قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

فصل: تنقسم المصالح والمفاسد إلى نفيس وخسيس، ودقيق وجل، وكثر وقل، وجلي وخفي، وآجل أخروي وعاجل دنيوي، والدنيوي ينقسم إلى متوقع وواقع، ومختلف فيه ومتفق عليه، وكذلك ترجيح بعض المصالح على بعض، وترجيح بعض المصالح على بعض، وترجيح بعض المفاسد على بعض، ينقسم إلى المتفق عليه والمختلف فيه، فالسعيد من فعل ما اتفق على صلاحه، وترك ما اتفق على فساده، وأسعد منه من ضم إلى ذلك فعل ما اختلف في صلاحه، وترك ما اختلف في فساده.
فإن الاحتياط لحيازة المصالح بالفعل ولاجتناب المفاسد بالترك، وقليل من يفعل ذلك. وقد يعبر عن القليل بالمعدوم. فمن المصالح والمفاسد ما يشترك في معرفته الخاصة والعامة، ومنها ما ينفرد بمعرفته خاصة الخاصة، ولا يقف على الخفي من ذلك كله إلا من وفقه الله بنور يقذفه في قلبه، وهذا جار في مصالح الدارين ومفاسدهما، وفي مثله طال الخلاف والنزاع بين

 

ج / 1 ص -50-         الناس في علوم الشرائع والطبائع، وتدبير المسالك والمهالك، وغير ذلك من الولايات والنيات وجميع التصرفات، ولأجل الاختلاف في ذلك منع الشرع من نصب الخليفتين لما يقع بينهما من الاختلافات في المصالح والأصلح والمفاسد والأفسد، لأنه لو جوز نصبهما لتعطل تحصيل ما خفي من المصالح واجتناب ما خفي من المفاسد، وكذلك ترجيح الخفي. وأما نصب القضاء مع اختلافهم في الأحكام فيجوز لأن مصالح القضاء خاصة، ومصالح الخلافة عامة، ويتعذر نصب قاض واحد لجميع الناس ولا شك أن نصب القضاة والولاة من الوسائل إلى جلب المصالح العامة والخاصة. وأما نصب أعوان القضاة والولاة فمن وسائل الوسائل. وكذلك الرسائل الإلهية وسائل إلى تحصيل مقاصد الشرائع وهي من أفضل الوسائل وكذلك تحمل الشهادات وسيلة إلى أدائها، وأداؤها وسيلة إلى الحكم بها والحكم بها وسيلة إلى جلب المصالح ودرء المفاسد.

فصل: فيما يخفى من المصالح والمفاسد من غير تعبد
الأفعال ضربان: أحدهما ما خفيت عنا مصالحه ومفاسده فلا نقدم عليه حتى تظهر مصلحته المجردة عن المفسدة أو الراجحة عليها، وهذا الذي جاءت الشريعة بمدح الأناة فيه إلى أن يظهر رشده وصلاحه. الضرب الثاني ما ظهرت لنا مصلحته، وله حالان: أحدهما ألا تعارض مصلحته مفسدته ولا مصلحة أخرى، فالأولى تعجيله، والثانية أن تعارض مصلحته مصلحة هي أرجح منه مع الخلو عن المفسدة، فيؤخر عنه رجاء إلى تحصيله، وإن عارضته مفسدة تساويه قدمت مصلحة التعجيل لما ذكرنا فيما خلا عن المعارض، والضابط أنه مهما ظهرت المصلحة الخلية عن المفاسد يسعى في تحصيلها، ومهما ظهرت المفاسد الخلية عن المصالح يسعى في درئها، وإن التبس الحال احتطنا للمصالح بتقدير وجودها وفعلناها، وللمفاسد بتقدير وجودها وتركناها. وإن دار الفعل بين الوجوب والندب بنينا على أنه واجب وأتينا به، وهذا فيما لا تشترط النية فيه كدفع الصائل

 

ج / 1 ص -51-         عن النفس فإنه محبوب على قول وواجب على آخر. وأما ما تشترط فيه النية ففيه نظر من جهة حزم النية، وإن دار بين الندب والإباحة بنينا على أنه مندوب وأتينا به، وإن دار بين الحرام والمكروه بنينا على أنه حرام واجتنبناه، وإن دار بين المكروه والمباح بنينا على أنه مكروه وتركناه. وقد جاءت الشريعة بمدح السرعة في أمور كالذبح والنحر وضرب الرقاب في القصاص، لما في السرعة في ذلك من تهوين الموت، وقد كتب الله الإحسان على كل شيء، وأمر بإحسان القتلة والذبحة، وكذلك أيضا قصاص الأطراف تحمد فيه السرعة. ولو صيل على مسلم في نفس أو بضع أو مال بحيث لو اقتصرنا في الدفع عنه لتحققت المفسدة، فإن السرعة في هذا وأمثاله واجب لا يسع تركها. وكذلك السرعة في القتال ومكافحة الأبطال، وقد مدح الله المسارعة في الخيرات وأثنى على المسارعين فيها، وقال موسى عليه السلام {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}. وقد جعل لمن قتل الوزغ بضربة واحدة مائة حسنة، ولمن قتله بضربتين سبعين حسنة، لما في الضربة الواحدة من المسارعة إلى إزهاق روحه ودفع ضرره وإحسان قتلته.
قاعدة في الموازنة بين المصالح والمفاسد: إذا تعارضت المصلحتان وتعذر جمعهما فإن علم رجحان إحداهما قدمت، وإن لم يعلم رجحان، فإن غلب التساوي فقد يظهر لبعض العلماء رجحان إحداهما فيقدمها ويظن آخر رجحان مقابلها فيقدمه، فإن صوبنا المجتهدين فقد حصل لكل واحد منهما مصلحة لم يحصلها الآخر، وإن حصرنا الصواب في أحدهما فالذي صار إلى المصلحة الراجحة مصيب للحق والذي صار إلى المصلحة المرجوحة مخطئ معفو عنه، إذا بذل جهده في اجتهاده، وكذلك إذا تعارضت المفسدة والمصلحة. فإن قيل: كيف تصوبون المختلفين، مع أن بعضهم قد أصاب المرجوح الذي لو اطلع عليه لما جاز له الاعتماد عليه. قلنا: ترك الرجحان رخصة على خلاف القواعد وفي الرخص تترك المصالح الراجحة إلى المصالح المرجوحة للعذر دفعا للمشاق، ولو قلنا بوجوب الاستدراك

