قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في المشاق الموجبة للتخفيفات الشرعية
المشاق
ضربان: أحدهما مشقة لا تنفك العبادة عنها كمشقة الوضوء والغسل
في شدة السبرات وكمشقة إقامة الصلاة في الحر والبرد، ولا سيما
صلاة الفجر، وكمشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار، وكمشقة
الحج التي لا انفكاك عنها غالبا، وكمشقة الاجتهاد في طلب العلم
والرحلة فيه، وكذلك المشقة في رجم الزناة، وإقامة الحدود على
الجناة، ولا سيما في حق الآباء والأمهات والبنين والبنات، فإن
في ذلك مشقة عظيمة على مقيم هذه العقوبات بما يجده من الرقة
والمرحمة بها للسراق والزناة والجناة من الأجانب والأقارب
البنين والبنات، ولمثل هذا قال تعالى:
{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} وقال عليه الصلاة والسلام: "لو أن فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - سرقت لقطعت يدها"، وهو صلى
الله عليه وسلم أولى بتحمل هذه المشاق من غيره؛ لأن الله -
سبحانه وتعالى - وصفه في كتابه العزيز بأنه بالمؤمنين رءوف
رحيم، فهذه المشاق كلها لا أثر لها في إسقاط العبادات والطاعات
ولا في تخفيفها؛ لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات والطاعات
في جميع الأوقات أو في غالب الأوقات، ولفات ما رتب عليها من
المثوبات الباقيات ما دامت الأرض والسموات.
الضرب الثاني: مشقة تنفك عنها العبادات غالبا، وهي أنواع:
النوع الأول: مشقة عظيمة فادحة كمشقة الخوف على النفوس
والأطراف ومنافع الأطراف فهذه مشقة موجبة للتخفيف والترخيص؛
لأن حفظ المهج
ج / 2 ص -8-
والأطراف لإقامة مصالح الدارين أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو
عبادات ثم تفوت أمثالها.
النوع الثاني: مشقة خفيفة كأدنى وجع في إصبع أو أدنى صداع أو
سوء مزاج خفيف، فهذا لافتة إليه ولا تعريج عليه؛ لأن تحصيل
مصالح العبادة أولى من دفع مثل هذه المشقة التي لا يؤبه لها.
النوع الثالث: مشاق واقعة بين هاتين المشقتين مختلفة في الخفة
والشدة فما دنا منها من المشقة العليا أوجب التخفيف، وما دنا
منها من المشقة الدنيا لم يوجب التخفيف إلا عند أهل الظاهر،
كالحمى الخفيفة ووجع الضرس اليسير وما وقع بين هاتين الرتبتين
مختلف فيه، ومنهم من يلحقه بالعليا، ومنهم من يلحقه بالدنيا،
فكلما قارب العليا كان أولى بالتخفيف، وكلما قارب الدنيا كان
أولى بعدم التخفيف، وقد توسط مشاق بين الرتبتين بحيث لا تدنو
من أحدهما فقد يتوقف فيها، وقد يرجح بعضها بأمر خارج عنها،
وذلك كابتلاع الدقيق في الصوم، وابتلاع غبار الطريق، وغربلة
الدقيق لا أثر له لشدة مشقة التحرز منها ولا يعفى عما عداها
مما تخف المشقة في الاحتراز عنه وفي ما بينهما كابتلاع ماء
المضمضة مع الغلبة اختلاق لوقوعه بين الرتبتين. ولما كانت
المبالغة مستندة إلى تقصيره بفعله ما نهى عنه ألحقها بعضهم بما
تيسر الاحتراز عنه وأبطل بها الصوم، وألحقها بعضهم بالمضمضة
لوقوعها عن الغلبة، وتختلف المشاق باختلاف العبادات في اهتمام
الشرع فما اشتد اهتمامه به شرط في تخفيفه المشاق الشديدة أو
العامة، وما لم يهتم به خففه بالمشاق الخفيفة، وقد تخفف مشاقه
مع شرفه وعلو مرتبته لتكرر مشاقه كي لا يؤدي إلى المشاق العامة
الكثيرة الوقوع.
مثاله: ترخيص الشرع في الصلاة التي من أفضل الأعمال تقام مع
الخبث الذي يشق الاحتراز منه، ومع الحدث في حق المتيمم
والمستحاضة, ومن كان
ج / 2 ص -9-
عذره كعذر المستحاضة. وكذلك المشاق في الحج ثلاثة أقسام: منها ما
يعظم فيمنع وجوب الحج، ومنها ما يخف ولا يمنع الوجوب، ومنها ما
يتوسط فيتردد فيه، وما قرب منه إلى المشقة العليا كان أولى
بمنع الوجوب، وما قرب منه إلى المشقة الدنيا كان أولى بألا
يمنع الوجوب. ولا تختص المشاق بالعبادات بل تجري في المعاملات.
