قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف
ج / 1 ص -129-
فصل: في تفاوت فضل الإسرار والإعلان بالطاعات
إن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء
أم لا؟ فالجواب: إن الطاعات ثلاثة أضرب: أحدها ما شرع مجهورا
به كالأذان والإقامة والتكبير، والجهر بالقراءة في الصلاة،
والخطب الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة
الجمعة والجماعات والأعياد، والجهاد، وعيادة المرضى، وتشييع
الأموات، فهذا لا يمكن إخفاؤه. فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه
في دفعه إلى أن تحضره نية إخلاصه، فيأتي به مخلصا كما شرع،
فيحصل على أجر ذلك الفعل وعلى أجر المجاهد، لما فيه من المصلحة
المتعدية.
الثاني: ما يكون إسراره خيرا من إعلانه كإسرار القراءة في
الصلاة وإسرار
أذكارها، فهذا إسراره خير من إعلانه.
الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أخرى كالصدقات، فإن خاف على نفسه
الرياء أو عرف ذلك من عادته، كان الإخفاء أفضل من الإبداء،
لقوله تعالى:
{وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، ومن أمن الرياء فله حالان: إحداهما ألا يكون ممن يقتدى به -
فإخفاؤها أفضل، إذ لا يأمن من الرياء عند الإظهار، وإن كان ممن
يقتدى به كان الإبداء أولى لما فيه من سد خلة الفقراء مع مصلحة
الاقتداء، فيكون قد نفع الفقراء بصدقته وبتسببه إلى تصدق
الأغنياء عليهم وقد نفع الأغنياء بتسببه إلى اقتدائهم به في
نفع الفقراء.
[قاعدة في بيان الحقوق الخالصة والمركبة] جلب
المصالح ودرء المفاسد ضربان: أحدهما ما يتعلق بحقوق الخالق
كالطاعة والإيمان، وترك الكفر والعصيان وحقوق الله ثلاثة
أقسام: أحدها ما هو خالص لله كالمعارف والأحوال المبنية عليها،
والإيمان بما يجب الإيمان به، كالإيمان بإرسال الرسل، وإنزال
الكتب، وبما تضمنته الشرائع من الأحكام، وبالحشر والنشر
والثواب والعقاب.
الثاني: ما يتركب من حقوق الله وحقوق عباده، كالزكاة والصدقات
والكفارات والأموال المندوبات، والضحايا والهدايا والوصايا
والأوقاف، فهذه قربة إلى الله من وجه، ونفع لعباده من وجه،
والغرض الأظهر منها نفع عباده وإصلاحهم بما وجب من ذلك، أو ندب
إليه، فإنه قربة لباذليه ورفق لآخذيه.
الثالث: ما يتركب من حقوق الله وحقوق رسوله صلى الله عليه وسلم
وحقوق المكلف والعباد، أو يشتمل على الحقوق الثلاثة.
ولذلك أمثلة: أحدها الأذان فيه الحقوق الثلاثة أما حق الله
تعالى فالتكبيرات والشهادة بالوحدانية. وأما حق الرسول صلى
الله عليه وسلم فالشهادة له بالرسالة، وأما حق العباد
فبالإرشاد إلى تعريف دخول الأوقات في حق النساء والمنفردين،
والدعاء إلى الجماعات في حق المقتدي. وكذلك الإقامة، حق الله
منها التكبيرات
ج / 1 ص -130-
والشهادة بالوحدانية، وحق الرسول صلى الله عليه وسلم الشهادة
له بالرسالة، وحق العباد إعلامهم بقيام الصلاة وحضور الإمام.
