قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال
منزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق وغيرهما وله
أمثلة
أحدها:
التوكيل في البيع المطلق فإنه يتقيد بثمن المثل وغالب نقد بلد
البيع تنزيلا للغلبة منزلة صريح اللفظ، كأنه قال للوكيل بع هذا
بثمن مثله من نقد هذا البلد إن كان له نقد واحد، أو من غالب
نقد هذا البلد إن كان له نقود، ويدل على هذا أن الرجل إذا قال
لوكيله: بع داري هذه فباعها بجوزة فعند أهل العرف أن هذا غير
مراد ولا داخل تحت لفظه، وكذلك لو وكله في بيع جارية تساوي
ألفا فباعها بتمرة، فإن العقلاء يقطعون بأن ذلك غير مندرج في
لفظه لاطراد العرف بخلافه.
المثال الثاني: حمل الإذن في النكاح على الكفء ومهر المثل هو
المتبادر إلى الأفهام، بدليل أنه إذا قال من هو أشرف الناس
وأفضلهم وأغناهم لوكيله وكلتك في تزويج ابنتي، فزوجها بعبد
فاسق مشوه الخلق على نصف درهم فإن أهل العرف يقطعون بأن ذلك
غير مراد باللفظ، لأن اللفظ قد صار عندهم مقيدا بالكفء ومهر
المثل، ولا شك أن هذا طارئ على أصل الوضع.
المثال الثالث: إذا وكله في إجارة داره سنة، وأجرة مثلها ألف
فأجرها بنصف درهم فإن الإجارة لا تصح لما ذكرناه في البيع، ولو
قال لامرأته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فإن الإعطاء يتقيد
بالفور للعرف في ذلك. وكذلك، إذا قال لامرأته إن شئت فأنت طالق
فإن المشيئة تتقيد بالفور
ج / 2 ص -108-
للعرف في ذلك تنزيلا للاقتضاء العرفي منزلة الاقتضاء اللفظي،
والعرف في هذين دون العرف في التقييد بالقيمة ونقد البلد في
البيع والإجارة.
المثال الرابع: إذا باع ثمرة قد بدا صلاحها فإنه يجب إبقاؤها
إلى أوان جدادها، والتمكين من سقيها بمائها لأن هذين مشروطان
بالعرف فصار كما لو شرطاهما بلفظه.
فإن قيل: لو باع ماشية وشرط سقيها أو علفها على البائع أو شرط
إبقاءها في ملك البائع مدة فإن ذلك لا يصح فلم صح هذا الاشتراط
ههنا؟
قلنا لأن الحاجة ماسة إليه وحاملة عليه فكان من المستثنيات عن
القواعد تحصيلا لمصالح هذا العقد.
المثال الخامس: حمل الودائع والأمانات على حرز المثل فلا تحفظ
الجواهر والذهب والفضة بإحراز الثياب والأحطاب تنزيلا للعرف
منزلة تصريحه بحفظها في حرز مثلها.
المثال السادس: حمل الصناعات على صناعة المثل في محلها، فإذا
استأجر الخياط لخياطة الكرباس الغليظ والبز الرفيع كالديبقي
فإنه يحمل في كل واحدة منهما على مثله في العادة، فلو خاط
الديبقي خياطة الكرابيس لم يستحق شيئا تنزيلا للفظ منزلة
التصريح بخياطة المثل. وكذلك الاستئجار على الأبنية يحمل في كل
مبنى على البناء اللائق بمثله من حسن النظم والتأليف وغيرهما.
