قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في بيان تعارض أصل وظاهر
وقد يتعارض
أصل وظاهر، ويختلف العلماء في ترجيح أحدهما لا من جهة كونه
استصحابا بل لمرجح ينضم إليه من خارج، ولذلك أمثلة:
ج / 2 ص -46-
أحدها: طين الشارع في البلدان في نجاسته قولان: أحدهما أنه نجس
لغلبة النجاسة عليه. والثاني: أنه طاهر؛ لأن الأصل طهارته.
المثال الثاني: المقبرة القديمة المشكوك في نبشها في تحريم
الصلاة فيها قولان: أحدهما: التحريم؛ لأن الغالب على القبور
النبش، والثاني: يجوز؛ لأن الأصل الطهارة.
المثال الثالث: في الصلاة في ثياب من يغلب عليه النجاسة
بمخامرة النجاسة من المسلمين والمشركين قولان: أحدهما: لا يجوز
لغلبة النجاسة عليها. والثاني: يجوز؛ لأن الأصل الطهارة.
المثال الرابع: إذا اختلف الزوجان في النفقة مع اجتماعهما
وتلازمهما ومشاهدة ما ينقله الزوج إلى مسكنهما من الأطعمة
والأشربة. فالشافعي يجعل القول قول المرأة؛ لأن الأصل عدم
قبضها كسائر الديون، ومالك يجعل القول قول الزوج؛ لأنه الغالب
في العادة، وقوله ظاهر، والفرق بين النفقة وسائر الديون أن
العادة الغالبة مثيرة للظن بصدق الزوج بخلاف الاستصحاب في
الديون فإنه لا معارض له، ولو حصل له معارض كالشاهد واليمين
لأسقطناه، مع أن الظن المستفاد من الشاهد واليمين أضعف من الظن
المستفاد من العادة المطردة في إنفاق الأزواج على نسائهم مع
المخالطة الدائمة، نعم لو اختلفنا في نفقة يوم أو يومين لم
يبعد ما قاله الشافعي رحمه الله.
المثال الخامس: ما إذا ادعى الجاني شلل عضو المجني عليه، وادعى
المجني عليه سلامته فقولان: أحدهما القول قول الجاني؛ لأن
الأصل براءة ذمته والثاني: القول قول المجني عليه؛ لأن الظاهر
الغالب من أعضاء الناس السلامة، وكذلك إذا اختلف الجاني
والمجني عليه في وجود عضو من أعضاء المجني عليه فإن الظاهر
وجوده للغلبة، والأصل براءة ذمة الجاني في ذمة ذلك العضو
المختلف فيه ومن قصاصه.
ج / 2 ص -47-
فصل: في بيان الأصلين
وقد يتعارض أصلان ويختلف العلماء فيهما ولذلك مثالان:
أحدهما: إذا قد ملفوفا نصفين فزعم الولي أنه حي وطلب القصاص
وزعم القاد أنه ميت، فعلى قول: القول قول القاد؛ لأن الأصل
براءة ذمته من الدية وبدنه من القصاص. وعلى قول، قول الولي؛
لأن الأصل بقاء حياة المقدود، وقيل إن كان ملفوفا في ثياب
الأحياء فالقول قول الأولياء، وإن كان ملفوفا في ثياب الأموات
فالقول قول الأجنياء.
المثال الثاني: إذا غاب العبد وانقطعت أخباره ففي وجوب فطرته
قولان: أحدهما: تجب؛ لأن الأصل بقاء حياته. والثاني: لا تجب؛
لأن الأصل براءة ذمة السيد عن فطرته.
فصل: في تعارض ظاهرين
قد يتعارض
ظاهران، ويختلف العلماء فيهما ولذلك مثالان:
أحدهما: إذا اختلف الزوجان في متاع البيت فادعاه كل واحد منهما
أو ادعى أحدهما الاشتراك في الجميع فإن الشافعي رحمه الله يسوي
بينهما نظرا إلى الظاهر المستفاد من اليد، وبعض العلماء يخص كل
واحد منهما بما يليق به نظرا إلى الظاهر المستفاد من العادة
الغالبة، وهذا مذهب ظاهر متجه، فإذا كان الزوج جنديا فادعى أنه
شريك المرأة في مغازلها وحقاقها ومقانعها، وادعت المرأة أنها
شريكته في خيله وسلاحه وأقبيته ومناطقه وجبته وخوذته وبرديته
فإنا نجد في أنفسنا ظنا لا يمكننا دفعه أن ما يختص بالأجناد
للزوج، وما يختص بالنساء للمرأة. وكذلك لو كان الزوج فقيها
فنازعته في كتب الفقه، أو مقرئا فنازعته في كتب القراءة، أو
طبيبا فنازعته في كتب الطب، أو محدثا فنازعته في كتب الحديث،
أو حجاما فنازعته في آلة الحجامة، أو نساجا فنازعته في آلة
النسج، أو بيطارا فنازعته في آلة البيطرة، ونازعها هؤلاء فيما
يختص بالنساء من
ج / 2 ص -48-
المكاحل والمغازل والحقاق، فإن كل واحد يجد في نفسه ظنا لا يمكنه
دفعه عن نفسه بأن ما يختص بالأزواج المذكورين لهم، وما يختص
بالنساء لهن، وما أبعد المشاركة بين الجندي وامرأته في حقيهما.
