام من المواقيت بالتخيير بين النسك والطعام وصيام ثلاثة أيام. ومنها جبر الصيد المأكول البري في الحرم أو الإحرام بالمثل والطعام والصيام، ومنها جبر الصيد المملوك لمالكه بقيمته وللرب بالمثل أو الطعام أو الصيام، وهذا متلف واحد جبر ببدلين مختلفين، ومنها جبر أشجار الحرم بالنعم والتخير بينها وبين الإطعام والصيام. واعلم أن الصلاة لا تجبر إلا بعمل بدني، والأموال لا تجبر إلا بجابر مالي والنسكان يجبران تارة بعمل بدني وتارة يجبران بجابر مالي فالبدني كالصيام في التمتع والقران وبعض محضورات الإحرام، والمال كذبح النسك والإطعام وإتلاف الصيد، يخير بالهدي أو الطعام أو الصيام، والصوم تارة يجبر بمثله في حق من مات وعليه صيام وتارة يجبر بالمال كما ذكرناه في حق الشيخ الكبير.
وأما الجوابر المتعلقة بالأموال فالأصل رد الحقوق بأعيانها عند الإمكان فإذا ردها كاملة الأوصاف برئ من عهدتها، وإن ردها ناقصة الأوصاف جبر أوصافها بالقيمة، لأن الأوصاف ليست من ذوات الأمثال، وإن ردها ناقصة

 

ج / 1 ص -152-       القيمة موفرة الأوصاف لم يضمن ما نقص قيمتها بانخفاض الأسواق خلافا لأبي ثور، لأنه لم يفت شيئا من أجزائها ولا من أوصافها.
مثاله: إذا غصب حنطة تساوي مائة فردها وهي تساوي عشرة، أو غصب ثوبا يساوي عشرة فرده وهو يساوي خمسة لانحطاط الأسعار لأن الغاية رغبات الناس وهي غير متقومة في الشرع، والصفات والمنافع لا يمكن رد أعيانها فتضمن الصفات عند الفوات بما نقص من قيم الأعيان. وتضمن المنافع بأجور الأمثال إذا تعذر رد الأعيان.
ولها حالان: أحدهما أن تكون من ذوات الأمثال فتجبر بما يماثلها في المالية وجميع الأوصاف الخلقية كضمان البر بالبر، والزيت بالزيت، والسمسم بالسمسم، والشيرج بالشيرج، وإنما يجب جبرها لقيامها من جميع الوجوه وجميع الأعراض؛ فإن الأعيان إذا تساوت في قدر المالية وفي الأوصاف الخلقية فقد حصل الجبر بما يقصده العقلاء من المالية والأوصاف وجميع الأعراض، ولا مبالاة بتفاوت العين إذ لا يتعلق به غرض عاقل بعد الفوات ولا يعدل ذلك إلا في صورتين: إحداهما إذا أدى إلى نقص المالية مثل أن يشرب المضطرون ماء مغصوبا في مظان فقد الماء وغلاء ثمنه وارتفاع قيمته فإنهم يضمنونه إذا حضروا بقيمته في محل عزته كي لا تضيع على مالكه قيمته وماليته، وكذلك نظائره.
المثال الثاني: جبر لبن المصراة بالتمر فإنه مثلي خارج عن جبر الأعيان بالقيم والأمثال، وإنما نحكم بذلك لأنا لا نعلم ما اختلط من لبن البائع بلبن المشتري فتولى الشرع تقديره، إذ لا سبيل لنا إلى تقديره، وجعله بالتمر لموافقته للبن في الاقتيات ولعزة التقدير عند العرب.
فإن قيل: لو جبر المال المقطوع بحله بمثله من مال أكثره حرام فقد فات وصف مقصود في الشرع وعند أولي الألباب، فهل يجبر المستحق على أخذه مع

 