فإن قيل: هل الأذان أفضل من الإقامة لاشتماله على هذه الفوائد؟
قلنا: ذهب بعضهم إلى أنه أفضل لهذه الفوائد، ولأن عمله أكثر من
عمل الإمام، فإن الإمام لم يرد في صلاته شيئا سوى الجهر
بالأذكار المعروفة وبانتقاله من ركن إلى ركن، ومنهم من فضل
الإمامة لتسبب فضل الإمام إلى إفادة فضل الجماعة لنفسه
وللحاضرين. وصلاة الجماعة تزيد على صلاة المنفرد بخمس وعشرين
درجة، أو سبع وعشرين درجة على ما جاءت به السنة، ولا يوجد مثل
هذا في الأذان. فإن قيل: هل يؤجر المؤتم على إفادته الإمام فضل
الجماعة؟ قلنا: نعم لقوله عليه السلام:
"من يتصدق على هذا ؟".
[فائدة]: مقصود الجماعة
ضربان: أحدهما: الاقتداء والثاني: الاجتماع على الاقتداء،
وإنما شرع الاجتماع على الاقتداء لأن الاجتماع على التعظيم
تعظيم ثان، ألا ترى أن الخدم والأجناد إذا اجتمعوا وكثروا كان
اجتماعهم أوقر في النفوس وأعظم في الصدور، ولو سار الملك وهم
متفرقون، أو جلس وهم متباعدون لم يحصل من التوقير والتعظيم ما
يحصل من اجتماعهم. وكذلك اختلف الناس في التباعد المانع من
الاجتماع.
المثال الثاني: الصلاة وفيها الحقوق الثلاثة أما حق الله
فالنيات والتكبيرات والتسبيحات والتحيات والقيام والقعود
والركوع والسجود. وكذلك توابعها من التورك والافتراش والكف عن
الكلام وكثير الأفعال. وأما حق الرسول صلى الله عليه وسلم
فأضرب - أحدها: التسليم عليه في آخر الصلاة مع الترحم والتبرك.
الثاني: الصلاة عليه في التشهد الأخير، وفي الأول خلاف.
الثالث: الشهادة له بالرسالة. وأما حق المكلف على نفسه فكدعائه
في الفاتحة بالهداية والإعانة على العبادة في الفاتحة. وكذلك
دعاء القنوت، وكذلك التسليم على عباد الله الصالحين، وكذلك
الصلاة على آل الرسول عليه السلام.
ج / 1 ص -131-
وكذلك التسليمات الأخريات على الحاضرين، ولما اشتملت الصلاة
على هذه الحقوق كانت من أفضل عمل العاملين.
الرابع: الجهاد وفيه الحقوق الثلاثة: أما حق الله فكمحو الكفر
وإزالته من قلوب الكافرين ومن ألسنتهم، وكتخريب كنائسهم وكسر
صلبانهم وأوثانهم. وأما حق الرسول عليه السلام وحق المسلمين
فالذب عن أنفسهم وأموالهم وحرمهم وأطفالهم - وما يحصل لهم من
الأخماس. وأما حقه على نفسه فكدفعه عن نفسه وحرمه وأطفاله وما
يأخذ من سهام الغنيمة وأسلاب المشركين.
الخامس: كفارة الظهار فيها حق محض لله وهو الصيام، وفيها حق
للمظاهر وهو تحليل الوطء، وفيها حق الأرقاء بالإعتاق،
وللمساكين بالإطعام عند العجز عن الصيام.
الضرب الثاني: فيما يتعلق بحقوق المخلوقين من جلب مصالح ودرء
مفاسد وهو ثلاثة أقسام:
أحدها: حقوق المكلف على نفسه كتقديمه نفسه بالكساء والمساكن
والنفقات، وكذلك حقوقه في النوم والإفطار، وترك الترهب.