المثال الثاني: إذا تأمل الناس الهلال فشهد برؤيته عدلان منهم،
ولم يتفوه غيرهما برؤيته، فقد اختلف العلماء فيه، فسمع الشافعي
رحمه الله شهادتهما وظهور صدقهما بما ثبت من عدالتهما الوازعة
عن الكذب، ورأى بعض العلماء رد شهادتهما؛ لأن العادة تكذبهما،
فإن العادة أن الجمع الكثير إذا رأوا الهلال شهروه وتفوهوا
برؤيته، فإذا لم يتفوه برؤيته إلا الشاهدان دل الظاهر المستفاد
من العادة على كذبهما أو على ضعف الظن المستفاد من قولهما،
فهذه كلها من الدلائل على ثبوت الأحكام ولا يكذب شيء من هذه
الدلائل إلا نادرا، فلذلك اعتمد الشرع عليها كي لا تفوت مصالح
كثيرة غالبة خوفا من وقوع مفاسد قليلة نادرة.
[فائدة] قد ذكرنا أنه يحكم بمجرد الظهور أو
بمجرد الاستصحاب، ولا نجتزي في بعض الصور بمجرد الظهور ولا
بمجرد الاستصحاب حتى نضم إليهما ظنا مستفادا من سبب آخر. ولذلك
أمثلة:
أحدها لن نجمع بين ظنين مستفادين ظاهرين كتحليف المدعى عليه
فيما هو في يده، فإن يده دالة على صدقه، وكذلك يمينه ظاهرة في
الدلالة على صدقه، إذ الغالب ممن يعرف الرب - سبحانه وتعالى -
أنه لا يتجرأ على الحلف به كاذبا.
المثال الثاني: تحليف المدعي بعد نكول خصمه حتى نضم إليه الظن
المستفاد من يمينه.
المثال الثالث: لا نجتزي بالظن المستفاد من استصحاب الأصل حتى
ينضم إليه ظن مستفاد من ظاهر كتحليف المدعى عليه بحق يتعلق
بذمته أو ببدنه؛ فإن الأصل براءته منهما، ولا نكتفي بالظن
المستفاد منه حتى نضم إليه المستفاد من يمينه.
ج / 2 ص -49-
المثال الرابع: من اشتبه عليه إناء طاهر بإناء نجس، أو ثوب طاهر
بثوب نجس فأراد استعمال أحدهما بناء على الاستصحاب لم يجز،
فإنا لا نحكم بالظن المستفاد من الاستصحاب حتى نضم إليه الظن
المستفاد من الاجتهاد، ونكتفي في القبلة بالظن المستفاد من
الاجتهاد؛ لتعذر ضم الاستصحاب إليه، إذ ليس في الجهات جهة
يقال: الأصل وجوب القبلة فيها. وكذلك الاجتهاد في أحكام الشرع
نكتفي فيه بمجرد الظن المستفاد من الاجتهاد؛ لتعذر الاستصحاب.
ولو أثبته ماء وبول فلا اجتهاد إذ لا نقنع في هذا الباب بمجرد
الظن المستفاد من الاجتهاد وفيه وجه، والفارق تعذر ذلك في
القبلة والأحكام، وتيسره في الاجتهاد بين الماء الطاهر والنجس.
وأما الاجتهاد في دخول رمضان ودخول أوقات الصلاة فإنه مستفاد
من مجرد الظاهر دون أصل يستصحب.
