قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في بيان جلب المصالح ودرء المفاسد على
الظنون
لما كان الغالب صدق الظنون بنيت عليها مصالح الدنيا والآخرة؛
لأن كذبها
ج / 2 ص -22-
نادر ولا يجوز تعطيل مصالح صدقها الغالب خوفا من وقوع مفاسد كذبها
النادر، ولا شك أن مصالح الدنيا والآخرة مبنية على الظنون كما
ذكرناه، ولا يجوز العمل بكل ظن، والظنون المعتبرة أقسام:
أحدها: ظن في أدنى الرتب. والثاني: ظن في أعلاها، والثالث ظنون
متوسطات. فإن قيل: لم ثبتت أحكام الشرع بالظنون المستفادة من
أخبار الآحاد ولم ثبتت الحقوق عند الحكام بمثل ذلك؟ بل شرط في
أكثرها العدد والذكورة وجعلت في رتب متفاوتة فأعلاها ما شرط
فيه أربع شهادات وأدناها ما شرط فيه شاهد واحد كالشهادة على
هلال رمضان وفوقه؟
المثال الرابع: أن يدعي بحد القذف فلا يحل له النكول كي لا
يكون عونا على جلده، وإسقاط عدالته، والعزل عن ولايته التي يجب
عليه المضي فيها.
المثال الخامس: أن يدعي على الولي المجبر أنه زوج ابنته فلا
يحل له النكول كي لا يكون عونا على تسليم ابنته إلى من يزني
بها، وكذلك ولي اليتيم حيث تشرع اليمين في حقه في التصرفات
المالية لا يجوز له النكول كي لا يكون ذلك عونا على أخذ أموال
اليتامى ظلما، ويلحق بذلك إذا لاعن الرجل امرأته كاذبا ولا يحل
لها النكول عن اللعان، كي لا يكون عونا على جلدها أو رجمها
وفضيحة أهلها، وأما يمين المدعي فإن كانت كاذبة لم تحل فضلا عن
أن تجب، وإن كانت صادقة فللحق المدعي حالان. أحدهما: أن يكون
مما يباح بالإباحة، فالأولى بالمدعي إذا نكل أن يبيح الحق أو
يبرأ منه دفعا لمفسدة إضرار خصمه على الباطل.
الحال الثانية: أن يكون الحق مما لا يباح بالإباحة، ويعلم
المدعي أن الحق يؤخذ منه إذا نكل عن اليمين، فيلزمه أن يحلف
حفظا لما يحرم بذله وله أمثلة.
أحدها: أن تدعي الزوجة البينونة فتعرض اليمين على الزوج فينكر
وينكل، فيلزمها الحلف حفظا لبضعها من الزنا وتوابعه من الخلوة
وغيرها، فإن نكلت
ج / 2 ص -23-
عن اليمين فسلمت إليه فراودها عن نفسها لزمها منعه بالتدرج إن قدرت،
فإن لم تقدر عليه وقدرت على قتله في أول الأمر لزمها ذلك.
المثال الثاني: أن تدعي الأمة أن سيدها أعتقها فينكر وينكل
فيلزمها الحلف حفظا لبضعها، ولما يتعلق بحريتها من حقوق الله
وحقوق عباده.
المثال الثالث: أن يدعي العبد أن سيده أعتقه فينكر وينكل فيلزم
العبد الحلف حفظا لحريته؛ ولما يتعلق بها من حقوق الله، وحقوق
عباده كالجمعة والجهاد وغير ذلك.
المثال الرابع: أن يدعي الجاني عفو الولي فينكر وينكل فيلزم
الجاني الحلف حفظا لنفسه أو لأطرافه.
المثال الخامس: أن يدعي القاذف عفو المقذوف فينكر وينكل فيلزم
المقذوف الحلف حفظا لجسده من ثمانين جلدة، ولو نكل الولي عن
أيمان القسامة فإن أوجبنا بها القصاص وجب اليمين بها وإلا فلا.
فإن قيل: هل يأمر الحاكم من عليه اليمين بالحلف، أم يعرضه عليه
من غير طلب؟ قلنا: بل يعرضه عليه من غير طلب؛ لأنه لا يدري
أصادق هو أم كاذب، ولو أمره وقال له احلف فلا بأس بذلك عندي
بناء على الظاهر، فإن الشرع لا يعرض اليمين إلا على من ظهر
صدقه وترجح جانبه. وقد جوز الشافعي رحمه الله لمن باع عبدا كان
ملكه إذا خاصمه المشتري في قدم عيب يمكن حدوثه، أن يحلف أنه
باعه وما به عيب بناء على أن الأصل عدم حدوث العيب في الزمن
الماضي.
فإن قيل هل يجوز للمدعي مطالبة المدعى عليه باليمين مع علمه
بكذبه فيها وفجوره؟ والقاعدة تحريم طلب ما لا يحل، ولا سيما
هذه اليمين الموجبة لغضب الله، إذ صح أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال:
"من حلف يمينا كاذبا يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو
عليه غضبان".
قلنا: يجوز ذلك استثناء
من قاعدة تحريم طلب ما لا يحل الإقدام عليه لوجهين:
ج / 2 ص -24-
أحدهما: أنا لو لم نجوز ذلك لبطلت فائدة الأيمان وضاعت بذلك حقوق
كثيرة.
الوجه الثاني: أن ذلك لو حرم لجاز للحاكم أن يأذن له في تحليف
خصمه؛ لأنه مصادق أن خصمه كاذب في إنكاره ويمينه جميعا، ولا
يجوز للحاكم أن يأذن؛ لأحد في طلب ما اعترف بأنه معصية فيكون
هذا مستثنى، كما جعلت اليمين على نية المستحلف من استثناء
قاعدة كون اليمين على نية الحالفين، وكون مقاصد الألفاظ على
نية اللافظين، والشرع يستثني من القواعد ما لا تداني مصلحته
هذه المصلحة العامة، فما الظن بهذه المصلحة ؟
فصل: فيما يجب على الغريم إذا ادعى إلى الحاكم
إذا دعا الحاكم أحدا من الخصوم لزمته الإجابة من مسافة العدو
فما دونها إذا لا تتم مصالح الأحكام وإنصاف المظلومين من
الظالمين إلا بذلك، وإن دعاه خصمه إلى الحاكم فإن لم يكن عليه
حق لم تلزمه الإجابة وإن كان عليه حق فللحق حالان:
أحدهما: أن يتوقف القيام به على حكم الحاكم، فإن كان قادرا
عليه لزمه أداؤه، ولا يحل المطال به إلا بعذر شرعي، ولا تلزمه
الإجابة إلى الحضور عند الحاكم، وإن كان معسرا به لم تلزمه
إجابته إلى الحضور عند الحاكم، فإن علم عسرته لم تحل له
مطالبته بالحق ولا بالحضور إلى الحاكم، وإن جهل عسرته فينبغي
أن يخرج جواز إحضاره إلى الحاكم على الخلاف في حبس المعسر
المجهول اليسار. وكذلك لو دعاه الحاكم مع علم المدعو بأنه يحكم
عليه بالباطل بناء على الحجة الظاهرة، فإنه يجوز بينه وبين
الله أن يمتنع من إتيان الحاكم، ولا سيما فيما يتعلق بالدماء
والفروج والحدود وسائر العقوبات الشرعية.
