قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف
ج / 2 ص -62-
فصل: في بيان أقسام العبادات والمعاملات
اعلم أن من أنعم الله عليه وأحسن إليه وفقه لطاعته ونيل
مثوبته، ومن خذله أبعده بمعصيته وعقوبته، فمصالح الآخرة الحصول
على الثواب، والنجاة من العقاب، ومفاسدها الحصول على العقاب
وفوات الثواب، ويعبر عن ذلك كله بالمصالح الآجلة، والمقصود من
العبادات كلها إجلال الإله وتعظيمه ومهابته والتوكل عليه
والتفويض إليه. وكفى بمعرفته ومعرفة صفاته شرفا، والآخرة وهي
أفضل من كل ثواب يقع عليها ما عدا النظر إلى وجهه الكريم.
وأما مصالح الدنيا فما تدع إليه الضروريات أو الحاجات والتتمات
والتكملات.
وأما مفاسدها ففوات ذلك بالحصول على أضداده، ويعبر عن ذلك كله
بالمصالح العاجلة، وقد ندب الرب إلى الإكثار من المصالح
الأخروية على قدر الاستطاعات، وندب إلى الاقتصار في المصالح
الدنيوية على ما تمس إليه الضرورات والحاجات، فرغب الأغنياء
الأشقياء في تكثير ما أمر بتقليله وفي تقليل ما أمر بتكثيره
فسخط عليهم وأشقاهم، وأبعدهم وأقصاهم وقد قال في أكثرهم:
{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ
وَأَبْقَى} ورغب
الأنبياء في الاقتصار على الكفاف من الأعراض الدنيوية، وفي
الإكثار من التسبب في المصالح الأخروية، فقربهم الرب إليه
وأزلفهم لديه فرضي عنهم وأرضاهم، وأسعدهم وتولاهم، فيا شقوة من
آثر الخسيس الفاني على النفيس الباقي، ويا غبطة من أرضى مولاه
وآثر أخراه على أولاه فلمثل ذلك فليعمل العاملون، وفيه
فليتنافس المتنافسون.
[فائدة] التكاليف كلها راجعة إلى مصالح العباد
في دنياهم وأخراهم والله غني عن عبادة الكل، ولا تنفعه طاعة
الطائعين، ولا تضره معصية العاصين بل لو كانوا كلهم على أفجر
قلب رجل واحد منهم لم ينقص ذلك من ملكه شيئا، ولو كانوا كلهم
على أتقى قلب رجل واحد منهم لم يزد ذلك في ملكه شيئا،
ج / 2 ص -63-
ولم يبلغوا ضره فيضروه ولا نفعه فينفعوه، وكل ضال إلا من هداه الله،
وجائع إلا من أطعمه الله، وعار إلا من كساه، وإنما سبق علمه -
سبحانه وتعالى - بترتيب بعض الحادثات على بعض من غير أن يكون
مقدمها موجبا لمؤخرها ولا منشئا له بل هو المتحد بترتيب
المسببات على أسبابها، وبالعقوبات على المخالفات، وبالمثوبات
على الطاعات من غير أن يوجد شيء منها مما ترتب عليه، بل الكل
مستند إليه، ولو عاقب من غير كفر وعصيان لكان عدلا مقسطا، ولو
أثاب من غير طاعة، وإيمان لكان متفضلا، وقد أجرى أحكامه في
الدنيا على أسباب ربط بها ليعرف العباد بالأسباب أحكامها
ليسارعوا بذلك إلى طاعته واجتناب معصيته إذا وقفوا على
الأسباب، فأمر المكلفين كلهم ونهاهم، ودعاهم إلى طاعته واجتناب
معصيته واقتضاهم، مع علمه بأن أكثرهم يعصونه ولا يطيعونه،
ويخالفونه ولا يوافقونه لسبق علمه في ذلك فيهم ونفوذ إرادته
وقضائه عليهم.
