قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في تفضيل مكة على المدينة
إن قيل: قد
ذهب مالك رحمه الله إلى تفضيل المدينة على مكة، فما الدليل على
تفضيل مكة عليها؟ قلنا معنى ذلك أن الله يجود على عباده في مكة
بما لا يجود بمثله في المدينة، وذلك من وجوه: أحدها: وجوب
قصدها للحج والعمرة وهذان واجبان لا يقع مثلهما في المدينة،
فالإثابة عليهما إثابة على واجب، ولا يجب قصد المدينة بل قصدها
بعد موت الرسول عليه السلام بسبب زيارته سنة غير واجبة. الوجه
الثاني: إن فضلت المدينة بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد النبوة، كانت مكة أفضل منها؛ لأنه أقام بها بعد النبوة
ثلاث عشرة سنة أو خمس عشرة سنة وأقام بالمدينة عشرا. الوجه
الثالث: إن فضلت المدينة بكثرة الطارقين من عباد الله
الصالحين، فمكة أفضل منها بكثرة من طرقها من الصالحين
والأنبياء والمرسلين، وما من نبي إلا حجها آدم ومن دونه من
الأنبياء والأولياء، ولو كان لملك داران فضليان فأوجب على
عبيده أن يأتوا إحدى داريه، ووعدهم على ذلك بغفران سيئاتهم
ورفع درجاتهم وإسكانهم في قربه وجواره في أفضل دوره، لم يرتب
ذو لب أن اهتمامه بهذا المكان أتم من اهتمامه بغيره من بيوته،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من حج فلم
يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
وقال:
"الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"، وقال في المدينة،
"من صبر على لأوائها وشدتها كنت له شفيعا أو شهيدا يوم
القيامة". الوجه الرابع: أن التقبيل والاستلام ضرب
ج / 1 ص -40-
من الاحترام وهما مختصان بالركنين اليمانيين ولم يوجد مثل ذلك في
مسجد المدينة على ساكنها أفضل السلام. الوجه الخامس: أن الله
أوجب علينا استقبالها في الصلاة حيثما كنا من البلاد والفلوات،
فإن قيل إن دلت الصلاة إليها على فضلها فلتكن الصخرة أفضل منها
لما وجبت الصلاة إليها؟ فالجواب إن صلاته وصلاة أمته إلى
الكعبة أطول زمانا، فإنها قبلتهم إلى القيامة، ولولا أن
مصلحتها أكبر لما اختارها لهم على الدوام، وكل فعل نسخ إيجابه
إلى غيره كان كل واحد منهما في زمانه أفضل من الآخر أو مثله
لقوله:
{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، وكونه أفضل في زمانه وجه، لا يدل على فضله على ما هو أفضل من وجوه
شتى. الوجه السادس: أن الله حرم علينا استدبار الكعبة
واستقبالها عند قضاء الحاجات. الوجه السابع: أن الله حرمها يوم
خلق السموات والأرض، فلم تحل لأحد من الرسل والأنبياء إلا
لنبينا صلى الله عليه وسلم، فإنها أحلت له ساعة من نهار. الوجه
الثامن: أن الله بوأها لإبراهيم الخليل عليه السلام، ولابنه
إسماعيل عليه السلام، وجعلها مبوأ ومولدا لسيد المرسلين وخاتم
النبيين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. الوجه التاسع:
أن الله جعلها حرما آمنا في الجاهلية والإسلام. الوجه العاشر:
أن مكة لا تدخل إلا بحج أو عمرة، إما وجوبا أو ندبا، وليس في
المدينة مثل ذلك ولا بدل منه. الوجه الحادي عشر: أن الله عز
وجل قال في مكة:
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}، عبر بالمسجد الحرام عن الحرم كله، وهذا من مجاز التعبير بالبعض عن
الكل، كما يعبر بالوجه عن الجملة، وبالرأس عن الجملة. الوجه
الثاني عشر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل لدخول مكة،
وهو مسنون ولم ينقل في المدينة مثل ذلك، وفي هذا نظر من جهة أن
اغتساله لأجل الحج لا لأجل دخول البلد كما في غسل الإحرام، وقد
أثنى الله على البيت في كتابه بما لم يثن على المدينة فقال:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}،
وكيف لا نعتقد أن مكانا أوجب الله إتيانه على كل مستطيع أفضل من
مكان لا يجب
ج / 1 ص -41-
إتيانه، ومن شرف مكة أن الصلاة لا تكره فيها في الأوقات المكروهات
لما روى جبير بن مطعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من
ليل أو نهار".
أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقال الترمذي
حديث حسن صحيح. وأما ما رواه من قوله عليه السلام:
"اللهم
إنك أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك".
فهذا حديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن صح فهو من المجاز
الذي لا يعرفه كثير من الناس، وهو من مجاز وصف المكان بصفة ما
يقع فيه، ولا يقوم به قيام العرض بالجوهر كقوله:
{بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} وصفها
بالطيب الذي هو صفة لهوائها. وكذلك الأرض المقدسة وصفت بالقدس
الذي هو وصف لمن حل بها من الأنبياء والأولياء المقدسين من
الذنوب والخطايا، وكذلك الوادي المقدس وصف بقدس موسى عليه
السلام وبقدس الملائكة الذين حلوا فيه. وكذلك قوله عليه
السلام:
"أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها"، أراد بمحبة
المساجد محبة ما يقع فيها من ذكره وتلاوة كتابه والاعتكاف
والصلوات، وأراد ببغض الأسواق ما يقع فيها من الغش والخيانة
وسوء المعاملة، مع كون أهلها لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن
منكر ولا يغضون الأبصار عن المحرمات وكذلك قولهم بلد خائف وآمن
وصف بصفة من حل فيه من الخائفين والآمنين، فكذلك وصفه بكونه
محبوبا هو وصف بما حصل فيه مما يحبه الله ورسوله، وهو إقامة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرشاده أهله إلى ما بعث به،
فكانت حينئذ واجبة عليه، ومعلوم أن ما كان أحب إلى الله كان
أحب إلى رسوله، وكذلك لما هاجر إلى المدينة كانت إقامته بها
وإرشاده أهلها أحب إلى الله وإليه صلى الله عليه وسلم من
إقامته بغيرها، ومعلوم أن الطاعة التي هي أحب إلى الله من
غيرها أحب إلى رسوله من جميع الطاعات، ولا يلزم من قوله أحب
البقاع إليك ألا تكون أحب إلى رسوله. كما لا يلزم من قوله أحب
البقاع إلى أن تكون أحب
ج / 1 ص -42-
البقاع إلى ربه. فالتعبير بالأحب في البلدين دال على أن كل واحد من
البلدين أحب إلى الله وإلى رسوله، إذ لا يظن برسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يخالف ربه في محبة ما أحبه. ويجوز أن يوصف
كل واحد من البلدين بحسب ما وقع فيه: من إبلاغ الرسالة، والأمر
بالطاعات، والنهي عن المعاصي، وكل ذلك أحب إلى الله ورسوله مما
سواه من النوافل، وأحسن من هذا أن يكون المعنى: أخرجتني من أحب
البقاع إلي في أمر معاشي فأسكني أحب البقاع إليك في أمر معادي
وهذا متجه ظاهر، فإنه لم يزل في زيادة من دينه وتبليغ أمره إلى
أن تكامل الوحي وبشره بإكمال دينه وإتمام إنعامه بقوله:
{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً}. ومما
يدل على أن الأماكن والأزمان يوصفان بصفة ما يقع فيهما قوله
تعالى:
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} وقوله
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} فوصفهما بصفة أهلهما. وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي
حَرَّمَهَا} وصفها
بالتحريم الواقع فيها وهو تحريم صيدها، وعضد شجرها واختلاء
خلائها، وتحريم التقاط لقطتها إلا لمنشد. وكذلك وصف سبحانه
وتعالى الأشهر بالتحريم. في قوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ
حُرُمٌ}. وفي قوله.
{الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}. وقالت العرب. يوم بارد وليل نائم، ونهار صائم، ومنه قول جرير: ونمت
وما ليل المطي بنائم
وفي الكتاب.
{فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ}، {فَيَأْخُذَكُمْ
عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وكذلك يوم عصيب، وقمطرير، وثقيل. كل ذلك صفة لما يحصل في تلك
الأزمان، وكذلك وصف ليلة القدر بكونها خيرا من ألف شهر، إنما
هو وصف للعمل الواقع فيها. وأما فضل الثغور فعائد إلى فضيلة
الرباط فيها على نية الجهاد - فيثاب حاضروها على نية الجهاد -
وعلى التسبب إليه بالإقامة فيها، وكذلك حراستها ممن يقصدها من
الكفار. وأما فضيلة المساجد فليست راجعة إلى أجرامها ولا إلى
أعراض قامت بأجرامها، وإنما ترجع فضيلتها إلى مقصودها من إقامة
الجماعات والجمعات فيها.
ج / 1 ص -43-
وكذلك الاعتكاف فيها، وكذلك منع من البيع والشراء فيها، وإيداع
الأماكن والأزمان لهذه الفضائل كإيداع الأنبياء والرسل النبوة
والرسالة ليس إلا جودا من الله، ولذلك قالت الرسل لقومهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ
عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}. وكذلك سائر الأوصاف الشراف لم يضعها الرب سبحانه وتعالى فيمن يشاء
من عباده لمعنى اقتضاها واستدعاها، بل ذلك فضل الله يؤتيه من
يشاء من عباده. وكذلك ما من به من المعارف والأحوال وحسن
الأخلاق، لم يكن ذلك إلا فضلا من فضله وجودا من جوده على من
يشاء من عباده، فكذلك الأماكن والأزمان أودع الله في بعضها
فضلا لا وجود له في غيرها، مع القطع بالتماثل والمساواة، وكذلك
الأجسام التي فضلت بأعراضها كالذهب والفضة، وسائر الجواهر
النفيسة.
فصل: في انقسام جلب المصالح ودرء المفاسد إلى
فروض كفايات وفروض أعيان
اعلم أن المصالح ضربان: أحدهما ما يثاب على فعله لعظم المصلحة
في فعله، ويعاقب على تركه لعظم المفسدة في تركه وهو ضربان:
أحدهما فرض على الكفاية كتعلم الأحكام الشرعية الزائدة على ما
يتعين تعلمه على المكلفين إلى نيل رتبة الفتيا، وكجهاد الطلب
وجهاد الدفع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإطعام
المضطرين، وكسوة العارين وإغاثة المستغيثين، والفتاوى والأحكام
بين ذوي الاختصام، والإمامة العظمى والشهادات، وتجهيز الأموات،
وإعانة الأئمة والحكام وحفظ القرآن. والثاني: فرض على الأعيان
كتعلم ما يتعين تعلمه من أحكام الشريعة، وقراءة الفاتحة،
وأركان الصلاة، وغير ذلك من عبادات الأعيان، وكذلك الحج
والعمرة والصلوات والزكاة والصيام. واعلم أن المقصود لفرض
الكفاية تحصيل المصالح ودرء المفاسد دون ابتلاء الأعيان
ج / 1 ص -44-
بتكليفه، والمقصود بتكليف الأعيان حصول المصلحة لكل واحد من
المكلفين على حدته، لتظهر طاعته أو معصيته، فلذلك لا يسقط فرض
العين إلا بفعل المكلف به، ويسقط فرض الكفاية بفعل القائمين به
دون من كلف به في ابتداء الأمر. أما سقوطه عن فاعليه فلأنهم
قاموا بتحصيل مصلحته، وأما سقوطه عن الباقين فلتعذر التكليف به
والتكليف تارة يسقط بالامتثال، وتارة يسقط بتعذر الامتثال،
فإذا خاض في فرض الكفاية من يستقل به ثم لحقه آخرون قبل تحصيل
مصلحته، كان ما فعلوه فرضا وإن حصلت الكفاية بغيرهم، لأن
مصلحته لم تحصل بعد ذلك، ولذلك أمثلة: أحدها: أن يخرج إلى
العدو من يستقل بدفعهم ثم يلحق بهم آخرون قبل انقضاء القتال،
فيكتب لهم أجر الفرض، وإن تفاوتت رتبهم في الثواب بقلة العمل
وكثرته. المثال الثاني: أن يقوم بغسل الميت أو تكفينه أو
الصلاة عليه أو حمله أو دفنه من تحصل به الكفاية، ثم يلحقهم من
يشاركهم في ذلك، فيكون له أجر فرض الكفاية على قدر عمله.