الحال الثانية: أن يتوقف القيام بالحق على حكم الحاكم كضرب أجل
للعنين فيتخير الزوج بين أن يطلق ولا تلزمه الإجابة إلى
الحاكم، وبين أن يجيب الحاكم، وليس له الامتناع منها، وكذلك
القسمة التي تتوقف على الحكم يتخير فيها المدعى
ج / 2 ص -25-
عليه بين أن يملك حصته لغيره وبين الحضور عند الحاكم، وليس له
الامتناع منهما. وكذلك الفسوخ الموقوفة على الحضور عند الحاكم
ولو دعا خصمه إلى التحاكم في مختلف في ثبوته فإن كان المدعى
عليه معتقدا ثبوته فهو على ما مضى، وإن اعتقد انتفاءه لم تلزمه
إجابة خصمه، وإن دعاه الحاكم لزمته الإجابة، وإن طولب بدين أو
حق واجب على الفور لزمه أداؤه، ولا يحل له أن يقول لخصمه لا
أدفعه إلا بالحاكم؛ لأنه مطل والمطل بالحقوق المقدور عليها
محظور؛ لقوله عليه السلام:
"مطل الغني ظلم"،
وكثيرا ما يصدر هذا من العامة مع الجهل بتحريمه، وإثمه أعظم من
إثم المطال المجرد؛ لما فيه من تعطيل المدعي بانطلاقه إلى
الحاكم ومثوله بين يديه، وبما يغرمه لأعوان الحاكم على
الإحضار.
وأما النفقات: فإن كانت للأقارب وجبت الإجابة إلى الحضور عند
الحاكم ليقدرها، وإن كانت للرقيق أو للزوجات يتخير بين تمليك
الرقيق وإبانة الزوجة، وبين الإجابة إلى الحضور عند الحاكم.
[فائدة]: إذا لزم المدعى عليه إحضار العين
لتقوم عليها البينة فأحضرت فإن ثبت الحق كانت مؤنة الإحضار على
المدعي، وإن لم يثبت كانت مؤنة الإحضار والرد على المدعى عليه؛
لأنه مبطل في ظاهر الشرع، ولا يجب أجرة تعطيل المدعى عليه في
مدة الإحضار؛ لأنه حق للحاكم لا تتم مصالح الأحكام إلا به.
[فائدة]: من ادعى عليه الحق مسندا إلى سبب
كالبيع والإجارة والنكاح والجناية الموجبة للقصاص والحد
والتعزير فنفاه أو نفى سببه قبل منه، وليس للحاكم إلزامه بنفي
سببه؛ لأن الأسباب قد تتحقق ويسقط حقوقها ومواجبها بعد ثبوتها،
فلا يلزمه أن يحلف ما باع لاحتمال أن يتحقق البيع ثم تقع
الإقالة بعده، أو الفسخ أو الإبراء من الثمن، فلو كلف أن يحلف
على نفي البيع لتضرر، فإنه إن صدق ألزم بموجب البيع، وإن كذب
فقد حلف بالله كاذبا كذبا لا تدعوا الحاجة إليه، إذ له عنه
مندوحة بنفي الاستحقاق الذي هو مقصود الخصم وكذلك
ج / 2 ص -26-
الإجارة قد يتعقبها من الفسخ، أو الإبراء، أو الإقالة ما يقطع
استحقاقها، وكذلك النكاح قد يرتفع بالإبانة والفسوخ، فلو اعترف
به لألزم بحكمه وموجبه، وفيه إضرار به، وكذلك الجناية الموجبة
للقصاص والحد والتعزير قد يقع بعدها عفو أو صلح يسقط موجبها،
فإذا حلف على نفي الاستحقاق فقد نفى المقصود بالدعوى وسلم من
هذه المؤاخذات، ولو ألزم الحلف على نفي السبب مع تحققه لحملناه
على الحلف كاذبا مع أن كذبه غير محتاج إليه، وإن أقر بالسبب
خوفا من الكذب تضرر بإلزامه حقا قد سقط، فكان الجمع بين حقه في
ذلك، وبين حق الخصم في الإجابة لنفي الحق دفعا بين حقيهما من
غير تعريض واحد منهما لضرر دينه أو حقه، ولا يخفى ما في هذا من
الإنصاف الذي يبنى القضاء على أمثاله.
[فائدة] إن قيل كيف جعلتم القول قول المدعى
عليه مع أن كذب كل واحد منهما ممكن؟ قلنا: جعلنا القول قوله
لظهور صدقه فإن الأصل براءة ذمته من الحقوق، وبراءة جسده من
القصاص والحدود والتعزيرات، وبراءته من الانتساب إلى شخص معين،
ومن الأقوال كلها والأفعال بأسرها، وكذلك الأصل عدم إسقاط ما
ثبت للمدعي من الحقوق وعدم نقلها. فيدخل في هذا جميع العقود
والتصرفات حتى الكفر والإيمان، وكذلك الظاهر أن ما في يده مختص
به فجعلنا عليه لرجحان جانبه بما ذكرناه فقوينا الظن المستند
إلى ما ذكرناه بالظن المستفاد من اليمين، فإن نكل زال الظن
المستفاد من براءة ذمته وجسده ويده؛ لأن الطبع وازع عن النكول
الموجب لحلف المدعي بما يضر الإنسان في ذمته وجسده ويده فرجح
بذلك جانب المدعي فعرضت اليمين عليه ليحصل لنا الظن المستفاد
من النكول، وقد جعل بعض العلماء الظن المستفاد من النكول موجب
للحكم لقوته وشدة ظهوره، فإذا قامت البينة العادلة قدمت على
ذلك؛ لأن الظن المستفاد منها أقوى
ج / 2 ص -27-
وأظهر من الظن المستفاد من تحليف أحد الخصمين. فإن قيل: قد أمر
الأئمة والحكام بالعدل، وهو التسوية بين المستحقين والمتخاصمين
وقد فاوتم بينهم فقدمتم قول المدعى عليه؟ قلنا: أما الحاكم
فيسوي بين الخصوم من وجهين. أحدهما التسوية بينهم في الإقبال
والإعراض والنظر والمجلس.
الوجه الثاني: التسوية بينهم في العمل بالظنون فيجعل القول قول
كل مدع مع يمينه إلا ما استثناه الشرع كالقسامة واللعان، فيسوي
فيه بين الأزواج، وكذلك يسوي بين النساء في درء الحدود
باللعان، وكذلك يسوي بين الخصوم في تحليف كل مدع بعد النكول،
وكذلك إذا تناكلا ولم يحلف واحد منهما فيسوي بينهما في صرفهما.
وأما الإمام فيلزمه مثل ما لزم الحاكم من ذلك، ويلزمه أن يقدم
الضرورات على الحاجات في حق جميع الناس. وأن يسوي بينهم في
تقديم أضرهم فأضرهم وأمسهم حاجة فأمسهم، والتسوية بينهم ليست
من مقادير ما يدفع إليهم الإمام، بل التسوية بينهم أن يدفع إلى
كل واحد منهم ما يدفع به حاجته من غير نظر إلى تفاوت مقاديره
فيتساووا في اندفاع الحاجات، وكذلك يسوي بين الناس في نصب
القضاة والولاة ودفع المضرات، ولا يخلي كل قطر من الولاة
والحكام، ولا يخلي الثغور من كفايتها من الكراع والسلاح
والأجناد الذين يرجى من مثلهم كف الفساد ودرء الكفار وعرامة
الفجار، إلى غير ذلك مما يتصرف به الأئمة. وإذا قسم الإمام
الأموال فليقدم الأفضل فالأفضل منهم في تسليم نصيبه إليه كي لا
تنكسر قلوب الفضلاء بتأخيرهم، إلا أن يكون المفضول أعظم ضرورة
وأمس حاجة فيبدأ به قبل الفاضل؛ لأن الفاضل إذا عرف ضرورة
المضطر رق له، وهان عليه تقديمه.