مثاله: الغرر في البيوع، وهو أيضا ثلاثة أقسام: أحدها ما يعسر
اجتنابه كبيع الفستق والبندق والرمان والبطيخ في قشورها فيعفى
عنه.
القسم الثاني: ما لا يعسر اجتنابه فلا يعفى عنه.
القسم الثالث: ما يقع بين الرتبتين وفيه اختلاف، منهم من يلحقه
بما عظمت مشقته، لارتفاعه عما خفت مشقته، ومنهم من يلحقه بما
خفت مشقته لانحطاطه عما عظمت مشقته، إلا أنه تارة يعظم الغرر
فيه فلا يعفى عنه على الأصح كبيع الجوز الأخضر في قشرته، وتارة
يخف العسر فيه لمسيس الحاجة إلى بيعه فيكون الأصح جوازه كبيع
الباقلاء الأخضر في قشرته. فأما الصلاة فينتقل فيها القائم إلى
القعود بالمرض الذي يشوش على الخشوع والأذكار ولا يشترط فيها
الضرورة ولا العجز عن تصوير القيام اتفاقا، ويشترط في الانتقال
من القعود إلى الاضطجاع عذرا أشق من عذر الانتقال من القيام
إلى القعود؛ لأن الاضطجاع مناف لتعظيم العبادات ولا سيما
والمصلي مناج ربه، وقد قال - سبحانه -:
"أنا جليس من
ذكرني".
وأما الأعذار في ترك الجماعات والجمعات فخفيفة؛ لأن الجماعات
سنة والجمعات بدل. وأما الصوم فالأعذار فيه خفيفة كالسفر
والمرض الذي يشق الصوم معه لمشقة الصوم على المسافر، وهذان
عذران خفيفان، وما كان أشد منهما كالخوف على الأطراف والأرواح
كان أولى بجواز الفطر.
وأما الحج: فالأعذار في إباحة محظوراته خفيفة إذ يجوز لبس
المخيط فيه
ج / 2 ص -10-
بالتأذي بالحر والبرد، ويجوز حلق الرأس فيه بالتأذي من المرض
والقمل، وكذلك الطيب والدهن وقلم الأظفار.
وأما التيمم فقد جوزه الشافعي رحمه الله تارة بأعذار خفيفة،
ومنعه تارة على قول بأعذار أثقل منها، والأعذار عنده رتب
متفاوتة في المشقة.
الرتبة الأولى: مشقة عظيمة فادحة كالخوف على النفوس والأعضاء
ومنافع الأعضاء فيباح بها التيمم.
الرتبة الثانية: مشقة دون هذه المشقة في الرتبة كالخوف من حدوث
المرض المخوف، فهذا ملحق بالرتبة العليا على الأصح.
الرتبة الثالثة: خوف إبطاء البرء وشدة الضنى ففي إلحاقه
بالرتبة الثانية خلاف، والأصح الإلحاق.
الرتبة الرابعة: خوف الشين إن كان باطنا لم يكن عذرا، وإن كان
ظاهرا ففيه خلاف والمختار الإباحة، فهذه الأعذار كلها كما
ذكرناه في إباحة الفطر في الصوم وفي إباحة القعود في الصلاة
ويدل على ذلك صور جوز فيها الشافعي التيمم بمشاق خفيفة دون هذه
المشاق.
أحدها: إذا بيع منه الماء بأكثر من ثمن المثل بشيء يسير فإنه
لا يلزمه شراؤه، ولا شك أن ضرر الغبن بدانق دون ضرر المشقة
بظهور الشين، وإبطاء البرء، وشدة الضنى، ولا سيما إذا ظهر
الشين في وجوه النساء اللاتي نفاقهن في جمالهن، مع أن ضرر
الشين يدوم إلى الممات، وضرر الغبن بالدانق ينصرم في الحال،
وقد خالف مالك في ذلك، وخلافه متجه.
الصورة الثانية: إذا وهب منه ثمن الماء، وهو درهم مثلا فإنه لا
يلزمه قبوله، وله أن يتيمم دفعا لتضرره بالمنة بالدرهم، ولا شك
أن تضرره بالشين والمرض المخوف وشدة الضنى وبطء البرء دوامها
أعظم من تضرره بذلك مع تصرمه.