فإن قيل: إذا علم منهم ذلك فلم وجه الخطاب إليهم مع علمه أنهم
لا يطيعون ولا يمتثلون، وكيف يطلب منهم ما يخالف علمه فيهم،
وهم لا يقدرون على تبديل علمه، ولا على تغيير حكمه، فعلى هذا
قد كلفهم بما لا يطيقون؛ لأن ما علم أنه لا يكون فواجب ألا
يكون، وما علم أن يكون فواجب حتم أن يكون. قلنا: أحسن ما قيل
في ذلك أن توجه الخطاب إلى الأشقياء الذين لا يمتثلون ما أمروا
به، ولا يجتنبون ما نهوا عنه، ليس طلبا على الحقيقة، وإنما هو
علامة وضعت على شقاوتهم، وأمارة نصبت على تعذيبهم، إذ لا يبعد
في كلام العرب أن يعبر بصيغة الأمر والنهي عن الخبر كقوله
تعالى:
{قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ
مَدّاً}،
وكقوله تعالى:
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ
فَيَكُونُ}،
وكقوله:
{وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} وكقوله:
{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}،
ولا استبعاد في تعذيب
ج / 2 ص -64-
من لم يذنب ولم يخالف ما سنذكره في إيلام المجانين والبهائم
والصبيان إن شاء الله - تعالى -. وكما روي في الحديث الصحيح: "إن الله عز وجل ينشئ في الجنة أقواما"، وكذلك الحكم في الحور العين، وكذلك الحكم في أطفال المسلمين، وليس
بدعا من إحسانه المبتدأ من غير عمل، فإنه قد أحسن إلى الملائكة
المقربين، وإلى النبيين والمرسلين، وكذلك أحسن إلى الفجار
والأبرار في هذه الدار، وكذلك إلى الحيوانات من الوحوش
والبهائم والأنعام، وقد يكلف بالطاعة ولا يثيب عليها كما كلف
الملائكة المقربين، ولا اعتراض على رب العالمين الذي يفعل ما
يشاء ويحكم ما يريد، ومن اعترض زاد شقاؤه، واشتد بلاؤه، وعظم
عناؤه. ويجاب على اعتراضه أن الربوبية ليست مقيدة بمصالح
العبودية، ولا حجر للعباد على ربهم حتى لا يفعل إلا ما يصلحهم،
بل القدرة الأزلية مطلقة لا تتقيد بما يصلح العباد ولا بما
يعمر البلاد، ولا بما يوجب الرشاد، وقد شاهدنا ما يبتلى به من
لا ذنب له ولا تكليف عليه كالصبيان والمجانين والبهائم من
الآلام والأوصاب والجوع والظمأ والغرق والحرق، مع أنا نعلم أن
الرب لا ينتفع بذلك ولا يتضرر بفقده، وكذلك لا ينتفع المبتلى
بذلك بل ينتفع بفقده.
فإن قال بعض الأشقياء: إنما ذلك ليثيبهم عليه؟ قلنا له: قد
ضللت عن سواء السبيل، أما كان في قدرة رب العالمين أن يحسن
إليهم إلا عوضا عن تعذيبهم؟ فإن قال: لا يقدر على ذلك، فلا
يخفى ما في قبح هذا الكلام. وإن قال: إنه يقدر على ذلك قيل له
فلماذا أضر بهؤلاء المساكين؟ فإن قال الشقي: إنما فعل ذلك
ليدفع ضرر منته. فجوابه من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه كان قادرا
على ألا يخلق لمنته ضررا.
الوجه الثاني: أن منة رب العالمين شرفا في الدنيا والآخرة ولا
خروج
ج / 2 ص -65-
لأحد منها ولا انفكاك له عنها، وكيف نخرج عنها وهو الخالق لذواتنا
وجميع صفاتنا وأرزاقنا.
الوجه الثالث: إن قدر في منة الرب ضرر - تعالى الله عن ذلك -
فمفسدة ذلك الضرر أخف من المفاسد المذكورة بما لا يتناهى، فإنا
لو فرضنا مبتلى ملقى على المزابل مجذوما مقطوع اليدين والرجلين
فأتاه إنسان غني يقدر على ألف قنطار من المال فقلع عينه ثم
أطعمه لقمة فقيل له لم قلعت عين هذا الضعيف المسكين؟ قال إنما
قلعتها ثم أطعمه هذه اللقمة، فقيل له: أكنت قادرا على إطعامه
من غير أن تقلع عينه؟ فقال نعم: كنت قادرا على ذلك فقيل: له
فلم قلعتها مع سعة غناك وقدرتك على أن لا تقلعها؟ فقال؛ لأحسن
إليه بدفع تمنني عليه، لقطع العقلاء بقبح ما أتاه ولعدوه من
أسخف الناس عقلا، وأفسدهم عملا، وأفشلهم رأيا، فإن اعتبروا