الثاني: حقوق بعض المكلفين على بعض، وضابطها جلب كل مصلحة
واجبة أو مندوبة، ودرء كل مفسدة محرمة أو مكروهة. وهي منقسمة
إلى فرض عين وفرض كفاية، وسنة عين وسنة كفاية، ومنها ما اختلف
في وجوبه وندبه في كونه فرض كفاية أو فرض عين. والشريعة طافحة
بذلك ويدل على ذلك جميعا قوله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى
الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}،
وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل
المصالح وقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي
الْقُرْبَى}،
وهذا أمر بالمصالح وأسبابها، ونهي عن الفحشاء والمنكر والبغي،
وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها. والآيات الآمرة بالإصلاح
والزاجرة عن الإفساد كثيرة، وهي مشتملة على
ج / 1 ص -132-
الأمر المتعلق بحقوق الله وحقوق عباده، وعن النهي على الإفساد
المتعلق بحقوق الله وحقوق عباده. فمن الأدلة المشتملة على
الأمر قوله تعالى:
{وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ}، وقوله:
{إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}، وقوله:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا
كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ}، وقوله:
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}
وقوله عليه السلام: "كل معروف
صدقة"، وقوله:
"الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه" وقوله:
"من يسر على معسر يسر الله عليه، ومن ستر مسلما ستر الله
عليه"، وقوله:
"إن الله كتب الإحسان على كل شيء"،
وقوله:
"في كل كبدة رطبة أجر"، "وأمر برد الخيط من الغلول". وكذلك قوله
عليه السلام: "تصدقوا ولو بشق تمرة، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة"، وقوله:
"لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط وجهك
إليه". وفي رواية:
"ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"،
وقوله:
"لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة"، وأتم منه قوله تعالى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ}، وهذا حث على جلب المصالح ودرئها، دقها وجلها، قليلها وكثيرها. ومن
الأدلة المشتملة على النهي عن الإفساد قوله تعالى:
{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا}، وقوله:
{وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ}،
وقوله:
{زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ}،
وقوله تعالى:
{تِلْكَ
الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ
عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً}،
وقوله تعالى
{مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}
وأعم منه قوله تعالى:
{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}. وهذا زجر عن المفاسد كلها، قليلها وكثيرها، لأن أسبابها من جملة
الشرور. وقد نص عليه السلام على النهي عن غصب قضيب من أراك،
وقال:
"إياكم ومحراب الذنوب". والكتاب والسنة يشتملان على الأمر بالمصالح كلها دقها وجلها، وعلى
النهي عن المفاسد كلها، دقها وجلها. فمنه يدل بالوعد والوعيد،
إذ لا يعد
ج / 1 ص -133-
الثواب إلا على فعل مأمور، ولا يوعد بالعقاب إلا على منهي عنه،
ولو لم يكن في مخالفة الرب إلا ذل المعصية في الدنيا، وخجلة
الوقوف بين يديه في العقبى، مع العفو بعد ذلك زاجرا كافيا،
فكيف بمن يعاقب بعد ذلك بالعذاب وحرمان الثواب؟ ولحقوق بعض
المكلفين على بعض أمثلة كثيرة: منها التسليم عند القدوم،
وتشميت العاطس، وعيادة المرضى، ومنها الإعانة على البر والتقوى
وعلى كل مباح، ومنها ما يجب على الإنسان من حقوق المعاملات،
ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف
سعي في جلب مصالح المأمور به، والنهي عن المنكر، سعي في درء
مفاسد المنهى عنه، وهذا هو النصح لكل مسلم، وقد بايع صلى الله
عليه وسلم على النصح لكل مسلم، ومنها تحمل الشهادة وأداؤها عند
الحكام، ومنها حكم الحكام والأئمة والولاة بإنصاف المظلومين من
الظالمين، وتوفير الحقوق على المستحقين العاجزين، وصرف الدعاء
عن رب العالمين على ما ذكره عمر أمير المؤمنين، إذ قال في أول
خطبة خطبها: أيها الناس إن الله قد كلفني أن أصرف عنه الدعاء.