الصورة الثالثة: إذا كان معه ثمن الماء، ولكنه محتاج إليه في
نفقة سفره
ج / 2 ص -11-
في ذهابه وإيابه، فإنه يتيمم، كي لا ينقطع عن سفره ويكون سفره سفر
نزهة غير مهم في أمر الدين وتضرره لانقطاعه عن هذا السفر دون
تضرره بما ذكرناه من المرض المخوف، وشدة الضنى، وبطء البرء،
وظهور الشين، مع أن سفر النزهة من روعات النفوس التي لا يقصدها
معظم العقلاء، بخلاف التضرر بما ذكرناه فإنه مقصود الدفع لكل
عاقل.
ونظير هذا التشديد في باب التيمم، ما ذكره الشافعي ومالك -
رحمهما الله في أن التحلل من الحج مختص بحصر العدو، وقد خولفوا
في ذلك؛ لأن الآية دالة على جواز الخروج من الحج بالأعذار، فإن
الإحصار عند المعتبر من أهل اللغة موضوع لإحصار الأعذار،
والحصر موضوع لحصر الأعداء بدليل قوله:
{وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} وقال بعض أهل اللغة هما لغتان في حصر الأعداء، فإن قيل إن قوله:
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} الآية نزلت بالحديبية ولم يكن إحصار عذر وإنما كان إحصار عدو؟
قلنا: فإنها دلت على إحصار العذر بمنطوقها، وعلى إحصار العدو
بمفهومها فتناولت الأمرين جميعا، ونبهت على أن التحلل بحصر
الأعذار أولى من التحلل بحصر الأعداء.
فإن قيل: قد قرن بها ما يدل على أنها نزلت في حصر الأعداء، وهو
قوله:
{فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فالأمن إنما يستعمل في زوال الخوف من الأعداء دون زوال الأمراض
والأعذار؟ فالجواب أن الآية لما دلت على أن التحلل بالحصر أولى
يرجع الأمر إلى ما دلت عليه الآية بطريق الأولى لا بطريق
اللفظ، وإن جعلنا حصر وأحصر لغتين دل أحصر على الأمرين، ورجع
لفظ الأمن إلى أحدهما دون الآخر، والذي ذكره مالك والشافعي لا
نظير له في الشريعة السمحة التي قال الله - تعالى - فيها:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وقال فيها:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ} وقال:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ}، فإن من انكسرت رجله وتعذر عليه أن يعود إلى الحج والعمرة يبقى
ج / 2 ص -12-
في بقية عمره حاسر الرأس متجردا من اللباس محرما عليه النكاح
والإنكاح، وأكل الصيود والتطيب والأدهان، وقلم الأظفار وحلق
الشعر ولبس الخفاف والسراويلات، , وهذا بعيد من رحمة الشرع
ورفقه ولطفه بعباده.
الصورة الرابعة: أن أصحابنا قالوا لا يلزمه طلب الماء من فرسخ
ولا من نصف فرسخ لما فيه من المشقة، ولا شك أن هذه المشقة أخف
مما ذكرناه من المرض المخوف، وبطء البرء، وشدة الضنى، وظهور
الشين، وكذلك قالوا لا يطلبه مع الخوف على ماله، ولم يفرقوا
بين المال القليل والكثير، قالوا: بل يطلبه من مكان لو استغاث
منه برفقته لأغاثوه مع ما هم عليه من اشتغالهم.
وأما المنة فجعلوها ثلاثة أقسام: أحدها أن يوهب منه ثمن الماء
والدلو والرشاء فيجوز له التيمم لعظم المنة فيها.
القسم الثاني: أن يوهب منه الماء أو يعار الدلو والرشاء أو
يقرض ثمن الماء مع القدرة على الوفاء فلا يجوز له التيمم لخفة
مشقة المنة بمثل ذلك.