فإن قيل: هل يبنى إنكار المنكر على الظنون كما ذكرتموه؟ قلنا:
نعم الإنكار مبني على الظنون كغيره، فإنا لو رأينا إنسانا يسلب
ثياب إنسان لوجب علينا الإنكار عليه بناء على الظن المستفاد من
ظاهر يد المسلوب. وكذلك لو رأيناه يجر امرأة إلى منزله يزعم
أنها زوجته أو أمته وهي تنكر ذلك لوجب علينا الإنكار عليه؛ لأن
الأصل عدم ما ادعاه. وكذلك لو رأيناه يقتل إنسانا يزعم أنه
كافر حربي دخل إلى دار الإسلام بغير أمان وهو يكذبه في ذلك
لوجب علينا الإنكار؛ لأن الله خلق عباده حنفاء، والدار دالة
على إسلام أهلها لغلبة المسلمين عليها، فإذا أصابت ظنوننا في
ذلك فقد قمنا بالمصالح التي أوجب الله علينا القيام بها وأجرنا
عليها إذا قصدنا بذلك وجه الله - تعالى -. وإن اختلفت ظنوننا
أثبنا على قصودنا وكنا معذورين في ذلك كما عذر موسى عليه
السلام في إنكاره على الخضر خرق السفينة وقتل الغلام وبالغ في
إنكاره بقسمه بالله في قوليه: {قَدْ جِئْتَ
شَيْئاً إِمْراً}، {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}. ولو اطلع موسى على ما في خرق السفينة من المصلحة، وعلى ما في قتل
الغلام من المصلحة، وعلى ما في ترك السفينة من
ج / 2 ص -50-
مفسدة غصبها، وعلى ما في إبقاء الغلام من كفر أبويه وطغيانهما لما
أنكر عليه ولساعده في ذلك وصوب رأيه، لما في ذلك من القربة إلى
الله - عز وجل -، ولو وقع مثل ذلك في زماننا هذا لكان حكمه
كذلك. وله أمثلة كثيرة:
منها: أن تكون السفينة ليتيم يخاف عليها الوصي أن تغصب وعلم
الوصي أنه لو خرقها لزهد الغاصب عن غصبها، فإنه يلزمه خرقها
حفظا للأكثر بتفويت الأقل، فإن حفظ الكثير الخطير بتفويت
القليل الحقير من أحسن التصرفات وقد قال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
ومنها: لو هرب من الإمام من تحتم قتله فأمر الإمام من يلحقه
ليقتله فاستغاث بنا لنمنعه من قتله فإغاثته واجبة علينا إذا لم
نعلم بالواقعة، بل لو لم يندفع الهام بقتله إلا بالقتل
لقتلناه. ولو اطلعنا على الباطن لساعدنا على ذلك، وكان الأجر
في مساعدته؛ لأن ذلك هو الواجب عند الله - عز وجل –
فإن قيل: كيف جوز الشرع اللعان من الجانبين مع العلم بأن
أحدهما كاذب في أيمانه ولعانه؟ قلنا: إنما جوز ذلك؛ لأن مع كل
واحد منهما ظاهرا يقتضي تصديقه، فإن الظاهر من حال الزوج الصدق
في قذفها إذ الغالب أن الأزواج لا يقذفون أزواجهم، والظاهر من
حال المرأة الصدق؛ لأن الأصل عدم زناها.
ومثل ذلك: ما لو قال رجل إن كان هذا الطائر غرابا فزوجتي طالق
أو عبدي حر أو أمتي حرة؛ وقال آخر إن لم يكن غرابا فزوجتي طالق
أو عبدي حر أو أمتي حرة، ولم نعلم حال الطائر فإنا نقر كل واحد
منهما على ما كان عليه قبل التعليق؛ لأن الأصل في حق كل واحد
منهما ملكه البضع ورقبة الرقيق فأشبه اللعان، ولو انتقل رقيق
أحدهما إلى الآخر لقطعنا بالحجر عليه فيهما؛ لتحقق المفسدة في
حقه، وإنما عمل بالظنون في موارد الشرع ومصادره؛ لأن كذب
الظنون نادر وصدقها غالب؛ فلو ترك العمل بها خوفا من وقوع نادر
كذبها لتعطلت مصالح كثيرة غالبة خوفا من وقوع مفاسد قليلة
نادرة، وذلك على خلاف
ج / 2 ص -51-
حكمة الإله الذي شرع الشرائع لأجلها. ولقد هدى الله أولي الألباب
إلى مثل هذا قبل تنزيل الكتاب، فإن معظم تصرفهم في متاجرهم
وصنائعهم، وإقامتهم وأسفارهم وسائر تقلباتهم مبني على أغلب
المصالح مع تجويز أندر المفاسد، فإن المسافر مع تجويزه لتلفه
وتلف ماله في السفر يبتني سفره على السلامة الغالبة في ذلك،
وإن كان عطب نفسه وماله نادرا لغلبة السلامة عليه وندرة الهلاك
بالنسبة إليه، ولو قعد المرء في بيته مهملا لمصالح دينه وديناه
خوفا من أنه لو خرج لكدمه بعير أو رفسه بغل أو ندسه حمار أو
قتله جبار مع ندرة هذه الأسباب لألحقه العقلاء بالحمقى والنوكى
والمجانين، ولو كان له جبار يطلبه أو عدو يرهبه أو كلب عقور
يقصده ليعضه فخرج على هؤلاء مغررا بنفسه لعده العقلاء من
الحمقى والنوكى وللامته الشرائع. وكذلك لو قعد عن القتال عن
أهله وماله وحريمه وأطفاله، وإحراز دينه لعد جبنه على ذلك من
أقبح القبائح لما فوت به من عظيم المصالح، وإن كان التغرير
بالنفوس والأطراف قبيحا من غير مصالح يحوزها ومفاسد يجوزها،
لعد العقلاء ذلك قبيحا منه، وقد بينا أن الله قد فطر عباده على
معرفة معظم المصالح الدنيوية ليحصلوها، وعلى معرفة معظم
المفاسد الدنيوية ليتركوها، ولو استقرى ذلك لم يخرج عما ركزه
الله في الطباع من ذلك إلا اليسير القليل، فمعظم ما تحث عليه
الطبائع قد حثت عليه الشرائع وما اتفق على الصواب إلا أولو
الألباب.
فإن قيل: قد كثر في كلام العلماء أن يقولوا ما وجب بيقين فلا
يبرأ منه إلا بيقين، فالجواب عنه من وجهين أحدهما: أن اليقين
مستعار للظن المعتبر شرعا.