الغائب بالشاهد كان هذا مكذبا لهم لقبحه في الشاهد، وحسن صدوره
من الرب. وإن لم يعتبروا الغائب بالشاهد لم يجز لهم إلحاق
الغائب بالشاهد مع ظهور الفارق، فإن هذا قبيح في الشاهد حسن في
الغائب. وقد قال الشافعي رحمه الله: القدرية إذا سلموا العلم
خصموا، ومعناه إذا سلموا أن الله عالم بما يقع في العالم من
المفاسد فلم يزلها مع قدرته على إزالتها فهذا قبيح في الشاهد
ممن قدر على إزالته، ولا يقبح من الرب لموافقتهم على أنه قادر
عليه، وقد مثل ذلك برجل له عبد مفسد مقيد يعلم مالكه أنه لو
أطلقه لأفسد أملاك سيده وأمواله، ولزنا بإمائه وبناته ونسائه،
ولقتل أولاده وأحباءه، فأطلقه ففعل ذلك كله وهو ينظر إليه
قادرا على دفعه من غير عسر فلم يدفعه، فإن هذا قبيح عند جميع
العقلاء في مطرد العادات، ولم يلحقوا الغائب فيه بالشاهد. فإن
الله أقدر العاصين على عصيانهم، والمفسدين على إفسادهم، مع أنه
عالم بما يصدر منهم من المعاصي والفساد، وهو مطلع عليهم ناظر
إليهم لا يغير شيئا من ذلك مع قدرته على
ج / 2 ص -66-
تغييره، وقد اتفقنا على أن هذا حسن من الله - عز وجل - فإذا انقطع
الغائب عن الشاهد في هذه الصورة فكيف يلحق به فيما سواها،
فيقول بعد هذا إنما نصبت الأسباب الشرعية لجلب المصالح ودرء
المفاسد في حق بعض المكلفين دون بعض، وهم الذين علم الله - عز
وجل - أنهم يأتمرون بأوامره، ويزدجرون بزواجره.
واعلم أن مصالح الآخرة لا تتم إلا بمعظم مصالح الدنيا كالمآكل
والمشارب والمناكح وكثير من المنافع، فلذلك انقسمت الشريعة إلى
العبادات المحضة في طلب المصالح الأخروية، وإلى العبادات
المتعلقة بمصالح الدنيا والآخرة، وإلى ما يغلب عليه مصالح
الدنيا كالزكاة، وإلى ما يغلب عليه مصالح الأخرى كالصلاة،
وكذلك انقسمت المعاملات إلى ما يغلب عليه مصالح الدنيا
كالبياعات والإجارات، وإلى ما يغلب عليه مصالح الآخرة كالإجارة
بالطاعات على الطاعات، وإلى ما يجتمع فيه المصلحتان. أما مصالح
الأخرى فلباذليه، وأما المصالح الدنيا فلآخذيه وقابليه، وإلى
ما يتخير باذلوه بين أن يجعلوه لدنياهم أو أخراهم، أو أن
يشركوا فيه بين دنياهم وأخراهم.
وأما العبادات فأنواع. أحدها: المعارف المختصة بالله - تعالى
-، وكذلك الأحوال المبنية عليها.
النوع الثاني: الأقوال المختصة بالله - تعالى - كالتسبيح
والتقديس والتحميد والتهليل والتكبير وسائر المدائح التي بها
يمدح الإله.
النوع الثالث: الأفعال المختصة بالله كالحج في العمرة والركوع
والسجود والصيام والطواف المجرد والاعتكاف.
النوع الرابع: ما يغلب عليه حق الله وفيه حق للعباد كالصلوات
المفروضات والمندوبات.
النوع الخامس: ما يشتمل على الحقين ويغلب عليه حق العباد
كالزكاة والكفارات وستر العورات، وقد يجتمع الحقان في الدماء،
والأبضاع والأعراض والأنساب.
ج / 2 ص -67-
وأما الأموال فحق الله - تعالى - فيها تابع لحقوق العباد بدليل أنها
تباح بإباحتهم ويتصرف فيها بإذنهم، وفي الجهاد الحقان جميعا.
وأما المعاملات فأنواع. أحدها: ما وضع لإفادة المصالح العاجلة
كالبيوع والإجارات وتدخله المصالح الآجلة بالمباحات
والمسامحات.
النوع الثاني: ما يكون مصلحة عوضية آجلة كالاستئجار للحج
والعمرة بتعليم القرآن، وكالاستئجار للأذان بالحج أو العمرة أو
بتعليم القرآن وكالاستئجار بالحج أو بالعمرة على الصيام،
وكالاستئجار على بناء المساجد بالحج أو الأذان أو تعليم
القرآن.
النوع الثالث: ما تكون إحدى مصلحتيه عاجلة والثانية آجلة
كالقرض، مصلحته للمقترض عاجلة وللمقرض آجلة إذا قصد به وجه
الله، وكذلك ضمان إحضار ما يجب إحضاره مصلحته العاجلة للمضمون،
والآجلة للضامن إذا قصد به القربة إلى الله تعالى.