ج / 1 ص -153-       التفاوت الظاهر بين الحلال المحض وبين ما تمكنت بشبهة الحرام؟ قلنا: في هذا نظر واحتمال وظاهر حكمهم أنه يجبر على أخذه كما يجبر رب الدين على أخذ مال اعترف بأنه حرام، وفي هذا أيضا بعد وإشكال.
الحال الثانية: من تعذر رد الأعيان أن تكون العين من ذوات القيم كالشاة والبعير والعبد والفرس فيجبر كل واحد منهما بما يماثله في القيمة والمالية لتعذر جبره بما يماثله في سائر الصفات، فإن أتلفه متلف ليس في يده بأن أحرق دارا ليست في يده، أو قتل عبدا في يد سيده، أو أتلف دابة في يد راكبها فإنه يجبر ذلك بقيمته وقت إتلافه لأنها هي التي فوتها. وإن فات شيء من ذلك تحت يده الضامنة بتفديته أو بتفويته أو بتفويت غيره أو بآفة سماوية فإنه يخير عند الشافعي رحمه الله بقيمته أكبر ما كانت من حين وضع يده إلى حين الفوات تحت يده، لأنه مطالب برده في كل زمان، فلذلك وجب عليه أقصى قيمة. وقال بعض العلماء: يجبر كل شيء بمثله من حيث الخلقة وإن تفاوتت أوصافه، وهذا إن شرط التساوي في المالية فقريب، وإن لم يشترط ذلك فقد أبعد عن الحق ونأى عن الصواب، فإن جبره بأكثر من قيمته ظلم لغاصبه، وجبره بدون قيمته ظلم لمالكه بما نقص من ماليته، ولا يجوز القياس على جبر الصيد بالمثل من النعم، فإن ذلك تعبد حائد عن قواعد الجبر.
وأما صفات الأموال فليست من ذوات الأمثال، والطريق إلى جبرها إذا فاتت بسبب مضمن أو فاتت تحت الأيدي الضامنة أن تقوم العين على أوصاف كمالها، ثم تقوم على أوصاف نقصانها فيجبر التفاوت بين الصفتين بما بين القيمتين مثل إن غصب شابة حسنة فصارت عنده عجوزا شوهاء فيجبر ما فات من صفة شبابها ونضارتها بما بين قيمتيها، وكذلك لو عيب شيئا من الأموال فإنه يجبره بما بين قيمته سليما ومعيبا، وكذلك لو هدم دارا فإنه يجبر تأليفها بما بين قيمتها في حالتي البناء والانهدام، لأن تأليفها ليس من ذوات الأمثال.

 

ج / 1 ص -154-       وقد نص الشافعي رحمه الله على أن الغاصب لو حفر الأرض فنقصت بحفر لزمه أن يرد التراب إلى حفره ليسوي الأرض كما كانت. وهذا قضاء بأن تأليف بعض التراب إلى بعض وتسوية الحفر من ذوات الأمثال، فإنه لو كان من ذوات القيم لأوجب عليه أرش النقصان، وعلى هذا لو رفع خشبة من جدار أو حجرا من بين أحجار ثم ردهما إلى مكانيهما أجزأه ذلك لأنه محصل لمثل الغرض الأول من غير تفاوت، فأشبه تسوية الحفر وطم الآبار تنزيلا لتماثل التأليفات منزلة تماثل المثليات. وعلى هذا لو نقض قصرا مبنيا بالأحجار من غير طين ولا جيار وأمكن أن يرد كل حجر في مكانه من غير تفاوت لم يلزمه سوى ذلك كما لا يلزمه شيء إذا سوى الحفر وطم الآبار وقد ذكر بعض الأصحاب أن الشريك إذا هدم الجدار المشترك أجبر على إعادته، فإن أراد بذلك ما لا يساوي تأليفه فهو صواب، وإن أراد بذلك وجوب الإعادة مع تفاوت التأليف فهو خارج عن قياس الشرع، وإبدال المتلفات لأدائه إلى إبدال الفائت بدونه أو بأفضل منه.
فإن قيل: لو زادت قيمة المتلف بصفة ترغب بمثلها العصاة وتزيد بها القيم عندهم كالكبش النطاح والديك المهراش والغلام الفاتن بحسن صورته وحركته فإن لهؤلاء قيمة زائدة عند أهل الفساد على القيمة المعتبرة عند أهل الصلاح؟ قلنا: لا نظر إلى ذلك لفساد الغرض المتعلق به، كما لا نظر إلى قيمة الزمر والكوبة والصور المحرمة، وإنما العبرة بقيمة ذلك عند أهل الرشد والصلاح كما في كسر الأوثان والصلبان. وأما جبر الأروش في المعاملات فحكمه حكم جبر الصفات يقوم العرض صحيحا ومعيبا ويحسب ما بين القيمتين منسوبا إلى الثمن.
وأما المنافع فضربان: أحدهما منفعة محرمة كمنافع الملاهي والفروج المحرمة واللمس والمس والتقبيل والضم المحرم فلا جبر لهذه المنافع احتقارا لها، كما لا تجبر الأعيان النجسة لحقارتها، فإن استوفى شيئا منها بغير مطاوعة من ذي المنفعة