المثال الثالث: أن يشتغل بعلم الشرع من تحصل به الكفاية
الواجبة، ثم يلحق بهم من يشتغل به فيكون مفترضا لأن المصلحة لم
تكمل بعد. فإن قيل: لو صلى على الجنازة ثانيا من لم يصل عليها
أولا بعد إسقاط فرضها في الحكم لكانت الصلاة الثانية فرضا عند
أصحاب الشافعي، فكيف يحكم بأنها فرض مع سقوط الفرض بصلاة
السابقين، وليس هذا كاللاحقين في الصلاة، لأن مصلحة الفرض لا
تحصل إلا بالتحلل من الصلاة؟ فالجواب: أن جميع مصالح فروض
الكفاية إذا أتي بها فقد دخلت في الوجود قطعا ولا يغلب ذلك على
الظن، ومصلحة فرض الصلاة على الميت لا يقطع بدخولها في الوجود،
لأن مقصودها الأعظم إجابة الدعاء وهو غيب لا اطلاع لنا عليه،
فمن الجائز أن يقبل دعاء من تقدم إلى الصلاة فتكون الصلاة
الثانية محصلة للمصلحة التي هي إجابة الدعاء، إذ لا يلزم من
ههنا من ظهور المصلحة - إذا صلى عليه الأبرار - أن يتحقق في
الباطن، بخلاف مصالح فروض الكفاية
ج / 1 ص -45-
فإنها تتحقق ظاهرا وباطنا. ولذلك يكرر الدعاء على المطلوب الواحد
كدعاء الفاتحة والقنوت وبين السجدتين، وكذلك يكرر التسليم
والترحم على الأموات، ولو علمت الإجابة لكان الدعاء عبثا،
وكذلك تكرير التسليم عند اللقاء والافتراق مع كونه دعاء بكل
سلامة. وكذلك كرر الرسول صلى الله عليه وسلم الاستغفار في
اليوم الواحد سبعين مرة أو مائة مرة ولم يكن ذلك لكثرة ما
يستغفر منه بل للإلحاح في الاستغفار على تقصير واحد أو تقصيرين
والله يحب الملحين في الدعاء.
فإن قيل: كيف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاستغفار مع
وعده بغفران ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قلنا وعد بغفران مبني
على استغفاره كما وعد المؤمنون بنعيم الجنان المبني على
الطاعات والإيمان. فإن قيل: هلا وجب تكرير صلاة الجنازة إلى أن
يغلب على الظن حصول الإجابة؟ قلنا لا تكرر لما في التكرير من
المشقة ولا ضابط لغلبة الظن في ذلك. فإن قيل. إذا بعد سقوط
الفرض بصلاة الفجرة الذين نبعد إجابة دعائهم فهلا وجب أن يكون
المصلون بررة يغلب على الظن قبول دعائهم؟ فالجواب أن البررة لا
يتيسرون في أوقات حضور الجنائز ورب فاجر مقبول الدعاء لشدة
تضرعه وقيامه بآداب الدعاء، ورب بر مردود الدعاء لتقصيره في
القيام بآدابه.
الضرب الثاني من المصالح: ما يثاب على فعله ولا
يعاقب على تركه
وهو ضربان:
أحدهما سنة على الكفاية كالأذان والإقامة، وتسليم بعض الجماعة
على من مروا به من أهل الإسلام، وتشميت العاطس، وما يفعل
بالأموات مما ندب إليه.
والثاني سنة على الأعيان كالرواتب، وصيام الأيام الفاضلة،
وصلاة العيدين والكسوفين، والتهجد وعيادة المرضى، والاعتكاف
والتطوع بالنسكين، والطواف من غير نسك، والصدقات المندوبات،
ومصالح هذا دون مصالح الواجب.
ج / 1 ص -46-
والمفاسد ضربان: أحدهما ما يعاقب على فعله ويؤجر على تركه إذا نوى
بتركه القربة كالتعرض للدماء والأبضاع والأعراض والأموال.
والثاني: ما لا يعاقب على فعله وتفوته مصلحة بتركه كالصلاة في
الأوقات المكروهات، وغمس اليدين في الإناء قبل غسلهما لمن قام
من المنام، وترك السنن المشروعات في الصلوات.