القسم الثالث: هل يجب عليه استيهاب الماء أو استعارة الدلو
والرشاء فيه، فإن قيل: المشاق تنقسم إلى ما هو في أعلى مراتب
الشدة، وإلى ما هو في أدناها، وإلى ما يتوسط بينهما، فكيف تعرف
المشاق المتوسطة المبيحة التي لا ضابط لها، مع أن الشرع قد ربط
التخفيفات بالشديد والأشد والشاق والأشق، مع أن معرفة الشديد
والشاق متعذرة؛ لعدم الضابط؟ قلنا: لا وجه لضبط هذا وأمثاله
إلا بالتقريب فإن ما لا يحد ضابطه لا يجوز تعطيله، ويجب
تقريبه، فالأولى في ضابط مشاق العبادات أن تضبط مشقة كل عبادة
بأدنى المشاق المعتبرة في تلك العبادة، فإن كانت مثلها أو أزيد
ثبتت الرخصة بها، ولن يعلم التماثل إلا بالزيادة، إذ ليس في
قدرة البشر الوقوف على تساوي المشاق، فإذا زادت إحدى المشقتين
على الأخرى علمنا أنهما قد استويا فما اشتملت عليه المشقة
الدنيا منهما وكان ثبوت التخفيف والترخيص بسبب الزيادة أو؛
لأمثال ذلك. أن التأذي بالقمل
ج / 2 ص -13-
مبيح للحلق في حق الناسك فينبغي أن يعتبر تأذيه بالأمراض بمثل مشقة
القمل، كذلك سائر المشاق المبيحة للبس والطيب والدهن وغير ذلك
من المحظورات، وكذلك ينبغي أن تقرب المشاق المبيحة للتيمم
بأدنى مشقة أبيح بمثلها التيمم، وفي هذا إشكال، فإن مشقة
الزيادة اليسيرة على ثمن المثل، ومشقة الانقطاع من سفر النزهة
خفيفة لا ينبغي أن يعتبر بها الأمراض. وأما المبيح للفطر
فينبغي أن تقرب مشقته بمشقة الصيام في الحضر، فإذا شق الصوم
مشقة تربى على مشقة الصوم في الحضر فليجز الإفطار بذلك، ولهذا
نظائر كثيرة.: منها مقادير الأغرار في المعاملات، ومنها توقان
الجائع إلى الطعام وقد حضرت الصلاة، ومنها التأذي بالرياح
الباردة في الليلة المظلمة، وكذلك التأذي بالمشي في الوحل،
ومنها غصب الحكام المانع من الإقدام على الحكام، فإن المراتب
في ذلك كله مختلفة، ولا ضابط لمتوسطاتها إلا بالتقريب. وقد ضبط
غصب الحاكم بما يمنع من استيفاء النظر وكل هذه تقريبات يرجع في
أمثالها إلى ظنون المكلفين، ولا ينهى الحاكم الغضبان عن الحكم
بما هو معلوم له إذ لا حاجة به إلى النظر فيه مثاله أن يدعي
إنسان على إنسان بدرهم معلوم فينكره فلا يكره للحاكم الحكم
بينهما إذ لا يحتاج في هذه المسألة إلى نظر واعتبار بل حكمه في
حال رضاه، فإن قيل قد تقرر في الشرع أن ما لا يمكن ضبطه لا يجب
الحمل على أقله كمن باع عبدا، وشرط أنه كاتب أو نجار أو رام أو
بان فإن الشرط يحمل على أقل رتبة الكتابة والتجارة والخياطة
والبناء، وكذلك من أسلم في شيء ووصفه بصفات لكل واحدة منهن رتب
عالية، ورتب دانية، ورتب متوسطة. فإنه يحمل على أدناهن، إذ لا
ضبط لما زاد عليها، فإذا وصف الجارية بإشراق اللون، أو بالكحل،
أو بالبياض حمل على أقل رتب ذلك، وكذلك سائر الصفات، فهلا قلتم
بالحمل ههنا على أدنى رتب المشاق لعسر ضبط رتب المشاق الزائدة
على أدناهن؟ قلنا: لا يجوز تفويت مصالح العبادات مع عظمها
وشرفها بمثل هذه المشاق مع خفتها وسهولة تحملها، بل تحمل هذه
ج / 2 ص -14-
المشاق لا وزن له في تحصيل مصالح العبادات؛ لأن مصالح العبادات
باقية أبد الآبدين ودهر الداهرين مع ما يبتنى عليها من رضا رب
العالمين، ولذلك كان اجتناب الترخص في معظم هذه المشاق أولى؛
لأن تحمل المشاق فيها أعظم أجرا من تعاطيه بغير مشقة؛ لما
ذكرناه من فضل تحمل المشاق؛ لأجل الله. وإنما حملنا في
المعاملات على الأقل تحصيلا لمقاصد المعاملات ومصالحها، فإن
الحمل على الأعلى يؤدي في السلم إلى عزة الوجود، وهي مبطلة
للسلم، والحمل في الصفات المشروطة في البيوع على الأعلى يؤدي
إلى كثرة التنازع والاختلاف، والحمل على ما بينهما لا ضابط له،
ولا وقوف عليه؛ فتعذر تجويزه؛ لعدم الاطلاع عليه.
