قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

فصل: في التقدير على خلاف التحقيق
التقدير إعطاء المعدوم حكم الموجود، أو الموجود حكم المعدوم، فأما إعطاء المعدوم حكم الموجود فله أمثلة.
أحدها: إيمان الصبيان في وقت الطفولة فإنهم لم يتصفوا به حقيقة وإنما قدر وجوده وأجري على ذلك الموجود المقدر أحكام الإيمان، وكذلك تقدير الإيمان في حق البالغين إذا غفلوا عنه أو زال إدراكهم بنوم أو إغماء أو جنون.
المثال الثاني: تقدير الكفر في أولاد الكفار مع أنهم لا يتعقلون إيمانا ولا كفرا وتجري عليهم في الدنيا أحكام آبائهم.
المثال الثالث: العدالة مقدرة في العدول إذا غفلوا عنها وزوال إدراكهم بنوم أو إغماء أو جنون.
المثال الرابع: الفسق يقدر في الفاسق مع غفلته عنه أو مع زوال الإدراك.
المثال الخامس: الإخلاص والرياء فإنهما يقدران مع زوالهما، ومن مات على شيء من هذه التقديرات بعثه الله على ما مات عليه فمن غفل عند الموت من المؤمنين عن إيمانه، ومن الكافرين عن كفره، ومن المخلصين عن إخلاصه، ومن المرائين عن ريائه، ومن العدول والفسقة عن عدالته وفسقه ومن المصرين والمقلعين عن إصراره وإقلاعه، لقي الله بذلك المقدر في حقه لقوله عليه السلام:
"يبعث كل عبد على ما مات عليه"

 

ج / 2 ص -96-         المثال السادس: تقدير النيات في العبادات مع عزوبها والغفلة عنها.
المثال السابع: تقدير العلوم للعلماء مع غيبتها عنهم، فيقدر الفقه في الفقيه مع غفلته عنه، وكذلك الشعر في الشاعر، والطب في الطبيب وعلم الحديث في المحدث.
وأما نبوة الأنبياء فقد جعل النبي بمعنى المنبئ عن الله فإنه يقدرها في حال سكوت النبي عن الإنباء وتحققها في حال ملابسة الإنباء، ومن جعل النبي بمعنى المنبئ المخبر كانت النبوة عبارة عن تعلق إنباء الله به وليس ذلك وصفا حقيقيا، فإن متعلق الخطاب لا يستفيد صفة حقيقية من تعلق الخطاب.
المثال الثامن: تقدير الصداقة في الأصدقاء والعداوة في الأعداء والحسد في الحساد مع الغفلة عنها وفي حال النوم والغشي.
فإن قيل: ما معنى وقوله تعالى:
{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} فالجواب أن الحسد الحكمي لا يضر المحسود لغفلة الحاسد عنه، والحسد الحقيقي هو الحاث على أذية المحسود، فقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} صالح للحسد الحكمي والحقيقي قال: {إِذَا حَسَدَ} تخصيصا للحسد الحقيقي الذي هو مظنة الأذى بالاستعاذة فإن الحكمي لا ضرر فيه.
المثال التاسع: صوم المتطوع من أول النهار إذا نواه قبل الزوال على رأي من يراه صائما من أول النهار.
المثال العاشر: إذ باع سارقا فقطع في يد المشتري ففي تقدير القطع في يد البائع مذهبان، فإن قدر قطعه في يد البائع ثبت الرد للمشتري وإلا فلا.
المثال الحادي عشر: إذا باع عبدا مرتدا فقتل بالردة في يد المشتري ففي تقدير القتل في يد البائع وجهان، فإن قدرناه في يد البائع بطل البيع ورجع بجميع الثمن وإلا فلا.
المثال الثاني عشر: الذمم وهي تقدير أمر الإنسان يصلح للالتزام والإلزام من غير تحقق له.