 

ج / 1 ص -155-       فلا يجبر شيء منها إلا مهر المزني بها كرها أو شبهة، ولا يجبر مثل ذلك في اللواط لأنه لم يتقوم قط فأشبه القبل والعناق.
الضرب الثاني: أن تكون المنفعة مباحة متقومة فتجبر في العقود الفاسدة والصحيحة والفوات تحت الأيدي المبطلة والتفويت بالانتفاع، لأن الشرع قد قومها ونزلها منزلة الأموال فلا فرق بين جبرها بالعقود وجبرها بالتفويت والإتلاف، لأن المنافع هي الغرض الأظهر من جميع الأموال، فمن غصب قرية أو دارا قيمتها في كل سنة ألف درهم وبقيت في يده سبعين سنة ينتفع بها منافع تساوي أضعاف قيمتها ولم تلزمه قيمتها لكان ذلك بعيدا من العدل والإنصاف الذي لم ترد شريعة بمثله ولا بما يقاربه، وهذا كله في منافع الأعيان المملوكة.
وأما منافع الأحرار فيجبر استيفاؤها في العقود الصحيحة والفاسدة وفي غير العقود، وهل تجبر بحبس الحر من غير استيفاء لها؟ فيه خلاف من جهة أن الحر على منافعه فلا يتصور فواتها في يد غيره.
وأما الأبضاع فإنها تجبر في العقود الفاسدة والصحيحة وفي وطء الشبهة ووطء الإكراه بمهور الأمثال، ولا تجبر منافع الأبضاع إلا بعقد صحيح أو فاسد أو تفويت بشبهة أو إكراه، ولا تجبر بالفوات تحت الأيدي العادية، والفرق بين منافع الأبضاع وسائر المنافع الفائتة تحت الأيدي العادية أن القليل من المنافع يجبر بقليل الأجر وحقيرها، وضمان الأبضاع بمهور الأمثال يتحقق بمجرد إيلاج الحشفة في الفرج. فلو جبر بالفوات تحت الأيدي لجبر بما لا يمكن ضبطه من الأموال. فإذا كان مهر المثل مائة ومدة الإيلاج لحظة لطيفة، فأمسكها يوما يشتمل على ألفي لحظة للزمه في اليوم الواحد ألفا دينار بل ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف أو عشرة آلاف، إذ لا يمكن أن يأتي في اليوم الواحد بعشرة آلاف إيلاجة وذلك بعيد من مقاصد الشرع.
وأما النفوس فإنها خارجة عن قيام جبر الأموال والمنافع والأوصاف إذ

 

ج / 1 ص -156-       لا تجبر بأمثالها ولا تختلف جوابرها باختلاف الأوصاف في الحسن والقبح والفضائل والرذائل، وإنما تختلف باختلاف الأديان والذكورة والأنوثة: فيجبر المسلم بمائة من الإبل والمسلمة بخمسين من الإبل، ويجبر اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم، وتجبر اليهودية والنصرانية بسدس دية المسلم، ويجبر المجوسي بثمانمائة درهم والمجوسية بأربعمائة درهم ولا عبرة في جبر الأموال بالأديان فيجبر العبد المجوسي الذي يساوي ألفا بألف، ويجبر العبد المسلم الذي يساوي مائة بمائة، لأن المجبور هو المالية دون الأديان.
وأما الجراح فضربان: أحدهما ما يصل إلى العظام في الوجه أو الرأس وأرشه مقدر لا يزيد ولا ينقص بسبب طوله ولا قصره ولا ضيقه ولا اتساعه وهذا بخلاف الأموال.
الضرب الثاني: ما تجب فيه الحكومة من الجراح وهو على قياس الإتلاف يجبر بأرش النقص من المجني عليه لو كان عبدا سليما ومجنيا عليه وبحسب ما بينهما ولكن بالنسبة إلى الدية دون القيمة. وأما أعضاء بني آدم فإنها تجبر بالدية تارة وبمقدر ينسب إلى الدية تارة، ولو وقع مثله في الدواب لم يجبر بمقدر وجبر بما ينقص من قيمة السالم من الجناية. ولو وجب في الإنسان ديات ثم مات بسرايتها لعادت الديات إلى دية واحدة، ولو فرض مثل ذلك في أعضاء الحيوان ثم مات بالسراية لجبر بقيمته يوم موته ولم يسقط شيئا من أروش أعضائه، لأن الغالب على جنايات الأناس التعبد الذي لا يوقف على معناه، والحكومات وإن كانت على وفق القياس من وجه فهي على خلاف القياس من جهة نسبتها إلى الديات. وقد سوى الشرع بين أرش إبهام اليد اليمنى وخنصرها مع ما بينهما من التفاوت في المنفعة، وكذلك سوى بين أرش إبهام الرجل اليمنى وخنصرها مع التفاوت الظاهر، وكذلك سوى بين أرش أصابع اليدين وأرش أصابع الرجلين مع بقاء معظم منافع الرجلين وفوات معظم منافع اليدين، وأعظم من