فصل: في الاحتياط في جلب المصالح ودرء المفاسد
المصالح
التي أمر الشرع بتحصيلها ضربان: أحدهما مصالح الإيجاب.
والثاني: مصالح الندب. والمفاسد التي أمر الشرع بدرئها ضربان:
أحدهما: مفاسد الكراهة. الثاني: مفاسد التحريم. والشرع يحتاط
لدرء مفاسد الكراهة والتحريم، كما يحتاط لجلب مصالح الندب
والإيجاب، والاحتياط ضربان:
أحدهما: ما يندب إليه، ويعبر عنه بالورع، كغسل اليدين ثلاثا
إذا قام من النوم قبل إدخالهما الإناء، وكالخروج من خلاف
العلماء عند تقارب المأخذ، وكإصلاح الحكام بين الخصوم في مسائل
الخلاف، وكاجتناب كل مفسدة موهمة، وفعل كل مصلحة موهمة؛ فمن شك
في عقد من العقود، أو في شرط من شروطه، أو في ركن من أركانه،
فليعده بشروطه وأركانه، وكذلك من فرغ من عبادة، ثم شك في شيء
من أركانها، أو شرائطها بعد زمن طويل، فالورع أن يعيدها، فلو
شك في إبراء من دين، أو تعزير، أو حد، أو قصاص؛ فليبرئ من ذلك
ليحصل على جزاء المحسنين، ويبرأ خصمه بيقين، وإن شك في إعتاق،
أو نكاح قبل الدخول، فليجدد النكاح والإعتاق، وإن شك أطلق قبل
الدخول أو بعده، فإن كان قبل انقضاء العدة، فليجدد رجعة
ونكاحا، وإن كان بعد انقضائها، فليجدد النكاح، وإن
ج / 2 ص -15-
شك أطلق واحدة أو اثنتين، فإن أراد بقاء النكاح مع الورع، فليطلق
طلقة معلقة على نفي الطلقة الثانية، بأن يقول إن لم أكن طلقتها
فهي طالق كي لا يقع عليه طلقتان، وإن شك في الطلقة أرجعية هي
أم خلع فليرتجع، وليجدد النكاح؛ لأنها إن تكن رجعية، فقد
تلافاها بالرجعة، وإن كانت خلعا، فقد تلافاها، وإن شك في حال
المال المخرج في الزكاة، أو الكفارة، أو الديون، فليعد ذلك،
ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، فالورع أن يحدث، ثم يتطهر، فإن
تطهر من غير حدث، فالمختار أن الورع لا يحصل بذلك؛ لعجزه عن
جزم نية رفع الحدث؛ لأن بقاء الطهارة يمنعه من الجزم، كما أن
بقاء شعبان يمنع من جزم نية صوم شهر رمضان ليلة الثلاثين من
شعبان، وهذا هو الجاري على أصول مذهب الشافعي، رحمه الله، من
جهة أن استصحاب الأصل قد منع الجزم والإجزاء في مسائل شتى، ولا
فرق بينهما وبين هذا، ولو التبس عليه المني بالمذي فليجامع ثم
يغتسل لجزم النية، فإن اغتسل من غير جنابة فينبغي أن لا يجزئه
إلا في أعضاء الوضوء، لا أن استصحاب الطهارة فيما عدا الوضوء
مانع من جزم نية الغسل فيها، ونظائر هذا كثيرة، وضابطه أن يدع
ما يريبه إلى ما لا يريبه، ومن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه
وعرضه.
الضرب الثاني: ما يجب من الاحتياط لكونه وسيلة إلى تحصيل ما
تحقق تحريمه، فإذا دارت المصلحة بين الإيجاب والندب،
والاحتياط، حملها على الإيجاب؛ لما في ذلك من تحقق براءة
الذمة، فإن كانت عند الله واجبة فقد حصل مصلحتها، وإن كانت
مندوبة فقد حصل على مصلحة الندب وعلى ثواب نية الجواب، فإن من
هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، وإذا دارت المفسدة بين
الكراهة والتحريم فالاحتياط حملها على التحريم، فإن كانت مفسدة
التحريم محققة، فقد فاز باجتنابها، وإن كانت منفية فقد اندفعت
مفسدة المكروهة، وأثيب على قصد اجتناب المحرم، فإن اجتناب
المحرم أفضل من اجتناب المكروه، كما أن فعل الواجب أفضل من فعل
المندوب، والاحتياط لتحصيل مصلحة الواجب له أمثلة:
ج / 2 ص -16-
أحدها: أن من نسي صلاة من خمس لا يعرف عينها، فإنه يلزمه الخمس
ليتوسل بالأربع إلى تحصيل الواجبة.