 

ج / 2 ص -97-         المثال الثالث عشر: الديون فإنها تقدر موجودة في الذمم من غير تحقق لها ولا لمحلها، ويدل على تقديرها وجوب الزكاة فيها، ولو لم يقدر وجودها لما وجبت الزكاة في معدوم، ولا يقال إنما وجبت الزكاة فيها لأنها تفضى إلى الوجود بقبضها، فإن الدين إذا كان على غني ملي وفي مقر حاضر يدفعه متى طولب به ومضت عليه أحوال على هذه الصفة ثم تعذر أخذه بعد ذلك بموت المدين معسرا فإن مالكه يطالب بزكاة ما مضى وإن لم يفض أمره إلى التحقق والوجود.
المثال الرابع عشر: تقدير الذهب والفضة في عروض التجارة، فإنه لو ملك نصابا من الذهب أو الفضة ستة أشهر ثم اشترى بها عروضا للتجارة ومضى على العروض ستة أشهر فإن الزكاة تلزمه تقديرا لبقاء الذهب والفضة في العروض، وكذلك لو اشترى العرض للتجارة بما لا زكاة فيه فإنا نقدر نقد البلد في النصاب.
المثال الخامس عشر: تقدير الملك في المملوكات فإنه ليس أمرا حقيقيا قائما بالمملوك؛ وإنما هو مقدر فيه لتجرى عليه أحكامه، وكذلك الرق والحرية مقدران في الأحرار وليسا بصفة حقيقية للأحرار والعبيد، وإنما رجع الملك والرق والحرية إلى تعلق أحكام مخصوصة بهذه المحال، وكذلك الزوجية في الزوجين أمر مقدر يتعلق به أحكام خاصة.
وأما إعطاء الموجود حكم المعدوم فله مثالان - أحدهما وجود الماء يحتاج إليه المسافر لعطشه أو لقضاء دينه، أو لنفقة ذهابه وإيابه، أو لزيادة ثمنه على ثمن مثله، أو بهبة ثمنه منه، فإنه يقدر معدوما مع وجوده.
المثال الثاني: وجود المكفر الرقبة مع احتياجه إليها واعتماده عليها فإنها تقدر معدومة لينتقل إلى بدلها.
ومن التقديرات: إعطاء المتأخر حكم المتقدم كمن رمى سهما أو دهور حجرا ثم مات فأصابا بعد موته شيئا فأفسداه فإنه يلزمه ضمانه تقديرا

 

ج / 2 ص -98-         لإفساده قبيل موته. وكذلك لو حفر بئرا في محل عدوانا فوقع فيها إنسان بعد موته وجب ضمانه، فإن كانت له تركة صرفت في ذلك، فإن أتلفها الورثة لزمهم ضمانها وتصرف في ذلك، وإن لم يخلف شيئا بقيت الظلامة إلى القيامة.
ومن التقديرات: إعطاء الآثار والصفات حكم الأعيان الموجودات كالمفلس إذا قصر الثوب المبيع فهل يكون قصره كصبغه فيه قولان: فإن جعلناه كصبغه كان ذلك تقديرا للمعدوم موجودا، واعلم أنه لا يعرى شيء من العقود والمعاوضات من جواز إيراده على معدوم، فإن البيع قد يكون مقابلة عين بعين، وقد يكون مقابلة عين بدين، وقد يقابل الدين بالدين ثم ينفع التقابض في المجلس وكلاهما عند العقد معدوم.
وأما الإجارة فإن قوبلت المنفعة بمنفعة كان العوضان معدومين، وإن قوبلت بعين كانت المنافع معدومة.
وأما السلم فمقابلة معدوم بموجود إن كان رأس المال عينا، أو بدين يقبض في المجلس إن كان رأس السلم دينا.
وأما القرض فمقابلة موجود بمعدوم.
وأما الوكالة فإذن في معدوم.
وأما المضاربة فعمل العامل فيها معدوم وكذلك الأرباح.
وأما المساقاة والمزارعة المتفق عليهما فمقابلة معدوم بمعدوم، فإن عمل الفلاح معدوم ونصيبه من الثمر والزرع معدوم، فإن وقعت المساقاة على الثمر بعد وجوده في الصحة خلاف.
وأما الجعالة فإن عين الجعل كان مقابلة معلوم بمعدوم، وإن لم يعينه كان مقابلة معدوم بمعدوم كذا.
وأما الوقف فهو تمليك لمنافع معدومة وفوائد معقودة تارة لموجود وتارة