فإن قيل: لم جعلتم القول قول بعض المدعين مع يمينه ابتداء؟
قلنا: فعلنا ذلك
ج / 2 ص -28-
إما لترجح جانبه، أو لإقامة مصلحة عامة، أو لدفع ضرورة خاصة. فأما
ترجح جانبه فله مثالان:
أحدهما: دعوى القتل مع اللوث، فإن اللوث قد رجح جانبه بالظن
المستفاد من اللوث فانتقلت اليمين إلى جانبه، ثم أكدنا الظن
بتحليفه خمسين يمينا؛ لما في ذلك من بعد الجرأة على الله
بخمسين كاذبة، فأوجبنا الدية لما ظهر لنا من صدقه، وفي إيجاب
القول بمثل هذا الظن خلاف بين العلماء.
المثال الثاني: قذف الرجل زوجته، فإن صدقه فيه ظاهر؛ لأن
الغالب في الزوج نفي الفواحش عن امرأته، وأنه يتعير بظهور
زناها، ولولا صدقه في هذه الواقعة لما أقدم على ذلك، فلما ظهر
صدقه ضممنا إلى هذا الظهور الظهور المستفاد من أيمان اللعان،
وأكدنا ذلك بدعائه على نفسه باللعن الذي لا يقدم عليه غالبا
إلا صادق في قوله، فإذا تم لعانه فقد اختلف العلماء في حد
المرأة بهذه الحجة، فذهب إلى أنها لا تحد لضعف هذه الحجة ورأي
الشافعي رحمه الله أنها تحد بهذه الحجة عملا بقوله عز وجل:
{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ}
حملا
للعذاب على الجلد المذكور في قوله:
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، وفرق الشافعي رحمه الله بين هذا وبين القود بالقسامة؛ لأن المرأة
قادرة على درء الحد باللعان، بخلاف القصاص فإن المقتص منه لا
يقدر على درئه. وأما قبول قول المدعي لإقامة مصلحة عامة فله
أمثلة:
أحدها: قبول قول الأمناء في تلف الأمانة لو لم يشرع لزهد
الأمناء في قبول الأمانات ولفاتت المصالح المبنية على حفظ
الأمانات.
المثال الثاني: قبول قول الحكام فيما يدعونه من الجرح
والتعديل، وغيرها من الأحكام لو لم يقبل لفاتت مصالح تلك
الأحكام لرغبة الحكام عن ولاية الأحكام.
ج / 2 ص -29-
المثال الثالث: قبول قول المدعي رد الأمانة على مستحقها وللأمين في
ذلك حالان: أحدهما أن يكون أمينا من قبل الشرع كالوصي يدعي رد
المال على اليتيم، وكذلك من كانت عنده أمانة شرعية فادعى ردها
على مالكها الذي لم يأتمنه عليها فلا يقبل قوله في ذلك لتيسر
الإشهاد على الرد فإذا فرط في الإشهاد لم نخالف القواعد
والأصول؛ لأجل تفريطه. وأما ما يقبل في قول المدعي لرفع ضرورة
خاصة: فكالغاصب يدعي تلف المغصوب فالقول قوله مع يمينه؛ لأنا
لو رددنا قوله لأدى إلى أن نخلده في الحبس إلى موته، ويجب طرد
هذا في كل يد ضامنة كيد المستعير والمستام.
فصل: فيما يقدح في الظنون من التهم وما لا يقدح
فيها
التهم ثلاثة
أضرب. أحدها تهمة قوية كحكم الحاكم لنفسه، وشهادة الشاهد
لنفسه، فهذه تهمة موجبة لرد الحكم والشهادة؛ لأن قوة الداعي
الطبعي قادحة في الظن المستفاد من الوازع الشرعي قدحا ظاهرا لا
يبقى معه إلا ظن ضعيف لا يصلح للاعتماد عليه، ولا لاستناد
الحكم إليه.
الضرب الثاني: تهمة ضعيفة كشهادة الأخ لأخيه، والصديق لصديقه
والرفيق لرفيقه، والعتيق لمعتقه، فلا أثر لهذه التهمة، وقد
خالف مالك رحمه الله في الصديق الملاصق، ولا تصلح تهمة الصداقة
للقدح في الوازع الشرعي، وقد وقع الاتفاق على أن الشهادة لا
ترد بكل تهمة.
الضرب الثالث: تهمة مختلفة في رد الشهادة والحكم بها ولها رتب.
أحدها: تهمة قوية، وهي تهمة شهادة الوالد لأولاده وأحفاده، أو
لآبائه وأجداده فالأصح أنها موجبة للرد لقوة التهمة، وعن أحمد
- رحمه الله تعالى - روايات، ثالثها: رد شهادة الأب وقبول
شهادة الابن؛ لقوة تهمة الأب لفرط شفقته وحنوه على الولد.
ج / 2 ص -30-
الرتبة الثانية: تهمة شهادة العدو على عدوه، وهي موجبة للرد لقوة
التهمة، وخالف فيها بعض العلماء.
الرتبة الثالثة: تهمة أحد الزوجين إذا شهد للآخر وفيها أقوال،
ثالثها: رد شهادة الزوجة دون الزوج؛ لأن تهمتها أقوى من تهمة
الزوج؛ لأن ما ثبت له من الحق متعلق لكسوتها ونفقتها وسائر
حقوقها.
الرتبة الرابعة: تهمة القاضي إذا حكم بعلمه، والأصح أنها لا
توجب الرد إذ كان الحاكم ظاهر التقوى والورع.
الرتبة الخامسة: تهمة الحاكم في إقراره بالحكم، وهي موجبة للرد
عند مالك رحمه الله، غير موجبة له عند الشافعي رحمه الله؛ لأن
من ملك الإنشاء ملك الإقرار، والحاكم مالك لإنشاء الحكم، فملك
الإقرار به، وقول مالك رحمه الله متجه إذا منعنا الحكم بالعلم.
الرتبة السادسة: تهمة حكم الحاكم مانعة من نفوذ حكمه؛ لأولاده
وأحفاده وعلى أعدائه وأضداده، فإن سمع البينة وفوض الحكم إلى
غيره فوجهان. وقال الإمام رحمه الله الأصح أنه لا يحكم بعلمه
هاهنا، وإن جوزنا الحكم بالعلم. وإن حكم بالبينة فوجهان، وإنما
ردت الشهادة بالتهم من جهة أنها مضعفة للظن المستفاد من
الشهادة، موجبة لانحطاطه عن الظن الذي لا يعارضه تهمة، ولأن
داعي الطبع أقوى من داعي الشرع، ويدل على ذلك رد شهادة أعدل
الناس لنفسه ورد حكم أقسط الناس لنفسه.
فإن قيل: لم رجعتم في الجرح والتعديل إلى علم الحاكم؟ قلنا: لو
لم نرجع إليه في التفسيق لنفذنا حكمه بشهادة من أقر بأنه لا
يصلح للشهادة، وإقراره بفسق الشاهد يقتضي إبطال كل حكم ينبني
على شهادته. وأما التعديل فإنه مسند في أصله إلى علمه، فإنه لا
تقبل التزكية إلا ممن عرف بالعدالة، وكذلك تزكية المزكي ومزكي
المزكي إلى أن يستند ذلك إلى علمه.
