قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

فصل: في الإقراع عند تساوي الحقوق
وإنما شرعت القرعة عند تساوي الحقوق دفعا للضغائن والأحقاد، وللرضاء بما جرت به الأقدار، وقضاه الملك الجبار، فمن ذلك الإقراع بين الخلفاء عند تساويهم في مقاصد الخلافة، ومن ذلك الإقراع بين الأئمة عند تساويهم في مقاصد الإمامة، ومن ذلك تقارعهم على الأذان عند تساوي المؤذنين، ومن ذلك الإقراع في الصف الأول عند تزاحم المتسابقين، ومن ذلك الإقراع في تغسيل الأموات عند تساوي الأولياء في الصفات، ومن ذلك الإقراع بين الحاضنات إذا كن في رتبة واحدة، ومن ذلك الإقراع بين الأولياء إذا أذنت لهم المرأة وكلهم في درجة واحدة، ومن ذلك الإقراع في السفر بين الزوجات؛ لما في تخير الزوج من إيغار صدورهن وإيحاش قلوبهن. وكذلك لو أراد البداءة بإحداهن في القسم، ومن ذلك الإقراع في زفافهن، ومن ذلك الإقراع بين العبيد

 

ج / 1 ص -78-         في الإعتاق إذا زادوا على الثلث، ومن ذلك الإقراع في استيفاء القصاص من قتل جماعة دفعة واحدة، ولا يتخير الحاكم بين أولياء القتلى إذا طلبوا القصاص دفعا لإيغار صدورهم، وإذا تساوت السهام في قسمة الدور والأراضي لم يتخير القاسم بل يقرع بين الشركاء لتساوي حقوقهم ولا يتخير في التقدم لما فيه من إيغار الصدور، ولو حضر الحاكم خصوم لا مزية لبعضهم على بعض أقرع بينهم لئلا يوغر صدورهم، وإن ترجح بعضهم على بعض كالمرأة والمقيم والمسافر قدم المرأة على الرجال لأنها عورة، وقدم المسافر على المقيم لئلا يتضرر بفوت الرفاق، ولا وجه للإقراع عند تعارض البينتين ولا عند تعارض الخبرين، إذ لا يفيد ثقة بأحد الخبرين ولا بإحدى الشهادتين، ومن ذلك الإقراع في التقاط اللقطاء، ولو تساوى اثنان يصلحان للولاية أو الإمامة أو الأحكام احتمل أن يقرع بينهما، واحتمل أن يتخير بينهما من يفوض إليه ذلك. فكل هذه الحقوق متساوية المصالح ولكن الشرع أقرع ليعين بعضها دفعا للضغائن والأحقاد المؤدية إلى التباغض والتحاسد والعناد، فإن من يتولى الأمر في ذلك إذا قدم بغير قرعة أدى ذلك إلى مقته وبغضته، وإلى أن يحسد المتأخر المتقدم؛ فشرعت القرعة دفعا لهذا الفساد والعناد، لا لأن إحدى المصلحتين رجحت على الأخرى، ولا يمكن مثل ذلك في تعارض البينتين، فإن القرعة لا ترجح الثقة بإحدى الشهادتين إذ لا تزيد بيانا، والترجيح في كل باب إنما يقع بالزيادة في مقاصد ذلك الباب.

فصل: فيما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساده أو بإفساد بعضه أو بإفساد صفة من صفاته
فأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بفساده فكإفساد الأطعمة والأشربة والأدوية لأجل الشفاء والاغتذاء وإبقاء المكلفين لعبادة رب العالمين، وكإحراق الأحطاب وإبلاء الثياب والبسط والفرش وآلات الصنائع بالاستعمال. وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد بعضه فكقطع اليد المتآكلة حفظا للروح

 

ج / 1 ص -79-         إذا كان الغالب السلامة فإنه يجوز قطعها، وإن كان إفسادا لها لما فيه من تحصيل المصلحة الراجحة وهو حفظ الروح. وكذلك حفظ بعض الأموال بتفويت بعضها؛ كتعييب أموال اليتامى والمجانين والسفهاء، وأموال المصالح إذا خيف عليها الغصب، فإن حفظها قد صار بتعييبها فأشبه ما يفوت من ماليتها من أجور حارسها وحانوتها. وقد فعل الخضر عليه السلام مثل ذلك لما خاف على السفينة الغصب فخرقها ليزهد غاصبها في أخذها، وأما ما لا يمكن تحصيل مصلحته إلا بإفساد صفة من صفاته فكقطع الخفين أسفل من الكعبين في الإحرام؛ فإن حرمة الإحرام آكد من حرمة سلامة الخفين. وأما إتلاف أموال الكفار بالتحريق والتخريب وقطع الأشجار فإنه جائز لإخزائهم وإرغامهم، بدليل قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}، ومثله قتل خيولهم وإبلهم، إذا كانت تحتهم في حال القتال. وكذلك قتل أطفالهم إذا تترسوا بهم، لأنه أشد إخزاء لهم من تحريق ديارهم وقطع أشجارهم.

فصل: في اجتماع المفاسد المجردة عن المصالح
إذا اجتمعت المفاسد المحضة فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد والأرذل فالأرذل، فإن تساوت فقد يتوقف وقد يتخير وقد يختلف في التساوي والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين مفاسد المحرمات والمكروهات، ولاجتماع المفاسد أمثلة: أحدها: أن يكره على قتل مسلم بحيث لو امتنع منه قتل، فيلزمه أن يدرأ مفسدة القتل بالصبر على القتل، لأن صبره على القتل أقل مفسدة من إقدامه عليه، وإن قدر على دفع المكروه بسبب من الأسباب لزمه ذلك لقدرته على درء المفسدة، وإنما قدم درء القتل بالصبر لإجماع العلماء على تحريم القتل واختلافهم في الاستسلام للقتل، فوجب تقديم درء المفسدة للجمع على وجوب درئها، على درء المفسدة المختلف في وجوب درئها وكذلك لو أكره على الزنا واللواط فإن الصبر مختلف في جوازه ولا خلاف

 

ج / 1 ص -80-         في تحريم الزنا واللواط. وكذلك لو أكره بالقتل على شهادة زور أو على حكم بباطل فإن كان المكره على الشهادة به أو الحكم به قتلا أو قطع عضو وإحلال بضع محرم لم تجز الشهادة ولا الحكم؛ لأن الاستسلام للقتل أولى من التسبب إلى قتل مسلم بغير ذنب، أو قطع عضو بغير جرم، أو إتيان بضع محرم وإن كانت الشهادة أو الحكم بمال لزمه إتلافه بالشهادة أو بالحكم حفظا لمهجته كما يلزم حفظهما بأكل مال الغير. وكذلك من أكره على شرب الخمر، أو غص ولم يجد ما يسيغ به الغصة سوى الخمر، فإنه يلزمه ذلك؛ لأن حفظ الحياة أعظم في نظر الشرع من رعاية المحرمات المذكورات.
المثال الثاني: إذا اضطر إلى أكل مال الغير أكله، لأن حرمة مال الغير أخف من حرمة النفس، وفوات النفس أعظم من إتلاف مال الغير ببدل، وهذا من قاعدة الجمع بين إحدى المصلحتين وبذل المصلحة الأخرى، وهو كثير في الشرع وله أمثلة: أحدها إذا وجد عادم الماء ما يكفيه لطهارة الحدث أو الخبث، فإنه يطهر به الخبث ويتيمم عن الحدث.
المثال الثالث: إذا وجد المحرم ما يكفيه لطهارة الحدث أو لغسل الطيب العالق به، فإنه يغسل به الطيب تحصيلا لمصلحة التنزه منه في حال الإحرام، ويتيمم عن الحدث، تحصيلا لمصلحة بدل طهارة الحدث، ولو عكس لفاتت إحدى المصلحتين من غير بدل.
المثال الرابع: إذا عتق بعض عبد سرى العتق إلى نصيب شريكه تحصيلا لمصلحة تكميل العتق، وتجب القيمة تحصيلا لبدل ملك شريكه.
المثال الخامس: إذا عتق الواقف أو الموقوف عليه ثم قلنا لا ملك له لم ينفذ عتقه، وإن ملكناه فإن كان المعتق هو الواقف كان إعتاقه كإعتاق الراهن.
وإن كان المعتق هو الموقوف عليه نفذ إعتاقه على الأصح تحصيلا لمصلحة تكميل العتق، ويلزم قيمة نصيب شريكه ليشتري بها ما يوقف بدله تحصيلا

 