 

ج / 2 ص -99-         لمفقود، وتمليك المفقود أعظم أحوال الوقف، فإن المستحقين الموجودين وقت الوقف إذا انقرضوا صارت الغلات والمنافع المعدومة مستحقة بالوقف إلى يوم القيامة، فالأغلب عليه تمليك المعدوم للمعدوم إذ لا تتم مصلحته إلا لذلك، ومصلحته في العاجل للموقوف عليهم، وفي الآجل للموقفين جارية عليهم إلى يوم الدين.
وأما الرهن فلا يصح إلا على دين معلوم، وهل يشترط فيه أن يكون عينا أو يجوز على الدين كما يجوز على العين؟ فيه خلاف يجري في هبة الديون.
وأما الوصية فتصح بالموجود والمعدوم للموجودين والمعدومين.
وأما العوارى فهي إباحة للمنافع وهي معدومة.
وأما تمليك الملتقط اللقطة بعد انقضاء الحول فهو مقابلة موجود بمعدوم وأما الودائع فحفظها معدوم في ابتدائها ثم يوجد شيئا فشيئا.
وأما النكاح فإن كان تفويضا كان ذلك تمليكا لمنافع البضع وإباحة لأمر معدوم، وإن كان بصداق معين كان ذلك تمليكا لمعدوم بموجود، وإن كان الصداق في الذمة كان تمليكا لمعدوم بمعدوم، وكذلك ما يجب عليه من النفقة والكسوة والسكنى مله معدوم مقدر في ذمته قبل تسليمه كسائر الديون وأما ما يجب على المرأة من التمكين والطواعية ولزوم المسكن فكله معدوم.
وأما ضمان الديون فالتزام لمعدوم، فإن قيل: إذا كان المضمون مائتين فهل يثبت في ذمة الضامن فيصير للمالك أربعمائة يزكيها بعشرة دراهم؟ قلنا: المختار أن المائتين لا تثبت في ذمة الضامن، وإنما تستحق مطالبته وإبراؤه؛ويحتمل أن تثبت المائتين في ذمته، ولا يثبت لها جميع أحكام الديون.
وأما الحوالة فتتعلق بدين في مقابلة دين، وهي معاوضة على رأي، وقبض مقدر على رأي، والأظهر أنها من الأحكام المركبة فيثبت لها حكم القبض. من وجه، وحكم المعاوضة من وجه.

 

ج / 2 ص -100-       وأما الصلح فلا يخرج عن كونه بيعا أو إجارة أو إبراء أو هبة، والعجب ممن يعتقد أن المعاوضة على المعدوم على خلاف الأصل مع أن الشريعة طافحة بها في جميع التصرفات، بل الأمر والنهي والإباحة لا تتعلق إلا بكسب معدوم، وكذلك معظم النذور والوعود لا تتعلق إلا بمعدوم.

