قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

فصل: في معاملة من أقر بأن أكثر ما في يده حرام
فإن قيل: ما تقولون في معاملة من اعترف بأن أكثر ماله حرام، هل تجوز أم لا؟ قلنا: إن غلب الحرام عليه بحيث يندر الخلاص منه لم تجز معاملته، مثل أن يقر إنسان أن في يده ألف دينار كلها حرام إلا دينارا واحدا، فهذا لا تجوز معاملته، لندرة الوقوع في الحلال، كما لا يجوز الاصطياد إذا اختلطت حمامة برية بألف حمامة بلدية، وإن عومل بأكثر من الدينار أو اصطياد أكثر من حمامة فلا شك في تحريم ذلك، وإن غلب الحلال بأن اختلط درهم حرام بألف

 

ج / 1 ص -73-         درهم حلال جازت المعاملة كما لو اختلطت أخته من الرضاع بألف امرأة أجنبية، أو اختلطت ألف حمامة برية بحمامة بلدية فإن المعاملة صحيحة جائزة لندرة الوقوع في الحرام. وكذلك الاصطياد، وبين هاتين الرتبتين من قلة الحرام وكثرته مراتب محرمة، ومكروهة، ومباحة، وضابطها أن الكراهة تشتد بكثرة الحرام وتخف بكثرة الحلال، فاشتباه أحد الدينارين بآخر سبب تحريم بين، واشتباه دينار حلال بألف دينار حرام سبب تحريم بين، وبينهما أمور مشتبهات مبنية على قلة الحرام وكثرته بالنسبة إلى الحلال فكلما كثر الحرام تأكدت الشبهة، وكلما قل خفت الشبهة إلى أن يساوي الحلال الحرام فتستوي الشبهات، وسنذكر هذا في موضعه مستقصى إن شاء الله تعالى.
قاعدة: في تعذر العدالة في الولايات:
إذا تعذرت العدالة في الولاية العامة والخاصة بحيث لا يوجد عدل، ولينا أقلهم فسوقا وله أمثلة: - أحدها: إذا تعذر في الأئمة فيقدم أقلهم فسوقا عند الإمكان، فإذا كان الأقل فسوقا يفرط في عشر المصالح العامة مثلا وغيره يفرط في خمسها لم تجز تولية من يفرط في الخمس فما زاد عليه، ويجوز تولية من يفرط في العشر، وإنما جوزنا ذلك لأن حفظ تسعة الأعشار بتضييع العشر أصلح للأيتام ولأهل الإسلام من تضييع الجميع، ومن تضييع الخمس أيضا، فيكون هذا من باب دفع أشد المفسدتين بأخفهما، ولو تولى الأموال العامة محجور عليه بالتبذير نفذت تصرفاته العامة إذا وافقت الحق للضرورة، ولا ينفذ تصرفه لنفسه، إذ لا موجب لإنقاذه مع خصوص مصلحته، ولو ابتلي الناس بتولية امرأة أو صبي مميز يرجع إلى رأي العقلاء فهل ينفذ تصرفهما العام فيما يوافق الحق كتجنيد الأجناد وتولية القضاة والولاة؟ ففي ذلك وقفة.
ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله جلبا للمصالح العامة ودفعا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد

 

ج / 1 ص -74-         الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد. المثال الثاني: الحكام إذا تفاوتوا في الفسوق قدمنا أقلهم فسوقا، لأنا لو قدمنا غيره لفات مع المصالح ما لنا عنه مندوحة، ولا يجوز تفويت مصالح الإسلام إلا عند تعذر القيام بها، ولو لم يجوز هذا وأمثاله لضاعت أموال الأيتام كلها، وأموال المصالح بأسرها. وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. ولو فاتت العدالة في شهود الحكام ففي هذا وقفة، من جهة أن مصلحة المدعي معارضة بمفسدة المدعى عليه، والمختار أنه لا يقبل، لأن الأصل عدم الحقوق المتعلقة بالذمم والأبدان، والظاهر مما في الأيدي لأربابها.
المثال الثالث: إذا تعذرت العدالة في ولاية الأيتام فيختص بها أقلهم فسوقا فأقلهم، لأن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، فإذا كان مال اليتيم ألفا وأقل ولاية فسوقا يخون في مائة من الألف ويحفظ الباقي لم يجز أن يدفع إلى من يخون في مائتين فما زاد عليها.
المثال الرابع: فوات العدالة في المؤذنين والأئمة يقدم فيها الفاسق على الأفسق تحصيلا للمصالح على حسب الإمكان.
المثال الخامس: إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة قدمنا أقلهم فسوقا، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتضرع للأموال، قدمنا المتضرع للأموال على المتضرع للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه قدمنا المتضرع للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها. فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ قلنا: نعم دفعا لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءا للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعا لمفسدة الأبضاع وهي معصية. وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعا لمفسدة

 

ج / 1 ص -75-         الدماء وهي معصية، ولكن قد يجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصية بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربو على مصلحة تفويت المفسدة كما، تبذل الأموال في فدى الأسرى الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة.
المثال السادس: إذا لم تجد المرأة وليا ولا حاكما فهل لها أن تحكم أجنبيا يزوجها؟ أو تفوض إليه التزويج من غير تحكيم؟ فيه اختلاف، ومبنى هذه المسائل كلها على الضرورات ومسيس الحاجات، وقد يجوز في حال الاضطرار ما لا يجوز في حال الاختيار، كما يجوز لمن ظفر بمال غريمه الجاحد لدينه أن يأخذ من ماله مثل حقه، فإن كان من غير جنسه فله أن يأخذه ويبيعه. وكذلك مسألة هروب الجمال وتركه الجمال، كذلك الالتقاط وتخيير الملتقط في التمليك بعد التعريف المعتبر، وكذلك أكل المضطر الطعام بغير إذن ربه.