الوجه الثاني: نقول إن الله - تعالى - أوجب علينا في الأقوال
والأفعال ما نظن أنه الواجب فإذا كان المتيقن هو المظنون
فالمكلف يتيقن أن الذي يأتي به مظنون له وأن الله - تعالى - لم
يكلفه إلا ما يظنه، وإن قطعه بالحكم عند ظنه ليس قطعه بمتعلق
ظنه بل هو قطع بوجود ظنه، وفرق بين الظن وبين القطع بوجود
ج / 2 ص -52-
المظنون. فعلى هذا من ظن الكعبة في جهة فإنه يقطع بوجوب استقبال تلك
الجهة، ولا يقطع بكون الكعبة فيها، والورع ترك ما يريب المكلف
إلى ما لا يريبه وهو المعبر عنه بالاحتياط فإذا اشتبه عليه
إناء طاهر بإناء نجس فإن لم يكن معه سواهما وجب عليه الاجتهاد،
فإذا أداه الاجتهاد إلى طهارة أحدهما وجب عليه استعماله إن لم
يقدر على إناء طاهر بيقين، كمن تعذرت عليه معرفة القبلة فإنه
يلزمه الاجتهاد والبناء عليه. وإن كان معه إناء طاهر بيقين جاز
له أن يجتهد بين الإناءين، فإن أداه الاجتهاد إلى اليقين تخير
في التطهر بأي الماءين شاء، وإن أداه الاجتهاد إلى الظن فالأصح
أنه يجب له استعماله لما ذكرناه من أن الطاهر بالظن كالطاهر
باليقين. وكما لو لبس ثوبا طاهرا بالظن مع القدرة على ثوب طاهر
بيقين، وفيه وجه أنه لا يجوز الاعتماد على الاجتهاد مع وجود
ماء طاهر لظاهر قوله عليه السلام:
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وفي العمل بعموم هذا الحديث إشكال؛ لأنك إذا حملته على الواجبات
لصيغة الأمر فخرجت منه المندوبات. وإن حملته على المندوبات كان
تحكما، وإن حملته عليهما جمعت بين المجاز والحقيقة أو بين
المشتركات، والحمل على الواجبات أولى من جهة أن الغالب على
صيغة الأمر الإيجاب، والغالب على العموم التخصيص، وكان الحمل
على ما حمل عليه من صيغة الإيجاب أولى من الحمل على العموم مع
غلبة تخصيصه.
ومثله قوله:
{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}، وإنما ذم الله العمل بالظن في كل موضع يشترط فيه العلم أو الاعتقاد
الجازم كمعرفة الإله ومعرفة صفاته، والفرق بينهما ظاهر،
والحاصل أن معظم مصالح الذنوب والواجبات والمباح مبني على
الظنون المضبوطة بالضوابط الشرعية. ولو شك المصلي في فرائض
الصلاة أو في أعداد ركعاتها وجب البناء على اليقين ههنا، وليس
المعنى باليقين إلا الاعتقاد دون العلم، ويدل على ذلك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سلم من اثنتين معتقدا أنه كمل الصلاة،
ولو كان العلم شرطا لما سلم مع انتفاء العلم، ولو شك الإمام في
ج / 2 ص -53-
أعداد الركعات فسبح له الجماعة تنبيها على أنه أكمل الصلاة، فإن
كانوا عددا تحيل العادة وقوع النسيان من جميعهم بنى الإمام على
قولهم لعلمه.
فإن قيل: ماذا تقولون في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}
وفي قوله عليه السلام:
"إياكم
والظن فإن الظن أكذب الحديث". قلنا:
أما الآية فلم ينه فيها عن كل ظن، وإنما نهى عن بعضه وهو أن
نبني على الظن ما لا يجوز بناؤه عليه، مثل أن يظن بإنسان أنه
زنى أو سرق أو قطع الطريق أو قتل نفسا أو أخذ مالا أو ثلب عرضا
فأراد أن يؤاخذه بذلك من غير حجة شرعية يستند إليها ظنه. وأراد
أن يشهد عليه بذلك على ظنه المذكور فهذا هو الإثم، وتقدير
الآية اجتنبوا كثيرا من اتباع الظن إن بعض الظن إثم، ويجب
تقدير هذا؛ لأن النهي عن الظن مع قيام أسبابه المثيرة له لا
يصح؛ لأنه تكليف لاجتناب ما لا يطاق اجتنابه، إذ لا يمكن الظان
دفعه عن نفسه مع قيام أسبابه، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها.
وأما الحديث فإن التقدير فيه: إياكم واتباع بعض الظن، وإنما
قدر ذلك لإجماع المسلمين على وجوب اتباع الظن فيما ذكرناه.
