قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

فصل: في بيان الرياء في العبادات وأنواع الطاعات
الرياء إظهار عمل العبادة لينال مظهرها عرضا دنيويا إما بجلب نفع دنيوي، أو لدفع ضرر دنيوي، أو تعظيم أو إجلال، فمن اقترن بعبادته شيء من ذلك أبطلها لأنه جعل عبادة الله وطاعته وسيلة إلى نيل أعراض خسيسة دنية، فاستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فهذا هو الرياء الخالص. وأما رياء الشرك فهو أن يفعل العبادة لأجل الله ولأجل ما ذكر من أغراض المرائين وهو محبط للعمل أيضا، قال تعالى: "من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته لشريكه" وفي رواية: تركته لشريكي.

فصل: في بيان التسميع في العبادات وأنواع الطاعات
وهو ضربان. أحدهما تسميع الصادقين وهو أن يعمل الطاعة خالصة لله، ثم يظهرها ويسمع الناس بها ليعظموه ويوقروه وينفعوه ولا يؤذوه. وهذا محرم وقد جاء في الحديث الصحيح: "من سمع سمع الله به. ومن راءى راءى الله به، وهذا تسميع الصادقين".
الضرب الثاني: تسميع الكاذبين وهو أن يقول صليت ولم يصل، وزكيت ولم يزك، وصمت ولم يصم، وحججت ولم يحج، وغزوت ولم يغز. فهذا أشد ذنبا من الأول لأنه زاد على إثم التسميع إثم الكذب، فأتى بذلك معصيتين قبيحتين، بخلاف الأول فإنه آثم إثم التسميع وحده.
وجاء في الحديث الصحيح:
"المتسمع بما لم يعط كلابس ثوبي زور". وكذلك

 

ج / 1 ص -125-       لو راءى بعبادة من العبادات ثم سمع موهما لإخلاصها فإنه يأثم بالتسميع والرياء جميعا. وإثم هذا أشد إثما من الكاذب الذي لم يفعل ما سمع به، لأن هذا أثم بريائه وتسميعه وكذبه ثلاثة آثام. ومن أمن الرياء لقوة في دينه فأخبر بما فعله من الطاعات ليقتدي الناس به، كان له أجر طاعته التي سمع بها وأجر تسببه إلى الاقتداء في تلك الطاعات التي سمع بها على اختلاف رتبها.
[فائدة] أعمال القلوب وطاعتها مصونة من الرياء، إذ لا رياء إلا بأفعال ظاهرة ترى أو تسمع. والتسميع عام لأعمال القلوب والجوارح. وكذلك الصوم لا يظهر غالبا بالرياء والتسميع، لأنه عبادة ووزره مختلف باختلاف شرف المرائي به فأشرف ما يرائي به أشد وزرا مما دونه، فإن الرياء مفسدة وإفساد الأشرف أقبح من إفساد الشريف. وليس حب الرياء ولا غيره من جميع المعاصي معصية، فإن أطلق عليه اسم الرياء كان ذلك مجازا من تسمية السبب باسم المسبب، وكل شيء حرمه الله تعالى فلا يأثم مشتهيه بشهوته، وإنما يأثم بعزمه عليه وإرادته، ثم بملابسته. وكل ما تكرهه الطباع، وتنفر منه القلوب والأسماع، من الخيور والشرور فلا إثم على كراهيته ولا النفور منه، وإنما الإثم على فعله إن كان قبيحا أو تركه إن كان حسنا. فشهوة الرياء والشكر، وقهر الأقران وإضرار الأعداء لا إثم فيها لخروجها عن قدرة المكلف، ولتعذر الانفكاك منها والانفصال عنها، ومن استعمل شيئا من المحبوبات في غير بابه فقد أخطأ وزل. وعلى المرء أن يجاهد طبعه ويخالف فيما يدعو إليه من ترك المأمورات واجتناب المنهيات، والموفق من أعين على ذلك، فمن أسعده الله حبب إليه الطاعة والإيمان، وكره إليه الكفر والفسوق والعصيان. واعلم أنه لا أدب كأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خلق كأخلاقه فمن وفقه الله أعانه على أخلاقه والاقتداء به ليتخلق منه بما يقدر عليه ويصل إليه، وما من أحد إلا وقد هم ولم فيا سعادة من اقتدى به، واستسن بسيرته وأخذ بطريقته، وامتلأ قلبه من محبته

 

