قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: فيما يعاقب من قبح الصفات وما لا يعاقب
عليه
كل صفة قبيحة جبلية لا كسب للإنسان فيها فلا أجر عليها ولا
وزر، كقبح الصورة، ودمامة الخلق، وشناعة الأعضاء، ونقص العقول
والحواس، وسوء الأخلاق كالقحة والجبن والشح والبخل، والميل إلى
كل رذيلة، والنفور عن كل فضيلة، والقسوة والعجلة فيما لم يتبين
غيه من رشده، وغير ذلك من الصفات القباح. فمن أجاب هذه الصفات
إلى ما تقتضيه مما يخالف الشرع كان معاقبا على قبح إجابته، لا
على قبح أوصافه، ومن خالفها ووافق الشرع في قهرها والعمل بخلاف
مقتضاها كان مثابا على مخالفته غير معاقب على قبح صفاته، هذا
إن قصد به وجه الله فإنه يؤجر على عمله وعلى مجاهدة نفسه، وإن
قصد به الرياء أو التسميع أثم، وإن قصد به التجمل بذلك من غير
رياء ولا سمعة، فلا أجر؛ لأنه لم يقصد وجه الله، ولا وزر لأنه
لم يعص، وقد جوز الشرع التجمل والتزين بقوله:
{وَلَكُمْ
فِيهَا جَمَالٌ} وقوله:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا
وَزِينَةً}. ولا أعرف في الوجود شيئا أكثر تقلبا في الأوصاف والأحوال من
القلوب، لكثرة ما يرد عليها من الخواطر والقصور، والكراهة
والمحبة،
ج / 1 ص -118-
والكفر والإيمان، والخضوع والخشوع، والخوف والرجاء، والأفراح
والأحزان، والانقباض والانبساط، والارتفاع والانحطاط، والظنون
والأوهام، والشكوك والعرفان، والنفور والإقبال، والمسألة
والملال، والخسران والندم، واستقباح الحسن واستحسان القبيح،
ولكثرة تقلبها كان عليه السلام يقول:
"يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"،
وكانت يمينه: "لا، و مقلب
القلوب"، وسمي القلب قلبا لتقلبه من حال إلى حال، ولا عقاب على الخواطر، ولا
على حديث النفس لغلبتها على الناس، ولا على ميل الطبع إلى
الحسنات والسيئات، إذ لا تكليف بما يشق اجتنابه مشقة فادحة،
ولا بما يطاق فعله ولا تركه. ومبدأ التكليف العزوم والقصود،
فالعزم على الحسنات حسن، وعلى السيئات قبيح، وعلى المباح
مأذون.
فصل: فيما يثاب عليه من العلوم
كل العلوم
شريفة، وتختلف رتب شرفها باختلاف رتب متعلقاتها، فما تعلق
بالإله وأوصافه كان أشرف العلوم؛ لأن متعلقه أشرف من كل شريف.
والعلوم أقسام: أحدها: الضروريات ولا ثواب عليها، لأنها ليست
من كسب العالم بها. الثاني: النظريات، ويثاب الإنسان عليها
لقدرته على تحصيلها بالتسبب إليها.
الثالث: علوم يمنحها الأنبياء والأولياء بأن يخلقها الله فيهم
من غير ضرورة ولا نظر وهي ضربان: أحدهما: أشرف من الآخر وهو
العلم بما يتعلق بالذات والصفات وله شرف عظيم ولا ثواب عليه في
نفسه، ولا على الأحوال الناشئة عنه، فإن حدث عنها أمر مكتسب
كان الثواب عليه دونها وكفى به شرفا في نفسه وهي كالمحامد التي
يلتمسها الرسول عليه السلام بين يدي شفاعته لأمته، فكم من شرف
عظيم لا ثواب عليه لأنه خير من الثواب فإن النظر إلى الله أشرف
من كل شريف وأفضل من كل نعيم روحاني أو جثماني، وقد جعل زيادة
على الأجور، لأنه أعظم من أن يقابل به عمل من الأعمال أو حال
من الأحوال، وكذلك
ج / 1 ص -119-
رضوان الله من أفضل ما أعطيته ولا ثواب عليه.