وكذلك الاستئجار على الطبخ والخبز يحمل على إنضاج المثل دون ما
تجاوزه أو قصر عنه، فإذا ترك الخبز في التنور على ما جرت
العادة في مثله فاتفق أنه احترق لم يلزمه الضمان تنزيلا لمقتضى
العرف منزلة صريح اللفظ، ولو صرح له ذلك بلفظه لم يلزمه ضمان
لأنه أتلفه بإذنه، فكذلك الإتلاف بالإذن العرفي منزل منزلة
الإتلاف بالإذن اللفظي. وكذلك حمل إجارة الدواب على اليسير
المعتاد والمنازل المعتادة، وكذلك دخول حمل الأمتعة والبسط
وأواني
ج / 2 ص -109-
الطعام والشراب في الإجارة على الدواب إذا استؤجرت للركوب في
الأسفار لإطراد العرف بذلك، بخلاف ما لو استؤجرت للتردد في
القرى والأمصار. وكذلك دخول ماء الآبار والأنهار في عقود
الإجارات وإن لم تشترط لاطراد العرف بتبعيته، وكذلك حمل إجارة
الخدمة على ما يليق بالمستأجر المخدوم في رتبته ومنصبه وقدر
حاله واختلف في وجوب الحبر على الناسخ، والخيط على الخياط
لاضطراب العرف فيه. وكذلك ما يستثنى من المنافع بحكم العرف
كأوقات الصلاة، وأوقات الأكل والشرب، وقضاء الحاجات والليل
فإنه مستثنى من مدة الاستئجار للخدمة، إلا الأوقات التي جرت
العادة بالاستخدام فيها فإن الألفاظ منزلة عليها كأنه صرح بها
من جهة أن دلالة العرف عليها كدلالة اللفظ، ونظير ذلك في
العبادة خروج المعتكف من معتكفه في أوقات قضاء الحاجات، حتى
كأنه قال أعتكف شهرا إلا أوقات قضاء الحاجات. وإذا وقعت
الإجارة على مدة معينة كان عمل الأجير محمولا على المتوسط في
العرف من غير خروج على العادة في التباطؤ والإسراع.
المثال السابع: توزيع القيمة على الأعيان المبيعة في الصفقة
الواحدة وعلى المنافع المختلفة المستحقة بإجارة واحدة. مثاله
في البيوع: إذا اشترى جارية تساوي ألفا وأخرى تساوي خمسمائة
بتسعمائة فإنا نقابل التي تساوي ألفا بستمائة والتي تساوي
خمسمائة بثلاثمائة، ومثاله في الإجارة إجارة منازل مكة فإن
الشهر منها في أيام الموسم يساوي عشرة، وبقية السنة تساوي عشرة
فيقابل شهر الموسم بنصف الأجرة، وبقية السنة بما بقي منها، فإن
أهل العرف يبذلون أشرف الثمن في أشرف المثمن، وأرذله في أرذله
ويقابلون النفيس بالنفيس والخسيس بالخسيس، وكذلك في الإجارات.
ولا يشك عاقل أن من اشترى خرزة ودرة بألف في أنه بذل في الدرة
أكثر الثمن وفي الخرزة أقله، وأن من استأجر دارا خسيسة مع دار
نفيسة أو استأجر دابة فارهة مع دابة بطيئة أو استأجر سيفا
قاطعا وسيفا كالا،
ج / 2 ص -110-
أنه بذل أكثر الأجرة في أكثر ذلك منفعة وأقل الأجرة في أقل ذلك
منفعة. ولهذه القاعدة امتنعت مسألة مد عجوة، ومسألة المراطلة،
وكذلك أخذ الشقص بما يخصه من الثمن بناء على هذه القاعدة، وجاز
لمن اشترى عبدين بثمن أن يوزع الثمن على قيمتهما ثم يخبر أنه
اشترى كل واحد منهما بما يقتضيه التوزيع على القيمة. وأما ما
ذكره بعض العلماء في مسألة مد عجوة من مقابله الربوي بمثله من
الربوي فبعيد إذ لا يخطر ما ذكره على بال أحد من المتعاقدين،
بخلاف الحمل على التوزيع فإنه غالب مفهوم.
فإن قيل: وضع العقود على أن يكون العوض في مقابلة المقصود، وأن
تتوزع أجزاء العوض على أجزاء المقصود، فإذا مات الأجير في
أثناء الحج فهلا تسقط جميع أجرته لأنه لم يحصل شيئا من مقصود
المحجوج عنه؟
قلنا: إن جوزنا البناء على ما فعله الأجير فقد حصل الأجير أجرة
المقصود، وإن لم نجوز ذلك ففيه قولان
أحدهما: لا يستحق شيئا وهو القياس، إذ لم يحصل شيئا من مقصود
المستأجر، لأن مقصوده براءة الذمة من الحج، ولم تبرأ الذمة من
شيء من أركان الحج، بخلاف غيره من الإيجارات فيمن استأجر لبناء
حائط فبنى شطره، أو لطحن حنطة فطحن بعضها، أو لخياطة ثوب فخاط
بعضه، أو لكتابة مصحف فكتب بعضه فإنه قد حصل بعض مقصود
المستأجر - والأجير في الحج لم يحصل شيئا من مقصود المستأجر -
وإن أتى بمعظم أركان الحج. فيشبه ما لو رد عامل الجعالة العبد
الآبق من مسيرة شهر إلى باب دار الجاعل فهرب منه قبل تسليمه
إلى الجاعل، فإنه لا يستحق شيئا اتفاقا لأنه لم يحصل شيئا من
مقصود الجاعل.