النوع الرابع: ما تكون إحدى مصلحتيه عاجلة والأخرى يتخير
باذلها بين تعجيلها وتأجيلها، أو ما تأجل بعضها دون بعض كضمان
الديون مصلحته العاجلة للمضمون له. وأما الآجلة، فإن ضمن ذلك
بعوض كان كالقرض، وإن ضمنه مجانا أثيب عليه إن قصد به وجه
الله. وكذلك إن شرط الرجوع بالبعض دون البعض، وكذلك الحكم في
قبول الودائع والأمانات والوكالات مصلحتها العاجلة للمالك
والموكل والمودع وفي الآجل للقابل إن قصد به وجه الله.
النوع الخامس: ما تكون مصلحته الآجلة لباذليه، والعاجلة
لقابليه كالأوقاف والهبات والعواري والوصايا والهدايا. ومن ذلك
المسامحة ببعض الأعواض، مصلحتها العاجلة للمسامح القابل،
والآجلة للمسامح الباذل.
وأما الولايات، فإن كانت في إحدى الصلوات المكتوبات فمصلحتها
الآجلة مشتركة بين الأئمة والمقتدين، إذ لا تتم إلا بالفريقين،
وذلك واجب في الجمعات
ج / 2 ص -68-
مؤكدة في غيرها من الصلوات. وأما الصلاة على الأموات ففائدتها
للمصلي والمصلى عليه آجلة، وإن كانت الولاية عليه في غير
الصلاة فإن كانت في الحضانة فمصلحتها للمحضون في العاجل
والحاضن في الآجل. وإن كانت في ولاية النكاح فمصلحتها العاجلة
لها، ويثاب عليها الولي إذا قصد القربة في الآجل، وكذلك المولى
عليه إذا كان تائقا إلى النكاح قاصدا للعفاف فإن النكاح للتائق
أفضل من التنفل في العبادات، والولي معين عليه وثواب الإعانة
على قدر فضل المعان عليه، وإن كانت الولاية في الحجر فهو
ضربان. أحدهما: أن يكون الحجر لمصلحة المحجور عليه كالحجر على
السفهاء والصبيان والمجانين فمصلحة الحاجر فيه آجلة ومصلحة
المحجور عليه عاجلة.
الضرب الثاني: أن يكون الحجر لمصلحة غير المحجور عليه كحجر
الرق والفلس والمرض. أما حجر الرق فمصلحته العاجلة للسادات،
والعبد إذا أدى حق الله، وحق مواليه كان له أجره مرتين. وأما
حجر الفلس فمصلحته العاجلة للغرماء ومصلحته الآجلة للحاكم،
وفيه مصلحة للمحجور عليه من جهة براءة ذمته.
وأما الشهادات، فإن كانت بحقوق الله الخاصة به فالقيام بها من
المصالح الآجلة، وإن كانت بحقوق العباد كانت مصالحها العاجلة
للمشهود له والآجلة للشاهد إذا قصد بذلك وجه الله، وإعانة أخيه
المؤمن على حفظ حقه. والحكم كالشهادة في ذلك، وكذلك تصرف
الإمام إن تصرف في حقوق الله المحضة، كانت مصالح تصرفه آجلة،
وإن تصرف في حقوق العباد كانت مصالح العباد عاجلة ومصالح
الإمام آجلة، وإن تصرف لإقامة الحقين حصل المحكوم له على
الفوائد العاجلة وحصل الإمام على الأجرين.
وأما الالتقاط، فمصلحته العاجلة للقيط ومصلحته الآجلة للملتقط.
وأما اللقطة، فإن قصد الملتقط الحفظ والتعريف كانت المصلحة
للمالك في العاجل وللملتقط في الآجل، وإن التقط للتعريف
والتمليك كانت المصلحة
ج / 2 ص -69-
العاجلة للمالك وللملتقط مع ما يرجى للملتقط من الأجر في الآجل.
وإن كانت الولاية على القسمة فإن قسمها مجانا كانت الفائدة
العاجلة للمقتسمين والآجلة للقاسمين، لما فيها من إعانة
المقتسمين، وإن كانت بعوض لا مسامحة فيه كانت عاجلة للقاسمين
والمقتسمين، وإن سامح القاسم في الأجرة كان له أجر المسامحين.