ج / 1 ص -81-         لمصلحة بدل الوقف، فكان تحصيل إحدى المصلحتين في هذه المسائل مع بدل الأخرى، أولى من تحصيل إحدى المصلحتين وتعطيل بدل الأخرى. وكذلك لو اضطر إلى أكل النجاسات وجب عليه أكلها، لأن مفسدة فوات النفس والأعضاء أعظم من مفسدة أكل النجاسات.
المثال السادس: إذا وجد المضطر إنسانا ميتا أكل لحمه لأن المفسدة في أكل لحم ميت الإنسان، أقل من المفسدة في فوت حياة الإنسان.
المثال السابع: لو وجد المضطر من يحل قتله كالحربي والزاني المحصن وقاطع الطريق الذي تحتم قتله واللائط والمصر، على ترك الصلاة، جاز له ذبحهم وأكلهم إذا لا حرمة لحياتهم لأنها مستحقة الإزالة، فكانت المفسدة في زوالها أقل من المفسدة في فوات حياة المعصوم، ولك أن تقول في هذا وما شابهه جاز ذلك تحصلا لأعلى المصلحتين أو دفعا لأعظم المفسدتين.
فتقول: جاز التداوي بالنجاسات إذا لم يجد طاهرا يقوم مقامها، لأن مصلحة العافية والسلامة أكمل من مصلحة اجتناب النجاسة، ولا يجوز التداوي بالخمر على الأصح إلا إذا علم أن الشفاء يحصل بها، ولم يجد دواء غيرها، ومثله قطع السلعة التي يخشى على النفس من بقائها.
فإن قيل: قد أجزتم قلع الضرس إذا اشتد ألمه ولم تجوزوا قطع العضو إذا اشتد ألمه؟ قلنا الفرق بينهما من وجهين أحدهما: أن قطع العضو مفوت لأصل الانتفاع به، وقلع الضرس مفوت لتكميل الانتفاع فإن غيره من الأضراس والأسنان يقوم مقامه. والثاني: أن قلع الضرس لا سراية له إلى الروح بخلاف قطع العضو. فإن قيل: لم التزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدين؟ قلنا: التزم ذلك دفعا لمفاسد عظيمة وهي قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكة لا يعرفهم أهل الحديبية وفي قتلهم معرة عظيمة على المؤمنين، فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين، مع أن الله عز وجل علم

 

ج / 1 ص -82-         أن في تأخير القتال مصلحة عظيمة وهي إسلام جماعة من الكافرين وكذلك قال: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي في ملته التي هي أفضل رحمته وكذلك قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي لو تفرق بين المؤمنين والكافرين وتميز بعضهم من بعض لعذبنا الذين كفروا بالقتل والسبي منهم عذابا أليما. ولتساوي المفاسد أمثلة: أحدها إذا وقع رجل على طفل من بين الأطفال إن أقام على أحدهم قتله، وإن انفتل إلى آخر من جيرانه قتله، فقد قيل ليس في هذه المسألة حكم شرعي وهي باقية على الأصل في انتفاء الشرائع قبل نزولها ولم ترد الشريعة بالتخيير بين هاتين المفسدتين، فلو كان بعضهم مسلما وبعضهم كافرا فهل يلزمه الانفتال إلى الكافر، لأن قتله أخف مفسدة من قتل الطفل المحكوم بإسلامه؟ فالأظهر عندي أنه يلزمه لأنا نجوز قتل أولاد الكفار عند التترس بهم حيث لا يجوز مثل ذلك في أطفال المسلمين.
المثال الثاني: إذا اغتلم البحر بحيث علم ركبان السفينة أنهم لا يخلصون إلا بتغريق شطر الركبان لتخف بهم السفينة، فلا يجوز إلقاء أحد منهم في البحر بقرعة ولا بغير قرعة، لأنهم مستوون في العصمة، وقتل من لا ذنب له محرم، ولو كان في السفينة مال أو حيوان محترم لوجب إلقاء المال ثم الحيوان المحترم. لأن المفسدة في فوات الأموال والحيوانات المحترمة أخف من المفسدة في فوات أرواح الناس.
المثال الثالث: إذا أكره إنسان على إفساد درهم من درهمين لرجل أو رجلين تخير في إفساد أيهما شاء.
المثال الرابع: لو أكره بالقتل على إتلاف حيوان محترم من حيوانين يتخير بينهما.
المثال الخامس: لو أكره على شرب قدح خمر من قدحين تخير أيضا.
المثال السادس: لو وجد حربيين في المخمصة فإن تساويا تخير في أكل أيهما

 

ج / 1 ص -83-         شاء وإن تفاوتا بأن كان أحدهما أجنبيا والآخر أبا أو ابنا أو أما أو جده كره أن يأكل قريبه ويدع الأجنبي، كما يكره أن يقتله في الجهاد، ولو وجد صبيا أو مجنونا مع بالغ كافر أكل الكافر بعد ذبحه وكف عن الصبي والمجنون لما في أكلهما من إضاعة ماليتهما على المسلمين، ولأن الكافر الحقيقي أقبح من الكافر الحكمي.
المثال السابع: لو وجد كافرين قويين أيدين في حال المبارزة تخير في قتل أيهما شاء، إلا أن يكون أحدهما أعرف بمكايد القتال والحروب، وأضر على أهل الإسلام، فإنه يقدم قتله على قتل الآخر لعظم مفسدة بقائه، بل لو كان ضعيفا وهو أعرف بمكايد الحروب والقتال، قدم قتله على قتل القوي، لما في إبقائه من عموم المفسدة.
المثال الثامن: لو قصد المسلمين عدوان، أحدهما من المشرق والآخر من المغرب، فتعذر دفعهما جميعا، دفعنا أضرهما أو أكثرهما عددا ونجدة ونكاية في أهل الإسلام، إلا أن تكون الضعيفة أقرب إلينا من القوية ونتمكن من دفعهما قبل أن تغشانا الفئة القوية فنبدأ بها، ولو تكافأ العدوان من كل وجه من القرب والبعد وغيرهما تخيرنا في ذلك عند تعذر الجمع.

فصل: في اجتماع المصالح مع المفاسد
إذا اجتمعت مصالح ومفاسد فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالا لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}. حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما.
أما منفعة الخمر فبالتجارة ونحوها، وأما منفعة الميسر فبما يأخذه القامر من المقمور

 

ج / 1 ص -84-         وأما مفسدة الخمر فبإزالتها العقول، وما تحدثه من العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة. وأما مفسدة القمار فبإيقاع العداوة والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه مفاسد عظيمة لا نسبة إلى المنافع المذكورة إليها. وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد.
فنبدأ بأمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد من رجحان مصالحهما على مفاسدهما وهذه المصالح أقسام: أحدهما ما يباح. والثاني: ما يجب لعظم مصلحته، والثالث ما يستحب لزيادة مصلحته على مصلحة المباح، والرابع مختلف فيه.
المثال الأول: التلفظ بكلمة الكفر مفسدة محرمة لكنه جائز بالحكاية والإكراه، إذا كان قلب المكره مطمئنا بالإيمان، لأن حفظ المهج والأرواح أكمل مصلحة من مفسدة التلفظ بكلمة لا يعتقدها الجنان، ولو صبر عليها لكان أفضل لما فيه من اعتزاز الدين وإجلال رب العالمين، والتغرير بالأرواح في إعزاز الدين جائز، وأبعد من أوجب التلفظ بها.
المثال الثاني: ما يكفر به من الأفعال المناقضة للتعظيم والإجلال إذا فعله بالإكراه، ولا يتصور الإكراه على الكفر بالجنان، ولا على جحد ما يجب الإيمان به؛ إذ لا اطلاع للمكره على ما يشتمل عليه الجنان من كفر وإيمان وجحد وعرفان.
المثال الثالث: استعمال الماء المشمس مفسدة مكروهة، فإن لم يجد غيره وجب استعماله لأن تحصيل مصلحة الواجب، أولى من دفع مفسدة المكروه، لأن تحمل مشقة المكروه، أولى من تحمل مفسدة تفويت الواجب.
فإن قيل هلا حرمتم استعمال الماء المشمس لما فيه من الأضرار بإفساد

 