ج / 2 ص -31-
فإن قيل: لم حرمتم على الحاكم ألا يحكم بخلاف علمه؟ قلنا: لأنه لو
حكم بخلاف علمه لكان قاطعا ببطلان حكمه، والحكم على الباطل
محرم في كل ملة، فإنه إذا رأى رجلا قتل رجلا فادعى الولي القتل
على غير القاتل فأقر المدعى عليه بالقتل، أو قامت به بينة
عادلة، فلا يجوز له قتل غير القاتل لعلمه بكذب المقر والبينة،
فلو حكم بذلك لكان حكما بغير حجة شرعية، بل هو أقبح من الحكم
بغير حجة شرعية؛ لأنه إذا حكم بغير حجة شرعية جاز أن يكون ما
حكم به حقا موافقا للباطل. وأما هاهنا فإنه ظالم باطنا وظاهرا
ويجب عليه القصاص.
[فائدة]: إذا زكيت البينة عند الحاكم ثم شهدت
بحق آخر فإنها تقبل إذا قرب الزمان استصحابا لعدالتهم، وإن بعد
الزمان فقد اختلف فيه، فمنهم من قبل الشهادة؛ لأن الأصل بقاء
العدالة، وكما يحكم ببقاء عدالة الوصي والحاكم والإمام عند طول
الزمان، ومنهم من لا يقبلها؛ لأن الغالب على الإنسان تغير
الأحوال، وهذا مطرد في العدول المرتبين عند الحكام، والفرق أنا
لو اعتبرنا ذلك في الأوصياء والأئمة والحكام لأدى ذلك إلى ضرر
عظيم من تعطيل المصالح العامة والخاصة، بخلاف ما ذكرناه من
إعادة تزكية الشهود، فإنه ليس من اعتباره ضرر عام، واختلف
القائلون بهذا في طول الزمان فقدره العراقيون من ثلاثة أيام،
وفيه بعد، وقدره آخرون بمدة تتغير فيها الأحوال في الغالب،
وهذا أقرب.
[فائدة] لا ترد شهادة أهل الأهواء؛ لأن الثقة
حاصلة بشهادتهم حصولها بشهادة أهل السنة، ومدار قبول الشهادة
والرواية على الثقة بالصدق وذلك متحقق في أهل الأهواء تحققه في
أهل السنة، والأصح أنهم لا يكفرون ببدعهم، وكذلك تقبل شهادة
الحنفي إذا حددناه في شرب النبيذ؛ لأن الثقة بقولهم لم تنخرم
بشربه لاعتقاده إباحته، وإنما ردت شهادة الخطابية؛ لأنهم
يشهدون بناء على إخبار بعضهم بعضا فلا تحصل الثقة بشهادتهم
لاحتمال بنائها على ما ذكرناه.
[فائدة]: إذا شهد على أبيه أنه طلق ضرة أمه
ثلاثا فهذه شهادة تنفع أمه
ج / 2 ص -32-
وتضر أباه وفي قبولها قولان، والمختار أنها تقبل لضعف التهمة، فإن
طبعه يزعه عن نفع أمه بما يضر أباه. وكذلك لو شهد لأحد ابنيه
على الآخر؛ لأن الوازع الطبعي قد تعارض وظهر الصدق لضعف التهمة
المتعارضة، ولو شهد؛ لأعدائه على آبائه وأبنائه فهذه شهادة
متأكدة؛ لأن الظاهر عليها الوازع الطبعي والشرعي؛ لأن طبعه
يحثه على نفع أبنائه وآبائه، وعلى ضر خصومه وأعدائه فمنعه وازع
الشرع من نفع آبائه وأبنائه وضر أضداده وأعدائه.
[فائدة]: إذا شهد الفاسق المستخفي بفسقه الذي يتعير بنسبته
إليه فردت شهادته فأعادها بعد العدالة لم تقبل؛ لأن له غرضا
طبعيا في نفي الكذب عن شهادته، وإن لم يكن الفاسق كذلك فأعاد
الشهادة فوجهان. فإن تهمته ضعيفة لضعف غرضه، ولو شهد لمكاتبه
أو على عدوه فردت شهادته فأعادها بعد العتق والصداقة فوجهان
لضعف التهمة.
فإن قيل: متى يحكم بشهادة الفاسق إذا تاب مع كونه مدعيا
للتوبة، فإن ركنيها، وهما الندم والعزم من أعمال القلوب؟ قلنا:
القاعدة أن ما لا يعلم إلا من جهة الإنسان، فإنا نقبل قوله
فيه، فإذا أخبر المكلف عن نيته فيما تعتبر فيه النية، أو أخبر
الكافر عن إسلامه، أو المؤمن عن ردته، أو أخبرت المرأة عن
حيضها أو أخبر الكتابي عن نيته أو المدين عن دفع دينه، فإنا
نقبل ذلك كله وتجري عليه أحكامه؛ لأنا لو لم نقبله لتعطلت
مصالح هذا الباب؛ لتعذر إقامة الحجج عليها، ولذلك قبلنا قول
المرأة في الإجهاض. وأما التائب فلا يقبل قوله مع توبته حتى
نحكم بعدالته، ولا بد أن تمضي مدة طويلة يعلم في مثلها صدقه
بملازمته للمروءة واجتناب الكبائر وتنكب الإصرار على الصغائر،
فإذا انتهى إلى حد يغلب على الظن عدالته، كما يغلب على الظن
عدالة غيره من العدول قبلنا شهادته لإفادتها الظن الذي يفيده
قول غيره من العدول، وقد اختلف في مقدار هذه المدة، فقدرها
بعضهم بستة
ج / 2 ص -33-
أشهر وذلك تحكم، والمختار أن ذلك يختلف باختلاف ما ظهر من التائبين
من التلهف والتأسف، والتندم، والإقبال على الطاعات، وحفظ
المروآت، والتباعد عن المعاصي والمخالفات، ويدل على ذلك قوله
تعالى - في القذفة:
{وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ
وَأَصْلَحُوا} فشرط في قبول الشهادة بعد التوبة الإصلاح، وليس هذا شرطا في التوبة
في نفس الأمر، فإن التوبة إذا تحققت بنيت عليها الأحكام في
الباطن، وأما في الظاهر فلا بد من اختباره واستبرائه حتى يظهر
صدقه في دعواه التوبة، فتعود إليه في الباطن كل ولاية تشترط
فيها العدالة، ولا يعود شيء من ذلك في الظاهر إلا بعد
استبرائه.
فإن قيل: كيف قال الشافعي رحمه الله توبة القاذف في إكذابه
نفسه، مع أن الإكذاب ليس ركنا من أركان التوبة؟ قلنا: قد خفي
هذا على كثير من أصحاب الشافعي حتى تأولوه بتأويل لا يصح،
والذي ذكره رحمه الله ظاهر عائد إلى الإقلاع عن الذنب الذي تاب
منه، فإنا إنما فسقناه لكونه كاذبا في الظاهر، فلو لم يكذب
نفسه لكان مصرا على الذنب الذي شرط الإقلاع عنه، فإذا أكذب
نفسه، فقد أقلع عن الذنب الذي فسقناه؛ لأجله.
فإن قيل: إن كان كاذبا فهو فاسق، وإن كان صادقا فهو عاص؛ إذ لا
يجوز تعيير من تحقق زناه بالقذف فكيف ينفعه تكذيبه نفسه مع
كونه عاصيا بكل حال؟ قلنا: ليس قذفه، وهو صادق كبيرة موجبة لرد
شهادته بل ذلك من الصغائر التي لا تحرم الشهادات ولا الروايات.
فإن قيل: إذا كان صادقا فكيف يجوز له أن يكذب نفسه فيما هو
صادق فيه؟ قلنا الكذب للحاجة جائز في الشرع، كما يجوز كذب
الرجل لزوجته، وفي الإصلاح بين المختصمين، وفي هذا الكذب
مصالح.