فصل: في تقديم المفضول على الفاضل بالزمان إذا اتسع وقت الفاضل
قد يتقدم المفضول على الفاضل بالزمان عند اتساع وقت الفاضل، كتقديم الأذان والإقامة والسنن الرواتب على الفرائض في أوائل الأوقات. ومثل ذلك: تقديم المفضول الذي يخاف فوته على الفاضل الذي لا يخشى فوته؛ كتقديم حمدلة العاطس وتشميته في أثناء الأذان، وفي أثناء قراءة القرآن، وكتقديم السلام ورده المسنون على توالي كلمات الأذان وقراءة القرآن، فإن تعين رد السلام كان تقديمه على القراءة من باب تقديم الفرض على النفل، وإن وقع الأذان في الصلاة، فإن كان المصلي في الفاتحة لم يجبه لئلا ينقطع ولاء الفاتحة، فإن كان في غير الفاتحة ففي إجابته قولان؛ لأن مصلحة الإجابة قد عارضتها مصلحة موالاة أذكار الصلاة وقراءتها.

فصل: في تساوي المصالح مع تعذر جمعها
إذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير للتنازع بين

 

ج / 1 ص -76-         المتساويين ولذلك أمثلة: أحدها إذا رأينا صائلا يصول على نفسين من المسلمين متساويين وعجزنا عن دفعه عنهما فإنا نتخير.
المثال الثاني: لو رأينا من يصول على بضعين متساويين وعجزنا عن الدفع عنهما فإنا نتخير، ولو وجدنا من يقصد غلاما باللواط وامرأة بالزنا ففي هذا نظر وتأمل. فيجوز أن يدفع الزاني، لأن مفاسد الزنا لا يتحقق مثلها في اللواط، ولأن العلماء اتفقوا على حد الزنا واختلفوا في حد اللائط، ويجوز أن يبدأ بدفع اللائط لأن جنسه لم يحلل قط، ولما فيه من إذلال الذكور وإبطال شهامتهم، ويجوز أن يتخير في ذلك.
المثال الثالث: لو رأينا من يصول على مالين متساويين لمسلمين معصومين متساويين تخيرنا.
المثال الرابع: إذا حجز الحاكم على المفلس وجبت التسوية بين الديون بالمحاصة فإن كان الدين مائة وماله عشرة سوى بين الغرماء بإيصال كل منهم إلى عشر دينه.
المثال الخامس: إذا مات وعليه دين لرجلين بحيث تضيق عنه التركة سوى بينهما في المحاصة؛ إذ لا مزية لأحدهما على الآخر.
المثال السادس: إذا حضر فقيران متساويان تخير في الدفع إلى أيهما شاء وفي الفض عليهما.
المثال السابع: إذا حضرت أضحيتان متساويتان تخير بينهما فإن تفاوتت بدأ بأفضلهما، ووقع في الفتاوى فيمن كانت عنده مهرية تساوي ألفا، وعشرة أينق تساوي ألفا، فالتضحية بأيهما أفضل؟ فكان الجواب أن التضحية بالأينق أولى لما فيها من تعميم الإقاتة والنفع، وفضيلة المهرية تفوت بذبحها بخلاف عتق أنفس الرقبتين وأغلاها ثمنا عند أهلها، لأن شرف المخرج يختلف باختلاف مشرفه؛ فإخراج أشراف المال أحسن في الطواعية؛ لأن الهدايا تعظيم المهدى إليه وأفضل

 

ج / 1 ص -77-         الهدايا أنفسها. وكذلك لو أراد أن يشتري حصانا يساوي ألفا بألف ويذبحه ويتصدق بلحمه، وأن يشتري بالألف ألف شاة ويتصدق بلحمها فلا شك أن التصدق بلحوم الشياه أفضل لكثرة ما يحصله من المقاصد والمنافع؛ ولأن فضيلة الحصان تفوت بذبحه من غير أن يحصل إلى الفقراء منها شيء.
المثال الثامن: إذا ملك نفقة زوجه وله زوجتان متساويتان سوى بينهما.
المثال التاسع: إذا كان له ابنان متساويان من كل وجه ولا يقدر إلا على نفقة أحدهما فليوزعها بينهما.
المثال العاشر: إذا اجتمع عليه دينان متساويان ولا يقدر إلا على أحدهما، فالأولى أن يفضه على مالكيهما وإن قدم أحدهما على الآخر جاز. المثال الحادي عشر: لو دعي الشاهد في وقت واحد إلى شهادة بحقين متساويين تخير في إجابة من شاء من الداعين، وإذا اختلف الحقان فإن خيف فوات أحدهما وأمن فوات الآخر وجب البدار إلى ما يخشى فواته وإن لم يخف ذلك تخير.