قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

فصل: في تفضيل الحكام على المفتين والأئمة على الحكام
إن قيل: هل يتساوى أجر الحاكم والمفتي القائمين بوظائف الحكم والفتيا أم لا؟ فالجواب إن أجر الحاكم أعظم لأنه يفتي ويلزم فله أجران: أحدهما: على فتياه والآخر على إلزامه، هذا إذا استوت الواقعة التي فيها الفتيا والحكم، وتختلف أجورهما باختلاف ما يجلبانه من المصالح ويدرآنه، من المفاسد، وتصدي الحاكم للحكم أفضل من تصدي المفتي للفتيا، وأجر الإمام الأعظم أفضل من أجر المفتي والحاكم، لأن ما يجلبه من المصالح ويدرأه من المفاسد أتم وأعم؛ وكذلك جاء في الحديث: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل"، فبدأ به لعلو مرتبته. وأجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات فإن الولاة المقسطين أعظم أجرا وأجل قدرا من غيرهم لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، فإن أحدهم يقول الكلمة الواحدة فيدفع بها مائة ألف مظلمة فما دونها، أو يجلب بها مائة ألف مصلحة فما دونها، فيا له من كلام يسير وأجر كبير. وأما ولاة السوء وقضاة الجور فمن أعظم الناس وزرا وأحطهم درجة عند الله، لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام،

 

ج / 1 ص -121-       وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك الكلمة من مصالح المسلمين، فيا لها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة.
مثال ذلك: أن يأمر بقتال طائفة من المسلمين أو يأخذ أموالهم أو يتمكسهم أو يتضمن البغايا والخمور وغير ذلك من المحرمات المغضبات لرب الأرضين والسموات. وإذا أمر العادل بإبطال هذه المحرمات التي أمر بها الجائر أثيب على ردء هذه المحرمات التي أمر بها الجائر أثيب على درء هذه المفاسد المذكورات، على حسب قلتها وكثرتها وعمومها وشمولها، فيا له من سعي راجح وإنجاز رابح.
وقد قال سيد المرسلين:
"المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن وكلتا يدي ربي يمين" وعلى الجملة فالعادل من الأئمة والولاة والحكام أعظم أجرا من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام، لأنهم يقومون بجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل فإذا أمر الإمام بجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة، كان له أجر بحسب ما دعا إليه من المصالح العامة، وزجر عنه من المفاسد ولو كان ذلك بكلمة واحدة لأجر عليها بعدد متعلقاتها كما ذكرنا. وكذلك أجر أعوانه على جلب المصالح ودرء المفاسد، فإذا أمر الإمام بالجهاد كان متسببا إلى تحصيل مصالحه بأمره الأجناد بمباشرة القتال، ولمباشرة القتال أجر الإمام متوسل إلى مصالح الجهاد، والمقاتل مباشر، لكن الظاهر أن أجر الإمام أفضل من أجر الواحد من المجاهدين، فإذا كانوا ألفا كان لكل واحد أجر مباشرته على حسب ما باشر، وللإمام أجر تسببه إلى قتال الألف، فقد صدر منه ألف تسبب، وألف تسبب أفضل من مباشرة واحدة، لأن بتلك التسميات حصلت مصالح القتال ولو فرض أنه أمر واحدا بالقتال فقاتل وحصل المصلحة المأمور بها فلا شك أن المباشر أفضل من الآخر. وليس أمر الحاكم لأحد أعوانه كذلك. فالحاكم متصد لسماع الدعوى وجوابها

 

ج / 1 ص -122-       وسماع البينة واستزكائها ثم الحكم بعد ذلك، فقد صدر منه طاعات متعددة ولم يصدر من آحاد أعوانه سوى طاعة واحدة. وأما المفتون فيثابون على تصديهم للفتاوى، وتتفاوت أجورهم بتفاوت تلك الفتاوى وكثرتها، وعمومها وخصوصها.

