قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في تنفيذ تصرفات البغاة وأئمة الجور لما
وافق الحق لضرورة عامة
وقد ينفذ التصرف العام من غير ولاية كما في تصرف الأئمة البغاة
فإنه ينفذ مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت تصرفاتهم
وتوليتهم لضرورة الرعايا، وإذا نفذ ذلك مع ندرة البغي فأولى أن
ينفذ تصرف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وإنه لا
انفكاك للناس عنهم، وأما أخذهم الزكاة، فإن صرفوها في مصارفها
أجزأت لما ذكرناه، وإن صرفوها في غير مصارفها لم
ج / 1 ص -69-
يبرأ الأغنياء منها على المختار لما في إجزائها من تضرر الفقراء
بخلاف سائر المصالح التي لا معارض لها، فإنها إنما نفذت
لتمحصها. وأما ههنا فالقول بإجزاء أخذها نافع للأغنياء مضر
للفقراء، ودفع المفسدة عن الفقراء أولى من دفع المفسدة عن
الأغنياء، وإن شئت قلت لأن مصالح الفقراء أولى من مصالح
الأغنياء، لأنهم يتضررون بعدم نصيبهم من الزكاة ما لا يتضرر به
الأغنياء من تثنية الزكاة، ولمثل هذا يتخير الساعي في الأحظ
للفقراء؛ إذا كان في المال أربع حقاق وخمس بنات لبون، ولا تخير
الولاة فيما يصنعون إلا نادرا وهو إذا تساوى تحصيل المصلحتين،
أو دفع المفسدتين من كل وجه؛ فإن كانت المصلحة في التعزير وجب،
وإن كانت في العفو والإغضاء وجب.
فصل: في تقيد العزل بالأصلح للمسلمين فالأصلح
إذا أراد
الإمام عزل الحاكم فإن أرابه منه شيء عزله لما في إبقاء المريب
من المفسدة إذ لا يصلح في تقرير المريب على ولاية عامة ولا
خاصة، لما يخشى من خيانته فيها، وإن لم تكن ريبة فله أحوال:
أحدها: أن يعزله بمن هو دونه، ولا يجوز عزله لما فيه من تفويت
المسلمين المصلحة الحاصلة من جهة فضله على غيره وليس للإمام
تفويت المصالح من غير معارض.
الحال الثانية: أن يعزله بمن هو أفضل منه فينفذ عزله تقديما
للأصلح على الصالح لما فيه من تحصيل المصلحة الراجحة للمسلمين.
الحال الثالثة: أن يعزله بمن يساويه؛ فقد أجاز بعضهم ذلك لما
ذكرناه من التخير عند تساوي المصالح، وكما يتخير بينهما في
ابتداء الولاية، وقال آخرون لا يجوز لما فيه من كسر العزل
وعاره بخلاف ابتداء الولاية.
فإن قيل ينبغي أن يجوز لما فيه من النفع للمولى؟ قلنا حفظ
الموجود أولى من تحصيل المفقود، ودفع الضرر أولى من جلب النفع،
وهذا معروف بالعادة
ج / 1 ص -70-
وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"من ولي من أمر المسلمين شيئا ثم لم يجهد لهم وينصح لم يدخل الجنة
معهم". ولما
اتهم خالد بن الوليد بأنه قتل مالك بن نويرة ليتزوج بامرأته
حتى قال الشاعر:
وجرت منايا مالك بن نويرة
عقيلته الحسناء أيام خالد
حرض عمر على أن يعزله
أبو بكر وقال قتل رجلا من المسلمين ونزى على امرأته، فامتنع
أبو بكر من عزله لأنه كان أصلح في القيام لقتال أهل الردة من
غيره، وهو أصوب مما رآه عمر لأن تلك الريبة لم تكن قادحة في
كونه أقوم بالحرب من غيره، فلما تولى عمر عزله عن حرب الشام،
وولى أبا عبيدة بن الجراح، فوصل كتاب العزل إلى أبي عبيدة
والناس صفوف للقتال، فلم يخبر خالدا حتى انقشعت الحرب لعلمه
بتقدمه في مكان الحرب، وترتيب القتال، ولو أخبره بذلك لتشوش
أمر المسلمين، وإنما لم يخبره لأنه أذن له في ذلك، أو رأى أنه
لا ينعزل حتى يقف على الكتاب.