 

ج / 1 ص -157-       ذلك في مجانبة القياس التسوية بين أرش إبهام اليد اليمنى وسبابتها وبين أرش خنصر الرجل اليسرى وبنصرها، وكذلك التسوية بين أرش إبهام اليد اليمنى وأرش خنصر الرجل اليسرى، وأعجب منه التسوية بين دية الأذنين ودية اللسان مع تفاوت النفعين، وكذلك التسوية بين دية الشم والعقل ودية البصر والشم، وكذلك التسوية بين الأذنين والرجلين وبينهما وبين اليدين، وكذلك التسوية بين ديات الأسنان والأصابع مع تفاوتهما في المنافع، وكذلك التسوية بين موضحتين إحداهما مستوعبة لجميع الرأس والأخرى بقدر رأس الإبرة، وكذلك التسوية بين الهاشمتين والمنقلتين مع تفاوتهما في الهشم ونقل العظام، وليس ذلك إلا تعبدا لا يقف العباد على معناه. وكذلك خولف القصاص في التماثل الواقع بين الجابر والمجبور في غير الإناس فإن الإنسان يجبر بالإبل وليست من جنسه ولا من جنس أعضائه كما يجبر جزاء الصيد بما ليس من جنسه ولا من جنس أعضائه، والعبد متردد بين البعير والإنسان فتجبر أعضاؤه عند بعض العلماء بما نقص من قيمته نظرا إلى ماليته كما تجبر أعضاء البعير بمثل ذلك، والأصح عند الشافعي رحمه الله أن نسبة أروش جراحة العبد إلى قيمته كنسبة أروش جراح الحر إلى ديته.
وأما الزواجر فنوعان. أحدهما ما هو زاجر عن الإصرار على ذنب حاضر أو مفسدة ملابسة لا إثم على فاعلها وهو ما قصد به دفع المفسدة الموجودة ويسقط باندفاعها.
النوع الثاني: ما يقع زاجرا عن مثل ذنب ماض منصرم أو عن مثل مفسدة ماضية منصرمة ولا يسقط إلا بالاستيفاء وهو ضربان:
أحدهما ما يجب إعلام مستحقه به ليبرأ منه أو يستوفيه وذلك كالقصاص في النفوس والأطراف وكحد القذف فإنه يلزم من وجب عليه أن يعرف مستحقه ليستوفيه أو يعفو عنه.

 

ج / 1 ص -158-       الضرب الثاني: ما الأولى بالمتسبب إليه ستره، كحد الزنا والخمر والسرقة.
والجرائم المزجور عنها ضربان: أحدهما ما يجب زجرها على مرتكبها كالكفارات الزاجرة عن إفساد الصوم وإفساد الحج وإفساد الاعتكاف والطهارة.
الضرب الثاني: ما لا يجب زجرها على فاعلها وهو ثلاثة أضرب:
أحدها ما يجب على الأئمة استيفاؤه إذا ثبت عندهم بالحجج الشرعية كحد الشرب والسرقة والمحاربة والزنا
الضرب الثاني: ما يتخير فيه مستوفيه بين استيفائه وبين العفو عنه والعفو أفضل كالقصاص في النفوس والأعضاء، وكحد القذف عند الشافعي رحمه الله.
الضرب الثالث: التعزيرات المفوضات إلى الأئمة الحكام، فإن كانت للجنايات على حقوق الناس لم يجز للأئمة والحكام وإسقاطها إذا طلبها مستحقها وإن كانت لله فاستيفاؤها مبني على الأصلح فإن كان الأصلح استيفاءها وجب استيفاؤها، وإن كان الأصلح درأها وجب درؤها.
فأما الزواجر عن الإضرار فله أمثلة. أحدها قتل تارك الصلاة حثا عليها فإن أتى بها تركناه.
المثال الثاني: الزجر عن مفسدة البغاة فإن رجعوا إلى الطاعة كففنا عن قتلهم وقتالهم وهذا زجر عن مفسدة لا إثم فيه.
المثال الثالث: ضرب الصبيان على ترك الصلاة فإن صلوا تركناهم وهو أيضا زجر عن مفسدة لا إثم فيها.
المثال الرابع: تحريم المطلقة ثلاثا على من طلقها زجرا له عن تكرير أذيتها بالطلاق، وهذا زجر عما ليست مفسدته محرمة.
المثال الخامس: قتال الممتنعين من أداء الحقوق كالممتنعين عن أداء الزكاة وغيرها بالحرب، فإن أدوا الحقوق سقط قتالهم.
المثال السادس: زجر الناظر إلى الحرم في الدور برمي عينه، فإن انكف سقط رميها.