المثال الثاني: أن من نسي ركوعا أوسجودا أو ركنا من أركان
الصلاة ولم يعرف محله، فإنه يلزمه البناء على اليقين احتياطا
لتحصيل مصلحة الواجب والبناء على اليقين تقدير أشق الأمرين
والاتيان بالأشق منهما، فإذا شق أترك الركن من الركعة الأولى
أم من الثانية بني على أنه من الأولى لأنه الأشق
المثال الثالث: يجب على الخنثى المشكل أن يستتر في الصلاة
كالتستر للنساء احتياطا؛ لتحصيل مصلحة واجب السترة.
المثال الرابع: إذا اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار فإنا
نغسل الجميع ونكفنهم وندفنهم، توسلا إلى إقامة حقوق المسلمين
من الغسل والدفن والتكفين. وكذلك إذا تعارضت شهادتان في كفر
الميت وإسلامه، فإنا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في قبور
المسلمين، وفي اختلاط المسلمين بالكافرين لا نصلي على
الكافرين. بل نخص المؤمنين بنية الصلاة عليهم لتحريم الصلاة
على الكافرين، ولا يمكن الاختلاط عند تعارض النيات إلا
بالصلاة.
المثال الخامس: أن من لزمته زكاة من زكاتين لا يعرف عينها مثل
أن لزمته زكاة لا يدري أبقرة هي، أم بعير أم دينار، أم درهم أم
حنطة، أم شعير فإنه يأتي بالزكاة ليخرج عما وجب عليه، وفي هذا
نظر، فإن الأصل عدم كل واحدة منهما، بخلاف نسيان صلاة من خمس
فإن الأصل في كل واحدة منهن الوجوب.
المثال السادس: إذا شك الناسك هل هو مفرد أو متمتع أو قارن
وكان ذلك قبل الطواف، فإنه يجعل نفسه قارنا ليبرأ بيقين؛ لأنه
إن كان قبل ذلك قارن لم تضره نية القران، وإن كان متمتعا فقد
أدخل الحج على العمرة فيبرأ من الحج بكل حال.
المثال السابع: إذا شكت المرأة هل الواجب عليها عدة وفاة أو
عدة طلاق فإنه
ج / 2 ص -17-
يلزمها الإتيان بالعدتين لتخرج عما عليها بيقين.
المثال الثامن: إذا مات زوج الأمة وسيدها وشكت في السابق
منهما، فإنه يلزمها الاستبراء وعدة الوفاة لتبرأ بيقين.
المثال التاسع: وجوب الغسل لكل صلاة على المتحيرة لتبرأ عما
عليها بيقين؛ لأنها إن كانت حائضا فلا طهارة عليها، وإن كانت
قد طهرت من الحيض فوظيفتها الغسل وقد أتت به.
المثال العاشر: وجوب الصلاة على المستحاضة المتحيرة في جميع
الأوقات لاحتمال طهرها في كل واحدة منها.
المثال الحادي عشر: يجب على المستحاضة صوم شهر رمضان مع صوم
شهر آخر، وقضاء يومين بستة من ثمانية عشر يوما لتبرأ عما عليها
بيقين، وهذا مشكل من جهة أن الشافعي قدر لها أكثر الحيض وأقل
الطهر، وذلك في غاية الندور، ورد المعتادة إلى العبادة من غير
زيادة مع جواز أن يكون حيضها قد صار إلى خمسة عشر، فأي فرق بين
رد المعتادة إلى العادة من غير زيادة بناء على أن الأصل عدم
تغير العادة، وبين رد هذا إلى غالب العادات لندرة دوران العادة
على أكثر الحيض وأقل الطهر. فإن قيل كيف تجزم المستحاضة نية
الصوم والصلاة مع أنها ما من وقت تنوي فيه الصوم والصلاة إلا،
وهي يجوز أن تكون فيه طاهرة، وأن تكون حائضا، ولا يتصور مع هذا
التردد جزم؟ قلنا: لما كان وقت الطهر أكثر من وقت الحيض غالبا
جاز استناد الجزم إلى هذه الغلبة، وللاحتياط لدرء مفسدة المحرم
أمثلة:
أحدها: إذا اشتبه إناء طاهر بإناء نجس، أو ثوب طاهر بثوب نجس،
وتعذر معرفة الطاهر منهما، فإنه يجب اجتنابهما درءا لمفسدة
النجس منهما.
المثال الثاني: إذا اشتبهت أخته من الرضاع بأجنبية فإنهما
يحرمان عليه احتياطا؛ لدرء مفسدة نكاح الأخت.