 

ج / 1 ص -52-         لأدى إلى مشقة عظيمة عامة بخلاف من أخطأ النص والإجماع، والأقيسة الجلية أو القواعد الكلية، فإن خطأ ذلك لا يقع إلا نادرا، فمن له أهلية الاجتهاد فيجب استدراكه لندرته وقلته. والحاصل أن الشرع يجعل المصلحة المرجوحة عند تعذر الوصول إلى الراجحة أو عند مشقة الوصول إلى الراجحة، بدلا من المصلحة الراجحة، كما يبدل الوضوء بالتيمم، والصيام بالإعتاق، والإطعام بالصيام، والعرفان بالاعتقاد في حق العوام، والفاتحة بالأذكار، وجهة السفر في صلاة النافلة بالقبلة، وجهة المقاتلة في الجهاد بالقبلة.
[فائدة] الحكمة في اللغة المنع، قال الشاعر:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم                    إني أخاف عليكم أن أغضبا

أي امنعوهم. وفي الشرع عبارة عن ترك المأمورات أو فعل المنهيات. وحاصله المنع من ترك المصالح الخالصة أو الراجحة، والمنع من فعل المفاسد الخالصة أو الراجحة، والوعظ وهو الأمر بجلب المصالح، الخالصة أو الراجحة أو النهي عن ارتكاب المفاسد الخالصة أو الراجحة، والذي يسميه الجهلة البطلة سياسة هو فعل المفاسد الراجحة أو ترك المصالح الراجحة على المفاسد. ففي تضمين المكوس والخمور والأبضاع مصالح مرجوحة مغمورة بمفاسد الدنيا والآخرة: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}، وبمثل هذا يفتنون الأشقياء أنفسهم بإيثار المفاسد الراجحة على المصالح قضاء للذات الأفراح العاجلة، ويتركون المصالح الراجحة للذات خسيسة أو أفراح دنيئة، ولا يبالون بما رتب عليها من المفاسد العاجلة أو الآجلة. وذلك كشرب الخمور والأنبذة للذة إطرابها، والزنا أو اللواط، وأذية الأعداء المحرمة، وقتل من أغضبهم وسب من غاضبهم، وغصب الأموال والتكبر والتجبر، وكذلك يهربون من الآلام والغموم العاجلة التي أمرنا بتحملها لما في تحملها من المصالح العاجلة، ولا يبالون بما يلتزمون من تحمل أعظم المفسدتين تحصيلا للذات أدناهما، وكذلك يتركون أعظم

 

ج / 1 ص -53-         المصلحتين تحصيلا للذات أدناهما. أسكرتهم اللذات والشهوات فنسوا الممات وما بعده من الآفات فويل لمن ترك سياسة الرحمن، واتبع سياسة الشيطان، وارتكب الفسوق والعصيان، أولئك أهل البغي والضلال.
والجهل مفسدة وهو ثلاثة أقسام: أحدها ما يجب إزالته كالجهل بما يجب تعلمه من الأصول والفروع. القسم الثاني: ما لا تجب إزالته ببعض أحكام الفروع. القسم الثالث: ما اختلف في إزالته.
والعرفان مصلحة وهو ثلاثة أقسام: أحدها ما يجب تحصيله من علوم الأصول والفروع. القسم الثاني: ما لا يجب تحصيله ولا حد له. القسم الثالث: ما اختلف في وجوب تحصيله
من الأصول والفروع.

فصل: في اجتماع المصالح المجردة عن المفاسد
إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة، فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل، لقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. وقوله: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، وقوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}، فإذا استوت مع تعذر الجمع تخيرنا، وقد يقرع، وقد يختلف في التساوي والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين المصالح الواجبات والمندوبات، ولبيان الأفضل وتقديم الفاضل على المفضول أمثلة: أحدها: تقديم العرفان بالله وصفاته على الإيمان بتلك، ويقوم الاعتقاد في حق العامة مقام العرفان، ويقوم الإيمان المبني على العرفان لتعذر وصول العامة إلى العرفان وما يتبعه من الإيمان، وعلى ذلك الإيمان بالرسل وبما جاءوا به من الشرائع والأخبار وعذاب الفجار وثواب الأبرار، والعرفان متقدم على ذلك لشرفه في نفسه لتعلقه بالديان، ولأنه شرط في صحة عبادة الرحمن، وهو أيضا مقدم بالزمان إلا على النص الدال عليه المفضي إليه، وليس يقدم النظر إلا بالزمان، وإنما تأخر الإيمان بالكتب والرسل، إذ لا يمكن أن يؤمن بالرسول والرسالة

 