قاعدة فيما يقبل من التأويل وما لا يقبل
من ذكر لفظا ظاهرا مع الأدلة على شيء ثم تأوله لم يقبل تأويله في الظاهر إلا في صورة يكون إقراره فيها مبنيا على ظنه، فإقرار المرأة بنفي الرجعة، وإقرار المشتري في الخصام بأن المبيع ملك البائع، فإن تأويلهما مقبول ولا نحكم عليهما بظاهر إقرارهما، إذا تأولاه لأن رجوعهما لا يناقضه من جهة أن إقرارهما لا محل له إلا ظنهما، وليس تكذيب الظن بمناقض لتحقق الظن، فكأنه قال أظن كذا وكذا ثم كذب ظني. وكذلك قول السيد لمكاتبه إذا أدى النجوم اذهب فأنت حر ثم ظهرت النجوم مستحقة، فإنه لا يعتق إذا تأول قوله بأنه بناه على أنه عتق بأداء النجوم، ونحوه إذا شهد أنه لا وارث له سوى فلان ثم ظهر له وارث آخر فإن شهادته لا تبطل إلا في الحصر، لأنه أسند شهادته بذلك إلى ظاهر ويبقى الحصر فيما وراء ذلك ولذلك نظائر أخر.
وأما قبوله في الباطن فله أحوال: إحداها أن يكون اللفظ قابلا لتأويله من جهة اللغة فيقبل منه في الفتيا ولا يقبل في الحكم، فلو طلق بصحيح اللفظ ثم قال أردت بذلك طلاقا من وثاق لم يقبل في الحكم ولا يسع امرأته أن تصدقه في ذلك كما لا يسع الحكم تسليمها لأنهما متعبدان في العمل بالظاهر، وإن صدقته لم يعتبر تصديقها لما لله في تحريم الأبضاع من الحق، وكذا لو قال لأمته أنت حرة ثم قال أردت حرية النفس والأخلاق لم يقبل ولا يسعها أن تسلم نفسها إليه ولا أن تدع الحقوق الواجبة لله على الحرائر، وكذلك العبد لا يسعه تصديقه ولا يسقط عنه ما يجب لله من الحقوق على الأحرار، كالجمعة والجهاد وغير ذلك
 

 

 

ج / 2 ص -101-       مما يكلف به الأحرار، لأن إقراره بالحرية يتضمن وجوب ذلك عليه، ومن أقر بحق لغيره ثم رجع عنه لم يقبل رجوعه إلا أن يصدقه المستحق، ولا عبرة بما ذكره في الحاوي في مثل هذا.
الحال الثانية: أن ينوي ما لا يحتمله لفظه من جهة اللغة مثل أن ينوي بالطلاق والعتاق الأمر بالأكل والشرب فلا يقبل منه ظاهرا ولا باطنا ويلزم بصريح لفظه في الطلاق والعتاق وغيرهما.
الحال الثالثة: أن ينوي وضع اللفظ اللغوي على ما لا يحتمله في اللغة ففيه خلاف يعبر عنه بالوضع الخاص كمن يعبر بالألفين عن الألف في مسألة السر والعلانية.
الحال الرابعة: أن ينوي ما يحتمله لفظه في اللغة احتمالا ظاهرا لكنه لا يقبل منه لا ظاهرا ولا باطنا، بل يكون وجوده كعدمه ويجري اللفظ على مقتضاه في اللغة. مثاله: إذا حلف المدعى عليه متأولا ليمينه أو معلقا لها على المشيئة وهو مبطل لذلك، ولا عبرة بنيته لما تؤدي إليه من إبطال فائدة الأيمان، فإنها إنما شرعت ليهاب الخصم الإقدام عليها خوفا من الله عز وجل، فلو صح تأويله واعتبرت نيته بطلت هذه الفائدة وفات بسببها حقوق كثيرة واستحلت بذلك الأموال والأبضاع، فإذا حلف ما طلقها أو ما أعتقها أو ما بعته أو ما قتلته وما قذفته وتأول يمينه بما يصح في اللغة مبطلا في ذلك كله لانتهكت حرمة الأبضاع والدماء والأعراض والأموال، ولبيع الأحرار ولزني بالنساء، فلما جر اعتبار تأويله هذا الفساد العظيم سقط تأويله فاستثني هذا من قاعدة النية التي يحتملها اللفظ، ولو ادعى عليه بحق وهو معسر به فقال المدعى عليه لا يستحقه علي وتأول يمينه بأنه لا يستحقه علي الآن صح تأويله ولا يؤاخذ بيمينه لأن اعتبار تأويله ههنا لا يؤدي إلى شيء من المفاسد التي ذكرناها بل خصمه ظالم بمطالبته إن كان عالما بعسره أو مخطئ بمطالبته إن كان جاهلا بعسره فلا تغير القواعد لخطأ المخطئين ولا لظلم الظالمين، بخلاف التأويل بغير حق، لأنه لو كان

 

ج / 2 ص -102-       معتبرا لكان مؤديا إلى المفاسد التي ذكرنا وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "اليمين على نية المستحلف يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك"، يريد بالمستحلف الحاكم وبالصاحب الخصم. وكذلك اليمين في اللعان إذا تأولها أحد الزوجين لم يصح تأويله ولا تعتبر نيته لما يؤدي إليه من إبطال حق القذف في الرجل وإبطال حد الزنا في حق المرأة. وكذلك يمين المدعين في أيمان القسامة وفي رد الودائع وتلفها.