أحدها: الستر على المقذوف، وتقليل أذيته وفضيحته عند الناس.
ج / 2 ص -34-
الثانية: قبول شهادة القاذف بعد الاستبراء.
الثالثة: عوده إلى الولايات التي تشترط فيها العدالة؛ كنظره في
أموال أولاده وإنكاحه لمولياته.
الرابعة: تعرضه للولايات الشرعية والمناصب الدينية.
[فائدة] بحث الحاكم عن الشهود عند الريبة والتهمة حق واجب في
حقوق الله وحقوق عباده، فإن بحث على حسب إمكانه فلم تزل الريبة
والتهمة لزمه القضاء؛ لأنه بذل ما في وسعه، وهذا مشكل عند قيام
الشك مع تساوي الطرفين، عند غلبة كذب الشهود على ظنه.
فإن قيل: إذا شهد الوالد لولده أو العدو على عدوه أو الفاسق
بما يعلمونه من الحق، والحاكم لا يشعر بالولادة والفسوق
والعداوة فهل يأثم الشهود بذلك؟ قلت: هذا مختلف فيه والمختار
جوازه؛ لأنهم لم يحملوا الحاكم على باطل، وإنما حملوه على
إيصال الحق للمستحق، وإنما ردت شهادة هؤلاء للتهم؛ لأن التهمة
مانعة للحاكم من جهة قدحها في ظنه، وههنا لا إثم على الحاكم
لتوفر ظنه، ولا على الخصم؛ لأخذ حقه، ولا على الشاهد لمعونته.
فإن قيل: ما تقولون فيمن له حق على إنسان فاستعان على أخذه
ببعض الولاة والقضاة فساعداه عليه بغير حجة شرعية، فهل يجوز له
أن يستعين بالوالي والقاضي على ذلك مع كون الوالي والقاضي
آثمين في أخذهما الحق بغير حجة شرعية؟ قلت: أما الوالي والقاضي
فآثمان. وأما المستعين بهما فينبغي أن ينظر فيه إلى الحق
المستعان عليه وله رتب.
أحدها: أن يكون الحق جارية استحل غاصبها بضعها فلا أرى بأسا
بالاستعانة بالوالي والقاضي، وإن عصيا، بل ذلك واجب عند القدرة
عليه؛ لأن مفسدة معصية الوالي والقاضي دون مفسدة الغصب والزنا،
وكذلك لو غصب إنسان على زوجته فاستعان على تخليصها بالوالي
والقاضي فلا إثم عليه مع كون القاضي
ج / 2 ص -35-
والوالي عاصيين؛ لأن مفسدة بقائها مع من يزني بها أعظم من مفسدة
مساعدة الوالي والقاضي بغير حجة شرعية. وكذلك لو استعان
بالآحاد وأعانوه بمجرد دعواه فإنهم يأثمون بذلك ولا يأثم
المستعين بهم؛ لأن مفسدة مخالفتهم الشرع في مثل هذا دون
المفسدتين المذكورتين.
الرتبة الثانية: إذا استعان بالولاة أو بالقضاة أو بالآحاد على
رد المغصوب من غاصبه أو المجحود من جاحده فأعانوه على تخليص
ذلك من غير حجة شرعية مثل أن غصب إنسان دابته وثيابه وسلاحه
ومنزله وماعونه أو جحده ذلك من غير غصب فاستعان بهم فأعانوه
فإنهم يأثمون على إعانته بغير حجة شرعية ولا إثم عليه في ذلك؛
لأن مفسدة بقاء ذلك بيد للغاصب والجاحد أعظم من مفسدة عصيانهم؛
لأن الذي صدر منهم مجرد معصية لا مفسدة فيها، والذي صدر من
الغاصب والجاحد عصيان مع تحقق المفسدة، وقد يجوز إجابة العاصي
على معصيته لا من جهة كونها معصية بل لما تضمنته الإعانة من
المصلحة كما ذكرناه في فداء الأسرى.
الرتبة الثالثة: أن يكون الحق حقيرا ككسرة أو ثمرة فهذا لا
تجوز الاستعانة على تخليصه بغير حجة شرعية؛ لأن معصية مفسدة
المساعد عليه تربى على مفسدة فواته.
[فائدة] الغرض من نصب القضاة إنصاف المظلومين
من الظالمين، وتوفير الحقوق على المستحقين، والنظر لمن يتعذر
نظره لنفسه كالصبيان والمجانين والمبذرين والغائبين، فلذلك كان
سلوك أقرب الطرق في القضاء واجبا على الفور؛ لما فيه من إيصال
الحقوق إلى المستحقين ودرء المفسدة عن الظالمين والمبطلين، وقد
تقدم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على الفور،
وأحد الخصمين ههنا ظالم أو مبطل وتجب إزالة الظلم والباطل على
الفور وإن لم يكن آثما بجهله؛ لأن الغرض إنما هو دفع المفاسد
سواء كان مرتكبا آثما أو غير آثم. وكذلك يجب القضاء على الغائب
لما في تأخيره إلى حضوره من استمرار المفسدة؛ لأن الدعوة إن
كانت بطلاق تضررت المرأة ببقائها في قيود نكاح
ج / 2 ص -36-
مرتفع، ولم تتمكن من التزوج ولا مما يتمكن منه الخليات، وإن كانت
بعتاق تضررت الأمة والعبد بإجراء أحكام الرق عليهما إلى حضور
الغائب، وإن كانت الدعوى بعين تضرر ربها بالحيلولة بينه
وبينها، وإن كانت بدين تضرر ربه بتأخير قبضه وعدم الارتفاق به،
ولا فرق بين الغائب والحاضر في إقامة الحجج، فإن الظن المستفاد
في إقامة الحجج على الغائب كالظن المستفاد من إقامتها على
الحاضر.
فإن قيل: الحاضر يناضل عن نفسه بالمعارضات، والجرح بخلاف
الغائب. قلنا: لا يجوز ترك ما وجب ظهوره بحجة شرعية لاحتمال
الأصل وعدمه، والحاكم يناضل عن الغائب على حسب الإمكان، ولذلك
يحلف المدعي، ولا يجوز إهمال الحجج الشرعية لمجرد الأوهام
والظنون الضعيفة؛ لما ذكرناه من تقديم الظن القوي على الظن
الضعيف في سائر الأحكام.
فإن قيل: ما المعنى بالظالم والمبطل في هذا الباب؟ قلنا: أما
الظالم فهو ظالم بأنه عاص لله بجحوده وإنكاره ومنع الحق من
مستحقه، فيجب على الحاكم سلوك أقرب الطرق في دفع هذه المفسدة
عن المستحق، ولا سيما إذا تعلقت الدعاوى بالأبضاع؛ ولأن مطل
الغني بالحقوق التي يقدر على دفعها ظلم، ولا تجوز الإعانة على
الظلم، وقد قال عليه السلام: "انصر أخاك
ظالما أو مظلوما" وأراد بنصر
الظالم أن يزعه عن الظلم ويكفه عنه كما فسره عليه السلام. وأما
المبطل فهو الذي يجحد ما يجهل وجوبه من الحقوق الواجبة في نفس
الأمر فهذا لا إثم عليه، ولكنه يجب إيصال الحق إلى مستحقه على
الفور، وإن لم يكن المستحق عليه آثما دفعا لمفسدة تأخر الحق عن
مستحقه ولا سيما إذا ادعت الزوجة الطلاق والأمة العتاق
فأنكرهما، وكان وكيله قد طلق الزوجة وأعتق الأمة، وهو لا يشعر.