ج / 1 ص -54-         من لا يعرف المرسل، فقد تأخر لقصور رتبته عن رتبة الإيمان. والعرفان لكونه تعلق بمخلوق، ولتعذر تحصيله قبل تحصيل الاعتقاد والإيمان والعرفان، ولفضل الإيمان تأخرت الواجبات عند ابتداء الإسلام ترغيبا فيه، فإنها لو وجبت في الابتداء لنفروا من الإيمان لثقل تكاليفه.
ولذلك أمثلة أحدها. أن الله أخر إيجاب الصلاة إلى ليلة الإسراء لأنه لو أوجبها في ابتداء الإسلام لنفروا من ثقلها عليهم.
المثال الثاني: الصيام لو وجب في ابتداء الإسلام لنفروا من الدخول في الإسلام. المثال الثالث: تأخير وجوب الزكاة إلى ما بعد الهجرة لأنها لو وجبت في الابتداء لكان إيجابها أشد تنفيرا لغلبة الضنة بالأموال.
المثال الرابع: الجهاد لو وجب في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام؛ لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين.
المثال الخامس: القتال في الشهر الحرام لو أجل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم لذلك، وكذلك القتال في البلد الحرام.
المثال السادس: القصر على أربع نسوة، لو ثبت في ابتداء الإسلام لنفرت الكفار من الدخول فيه، وكذلك القصر على ثلاث طلقات؛ فتأخرت هذه الواجبات تأليفا على الإسلام الذي هو أفضل من كل واجب، ومصلحته تربو على جميع المصالح. ولمثل هذا قر الشرع من أسلم منهم على الأنكحة المعقودة على خلاف شرائط الإسلام، وكذلك أسقط عن المجانين ما يتلفونه من أنفس المؤمنين وأموالهم لأنه لو ألزمهم بذلك لنفروا من الدخول في الإسلام. وكذلك بني على الإسلام غفران جميع الذنوب لأن عهدها لو بقيت بعد الإسلام لنفروا، وكذلك قال جماعة قد زنوا فأكثروا من الزنا ومن غيره من الكبائر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. إن ما تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟ فأنزل الله تعالى:
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} الآية، وقال في

 

ج / 1 ص -55-         غيرهم: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}، وإنما أمرهم في ابتداء الإسلام بإفشاء السلام. وإطعام الطعام، وصلة الأرحام، والصدق والعفاف، لأن ذلك كان ملائما لطباعهم حاثا على الدخول في الإسلام، وكذلك ألف صلى الله عليه وسلم جماعة على الإسلام بما دفعه لهم من الأموال، وامتنع من قتل جماعة من المنافقين قد عرف بنفاقهم خوفا أن يتحدث الناس بأنه أخذ في قتل أصحابه فينفروا من الدخول في الإسلام، فهذه كلها مصالح أخرت، لما في تقديمها من المفاسد المذكورة.
المثال الثاني من تقديم الفاضل على المفضول: تقديم بعض الفرائض على بعض، كتقديم الصلاة الوسطى على سائر الصلوات.
المثال الثالث: تقديم كل فريضة على نوعها من النوافل كتقديم فرائض الطهارات على نوافلها، وفرائض الصلوات على نوافلها، وفرائض الصدقات على نوافلها، وتقديم فرائض الصيام على نوافله، وكتقديم فرض الحج والعمرة على نوافلهما، مع أنهما لا يقعان إلا واجبين، لأنهما يجبان بالشروع، ولكن ليس ما أوجبه الإنسان على نفسه في رتبة ما أوجبه الله عليه، ويدل على تقديم المفروضات على نوعها من المندوبات ما ذكرناه من الكتاب، وقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن ربه عز وجل أنه قال:
"ولن يتقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه".
المثال الرابع: تقديم فرائض الصلوات ونوافلها على مفروضات الأعمال ونوافلها لقوله عليه السلام:
"واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، هذا مذهب الشافعي رحمه الله وفيه إشكال، لأن رسول الله عليه السلام سئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "إيمان بالله"، قيل ثم ماذا؟ قال: "جهاد في سبيل الله"، قيل ثم ماذا؟ قال: "حج مبرور"، ويبعد أن تكون صلاة الصبح أفضل من حجة مبرورة، وركعتا الفجر أفضل من حجة التطوع. وقد جعل رسول الله

 

ج / 1 ص -56-         صلى الله عليه وسلم الجهاد تلو الإيمان، وجعل الحج في الرتبة الثالثة، فإن قدمت الصلاة عليهما كان ذلك مخالفا للحديث، وإن تأخرت عنهما لم يستقم كون الصلاة أفضل الأعمال البدنية، ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن يجعل الحج المفروض أفضل من صلاة مفروضة ويجعل استغراق الصلاة لأزمان تتسع للحج أفضل من الحج، لأن الإقبال على الله بالصلاة في زمن يتسع للحج أكمل وأتم من الإقبال عليه بأفعال الحج فيكون جمعا بين الحديثين وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ فقال: "بر الوالدين"، وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الصلاة لأول وقتها", وسئل أي الأعمال أفضل؟ فقال: "حج مبرور"، وهذا جواب لسؤال السائل فيختص بما يليق بالسائل من الأعمال، لأنهم ما كانوا يسألون عن الأفضل إلا ليتقربوا به إلى ذي الجلال، فكأن السائل قال: أي الأعمال أفضل لي؟ فقال: "بر الوالدين" لمن له والدان يشتغل ببرهما، وقال لمن يقدر على الجهاد لما سأله عن أفضل الأعمال بالنسبة إليه: "الجهاد في سبيل الله"، وقال لمن يعجز عن الحج والجهاد: "الصلاة على أول وقتها"، ويجب التنزيل على مثل هذا لئلا يتناقض الكلام في التفضيل.
المثال الخامس: تقديم المبدلات على أبدالها؛ كتقديم الاستنجاء بالماء على الاستجمار بالأحجار، وكتقديم الطهارة بالماء على الطهارة بالتراب، وكتقديم العتق في كفارة القتل والظهار وإفساد الصيام على صوم شهرين متتابعين؛ فإن مصلحة البدل قاصرة عن مصلحة المبدل منه.
المثال السادس: تقديم ما شرع فيه الجماعة من الصلوات على ما لم تشرع فيه، إذا كان مخصوصا بأوقات كالعيدين والكسوفين، لأنها أشبهت الفرائض في وصفين: أحدهما: شرعية الجماعات. والثاني: تقدير الأوقات.
المثال السابع: تقديم بعض الرواتب على بعض؛ كتقديم الوتر وسنة الفجر على