فصل: فيمن أطلق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه
إذا نطق الأعجمي بكلمة كفر أو أيمان أو طلاق أو إعتاق أو بيع أو شراء أو صلح أو إبراء لم يؤخذ بشيء من ذلك لأنه لم يلتزم مقتضاه، ولم يقصد إليه وكذلك إذا نطق العربي بما يدل على هذه المعاني بلفظ أعجمي لا يعرف معناه فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك لأنه لم يرده. فإن الإرادة لا تتوجه إلا إلى معلوم أو مظنون، وإن قصد العربي بنطق شيء من هذه الكلم مع معرفته بمعانيها نفذ ذلك منه، فإن كان لا يعرف معانيها مثل أن قال العربي لزوجته أنت طالق للسنة أو للبدعة وهي حامل بمعنى اللفظين، أو نطق بلفظ الخلع أو غيره أو الرجعة أو النكاح أو الإعتاق وهو لا يعرف معناه مع كونه عربيا فإنه لا يؤاخذ بشيء من ذلك إذ لا شعور له بمدلوله حتى يقصد إلى اللفظ الدال عليه، وكثيرا ما يخالع الجهال من الذين لا يعرفون مدلول اللفظ للخلع ويحكمون بصحته للجهل بهذه القاعدة.
[فائدة] اللفظ محمول على ما يدل عليه ظاهره في اللغة أو عرف الشرع أو عرف الاستعمال، ولا يحمل على الاحتمال الخفي ما لا يقصد أو يقترن به دليل، فمن حلف بالقرآن لم تنعقد يمينه عند النعمان لأنه ظاهر في هذه الألفاظ في عرف الاستعمال، ولا سيما في حق النساء والجهال الذين لا يعرفون كلام النفس ولا يخطر لهم ببال، وخالف الشافعي ومالك في قولهما بعد ولا سيما فيمن حلف بالمصحف عند أصحاب

 

ج / 2 ص -103-       مالك، فإنه لا يخطر بباله الكلام القديم ولا التجوز بالمصحف عنه بل الحلف به كالحلف بالكعبة.
[فائدة] تعليق التصرف على المشيئة ضربان: أحدهما أن يجزم بما علقه تعلق ما جزم به على المشيئة فهذا مفوض إلى مشيئة الله فيما جزم به، فيصح تصرفه لأنه جزم به ولم يشك، وإنما اعترف بأن ما جزم به لا يتم إلا بمشيئة الله وهذا التصرف نافذ لا إشكال فيه.
الضرب الثاني: أن لا يجزم بالتصرف بل يعلقه على المشيئة مترددا في إيقاعه وتحققه فهذا تصرف غير نافذ لأنه لم يجزم ولم يقصد إليه، فإذا أطلق العامي ذلك واستثنى فيه احتمل أن يطلقه شاكا، واحتمل أن يطلقه جازما مفوضا، فعندي فيه وقفة في وجوب استفصاله عن مراده، والذي يظهر لي أن الأغلب على الناس هو الجزم، والشك نادر، فإن تعليق التفويض أغلب من تعليق الترديد.

فصل: فيما أثبت على خلاف الظاهر وله أمثلة
أحدها: إذا ادعى البر التقي الصدوق الموثوق بعدالته وصدقه على الفاجر المعروف بغصب الأموال وإنكارها أنه غصبه درهما واحدا وأنكر المدعى عليه فالقول قول المدعى عليه مع ظهور صدق المدعي وبعد صدق المدعى عليه.
المثال الثاني: لو ادعى هذا الفاجر على هذا التقي وطلب يمينه حلفناه مع أن الظاهر كذبه في دعواه.
المثال الثالث: إذا أتت الزوجة بالولد لدون أربع سنين من حين طلقها الزوج بعد انقضاء عدتها بالأقراء فإنه يلحقه مع أن الغالب الظاهر أن الولد لا يتأخر إلى هذه المدة.
فإن قيل: إنما لحقه لأن الأصل عدم الزنا وعدم الوطء بالشبهة والإكراه، قلنا وقوع الزنا أغلب من تأخر الحمل إلى أربع سنين إلا ساعة واحدة وكذلك الإكراه والوطء بالشبهة ولا يلزم على ذلك حد الزنا فإن الحدود تسقط