قاعدة في بيان حقائق التصرفات
الإنسان مكلف بعبادة الديان باكتساب في القلوب والحواس
والأركان ما دامت حياته، ولم تتم حياته إلا بدفع ضروراته
وحاجاته من المآكل والمشارب والملابس والمناكح، وغير ذلك من
المنافع، ولم يتأت ذلك إلا بإباحته التصرفات الدافعة للضرورات
والحاجات. والتصرفات أنواع: نقل، وإسقاط وقبض، وإذن ورهن، وخلط
وتملك، واختصاص، وإتلاف، وتأديب خاص وعام، فنذكر كل نوع في باب
إن شاء الله - تعالى -.
الباب الأول: في نقل الحق من مستحق إلى مستحق.
وهو ضربان:
الضرب الأول: في النقل بعوض وهو أنواع.
الأول: البيع وهو نقل ملك كل واحد من المتبايعين إلى صاحبه إن
كان العوضان عينا، وإن كان دينا فهو مقابله التزام دين بالتزام
دين إلى أن يتفق التقابض فينتقل ملك البائع إلى المشتري وملك
المشتري إلى البائع. وإن كان المبيع عينا والثمن دينا كان
التزام الدين في نقل مقابله ملك العين فإذا قبض الدين انتقل
الملك إلى البائع.
النوع الثاني: الإجارة وهي بيع المنافع بعين أو دين أو منافع،
وتتعلق المنافع والحقوق تارة بالذمم وتارة بالأعيان.
النوع الثالث: المساقاة والمزارعة التابعة لها وهي: التزام
أعمال الفلاحة بجزء شائع من الغلة المعمول على تحصيلها.
النوع الرابع: القرض وهو تعاقد على الإجارة بجزء شائع من
الأرباح.
ج / 2 ص -70-
النوع الخامس: السلم وهو بيع دين بعين مقبوضة في المجلس أو بدين
يقبض فيه.
النوع السادس: القرض وهو بدل عين في مقابلة دين.
النوع السابع: الجعالة وهي بذل مال في مقابلة عمل مقصود مجهول،
وفي المعلوم خلاف.
والحوالة مركبة من بيع وقبض، والصلح بيع أو إجارة أو إبراء أو
هبة، والقسمة بيع على قول وتمييز حق على آخر وتكون نوعا
مستقلا. وأما الفسوخ فهي تراد بين العوضين أو رد في أحدهما في
مقابلة قيمة الآخر كالفسخ بخيار المجلس، وخيار الشرط وخيار
الرؤية وخيار التدليس، وخيار الرد بالعيب، وخيار رجوع البائع
بفلس المشتري، وخيار تعذر إمضاء العقد. وكذلك ما سرقه المسلمون
من أموال أهل الحرب، فإن الملك ينتقل فيه بغير عوض وكذلك
اغتنام أموالهم، واستحقاق القاتل السلب. وكذلك الأخذ بالشفعة
ناقل للملك من المحابين.
وأما الوقف على معنيين فهو نقل للمنافع والغلات إلى الموقوف
عليه، وهل هو نقل لرقاب الأعيان فيه خلاف.
الضرب الثاني: النقل مجانا بغير عوض كالهدايا والوصايا والعمرى
والرقبى والهبات والصدقات والكفارات والزكاة.
الباب الثاني: في إسقاط الحقوق وهي ضربان
أحدهما:
إسقاط بغير عوض فمنه الإبراء الذي يسقط الدين من الذمة ولا
ينقله إلى المدين، ومنه إسقاط القصاص بالعفو فإن العفو يسقط
القصاص عن الجاني، ولا ينقله إليه، وكذلك اللعان يسقط حد القذف
عن الزوج ولا ينقله إليه، وكذلك العفو عن التعزير وعن حد
القذف، وكذلك إسقاط حق النكاح والاستمتاع بالطلاق فإنه يسقط
الملك عن الرقاب، ولا ينقله إلى الرقيق، وكذلك وقف المساجد
يسقط ملكها ولا ينقله.
ج / 2 ص -71-
الضرب الثاني: الإسقاط بالأعواض كإسقاط حق الزوج من البضع بالخلع أو
بالطلاق على مال، وكالصلح عن الدين فإنه يسقطه عن المدين ولا
ينقله إليه، وكذلك العتق على مال، وبيع العبد من نفسه فإنه
يسقط الملك، ولا ينقله إلى الرقيق، وكذلك الصلح عن القصاص في
النفوس والأطراف فإنه يسقط القصاص عن الجاني ولا ينقله إليه،
فيقع بهذه التصرفات النقل في أحد الجانبين والإسقاط من الآخر.
وأما مقابلة الإسقاط عند تساوي الديون في باب التقاص فلا نقل
فيه من الجانبين ولا من أحدهما، وإنما هو سقوط في مقابلة سقوط
إذا لم يشترط الرضا أو إسقاط في مقابلة إسقاط ما لها عليه في
ذمته، ولا يقابل إسقاط حد القذف بشيء من الأعواض على الأصح.