وقال أبو بكر رضي الله عنه في أول خطبة خطبها بمحضر من
المهاجرين والأنصار: أيها الناس إن قويكم عندنا لضعيف حتى نأخذ
الحق منه، وإن ضعيفكم عندنا لقوي حتى نأخذ له الحق ومعنى صرف
الدعاء عن الله أن ينصف المظلومين من الظالمين ولا يحوجهم أن
يسألوا الله ذلك. وكذلك أن يدفع حاجات الناس وضروراتهم بحيث لا
يحوجهم أن يطلبوا ذلك من رب العالمين، فما أفصح هذه الكلمة وما
أجمعها لمعظم حقوق المسلمين، ومن ذلك حفظ أموال الأيتام
والمجانين والعاجزين والغائبين ومنها التقاط الأموال الضائعة
والأطفال المهملين، ومنها الضحايا والهدايا ومنها اصطناع
المعروف كله دقه وجله، ومنها إنظار المعسرين وإبراء المقترين،
ومنها حقوق نكاح النساء على الأولياء، وحقوق كل واحد من
الزوجين على صاحبه، ومنها القسم بين المتنازعين، ومنها الرأفة
والرحمة إلا في استيفاء
ج / 1 ص -134-
العقوبات المشروعات، ومنها الإحسان إلى الرقيق بأن لا يكلفه ما
لا يطيق، وأن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، وأن يكرم من
يستحق الإكرام من العبيد والإماء، ولا يفرق بين الوالدة
وولدها، ولا بين الأخت وأختها، وعلى الأرقاء القيام بحقوق
ساداتهم التي حث الشرع عليها وندب إليها، ومنها ستر الفضائح
والكف عن إظهار القبائح، ومنها الكف عن الشتم والظلم، ومنها
جرح الشهود وتعديلهم وتفطير الصائمين وإبرار المقسمين، ومنها
كسوة العراة وفك العناة، ومنها القرض والضمان والحجر بالإفلاس
على المرضى فيما زاد على الثلث، ومنها إعانة القضاة والولاة
وأئمة المسلمين على ما تولوه من القيام بتحصيل الرشاد ودفع
الفساد وحفظ البلاد وتجنيد الأجناد ومنع المفسدين والمعاندين.
ومنها نصح المستنصحين بل نصح جميع المسلمين، ومنها بر الوالدين
وإسعاف القاصدين، ومنها الإنكار على الناس باليد، فإن عجز عن
ذلك فباللسان، أو يكره ذلك بقلبه إن عجز عن اليد واللسان، وذلك
أضعف الإيمان، ومنها الإنفاق على الأقارب كالآباء والأمهات،
والبنين والبنات، والأجداد والجدات، إذ كانوا عاجزين، ومنها
حضانة الأطفال وتربيتهم وتأديبهم وتعليمهم حسن الكلام، والصلاة
والصيام إذا صلحوا لذلك، والسعي في مصالح العاجلة والآجلة،
والمبالغة في حفظ أموالهم ودفع الأذى عنهم وجلب الأصلح فالأصلح
لهم، ودرء الأفسد فالأفسد عنهم، وإذا وجب هذا في حق الأصاغر
والأطفال فما الظن بما يلزم القيام به من مصالح المسلمين؛
ومنها حسن الصحبة وكرم العشرة، وكف الأذى وبذل الندى، وإكرام
الضيفان والإحسان إلى الجيران، وصلة الأرحام وإطعام الطعام
وإفشاء السلام، ومنها العدل في الأقوال والأفعال، والإحسان
والإجمال، ومنها الوفاء بالعقود والعهود، وإنجاز الوعود،
وإكرام الوفود، ومنها الإصلاح بين الناس إذا اقتتلوا واختلفوا
وامتنعوا من الحقوق الواجبة، أو بغوا على الأئمة أو اجترءوا
على الأئمة. ومنها
ج / 1 ص -135-
إرشاد الحيارى، وتزويج الأيامى وود الأصدقاء، وإكرام الأرقاء
والبشاشة عند اللقاء، ومنها أن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن
مسيئهم، وبلغ من ذلك أن يصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن
ظلمه، ويحسن إلى من أساء إليه، ومنها أن ينزل الناس منازلهم
كتعظيم الأنبياء، وإكرام الأتقياء، واحترام الأولياء، وتوقير
العلماء، ورحمة الضعفاء، ومنها أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه وأن