ج / 1 ص -85-         الأجساد، والرب سبحانه وتعالى لا يحب الفساد ولا أهل الفساد؟ قلنا أسباب الضرر أقسام: - أحدها ما لا يختلف مسببه عنه، إلا أن يقع معجزة لنبي أو كرامة لولي؛ كالإلقاء في النار وشرب السموم المذففة، والأسباب الموجبة، فهذا ما لا يجوز الإقدام عليه في حال اختيار ولا في حال إكراه؛ إذ لا يجوز للإنسان قتل نفسه بالإكراه، ولو أصابه مرض لا يطيقه لفرط ألمه لم يجز قتل نفسه، كما لا يجوز الإقدام على الزنا واللواط بشيء من أسباب الإكراه، ولو وقع بركبان السفينة نار لا يرجى الخلاص منها فعجزوا عن الصبر على تحملها مع العلم بأنه لا نجاة لهم من آلامها إلا بالإلقاء في الماء المغرق؛ فالأصح أنه لا يلزمهم الصبر على ذلك، إذ استوت مدتا الحياة في الإحراق والإغراق، لأن إقامتهم في النار سبب مهلك لا انفكاك عنه. وكذلك إغراق أنفسهم في الماء لا انفكاك عنه، وإنما يجب الصبر على شدة الآلام إذا تضمن الصبر على شدتها بقاء الحياة، وههنا لا يفيد الصبر على ألم النار شيئا من الحياة فتبقى مفسدة لا فائدة لها.
القسم الثاني: ما يغلب ترتب مسببه عليه وقد ينفك عنه نادرا فهذا أيضا لا يجوز الإقدام عليه؛ لأن الشرع أقام الظن مقام العلم في أكبر الأحوال.
القسم الثالث: ما لا يترتب مسببه إلا نادرا، فهذا لا يحرم الإقدام عليه لغلبة السلامة من أذيته وهذا كالماء المشمس في الأواني المعدنية في البلاد الحارة، فإنه يكره استعماله مع وجدان غيره، خوفا من وقوع نادر ضرره، فإن لم يجد غيره تعين استعماله لغلبة السلامة من شره؛ إذ لا يجوز تعطيل المصالح الغالبة لوقوع المفاسد النادرة، ومن وقف الكراهة على استعمال فيه على قصد استعماله فقد غلط، لأن ما يؤثر بطبعه الذي جبله الله عليه لا يقف تأثيره على قصد القاصدين؛ فإن الخبز يشبع، والماء يروي، والسقمونيا تسهل، والسم يقتل، والفروة تدفئ، ولا يقف شيء من ذلك على قصد القاصدين.
المثال الرابع: من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان

 

ج / 1 ص -86-         مصالحها على مفاسدها الصلاة مع الأحداث الثلاثة، مفسدة يجب اتقاؤها عند الإمكان، فإن تعذر اتقاؤها فللمكلف حالان: إحداهما: أن يتمكن من إبدالها بالتيمم فيجب جبرا لما فات من مصالحها عند تعذرها. الحالة الثانية: أن يعجز عن بدلها فالأصح أنه يصلي على حسب حاله؛ لأن المصالح الحاصلة من مقاصد الصلاة، أكمل من المفسدة الحاصلة من استصحاب الأحداث في الصلاة.
المثال الخامس: الصلاة مع الأنجاس مفسدة يجب اتقاؤها في الصلاة لأن المصلي جليس الرب مناج له، فمن إجلال الرب ألا يناجى إلا على أشرف الأحوال، فإن شق الاجتناب بعذر غالب كفضلة الاستجمار ودم البراغيث وطين الشوارع ودم القروح والبثرات جازت صلاته رفقا بالعباد، وإن تعذر الاجتناب بحيث لا تمكن الطهارة صحت الصلاة على الأصح، لأن تحصيل مقاصد الصلاة العظمى أولى من رعاية الطهارة التي هي بمثابة التتمات والتكملات، وقد اختلف العلماء في اشتراطها في الصلاة.
المثال السادس: الصلاة مع تجدد الحدث والخبث مفسدة محرمة، فإن تعذرت الطهارة من أحدهما وشقت من الآخر كصلاة المستحاضة، ومن به سلس البول والمذي والودي وذرب المعدة، جازت الصلاة معها؛ لأن رعاية مقاصد الصلاة أولى من تحصيل مصلحة الطهارتين، أو من دفع مفسدة الحدث والخبث.
المثال السابع: الصلاة إلى غير القبلة مفسدة محرمة، فإن تعذر استقبال القبلة بصلب أو عجز أو إكراه، وجب الصلاة على الأصح إلى الجهة التي حول وجهه إليها لئلا تفوت مقاصد الصلاة وسائر شرائطها بفوات شرط من شرائطها لا نسبة لمصلحته إلى شيء من مصالح مقاصدها، وإن اشتد الخوف بحيث لا يتمكن الغازي من استقبال القبلة سقط استقبالها وصار استقبال جهة المقاتل بدلا من القبلة، وهذا جمع بين مصلحتي الجهاد والصلاة. وكذلك السفر المباح يصير صوبه بدلا من جهة القبلة في حق المتنفل، لما ذكرناه من أن تحصيل مقاصد

 

ج / 1 ص -87-         الصلاة أولى من رعاية شرط من شروطها، ولو منعنا التنفل في الأسفار لامتنع أكثر الناس من التنفل في السفر ولامتنع الأبرار من الأسفار حرصا على إقامة النافلة.
المثال الثامن: صلاة العريان مفسدة محرمة لما فيها من قبح الهيئة لا لأن المصلي مستتر من ربه، فمن عدم السترة صلى عريانا على الأصح؛ لئلا تفوت مقاصد الصلاة حفظا للسترة التي اختلف العلماء في اشتراطها في الصلاة، وهي من التوابع.
المثال التاسع: نبش الأموات مفسدة محرمة، لما فيه من انتهاك حرمتهم، لكنه واجب إذا دفنوا بغير غسل أو وجهوا إلى غير القبلة؛ لأن مصلحة غسلهم وتوجيههم إلى القبلة أعظم من توقيرهم بترك نبشهم، فإن جيفوا وسال صديدهم لم ينبشوا لإفراط قبح نبشهم، ولو ابتلعوا جواهر مغصوبة شقت أجوافهم، فإن كانت الجواهر لمستقل فالأولى ألا يستخرجها إلى أن تتجرد عظامهم عن لحومهم حفظا لحرمتهم، وإن كانت لغير مستقل كالمحجور عليه وأموال المصالح والأوقاف العامة استخرجها حفظا على المحجور عليه وصرفا لها في جهات استحقاقها، وإن دفنوا في أرض مغصوبة جاز نقلهم، لأن حرمة مال الحي آكد من حرمة الميت، والأولى بمالك الأرض ألا ينقلهم، فإن أبى فالأولى أن يتركهم إلى أن تتجرد عظامهم عن لحومهم وتتفرق أوصالهم.
وكذلك شق جوف المرأة على الجنين المرجو حياته، لأن حفظ حياته أعظم مصلحة من مفسدة انتهاك حرمة أمه، وإذا اختلط قتلى الكافرين بقتلى المسلمين وجب تغسيل الجميع وتكفينهم وحملهم، نظرا لإقامة مصلحة ذلك في حق المسلمين، ولا يصلى على الجميع، بل ينوى الصلاة على المسلمين خاصة، فتجهيز المسلمين مصلحة مقصودة، وتجهيز الكافرين وسيلة إلى تحصيل المصلحة المقصودة للمسلمين.
المثال العاشر: ذبح الحيوان المأكول للتغذية مفسدة في حق الحيوان لكنه

 

ج / 1 ص -88-         جاز تقديما لمصلحة بقاء الإنسان على مصلحة بقاء الحيوان. وكذلك ذبح من يباح دمه من المسلمين والكفار كالزاني المحصن، ومن تحتم قتله في قطع الطريق، والمصر على ترك الصلاة، جائز في حال الاضطرار، حفظا لحياة الإنسان المعصوم الواجبة الحفظ، والإبقاء بإزالة حياة واجبة الإزالة والإفناء.
المثال الحادي عشر: قتل الصيد الوحشي المأكول بغير الذبح مفسدة محرمة، لكنه جاز بالحرج عند تعذر الذبح لمصلحة تغذية الأجساد.
المثال الثاني عشر: ذبح صيد الحرم، أو الصيد في الإحرام مفسدة محرمة، لكنه جائز في حال الضرورة، تقديما لحرمة الإنسان على حرمة الحيوان، وهذا من باب تقديم حق العبد على حق الرب. وكذلك أكل أموال المسلمين بغير إذن منهم مفسدة، لكنه جائز عند الضرورات ومسيس الحاجات. وكذلك جواز أكل النجاسات والميتات من الناس والخنازير والضباع والسباع للضرورة، وهذا من المصالح الواجبات، لأن حفظ الأرواح أكمل مصلحة من اجتناب النجاسات، ولو وجد المضطر المحرم صيدا وميتة وطعام أجنبي، فهل يتخير، أو يتعين أكل الميتة أو الصيد أو مال الغير، فيه اختلاف، مأخذه أي هذه المفاسد أخف وأيها أعظم.
المثال الثالث عشر: ترك الصلاة وصوم رمضان وتأخير الزكاة وحقوق الناس الواجبات من غير عذر شرعي مفسدة محرمة، لكنه جائز بالإكراه؛ فإن حفظ النفوس أولى مما يترك بالإكراه، مع أن تداركه ممكن، فيكون جمعا بين هذه الحقوق وبين حفظ الأرواح.
المثال الرابع عشر: شرب الخمر مفسدة محرمة، لكنه جائز بالإكراه لأن حفظ النفوس والأطراف أولى من حفظ العقول في زمن قليل، ولأن فوات النفوس والأطراف دائم، وزوال العقول يرتفع عن قريب بالصحو.
المثال الخامس عشر: شهادة الزور مفسدة كبيرة فإن أكره عليها بالقتل أو

