قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في بيان وسائل المفاسد
يختلف وزن وسائل المخالفات باختلاف رذائل المقاصد ومفاسدها،
فالوسيلة إلى أرذل المقاصد أرذل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى
الجهل بذات الله وصفاته، أرذل من التوسل إلى الجهل بأحكامه،
والتوسل إلى القتل أرذل من التوسل إلى الزنا، والتوسل إلى
الزنا أقبح من التوسل إلى أكل بالباطل، والإعانة على القتل
بالإمساك أقبح من الدلالة عليه، وكذلك مناولة آلة القتل أقبح
من الدلالة عليه، والنظر إلى الأجنبية محرم لكونه وسيلة إلى
الزنا، والخلوة بها أقبح من النظر إليها، وعناقها في الخلوة
أقبح من الخلوة بها، والجلوس بين رجليها بغير حائل أقبح من ذلك
كله، لقوة أدائه إلى المفسدة المقصودة بالتحريم. وهكذا تختلف
رتب الوسائل باختلاف قوة أدائها إلى المفاسد، فإن الشهوة تشتد
بالعناق بحيث لا تطاق، وليس كذلك النظر، والتفسير أقبح من ذلك
كله لقوة أدائه إلى الزنا، وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى
المفسدة كان إثمها أعظم من إثم ما نقص عنها، والبيع الشاغل عن
الجمعة حرام لا لأنه بيع، بل لكونه شاغلا عن الجمعة، فإن رتبت
مصلحة التصرف والطاعات على مصلحة الجمعة قدم
ج / 1 ص -108-
ذلك التصرف على الجمعة. لفضل مصلحته على مصلحة أداء الجمعة،
فيقدم إنقاذ الغريق، وإطفاء الحريق، على صلاة الجمعة. وكذلك
يقدم الدفع عن النفوس والأبضاع على صلاة الجمعة من غير تخيير
بين هذه الواجبات وبين الجمعة، بخلاف الأعذار الخفيفة المسقطة
لوجوب الجمعة فإنها تخيير بين الظهر والجمعة. ولو تصرف ببيع أو
هبة أو غير ذلك من التصرفات وهو ذاهب إلى الجمعة تصرفا لا
يشغله عن الجمعة لم يحرم ذلك، لخروجه عن كونه وسيلة إلى ترك
الجمعة. وكذا النهي عن المنكر وسيلة إلى دفع مفسدة ذلك المنكر
المنهي عنه، ورتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة درء مفسدة
الفعل المنهي عنه في باب المفاسد، ثم تترتب رتبه على رتب
المفاسد إلى أن تنتهي إلى أصغر الصغائر، فالنهي عن الكفر بالله
أفضل من كل نهي في باب النهي عن المنكر.
فمن قدر على الجمع بين درء أعظم الفعلين مفسدة ودرء أدناهما
مفسدة جمع بينهما لما ذكرناه من وجوب الجمع بين ردء المفاسد،
مثل أن ينهى عن منكرين متفاوتين أو متساويين فما زاد، بكلمة
واحدة. مثال المتفاوتين أن يرى إنسانا يقتل رجلا وآخر يسلب مال
إنسان، فيقول لهما كفا عما تصنعان.
ومثال المتساويين أن يرى اثنين قد اجتمعا على قتل إنسان أو سلب
ماله فيقول لهما كفا عن قتله أو سلبه. وكذلك يقول للجماعة كفوا
عما تصنعون، وإن قدر على دفع المنكرين دفعة واحدة لزمه ذلك،
وإن قدر على دفع أحدهما دفع الأفسد فالأفسد، والأرذل فالأرذل
سواء قدر على دفع ذلك بيده أو بلسانه، مثل أن يتمكن الغازي من
قتل واحد من المشركين بسهم ومن قتل عشرة برمية واحدة تنفذ في
جميعهم، فإنه يقدم رمي العشرة على رمي الواحد، إلا أن يكون
الواحد بطلا عظيم النكاية في الإسلام، حسن التدبير في الحروب:
فيبدأ برميه دفعا لمفسدة بقائه، لأنها أعظم من مفسدة بقاء
العشرة. وكذلك لو قدر على أن يفتح فوهة نهر على ألف من الكفار
لا نجاة لهم منها وقدر على
ج / 1 ص -109-
قتل مائة بشيء من آلات القتال لكان فتح فوهة النهر أولى من قتل
المائة لما فيه من عظم المصلحة، وإن كان فتح الفوهة أخف من قتل
المائة بالسلاح. وكذلك تتفاوت كراهة المنكر بالقلوب عند العجز
عن إنكاره باليد واللسان بتفاوت رتبه، فتكون كراهة الأقبح أعظم
من كراهة ما دونه.
فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا
يجديان ولا يفيدان شيئا، أو غلب على ظنه، سقط الوجوب لأنه
وسيلة ويبقى الاستحباب، والوسائل تسقط بسقوط المقاصد، وقد كان
صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المسجد الحرام وفيه الأنصاب
والأوثان ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه. وكذلك لم يكن كلما رأى
المشركين ينكر عليهم، وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة
والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم، كلما رأوهم، مع علمهم أنه لا
يجدي إنكارهم. وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له اتق الله
أخذته العزة بالإثم فيزداد فسوقا إلى فسوقه، وفجورا إلى فجوره،
فمن أتى شيئا مختلفا في تحريمه معتقدا تحريمه وجب الإنكار عليه
لانتهاك الحرمة، وذلك مثل اللعب بالشطرنج، وإن اعتقد تحليله لم
يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفا تنقض الأحكام
بمثله لبطلانه في الشرع، إذ لا ينقض إلا لكونه باطلا، وذلك كمن
يطأ جارية بالإباحة معتقدا لمذهب عطاء فيجب الإنكار عليه، وإن
لم يعتقد تحريما ولا تحليلا أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ ولا
إنكار، ولا يخفى أن وسائل المكروه مكروهة، والمندوب مندوبة،
والمباح مباحة. وكذلك ولاية المظالم تختلف باختلاف رتبها في
المفاسد فالولاية على القتل والقطع والصلب بغير حق أقبح من
الولاية على الضرب بغير حق. وكذلك الولاية على المكوس وغصب
الأموال، وتضمين الخمور والأبضاع، وكذلك الإعانة على إثم
وعدوان وفسوق وعصيان، وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان
والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة
إلى مصلحة
ج / 1 ص -110-
وله أمثلة منها ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه
مباح لباذليه ومنها أن يريد الظالم قتل إنسان مصادرة على ماله
ويغلب على ظنه أنه يقتله إن لم يدفع إليه ماله، فإنه يجب عليه
بذل ماله فكاكا لنفسه، ومنها أن يكره امرأة على الزنا ولا
يتركها إلا بافتداء بمالها أو بمال غيرها فيلزمها ذلك عند
إمكانه. وليس هذا على التحقيق معاونة على الإثم والعدوان
والفسوق والعصيان وإنما هو إعانة على درء المفاسد فكانت
المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعا لا
مقصودا.
فصل: في اختلاف الآثام باختلاف المفاسد
يختلف إثم المفاسد باختلافها في الصغر والكبر، وباختلاف ما
تفوته من المنافع والمصالح، فيختلف الإثم في قطع الأعضاء وقتل
النفوس وإزالة منافع الأعضاء باختلاف المنافع، فليس إثم من قطع
الخنصر والبنصر من الرجل كإثم من قطع الخنصر والبنصر من اليد،
لما فوته من منافعها الدينية والدنيوية، وسواء قطع ذلك من نفسه
أو من غيره، وليس الإثم في قطع الأذن كالإثم في قطع اللسان،
لما سنذكره من منافع اللسان إن شاء الله تعالى، وليس من قتل
فاسقا ظالما من فساق المسلمين بمثابة من قتل إماما عدلا، أو
حاكما مقسطا، أو وليا منصفا، لما فوته على المسلمين من العدل
والإنصاف. وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى:
{مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي
الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} لما عمت المفسدة في قتل نفس جعل إثمها كإثم من قتل الناس جميعا لما
فوته على الناس من مصالح ولما عمت المفسدة في إنقاذ ولاة العدل
والإقساط والإنصاف من المهالك، جعل أجر منقذها كأجر منقذ الناس
من أسباب الهلاك جميعا لعموم ما سعى فيه من المصالح، وكذلك
جناية الإنسان على أعضاء نفسه يتفاوت إثمها بتفاوت منافع ما
جنى عليه، وبتفاوت ما فوته على الناس من عدله
ج / 1 ص -111-
وإقساطه وبره وإنصافه ونصرته للدين، وليس لأحد أن يتلف ذلك من
نفسه، لأن الحق في ذلك كله مشترك بينه وبين ربه، وليس قطع
العالم أو الحاكم أو المفتي أو الإمام الأعظم لسان نفسه كقطع
من لا ينتفع بلسانه. وكذلك قطع البطل الشديد النكاية في الجهاد
يد نفسه أو رجل نفسه أعظم من قطع الضعيف الذي لا أثر له في
الجهاد يد نفسه أو رجل نفسه، ولا يلزم من تساوي الأعضاء في
الأبدال تساوي تفويتها في الآثام. وكذلك فقء العينين أشد إثما
من صلم الأذنين، وكذلك قطع الرجلين أعظم وزرا من قطع أصابعهما،
وكذلك قطع الإبهام والسبابة من إحدى اليدين أعظم وزرا من قطع
الخنصر والبنصر منهما. والمدار في هذا كله على رتب تفويت
المصالح وتحقيق المفاسد. فكل عضو كانت منفعته أتم كانت الجناية
عليه أعظم وزرا، فليست الجناية على العقل واللسان كالجناية على
الخناصر والآذان.
فصل: فيما يؤجر على قصده دون فعله
وتختلف
الأجور باختلاف رتب المصالح؛ فإذا تحققت الأسباب والشرائط
والأركان في الباطن، فإن ثبت في الظاهر ما يوافق الباطن من
تحقق الأسباب والشرائط والأركان، فقد حصل مقصود الشرع ظاهرا أو
باطنا من جلب المصالح ودرء المفاسد، وترتب عليه ثواب الآخرة،
وإن كذب الظن بأن ثبت في الظاهر ما يخالف الباطن، أثيب المكلف
على قصد العمل بالحق، ولا يثاب على عمله لأنه خطأ ولا ثواب على
الخطأ، لأنه مفسدة ولا ثواب على المفاسد.
ولذلك أمثلة أحدها ما ينتفع به الإنسان من المآكل والمشارب
والملابس والمناكح والمساكن المراكب، فإنه لا يقطع بحل شيء من
ذلك، فإن صدق ظنه فغلب حصلت المصلحة المقصودة من إباحة ذلك،
وإن كذب ظنه، لزمه ضمان ما انتفع به من ذلك، أو تلف عنده.
المثال الثاني: ما ينفقه المكلف من الأموال في القربات:
كالزكاة والكفارات
ج / 1 ص -112-
والأوقاف والصدقات وعمارة الربط والمدارس والمساجد والضحايا
والهدايا والوصايا وجميع ما يتقرب به إلى الله من الأموال،
فإنه لا يقطع بحل شيء من ذلك، فإن وافق ظاهره باطنه أثيب
متعاطيه على قصده وفعله، لأنه هم بحسنة وعملها، فكتب له بذلك
عشر حسنات بسبب ما حصله من مصالح تلك القربات. وإن اختلف ظنه
في ذلك أو في شيء منه، أثيب على قصده ونيته دون فعله؛ لأن فعله
خطأ معفو عنه، لا يترتب عليه ثواب ولا يلحق به عقاب إذ لا
يتقرب إلى الرب بشيء من أنواع المفاسد والشرور. وكذلك قال صلى
الله عليه وسلم في ثنائه على ربه عز وجل:
"والخير كله في يديك، والشر ليس إليك":
أي والشر ليس قربة ولا وسيلة إليك؛ إذ لا يتقرب إلى الله إلا
بأنواع المصالح والخيور، ولا يتقرب إليه بشيء من أنواع المفاسد
والشرور، بخلاف ظلمة الملوك الذين يتقرب إليهم بالشرور، كغصب
الأموال وقتل النفوس، وظلمهم العباد، وإفشاء الفساد وإظهار
العناد، وتخريب البلاد، ولا يتقرب إلى رب الأرباب إلا بالحق
والرشاد.