فصل: فيمن جمع بين الجور والعدل في ولايته
إن قيل: إذا جار الأئمة والحكام وعدلوا فهل يقوم عدلهم بجورهم؟
فالجواب: إن ما فوتوه من الأموال مضمون عليهم في الدين، إن فنيت حسناتهم طرح عليهم من سيئات من ظلموه، ثم طرحوا في الجحيم. والتقدير: أخذ في الآخرة من ثواب حسناتهم. فإن فنيت حسناتهم طرح من ثواب حسناتهم، فإن فنيت حسناتهم طرح عليهم من عقوبات - سيئات - من ظلموه بقدر ظلمه. وكذلك الحكم في الدماء والأبضاع والأعراض، وفيما أخروه من الحقوق التي يجب تقديمها، أو قدموه من الحقوق التي يجب تأخيرها، فقد قال رب العالمين:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} الآية. فإن قيل لو مات المكلف وعليه دين لم يأثم بسببه ولا بمطله، فهل يؤخذ من حسناته في الآخرة بمقدار ما عليه من الدين؟ قلنا: نعم، يؤخذ من ثواب حسناته بمقدار ما عليه من الدين وإن فنيت حسناته، كما تؤخذ أمواله ومساكنه وعبيده وإماؤه في الدين، وإن لم يكن آثما بسبب الدين لا بمطله فإن فنيت حسناته في الآخرة لم يطرح عليه من السيئات لأنه غير عاص ولا آثم، ولا يتعجبن متعجب منه، ذلك عدل من الله في الدنيا والآخرة.
فإن قيل: فما حكم ما يفضل عليه من الديون بعد فناء حسناته؟ قلت: الأمر في ذلك إلى الله إن شاء عوض رب الدين من عنده، وإن شاء لم يعوضه، وهذا موقوف على صحة الخبر فيه، ولا يؤخذ من ثواب الإيمان المندوب نظر وهو داخل في عموم الحديث.

 

ج / 1 ص -123-       فصل: فيما يثاب عليه الشهود وما لا يثابون
تحمل الشهادة توسل إلى أدائها وأداؤها توسل إلى الحكم بها، والحكم بها توسل إلى تحصيل مصالح الحكم بالحق ودرء مفاسد الحكم بالجور. فمن شهد بالحكم الموافق لما في نفس الأمر مبتغيا بذلك وجه الله، كتب له أجر الإعانة على استيفاء تلك الحقوق التي تثبت بشهادته والمصالح التي حصل بها، ولذلك كتب له أجر ما درأه من المفاسد بشهادته على اختلاف رتبها، وكان عند الله من الذين. تعاونوا على البر والتقوى، وكتب له أجران: أحدهما على ما أعان عليه من الحق، والآخر على إخلاصه لله.
وإن شهد بالحق رياء وسمعة أثم على ريائه، دون معاونته على إرجاع الحق إلى مستحقيه.
وإن شهد بالباطل وهو يعلم أنه باطل، فهذا شاهد زور مرتكب لكبيرة. وإن بنى شهادته على الأسباب الشرعية وكان المشهود به باطلا في نفس الأمر، أثيب على قصده ولا يثاب على شهادته؛ لأنها إعانة على باطل.
وإن شهد بالأجرة وجوزنا ذلك، فهذا عقد معاوضة، إن سامح ببعض العوض أجر عليه، وإلا فلا.

فصل: في بيان الإخلاص في العبادات وأنواع الطاعات
الإخلاص أن يفعل المكلف الطاعة خالصا لله وحده لا يريد بها تعظيما من الناس ولا توقيرا، ولا جلب نفع ديني، ولا دفع ضرر دنيوي، وله رتب: منها أن يفعلها خوفا من عذاب ومنها أن يفعلها تعظيما لله ومهابة وانقيادا وإجابة، ولا يخطر له عرض من الأعراض، بل يعبد مولاه كأنه يراه وإذا رآه غابت عنه الأكوان كلها وانقطعت الأعراض بأسرها وأمر العابد أن يعبد الله كأنه يراه، فإن لم يقدر على تقدير نظره إلى الله، فليقدر أن الله ناظر إليه، ومطلع عليه فإن ذلك يحمله على الاستحياء منه والخوف والمهابة وهذا معلوم بالعادات

 

ج / 1 ص -124-       أن النظر إلى العظماء يوجب مهابتهم وإجلالهم والأدب معهم إلى أقصى الغايات، فما الظن بالنظر إلى رب السموات؟ وكذلك لو قدر إنسان في نفسه أن عظيما من العظماء ناظر إليه، ومطلع عليه، لم يتصور لأن يأتي برذيلة، وأنه يتزين له بملابسة كل فضيلة، فسبحان الله ما جمع هذا الحديث من الأدب مع الله في عياداته وطاعاته.