ج / 1 ص -126-       في دق ذلك كله وجله وكثره وقله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، وإن تطيعوه تهتدوا، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً}، وكيف لا يكون كذلك وقد قال، تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}. وكان خلقه الممدوح بالعظمة واتباع القرآن، القرآن مشتمل على الأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم فيما جاء من كتاب أو سنة.
فإن قيل: قد خالف كثير ممن اشتهر بالولاية بعض أدب الشرع فهل يقدح ذلك في ولايته؟ قلنا: أما ما ترك من ذلك لعذر شرعي فلا بأس به. وأما ما ترك لغير عذر شرعي، فإن كان مندوبا لم يقدح في ولايته، وإن كان محرما فإن كان كبيرا فقد خرج عن الولاية في حال ملابسته دون ما مضى، وإن كان صغيرا فقد غلظ أكثر الناس في هذا الذنب الصغير. فمنهم من يسقط الولاية بصغيرة يرتكبها الولي، وهؤلاء جهلة لأن اجتناب الصغيرة ليس بشرط في حق الأنبياء فضلا عن الأولياء، ومنهم من إذا عرف صغيرة الولي أخرجه عن الولاية وطعن فيه، وربما هجره ورفضه وقلاه وأبغضه ومنع الناس من الاقتداء به، ومنهم من يحمله حسن ظنه في الولي على أن يعتقد اختصاص ذلك الولي بإباحة تلك الصغيرة التي حرمها الله تعالى، ويزعم أن الله أحل له ما لم يحله لغيره وهذا خطأ عظيم، فإن الله لم يستثن أحدا من التحليل والتحريم والندب والإيجاب، إلا لعذر خاص أو عام، وهذا أشر الأقسام. وأشر منه من يعتقد أن ذلك الذنب قربة لصدوره عن ذلك الولي، وأسعدهم من اعتقد ولايته مع ارتكابه لذلك الذنب الصغير، ومخالفته لما أمر به ونهى عنه، فقد عصى آدم وداود وغيرهما، ولم يخرج واحد منهم بمعصيته عن حدود ولايته، ولو رفعت صغائر الأولياء إلى الأئمة والحكام. لم يجز تعزيرهم عليها، بل يقبل عثرتهم ويستر زلتهم، فهم أولى من أقيلت عثرته، وسترت زلته.
فإن قيل: كيف يجوز غيبة الأنبياء بنسبتهم إلى ما صدر منهم من الذنوب؟

 

ج / 1 ص -127-       قلنا: إن ذكر ذلك تعبيرا لهم وإزراء عليهم حرم وكان كفرا، فإن الله ما ذكر ذلك تعبيرا وإزراء عليهم وإنما ذكره تنبيها على سعة رحمته وسبوغ نعمته، وإطماعا في التوبة من معصيته ومخالفته، فإن مسامحة الأكابر تدل على أن مسامحة الأصاغر أولى، لأن الذنب الصغير من الأماثل كبيرة.
ولهذا قوله تعالى:
{مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}، وإن ذكر للغرض الذي ذكره الله لأجله فلا بأس به، بل ربما يندب إليه ويحث عليه، إذا كان فيه مصلحة للمذنبين القانطين من رحمة رب العالمين. فإن قيل: إذا كان الإنسان وليا في شطر عمره ثم صار فاسقا في الشطر الآخر فما حكم ولايته مع فسوقه؟ قلت: إن زادت مفاسد فسوقه على مصالح ولايته وقعت المقاصة بين حسناته وسيئاته، وأخذ بما فضل من سيئاته، وإن زادت مصالحه على مفاسد فسوقه وقعت المقاصة بين حسناته وسيئاته، وأجر بما فضل من حسناته.

فصل: في بيان أن الإعانة على الأديان وطاعة الرحمن ليست شركا في عبادة الديان وطاعة الرحمن
إن قيل: هل يكون انتظار الإمام المسبوق ليدركه في الركوع شركا في العبادة أم لا؟ قلت: ظن بعض العلماء ذلك وليس كما ظن، بل هو جمع بين قربتين لما فيه من الإعانة على إدراك الركوع وهي قربة أخرى، والإعانة على الطاعات من أفضل الوسائل عند الله، ورتب تلك المعونات عند الله على قدر رتب المعان عليه من القربات. والإعانة على معرفة الله ومعرفة ذاته وصفاته أفضل الإعانات. وكذلك الإعانة على معرفة شرعه، وكذلك المعونة بالفتاوى والتعليم والتفهيم، والإعانة على الفرائض أفضل من الإعانة على النوافل، وإذا كانت الصلاة أفضل القربات البدنيات كان الإعانة عليها من أفضل الإعانات فإذا أعان المصلي بماء الطهارة أو ستر العورة أو دله على القبلة، كان مأجورا على ذلك كله. وليس لأحد

 

ج / 1 ص -128-       أن يقول هذا شرك في العبادة بين الخالق والمخلوق. فإن الإعانة على الخير والطاعة لو كانت رياء وشركا، لكان تبليغ الرسالة وتعليم العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رياء وشركا، وهذا لا يقوله أحد، لأن الرياء والشرك أن يقصد بإظهار عمله ما لا قربة به إلى الله من نيل أعواض نفسه الدنية وهو قد أعان على القرب إلى الله وأرشد عباده إليه، ولو كان هذا شركا لكان الأذان وتعليم القرآن شركين وقد جاء في الحديث الصحيح: أن رجلا صلى منفردا فقال عليه السلام: "من يتجر على هذا ؟" وروي: "من يتصدق على هذا؟" فقام رجل فصلى وراءه ليفيده فضيلة الاقتداء، ولم يجعله عليه السلام رياء ولا شركا لما فيه من إفادة الجماعة المقربة إلى الله تعالى. وإذا أحس الإمام بداخل وهو راكع فالمستحب أن ينتظره لينيله فضيلة إدراك الركوع، ولا يكون ذلك شركا ولا رياء، لأنه عليه السلام جعل مثله صدقة واتجارا، وأمر به في جميع الصلوات، فكيف يكون رياء وشركا وهذا شأنه في الشريعة؟ ولا وجه لكراهية ذلك، ومن أبطل الصلاة به فقد أبعد، فليت شعري ماذا يقول في الانتظار المشروع في صلاة الخوف هل كان شركا ورياء، أو عملا صالحا لله تعالى؟!