فصل: في انقسام المصالح والمفاسد إلى الوسائل
والمقاصد
الواجبات والمندوبات ضربان: أحدهما مقاصد، والثاني وسائل،
وكذلك المكروهات والمحرمات ضربان: أحدهما مقاصد والثاني:
وسائل، وللوسائل أحكام المقاصد، فالوسيلة إلى أفضل المقاصد هي
أفضل الوسائل، والوسيلة إلى أرذل المقاصد هي أرذل الوسائل، ثم
تترتب الوسائل بترتب المصالح والمفاسد، فمن وفقه الله للوقوف
على ترتب المصالح عرف فاضلها من مفضولها، ومقدمها من مؤخرها،
وقد يختلف العلماء في بعض رتب المصالح فيختلفون في تقديمها عند
تعذر الجمع، وكذلك من وفقه الله لمعرفة رتب المفاسد فإنه يدرأ
أعظمها بأخفها عند تزاحمها، وقد يختلف العلماء في بعض رتب
المفاسد فيختلفون فيما يدرأ منها عند تعذر دفع جميعها،
والشريعة طافحة بما ذكرناه وسنذكر أمثلة ذلك إن شاء الله
تعالى.
فصل: في بيان رتب المصالح
وهي ضربان: أحدهما مصلحة أوجبها الله عز وجل نظرا لعباده، وهي
متفاوتة الرتب منقسمة إلى الفاضل والأفضل والمتوسط بينهما.
فأفضل المصالح ما كان شريفا في نفسه، دافعا لأقبح المفاسد،
جالبا لأرجح المصالح، وقد سئل عليه السلام أي الأعمال أفضل؟
فقال: "إيمان
بالله", قيل: ثم أي؟ قال:
"الجهاد في سبيل الله", قيل:
ثم أي؟ قال:
"حج مبرور".
جعل الإيمان أفضل الأعمال لجلبه لأحسن المصالح، ودرئه لأقبح
المفاسد، مع شرفه في نفسه وشرف متعلقه، ومصالحه ضربان: أحدهما
عاجلة وهي إجراء أحكام الإسلام، وصيانة
ج / 1 ص -47-
النفوس والأموال والحرم والأطفال. والثاني: آجلة وهو خلود الجنان
ورضاء الرحمن. وجعل الجهاد تلو الإيمان، لأنه ليس بشريف في
نفسه، وإنما وجب وجوب الوسائل - وفوائده ضربان أحدهما مصالحه،
وهي منقسمة إلى العاجل والآجل فأما مصالحه العاجلة فإعزاز
الدين، ومحق الكافرين، وشفاء صدور المؤمنين من اغتنام أموالهم
وتخميسها، وإرقاق نسائهم وأطفالهم. وأما مصالح الآجلة فالأجر
العظيم قال الله تعالى: {وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}،
فجعل الأجر العظيم للقتلى والغالبين، والغالب أفضل من القتيل، لأنه
حصل مقاصد الجهاد، وليس القتيل مثابا على القتل لأنه ليس من
فعله، وإنما يثاب على تعرضه للقتل في نصرة الدين. الضرب
الثاني: من فوائد الجهاد درؤه لمفاسد عاجلة وآجلة، أما الآجلة
فلأنه سبب لغفران الذنوب، والغفران دافع لمفاسد العقاب. وأما
العاجلة فإنه يدرأ الكفر من صدور الكافرين إن قتلوا أو أسلموا
خوفا من القتل، وكذلك يدرأ استيلاء الكفار على قتل المسلمين
وأخذ أموالهم وإرقاق حرمهم وأطفالهم، وانتهاك حرمة الدين. وجعل
الحج في الرتبة الثالثة لانحطاط مصالحه عن مصالح الجهاد وهو
أيضا يجلب المصالح ويدرأ المفاسد. أما جلبه للمصالح فلأن الحج
المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وأما درؤه للمفاسد فإنه يدرأ
العقوبات بغفران الذنوب. قال صلى الله عليه وسلم:
"من حج هذا
البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، ولا تزال رتب المصالح الواجبة التحصيل تتناقض إلى رتبة لو تناقضت
لانتهينا إلى رتب المصالح المندوبات. وكذلك تتفاوت رتب فرض
الكفاية فيما تجلبه من مصلحة أو تدرؤه من مفسدة، فقتال الدفع
أفضل من قتال الطلب، ودفع الصوال عن الأرواح والأبضاع أفضل من
درئهم عن المنافع والأموال. وكذلك تتفاوت رتب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بتفاوت رتب المأمور به في المصالح والمنهي
عنه في المفاسد.