 

ج / 1 ص -159-       المثال السابع: قتال الصوال ما داموا مقبلين على الصيال، فإن انكفوا حرم قتلهم وقتالهم. المثال الثامن: قتال المشركين إلى أن يسلموا.
المثال التاسع: قتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا أو يؤدوا الجزية.
المثال العاشر: ضرب الرجل امرأته الناشزة إلى أن ترجع عن النشوز.
المثال الحادي عشر: قتال الفئتين المقتتلتين عصبية أو على الدنيا إلى أن تفيء إلى أمر الله. المثال الثاني عشر: قتال الداخل إلى الدور عند عدم المغيث إلى أن يولي خارجا.
المثال الثالث عشر: حبس الممتنعين من أداء الحقوق إلى أن يبذلوها.
المثال الرابع عشر: قتال الخوارج إلى أن يرجعوا إلى رأي الجماعة والله أعلم.
وأما الزواجر عما تصرم من الجرائم التي لا تسقط عقوبتها إلا باستيفائها أو بعفو مستحقها فله أمثلة:
أحدها: أن يقذف رجلا محصنا قذفا موجبا للحد فيجب عليه إعلامه ليستوفيه أو يعفو عنه، وإن أقر بذلك عند الحكام فهل يجب على الحاكم إعلام مستحقه به؟ فيه خلاف. والمختار إيجابه لقوله صلى الله عليه وسلم:
"واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها"، لم يقل ذلك صلى الله عليه وسلم حرصا منه على إقامة حد الزنا وإنما ذكر ذلك نصحا للمقذوفة حتى إذا كانت عفيفة تخيرت بين حد القذف والعفو عنه، وإن اعترفت بالزنا رجمها.
المثال الثاني: القصاص في النفوس والأطراف يجب على الجاني إعلام مستحقه به ليستوفيه أو يعفو عنه، وإن وقع ذلك عند الحاكم فينبغي أن يخرج على الخلاف في وجوب الإعلام.
المثال الثالث: إذا سرق مال إنسان سرقة موجبة للقطع لم يجب عليه الإعلام

 