وكذلك جواز اتباعه فيما أوردناه، واتباع هذه الظنون المذكورة
سبب لعلاج الدنيا والآخرة، وإن ظنا هذه عاقبته خير من علم لا
يجلب خيرا ولا يدفع ضيرا، فأكرم به من ظن موجب لرضا الرحمن
وسكنى الجنان، وربما كان كثيرا من العلوم مؤديا إلى سخط الديان
وخلود النيران، وقد شاهدنا كثيرا من أرباب هذه العلوم قد
فارقوا الإسلام ونبذوا الإيمان وذموا علم الشرائع ومدحوا علم
الطبائع
{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ
يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}. فالسعادة كل السعادة اتباع القرآن، والتمسك بشريعة الإسلام وسنة
النبي عليه السلام، ومن خالف ذلك فقد بعد من الله بقدر ما خالف
منه فمن شاء فليقل، ومن شاء فليستكثر، وسيعلم المغرور إذا
انقشع الغبار أفرس تحته أم حمار؟ وما مثل هؤلاء في هذا الزمان
إلا كمثل المنافقين في ابتداء الإسلام.
ج / 2 ص -54-
فصل: في حكم كذب الظنون
وله أمثلة:
منها إذا صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم ظهر له كذب ظنه ففي الإعادة
قولان.
ومنها: أنه إذا شك في طهارة الحدث فصلى بالاستصحاب ثم ظهر كذب
ظنه لزمته الإعادة لاهتمام الشرع بطهارة الحدث.
ومنها: أنه إذا رأى المتيمم المسافر ركبا فظن أن معهم ماء
فأخلف ظنه بطل تيممه.
ومنها: أنه إذا ظن المتيمم فقد الماء فصلى بالتيمم ثم ظهر أن
في بعض قماشه ماء أو وجد بئرا حيث يلزمه الطلب لزمته الإعادة
للصلاة.
ومنها: أنه إذا صلى بالنجاسة ناسيا على استصحاب الطهارة ثم
أخلف ظنه وجبت الإعادة على الجديد.
ومنها: أنه إذا صلى بما يظن طهارته ثم بان أنه نجس لزمته
الإعادة ولا وجه للخلاف في ذلك.
ومنها: أنه إذا صلى فريضة على ظن دخول وقتها بأن أخبره بدخول
الوقت مخبر ثم أخلف ظنه وجبت الإعادة.
ومنها: أنه إذا رأى المسلمون أشباحا في الليل فخافوهم فصلوا
صلاة شدة الخوف ثم بان أنها أنعام فقولان:
أحدهما: لا تجب الإعادة؛ لأن الله علق الصلاة بمجرد الخوف وقد
تحقق. والثاني: تجب الإعادة لكذب الظن وانتفاء الضرر.
ومنها: أنه إذا صلى خلف من يظنه مسلما أو ذكرا فأخلف ظنه لزمته
الإعادة لندرة ذلك، وكذلك الخنثى المشكل على الأظهر؛ لأن الكفر
والأنوثة لا يخفيان غالبا، وكذلك الخنوثة من جهة أن الخنوثة
خلقة للعادة والدواعي متوفرة على إشاعة مثلها وكذلك لا يوجد
خنثى مشكل في بلد من البلدان إلا كان مشهورا عند الناس.
ج / 2 ص -55-
ومنها: أنه إذا شرع في صلاة الكسوف معتقدا بقاءه فأخلف ظنه بطلت
صلاته، ولا يخرج على الخلاف في بقائها نفلا، إذ ليس لنا نفل
على صورة الكسوف فيندرج في نيته.
ومنها: أنه إذا أدى الزكاة من مال يظن حله فأخلف ظنه، لم تسقط
الزكاة بذلك. وكذلك لو أدى دينا أو عينا ظانا وجوب أدائها عليه
فأخلف ظنه فإنه يرجع بذلك.
ومنها: أنه إذا عجل الزكاة على ظن بقاء الفقر إلى الحول فأخلف
ظنه باستغناء الفقير لم تسقط الزكاة بذلك، وله الرجوع باطنا
لخروج المقبوض عن كونه زكاة.
ومنهما أنه إذا دفع الزكاة إلى من يظن سبب استحقاقه كالفقر
والغرم والكتابة فأخلف ظنه لم تسقط الزكاة عنه، وله استرجاع ما
دفعه.
ومنها أنه إذا أكمل الصائمون عدة شعبان على ظن بقائه ثم كذب
ظنهم في النهار، وجب القضاء، وفي إمساك ما بقي من النهار
قولان.
ومنها: أنه إذا تسحر الصائم ظانا بقاء الليل فأخلف ظنه لزمه
القضاء، وإن صدق ظنه أو لم يتحقق صدقه فلا قضاء عليه؛ لأن
الأصل بقاء الليل، وإن أكل ظانا دخول الليل فأخلف ظنه لزمه
القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، وإن أكل في النهار أو جامع لظن
أنه مفطر فكذب ظنه لم يبطل صومه.
ومنها: إذا اجتهد الأسير في الصوم فصام بناء على ظنه المستفاد
من اجتهاده فأخلف ظنه، فإن وقع صومه بعد الشهر أجزأه، وإن وقع
قبل الشهر فقولان، وإن قلنا لا يجزئه ففي انعقاده وجهان.
ومنها: أنه إذا اعتكف في مسجد ثم بان أنه مغصوب أو مملوك بطل
اعتكافه.