ج / 1 ص -48-
الضرب الثاني: من رتب المصالح: ما ندب الله عباده إليه إصلاحا لهم،
وأعلى رتب مصالح الندب دون أدنى رتب مصالح الواجب، وتتفاوت إلى
أن تنتهي إلى مصلحة يسيرة لو فاتت لصادفنا مصالح المباح. وكذلك
مندوب الكفاية يتفاوت بتفاوت رتب مصالحه وفضائله.
فائدة في مصالح المباح: مصالح المباح عاجلة بعضها أنفع وأكبر
من بعض ولا أجر عليها، فمن أكل شق تمرة كان محسنا إلى نفسه
بمصلحة عاجلة، ومن تصدق بشق تمرة كان محسنا إلى نفسه بمصلحة
آجلة، وإلى الفقراء بمصلحة عاجلة، ومن أتى مصلحة أخروية قاصرة
عليه كان له أجرها وذخرها، ومن أتى مصلحة متعدية كان له أجرها
ولمن تعدت إليه أجرها الآجل إن كانت في دينه وكان نفعها العاجل
إن كانت في دنياه.
فصل: في بيان رتب المفاسد
وهي ضربان:
ضرب حرم الله قربانه، وضرب كره الله إتيانه، والمفاسد ما حرم
الله قربانه رتبتان إحداهما: رتبة الكبائر وهي منقسمة إلى
الكبير والأكبر والمتوسط بينهما، فالأكبر أعظم الكبائر مفسدة.
وكذلك الأنقص فالأنقص، ولا تزال مفاسد الكبائر تتناقص إلى أن
تنتهي إلى مفسدة لو نقصت لوقعت في أعظم رتب مفاسد الصغائر وهي
الرتبة الثانية. ثم لا تزال مفاسد الصغائر تتناقص إلى أن تنتهي
إلى مفسدة لو فاتت لانتهت إلى أعلى رتب مفاسد المكروهات وهي
الضرب الثاني من رتب المفاسد، ولا تزال تتناقص مفاسد المكروهات
إلى أن تنتهي إلى حد لو زال لوقعت في المباح. وقد أبان صلى
الله عليه وسلم من تفاوت الكبائر ثلاث مراتب، إذ سئل عليه
السلام أي الذنوب أكبر؟ فقال:
"أن تجعل لله ندا وهو خلقك"، قيل ثم أي؟ قال:
"أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك"
قيل. ثم أي؟ قال:
"أن تزاني
حليلة جارك" جعل الكفر أكبر الكبائر مع قبحه في نفسه، لجلبه لأقبح المفاسد
ودرئه لأحسن المصالح,
ج / 1 ص -49-
فإنه يجلب مفاسد الكفر ويدرأ مصالح الإيمان. ومفاسده ضربان:
أحدهما عاجل وهو إراقة الدماء وسلب الأموال وإرقاق الحرم
والأطفال. الضرب الثاني: آجل وهو خلود النيران مع سخط الديان.
وأما درؤه لأحسن المصالح فإنه يدرأ في الدنيا عن المشركين
التوحيد والإيمان وعن الإسلام والأمن من القتل والسبي واغتنام
الأموال، ويدرأ في الآخرة نعيم الجنان ورضا الرحمن. وجعل قتل
الأولاد تاليا لاتخاذ الأنداد، لما فيه من الإفساد وقطع
الأرحام والخروج من حيز العدالة إلى حيز الفسوق والعصيان، مع
التعرض لعقاب الآخرة، وتغريم الدية والكفارة، والانعزال عن
الولاية التي تشترط فيها العدالة وجعل الزنا بحليلة جاره تلو
قتل الأولاد لما في ذلك من مفاسد الزنا كاختلاف المياه واشتباه
الأنساب وحصول العار، وأذية الجار، والتعرض لحد الدنيا أو
لعقاب الآخرة، والانتقال من حيز العدالة إلى حيز الفسوق
والعصيان والانعزال عن جميع الولايات. |