ج / 1 ص -160-       بالسرقة بل يخبر مالك السرقة بأن له عليه مالا بقدر المسروق إن كان تالفا ليستوفيه أو يبرئه ولا يتعرض لذكر السرقة لأن زاجرها حد من حدود الله، فالأولى بمرتكبها أن يسترها على نفسه، وإن كان المسروق باقيا رده، أو وكل من يرده من غير اعتراف بسرقة، ولا يوكل مع القدرة على الرد بنفسه، إذ ليس له رد المغصوب إلى غير مالكه إلا إلى الحاكم وأمثاله ممن يجوز له انتزاع المغصوب من الغاصب.
المثال الرابع: حد قطع الطريق إن محصناه لله فهو كحد السرقة يجبر بالمال لمستحقه ولا يذكر سببه سترا على نفسه، وإن جعلنا فيه مع تحتمه حقا للآدمي وجب إعلامه به ليستوفيه أو يتركه فيستوفيه الإمام. وأما ما الأولى بالتسبب إليه ستر سببه على نفسه، فحكمه حكم الزنا والشرب والسرقة والأولى بفاعلها سترها على نفسه، وإن أظهرها للأئمة ليستوفوها جاز ذلك، وإن كان معلنا بكبيرة لما يبتنى على إظهارها من إقامة شعار الدين وزجر المفسدين عن الفساد، ويكره للمذنب المجرم أن يكشف عيوبه ويجهر بذنوبه لقوله صلى الله عليه وسلم:
"وكل أمتي معافى إلا المجاهر الذي يبيت يعصي ربه ثم يصبح يقول: فعلت كذا كذا فيفضح نفسه بعد أن ستره ربه".
وأما الشهود على هذه الجرائم فإن تعلق بها حقوق للعباد لزمهم أن يشهدوا بها وأن يعرفوا بها أربابها، وإن كانت زواجرها حقا محضا لله فإن كانت المصلحة في إقامة الشهادة بها فيشهدوا بها، مثل أن يطلعوا من إنسان على تكرر الزنا والسرقة والإدمان على شرب الخمور وإتيان الذكور، فالأولى أن يشهدوا عليه دفعا لهذه المفاسد، وإن كانت المصلحة في الستر عليه مثل زلة من هذه الزلات تقع ندرة من ذوي الهيئات ثم يقلع عنها ويتوب منها فالأولى أن لا يشهدوا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لضرار في حق ماعز: "هلا سترته بثوبك يا ضرار؟" وجاء في حديث: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم" وصح أنه صلى الله عليه وسلم

 

ج / 1 ص -161-       قال: "ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة".
فإن قيل: إذا علم الشهود أن الزاني قد تاب من الزنا فصلحت حاله بحيث يجوز لهم تزكيته فهل لهم أن يشهدوا عليه بالزنا بعد ذلك؟ قلنا: إن أسقطنا الحد بالتوبة لم تجز الشهادة، وإن بقينا الحد مع التوبة جازت الشهادة، والأولى كتمانها. فإن قيل: ما معنى قول الفقهاء وجب عليه التعزير والحد والقصاص؟ قلنا: هو مجاز عن وجوب تمكينه من استيفاء العقوبات لإجماع العلماء على أنه لا يجب على الجاني أن يقتل نفسه، ولا على الجارح أن يجرح نفسه ولا على الزاني أن يجلد نفسه ولا أن يرجمها، وكذلك المعزر، وقد صرح الرب بإيجاب أداء الأمانات إلى أهلها، وأداؤها عبارة عن تمكين أهلها من قبضها وأخذها، فكذلك وجوب العقوبات على ذوي الجرائم.
والحقوق في الشرع ضربان: أحدهما ما يجب التمكين من قبضه وأخذه كأمانات الرب وأمانات عباده، فأما أمانات الرب فكاستئمانه الآباء والأوصياء على اليتامى، وكاستئمانه من أطارت إليه الريح ثوبا لغيره وكاستئمانه من كانت في يده أمانة لإنسان فمات ربها وانتقلت إلى ورثته مع بقائها في يد الأمين، فإنها تكون أمانة في يده لورثته فيجب أن يعلم بها أربابها إن لم يكونوا علموا بها، ثم لا يجب عليه بعد الإعلام بها إلا التمكين من قبضها. وأما أمانات الناس فكالودائع ولا يجب فيها إلا التمكين من قبضها.
الضرب الثاني من الحقوق: ما تكون مؤنة إقباضه على مقبضه كالأثمان والعواري والغصوب، وقد اختلف فيما يجب على الجناة فقال بعضهم: يجب عليهم التمكين كما في الأمانات الشرعية، وقال آخرون: يجب عليهم الإقباض والتسليم كما في العواري والغصوب والديون والأثمان، وتظهر فائدة هذا الخلاف في أجرة الجلاد والمستوفي للقصاص.
فإن أوجبنا التمكين لم يلزم الجاني أجرة المستوفي، وإن أوجبنا التسليم وجب

 