الضرب الثاني: علوم إلهامية، يكشف بها عما في القلوب، فيرى
أحدهم بعينيه من الغائبات ما لم تجر العادة بسماع مثله. وكذلك
شمه ومسه ولمسه وكذلك يدرك بقلبه علوما متعلقة بالأكوان، وقد
رأى إبراهيم ملكوت السموات والأرض، ومنهم من يرى الملائكة
والشياطين والبلاد النائية، بل ينظر إلى ما تحت الثرى، ومنهم
من يرى السموات وأفلاكها وكواكبها وشمسها وقمرها على ما هي
عليه، ومنهم من يرى اللوح المحفوظ ويقرأ ما فيه. وكذلك يسمع
أحدهم صرير الأقلام وأصوات الملائكة والجان، ويفهم أحدهم منطق
الطير، فسبحان من أعزهم وأدناهم، وأذل آخرين وأقصاهم، ومن يهن
الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.
فصل: فيما يثاب عليه العالم والحاكم وما لا
يثابان عليه
إن قيل: على
أي شيء يثاب العالم والحاكم؟ قلنا: إن تعلما العلم للرياء
والسمعة أثما ما لم يتوبا، فإن أفتى أحدهما وحكم للرياء
والسمعة كانا مأثومين أيضا لريائهما، فإن أفتى أحدهما وحكم
الآخر مخلصين لله أثيب كل واحد منهما على ما فعله خالصا لله،
وإن تعلما مخلصين لله أجرا على تعلمهما، فإن عزما على أن يعملا
بما أمرا به في الفتيا والحكم أثيبا على عزمهما، فإن أمضيا ما
عزما عليه، أثيبا على عزمهما وفعلهما، وإن رجعا عما عزما عليه،
أثيبا على عزمهما وأثما برجوعهما، وكذلك الإفادة والتدريس وعلم
الحديث، وكل علم يتقرب به إلى الله عز وجل.
فصل: فيما يثاب عليه المتناظران وما لا يثابان
عليه
إن قيل: هل
يثاب المتناظران على المناظرة أم لا؟ قلنا إن قصد كل واحد
بمناظرته إرشاد خصمه إلى ما ظهر له من الحق فهما مأجوران على
قصدهما وتناظرهما، لأنهما متسببان إلى إظهار الحق، وإن قصد كل
واحد منهما أن يظهر على خصمه ويغلبه، سواء أكان الحق معه أو مع
خصمه فهما آثمان، وإن قصد أحدهما الإرشاد وقصد الآخر العناد،
أجر قاصد الإرشاد، وأثم قاصد العناد.
ج / 1 ص -120-
ثم إن قصدا أو أحدهما العناد وأظهر الله الحق على لسان خصمه،
فإن تمادى على عناده أثم، وانفرد صاحبه بالأجر إن قصد وجه
الله، وإن قطع عزمه عن العناد وعاد إلى اتباع الرشاد وانقطعت
معصيته أثيب على رجوعه إلى الرشاد، وإن أصر على العناد أثم على
عزمه وعناده، ووجب تعزيره في الدنيا، وإن لم يعزر فيها فهو
متعرض لعقاب الآخرة كغيره من العصاة. ولو عزم أحدهما على قبول
الحق إذا ظهر على لسان خصمه فعانده فهو مأثوم لعناده مأجور على
عزمه فالذي يسخر من خصمه ويضحك منه ويستضحك الناس منه أشد وزرا
مما ذكرناه، لأنه زاد على تلك المعصية السخرية بالمؤمنين،
والأولى بذوي الألباب ألا يناظروا من هذا شأنه، لئلا يتسببوا
بمناظرته إلى إيقاعه في الآثام المذكورة. |