 

ج / 1 ص -57-         سائر الرواتب، وهل يقدم الوتر على سنة الفجر أو بالعكس؟ فيه اختلاف، والأصح تقديم الوتر.
المثال الثامن: تقديم إنقاذ الغرقى المعصومين على أداء الصلوات، لأن إنقاذ الغرقى المعصومين عند الله أفضل من أداء الصلاة، والجمع بين المصلحتين ممكن بأن ينقذ الغريق ثم يقضي الصلاة، ومعلوم أن ما فاته من مصلحة أداء الصلاة لا يقارب إنقاذ نفس مسلمة من الهلاك. وكذلك لو رأى الصائم في رمضان غريقا لا يتمكن من إنقاذه إلا بالفطر، أو رأى مصولا عليه لا يمكن تخليصه إلا بالتقوي بالفطر، فإنه يفطر وينقذه، وهذا أيضا من باب الجمع بين المصالح، لأن في النفوس حقا لله عز وجل وحقا لصاحب النفس، فقدم ذلك على فوات أداء الصوم دون أصله.
المثال التاسع: تقديم صلاة الجنازة على صلاة العيدين والكسوفين وإن خيف فواتهما لتأكد تعجيلها، وتقدم على الجمعة إن اتسع وقت الجمعة، فإن خفنا تغير الميت قدمناه على الجمعة وإن فاتت الجمعة، لأن حرمته آكد من أداء الجمعة، وهذا من باب تقديم حق العبد والرب على محض حق العبد، مع أن الجمع بين المصلحتين ممكن بأن يدفن الميت ثم تقضى الصلاة.
ولو قدمنا الجمعة لسقطت حرمة الميت لا إلى بدل، وإن لم يخف تغير الميت فقولان، ولو اجتمعت الجمعة مع الكسوف خطب للجمعة وذكر فيها الكسوف، فإن قدمنا الكسوف على العيد صلى الكسوف وعقبه بالعيد، لأن صلاة العيد أهم من الخطبتين، ثم خطب خطبتين للعيد والكسوف.
المثال العاشر: إذا ضاق وقت الفريضة بحيث لا يتسع لغيرها، فذكر صلاة نسيها قبل الشروع في الصلاة المؤداة أو في أثنائها فليؤد الأداء ويقضي الفائتة بعد خروج الوقت، لأنه لو قدم المقضية على المؤداة لفاتت رتبة الأداء في الصلاتين جميعا فتفوت مصلحة الأداء في الصلاتين، ولا شك أن تحصيل المصلحة في إحدى الصلاتين أولى من تفويتها في الصلاتين، ولا يتم قول المخالف ما لم يبين أن فضيلة

 

ج / 1 ص -58-         تقديم المقضية تزكى على ما ذكرناه من فضيلة الأداء في إحدى الصلاتين وهذا من باب تقديم الأفضل فالأفضل من حقوق الله عز وجل.
المثال الحادي عشر: إذا ضاق عن الجمع بين الأذان والإقامة والراتبة والفريضة بحيث لا يتسع إلا للفريضة، فإنا نقدم الفريضة لكمال مصلحة أدائها على مصلحة الأذان والإقامة والسنة الراتبة، وإن كانت الرواتب والفرائض قابلة للقضاء، فإن فضيلة أداء الفرائض أتم من فضيلة أداء النوافل، فقدمنا أفضل الأداءين على الآخر، وهذا من باب الجمع بين المصلحتين.
المثال الثاني عشر: إذا ضاق على المحرم وقت عشاء الآخرة بحيث لا يتسع إلا لأربع ركعات لو اشتغل بها لفاته إتيان عرفة، فقد قيل يدع الصلاة ويذهب إلى عرفة لأن أداء فرض الحج أفضل من أداء فرض الصلاة إذ جعله صلى الله عليه وسلم تلو الجهاد وجعل الجهاد تلو الإيمان، وقيل يشتغل بأداء الصلاة، لأن أداء الصلاة أفضل من أداء الحج لقوله عليه السلام:
"واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة"، والأصح أنه يجمع بين المصلحتين فيصلي صلاة الخوف وهو ذاهب إلى عرفة، فيكون جامعا بين المصلحتين على حسب الإمكان، لأن مشقة فوات الحج عظيمة، فإذا جاز أن يصلي صلاة الخوف لأجل حفظ مال يسير، فجوازه لحفظ أداء الحج أولى
المثال الثالث عشر: تقديم الكفارات على التطوعات.
المثال الرابع عشر: النفقات التي ليست من العبادات المفتقرات إلى النيات، فيقدم المرء نفسه على نفقة آبائه وأولاده وزوجاته، ويقدم نفقة زوجاته على نفقة آبائه وأولاده، لأنها من تتمة حاجاته، وتقدم نفقة القريب على نفقة الرقيق في بعض الصور لأنها صدقة وصلة، وتقدم نفقة الرقيق على القريب وذلك مثل أن يكون الرقيق مضطرا يخشى هلاكه والقريب محتاجا لا يخشى هلاكه، وتقدم نفقة الرقيق على نفقة البهائم والأنعام، لأن حرمته آكد ومصلحته

 