فإن قيل: الجهاد إفساد، وتفويت النفوس والأطراف والأموال، وهو
مع ذلك قربة إلى الله؟ قلنا: لا يتقرب به من جهة كونه إفسادا،
وإنما يتقرب من جهة كونه وسيلة إلى درء المفاسد وجلب الصلاح،
كما أن قطع اليد المتآكلة وسيلة إلى حفظ الأرواح، وليس مقصودا
من جهة كونه إفسادا لليد. وكذلك الفصد والحجامة وشرب الأدوية
المرة البشعة، وكذلك ما يتحمله الناس من المشاق التي هي وسائل
المصالح.
المثال الثالث: أن يقضي المكلف دينه بمال يعتقد أنه ملكه، أو
ينفقه على من تلزمه نفقته من زوجه وأقاربه ورقيقه ودوابه، وذلك
المال في الباطن ملك لغيره، فيثاب على قصده ونيته، ولا يثاب
على إنفاقه، لأنه مفسدة ولا يثاب على المفاسد.
المثال الرابع: إذا اعتكف المكلف في مكان يظنه مسجدا، فإن كان
مسجدا في الباطن أثيب على قصده واعتكافه، لأنه هم بحسنة
وعملها، وإن لم يكن مسجدا في الباطن
ج / 1 ص -113-
أثيب على قصده دون اعتكافه، لأن اعتكافه إفساد لمنافع لا
يستحقها وتلزمه أجرتها.
المثال الخامس: أن يقتل الحاكم من يجوز قتله في ظاهر الشرع، أو
يرجمه أو يحده، أو يسلم المرأة إلى من ثبت أنه زوجها، فإن كذب
الظن في ذلك كله فإنه يؤجر على قصده، ولا يؤجر على فعله، لأنه
معاونة على مفاسد عظيمة من قتل نفس معصومة، وحد نفس بريئة
مظلومة أو رجمها، وتسليم امرأة أجنبية إلى من يزني بها،
والإعانة على المفاسد أقصى غاياتها أن يعفى عنها، أما أن تكون
سببا للثواب فلا. وكذلك كل من ساعده وعاونه على تنفيذ أحكامه.
وإن صدق ظنه في ذلك فقد أعان على إقامة الحق، فيثاب على نيته
وفعله، لأنه هم بحسنات وعملها. وكذلك كل من ساعده وعاونه من
أتباعه وأنصاره على تنفيذ أحكامه. وقد أمرنا بالمعاونة على
البر والتقوى، ونهينا عن المعاونة على الإثم والعدوان. ولو علم
الشاهد والحاكم ومباشر القتل والرجم أن القتيل مظلوم، وأن
المرأة أجنبية، كان إثم المباشر أعظم من إثم الحاكم إذا لم
يخبر الحاكم، وإثم الحاكم أعظم من إثم الشاهد، لأن المباشر قد
حقق المفاسد، والحاكم سبب لمباشرته، والشاهد سبب لحكم الحاكم.
فإن قيل: لو صلى المكلف صلاة معتقدا لاجتماع أركانها وشرائطها،
ثم ظهر أنه صلى محدثا، أو صلى قبل الوقت، أو أن إمامه كان
كافرا أو امرأة، أو صلى على غير القبلة، فهل يبطل جميع ما
باشره من أفعال الصلاة وأقوالها وخضوعها وخشوعها أم لا؟
فالجواب: أن ما لا يشترط فيه صحة الطهارة ولا الوقت، كالتسبيح
والتهليل، والدعاء والتشهد والتسليم، والصلاة والتسليم على سيد
المرسلين، والدعاء لنفسه وللمؤمنين، والخضوع والخشوع، وملاحظة
معاني الأذكار والقراءة، والخوف والرجاء، والمهابة والإجلال،
فإن هذا كله صحيح يثاب كما لو فعله في غير الصلاة. وأما ما يقف
على الطهارة وعلى دخول الوقت، فلا يثاب عليه، لأنه خطأ محرم لو
شعر به. وأما قراءة القرآن في صلاة الجنب ففي الثواب عليها
ج / 1 ص -114-
نظر مأخذه النظر في تعذر الجهة، كما في الصلاة في الدار
المغصوبة. فإن قيل: قد قال عليه السلام:
"إذا اجتهد
الحاكم فأخطأ فله أجر"، فهذه كان
بمثابته؟ قلنا: لا يثاب المجتهد على خطئه وإنما ثوابه على
اجتهاده وقصده فكذلك ههنا، وإذ أصاب المجتهد فله أجر على قصده
وأجر على إصابته، كما ذكرناه فيما إذا وافق الظاهر الباطن في
جلب المصالح ودرء المفاسد. فإن قيل: لو فعل المكلف ما هو مفسدة