 

ج / 1 ص -89-         بما يؤدي إلى القتل كقطع عضو، فإن كان المشهود به يتضمن قتل نفس معصومة أو زنا أو لواطا لم يجز، لقبح الكذب وقبح التسبب إلى القتل والزنا واللواط، وإن كانت الشهادة بغير ذلك جازت لأن حرمة نفس الشاهد أعظم من حرمة ما أكره على الشهادة به، والإكراه على الحكم كالإكراه على شهادة الزور.
المثال السادس عشر: هجرة المسلم محرمة لما فيها من المفسدة، لكنها جازت في ثلاثة أيام دفعا للمشقة عن المحرج الغضبان.
المثال السابع عشر: الحجر على المرء المستقل في تصرفه في منافع نفسه مفسدة، لكنه ثبت على النساء في النكاح دفعا لمشقة مباشرته عنهن، فإن المرأة تستحي ويشتد خجلها من العقد على نفسها أو غيرها ولا سيما المستحيات الخضرات. وكذلك إجبار النساء على النكاح مفسدة، لأنه أحد الرقين، لكنه جاز في حق الأبكار الأصاغر، لما فيه من المبادرة إلى تحصيل الأكفاء، إذ لا يتفق حصول الأكفاء في جميع الأوقات.
المثال الثامن عشر: الحجر على المرضى فيما زاد على الثلث مفسدة في حقهم، لكنه ثبت، نظرا لمصلحة الورثة في سلامة الثلثين لهم، كما ثبت تقديم حقه في الثلث على حقوقهم.
المثال التاسع عشر: الحجر على المفلس مفسدة في حقه لكنه ثبت تقديما لمصلحة الغرماء على مفسدة الحجر، وإن شئت قلت تقديما لمصلحة غرمائه على مصلحته في الإطلاق، بخلاف الإنفاق عليه وعلى أهله إلى يوم قضاء الدين، فإن مصلحته بالكسوة والإنفاق ومصلحة من يلزمه مصلحته مقدمة على مصالح غرمائه. فإن قيل: كيف يكون الحجر عليه مفسدة في حقه مع ما فيه من إبراء ذمته الذي هو مهم في الشرع والطبع؟ قلنا: المقصود الأعظم توفير الحقوق للغرماء وبراءة ذمته تبعا لذلك، وأما حجر التبذير فإنه واجب لرجحان مصلحة الحجر على مفسدة الإطلاق، والحجر على الصبيان والمجانين مصلحة محضة

 

ج / 1 ص -90-         لا تعارضها مفسدة، إذ لا يأتي منهم التصرف. وفي الحجر على الصبي المميز في البيع ونحوه اختلاف بين العلماء. وكذلك الحجر على السفيه ثابت لمصلحته، لأن إطلاقه مفسدة في حقه، لكنه تجوز وصيته لأنها مصلحة في حقه لا تعارضها مفسدة. وكذلك وصية الصبي المميز على القول المختار، فإنها مصلحة له في أخراه لا تعارضها مفسدة في دنياه ولا في أخراه.
المثال العشرون: الحجر على العبيد مفسدة في حقهم مصلحة في حق السادة، لشرف الحرية.
المثال الحادي والعشرون: بيع العبد في جنايته مفسدة في حق السيد مصلحة في حق المجني عليه، وقد خالف فيها بعض أهل الظاهر، وخلافهم ظاهر.
المثال الثاني والعشرون: وضع اليد بغير إذن المالك مفسدة موجبة للضمان، إلا في حق الحكام ونواب الحكام، إذا غلطوا بذلك في معرض التصرف بالأحكام، أو النيابة عن الحكام. لأن التغريم يكثر ويشق عليهم ويزهدهم في ولاية الأموال، ويجوز التقاط الأموال لمصالح أربابها. وكذلك أخذ الحكام إياها لحفظها، وهذا واجب على الحكام. وكذلك الأمانة الشرعية، مثل من طيرت إليه الريح ثوبا. والالتقاط محبوب أو واجب فيه اختلاف، والالتقاط للتعريف والتملك جائز لمصلحة المالك والملتقط، وظفر المستحق بجنس حقه وبغير جنسه عند تعذر أخذه ممن هو عليه جائز، وهذا من المصالح المباحة إلا في حق المجانين والأيتام والأموال العامة لأهل الإسلام.
المثال الثالث والعشرون: إتلاف مال الغير مفسدة في حقه مضمون ببذله، إلا في قتال البغاة والصوال والممتنعين من أداء الحقوق بالقتال
المثال الرابع والعشرون: القتل بغير حق مع الجهل بكونه مستحق مفسدة موجبة للضمان على القاتل أو على عاقلته، إلا أن يكون جلادا، لما في تغريمه من تكرر الغرم الداعي إلى ترك القيام بمصلحة إقامة الحدود والقصاص.

 

ج / 1 ص -91-         المثال الخامس والعشرون: قتل المسلم مفسدة محرمة، لكنه يجوز بالزنا بغير الإحصان، وبقطع الطريق والبغي والصيال.
المثال السادس والعشرون: تقديم عاقلة الحاكم الدية فيما يخطئ به الحاكم في معرض الأحكام، ومصالح الإسلام مضرة على عاقلته، فتجب على بيت المال دون العاقلة على قول، لما في تغريم عاقلته من تكرير تحميل العقل وكذلك ما يفسده الإمام ويفوته من الأموال بسبب تصرفاته لأهل الإسلام، هل يغرمه أو يجب في بيت المال؟ فيه القولان.
المثال السابع والعشرون: تصحيح ولاية الفاسق مفسدة، لما يغلب عليه من الخيانة في الولاية، لكنها صححناها في حق الإمام الفاسق والحاكم الفاسق؛ لما في إبطال ولايتهما من تفويت المصالح العامة، ونحن لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ينفذ من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين، فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد، إذ لا يترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل، والذي أراه في ذلك أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق مع عدم ولايتهم لضرورة الرعية، كما نصحح تصرفات إمام البغاة مع عدم أمانته؛ لأن ما ثبت للضرورة تقدر بقدرها، والضرورة في خصوص تصرفاته، فلا نحكم بصحة الولاية فيما عدا ذلك، بخلاف الإمام العادل فإن ولايته قائمة في كل ما هو مفوض إلى الأئمة.
المثال الثامن والعشرون: تولي الآحاد لما يختص بالأئمة مفسدة، لكنه يجوز في الأموال إذا كان الإمام جائرا يضع الحق في غير مستحقه، فيجوز لمن ظفر بشيء من ذلك الحق أن يدفعه إلى مستحقيه تحصيلا لمصلحة ذلك الحق الذي لو دفع إلى الإمام الجائر لضاع، ولكان دفعه إليه إعانة على العصيان، وقد قال الله تعالى:
{وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
المثال التاسع والعشرون: نكاح الأحرار الإماء مفسدة محرمة

 

ج / 1 ص -92-         لما فيه من تعريض الأولاد للإرقاق، لكنه جائز عند خوف العنت وفقد الطول، دفعا لمفسدة وقوع التائق في الزنا الموجب في الدنيا للعار وفي الآخرة لعذاب النار.
فإن قيل: كيف يحرم تحصيل مصلحة ناجزة محققة لتوقع مفسدة ممهلة؟ قلنا لما غلب وقوع هذه المفسدة جعل الشرع المتوقع كالواقع، فإن العلوق غالب كثير، والشرع قد يحتاط لما يكثر وقوعه احتياطه لما تحقق وقوعه. ألا ترى أن من أثبت أن أباه مات فإنه يلزمه حصر الورثة فيه، وإن أثبت نفي الزوجات والآباء والأمهات لم ينفعه الإثبات، وإن كان الأصل عدم من سوى الأصول والزوجات، وذلك احتياط لما يتوهم وجوده من الورثة.
فإن قيل لو طلب هذا الأمين من التركة درهما واحدا وهي عشرة آلاف، فهل يدفع إليه شيء قبل الحصر أم لا؟ قلنا نعم يدفع إليه ما يقطع بأنه يستحقه إذا كان عدد الورثة لا ينتهي إلى مثل عدد التركة في العادة، كما يدفع إلى ذوي الفروض فروضهم عائلة، إذ من المحال في العادة أن ينتهي عدد الورثة إلى ألف أو ألفين فما النظر بعشرة الآلاف.
فإن قيل: إذا تزوج الأمة حر مجبوب الذكر والأنثيين فليجز ذلك مع أمن العنت ووجدان الطول إذ لا يتوقع له ولد فيرق؟ قلت: إن ألحقنا به النسب جاز كغير المجبوب وإن لم يلحق به النسب فالذي أراه جواز ذلك إذ لا مانع منه.
المثال الثلاثون: تزوج الضرات بعقد أو عقود مفسدة؛ لما فيه من الإضرار بالزوجات، لكنه جاز أن تضر كل واحدة منهن بثلاث نظرا لمصالح الرجال وتحصيلا لمقاصد النكاح، فإن خيف من الجور عليهن استحب الاقتصار على واحدة أو سرية، دفعا لما يتوقع من مفسدة الجور، وحرمت الزيادة على الأربع نظرا للنساء ودفعا لمظان جور الرجال على الأزواج، كما جاز كسر المرأة بثلاث طلقات ولم تجز الزيادة عليها نظرا لمصالح النساء وزجرا للرجال عن تكثير مفسدة الطلاق.