لا يبيع على بيعه، ولا يسوم على سومه، ولا يشتري على شرائه ولا
يخطب على خطبته، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه، ولا يظلمه ولا
يشتمه، ولا يبرمه، ولا يخجله ولا يرحله ولا يعجله، ولا يحقره
ولا يخفره؛ ومنها الإيفاء إذا وفى، والإغضاء إذا استوفى، ومنها
أن يسامح بحقه، وأن يعفو عما يستحقه على الناس من قصاص أو حد
أو تعزير، وأن يغض بصره عن العورات، ويجيب الدعوات، ويقيل
العثرات، ويغفر الزلات، ويسد الخلات. وأن يتصدق على الناس
بماله وجاهه وجميع ما يقدر عليه من المعروف والمبرات، ومنها
ألا يحاسدهم ولا يقاطعهم ولا يدابرهم ولا يتكبر عليهم ولا يسيء
إليهم، وأن يترك اعتيابهم وهمزهم ولمزهم، والطعن في أعراضهم
والقدح في أنسابهم، وأن لا يتلقى الركبان، ولا يحتكر احتكارا
يزيد في الأثمان، وأن لا ينجش ولا يبخس ولا ينقص. ومن أمثلة
حقوق بعض المكلفين على بعض أن ينظر المعسر، ويتجاوز عن الموسر
ويوسع على المقتر، ولا يماطل بالحقوق، وأن يجانب العقوق، ولا
يخاتل ولا يماحل ولا يجاحد بالباطل، ولا يقطع كلام قائل، ومنها
ألا يؤخر الزكاة إذا وجبت، ولا الديون إذ طلبت، ولا الأحكام
إذا أمكنت، ولا الشهادة إذا تعينت، ولا الفتيا إذا تبينت وألا
يؤخر حقوق الناس إلا بعذر شرعي وطبعي. مثال ذلك: أن يؤخر
الزكاة لحضور جار أو قريب أو لمن هو أشد ضرورة من الحاضرين،
وإلى حضور نائب أمير المؤمنين فيما يجب دفعه إلى الأئمة
المقسطين. وكذلك الديون لا يجب دفعها إلا عند التمكن من
إحضارها فإن كان بها لم يجب دفعها حتى يشهد على
ج / 1 ص -136-
مستحقها إقباضها، دفعا لضرر إنكار المستحق أو من ورثته. وكذلك
الشهادة على الشهادة، وكذلك تأخير إنكاح الكفء إذا التمسته
المرأة مع قرب المسافة. وكذلك تأخير ما يتعين من الشهادات إذا
كان الشاهد مشغولا بأكل أو شرب أو صلاة، وكذلك دفع الأمانة إلى
أربابها مع الاشتغال بالأكل والشرب أو صلاة النافلة أو
الاستحمام، وقد يختلف في إيجاب بعض الحقوق كوضع الأجذاع وقسمة
التعديل عن الامتناع. وإنما أتيت بهذه الألفاظ في هذا الكتاب
التي أكثرها مترادفات، وفي المعاني متلاقيات حرصا على البيان،
والتقرير في الجنان، كما تكررت المواعظ والقصص والأمر والزجر،
والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب وغير ذلك في القرآن، ولا شك
أن في التكرير والإكثار من التقرير في القلوب ما ليس الإيجاز
والاختصار؛ ومن نظر إلى تكرير مواعظ القرآن ووصاياه ألقاها
كذلك، وإنما كررها الإله لما علم فيها من إصلاح العباد وهذا هو
الغالب المعتاد. ولو قلت في حق العباد هو أن يجلب إليهم كل
خير، ويدفع عنهم كل ضير، لكان ذلك جامعا عاما ولكن لا يحصل به
من البيان ما يحصل بالتكرير وتنويع الأنواع. وكذلك لو قلت في
حق الإله هو أن يطيعوه ولا يعصوه لكان مختصرا عاما ولكن لا
يفيد ما يفيده الإطناب والإسهاب. وكذلك لو قلت في بعض حقوق
المرء على نفسه هو أن ينفعها في دينها ودنياها ولا يضرها في
أولاها وأخراها، لكان ذلك شاملا لجميع حقوق المرء، وقد يظن بعض
الجهلة الأغبياء أن الإيجاز والاختصار أولى من الإسهاب
والإكثار، وهو مخطئ في ظنه لما ذكرنا من التكرير الواقع في
القرآن والعادة شاهدة بخطئه في ظنه، وما دلت العادة عليه،
وأرشد القرآن إليه، أولى مما وقع للأغبياء الجاهلين الذين لا
يعرفون عادة الله ولا يفهمون كتاب الله، وفقنا الله لاتباع
كتابه وفهم خطابه.