ج / 2 ص -18-
المثال الثالث: إذا اختلط درهم حلال بدرهم حرام، وجب اجتنابهما دفعا
لمفسدة الحرام.
المثال الرابع: إذا اختلط حمام بر بحمام بلد مملوك مع
استوائهما فإنه يحرم الاصطياد منه درءا لمفسدة اصطياد المملوك
على الاختيار.
المثال الخامس: نكاح الخنثى المشكل باطل درءا لمفسدة المرأة
بالمرأة أو الرجل بالرجل.
المثال السادس: إذا قطع رجل أو امرأة ذكر خنثى مشكل وشفريه
وأنثييه فإنا لا نوجب القصاص على واحد منهما درءا لمفسدة أخذ
الزائد بالأصلي.
المثال السابع: إذا قال إذا كان هذا الطائر غرابا فامرأتي
طالق، وإن لم يكن غرابا فأمتي حرة فطار الغراب وتعذرت معرفته،
فإنا نحرم عليه الأمة والمطلقة درءا لمفسدة تحريم إحداهما.
وكذلك إذا قال إذا كان هذا الطائر غرابا فأمتي حرة، وإن لم يكن
غرابا فعبدي حر فإنه يمنع من التصرف فيهما درءا لمفسدة التصرف
في الحر منهما.
المثال الثامن: تحريم وطء المستحاضة المتحيرة عند كثير من
الأصحاب درءا لما يتوهم من مفسدة الوطء في الحيض، وقد جوزه
بعضهم نظرا لحق الزوج في البضع، وأنه ليس تقدير الحيض بأولى من
تقدير الطهر؛ ولما فيه من الضرر الدائم ولا سيما في حق الزوجين
الشابين، فإن قيل الصلاة مع الحيض حرام، ومع الطهر واجبة فلم
قدمتم الاحتياط لتحصيل مصالح الصلاة على الاحتياط لدرء مفسدة
الصلاة في الحيض؟ قلنا: إن الطهارة شرط من شروط الصلاة فلا
تهمل المصالح الحاصلة من أركان الصلاة وسائر شرائطها بفوات شرط
واحد، فإن مصالح الصلاة خطيرة عظيمة لا تدانيها مصلحة الطهر من
الحيض؛ لأن الطهر منه كالتتمة والتكملة لمقاصد الصلاة، فلا
تقدم التتمات والتكملات على مقاصد الصلاة على ما سنذكره إن شاء
الله - تعالى - في مقاصد
ج / 2 ص -19-
الصلاة، كيف وكل ركن من أركان الصلاة وكل شرط من شروطها مقصود مهم
لا يسقط ميسوره بمعسوره. وكذلك يصلي من لا يجد ماء ولا ترابا
ولا سترة، ولا يتمكن من القبلة ولا من الركوع، ولا من السجود
على حسب حاله.
المثال التاسع: لا يقتدي الرجل بالخنثى، , ولا الخنثى بالخنثى
دفعا لمفسدة اقتداء الذكور بالإناث.
المثال العاشر: الاحتياط لمن يوجد ويتوقع وجوده كتحريم نكاح
الأمة خوفا من إرقاق الولد الذي يتوقع وجوده، والرق من أعظم
المفاسد.
فإن قيل: فكيف أجزتموه مع العنت وفقد مهر الحرة؟ قلت: دفع
مفسدة الزنا عمن تحقق وجوده أولى من دفع مفسدة الرق عمن يتوهم
وجوده، ولو تحقق وجوده لكان حق أبيه في درء مفسدة الزنا أولى
من حقه في دفع مفسدة الرق؛ لأن مفاسد الزنا عاجلة وآجلة ومفاسد
الرق عاجلة لا غير، إذ لا يأثم أحد بكونه رقيقا، ويأثم بكونه
زانيا، بل العبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه فله
أجران.
المثال الحادي عشر: الشهادة بحصر الورثة ولها حالان: أحدهما:
أن تكون احتياطا لما تحقق وجوده كالآباء والأمهات والأجداد
والجدات، فإذا أقام الوارث بينة بأن الميت أخوه من أبويه لم
يدفع إليه شيئا؛ لأن الأصل بقاء أبويهما، وكذلك أجدادهما
وجداتهما.