ج / 1 ص -162-       أجرة المستوفي على الجاني كما تجب أجرة الكيال والوزان على من عليه الدين.
[فائدة] سجدتا السهو جبر من وجه وزجر للشيطان عن الوسواس في الصلاة من وجه؛ لما في السجدتين من ترغيمه، فإن الإنسان إذا سجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار. فإن قيل: محرمات الحج تسع من تعمدها زجر عنها بالكفارة إلا النكاح والإنكاح فإنه يزجر عنهما بالتعزير دون التكفير فما الفرق بينهما؟
فالجواب أن الناكح والمنكح لم يحصلا على غرضهما من المحرم الذي ارتكباه بخلاف من ارتكب سائر المحظورات فإنه يحصل على الأغراض التي حرمت لأجلها، فإن الغرض المقصود من الطيب والدهن واللباس وستر الرأس والاستمتاع بالجماع وبما دون الجماع، وأكل الصيد وحلق الشعر وتقليم الأظفار حاصل لمن تعاطى ذلك، فزجر بالكفارة فطاما له عن السعي في تحصيل هذه اللذات، والنكاح والإنكاح كلام لا يترتب عليه شيء من الأغراض ولا يصح وما جازت مباشرته من هذه المحظورات لعذر كانت الكفارة جبرا لا زجرا عند من جعل الكفارة زواجر، ومن لم يجعلها زواجر جعلها جوابر لما نقص من العبادات، ومهما جاز الإقدام على شيء من هذه المحظورات وجب كأكل المحرم المضطر الصيد فليست كفارة زاجرة بل هي جابرة لا غير، إذ لا زجر عما أوجبه الله تعالى أو أذن فيه، وإنما الزجر عن المفاسد المحققات.
فإن قيل: كيف زجر الحنفي بالحد عن شرب النبيذ مع إباحته؟ قلنا: ليس بمباح وإنما يخطئ في شربه، وقد عفا الشرع عن المفاسد الواقعة من المخطئين الجاهلين دون العامدين العارفين.
فإن قيل: إذا قلنا بتصويب المجتهدين فهلا كان شرب الحنفي مباحا؟ قلنا: من صوب المجتهدين شرط في ذلك أن يكون مذهب الخصم مستندا إلى دليل ينقض الحكم المستند به إليه.

 

ج / 1 ص -163-       فإن قيل: ما مفاسد الجرائم التي شرعت عنها الزواجر؟ قلنا: أما القصاص في الأرواح فزاجر عن إزهاق النفوس وقطع الحياة وهي من أعلى المفاسد. وأما القصاص في الأعضاء ومنافعها فزاجر عن تفويت الانتفاع بالأعضاء في الطاعات والعبادات والمعاملات والأغراض التي خلقت هذه المنافع والأطراف لأجلها، والقصاص مشتمل على حق لله وحق للعبد، ولذلك لا يباح بالإباحة لما فيه من حق الله، ولا يؤخذ فيه عضو خسيس بعضو نفيس، وإن أذن المجني عليه وغلب فيه حق العبد فسقط بإسقاطه لأن الغالب من المجني عليه ومن ورثته استيفاؤه فلا يؤدي تفويضه إليهم إلى تحقق المفاسد لأنها تندفع بتشفيهم في الغالب.
وأما حد الزنا فزاجر عن مفاسد الزنا وعن مفاسد ما فيه، من مفاسد اختلاط المياه واشتباه الأنساب وإرغام أنف العصبات والأقارب، ولم يفوضه الشرع إلى من تأذى به من أولياء المزني بها، لأنه لو فوضه إليهم لما استوفوه غالبا خوفا من العار والافتضاح.
وأما حد السرقة فزاجر عن مفسدة تفويت الأموال التي يتوسل بها إلى مصالح الدنيا والدين، ويتقرب بها إلى رب العالمين. ولم يفوض الشرع استيفاءه إلى المسروق منه لغلبة الرقة في معظم الناس على السارقين، فلو فوض إليهم لما استوفوه رقة وحنوا وشفقة على السارقين.
فإن قيل: كيف تقطع يد ديتها خمسون من الإبل أو خمسمائة دينار بربع دينار أو بعشرة دراهم كما قال أبو حنيفة رحمه الله؟ قلنا: ليس الزجر عما أخذ وإنما الزجر عن تكرير ما لا يتناهى من السرقة المفوتة للأموال الكثيرة التي لا ضابط لها ولو شرط الشرع في نصاب السرقة مالا خطيرا لضاعت أموال الفقراء الناقصة عن نصاب الخطير، وفي ذلك مفسدة عامة للفقراء.
وأما حد الخمر فزاجر عن شرب كثير المفسدة للعقل الذي هو أشرف

 