ج / 1 ص -59-         أعظم، ولذلك جاز بيع الحيوان حفظا لروح الإنسان وإن ملك حيوانا يؤكل وحيوانا لا يؤكل ولم يجد إلا نفقة أحدهما وتعذر بيعهما احتمل أن يقدم نفقة ما لا يؤكل على نفقة ما يؤكل ويذبح المأكول، واحتمل أن يسوي بينهما، فإن كان المأكول يساوي ألفا وغير المأكول يساوي درهما، ففي هذا نظر واحتمال.
المثال الخامس عشر: إذا اجتمع مضطران فإن كان معه ما يدفع ضرورتهما لزمه الجمع بين الضرورتين تحصيلا للمصلحتين، وإن وجد ما يكفي ضرورة أحدهما، فإن تساويا في الضرورة والقرابة والجوار والصلاح احتمل أن يتخير بينهما، واحتمل أن يقسمه عليهما، وإن كان أحدهما أولى، مثل أن يكون والدا أو والدة، أو قريبا أو زوجة، أو وليا من أولياء الله تعالى، أو إماما مقسطا أو حاكما عدلا، قدم الفاضل على المفضول، لما في ذلك من المصالح الظاهرة، فإن قيل لو وجد المكلف مضطرين متساويين ومعه رغيف لو أطعمه لأحدهما لعاش يوما ولو أطعم كل واحد منهما نصفه لعاش نصف يوم، فهل يجوز أن يطعمه أحدهما أم يجب فضه عليها، فالمختار أن تخصيص أحدهما غير جائز لما ذكرته من أن أحدهما قد يكون وليا لله تعالى، ولأن الله سبحانه وتعالى أمر بالعدل والإنصاف، والعدل التسوية، فدفعه إليهما عدل وإنصاف وإحسان مندرج في قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ}. وكذلك لو وجد محتاجين فإنه يندب إلى فض الرغيف عليهما، وألا يخص أحدهما به لما ذكرته، ولأن تخصيص أحدهما موغر لصدر الآخر مؤذ له.
وكذلك لو كان له ولدان لا يقدر إلا على قوت أحدهما فإنه يفضه عليهما تسوية بينهما، فإن قيل إذا كان نصف الرغيف شبعا لأحد ولديه سادا لنصف جوعة الآخر فكيف يفضه عليهما؟ قلت يفضه عليهما بحيث يسد من جوعة أحدهما ما يسد من جوعة الآخر، فإذا كان ثلث الرغيف سادا لنصف جوعة أحدهما، وثلثاه سادا لنصف جوعة الآخر فليوزعه عليهما كذلك، لأن هذا هو

 

ج / 1 ص -60-         الإنصاف، كما أنه يجب عليه مع القدرة إشباع كل واحد منهما مع اختلاف مقدار كليهما، فكذلك هذا، لأن الغرض الأعظم إنما هو كفاية البدن في التغذية. وكذلك يجب أن يطعم الكبير الرغيب أكثر مما يطعم الصغير الزهيد، ولمثل هذا يعطى الراجل سهما واحدا من الغنائم ويعطى الفارس ثلاثة أسهم، دفعا لحاجتيهما، فإن الراجل يأخذ سهما لحاجته، والفارس يأخذ أقوى الأسهم لحاجته والسهم الثاني لفرسه والسهم الثالث لسائس فرسه، فيسوى بينهما في المال الذي أخذ بسبب القتال. فإن قيل لم قسم مال المصالح على الحاجات دون الفضائل؟ قلنا ذهب عمر رضي الله عنه إلى قسمته على الفضائل ترغيبا للناس في الفضائل الدينية، وخالفه أبو بكر رضي الله عنه في ذلك لما التمس منه تفضيل السابقين على اللاحقين فقال: إنما أسلموا لله وأجرهم على الله وإنما الدنيا بلاغ. ومعنى هذا أني لا أعطيهم على إسلامهم وفضائلهم التي يتقربون بها إلى الله شيئا من الدنيا، لأنهم فعلوها لله، وقد ضمن الله لهم أجرها في الآخرة، وإنما الدنيا بلاغ ودفع للحاجات، فأضع الدنيا حيث وضعها الله من دفع الحاجات وسد الخلات، والآخرة موضوعة للجزاء على الفضائل فأضعها حيث وضعها الله، ولا أعطي أحدا على سعيها شيئا من متاع الدنيا، وبذلك قال الشافعي رحمه الله. فإن قيل فهلا قسمت الغنائم كذلك إذا كان الفارس لا عيال له والراجل له عيال كثير؟ قلنا لما حصل ذلك بكسب الغانمين وسعيهم فضلوا على قدر عنائهم فيه
ولا شك أن عناء الفرسان في القتال أكمل من عناء الرجالة. فإن قيل هلا قدر الشافعي رحمه الله تعالى نفقات الزوجات بالحاجات كنفقة الآباء والأمهات والبنين والبنات ولم قدرها بالأمداد؟ قلنا لما كانت النفقة عوضا عن البضع قدرها لأن الأصل في الأعواض التقدير، وله قول إنها مقدرة بالمعروف لنفقة الأقارب، وعملا بقوله عليه السلام لهند:
"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"،

 

ج / 1 ص -61-         ولم تكن هند عارفة بكون المعروف مدين في حق الغني ومدا في حق الفقير ومدا ونصفا في حق المتوسط، وقد نص الله على أن الكسوة بالمعروف في قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. وكذلك السكنى وماعون الدار يرجع فيها إلى العرف من غير تقدير، والغالب في كل ما ورد في الشرع إلى المعروف أنه غير مقدر، وأنه يرجع فيه إلى ما عرف في الشرع، أو إلى ما يتعارفه الناس، ولا فائدة في تقدير الحب فإن ما يضم إليه من مؤنة إصلاحه مجهول، والمجهول إذا ضم إلى المعلوم صار الجميع مجهولا، ولم يعهد في السلف ولا في الخلف أن أحدا أنفق الحب على زوجته مع مؤنته، بل المعهود منهم الإنفاق على ما جرت به العادة. والذي قاله الشافعي مؤد إلى أن يموت كل واحد ونفقة زوجته في ذمته، لأن المعاوضة عن الحب الذي أوجبه بما يطعمه الرجل زوجته من الخبز واللحم وغيرهما ربا لا يصح في الشرع، ولا يجوز أن يكون عوضا، ولو جاز أن يكون عوضا لم يبر من النفقة لأنه لم يتعاقد عليه الزوجان، وما بلغنا أن أحدا أطعم زوجته على العادة ثم أوصى بأن توفى نفقتها حبا من ماله، ولا حكم بذلك حاكم على أحد من الأزواج بعد موته، وليست النفقة في مقابلة ملك البضع وإنما هي في مقابلة التمكين، والبضع مقابل بالصداق فتكون نفقة المرأة كنفقة العبد المشترى، فإن الثمن في مقابلة رقبته، والنفقة جارية بسبب ذلك الملك.