 

ج / 1 ص -93-         المثال الحادي والثلاثون: التقرير على الأنكحة الفاسدة مفسدة إلا في تقرير الكفار على الأنكحة الفاسدة إذا أسلموا، فإنه واجب، لأنا لو أفسدناها لزهد الكفار في الإسلام خوفا من بطلان أنكحتهم فتقاعدوا عن الإسلام، والترغيب في الإسلام بتقريرهم على أنكحتهم أولى من التنفير من الإسلام بإفساد أنكحتهم، إذ لا مفسدة أقبح من تفويت الإسلام والسعي في تفويته. وكذلك لا يقتص منهم بمن قتلوه من المسلمين ولا يغرمون ما أتلفوا على المسلمين من الأموال؛ لأنا لو ألزمناهم ذلك لتقاعدوا عن الإسلام.
المثال الثاني والثلاثون: التقرير على الكفر مفسدة عظيمة لأنه أعظم المفاسد وفي تقرير المرتد ثلاثة أيام قولان. أحدهما: لا يقرر لوجوب إزالة المفاسد على الفور والكفر من أعظم المفاسد. والثاني: يقرر نظرا له كما تجوز مصالحة أهل الحرب على التقرير أربعة أشهر ولا تجوز الزيادة عليها، لما في ذلك من تقرير أعظم المفاسد وأنكر المنكرات. فإن خيف على أهل الإسلام جاز التقرير بالصلح عشر سنين رعاية لمصالح المسلمين، وتوقعا في هذه المدة لإسلام بعض الكافرين. وقد صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عشر سنين فدخل منهم خلق كثير في الإسلام، ولا تجوز الزيادة عليها لأن الكفر أنكر المنكرات، فلا يجوز التقرير عليه إلا بقدر ما جاءت به السنة. وكذلك لا تخلى كل سنة من غزوة، وواجب الإمام القتال على الدوام، والاستمرار عند الإمكان، والذي ذكره ظاهر لأن إزالة المفاسد واجبة عند الإمكان، فما الظن بإزالة أعظم المفاسد وهو الكفر بالملك الديان.
فإن قيل: كيف قررتم الكوافر على كفرهن على الدوام؟ قلنا لأنهن قد صرن مالا من أموال المسلمين مع قرب رجوعهن إلى الإسلام.
المثال الثالث والثلاثون: وجوب إجارة مستجير الكفار إلى أن يسمع كلام الله، لعله إذا سمعه أن يقبل عليه ويميل إليه.

 

ج / 1 ص -94-         المثال الرابع والثلاثون: وجوب إجارة رسل الكفار مع كفرهم، لمصلحة ما يتعلق بالرسالة من المصالح الخاصة والعامة.
المثال الخامس والثلاثون: التقرير بالجزية، وهو مختص بأهل الكتابين لإيمانهم بالكتب السماوية التي يوافق أعظم أحكامها أحكام الإسلام فخف كفرهم لإيمانهم بتلك الأحكام، بخلاف من جحدها فإنه كذب الله سبحانه وتعالى في معظم أحكامه وكلامه، فكان كفره أغلظ، بخلاف من آمن بالأكثر وكفر بالأقل، ولا تؤخذ الجزية عوضا عن تقريرهم على الكفر، إذ ليس من إجلال الرب أن تؤخذ الأعواض على التقرير على سبه وشتمه ونسبته إلى ما لا يليق بعظمته، ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد، وإنما الجزية مأخوذة عوضا عن حقن دمائهم وصيانة أموالهم وحرمهم وأطفالهم، مع الذب عنهم إن كانوا في ديارنا، وليست مأخوذة عن سكنى دار الإسلام إذ يجوز عقد الذمة مع تقريرهم في ديارهم. [فائدة] إن قيل الجزية للأجناد على قول وللمصالح على قول، وقد رأينا جماعة من أهل العلم والصلاح لا يتورعون عنها ولا يخرجون من الخلاف منها مع ظهوره؟ فالجواب أن الجند قد أكلوا من أموال المصالح التي يستحقها أهل العلم والورع وغيرهم ممن يجب تقديمه أكثرها، فيؤخذ من الجزية ما يكون قصاصا ببعض ما أخذوه فأكلوه.
المثال السادس والثلاثون: التقرير على المعاصي كلها مفسدة لكن يجوز التقرير عليها عند العجز عن إنكارها باليد واللسان، ومن قدر على إنكارها مع الخوف على نفسه كان إنكاره مندوبا إليه ومحثوثا عليه، لأن المخاطرة بالنفوس في إعزاز الدين مأمور بها كما يعذر بها في قتال المشركين، وقتال البغاة المتأولين، وقتال مانعي الحقوق بحيث لا يمكن تخليصها منهم إلا بالقتال وقد قال عليه السلام:
"أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". جعلها أفضل الجهاد لأن قائلها

 

ج / 1 ص -95-         قد جاد بنفسه كل الجود، بخلاف من يلاقي قرنه من القتال، فإنه يجوز أن يقهره ويقتله فلا يكون بذله نفسه مع تجويز سلامتها، كبذل المنكر نفسه مع يأسه من السلامة.
المثال السابع والثلاثون: انهزام المسلمين من الكافرين مفسدة، لكنه جائز إذا زاد الكافرون على ضعف المسلمين مع التقارب في الصفات تخفيفا عنهم لما في ذلك من المشقة، ودفعا لمفسدة غلبة الكافرين لفرط كثرتهم على المسلمين. وكذلك التحرف للقتال، والتحيز إلى فئة مقاتلة بنية أن يقاتل المتحيز معهم، لأنهما وإن كانا إدبارا إلا أنهما نوع من الإقبال على القتال.
المثال الثامن والثلاثون: قتل الكفار من النساء والمجانين والأطفال مفسدة، لكنه يجوز إذا تترس بهم الكفار بحيث لا يمكن دفعهم إلا بقتلهم.
المثال التاسع والثلاثون: قتل من لا ذنب له من المسلمين مفسدة إلا إذا تترس بهم الكفار وخيف من ذلك اصطلام المسلمين، ففي جواز قتلهم خلاف، لأن قتل عشرة من المسلمين أقل مفسدة من قتل جميع المسلمين.
المثال الأربعون: التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة لكنه واجب إذا علم أنه يقتل من غير نكاية في الكفار، لأن التغرير بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية في المشركين، فإذا لم تحصل النكاية وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام وقد صار الثبوت ههنا مفسدة محضة ليس في طيها مصلحة.
المثال الحادي والأربعون: الإرقاق مفسدة، ولكنه من آثار الكفر فثبت في نساء الكفار وأطفالهم ومجانينهم، زجرا عن الكفر وتقديما لمصالح المسلمين. وكذلك إذ اختار الإمام إرقاق المكلفين من الرجال أما إرقاق الرجال فمن آثار الكفر. وأما إرقاق النساء والصبيان فليس عقوبة لهم بذنب غيرهم وإنما هو عقوبة بالنسبة إلى الآباء والأمهات، وهي بالنسبة إلى النساء والصبيان مصيبة من مصائب الدنيا، كما يصابون بالأمراض والأسقام من غير إجرام.