وقد نظرت في القرآن فوجدته ينقسم إلى أقسام: أحدها الثناء على
الإله
ج / 1 ص -137-
والثاني: الأحكام، والثالث: توابع الأحكام ومؤكداتها وهي
أنواع:
أحدها: مدح الأفعال وذمها ترغيبا في ممدوحها، وتزهيدا في
مذمومها وهذا ضرب من التأكيد.
النوع الثاني: مدح الفاعلين ترغيبا للعباد في الدخول في مدحة
رب العالمين التي هي زين للطائعين.
النوع الثالث: ذم الغافلين تنفيرا من الدخول في مذمة الله التي
هي شين للعاصين. وقد قال بعضهم لسيد المرسلين وخاتم النبيين
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين:
"يا محمد اعطني فإن مدحي زين وهجوي شين، فقال صلى الله عليه وسلم: "ذلك
رب العالمين".
النوع الرابع: الوعد بأنواع الثواب الآجل ترغيبا في تحصيل
مصالح الطاعات.
النوع الخامس: الوعيد بأنواع العقاب الآجل تنفيرا من المعاصي
والمخالفات.
النوع السادس: الوعد بأنواع الثواب العاجل، فإن النفوس قد جبلت
على حب العاجلة وذلك كقوله تعالى:
{مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ
لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}. وكذلك بيان ما في الفعل من المصلحة العاجلة كقوله:
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ
وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، وكقوله:
{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ}، فإن في مصلحة الفعل حثا عليه وترغيبا فيه.
النوع السابع: الوعيد بأنواع العقاب العاجل، فإن النفوس قد
جبلت على الخوف من المكروه الآجل وذلك كقوله:
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، وكقوله:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وكقوله:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. وكذلك بيان ما في الفعل من المفسدة العاجلة كقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}
ج / 1 ص -138-
وكقوله:
{وَلا
تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}،
فإن في بيان مفسدة الفعل زجرا عنه وتزهيدا فيه.
النوع الثامن: الأمثال وهي ضربان: أحدهما ما ذكر ترغيبا في
الخيور وله مثالان. أحدهما قوله:
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي
كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ
يَشَاءُ}،
ذكر ذلك ترغيبا في النفقات وحثا على التبرعات.
المثال الثاني في مثل قوله تعالى:
{كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ
وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ
بِإِذْنِ رَبِّهَا}، ذكر ذلك ترغيبا في كلمة التوحيد.
الضرب الثاني من الأمثال: ما ذكر تنفيرا من الشرور وله مثالان.
أحدهما قوله:
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}، ذكره تنفيرا من النفاق. الثاني قوله تعالى: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ
فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}، ذكره تنفيرا من كلمة الكفر.
النوع التاسع: قصص المرسلين وما فيها من ذكر إنجاء المؤمنين
وإهلاك الكافرين، ذكره ترغيبا في اتباع المرسلين، وتنفيرا من
عصيان النبيين، وكذلك اللوم والتقريع والتوبيخ على بعض
الأفعال.