فصل: في بيان العدل
تقدير النفقات بالحاجات مع تفاوتها عدل وتسوية، من جهة أنه سوى بين المنفق عليهم في دفع حاجاتهم لا في مقادير ما وصل إليهم لأن دفع الحاجات هو المقصود الأعظم في النفقات وغيرها من أموال المصالح. فإن قيل: إذا كان العدل في اللغة هو التسوية، والقاضي لا يسوي بين الخصوم في قبول قولهم، بل يقبل قول المدعى عليه مع يمينه ولا يقبل قول المدعي إلا بعد نكول المدعى عليه. وكذلك وظف البينة على المدعي وهذا تفاوت لا تسوية فيه. قلنا معنى التسوية

 

ج / 1 ص -62-         في الحكم وجميع الولايات أنه يسوي بين المدعين في العمل بالظاهر في توظيف البينة على المدعين، والأيمان على المنكرين، ورد الأيمان على المدعين عند نكول المنكرين. وكذلك التسوية بين من يقبل قوله من المدعين فيما وظف عليهم كالولي في القسامة، والزوج في اللعان، والأمناء في قبول قولهم في التلف، والمدعين في قبول قولهم في الرد. وحاصل هذا كله التسوية في الأحكام عند التساوي في الأسباب. واعلم أن لما ذكرناه من العدل واجتناب إيغار الصدور، يجب على الحكام التسوية بين الخصوم في الإعراض والإقبال وغير ذلك، لأن تقديم أحد الخصمين موجب لإيغار صدر الآخر وحقده، ولا يجري ذلك في حق المسلم والكافر، لأن جنايته على أمر نفسه بالكفر أخرته وأوجبت بغضه وإذلاله، كما يظهر بالغبار وإظهار الصغار، فإن قيل لو خطب إلى الولي إحدى ابنتيه فهل يتخير في تزويج أيتهما شاء أو يبدأ بإحداهما؟ قلنا. إن تساويا في الصلاح والتوقان إلى النكاح تخير بينهما وقد يقرع، وإن تساويا في الصلاح - واختلفا في التوقان قدم أتوقهما، وإن خف توقان الصالحة وزاد توقان الطالحة ففي هذا نظر واحتمال، والذي أراه تقديم الطالحة درءا لما يتوقع من فجورها. وأما الصالحة فيزعها صلاحها عن الفجور. وقد كان صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه منه خيفة أن يكب في النار على وجهه، لأن تقى المتقي يزعه عن العصيان، وفجور الفاجر يوقعه في الإثم والعدوان.
المثال السادس عشر: من تقديم الفاضل على المفضول: إذا كان له عبدان أحدهما بر تقي والآخر فاجر شقي، قدم إعتاق البر التقي على إعتاق الفاجر الشقي، لأن الإحسان إلى الأبرار أفضل من الإحسان إلى الفجار. وكذلك لو كان أحد العبدين قريبا والآخر أجنبيا، قدم القريب على الأجنبي لاشتمال عتقه على مصلحة الإعتاق وصلة الرحم، فإن كان الأجنبي في غاية الصلاح في تقديم عتقه على عتق القريب الفاسق نظر. وقد قال الأصحاب إذا اشترى عبدا

 

ج / 1 ص -63-         للإعتاق فليشتر المكدود والمجهود، فإن إعتاقه أفضل من إعتاق المرفه لأن ما يدفعه عنه من ذل الرق وصعوبة الجهد والكد أفضل مما يدفعه من مجرد ذل الرق، وكذلك لو اشترى عبدا للقنية ليدفع عنه الكد والجهد لأثيب على ذلك لما فيه من رفع المفسدة عن العبد. وكم في هذا وأمثاله من مثقال ذرة من الخير.
المثال السابع عشر: إذا وجد من يصول على بضع محرم، ومن يصول على عضو محرم أو نفس محرمة أو مال محرم، فإن أمكن الجمع بين حفظ البضع والعضو والمال والنفس، جمع بين صون النفس والعضو والبضع والمال لمصالحها، وإن تعذر الجمع بينها، قدم الدفع عن النفس على الدفع عن العضو، وقدم الدفع عن العضو على الدفع عن البضع وقدم الدفع عن البضع على الدفع عن المال، وقدم الدفع عن المال الخطير على الدفع عن المال الحقير، إلا أن يكون صاحب الخطير غنيا وصاحب الحقير فقيرا لا مال له سواه ففي هذا نظر وتأمل، وتفاوت هذه المصالح ظاهر، وإنما قدم الدفع عن العضو على الدفع عن البضع لأن قطع العضو سبب مفض إلى فوات النفس، فكان صون النفس مقدما على صون البضع، لأن ما يفوت بفوات الأرواح أعظم مما يفوت بفوات الأبضاع.
المثال الثامن عشر: تقديم الدفع عن الإنسان على الدفع عن الحيوان المحترم، ولك أن تجعل هذا كله من باب تحمل أخف المفسدتين دفعا لأعظمهما. فنقول: مفسدة فوات الأعضاء والأرواح أعظم من مفسدة فوات الأبضاع ومفسدة فوات الأبضاع أعظم من مفسدة فوات الأموال، ومفسدة فوات الأموال النفيسة أعظم من مفسدة فوات الأموال الخسيسة، ومفسدة هلاك الإنسان أعظم من مفسدة هلاك الحيوان.
المثال التاسع عشر: إذا شغر الزمان عن من له الولاية العظمى، وحضر اثنان يصلحان للولاية، لم يجز الجمع بينهما، لما يؤدي إليه من الفساد باختلاف الآراء:

 

ج / 1 ص -64-         فتتعطل المصالح بسبب ذلك، لأن أحدهما يرى ما لا يرى الآخر من جلب المصالح ودرء المفاسد، فيختل أمر الأمة فيما يتعلق بالمصالح والمفاسد، وإنما تنصب الولاة في كل ولاية عامة أو خاصة للقيام بجلب مصالح المولى عليهم، وبدرء المفاسد عنه، بدليل قول موسى لأخيه هارون عليه السلام: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ}. فإن كانا متساويين من كل وجه تخيرنا بينهما، ويحتمل أن يقرع بينهما دفعا لتأذي من يؤخر منهما، وإن كان أحدهما أصلح تعينت ولاية الأصلح؛ لما قدمناه من تقديم أصلح المصالح فأصلحها، وأفضلها فأفضلها إلا أن يكون الأصلح بغيضا للناس أو محتقرا عندهم، ويكون الصالح محببا إليهم عظيما في أعينهم، فيقدم الصالح على الأصلح، لأن الإقبال عليه موجب للمسارعة إلى طواعيته وامتثال أمره في جلب المصالح ودرء المفاسد، فيصير حينئذ أرجح ممن ينفر منه لتقاعد أعوانه عن المسارعة إلى ما يأمر به من جلب المصالح ودرء المفاسد، فيصير الصالح بهذا السبب أصلح.
المثال العشرون: إذا اجتمع اثنان يصلحان لولاية الأحكام، فإن تساويا من كل وجه ولينا كل واحد منهما قطرا إن شغرت الأقطار، وإن كانت مشحونة بالقضاة والحكام تخيرنا بينهما أو ولينا كل واحد منهما جانبا من جوانب البلد، أو أقرعنا بينهما كما ذكرنا في الإمام.
المثال الحادي والعشرون: إذا اجتمع جماعة يصلحون للقيام بالأيتام، قدم الحاكم أقومهم بذلك وأعرفهم بمصالح الأيتام، وأشدهم شفقة ومرحمة، فإن تساووا من كل وجه تخير. ويجوز أن يولي كل واحد منهم بعض الولاية ما لم يكن بينهما تنازع واختلاف يؤدي إلى تعطيل مصالحها، وتعطيل درء مفاسدها، لأن الولاية كلما ضاقت قوي الوالي على القيام بجلب مصالحها ودرء مفاسدها، وكلما اتسعت عجز الوالي عن القيام بذلك.
المثال الثاني والعشرون: إذا اجتمع جماعة يصلحون للأذان فإن تساووا أقرعنا

 

ج / 1 ص -65-         بينهم في قوله عليه السلام: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه"، فإن تفاوتوا في الثقة والأمانة والعفة عن النظر إلى حرم الناس ومعرفة المواقيت وحسن الصوت، قدمنا الأفضل فالأفضل، لأن المصلحة فيه أعظم، وقد قال عليه السلام: "من ولي من أمر المؤمنين شيئا ثم لم يجهد لهم ولم ينصح فالجنة عليه حرام". وفي رواية "لم يدخل الجنة معهم".
المثال الثالث والعشرون: لا يقدم في ولاية الحرب إلا أشجع الناس وأعرفهم بمكائد الحروب والقتال مع النجدة والشجاعة وحسن السيرة في الاتباع، فإن استووا فإن كانت الجهة واحدة تخير الإمام، وله أن يقرع بينهم كي لا يجد بعضهم على الإمام بتقديم غيره عليه، وإن تعددت الجهات صرف بكل واحد منهم إلى الجهة التي تليق به. والضابط في الولايات كلها أنا لا نقدم فيها إلا أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها، فيقدم في الأقوم بأركانها وشرائطها، على الأقوم بسننها وآدابها، فيقدم في الإقامة الفقيه على القارئ، والأفقه على الأقرأ؛ لأن الفقيه أعرف باختلال الأركان والشرائط، وبما يطرأ على الصلاة من المفسدات.
وكذلك يقدم الورع على غيره، لأن ورعه يحثه على إكمال الشرائط والسنن والأركان، ويكون أقوم إذا بمصلحة الصلاة. وقدم بعض الأصحاب بنظافة الثياب، لأن الغالب أن المتنزه من الأقذار التي ليست بأنجاس أنه يتنزه عن النجاسات؛ فيكون أقوم بشرط الصلاة. وكذلك يقدم البصير على الأعمى عند بعضهم لأنه يرى من النجاسات ما لا يراه الأعمى؛ فيكون أشد تحرزا من النجاسات التي اجتنابها شرط في صحة الصلاة.
وأما غض الأعمى عن المحرمات فليس غضه شرطا في صحة الصلاة، وأما غسل الموتى وتكفينهم وحملهم ودفنهم فيقدم فيه الأقارب لأن حنوهم على ميتهم يحملهم على أكمل القيام بمقاصد هذه الواجبات وكذلك يقدم الآباء على الأولاد، لأن حنو الآباء أكمل من حنو الأولاد. وكذلك يقدم القريب

 