القول الثاني: أن الأجرة توزع على أعمال الحج فيستحق منها بقدر
ما عمل، ويسقط منها بقدر ما ترك، قياسا على سائر الأعمال، وفيه
بعد لأن سائر الأعمال إنما يقسط عليها لاشتمالها على تحصيل بعض
المقصود، وهذه الأعمال لم تحصل
ج / 2 ص -111-
شيئا من المقصود، والعقود مبنية على مراعاة المقصود دون صور
الأعواض، وفي هذا القول نظر إلى مصلحة الأجير لكنه بعيد من
الأقيسة.
المثال الثامن: استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأنهم لا
يعملون إلا بالأجرة إذا استصنعهم مستصنع من غير تسمية أجرة
كالدلال والحلاق والفاصد والحجام والنجار والحمال والقصار،
فالأصح أنهم يستحقون من الأجرة ما جرت به العادة، لدلالة العرف
على ذلك.
المثال التاسع: تقديم الطعام إلى الضيفان إذا أكمل وضعه بين
أيديهم ودخل الوقت الذي جرت العادة بأكلهم فيه فإنه يباح
الإقدام عليه تنزيلا للدلالة العرفية منزلة اللفظية، ولا يجوز
لأحد منهم أن يطعم السنور ولا السائل ما لم يعلم من باذل
الطعام الرضا بذلك، ولا يجوز للأراذل أن يأكلوا مما بين أيدي
الأماثل من الأطعمة النفيسة المخصوصة بالأماثل، إذ لا دلالة
على ذلك بلفظ ولا عرف زاجر عن ذلك.
فإن قيل: إذا أكل الضيف فوق شبعه فهل يحرم عليه من جهة أن
العرف إنما هو الإذن في مقدار الشبع؟ قلت: ينبغي أن لا يحرم
عليه لكونه على خلاف الإذن إذ لا يتقيد الإذن بالعرف بذلك،
وإنما يحرم عليه لأنه مضيع لما أفسده من الطعام لغير فائدة.
فإن قيل: هل يكون هذا إذنا في معلوم أو مجهول، لأن ما قد يأكله
كل واحد من الضيفان مجهول للآذن؟ قلنا: لا يشترط في الإباحة أن
يكون المباح معلوما للمبيح فلو أباح الأكل من ثمار بستانه، أو
منح شاة أو ناقة أو أعار دابة ولم يقيد مدة الانتفاع، أو أعطاه
نخلة يرتفق بثمارها على الدوام جاز ذلك، وهذا مستثنى من الرضا
بالمجهولات لمسيس الحاجة إليه.
فإن قيل: لو كان أحد الضيفان يأكل أكلة مثل عشرة أنفس، ورب
الطعام لا يشعر بكثرة أكله، فهل يجوز له أن يأكل قدر شبعه؟ قلت
لا يجوز له أن يتناول
ج / 2 ص -112-
فوق مايقتضيه العرف في مقدار الأكل لانتفاء الإذن اللفظي
والعرفي فيما جاوز ذلك، وكذلك لو كان الطعام كثيرا فأكل لقما
كبارا مسرعا في مضغها وابتلاعها حتى أكل أكثر الطعام ويحرم
أصحابه لم يجز له ذلك لعدم الإذن العرفي واللفظي فيه، ولنهيه
صلى الله عليه وسلم عن القران في التمر من غير إذن.
فإن قيل: فما حكم مسألة القران؟
قلت لها أحوال: إحداها أن يكون الطعام كثيرا يفضل عن شبع
الجميع فلكل واحد أن يأكل كيف شاء من إفراد أو قران.
الحال الثانية: أن يكون الطعام قليلا سعوها 1 فهذه مسألة النهي
في حق الضيفان وأما صاحب الطعام فله الإفراد والقران، وإن كان
قرانه مخالفا للمروءة وأدب المؤاكلة.
الحال الثالثة: أن يكون الطعام قليلا مشتركا بين الآكلين فهذا
أيضا في معنى النهي عن قران الضيفان.
المثال العاشر: دخول الحمامات والقياسير والخانات إذا افتتحت
أبوابها في الأوقات التي جرت العادة في الارتفاق بها فيها فإنه
جائز، إقامة للعرف المطرد مقام صريح الإذن، ولا يجوز لداخل
الحمام أن يقيم فيه أكثر مما جرت به العادة، ولا أن يستعمل من
الماء أكثر مما جرت به العادة، إذ ليس فيه إذن لفظي ولا عرفي،
والأصل في الأموال التحريم ما لم يتحقق السبب المبيح.