 

ج / 1 ص -96-         المثال الثاني والأربعون: قتل الممتنعين من أداء الحقوق بغير عذر إذا امتنعوا من أدائها بالقتال، دفعا لمفسدة المعصية، وتحصيلا لمصلحة الحقوق التي امتنعوا من أدائها.
المثال الثالث والأربعون: قتل المرتد مفسدة في حقه، لكنه جاز دفعا لمفسدة الكفر.
المثال الرابع والأربعون: الكذب مفسدة محرمة إلا أن يكون فيه جلب مصلحة أو درء مفسدة، فيجوز تارة ويجب أخرى وله أمثلة:
أحدها: أن يكذب لزوجته لإصلاحها وحسن عشرتها فيجوز لأن قبح الكذب الذي لا يضر ولا ينفع يسير، فإذا تضمن مصلحة تربو على قبحه أبيح الإقدام عليه تحصيلا لتلك المصلحة. وكذلك الكذب للإصلاح بين الناس وهو أولى بالجواز لعموم مصلحته. الثاني: أن يختبئ عنده معصوم من ظالم يريد قطع يده فيسأله عنه فيقول ما رأيته فهذا الكذب أفضل من الصدق، لوجوبه من جهة أن مصلحة حفظ العضو أعظم من مصلحة الصدق الذي لا يضر ولا ينفع، فما الظن بالصدق الضار؟ وأولى من ذلك إذا اختبأ عنده معصوم ممن يريد قتله. الثالث: أن يسأل الظالم القاصد لأخذ الوديعة المستودع عن الوديعة فيجب عليه أن ينكرها، لأن حفظ الودائع واجب وإنكارها ههنا حفظ لها، ولو أخبره بها لضمنها وإنكارها إحسان. الرابع: أن تختبئ عنده امرأة أو غلام يقصدان بالفاحشة، فيسأله القاصد عنهما فيجب عليه أن ينكرهما الخامس: أن يكره على الشرك الذي هو أقبح الكذب أو على نوع من أنواع الكفر فيجوز له أن يتلفظ به حفظا لنفسه، لأن مفسدة لفظ الشرك من غير اعتقاد، دون مفسدة فوات الأرواح، والتحقيق في هذه الصور وأمثالها أن الكذب يصير مأذونا فيه ويثاب على المصلحة التي تضمنها على قدر رتبة تلك المصلحة من الوجوب في حفظ الأموال والأبضاع والأرواح، ولو صدق في هذه

 

ج / 1 ص -97-         المواطن لأثم إثم المتسبب إلى تحقيق هذه المفاسد، وتتفاوت الرتب له، ثم التسبب إلى المفاسد بتفاوت رتب تلك المفاسد.
المثال الخامس والأربعون: من ترجيح المصالح على المفاسد: الغيبة مفسدة محرمة، لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحة واجبة التحصيل، أو جائزة التحصيل، ولها أحوال: أحدها: أن يشاور في مصاهرة إنسان فذكره بما يكره كما قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما خطبها أبو جهم ومعاوية:
"أبا جهم ضراب للنساء، وإن معاوية صعلوك لا مال له" فذكرهما بما يكرهانه نصحا لها ودفعا لضيق عيشها مع معاوية وتعريضا لضرب أبي الجهم. فهذا جائز، والذي يظهر لي أنه واجب لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصح لكل مسلم.
الحالة الثانية: القدح في الرواة واجب، لما فيه من دفع إثبات الشرع بقول من لا يجوز إثبات الشرع به، لما على الناس في ذلك من الضرر في التحريم والتحليل وغيرهما من الأحكام. وكذلك كل خبر يجوز الشرع الاعتماد عليه والرجوع إليه.
الحالة الثالثة: جرح الشهود عند الحكام فيه مفسدة هتك أستارهم، لكنه واجب لأن المصلحة في حفظ الحقوق من الدماء والأموال والأعراض والأبضاع والأنساب وسائر الحقوق أعم وأعظم، فإن علم منه ذنبين أحدهما أكبر من الآخر لم يجز أن يجرحه بالأكبر لأنه مستغنى عنه، وإن استويا تخير ولا يجمع بينهما.
المثال السادس والأربعون: النميمة مفسدة محرمة، لكنها جائزة أو مأمور بها إذا اشتملت على مصلحة للمنموم إليه، مثاله: إذا نقل إلى مسلم أن فلانا عزم على قتله في ليلة كذا وكذا، أو على أخذ ماله في يوم كذا وكذا، أو على التعرض لأهله في وقت كذا وكذا، فهذا جائز بل واجب لأنه توسل إلى دفع هذه

 

ج / 1 ص -98-         المفاسد عن المسلم، وإن شئت قلت لأنه تسبب إلى تحصيل مصالح أضداد هذه المفاسد. ويدل على ذلك كله قوله تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} الآية. وكذلك ما نقله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين.
المثال السابع والأربعون: هتك الأعراض مفسدة كبيرة، لكنه يجوز في الشهادة على الزاني بالزنا لإقامة حد الله تعالى، وعلى القاتل بالقتل لإقامة القصاص، وعلى القاذف بالقذف لإقامة الحد للمقذوف، وعلى الغاصب بالغصب لتغريم الأموال والمنافع. وكذلك الشهادة على السراق وقطاع الطريق بما صنعوه من أخذ الأموال وإراقة الدماء، لإقامة حقوق الله تعالى وحقوق عباده؛ فهذا كله صدق مضر بالمشهود عليه هاتك لستره، لكنه جاز لما فيه من مصالح إقامة حقوق الله وحقوق عباده. وكذلك الشهادة بالكفر والسرقة وغير ذلك من المعاصي الموجبة للعقوبات الشرعية والغرامات المالية، كل ذلك صدق مضر بالمشهود عليه نافع للمشهود له. وكذلك الحكم بما يضر المحكوم عليه وينفع المحكوم له. وكذلك إقامة الحكام على إقامة هذه الأحكام، وكذلك تولية الولاة الذين يضرون قوما وينفعون آخرين. وقد قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص:
"ولعل الله أن يؤخرك حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون".
المثال الثامن والأربعون: كشف العورات والنظر إليها مفسدتان محرمتان على الناظر والمنظور إليه، لما في ذلك من هتك الأستار، ويجوزان لما يتضمنانه من مصلحة الختان أو المداواة أو الشهادات على العيوب أو النظر إلى فرج الزانيين، لإقامة حدود الله، إن كان الناظر أهلا للشهادة بالزنا وكمل العدد، وإن لم يكن كذلك لم يجز لأنه مفسدة لا يبنى عليه مصلحة.
المثال التاسع والأربعون: الرمي بالزنا مفسدة لما فيه من، الإيلام بتحمل العار، لكنه يباح في بعض الصور ويجب في بعضها، لما يتضمنه من المصالح، وله أمثلة.

 

ج / 1 ص -99-         أحدها: قذف الرجل زوجته إذا تحقق زناها شفاء لصدره لما أدخلته عليه من ضرر إفساد فراشه وإرغام غيرته.
الثاني: وجوب قذفها إذا أتت بولد يلحقه في ظاهر الحكم وهو يعلم أنه ليس منه، فيلزمه أن يقذفها لنفيه، لأنه لو ترك نفيه لخالط بناته وأخواته وجميع محارمه، وورثه ولزمته نفقته ولتولى أنكحة بناته إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالنسب، فيلزمه نفيه درءا لهذه المفاسد وتحصيلا لأضدادها من المصالح، ولو أتت به خفية بحيث لا يلحق به في الحكم لم يجب نفيه، والأولى به الستر والكف عن القذف. الثالث: جرح الشاهد والراوي بالزنا، وهو واجب دفعا عن المشهود عنه، سواء كان المشهود به قليلا أو كثيرا.
[فائدة] إذا قذف امرأة عند الحاكم، فإن الحاكم يبعث إليها ليعلمها بقذفه، نصحا لها حتى تعفو أو تستوفي حقها، وهذا ضار بالقاذف نافع للمقذوف، وفي وجوبه اختلاف، والمختار وجوبه لقوله صلى الله عليه وسلم:
"واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" لم يكن هذا حرصا منه صلى الله عليه وسلم على رجمها وإنما كان إعلاما بما يمكن من ثبوت حقها بسبب هتك عرضها.
المثال الخمسون: من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها، قطع يد السارق إفساد لها، لكنه زاجر حافظ لجميع الأموال، فقدمت مصلحة حفظ الأموال على مفسدة قطع يد السارق.
المثال الحادي والخمسون: قطع أعضاء الجاني حفظا لأعضاء الناس.
المثال الثاني والخمسون: جرح الجاني حفظا للسلامة من الجراح
المثال الثالث والخمسون: قتل الجاني مفسدة بتفويت حياته لكنه جاز لما فيه من حفظ حياة الناس على العموم ولذلك قال سبحانه وتعالى:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}.
المثال الرابع والخمسون: التمثيل بالجناة إذا مثلوا بالمجني عليه مفسدة في حقهم، لكنه مصلحة زاجرة عن التمثيل في الجناية.