ومنها: أنه إذا أكمل الحجاج ذا القعدة ووقفوا في التاسع بناء
على ظنهم بالعاشر فإن كانوا شرذمة قليلة وجب القضاء، وإن كانوا
جميع الحاج لم يجب القضاء لما فيه من المشقة العامة، وإذا تبين
أنهم وقفوا في الثامن فوجهان لندرة ذلك.
ج / 2 ص -56-
ومنها: أنه من نذر هديا معينا أو صدقة معينة ظنا أنه يملك ذلك ثم
كذب ظنه في ذلك كله فإنه يبطل نذره، ولو أعتق عبده ظنا أنه حي
أو جعل بعيره هدية أو أضحية ظنا أنه حي فكذب ظنه بطل ذلك، ولو
نذر صوم يوم معين ظانا أنه يقبل الصوم فكذب ظنه بطل نذره.
ومنها: أنه إذا أوقع شيئا من المعاوضات أو التبرعات أو الأوقاف
أو الهبات أو الوصايا أو الهدايا ظنا أنه يملكه فكذب ظنه بطل
تصرفه، ولو شرط عقدا في عقد فأتى بالعقد المشروط ظانا وجوبه
عليه ثم أخلف ظنه في وجوبه صح تصرفه على الأصح لوجوب أركانه
وشرائطه، بخلاف ما لو قضى دينا يظن وجوبه فأخلف ظنه، فإن قضاء
الدين إسقاط يستدعي ثبوتا، فلم يجد حقيقته، بخلاف العقد الذي
ظن وجوبه، فإن حقيقته قد وجدت بأركانها وشرائطها، وغلط القاضي
في ذلك فألحق العقد بالدين.
ومنها: أنه إذا باع مال أبيه على ظن أنه حي فظهر أنه ميت وأنه
قد ورثه ففي صحة بيعه قولان، ولو باع مال أبيه ظانا أنه له،
فظهر أنه باعه بعد أن ورثه من أبيه صح بيعه لجزمه بالرضا.
ومنها: أنه إذا توكل في تصرف ظانا بقاء وكالته ثم كذب ظنه بأن
مات الموكل أو أزال الملك عما وكله فيه بطل، وإن عزله فقولان،
ولو مات الإمام فتصرف الحكام بعده على ظن أنه حي؛ نفذ تصرفهم؛
لأن الإمام استنابهم عن المسلمين دون نفسه، ولو مات الحاكم،
ففي انعزال نوابه لموته خلاف مأخذه أنهم نوابه أو نواب
المسلمين.
ومنها أنه إذا وكل في إعتاق عبد فأعتقه ظانا أنه عبد الموكل،
فإذا هو عبده نفذ عتقه.
ومنها: ما لو ضيف بطعام يظنه للمضيف فكذب ظنه لزمه العزم، ولا
يرجع به على الأصح.
ج / 2 ص -57-
ومنها: أنه إذا أعتق أو كاتب أو دبر ثم اختلف ظنه في الملك بطل
تصرفه.
ومنها: أنه إذا تزوج امرأة يظنها خلية من الموانع وكذب ظنه، أو
ظن أن الذي زوجها وليها فكذب ظنه بطل نكاحه، ولو أنفق عليها
ظانا بقاء زوجيتهما فكذب ظنه بأن طلقها وكيله فعلمت بذلك أو
فسخت النكاح في غيبته أو ارتدت فانفسخ النكاح، أو انفسخ
بمصاهرة أو برضاع أو بغير ذلك من الأسباب رجع بما أنفقه. وكذلك
لو طلقها أو آلى منها أو ظاهر ظانا بقاء نكاحها فكذب ظنه بطل
الطلاق والإيلاء والظهار. وكذلك لو ارتجعها ظانا بقاء عدتها
فكذب ظنه بطلت رجعته، ولو طلق امرأة يظنها أجنبية فإذا هي
زوجته أو أعتق عبدا يظنه لغيره فإذا هو عبده، نفذ طلاقه وعتقه،
ولو وطئ أمة يظنها مملوكته أو حرة يظنها زوجته فأخلف ظنه وجبت
العدة ومهر المثل.
ومنها أنه إذا قتل الحاكم أو الإمام رجلا قصاصا أو حدا أو رجما
في زنا أو جلدا في حد فمات المحدود من الجلد فأخلف الظن، وجب
الضمان ولا يطالب به الجلاد. وهل يتعلق بعاقلة الإمام والحاكم
أو ببيت المال؟ فيه خلاف ولو حكم الحاكم بالشهادة من ظن أنه
أهل للشهادة أو بإقرار من ظن أنه أهل للإقرار أو ولى على
الأيتام من ظن أهليته لذلك ثم أخلف ظنه بطل حكمه بذلك كله.