الباب الثالث: في القبض وهو ثلاثة أضرب
أحدها: قبض
بمجرد إذن الشرع دون إذن المستحق وهو أنواع: فمنها اللقطة ومال
اللقيط وقبض المغصوب من الغاصب للولاة والحكام وفي الآحاد خلاف
ومنها قبض الحاكم أموال الغيب التي لا حافظ لها، ومن ذلك قبض
أموال المجانين والمحجور عليهم بسفه أو صغر، وحفظ أموال الغيب
والمحبوسين الذين لا يتمكنون من حفظ أموالهم، ومنها من طيرت
الريح ثوبا إلى حجره أو داره، ومنها المودع إذا مات المودع
الوديعة عنده، ومنها قبض المضطر من طعام الأجانب ما تدفع به
ضرورته. وكذلك سرقة أموال أهل الحرب، وكذلك قبض الإنسان حقه
إذا ظفر به، بجنسه أو بغير جنسه.
الضرب الثاني: ما يتوقف جواز قبضه على إذن مستحقه كقبض المبيع
وقبض المتساوم عليه، والقبض بالبيع الفاسد، وقبض الرهون،
والهبات والصدقات، والعواري، وقبض جميع الأمانات.
ج / 2 ص -72-
الضرب الثالث: قبض بغير إذن من الشرع ولا من المستحق، فإن كان
القابض عالما بتحريمه فهو قبض المغصوب وهو مضمن الأعيان
والمنافع والصفات، وإن كان جاهلا مثل أن يقبض مالا يعتقده
لنفسه فإذا هو لغيره فلا إثم عليه ولا إباحة فيه، وتضمن به
العين والمنافع والصفات.
الباب الرابع: في الإقباض وهو أنواع
أحدها: المناولة فيما جرت العادة بمناولته كالحلي والجواهر.
النوع الثاني: ما لا يمكن نقله كالعقار، وإقباضه بتمكين القابض
من المقبض مع إزالة يد المقبض وتمكن القابض من القبض.
النوع الثالث: ما جرت العادة بنقله وهو ضربان: أحدهما ما يستحق
كيله أو وزنه، فقبضه بكيل مكيله ووزن موزونه: ثم نقله بعد
تقديره.
الضرب الثاني: ما جرت العادة بنقله من غير كيل ولا وزن كالمتاع
والنحاس والرصاص ونحوها فقبضه بنقله إلى مكان لا يختص ببائعه،
ولا تكفي فيه التخلية على الأصح.
النوع الرابع: الثمار على الأشجار إذا أينعت وبدا صلاحها
والأصح أن تخليتها قبض لها.
النوع الخامس: ما يقبضه الوالد لولده أو حفيده ويقبضه من نفسه
عن ولده لنفسه ومن نفسه لولده.
النوع السادس: إذا كان للمدين حق في يد رب الدين فأمره أن
يقبضه من يده لنفسه ففيه خلاف.
[فائدة] إذا كان المقبوض غائبا فلا بد أن يمضي
زمان يمكن المضي إليه فيه، ولو كان ما يستحق قبضه بيد القابض
وهو غائب عنه فلا بد من مضي الزمان، وفي اشتراط الرؤية خلاف
فإن شرطناها ففي اشتراط نقله خلاف.
ج / 2 ص -73-
الباب الخامس: في التزام الحقوق من غير قبول وهي أنواع
أحدها: بنذر
في الذمم أو الأعيان. الثاني: التزام الديون بالضمان. الثالث:
ضمان الدرك. الرابع: ضمان الوجه. الخامس: ضمان إحضار ما يجب
إحضاره من الأعيان المضمونات.
الباب السادس: الخلط والشركة ضربان
أحدهما:
شركة شياع. والثاني: شركة فيما لا يتميز من ذوات الأمثال.
الباب السابع: إنشاء الملك فيما ليس بمملوك وهو
أنواع
أحدهما:
إرقاق الكفار بالقهر والأسر. الثاني: التمليك بإحياء الموات.
الثالث: التمليك بالاصطياد. الرابع: تملك المباحات بالحيازة
كالمعادن والحشيش والحطب والأحجار وسائر الجواهر التي في
المعادن والبحار.