 

ج / 1 ص -100-       المثال الخامس والخمسون: حد القاذف صيانة للأعراض.
المثال السادس والخمسون: جلد الزاني ونفيه حفظا للفروج والأنساب ودفعا للعار.
المثال السابع والخمسون: الرجم في حق الزاني الثيب مبالغة في حفظ ما ذكرناه.
المثال الثامن والخمسون: حد الشرب حفظا للعقول عن الطيش والاختلال.
المثال التاسع والخمسون: حدود قطاع الطريق حفظا للنفوس والأطراف والأموال.
المثال الستون: دفع الصول - ولو بالقتل - عن النفوس والأبضاع والأموال.
المثال الحادي والستون: التعزيرات دفعا لمفاسد المعاصي والمخالفات وهي إما حفظا لحقوق الله تعالى، أو لحقوق عباده، أو للحقين جميعا.
المثال الثاني والستون: الحبس وهو مفسدة في حق المحبوس، لكنه جاز لمصالح ترجح على مفسدته وهي أنواع: منها حبس الجاني عند غيبة المستحق حفظا لمحل القصاص، ومنها حبس الممتنع من دفع الحق إلى مستحقه إلجاء إليه وحملا عليه، ومنها حبس التعزير ردعا عن المعاصي، ومنها حبس كل ممتنع من تصرف واجب لا تدخله النيابة: كحبس من أسلم على أختين وامتنع من تعيين إحداهما، والمقر بأحد عينين وامتنع من تعيينها دفعا لمفسدة المبطل بالحق، ومنها حبس من امتنع من أداء حقوق الله التي لا تدخلها النيابة كالممتنع من صيام رمضان.
فإن قيل: إذا امتنع من أداء درهم واحد مع القدرة على أدائه ومع عجزكم عن دفعه إلى خصمه، فإنكم تخلدون عليه الحبس إلى أن يؤديه. والتخليد هنا في الحبس عذاب كبير على جرم صغير؟ قلنا الأمر كذلك وإنما عاقبنا بعذاب صغير على جرم صغير، فإنه عاص في كل ساعة بامتناعه من أداء الحق، فتقابل كل ساعة من ساعات امتناعه بساعة من ساعات حبسه، وللحاكم زجره وتعزيره إذا لم ينجع الحبس فيه، ويفعل ذلك مرات إلى أن يؤدي الحق إلى مستحقه. فإن قيل؛ وإذا شهد مستوران ظاهرهما العدالة فلم تحبسون المدعى عليه إلى أن يزكيا، مع أن الأصل براءته مما ادعى عليه؟ وكذلك لم يحولون بين الحق والمدعى عليه بشهادة

 

 

ج / 1 ص -101-       المستورين؟ قلنا لأن الظن المستفاد من شهادة المستورين أقوى من الظن المستفاد من أصل براءة المدعى عليه من الحق.
فإن قيل: لم تحبسون مدعي الإعسار بالحق مع أن الأصل عدم الغنى؟ قلنا له أحوال: أحدها أن نعرف له مالا بمقدار الحق أو أكثر منه، فنحبسه بناء على أن الأصل بقاء ذلك، وقد انتسخ فكرة القديم بالغنى الذي عهدنا.
فإن قيل: إذا طالت المدة وكان ضعيفا عن الكسب فالظاهر أنه ينفق مما عهدناه على نفسه وعياله، فإذا مضت مدة تستوعب نفقتها الغنى الذي عهدناه فينبغي أن لا يحبس لمضارعة هذا الظاهر لاستمرار غناه؟ قلنا جواب هذا السؤال مشكل جدا ولعل الله أن ييسر حله، فإن ما ذكروه ظاهر فيمن قرب عهده بالغنى دون من مضت عليه مدة تستوعب نفقتها أضعاف غناه، مع أن الأصل عدم اكتساب غير ما في يده، وليس تقدير الإنفاق من كسبه بأولى من تقديره مما في يده.
الحالة الثانية: لا يعرف له غنى ولا فقر وفيه مذاهب: أحدها: لا يحبس لأن الأصل فقره فإن الله خلق عباده فقراء لا يملكون شيئا. والثاني: نحبسه لأن الغالب في الناس أنهم يملكون ما فوق كفايتهم، والفقراء الذين لا يملكون ذلك بالنسبة إلى هؤلاء قليل، وهذا مشكل جدا إذا كان الحق كثيرا عزيزا كالألف والألفين، إذ ليست الغلبة متحققة في الغنى المتسع فكيف نحبس الغريم على عشرة آلاف وليس الغالب في الناس من يملك عشرة آلاف ولا ضابط لمقدار الغالب من ذلك، فكيف يخلد من هذا شأنه في الحبس على ما لا يعرف قدره ولا يمكنه الانفصال منه؟ ويحتمل أن يقال إذا أدى قدرا يخرج به عن الغلبة وجب إطلاقه، وهذا قريب المذهب. الثالث: إن لزمه الدين باختياره فالقول قوله لأن الغالب في الناس أنهم لا يلتزمون ما لا يقدرون عليه وهذا بعيد، فإن الفقراء يلتزمون الأجور والمهور والأثمان مع عجزهم عنها.
الحالة الثالثة: من أحوال مدعي الإعسار أن يعهد له مال ناقص عن مقدار

 

ج / 1 ص -102-       الحق الذي لزمه فيحبس عليه وفي حبسه على ما رواه الخلاف المذكور في الحال الثانية إن كان المدعي به نزرا يسيرا، وإن كان كثيرا ففيه قولان: أحدهما: يطلق الأصل. والثاني: يفرق بين ما التزمه وبين ما لزمه بغير اختياره ولا يجيء المذهب الثالث إذ لا غلبة.
الحال الرابعة: إن ثبت عسره فلا يجوز حبسه حتى يثبت يساره، لأن الأصل بقاء عسرته، وأنه إن اكتسب شيئا صرفه في نفقته ونفقة من يلزمه نفقته.
فإن قيل: تخلدون مجهول الحال في الحبس إلى أن يموت؟ قلنا المختار أنه لا يخلد ويجب على الحاكم أن يبعث عدلين يسألان عن أمره في اليسار والإعسار، فإذا غلب على ظنهما فقره شهدا بذلك ووجب إطلاقه؛ إذ لا يليق بالشريعة السهلة السمحة أن يخلد المسلم في الحبس بظن ضعيف، وإنما يخلد في الحبس من ظهر عناده وإصراره على الباطل إلى أن يفيء إلى الحق. وأما المحبوس على القصاص فإنه يخلد في الحبس إلى أن يموت؛ حفظا لحق مستحق القصاص إلى أن يقدم الغائب أو يبلغ الصبي، إذ لا مندوحة عن ذلك إلا بحبسه الذي هو أخف عليه من قتله أو قطع يده.
المثال الثالث والستون: من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحها على مفاسدها:
قتال البغاة دفعا لمفسدة البغي والمخالفة، ولا يشترط في درء المفاسد أن يكون ملابسها أو المتسبب إليها عاصيا. وكذلك لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون المأمور والمنهي عاصيين، بل يشترط فيه أن يكون أحدهما ملابسا لمفسدة واجبة الدفع، والآخر تاركا لمصلحة واجبة التحصيل. ولذلك أمثلة: أحدها أمر الجاهل بمعروف لا يعرف إيجابه.
المثال الثاني: نهيه عن منكر لا يعرف تحريمه.
المثال الثالث: قتال أهل البغي، مع أنه لا إثم عليهم في بغيهم لتأويلهم.
المثال الرابع: ضرب الصبيان على ترك الصلاة والصيام، وغير ذلك من المصالح.

 

ج / 1 ص -103-       فإن قيل: إذا كان الصبي لا يصلحه إلا الضرب المبرح فهل يجوز ضربه تحصيلا لمصلحة تأديبه؟ قلنا لا يجوز ذلك، بل يجوز أن يضربه ضربا غير مبرح؛ لأن الضرب الذي لا يبرح مفسدة، وإنما جاز لكونه وسيلة إلى مصلحة التأديب، فإذا لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد؛ لأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد.
فإن قيل: إذا كان المعزر البالغ لا يرتدع عن معصيته إلا بتعزير مبرح فهل يلحق بالصبي؟ قلنا: لا يلحق به بل نعزره تعزيرا غير مبرح ونحبسه مدة يرجى فيها صلاحه. وكذلك إذا منعنا من الزيادة على عشرة أسواط في التعزير، وكان ذلك لا يردع المعزر فانضم إليه الحبس مدة يرجى في مثلها حصول الارتداع.
المثال الخامس: قتل الصبيان والمجانين إذا صالوا على الدماء والأبضاع، ولم يمكن دفعهم إلا بقتلهم.
المثال السادس: حد الحنفي على شرب النبيذ، مع الجزم بعدالته، وأنه ليس بعاص، دفعا لمفسدة شرب المسكر.
فإن قيل: هلا حددتم بالوطء في النكاح المختلف في صحته، كما حددتم الحنفي بشرب النبيذ المختلف في حل شربه؟ قلنا: الفرق بينهما أن مفسدة الزنا لا تتحقق في النكاح المختلف فيه؛ فإنه يوجب المهر والعدة، ويلحق النسب، ويثبت حرمة المصاهرة، بخلاف الزنا فإنه يقطع الأنساب، ولا يوجب مهرا ولا عدة، والمفسدة في شرب النبيذ مثلها في شرب الخمر من غير فرق.
المثال السابع: إذا وكل وكيلا في القصاص، ثم عفا ولم يعلم الوكيل، أو أخبره فاسق بالعفو فلم يصدقه، وأراد الاقتصاص، فللفاسق أن يدفعه بالقتل إذا لم يمكن دفعه إلا به دفعا لمفسدة القتل من غير حق.
المثال الثامن: إذا وكل وكيلا في بيع جاريته فباعها، فأراد الموكل وطأها ظنا أن الوكيل لم يبعها، فأخبره المشتري أنه اشتراها، فلم يصدقه، فللمشتري أن يدفعه