الحال الثانية: الشهادة بنفي الزوجين والإخوة والأخوات، وأمثال
ذلك فإنا لا ندفع شيئا من الميراث إلا بالحصر في الوارث
المذكور، وإن كان الأصل عدم الأزواج والزوجات والإخوة
والأخوات، فهذا احتياط لمن لم يتحقق وجوده، ولكن وجوده كثير
غالب، وللاحتياط لتحصيل مصلحة المندوب أمثلة:
منها: أن من نسي ركعتين من السنن الرواتب، ولم يعلم أهي سنة
الفجر أم
ج / 2 ص -20-
سنة الظهر فإنا نأتي بالسنتين لنحصل على المنسية لمن نسي صلاة من
صلاتين مفروضتين.
ومنها من شك هل غسل في الوضوء ثلاثا أو اثنتين فإنه يأتي
بالثالثة احتياطا للمندوب.
وللاحتياط لدفع مفسدة المكروه أمثلة: منها أن لا تقوم الخنثى
عن يمين الإمام.
ومنها: ألا تتقدم الخنثى على الرجال. ومنها أنه يكره للرجال أن
يصلوا وراء الخنثى في الصفوف وفي صف فيه خنثى.
[فائدة]: قد يتعذر الورع على الحاكم في مسائل الخلاف كما إذا
كان ليتيم على يتيم حق مختلف في وجوبه فلا يمكن الصلح بينهما،
إذ لا تجوز المسامحة بمال أحدهما، وعلى الحاكم التوسط في
الخلاف، وكذلك حكم الأب والوصي.
فصل: فيما يقتضيه النهي من الفساد ولا يقتضيه
للنهي أحوال: الأولى أن ينهى عن الشيء لاختلال ركن من أركانه
أو شرط من شرائطه: كالنهي عن الصلاة في المزبلة والمجزرة،
وكالنهي عن صوم يومي العيدين. وكنهي المحرم عن النكاح
والإنكاح، وكذا النهي عن بيع الحر، وعن بيع الملاقح، وبيع
المضامين، فهذا كله محمول على فساد المنهي عنه.
الحال الثانية: النهي لاقتران مفسدته وله أمثلة: أحدها: التطهر
بالماء المغصوب ليس النهي عنه لعينه، وإنما النهي عن استمرار
غصبه، وكذلك التطهر بما يخاف منه التلف؛ لشدة حر أو برد فإنه
لم ينه عنه لعينه، وإنما النهي عما اقترن به من خوف التلف.
المثال الثاني: الصلاة في الدار المغصوبة ليس النهي عنها
لعينها، وإنما المراد بالنهي عما اقترن بها من الغصب، فالنهي
متعلق بالصلاة من جهة اللفظ وبالغصب من جهة المعنى، وهو من
المجاز العرفي لقولهم لا أرينك ههنا، وكقوله تعالى:
{وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، النهي عن الموت باللفظ، وعما يقترن به
ج / 2 ص -21-
من الكفر في المعنى. ومثله قوله:
{وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}، النهي عن الصد للشيطان في اللفظ، للمكلفين في المعنى.
المثال الثاني: النهي عن البيع وقت النداء مع توفر أركانه
وشرائطه ليس نهيا عنه في نفسه، وإنما هو نهي عن التقاعد
والتشاغل عن الجمعة.
المثال الرابع: النهي عن البيع على بيع الأخ مع توفر الشرائط
والأركان، ليس النهي من جهة المعنى عن البيع، وإنما هو نهي عن
الإضرار المقترن بالبيع، وليس النهي عن النجش والسوم على
السوم، والخطبة على الخطبة من هذا القبيل؛ لأنها مناه منفصلة
عن البيع.
المثال الخامس: بيع الحاضر للبادي ليس منهيا عنه لعينه، وإنما
النهي عن الإضرار بالناس.
الحالة الثالثة: ما يتردد بين هذين النوعين كصوم يوم الشك
وأيام التشريق، والصلاة في الأوقات المكروهات، وفيه خلاف مأخذه
أن النهي عنه هل هو لعينه أو لأمر يقترن به.
الحال الرابعة: أن ينهى عما لا يعلم أنه لاختلال الشرائط
والأركان أو لأمر مجاوز فهذا أيضا مقتض للفساد حملا للفظ على
الحقيقة، ومثاله نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى
يجزئ فيه الصاعان.
الحال الخامسة: أن ينهى عن الشيء لفوات فضيلة في العبادة فلا
يقتضي الفساد كالنهي عن الصلاة مع مدافعة الأخبثين، فإنه ينهى
عن ذلك؛ لما فيه من تشويش الخشوع، ولو ترك الخشوع عمدا لصحت
الصلاة. وأما نهي الحاكم عن الحكم في حال الغضب الشديد فاحتياط
للحكم، فإذا وقع الحكم بشرائطه وأركانه صح لحصول مقاصده.
|