في ظنه واعتقاده، وليس بمفسدة في نفس الأمر، فهل يعاقب عليه
عقاب من عصى الله بتحقيق المفسدة؟ فالجواب ألا يعاقب إلا على
جرأته ومخالفته دون تحقيقه المفسدة، لأن الأوزار تختلف باختلاف
صغر المفاسد وكبرها، وإنما قلنا إن المفاسد لا يثاب عليها، إذ
لا تعظيم فيها للرب ولا مصلحة فيها لعباده، بل هي ضارة للعباد
كما ذكرناها في رجم من لا يجوز رجمه، وقتل من لا يجوز قتله،
وأخذ ما لا يجوز أخذه، وتسليم من لا يجوز تسليمه؛ كتسليم
الجارية والزوجة بما بعث في الظاهر من البيع والنكاح على خلاف
الباطن.
فصل فيما يتعلق به الثواب والعقاب من الأفعال
لا يثاب الإنسان ولا يعاقب إلا على كسبه وإكسابه. ولا يكون إلا
بمباشرة أو بسبب قريب أو بعيد: قال الله تعالى:
{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقال:
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}، أي ليس له إلا جزاء سعيه، وقال: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا}، ولأن الغرض بالتكاليف تعظيم الإله بطاعته واجتناب معصيته، وذلك
مختص بفاعليه، إذ لا يكون معظم المحرمات منتهكا لها بانتهاك
غيره، ولا منتهك المحرمات معظما لها بتعظيم غيره، فكذلك لا
تجوز الاستنابة في المعاصي والمخالفات، ولا في الطاعات
البدنيات، إلا ما استثنى من الطاعات كالحج والعمرة والصوم
والصدقات رحمة للعاجزين بتحصيل ثواب هذه القربات، وللنائبين
عنهم بالتسبب إلى إنالة ثواب هذه الطاعات. وأما قوله
ج / 1 ص -115-
عليه الصلاة والسلام:
"إذا مات
ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية، أو علم ينتفع به،
أو ولد صالح يدعو له"، ومعناه انقطع أجر عمله أو ثواب عمله فهذا على وفق القاعدة لأن هذه
المستثنيات من كسبه، فإن العلم المنتفع به من كسبه فجعل له
ثواب التسبب إلى تعليم هذا العلم. وكذلك الصدقة الجارية تحمل
على الوقف وعلى الوصية بمنافع داره وثمار بستانه على الدوام،
فإن ذلك من كسبه، لتسببه إليه، فكان له أجر التسبب، وليس
الدعاء مخصوصا بالولد، بل الدعاء شفاعة جائزة من الأقارب
والأجانب، وليست مستثناة من هذه، لأن ثواب الدعاء للداعي
والمدعو به حاصل للمدعو له، فإن طلب له المغفرة والرحمة كانت
المغفرة والرحمة مخصوصين بالمدعو له، وثواب الدعاء للداعي، كما
لو شفع إنسان لفقير في كسوة أو في العفو عن زلة، كانت للشافع
ثواب الشفاعة في العفو والكسوة، وكانت مصلحة العفو والكسوة
للفقير.
وقد ظن بعض الجهلة أن المصاب مأجور على مصيبته، وهذا خطأ صريح
فإن المصائب ليست من كسبه بمباشرة ولا تسبب، فمن قتل ولده أو
غصب ماله أو أصيب ببلاء في جسده، فليست هذه المصائب من كسبه
ولا تسببه حتى يؤجر عليها، بل إن صبر عليها كان له أجر
الصابرين وإن رضي بها كان له أجر الراضين ولا يؤجر على نفس
المصيبة، لأنها ليست من عمله، فقد قال تعالى:
{إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، كيف والمصائب الدنيوية عقوبات على الذنوب، والعقوبة ليست ثوابا،
ويدل على ذلك قوله تعالى:
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ}، وقوله عليه السلام:
"ما من مؤمن يشاك شوكة فما دونها إلا قص به من سيئاته"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصيب المؤمن من وصب ولا نصب حتى الهم يهمه والشوكة يشاكها إلا كفر
به من سيئاته".