وكذلك إذا أخرج وكيله شيئا من الأعيان والمنافع عن ملكه فأنكره
ظنا أن الوكيل ما تصرف فيه. وكذلك لو زوجه أبوه امرأة في صغره
فادعت عليه حقوق النكاح في كبره فأنكرها بناء على جهله بالنكاح
فيجب
ج / 2 ص -37-
سلوك أقرب الطرق في إيصالها وفي حقوق النكاح فوجوبها على الصحة، فإن
المطل بالحق بعد طلبه مفسدة محرمة على من علمها.
[فائدة] الظن المستفاد من إخبار أكابر الصحابة
آكد من الظن المستفاد من غيرهم من عدول الأزمان بعدهم، ولا
تشترط المساواة بينهم وبين عدول سائر القرون، فإن ذلك يؤدي إلى
إغلاق باب الشهادة والرواية، بل الموجب لقبول شهادة الصحابة
إنما هو مساواتهم إيانا في حفظ المروءة، والانكفاف عن الكبائر،
وعن الإصرار على الصغائر والزيادة مؤكدة ليست شرطا في القبول.
وكذلك القول في العدالة المشروطة في القضاة والخلفاء والولاة،
إذ لو شرطت الزيادة على ذلك لفاتت المصالح المتعلقة بالقضاة
والخلفاء وغيرهما من الولاة، بل لو تعذرت العدالة في جميع
الناس لما جاز تعطيل المصالح المذكورة بل قدمنا أمثل الفسقة
فأمثلهم، وأصلحهم للقيام بذلك فأصلحهم، بناء على أنا إذا أمرنا
أتينا منه بما قدرنا عليه ويسقط عنا ما عجزنا عنه، ولا شك أن
حفظ البعض أولى من تضييع الكل، وقد قال شعيب عليه السلام:
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، وقال الله تعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فعلق تحصيل مصالح التقوى على الاستطاعة، فكذلك المصالح كلها.
ولمثل هذا قلنا: إذا عم الحرام بحيث لا يوجد حلال فلا يجب على
الناس الصبر إلى تحقق الضرورة، لما يؤدي إليه من الضرر العام.
[فائدة]: إنما شرط العدد في الشهادة؛ لأن
الخبر الصادر من اثنين آكد ظنا وأقوى حسبانا من الخبر المستفاد
من قول الواحد، وكلما كثر المخبرون كثر الظن بكثرة عددهم إلى
أن ينتهي خبرهم إلى الاعتقاد، فإن تكرر بعد حصول الاعتقاد
انتهى إلى إفادة العلم، وهذا معلوم باطراد العادات فيما يندرج
فيه من الخبر المتواتر، ويجب على هذا أن تتوارد الشهادتان على
شيء متحد. فإذا شهد واحد على قتل أو قبض أو غصب أو قذف أو بيع
أو إجارة في يوم الأحد، وشهد آخر
ج / 2 ص -38-
على وقوع ذلك يوم الاثنين لم يثبت؛ لأن الشهادتين لم يتعلقا بشيء
واحد حتى يتأكد الظن، ومن خالف في ذلك فقد أخطأ؛ لأن الشهادتين
لم يتواردا على شيء واحد، فإن حكم بذلك كان حكما بشاهد واحد،
ولا سيما في القتل والإتلاف، فإن الشهادتين متكاذبتان فلو حكم
بذلك لكان حكما بالشك، وإن اختلف تاريخ الإقرار. فإن كان
الإقرار بشيئين مختلفين لم يحكم بالشهادة إذ لم يقم في كل واحد
من الإقرارين إلا شاهد واحد، وإن كان الإقرار بشيء واحد فالأصح
ثبوت المقر به، وفيه إشكال من جهة أن الشهادتين لم تتواردا على
إقرار واحد، فإن إقرار يوم الأحد لم يشهد به إلا واحدا وكذلك
إقرار يوم الاثنين لم يشهد به إلا واحدا فلم تتوارد الشهادتان
على إقرار واحد، فيتأكد الظن بانضمام إحدى الشهادتين إلى
الأخرى، ولكن لما اتحد المقر به وقع القرار عليه، وهذا لا يزيل
الإشكال؛ لأن الشاهدين لم يشهدا بالمقر به حتى يقال تواردت
الشهادتان عليه، وإنما شهدا بلفظ، وليس لفظه عين المشهود به،
فإن الخبر يغاير المخبر. وقد يكون المقر كاذبا في إقراره وبحثه
قول من منع الثبوت بمثل هذا.
[فائدة] ليس قول الحاكم يثبت عندي حكما به إلا أن يقول الحاكم
إذا أطلقت لفظ الثبوت فإنما أعني به الحكم بالحق الذي يثبت
عندي، فإن لم يفعل ذلك، فمن قضى بأن لفظ الثبوت إخبار عن الحكم
كلفظ القضاء والحكم فقد أخطأ؛ لأن اللفظة المترددة بين أمرين
إذا صدرت من حكم أو غيره لم يجب حملها على أحد الأمرين إلا أن
تكون ظاهرة فيه لا يفهم منه عند الإطلاق غيرها. ولفظ الثبوت قد
يعبر به بعض الناس عن الحكم ويعبر به الأكثرون عن غير الحكم،
فمن أين لمن لم يقض بأن مطلق هذه اللفظة إنما أطلقها بإزاء
الحكم، وحمل المجمل على أحد محتمليه المتساويين غير جائز فما
الظن بحمله على الاحتمال المرجوح، ولا وقفة عندي في نقض حكم من
يحكم بأن الإثبات
ج / 2 ص -39-
حكم، لمخالفته القاعدة المجمع عليها من غير دليل في منع حمل اللفظة
على أحد معنييها المتساويين، أو على المعنى المرجوح، والقوم
يسمعون ألفاظا لم يعرفوا معانيها ولا مأخذها فيختارون بلا علم.
بل لا يفهمون حقيقة الخلاف في ذلك.
[فائدة]: لا يتغير حكم الباطن بحكم الحاكم في
فسخ ولا عقد، ولا في غيرهما إلا أن يقع الحكم في مجتهد فيه،
ففي تغير الباطن فيه خلاف يفرق في أن له بين الحكم على العامي،
والحكم على المجتهد، إذ ليس اجتهاد الحاكم أولى من اجتهاد
المحكوم عليه.
[فائدة] قد أقام الشافعي رحمه الله قول الحاكم: ثبت عندي مقام
قول اثنين، وقد يكون كل واحد منهما أوثق منه وأعدل، ويغلب الظن
بقول أحدهما أكثر مما يغلب بقوله، وذلك؛ لأجل الحاجة.
مثاله: إذا جعلنا الثبوت نقلا للشهادة فإنا نقيم قول الحاكم:
ثبت عندي مقام قول شهود الواقعة.
[فائدة] إذا ادعى رجل رق إنسان يستسخره
استسخار العبد وينطاع انطياع العبد، فالقول قول المدعى عليه مع
يمينه إذا كان بالغا، وإن صغيرا فقد جعله الشافعي كالثبوت،
وهذا مشكل؛ لأن الأصل في الثبات الملك، والأصل والغالب في
الناس الحرية، وإنما جعل القول قول البالغ؛ لأن الأصل والغلبة
الدالين على حريته لا يعارضهما مجرد الاستسخار فضلا عن أن يرجح
عليهما، وهي موجودان في حق الصبي وجودهما في حق البالغ فعلى
هذا لا ينبغي للحاكم أن يلتفت إلى قول المدعي؛ لرجحان جانب
الصبا بالأصل والغلبة على مجرد استسخاره، وإن لم يثبت عند
الحاكم استسخار لم يجز الحكم بجعل الصبي كالثوب، إذ لا معارض
لرجحان جانبه بالأصل والغلبة، فكيف نحكم له بمجرد دعواه مع
رجحان جانب المدعى عليه مع وجهين لا معارض لواحد منهما ؟،.