 

ج / 2 ص -104-       بالشبهات، بخلاف إلحاق الأنساب فإن فيه مفاسد عظيمة منها جريان التوارث ومنها نظر الولد إلى محارم الزوج، ومنها إيجاب النفقة والكسوة والسكنى، ومنها الإنكاح والحضانة.
المثال الرابع: إذا أتت بولد لستة أشهر من حين تزوجها فإن الولد يلحقه مع ندرة الولادة بهذه المدة.
المثال الخامس: لو زنى بها إنسان ثم تزوجت وأتت بولد لتسعة أشهر من حين الزنا ولستة أشهر من النكاح والزوج ينكر الوطء فإنا نلحقه بالزوج مع ظهور صدقه بالأصل والغلبة ومع ظهور كونه من الزاني بوضعه على تسعة أشهر، لكن الزوج يمكن أن يدفع هذا عن نفسه باللعان، وإنما المشكل أن يلزم بضرر لا يمكن دفعه عن نفسه.
المثال السادس: لو وطئ أمته ثم استبرأها بقرء ثم أتت بتسعة أشهر من حين الوطء فإنه لا يلحقه عند الشافعي وهذا مشكل من جهة أن الأمة فراش حقيقي، وهذه مدة غالبة فكيف لا يلحقه الولد لفراش حقيقي مع غلبة المدة، ويلحق بإمكان الوطء في الزوجة مع قلة المدة أو ندرة الولادة في مثلها؟ وقد خالف بعض أصحابه في ذلك وهو متجه.
[فائدة] قد يظن بعض الأغبياء أن الولد لا يلحق إلا لستة أشهر وهو خطأ لأن الولد يلحق بدون ذلك فلو جنى على الحامل فأجهضت جنينا ميتا لدون ستة أشهر فإنه يلحق بأبويه وتثبت الغرة لهما، وكذلك لو أجهضته بغير جناية لكان مؤنة تكفينه وتجهيزه على أبيه وإنما يتقيد بالأشهر الولد الكامل دون الناقص.
المثال السابع: إذا قال له علي مال عظيم فإن الشافعي يقبل تفسيره بأقل ما يتمول وهذه خلاف ظاهر اللفظ، وعلل الشافعي مذهبه بأن العظيم لا ضابط له لأنه يختلف باختلاف همم الناس، فقد يرى الفقير المدقع الدينار عظيما بالنسبة

 