فيحمل قوله عليه السلام: "من عزى مصابا
فله مثل أجره"، على تقدير
فله مثل أجر صبره.
ج / 1 ص -116-
لقوله تعالى:
{وَأَنْ
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}. هذا في المصائب التي لا تسبب له إليها. وأما ما تسبب إليه فإن كان
من السيئات كتب عليه وأخذ به في الدنيا والآخرة، فإن من جرح
إنسانا فسرى الجراح إلى نفسه كان وزر القتل وقصاصه وديته عليه،
ولو ألقى على إنسان حجرا ثم مات الملقي قبل وصول الحجر على
الملقى عليه فهلك بذلك الحجر بعد موت الملقي، فإنه يأثم إثم
القاتلين العامدين، ويجب عليه ما يجب عليهم، مع كون القتل وقع
بعد خروجه عن التكليف، لأنه لما كان القتل مسببا عن إلقائه،
قدر كأنه قتله عند ابتداء إلقائه
وإن كان ما يتسبب إليه من الحسنات أجر عليه ومثاله: التسبب
للقتل في سبيل الله تعالى بالجراح أو الرمي كما لو رمى سهما في
كافر فأصابه السهم بعد موت الرامي فقتله كان له سلبه وأجر
قتله. وكذلك إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل بسبب أمره
ونهيه فهذا متسبب إلى قتل نفسه لله عز وجل، فيكون حكمه حكم من
قتل الكفرة أو الفجرة، ولا يثاب على القتل، لأن القتل ليس من
كسبه، وإنما يثاب عليه لأنه تسبب إليه بأمره ونهيه. وكذلك تسبب
الغازي إلى قتل نفسه لحضوره المعركة.
فإن قيل: القتل معصية من القاتل الكافر، فكيف يتمنى الإنسان
الشهادة مع أن تسببها معصية؟ فالجواب أنه ما يتمنى القتل من
جهة أنه قتل وإنما تمنى أن يثبت في القتال، فإن أتى القتل على
نفسه فكان ثوابه على تعرضه للقتل لا على نفس القتل الذي ليس من
كسبه، وعلى هذا يجعل قوله تعالى:
{وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَلْقَوْهُ}،
أي تمنون القتل في سبيل الله من قبل أن تلقوا أسبابه في يوم
أحد، ويجوز أن يتمنى الإنسان القتل من جهة كونه سببا لنيل
منازل الشهداء، لا من جهة كونه قتلا ومعصية، وقد كان عمر رضي
الله عنه يقول: اللهم إني أسألك الشهادة في سبيلك، وموتا في
بلد رسولك. وأما قتل أهل البغي فإنه خطأ من البغاة، ولا يثاب
المقطوع على خطأ غيره، وكذا الثواب على دفع مفسدة البغي
بالقتال.
ج / 1 ص -117-
فصل: فيما يثاب عليه من حسن الصفات وما لا يثاب عليه
كل صفة
جبلية لا كسب للمرء فيها، كحسن الصور، واعتدال القامات وحسن
الأخلاق، والشجاعة والجود، والحياء والغيرة، والنخوة وشدة
البطش، ونفوذ الحواس، ووفور العقول، فهذا لا ثواب عليه مع فضله
وشرفه لأنه ليس بكسب لمن اتصف به، وإنما الثواب والعقاب على
ثمراته المكتسبة، فمن أجاب هذه الصفات إلى ما دعت إليه الشريعة
كان مثابا على إجابته جامعا لصفتين حسناوين إحداهما: جبلية،
والأخرى كسبية، ومن لم يجب إلى ذلك كان وصفه حسنا وفعله قبيحا،
وأما ما يصدر عن هذه الأوصاف من آثارها المكتسبة فإن لم يقصد
بها وجه الله فلا ثواب عليها، وإن قصد بها الرياء والتسميع أثم
بذلك، وإن قصد بها وجه الله تعالى أجر وفاز بخير الدارين
ومدحهما. |