النوع العاشر: تمننه علينا بما خلقه لأجلنا لنشكره على إحسانه
إلينا وإنعامه علينا، وله أمثلة: أحدها قوله:
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا
تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ
وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}،
ذكر ذلك لنشكره على هذه النعم الجسام التي لا يكاد أحد يذكرها
إلا عند اختلالها أو فقدها، ثم صرح بالسبب فقال:
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
المثال
الثاني قوله:
{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ
الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ
نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}.
ج / 1 ص -139-
المثال الثالث قوله:
{اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ
الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، وأعم من ذلك كله قوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ
جَمِيعاً}،
وكل
شيء ذكره تمننا علينا كان ذلك مقتضيا لأمرين، أحدهما: شكره على
ذلك كما ذكرناه. والثاني: إباحته لنا، إذ لا يصح التمنن علينا
بما نهينا عنه، وقد تمنن علينا في كتابه بالمآكل والمشارب،
والملابس والمناكح، والمراكب والفواكه، والتجمل والتزين
والتحلي بالجواهر، فذكر تمننه بالضروريات والحاجيات، والتتمات
والتكملات، وهو كثير في القرآن، فمنه ما هو جالب للمصالح
كقوله:
{لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، ومنه ما هو دارئ للمفاسد كقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ
تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ}.
ومن مدح الإله نفسه ما لا يخرج مخرج المدح بل يخرج مخرج تأكيد
الأحكام كقوله:
{وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}، ذكر ذلك ترغيبا في الطاعات، وتنفيرا من المعاصي والمخالفات،
وكقوله: {ثُمَّ
جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ
لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}،
فإنا إذا تأملنا نظره إلينا واطلاعه علينا استحيينا منه أن يرانا
حيث نهانا، أو يفقدنا حيث اقتضانا. وكذلك قوله:
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ
فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}، لم يذكر ذلك تمدحا بسمعه، وإنما ذكره تهديدا لقائليه بخلاف قوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، إنما يتحقق الترغيب والترهيب بصفة السمع والبصر والعلم والقدرة
والإرادة دون الحياة والكلام، فإنهما لا يذكران إلا تمدحا، أما
الحياة ففي مثل قوله: هو الحي القيوم لا إله إلا هو. وفي مثل
قوله:
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} وأما الكلام ففي قوله:
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} يريد بمن يأمر بالعدل: نفسه سبحانه وتعالى. فإن قيل كيف يتمدح
بالحياة ولا يصح تمدح غيره بها لاشتراك الحيوانات فيها ؟.
قلنا: إنما يتمدح بحياة يختص بها بأزليتها وأبديتها وكونها غير
مستفادة من أحد، ولا شريك له في ذلك، فلما انفردت
ج / 1 ص -140-
به الصفات عن كل حياة، صح التمدح بها لاختصاصها بما ذكرناه،
ولأنها تذكر تفرقة بينه وبين الأصنام التي هي أموات غير أحياء،
وإنما تمدح بالكلام في قوله:
{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}، وهو لأنه قابل به الأبكم الذي لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه،
فقابل الأمر بالعدل بالبكم الذي هو الخرس المانع من الكلام