وكذلك لو حكم بعلمه ثم تبين أن الجلد قد أسقط قبل حكمه بطل
حكمه، ولو اجتهد المجتهد في حكم شرعي ثم بان كذب ظنه، فإن تبين
ذلك بظن يساويه أو ترجح عليه أدنى رجحان، فإن تعلق به حكم ينقض
حكمه وبنى على اجتهاده الثاني فيما عدا الأحكام المبنية على
الاجتهاد الأول، وإن تباعد المأخذان بحيث تبعد إصابته في الظن
الأول نقض حكمه، مثل أن يكون اجتهاده الأول مخالفا لنص أو
إجماع أو قياس جلي، أو للقواعد الكلية فإنه ينقض حكمه، وإن لم
يتعلق به حكم بنى على ما أدى إليه اجتهاده ثانيا، إلا أن يستوي
الظنان فيجب التوقف على الأصح.
ج / 2 ص -58-
فصل: في بيان مصالح المعاملات والتصرفات
اعلم أن
الله - تعالى - خلق الخلق وأحوج بعضهم إلى بعض لتقوم كل طائفة
بمصالح غيرها، فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر، والأصاغر بمصالح
الأكابر، والأغنياء بمصالح الفقراء، والفقراء بمصالح الأغنياء،
والنظراء بمصالح النظراء، والنساء بمصالح الرجال، والرجال
بمصالح النساء، والرقيق بمصالح السادات، والسادات بمصالح
الأرقاء، وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين أو أحدهما
أو إلى دفع مفاسدهما أو أحدهما. أما احتياج الأصاغر إلى
الأكابر فهو أنواع:
أحدها: الاحتياج إلى الإمام الأعظم ثم إلى الولاة القائمين
بمصالح المسلمين، ثم إلى القضاة القائمين بإنصاف المظلومين من
الظالمين وحفظ الحقوق على الغائبين، وعلى الأطفال والمجانين،
ثم إلى الآباء والأمهات القائمين بمصالح البنين والبنات، ثم
بأولياء النكاح، ثم بالأمانات الشرعية، ولولا نصب الإمام
الأعظم لفاتت المصالح الشاملة، وتحققت المفاسد العامة ولاستولى
القوي على الضعيف، والدنيء على الشريف، وكذلك ولاة الإمام فإنه
لا يتم إلا بالاستعانة بهم للقيام بمصالح المسلمين، وكذلك
الحكام لو لم ينصبوا لفاتت حقوق المسلمين ولضاعت أموال الغيب
والصبيان والمجانين، وكذلك لو لم تفوض التربية إلى الآباء
والأمهات لضاع البنون والبنات. وكذلك لو لم يفوض الإنكاح إلى
الرجال لاستحيا معظم النساء من مباشرة العقد، ولتضررن بالخجل
والاستحياء، ولا سيما المستحسنات الخفرات، وكذلك الأمانات
الشرعية لو لم تشرع لضاعت الأموال التي استأمنهم الشرع عليها
ولتضرر مالكوها، وكذلك اللقطاء لو لم يشرع التقاطهم لفاتت على
أربابها وسنذكر إن شاء الله فوائد كل ولاية.
ج / 2 ص -59-
وأما احتياج الأكابر إلى الأصاغر فنوعان: أحدهما: الاحتياج إلى
المعاونة والمساعدة على القيام بمصالح الولايات. ولو تجويزها
لقاتت مقاصد الولايات من جلب المصالح ودرء المفاسد.
النوع الثاني: القيام الأجسام الخاصة بهم وكذلك بالمنافع
كالاستيداع والخياطة والكتابة والحراثة والنساجة والنجارة
والتجارة والبناء والطب والمساحة والقسمة، وغير ذلك من أنواع
ما يحتاج العباد إليه من المنافع، كالوكالة والإعارة والجعالة
والسفادة والحلب وكراء الجمال والخيل والبغال والحمير
والأنعام، وغير ذلك مما تمس الحاجة إليه أو تدعو إليه الضرورات
لو لم يأذن الشرع في هذا بعوض أو بغير عوض، لأدى إلى هلاك
العالم، إذ لا يتم نظامه إلا بما ذكرته، ولذلك قال - سبحانه
وتعالى:
{وَرَفَعْنَا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ
بَعْضاً سُخْرِيّاً}، أي لتسخر الأغنياء الفقراء فيما يحتاجون إليه من المنافع المذكورة
وغيرها، فإنه لو لم يبح ذلك لاحتاج كل واحد أن يكون حراثا
زراعا ساقيا باذرا حاصدا دائسا منقيا طحانا عجانا خبازا طباخا،
ولاحتاج في آلات ذلك إلى أن يكون حدادا لآلاته نجارا لها،
وكذلك كل ما يتوقف عليه من جلب الحديد والأخشاب واستصناعها،
وكذلك اللباس يفتقر قطنه وكتانه إلى ما يفتقر إليه الزرع ثم
إلى غزله ونسجه أو جزه إن كان من الأصواف والأوبار والأشعار،
ثم إلى غزله ونسجه. وكذلك المساكن لو لم تجز إجارتها لكان أكثر
الناس مطروحين على الطرقات متعرضين للآفات وظهور العورات،
ولانكشاف أزواجهم وبناتهم وأمهاتهم وأخواتهم، وكذلك كل حرفة من
الحرف وصنعة من الصنائع لو لم تجز الإجارة فيها لتعطلت جميع
مصالحها المبنية عليها لندرة التبرع بها، ولا سيما الدلاك
والحلاق والحشاش والقمام لولا اضطرار الفقر إليه لما باشروه
ولا أكبوا عليه، ولكن الله أحوجهم إلى ذلك فلا مسوءة لاضطرارهم
إليه. ومن حكمته - سبحانه وتعالى - أن وفر دواعي
ج / 2 ص -60-
كل قوم على القيام بنوع من المصالح فزين لكل أمة عملهم وحببه إليهم
ليصيروا بذلك إلى ما قضى لهم وعليهم. ولو نظر الناظرون في جل
هذه المصالح ودقها، لعجزوا عن شكرها، بل لو عدوها لما أحصوا
عدها، ولا قدر شيء منها إلا عند فقده وعدمه، فنسأل الله ألا
يخلينا من فضله وكرمه، فلو فقد أحدنا بيتا يأويه، أو ثوبا
يواريه أو مدفئا يدفئه، لما أطاق الصبر عليه، ولكننا لما
غمرتنا النعم نسيناها. وكذلك احتاج النظراء إلى النظراء في
المعاملات على المنافع والأعيان، وإباحتهما بالمعاوضات،
والعواري والإباحات كالمآكل والمشارب والملابس والمراكب
والأدوية وغير ذلك لو لم يبح الشرع فيه التمليك بالبيع وغيره
لهلك العالم؛ لأن التبرع به نادر.