ج / 2 ص -105-       إليه والغني المكثر قد لا يرى المئين عظيمة بالنسبة إلى غنائه، فلما لم يكن للعظمة ضابط يرجع إليه رجع الشافعي إلى ما يحتمله اللفظ في اللغة حملا للعظمة على الصفة بكونه حلالا أو خالصا من الشبهة ولا يخفى ما في هذا من مخالفة الظاهر، ومن العلماء من حمل ذلك على النصاب الزكوي وهو بعيد أيضا من جهة أن العظمة نسبية ولم يستعمل الشرع لفظها في نصب الزكاة، وكيف يحمل قول فقير يعتقد أن الدينار عظيم على عشرين دينارا ويحمل قول الخليفة الذي يعتقد أن المئين حقيرة والقنطار عظيم على عشرين دينارا والمخرج من هذا صعب.
المثال الثامن: إذا قال لرجل أنت أزنى الناس أو قال أنت أزنى من زيد فظاهر هذا اللفظ أن زناه أكثر من زنا زيد وأكثر من زنا سائر الناس وقال الشافعي: لا حد عليه حتى يقول أنت أزنى زناة الناس، وفلان زان وأنت أزنى منه وفي هذا بعد من جهة أن المجاز قد غلب على هذا اللفظ، فيقال فلان أشجع الناس، وأسخى الناس، وأعلم الناس، وأحسن الناس، والناس كلهم يفهمون من هذا اللفظ أنه أشجع شجعان الناس، وأسخى أسخياء الناس، وأعلم علماء الناس، وأحسن حسان الناس، والتعيير الذي وجب الحد لأجله حاصل بهذا اللفظ فوق حصوله بقوله أنت زان.
المثال التاسع: أن القرآن يطلق على الألفاظ المتداولة الدالة على الكلام القديم، ويطلق على الكلام القديم الذي هو مدلول الألفاظ، واستعماله في الألفاظ أظهر وأغلب من استعماله في مدلولها، فإذا حلف بالقرآن فقد حمله أبو حنيفة على الألفاظ فلم يحكم بانعقاد يمينه، وحمله الشافعي ومالك على الكلام القديم وهو خلاف الظاهر من استعمال اللفظ وأبعد من ذلك تحنيث الحالف بالمصحف إذا خالف موجب يمينه.
المثال العاشر: إذا قال لامرأته إذا رأيت الهلال فأنت طالق فرآه غيرها طلقت عند الشافعي حملا للرؤية على العرفان، وهذا على خلاف الوضع وعرف

 

ج / 2 ص -106-       الاستعمال، وخالفه أبو حنيفة في ذلك، واستدل الشافعي بصحة قول الناس رأينا الهلال، وإن لم يروه كلهم: وجوابه أن قول الناس: رأينا الهلال من مجاز نسبة فعل البعض إلى الكل، كقول امرئ القيس: وإن تقتلونا نقتلكم معناه وإن تقتلوا بعضنا نقتلكم، وكذلك قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا}، وإنما قتله بعضهم وادارءوا فيه، وكذلك وقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فنسب المعاهدة إلى الجماعة مع تفرده صلى الله عليه بها، فليس ما استدل به الشافعي بمجاز لمحل النزاع، فإن مجاز محل النزاع لا يشهد لما ذكره الشافعي، فإنه علقه على نفس رؤيتها وهي واحدة لا ينسب إليها ما وجد في غيرها، فاستدل بنوع من المجاز على نوع آخر لا يناسبه ولا يوافقه.
المثال الحادي عشر: لو ادعى السوقة على الخليفة أو على عظيم من الملوك أنه استأجره لكنس داره وسياسة دوابه، فإن الشافعي يقبله وهذا في غاية البعد ومخالفة الظاهر، وخالفه بعض أصحابه في ذلك وخلافه متجه لظهور كذب المدعي. والقاعدة في الأخبار من الدعاوى والشهادات والأقارير وغيرها أن ما كذبه العقل أو جوزه وأحالته العادة فهو مردود. وأما ما أبعدته العادة من غير إحالة فله رتب في البعد والقرب قد يختلف فيها، فما كان أبعد وقوعا فهو أولى بالرد، وما كان أقرب وقوعا فهو أولى بالقبول، وبينهما رتب متفاوتة.
المثال الثاني عشر: إذا ادعى الصدوق اللهجة أنه أدى ما عليه من دين أو عين إلى ربه وهو فاجر كذاب فأنكره لم يقبل قوله.
المثال الثالث عشر: إذا تعاشر الزوجان على الدوام مدة عشرين سنة فادعت عليه أنه لم ينفق عليها شيئا ولم يكسها شيئا فالقول قولها عند الشافعي مع مخالفة هذا الظاهر في العادة.
المثال الرابع عشر: قول أبي حنيفة إذا قال لامرأة بحضرة الحاكم إن تزوجتك

 

ج / 2 ص -107-       فأنت طالق ثم قبل نكاحها من الحاكم بإذنها، فإن الطلاق يقع عقيب النكاح ولو أتت بولد لستة أشهر لحقه، وهذا خروج عن العادة بالكلية وهو أبعد من قوله في المشرقي والمغربية، إلا أنه يوجب اللعان على الزوج وفيه إشكال إذ لا يجب الأيمان في الشرع على من يقطع بصدقه.