والعجب ممن لا يجعل القول قول الصبي بعد البلوغ مع الرجحان
ج / 2 ص -40-
المذكور؛ لأن من جعله كالثوب يحتج بأنه لا عبرة بقوله، فإذا صار
قوله معتبرا فكيف نجزم برقه مع ظهور صدقه وكذب غريمه في دعواه،
وهذا مما لا أتوقف فيه، والمسألة مشكلة، وكذلك إقامة قول
الحاكم وحده مقام قول شاهدين، بل مقام قول أربعة شهود، وليست
المسألة مشكلة إجماعية، فإن من جعل الثبوت حكما نفذ قول
الحاكم؛ لأنه إنشاء يقدر عليه، ومن قدر على الإنشاء قدر على
الإقرار ومالك يختلف في إقرار الحاكم إذا منع القضاء بعلمه؛
لأن التهمة موجودة في قوله حكمت مثلها في غير ذلك من أحكامه،
ولا شك أن إنشاء تصرف في حق من حقوقه فإنه يملك الإقرار به،
ويملك المجبر الإقرار به ويملك المجبر بتزويج المجبرة لظهور
صدقه ولتعلق حقه؛ بخلاف إقرار الأخ المأذون له في النكاح. ولو
ملك إنشاء تصرف بالتوكيل ثم اختلف الموكل والوكيل في إنشائه
فيه خلاف، إذ الأصل عدم الإنشاء وليس الحق عليه، وهذا ظاهر.
[فائدة] الظن المستفاد ممن يخبر عن الواقعة عن
سماع أو مشاهدة أقوى من الظن المستفاد ممن يخبر بذلك عمن شهد
الواقعة، أجرى الله العادة بذلك، فإن العدل إذا قال أخبرني
فلان العدل أنه رأى فلانا قتل فلانا فإنا نظن صدقه في ذلك ظنا
منحطا عن الظن المستفاد ممن يخبر أنه رآه قتله. ولهذا لا تقبل
شهادة بشهود الفرع إلا عند تعذر حضور شهود الأصل أو عند المشقة
في حضورهم، إذ لا يجتزئ بالظن الضعيف مع التمكن من الظن القوي
في باب الشهادة إذا وجد النصاب، بخلاف مثله في الرواية؛ لأن
التوسع في باب الرواية مقصود بخلاف الشهادات.
[فائدة]: إذا أمر القاضي أو الوالي بما هو
محبوب للمأمور به أنه ليس بواجب عليه كي لا يغره بأنه واجب،
فإنه إذا علم بندبه فقد لا تسخو به نفسه.
[فائدة] لو حكم الحاكم في محل يسوغ فيه
الاجتهاد، ثم تغير اجتهاده فحكم بما أدى إليه اجتهاده ثانيا،
كان ذلك قطعا لما حكم به أولا، ولا يبطل الأول بذلك بل
ج / 2 ص -41-
ينقطع من حين تغير الاجتهاد، ويبقى الأول على ما كان عليه، كما
تنتقض الطهارة عند الناقض وتنقطع أحكامها حينئذ، ولا تبطل فيما
تقدم على الناقض. وكذلك فسخ المعاملات، فقولنا انتقضت الوضوء
وانفسخ البيع وانتقض العهد، كل ذلك من مجاز الحذف أصله انتقض
أحكام الوضوء المبنية عليه، وانفسخت أحكام البيع المبنية عليه.
وانتقضت أحكام العهد المبنية عليه؛ لأن الوضوء والبيع والعهد
حقائق قد دخلت في الوجود لا يمكن نقضها ولا رفعها.
فصل: في بيان أدلة الأحكام وهي ضربان
أحدهما: ما يدل على شرعيتها. والثاني: ما يدل على وقوعها
مستندة إلى أسبابها: فالأسباب مثبتة، والأدلة مظهرة.
فأما أدلة شرعية الأحكام: فالكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس
الصحيح، والاستدلال المعتبر.
وأما أدلة وقوعها ووقوع أسبابها وشرائطها وموانعها وأوقاتها
وإحلالها فضربان، أحدهما: ما يتحقق، ويعلم أسباب وقوعه كالعلم
بطلوع الفجر الذي هو سبب لصلاة الصبح وتوابعها من الأذان
والإقامة والسنة المقدمة على الصلاة وكالعلم بزوال الشمس الذي
هو سبب لوجود الظهر وتوابعها، وكذلك مصير ظل الشمس مثله، وغروب
الشمس، ومغيب الشفق الأحمر وهي أسباب لوجوب العصر والمغرب
والعشاء وتوابعها، وكذلك الأسباب المرتبات كالقتل والقطع،
وكذلك المسموعات كالطلاق والعتاق وعقود المعاوضات.
الضرب الثاني: ما يظن تحقق أسبابها ووقوعه بظنون متفاوتة في
القوة والضعف، وهي أنواع: منها إقرار المقرين، ثم شهادة أربع
من المعدلين، ثم شهادة رجلين من المؤمنين، ثم شهادة رجل
وامرأتين من الصالحين، ثم شهادة عدل واحد مع اليمين.
ومنها شهادة أربع نسوة بما يخفى غالبا على الرجال المعدلين.
ج / 2 ص -42-
ومنها الأيمان الواقعة بعد نكول الناكلين.
ومنها أيمان القسامة مع اللوث على القائلين.
ومنها أيمان اللعان على القاذفين.
وأما يمين المدعى عليه وأيمان لعان النساء فدافعة للمدعى به
غير موجبة له. ومنها خبر الواحد في دخول الأوقات وتعريف جهات
القبلة، وتعريف ما وقع في الأواني من النجاسات.
ومنها: تقويم المقومين، ومسح الماسحين، وقسمة القاسمين، وخرص
الخارصين. ومنها استلحاق المستلحقين، وقيافة القائفين،
والانتساب عند عدم القيافة إلى الوالدين.
ومنها زفاف العروس إلى بعلها مع إخبارها بأنها زوجته أو مع
إخبار غيرها من النساء، ومنها إخبار المرأة عن حيضها وطهرها،
ومنها إخبار المكلف عما في يده أنه ملكه، ومنها إخباره عن تحقق
ما لا يعلم إلا من جهته كالثبات في الديون، وإخبار المأذون
والولي عما يعاملان به للمولى عليه، ومنها وصف اللقطة، وتبيين
عفاصها ووكائها فإنه مجوز لدفعها، ومنها دلالة الأيدي على
استحقاق المستحقين. ومنها دلالة الأيدي والتصرف إلى إملاك
المالكين
ومنها وصف اللقطة دلالة الاستفاضة على استحقاق ما استفاضت.
ومنها دلالة الدار على إسلام اللقيط، ومنها دلالة وصف الأبنية
وأشكالها على استحقاق المستحقين. ومنها دلالة الاستطراق على
اشتراك أهل المحلة فيما يستطرقون فيه إذا كان مفسدا من أحد
طرفيه. ومنها دلالة الأجنحة والميازيب والقنى والجداول
والسواقي والأنهار على استحقاق ما اتصلت بملكه.