ومن هذه المعاملات: ما أجمع المسلمون على أنه فرض كفاية، ومنها
ما أجمعوا على أنه ندب، ومنها ما أجمعوا على إباحته كالتتمات
والتكملات من لبس الناعمات، وأكل الطيبات، وشرب اللذيذات،
وسكنى القصور العاليات، والغرف المرتفعات. وعلى الجملة فمصالح
الدنيا والآخرة ثلاثة أقسام كل قسم منها في منازل متفاوتات.
فأما مصالح الدنيا فتنقسم إلى الضرورات والحاجات والتتمات
والتكملات. فالضرورات: كالمآكل والمشارب والملابس والمساكن
والمناكح والمراكب الجوالب للأقوات وغيرها مما تمس إليه
الضرورات، وأقل المجزئ من ذلك ضروري، وما كان في ذلك في أعلا
المراتب كالمآكل الطيبات والملابس الناعمات، والغرف العاليات،
والقصور الواسعات، والمراكب النفيسات ونكاح الحسناوات،
والسراري الفائقات، فهو من التتمات والتكملات، وما توسط بينهما
فهو من الحاجات.
وأما مصالح الآخرة ففعل الواجبات واجتناب المحرمات من
الضروريات وفعل السنن المؤكدات الفاضلات من الحاجات، وما عدا
ذلك من المندوبات التابعة للفرائض والمستقلات فهي من التتمات
والتكملات. وفاضل كل قسم
ج / 2 ص -61-
من الأقسام الثلاثة مقدم على مفضوله، فيقدم ما اشتدت الضرورة إليه
على ما مست الحاجة إليه.
فإن قيل: قد ساوى الشرع في القسمة العامة على تفاوت الحاجات
دون الفضائل والمناقب فهلا كانت قسمة القضاء والقدر كذلك؟
فالجواب من وجهين: أحدهما أن قسمة القدر لو كانت كقسمة الشرع
لأدى إلى أن يعجز الناس عن قيام كل واحد منهم بما ذكرناه من
المصالح المذكورة، وأدى ذلك إلى هلاك العالم وتعطيل مصالح
الدنيا والآخرة.
الوجه الثاني: أن الغرض بقسمة القدر أن ينظر الغني إلى من دونه
امتحانا لشكره، وينظر الفقير إلى الغني اختبارا لصبره، وقد نص
القرآن على هذا بقوله:
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} والغرض بالقسمة الشرعية إنما هي دفع الحاجات والضرورات فسوى بينهم
في ذلك.
وأما قيام الرجال والنساء بالمصالح بالإعفاف من الطرفين من
الوقوع في الحرام وبقضاء الأوطار وبسكون بعضهم إلى بعض، وعودة
بعضهم بعضا، وبرحمة بعضهم بعضا حتى يصير أحدهما للآخر كالحميم
الشفيق، أو الأخ الشقيق، يفضي كل واحد منهما إلى الآخر بما لا
يقضى به إلى ولد ولا والد ولا صديق، وكذلك بما يجب للنساء على
الرجال من المآكل والملابس والمساكن، وما يجب للرجال على
النساء من لزوم البيوت والطواعية إذا دعاها من غير عذر شرعي،
ونقلها إلى أي البلاد شاء، وإلى أي الأوطان أراد، وتوريث كل
واحد منهما من صاحبه، وبما يندب إلى واحد منهما زائد عما يجب
عليه.
وأما انتفاع الرقيق بالسادات فبما أوجبه الله عليهم من المآكل
والمشارب والمساكن.
وأما انتفاع السادات بالرقيق فبخدمتهم في كل ما أوجب الشرع
خدمتهم فيه، ويزيد الإناث على ذلك بالاستمتاع والانتفاع.
|