وهذه الأحكام كلها والأنواع بأسرها شاهدة لما ذكرته من أن
التأكيد والتكرير أنفع وأنجع من ذكر الشيء مرة واحدة، فإن ما
ذكرناه من توابع الأمر يتنزل منزلة تكريره. والله يسمع من يشاء
من عباده، فطوبى لمن فهم خطابه، وتبع كتابه، وقبل نصائحه، فمن
أفضل منائحه تفهم كتابه، وتعقل خطابه، ليتقرب بذلك إليه شكرا
على ما أولاه من إبلائه ومنحه وإعطائه، وشكره هو طاعته واجتناب
معصيته، ومن جملة شكره الثناء عليه والانقطاع إليه، وقد يقع في
هذا الكتاب من التكرير ما يدخل في بابين من المصالح فيذكر في
أحد البابين لأجل النوع الذي يليق بذلك الباب ويكرر في الباب
الآخر لأجل النوع الآخر المتعلق بالباب الآخر، فما وقع من هذا
كان تكريره في بابين لأجل أن فيه دلالتين على معنيين مختلفين،
فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض، وقد
أوحى بذلك عليه السلام في حجة الوداع وصية مؤكدة بقوله:
"دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا"، وإنما
شبهه بذلك لأنه كان عندهم في أعلى غايات الاحترام، ثم أمر
بتبليغ ذلك عنه بقوله: "ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب"، ثم اعتذر إلى ربه بقوله:
"اللهم هل بلغت ؟" فقالوا: نعم. فقال:
"اللهم اشهد" أي اشهد
عليهم باعترافهم أني بلغتهم. واعلم أن حقوق العباد ضربان:
أحدهما حقوقهم في حياتهم. والثاني حقوقهم بعد مماتهم من أنواع
إكرامهم وغسلهم وحملهم وتكفينهم ودفنهم وتوجيههم إلى القبلة
والصلاة عليهم والدعاء لهم والزيارة والاستغفار، وما يفعل بهم
مما ندب إليه ولم يوجبه
ج / 1 ص -141-
الشرع كالغسلة الثانية والثالثة إلى السابعة، وكإحسان الأكفان
وإحسان الحمل والمبالغة في الدعاء، وحسن الوضع في القبر وحسن
الدفن، ولا تسقط حقوق الميت بإسقاطه، فلو أوصى بألا يغسل ولا
يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن لم يلتفت إليه، لأن هذا من الحقوق
التي لا تقبل الإسقاط لما فيها من حق الله عز وجل.
[فائدة] ما من حق للعباد يسقط بإسقاطهم أو لا
يسقط بإسقاطهم إلا وفيه حق لله، وهو حق الإجابة والطاعة، سواء
كان الحق مما يباح بالإجابة أو لا يباح بها، وإذا سقط حق
الآدمي بالعفو فهل يعزر من عليه الحق لانتهاك الحرمة؟ فيه
اختلاف والمختار أنه لا يسقط إغلاقا لباب الجرأة على الله عز
وجل.
القسم الثالث من أقسام الضرب الثاني من جلب المصالح ودرء
المفاسد
حقوق البهائم والحيوان على الإنسان، وذلك أن ينفق عليها نفقة
مثلها ولو زمنت أو مرضت بحيث لا ينتفع بها، وألا يحملها ما لا
تطيق ولا يجمع بينها وبين ما يؤذيها من جنسها أو من غير جنسها
بكسر أو نطح أو جرح، وأن يحسن ذبحها إذا ذبحها ولا يمزق جلدها
ولا يكسر عظمها حتى تبرد وتزول حياتها وألا يذبح أولادها بمرأى
منها، وأن يفردها ويحسن مباركها وأعطانها، وأن يجمع بين ذكورها
وإناثها في إبان إتيانها، وأن لا يحذف صيدها ولا يرميه بما
يكسر عظمه أو يرديه بما لا يحلل لحمه، والحقوق كلها ضربان:
أحدهما مقاصد. والثاني وسائل ووسائل وسائل، وهذه الحقوق كلها
منقسمة إلى ما له سبب وإلى ما ليس له سبب فأما ما لا سبب له
فكالمعارف والحج والاعتكاف والطواف، وأما ما له سبب فكالصلاة
والزكاة والمعاملات والحقوق الماليات.
فإن قيل: هلا كان دخول أشهر الحج سببا لوجوبه كما كان دخول وقت
الصلاة سببا لوجوبها؟ قلنا قد يجب الحج قبل دخول وقته على من
بعدت داره وفي هذا بحث، ولا يتعلق حظر ولا إيجاب ولا كراهة ولا
استحباب إلا بفعل داخل تحت قدرة المكلف واختياره، والتكاليف
مقيدة بالحياة. |