الباب الثامن: الاختصاص بالمنافع وهي أنواع
أحدها: الاختصاص بإحياء الموات بالتحجر والإقطاع. الثاني:
الاختصاص بالسبق إلى بعض المباحات. الثالث: الاختصاص بالسبق
إلى مقاعد الأسواق. الرابع: الاختصاص بمقاعد المساجد للصلاة
والعزلة والاعتكاف. الخامس: الاختصاص بالسبق إلى المدارس
والربط والأوقاف. السادس: الاختصاص بمواقع النسك كالمطاف
والمسعى وعرفة والمزدلفة ومنى وبرمي الجمار. السابع: الاختصاص
بالخانات المسبلة في الطرقات. الثامن: الاختصاص بالكلاب
والمحترم من الخمور.
الباب التاسع: في الإذن وهو ضربان
أحدها: ما
ترجع فائدته إلى المأذون له، فإن كان من المنافع فهو العواري،
وإن كان من الأعيان فهو المنائح والضيافات، والأصح أن القرض
إذن في الإتلاف بشرط الضمان فلا يفتقر إلى القبول بالقول.
الضرب الثاني: ما ترجع فائدته إلى الآذن، فإن كان من الاستصناع
كالحلق
ج / 2 ص -74-
والحجامة والدلك ففي استحقاق الأجرة به خلاف، وإن كان من التصرف
القولي فهو التوكيل في أصناف المعاملات، وإن كان تصرفا فعليا
كالقبض والإقباض فهو التوكيل في كل ما يتعلق به الإذن من
الأفعال القابلة للتوكيل.
الباب العاشر: الإتلاف وهو أضرب
أحدها: إتلاف لإصلاح الأجساد وحفظ الأرواح، كإتلاف الأطعمة
والأشربة والأدوية، وذبح الحيوان المباح حفظا للأمزجة
والأرواح، ويلحق به قطع الأعضاء المتآكلة حفظا للأرواح، فإن
إفساد هذه الأشياء جائز للإصلاح.
الضرب الثاني: إتلاف الدفع وهو أنواع. أحدها: القتل والقطع
والجرح؛ لدفع ضرر الصيال على الأرواح والأبضاع والأموال.
الثاني: قتل الحيوانات المؤذية كالحية والعقرب والسباع
والضباع.
الثالث: قتل الكفار دفعا لمفسدة الكفر في قتال الطلب، ودفعا
لمفسدتي الكفر والإضرار بالمسلمين في قتال الدفع.
الرابع: قتل البغاة دفعا لبغيهم وخروجهم عن الطاعة.
الخامس: إتلاف لدفع المعصية كقتال الظلمة دفعا لظلمهم
وعصيانهم، وكذلك تخريب ديار الكفار وقطع أشجارهم وتحريقها،
وإتلاف ملابسهم وتمزيقها، وهي نوع من الجهاد.
السادس: إتلاف ما يعصى الله به كالملاهي والصلبان والأوثان.
السابع: إتلاف الزجر كرمي الزناة والقصاص من الجناة، وقطع
السراق والمحاربين؛ زجرا عن السرقة والمحاربة والجناية وصونا
لهم.
الباب الحادي عشر: التأديب والزجر وهو أضرب
أحدها: ما قدره الشرع كحد الزنا والقذف فلا يزاد عليه ولا ينقص
منه.
ج / 2 ص -75-
الثاني: ما لا تقدير فيه كالتعزيرات. الثالث: التأديب كتأديب الآباء
والأمهات للبنين والبنات. الرابع: تأديب الإماء والعبيد وهو
مفوض إلى السادات في الحدود والتعزيرات. الخامس: تأديب الدواب
بأنواع الرياضات. ومهما حصل التأديب بالأخف من الأفعال
والأقوال والحبس والاعتقاد، لم يعدل إلى الأغلظ إذ هو مفسدة لا
فائدة فيه؛ لحصول الغرض بما دونه.
فصل: في تصرف الولاة ونوابهم
يتصرف
الولاة ونوابهم بما ذكرنا من التصرفات بما هو الأصلح للمولى
عليه درءا للضرر والفساد، وجلبا للنفع والرشاد، ولا يقتصر
أحدهم على الصلاح مع القدرة على الأصلح إلا أن يؤدي إلى مشقة
شديدة، ولا يتخيرون في التصرف حسب تخيرهم في حقوق أنفسهم مثل
أن يبيعوا درهما بدرهم، أو مكيلة زبيب بمثلها لقول الله تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ}، وإن كان هذا في حقوق اليتامى فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين
فيما يتصرف فيه الأئمة من الأموال العامة؛ لأن اعتناء الشرع
بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة، وكل
تصرف جر فسادا أو دفع صلاحا فهو منهي عنه كإضاعة المال بغير
فائدة، وإضرار الأمزجة لغير عائدة، والأكل على الشبع منهي عنه؛
لما فيه من إتلاف الأموال، وإفساد الأمزجة، وقد يؤدي إلى تفويت
الأرواح، ولو وقعت مثل قصة الخضر عليه السلام في زماننا هذا
لجاز تعييب المال حفظا لأصله ولأوجبت الولاية ذلك في حق المولى
عليه حفظا للأكثر بتفويت الأقل فإن الشرع يحصل الأصلح بتفويت
المصالح، كما يدرأ الأفسد بارتكاب المفاسد، وما لا فساد فيه
ولا صلاح فلا يتصرف فيه الولاة على المولى عليه إذا أمكن
الانفكاك عنه.