ج / 1 ص -66-         في الصلاة على الأموات على جميع أهل الولايات؛ لأن من الصلاة الشفاعة للميت، والقريب لفرط شفقته وشدة حزنه عليه يبالغ في الدعاء له ما لا يفعله الأجانب. وكذلك تقدم الأمهات على الآباء في الحضانة لمعرفتهن بها وفرط حنوهن على الأطفال، وإذا استوى النساء في درجات الحضانة فقد يقرع بينهن وقد يتخير والقرعة أولى.
ويقدم الآباء على الأمهات في النظر في مصالح أموال المجانين والأطفال. وفي التأديب وارتياد الحرف والصناعات، لأنهم أقوم بذلك وأعرف به من الأمهات. وكذلك يقدم في ولاية النكاح الأقارب على الموالي والحكام
ويقدم من الأقارب أرفقهم بالمولى عليه كالآباء والأجداد، وإذا اجتمع أولياء النكاح في درجة واحدة كالإخوة والأعمام، فالأولى للمرأة أن تأذن لأسنهم وأعلمهم وأفضلهم، ولا تعدل إلى غيره لما في ذلك من كسر قلبه، ولما في توليته من مصلحتها، فإن أذنت الجميع جاز لتساويهم في تحصيل المصلحة المقصودة من النكاح، فإذا أذنت لهم فالأفضل لهم أن يقدموا أفضلهم لما ذكرناه، فإن لم يقدموا أحدهم وتنازعوا أيهم يتولى العقد أقرع بينهم لتساويهم.
والإنسان يأنف من تقديم نظيره عليه ولا يأنف من تقديم من هو خير منه عليه. وكذلك قلنا الأفضل أن يفوض العقد إلى أفضلهم، ويقدم الجد على الأوصياء والأئمة والحكام، ويقدم الأوصياء على الحكام، وإنما قدمنا الأقرب من ذوي الأنساب لأن شفقته على المبالغة في جلب المصالح ودرء المفاسد. ويجب على الأئمة في تفريق مال المصالح أن يصرفوه في تحصيل أعلاها مصلحة فأعلاها، وفي درء أعظمها مفسدة فأعظمها.

فصل: فيما لا تشترط فيه العدالة من الولايات
العدالة شرط في بعض الولايات، وإنما شرطت لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية. ولا تشترط العدالة في ولاية القريب على الأموات في

 

ج / 1 ص -67-         التجهيز والدفن والتكفين والحمل والتقدم في الصلاة، لأن فرط شفقة القريب ومرحمته تحثه على المبالغة في الغسل والتكفين والدعاء في الصلاة.
وكذلك انكساره بالحزن على التضرع في دعاء الصلاة فتكون العدالة في هذا الباب من التتمات والتكملات.
وكذلك ولاية النكاح لا تشترط فيها العدالة على قول لأن العدالة إنما شرطت في الولايات لتزع الولي عن التقصير والخيانة، وطبع الولي في النكاح يزعه عن التقصير والخيانة في حق وليته، لأنه لو وضعها في غير كفء كان ذلك عارا عليه وعليهم، وطبعه يزعه عما يدخله على نفسه ووليته من الأضرار والعار.
وكذلك لو كان الولي مستورا صح النكاح في ظاهر الحكم اعتمادا على العدالة الظاهرة مع قوة الوازع، ولو كان شهود النكاح مستورين صح النكاح في الحكم على الأصح، لغلبة الأنكحة في البوادي والقرى حيث لا يوجد العدول لمسيس الحاجة في ذلك. وللتعليل بقوة الوازع فيما ذكرناه قبل الإقرار من المسلم والكافر والبر والفاجر؛ ولأن طباعهم تزعهم عن الكذب في الإقرار المضر بهم في حقوقهم، كالدماء والأبضاع والأموال، ولا تقبل الشهادة إلا من عدل، لأن الفاسق لا يزعه طبعه عن الكذب، فشرطت العدالة في الشاهد لتكون وازعة عن الكذب في الإقرار. وكذلك يقبل إقرار العبد بما يوجب الحدود والقصاص لأن طبعه يزعه عن الكذب على السيد بما يوجب قتله أو قطعه أو جلده. واختلف في اشتراط العدالة في ولاية الآباء على الأطفال، فمنهم من ألحقها بولاية النكاح لما ذكرناه من الطبع الوازع عن التقصير والإضرار، ومنهم من فرق بينهما بأن الإضرار في ولاية النكاح يدخل على الولي والمولى عليه والطبع وازع عنها. وأما في ولاية المال فإن طبعه يزعه عن الإضرار بالطفل لأجل غيره ولا يزعه عن ذلك في حق نفسه، فإن طبعه يحثه على تقديم نفسه

 

ج / 1 ص -68-         على أولاده وأحفاده، فتشترط العدالة فيه لتكون وازعة عن التقصير بالنسبة إليه وإلى غيره، ولذلك ردت شهادته لنفسه اتفاقا لقوة الداعي، واختلف في شهادته لوالديه وأولاده. وأما الوصي فتشترط فيه العدالة لضعف الوازع على التقصير والخيانة بخلاف الأب. وأما الإمامة العظمى ففي اشتراط العدالة فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة، ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاة والولاة والسعاة وأمراء الغزوات، وأخذ ما يأخذونه وبذل ما يعطونه. وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموافقة للحق لما في اشتراطها من الضرر العام، وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان. ولما كان تصرف القضاة أعم من تصرف الأوصياء وأخص من تصرف الأئمة اختلف في إلحاقهم بالأئمة، فمنهم من ألحقهم بالأئمة لأن تصرفهم أعم من تصرف الأوصياء، ومنهم من ألحقهم بالأوصياء لأن تصرفهم أخص من تصرف الأئمة.
والمشاق في الشرع ثلاثة أقسام. أحدها: مشقة عامة مؤثرة في الرخص والتحقيقات كما ذكرنا في تعطيل تصرفات الولاة. القسم الثاني: مشقة خاصة كما ذكرناه في تصرفات الأوصياء. القسم الثالث: مشقة بين المشقتين كما ذكرناه في تصرف القضاة.