فصل: في تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور
الأئمة
لا يتصرف في
أموال المصالح العامة إلا الأئمة ونوابهم، فإذا تعذر قيامهم
بذلك، وأمكن القيام بها ممن يصلح لذلك من الآحاد بأن وجد شيئا
من مال المصالح، فليصرف إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على
الإمام العدل أن يصرفه فيه، بأن يقدم الأهم فالأهم، والأصلح
فالأصلح، فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها فأهمها، ويصرف ما
وجده من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها فأصلحها، لأنا
لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها، ولأثم
أئمة الجور بذلك وضمنوه، فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه
المفاسد أولى من تعطيلها. وإن وجد أموالا مغصوبة، فإن عرف
مالكيها فليردها عليهم، وإن لم يعرفها فإن تعذرت معرفتهم بحيث
يئس من معرفتهم صرفها في المصالح العامة أولاها فأولاها، وإنما
قلنا ذلك لأن الله قال: {وَتَعَاوَنُوا
ج / 1 ص -71-
عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} , وهذا بر وتقوى. وقال صلى الله عليه وسلم:
"والله في عون العبد ما كان في عون أخيه"، وقال صلى الله عليه وسلم:
"كل معروف صدقة"،
فإذا جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند أن تأخذ من مال
زوجها أبي سفيان ما يكفيها وولدها بالمعروف، مع كون المصلحة
خاصة، فلأن يجوز ذلك في المصالح العامة أولى، ولا سيما غلبة
الظلمة للحقوق. ولا شك أن القيام بهذه المصالح أتم من ترك هذه
الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها، ويصرفونها إلى غير
مستحقها. ويحتمل أن يجب ذلك على من ظفر به كمن وجد اللقطة في
مضيعة، وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده إذا
ظفر به إن كان من جنسه، وأن يأخذه ويبيعه إن كان من غير جنسه،
مع أن هذه مصلحة خاصة فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى. وقد خير
بعض أصحاب الشافعي واجد ذلك بين أن يصرفه في مصارفه، وبين أن
يحفظه إلى أن يلي المسلمين من هو أهل يصرف ذلك في مصارفه،
وينبغي أن يتقيد بما ذكره بعض الأصحاب بوقت يتوقع فيه ظهور
إمام عدل. وأما في مثل هذا الزمان المأيوس فيه من ذلك فيتعين
على واجده أن يصرفه على الفور في مصارفه، لما في إبقائه من
التغرير به وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه، ولا سيما إن كانت
الحاجة ماسة إليه بحيث يجب على الإمام تعجيلها.
فصل: فيما يجوز أخذه من مال بيت المال
إن قال
قائل: إذا دفع الظلمة مما بأيديهم من الأموال إلى إنسان شيئا
فهل يجوز له أخذه منهم أم لا؟ قيل له: إن علم المبذول له أن ما
يدفع له مغصوب فله حالان: الأولى: أن يكون ممن يقتدى به ولو
أخذ لفسد ظن الناس فيه بحيث لا يقتدون به ولا يقبلون فتياه،
فلا يجوز له أخذه لما في أخذه من فساد اعتقاد الناس في صدقه
ودينه، لا يقبلون له فتيا، فيكون قد ضيع على الناس مصالح
الفتيان. ولا شك أن حفظ تلك المصالح العامة الدائمة أولى من
أخذ المغصوب ليرده على
ج / 1 ص -72-
صاحبه. وكذلك الشهود والحكام ما لم يصرحوا بأنهم أخذوه للرد على
مالكه.
الحالة الثانية: ألا يكون المبذول له كذلك، فإن أخذه لنفسه حرم
عليه، وإن أخذه ليرده إلى مالكه جاز ذلك، وإن جهل مالكه بحث
عنه إلى أن يعرفه، فإن تعذرت معرفته صرفه في المصالح العامة
أهمها فأهمها، وأصلحها فأصلحها، فإن لم يعرف تلك المصالح دفعه
إلى من يعرفها، فإن لم يجد من يعرفها تربص بها إلى أن يجده
فيتعرفها منه، أو يدفعها إليه ليصرفها في مصالحها إن كان عدلا،
وإن كان المال الذي يبذلونه مأخوذا بحق، فإن كان المال لمصالح
خاصة كالزكاة لأربابها والخمس لأربابه، والفيء للأجناد على
قول، فإن كان المبذول له من أهل ذلك المال الخاص فإن أعطي قدر
حقه فليأخذه، وإن أعطي زائدا على حقه فليأخذ قدر حقه ويكون حكم
الزائد على حقه ما ذكرناه في المال المغصوب، وإن كان ذلك من
الأموال العامة فليأخذه إن لم تفت بأخذه مصلحة الفتيا، وليصرفه
في المصارف العامة أصلحها فأصلحها، وإن لم يكن من أهل ذلك فعل
ما ذكرنا في المال المغصوب، وإن بذل له المال من جهة مجهولة
فإن يئس من معرفة مستحقه فقد صار باليأس للمصالح العامة
فليأخذه ويصرفه فيها، وإن توقع معرفة مستحقيه فليأخذه بنية
البحث عن مستحقيه، فإن تعذرت معرفتهم بعد البحث التام صار كمال
المصالح العامة. |