[فوائد] الأولى: العدالة شرط في كل ولاية
لتكون العدالة وازعة عن التقصير في جلب المصالح ودرء المفاسد،
ولا يشترط ذلك في ولاية النكاح على الأصح؛
ج / 2 ص -76-
لأن الوازع الطبعي يزع عن التقصير في حق المولى عليه. ولم تشترط
الولاية في قبول الإقرار؛ لأن الطبع يزع عن الكذب فيما يضر
بنفسه أو ماله، والوازع الطبيعي أقوى من الوازع الشرعي.
الفائدة الثانية: يشترط في الأنكحة ما لا يشترط في سائر العقود
من الألفاظ والأولياء والشهود تمييزا للنكاح عن السفاح ودرءا
للتهمة عن الافتضاح.
الفائدة الثالثة: كل شيء عسر اجتنابه في العقود فإن الشرع يسمح
في تحمله كبيع الفستق في قشره وما لا تدعو إليه الحاجة فإنه لا
يؤثر في العقود، ولا يشترط في الأنكحة رؤية المنكوحة، وإن كان
الغرض يختلف بذلك اختلافا ظاهرا لما في شرط ذلك من الضرر على
النساء والأولياء، ولذلك تقدرت مدة النكاح بعمر أقصر الزوجين
عمرا، ولم يشترط أن تكون مدة معلومة، كما يشترط في الإجارة
والمساقاة والمزارعة، وليس النكاح نقلا من كل وجه إذ يثبت
للزوج من حقوق الاستمتاع ما لم يكن ثابتا للمرأة فهو كالنقل من
وجه، وإنشاء تمليك من وجه، ولا يتصرف الزوج في إزالته إلا
بالإسقاط دون النقل فيما أنشأه المولى من حق الاستمتاع الذي لم
يكن ثابتا للمرأة.
فصل: فيما يسري من التصرفات وله أمثلة
أحدها: أن يعتق من عبده جزءا معينا أو شائعا فيسري إلى سائره
لما في تحصيل العتق من المصالح المختصة بالأحرار.
المثال الثاني: أن يعتق من العبد المشترك جزءا معينا أو شائعا
فيسري العتق إلى بقيته، ولا يسري العتق من شخص إلى شخص إلا
إعتاق الأمة فإنه يسري إلى جنينها، ولو أعتق الجنين يسري إلى
أمه على الأصح.
المثال الثالث: إذا طلق من امرأته جزءا معينا أو شائعا سرى
الطلاق إلى بقيتها احتياطا للأبضاع بخلاف الأوقاف والصدقات،
فإن التصرف فيها مقصور على محله.
ج / 2 ص -77-
المثال الرابع: العفو عن بعض القصاص في النفس ممن يستحق بعضه أو
كله، فإنه يسري إلى جميعه؛ لأنه يسقط بالشبهات، وخالف بعض
العلماء في عفو الشريك في ذلك.
المثال الخامس: العفو عن بعض المأخوذ بالشفعة مسقط لها؛ لأنها
تثبت على خلاف الأصل ودفعا للتضرر بتفريق المأخوذ.
قاعدة في ألفاظ التصرفات
لا يتعين للعقود لفظ إلا النكاح، فإنه يتعين له لفظ التزويج أو
النكاح؛ لأن جميع الألفاظ لا تستقل بالدلالة على مقاصد النكاح،
فإن لفظ البيع والهبة يدل على نقل الملك في الرقبة، ثم المنافع
والثمار بعد ذلك مستفادة من الملك غير معقود عليها، ولفظ
الإجارة يدل على تمليك المنفعة المقدرة، والنكاح مؤجل بموت
أقصر الزوجين عمرا أو بالعمرين إن مات الزوجان معا، وجميع
ألفاظ العقود لا تدل على خصائص النكاح، وإن نوى جميع ذلك لم
يصح؛ لأن الشهادة شرط في صحة النكاح، ولا اطلاع للشهود على
النيات. |