ومنها معاملة من يجهل رشده وحريته، وأكل طعامه والحكم له وعليه
بناء على أن الغالب في الناس الحرية. ولو توقفت المعاملات على
إثبات الرشد والحرية لما عاملنا كثيرا من التجار الواردين، ولا
من أهل الأسواق المقيمين، ولا
ج / 2 ص -43-
من أهل الصناع المتربصين لاستعمال المستعملين كالحاكة والأساكفة
والخياطين والنجارين، ولما جاز لسائل وفقير وعالم أن يتناولوا
الزكاة والصدقة إلا ممن ثبت رشده وحريته عندهم من الباذلين،
ولا يخفى ما في هذا من العسر الشديد المؤدي إلى تعطيل
المعاملات والمحاكمات والتبرعات، وذلك على خلاف إجماع
المسلمين. وهذا ما غلب فيه الظاهر على استصحاب الأصل المقطوع
به، فإنا نقطع أن كل أحد إن كان تحت الحجر إذ هو صغير، وقد زال
حجر الصبي بالبلوغ، فاحتمل بعد زواله أن يخلفه الرشد، وجاز أن
يخلفه حجر السفه، وليس أحدهما أولى من الآخر، فيحجر على من قرب
عهده بالبلوغ للشك في الرشد، بل لقلة العفة على من قرب عهده
ببلوغه، فإذا انتهى إلى حد يغلب فيه الرشد عند الناس حكم برشده
لغلبة الرشد عليه، ولما ذكرته من إجماع المسلمين على معاملة
المجهولين البالغين إلى حدود الرشد في الغالب. ومنها استصحاب
الأصول كمن لزمه طهارة أو صلاة أو زكاة أو حج أو عمرة أو دين
لآدمي ثم شك في أداء ركن من أركانه أو شرط من شرائطه فإنه
يلزمه القيام به؛ لأن الأصل بقاؤه في عهدته، ولو شك هل لزمه
شيء من ذلك أو لزمه دين في ذمته، أو عين في ذمته، أو شك في عتق
أمته أو طلاق زوجته، أو شك في نذر أو شيء مما ذكرناه فلا يلزمه
شيء من ذلك؛ لأن الأصل براءة ذمته، فإن الله خلق عباده كلهم
أبرياء الذمم والأجساد من حقوقه وحقوق العباد إلى أن تتحقق
أسباب وجوبها فهذه أدلة مفيدة لظنون متفاوتة في قوتها وضعفها
أثبت ضعيفها لمسيس الحاجة إليه فاكتفى في الاستفاضة في السيب
إلى الإبانة إذ لا سبيل إلى معرفته، ولو ثبتت الاستفاضة لانسد
باب إثبات الأنساب، وإنما اكتفى في الأموال ومنافع الأموال
بالشاهد واليمين؛ لكثرة التصرف بينهما والارتفاق في الظعن
والإقامة، فلو شرط فيهما عدد الشهود لتعذر ذلك في كثير من
الأحوال، إذ لا يتيسر العدد في كل مكان من الحضر أو السفر
واكتفى في النساء
ج / 2 ص -44-
المجردات فيما لا يطلع عليه الرجال إذ لو لم نكتف بهن لغلب ضياع ذلك
الحق وفواته، وقد ذهب بعض العلماء إلى شرط الأربعة في القتل؛
لأنه أعظم من الزنا، وليس الأمر كما ظنه بل الغرض من كثرة
العدد في الزنا ستر الأعراض، ودفع العار عن العشائر والقبائل
فضيق الشرع طريق إثباته دفعا لمفاسده إذ لا يتيسر حضور أربعة
من العدول يشاهدون زنا الزانين، ولا عار على القاتلين، ولا على
عشائرهم في الغالب بل قد يتبجج كثير من الناس بقتل الأعداء
وتتمدح به عشائرهم. وذلك كثير مشهور في أسفار العرب والناس
كلهم حراس على كتم الفواحش كالزنا واللواط، وقد عيب على امرئ
القيس ذكره مقدم الزنا في بعض قصائده ولا يتصور كذب العلم
وإخلافه، والظن يتصور الكذب والإخلاف. إلا أن الصدق والوفاق
غالب عليه، ولذلك اعتبره الشرع واتبعه العقلاء في التصرفات
الدنيوية، فإن الصدق الظن المستفاد مع جميع الأدلة المذكورة،
فقد حصل مقصود الشرع من جلب المصالح ودرء المفاسد ظاهرا
وباطنا، وإن كذب الظن فقد فاتت المصالح وتحققت المفاسد ولم
يحصل مقصود الشرع من ذلك، ويعفى عن كذبه في حق العاملين به
لجهلهم بكذبه، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها وطاقتها.
فإن قيل: ما تقولون إذا تعارضت الأدلة؟ قلنا: أما أدلة نصب
الشريعة ووضع الأحكام فالأصح أن المجتهد لا يتخير بين الدليلين
بل يتوقف إلى أن يظهر له ترجح من نسخ وغيره، فإن بذل جهده فلم
يظفر بمرجح، ورجع حينئذ إلى القياس، وإذا ليس أحد الدليلين
بأولى من الآخر، ولا يتصور تعارض علمين، ولا تعارض ظنين؛ لأن
ذلك مؤد إلى الجمع بين النفي والإثبات في شيء واحد في زمن
واحد، وإنما يقع التعارض بين أدلتها التي ذكرناها، فتعارض
الشهادتان والخبران والأصلان والظاهران. وكذلك يتعارض الأصل
والظاهر، وتعارضت الأدلة المفيدة للظنون، فإن كان التعارض بين
ظاهرين كشهادتين متناقضتين أو خبرين متناقضين فإن كانا
متساويين من كل وجه وجب التوقيف؛
ج / 2 ص -45-
لانتفاء الظن الذي هو مستند الأحكام، إذ لا يجوز الحكم في الشرع إلا
بعلم أو اعتقاد، فإذا تعارض دليلان ظنيان فإن وجدنا من أنفسنا
الظن المستند إلى أن أحد الدليلين حكمنا به. وإن وجدنا الشك
والتردد على سواء وجب التوقف، وإنما يجب الظن عند التعارض بين
أحدهما؛ لأن الظن المستفاد منه عند انفراده أقوى من الظن
المستفاد من معارضه في حال الانفراد.
مثال ذلك اليد: ظاهرة في استحقاق ذي اليد، والبينة والإقرار
واليمين المردودة مرجحة؛ لقوة إفادتها الظن، فإذا تعارضت
بينتان ولم نجد ظنا لتساويهما من كل وجه، فقد اختلف في ذلك،
والأصح ما ذكرناه من سقوطهما، فإن القرع بينهما لا يفيد رجحان
أحدهما بالقرعة، وإذا لم يرجح أحدهما حكمنا بالشك، والحكم
بالشك غير جائز، والقرعة في الشرع لتعيين أحد المتساويين،
وههنا لا يعين رجحانه، والشك بعد وجودها مثله قبل وجودها، إذ
لم يفد رجحانا في الظن، ولا بيانا فيه، ومن قسم بين المتداعيين
فقد خالف موجب البينتين في نصف ما شهدت به؛ لأن كل واحدة منهما
شاهدة بالجميع، ولا يجوز أن يجعل تعارض البينتين المتساويتين
كاجتماع اليدين على العينين؛ لأن كل واحدة من اليدين مفيدة
للظن غير مكذبة لصاحبتهما، والبينتان ههنا متكاذبتان لا يحصل
من واحدة منهما ظن، والبينة ما فيه بيان. فإذا لم يكن في كل
واحدة منهما بيان كان الحكم بغير بينة على خلاف الشرع، ومن ذهب
إلى وقف البينتين إلى إصلاح الخصمين فما أبعد، ولكنه يؤدي إلى
تعطيل الحكم إلى اتفاق الاصطلاح. |