 

ج / 1 ص -104-       عنها ولو بالقتل، مع أنه لا إثم عليه دفعا لمفسدة الوطء بغير حق، وإن وطئها في الحال لم يكن زانيا ولا آثما.
المثال التاسع: ضرب البهائم في التعليم والرياضة دفعا لمفسدة الشراس والجماح وكذلك ضربها حملا على الإسراع لمس الحاجة إليه على الكر والفر والقتال.
وأما ما رجحت مفسدته على مصلحته فكقطع اليد المتآكلة حفظا للروح إذا كان الغالب السلامة بقطعها. وأما ما تكافأت فيه المصلحة والمفسدة، فقد يتخير فيه وقد يمتنع كما ذكرناه، وهذا كقطع اليد المتآكلة عند استواء الخوف في قطعها وإبقائها، وكل شيء يمثل به في هذا الكتاب من أمثلة المصالح والمفاسد، فمنه ما هو مجمع عليه وهو الأكثر، ومنه ما هو مختلف فيه.
[فائدة في تنويع العقوبات الشرعية] حدود الشرع: قتل، وجلد، وتغريب ورجم، وقطع أعضاء، وأيد وأرجل، وجرح، وصلب وتعزير بضرب أو حبس أو توبيخ، أو جمع بين بعض ذلك على حسب الصلاح.

فصل: في بيان الوسائل إلى المصالح
يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى المقاصد أفضل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه، والتوسل إلى معرفة أحكامه أفضل من التوسل إلى معرفة آياته، والتوسل بالسعي إلى الجهاد أفضل من التوسل بالسعي إلى الجمعات، والتوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات في الصلوات المكتوبات، والتوسل بالسعي إلى الصلوات المكتوبات أفضل من التوسل بالسعي إلى المندوبات التي شرعت فيها الجماعات كالعيدين والكسوفين، وكلما قويت الوسيلة في الأداء إلى المصلحة، كان أجرها أعظم من أجر ما نقص عنها، فتبليغ رسالات الله من أفضل الوسائل، لأدائه إلى جلب كل صلاح دعت إليه الرسل، وإلى درء كل فاسد زجرت عنه الرسل، والإنذار وسيلة

 

ج / 1 ص -105-       إلى درء مفاسد الكفر والعصيان، والتبشير وسيلة إلى جلب مصالح الطاعة والإيمان. وكذلك المدح والذم، وكذلك الأمر بالمعروف وسيلة إلى تحصيل ذلك المعروف المأمور به، رتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة مصلحة الفعل المأمور به في باب المصالح، فالأمر بالإيمان أفضل أنواع الأمر بالمعروف. وكذلك الأمر بالفرائض أفضل من الأمر بالنوافل، والأمر بإماطة الأذى عن الطريق من أدنى مراتب الأمر بالمعروف، قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق"؛ فمن قدر على الجمع بين الأمر بمعروفين في وقت واحد، لزمه ذلك، لما ذكرناه من وجوب الجمع بين المصلحتين، وإن تعذر الجمع بينهما أمر بأفضلهما؛ لما ذكرناه من تقديم أعلى المصلحتين على أدناهما، مثال الجمع بين الأمر بمعروفين فما زاد، أن يرى جماعة قد تركوا الصلاة المفروضة حتى ضاق وقتها بغير عذر فيقول لهم بكلمة صلوا أو قوموا إلى الصلاة، فإن أمر كل واحد منهم واجب على الفور. وكذلك تعليم ما يجب تعليمه، وتفهيم ما يجب تفهيمه، يختلف باختلاف رتبه وهذان قسمان:
أحدهما: وسيلة إلى ما هو مقصود في نفسه، كتعريف التوحيد وصفات الإله؛ فإن معرفة ذلك من أفضل المقاصد والتوسل إليه من أفضل الوسائل.
القسم الثاني: ما هو وسيلة إلى وسيلة كتعليم أحكام الشرع، فإنه وسيلة إلى العلم بالأحكام التي هي وسيلة إلى إقامه الطاعات، التي هي وسائل إلى المثوبة والرضوان، وكلاهما من أفضل المقاصد. ويدل على فضل التوسل إلى الجهاد قول الله تعالى:
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}. وإنما أثيبوا على الظمأ والنصب وليسا من فعلهم، لأنهم تسببوا إليهما بسفرهم وسعيهم. وعلى الحقيقة فالتأهب للجهاد بالسفر إليه، وإعداد الكراع والسلاح والخيل، وسيلة

 

ج / 1 ص -106-       إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين، وغير ذلك من مقاصد الجهاد، فالمقصود ما شرع الجهاد لأجله، والجهاد وسيلة إليه، وأسباب الجهاد كلها وسائل إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى مقاصده، فالاستعداد له من باب وسائل الوسائل. ويدل على فضل التوسل إلى الجمعات والجماعات قوله صلى الله عليه وسلم: "من تطهر في بيته، ثم راح إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فروض الله، كانت خطواته إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة". وتتفاوت الحسنات المكتوبة والسيئات المحطوطة، بتفاوت رتب الصلاة التي يمشي إليها، وقد جاء في التنزيل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}. وتتفاوت رتب تلك الأعشار بتفاوت رتب الحسنات في أنفسها، فمن تصدق بتمرة فله عشر حسنات، ومن تصدق ببدرة فله عشر حسنات، لا نسبة لشرف حسنات التمرة إليها. وكذلك الولايات تختلف رتبها باختلاف ما تجلبه من المصالح وتدرؤه من المفاسد، فالولاية العظمى أفضل من كل ولاية، لعموم جلبها المنافع، ودرئها المفاسد، وتليها ولاية القضاء لأنها أعم من سائر الولايات، والولاية على الجهاد أفضل من الولاية على الحج، لأن فضيلة الجهاد أكمل من فضيلة الحج، وتختلف رتب الولايات بخصوص منافعها وعمومها فيما وراء ذلك من جلب المصالح ودرء المفاسد، ولا شك بأن الوسائل تسقط بسقوط المقاصد فمن فاتته الجمعات والجماعات أو الغزوات سقط عنه السعي إليها، لأنه استفاد الوجوب من وجوبهن. وكذلك تسقط وسائل المندوبات بسقوطهن لأنها استفادت الندب منهن، فمن نسي صلاة من صلاتين مكتوبتين لزمه قضاؤهما، فيقضي إحداهما: لأنها المفروضة، ويقضي. الثانية: فإنها وسيلة إلى تحصيل مصلحة المفروضة، فإن ذكر في الثانية أن الأولى هي المفروضة سقط وجوبها بسقوط المتوسل إليه، وهل تبطل أو تبقى نفلا؟ فيه خلاف مبني على أن من نوى صلاة مخصوصة فلم تحصل له فهل تبطل أو تبقى نفلا؟ فيه قولان، وإن ذكر في الأولى أنها فرضه استمر عليها وسقطت الثانية، وإن ذكر أن فرضه

 

ج / 1 ص -107-       الثانية سقط وجوب الأولى وفي بقائها نفلا خلاف. فإن قيل: كيف صحت النية مع التردد في وجوب كل واحدة من الصلاتين؟ قلنا: صحت لأن الأصل وجوب كل واحدة منهما في ذمته فصحت لذلك نيته، لظنه بقاءها في ذمته، فأشبه من وجبت عليه صلاة معينة فشك في أدائها، فإنها تجزئه مع شكه، لاستناد نيته إلى أن الأصل بقاؤها في ذمته، وقد استثنى في سقوط الوسائل بسقوط المقاصد، أن الناسك الذي لا شعر على رأسه مأمور بإمرار الموسى على رأسه، مع أن إمرار الموسى على رأسه وسيلة إلى إزالة الشعر فيما ظهر لنا، فإن ثبت أن الإمرار مقصود في نفسه لا لكونه وسيلة، كان هذا من قاعدة من أمر بأمرين فقدر على أحدهما وعجز عن الآخر.