ج / 1 ص -164-       المخلوقات والله لا يحب الفساد في شيء حقير، فما الظن بإفساد العقل الذي هو أخطر من كل خطير؟ ولذلك أوجب الحد في شرب اليسير منه لكونه وسيلة إلى شرب الكثير.
فإن قيل: هلا وجب الحد في إزالة عقله بغير سكر كالبنج وغيره؟
فالجواب: أن إفساد العقل بذلك في غاية الندور إذ ليس فيه تفريح ولا إطراب يحثان على تعاطيه، بخلاف الخمر والنبيذ فإن ما فيهما من التفريح والإطراب حاث على شربهما فغلبت لذلك مفسدتهما فوجب الحد لغلبة المفسدة، ولم تجب في البنج ونحوه لندرة الإفساد به.
وأما حد قطع الطريق فزاجر عن أخذ الأموال بالقطع وعن الجناية على النفوس والأعضاء بالقصاص، وإنما تحتم كما تحتم حد الزنا من جهة أنهم ضموا إلى جناياتهم إخافة السبيل في حق كل مجتاز بها، بخلاف من قتل إنسانا أو سرق ماله في خفية.
وأما حد القذف فزاجر عن هتك الأعراض بالتعبير بالزنا واللواط وهو مشتمل على حق الله عز وجل إذ لا يباح بالإباحة، وعلى حق الآدمي للآدمي لدرء تغيره بالقذف، وقد غلب بعض العلماء فيه حق الله عز وجل فلم يسقطه بإسقاط المقذوف، وغلب الشافعي رحمه الله فيه حق الآدمي فأسقطه بإسقاطه كالقصاص، ولم أقف على المفسدة المقتضية لرجم الثيب الزاني وقد قيل فيها ما لا أرتضيه. وكذلك المفسدة المقتضية لجعل الربا من الكبائر لم أقف فيها على ما يعتمد على مثله، فإن كونه مطعوما أو قيمة للأشياء أو مقدرا لا يقتضي مفسدة عظيمة تكون من الكبائر لأجلها، ولا يصح التعليل بأنه لشرفه حرم فيه ربا الفضل، وربا النساء، فإن من باع ألف دينار بدرهم واحد صح بيعه، ومن باع كر شعير بألف كر حنطة، أو باع مد شعير بألف مد من حنطة، أو باع مدا من حنطة بمثله، أو دينارا بمثله، أو درهما بمثله وأجل ذلك لحظة فإن البيع

 

ج / 1 ص -165-       يفسد مع أنه لا يلوح في مثل هذه الصور معنى يصار إليه ولا يعتمد.
وأما التعزيرات فزواجر عن ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات، وهي متفاوتة بتفاوت الذنوب في القبح والإيذاء، وقد قدرها بعض العلماء بعشرة سياط لقوله عليه السلام:
"لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله"، وقدرها بعضهم بما نقص عن أدنى الحدود، وقدرها آخرون بغير ذلك.
فإن قيل: يعزر في اليمين الغموس مع إيجاد الكفارة أم لا؟ قلنا يعزر لجرأته على ربه، والكفارة ما وجبت لكون الحالف مجترئا وإنما وجبت بسبب مخالفة موجب اليمين وإن كان مباحا أو مندوبا بدليل أنها تجب حيث لا عصيان.
فإن قيل: كيف يزدجر الجلد القوي الذي عم فساده وعظم عناده بعشرة أسواط؟ قلنا: يضم إليه الحبس الطويل الذي يرجى الازدجار بمثله وللإمام صلبه مبالغة في زجره.
فإن قيل من آذى مسلما بشيء من ضروب الأذى فقد عصى الله بمخالفته وآذى المسلم بانتهاك حرمته، فإذا عفا المستحق عن عقوبة ذلك الأذى أو عن حده فهل تسقط عقوبة الله في مخالفته؟ قلنا هذا مما اختلف فيه. فمنهم من أسقط عقوبته تبعا لسقوط حق الآدمي، ومنهم من أوجبها زجرا عن الجرأة على انتهاك حرمة الله تعالى. وأما كفارة قتل الخطأ فوجبت جبرا لما فوت من حق الله تعالى، كما وجبت الدية جبرا لما فات من حق العبد، وكذلك وجب القصاص في قتل العمد زجرا عن تفويت حق العبد وتحصيلا لاستمرار الحياة بدليل قوله تعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، والتقدير ولكم في خوف القصاص حياة، فإن الجاني إذا عرف أنه يقتل إذا جنى خاف القصاص فكف عن القتل فاستمرت حياته وحياة المجني عليه، ووجبت الكفارة عند الشافعي زجرا عن تفويت حق الرب.