المثال الحادي عشر: الدخول إلى دور القضاة والولاة في الأوقات
التي جرت العادة: بالدخول فيها بعد فتح أبوابها للحكومات
والخصومات وكذلك الجلوس فيها على حصرها وبسطها إلى انقضاء حاجة
الداخل إليها، فإذا أراد أن يقيم إلى قضاء حاجته إقامة طويلة
أو أراد من لا حاجة له الدخول للتنزه أو للوقوف على ما يجري
للخصوم، فالأظهر جوازه لجريان العادة بمثله.
المثال الثاني عشر: الدخول إلى المدارس للإذن العرفي فيه، ولا
يجوز
ـــــــــــــــــــ
1 هكذا بالأصل.
ج / 2 ص -113-
الدخول إلى الكنائس بغير إذن لانتفاء الإذن العرفي واللفظي،
فإنهم يكرهون دخول المسلمين إليها.
المثال الثالث عشر: دخول الدور بإخبار الصبيان عن إذن رب الدار
في الدخول جائز على الأظهر لما اقترن به من بعد جرأتهم على
مالك الدار، وكذلك حمل الهدايا مع الصبيان وإخبارهم بأن مالكها
قد أهداها فإنه يجوز أخذها والارتفاق بها فلو أذن في الدخول
فاسق أو حمل الهدية فاسق فالذي أراه أنه يجوز الإقدام قولا
واحدا لأن قوله مقبول في الشرع معتبر وجرأته أبعد من جرأة
الصبيان، ولا وقفة عندي في المستور، وعلى هذا عمل الناس من غير
إنكار واستثني ذلك لما على المالك من المشقة في مباشرة ذلك
بنفسه، وأصول هذه الشريعة مبنية على أن الأشياء إذا ضاقت
اتسعت.
المثال الرابع عشر: التقاط كل مال حقير جرت العادة أن مالكه لا
يعرج عليه ولا يلتفت إليه، فإنه يجوز تملكه والارتفاق به
لاطراد العادات ببذله.
المثال الخامس عشر: الشرب وسقي الدواب من الجداول والأنهار
المملوكة إذا كان السقي لا يضر بمالكها جائز إقامة للإذن
العرفي مقام الإذن اللفظي. فلو أورد ألفا من الإبل إلى جدول
ضعيف فيه ماء يسير، فلا أرى جواز ذلك فيما زاد على المعتاد
لأنه لا يقتضيه إذن لفظي ولا عرفي، ولو كان الجدول أو النهر
لمن لا يعتبر إذنه كاليتيم والأوقاف العامة أو سقط من يتيم أو
من وقف على المساجد ما لو كان لمالك يعبر إذنه لأبيح، فعندي في
هذا وقفة لأن صريح إذن المستحق لا يؤثر ههنا، فكيف يؤثر ما قام
مقامه من العرف المعتاد ؟
المثال السادس عشر: حمل الألفاظ الحقيقية العربية على مجازها
إذا علمت كلفظ الصلاة والزكاة والصيام والحج والعمرة، وحمل لفظ
الأخبار على الإنشاء، واستعمال الماضي في ألفاظ المعاملات:
كبعت وأجرت وضمنت ووكلت ووهبت وأقرضت ووقفت وتصدقت، وحمل
المستقبل على إنشاء الشهادات
ج / 2 ص -114-
كأشهد بكذا. وكذلك الدعوى في قوله ادعى عليه بكذا لأن أشهد
مردد بين الحال والاستقبال، وهو منصرف إلى الحال بعرف
الاستعمال وكذلك قوله أنت حر وأنت طالق، وضعه أن يكون خبرا عن
أمر محقق ثابت من غير اللفظ، فصار بالعرف بإنشاء للحرية
والطلاق بحيث لا يثبتان إلا مع آخر حروف الكلمة على قول
الأكثرين، أو عقيبه على قول آخرين.
المثال السابع عشر: حمل أوقاف المدارس فيما يستحقه أربابها على
التفاوت بقدر رتبتهم في الفقه والتفقه والإعادة والتدريس.
وكذلك تقديم العمارة مستفاد من الغلة حتى ينزل لفظ الواقف عليه
كما ينزل الموكل على المبيع بثمن المثل من غالب نقد البلد
وكذلك وقت التدريس محمول على البكور لاطراد العرف بذلك، فلو
أراد المدرس أن يذكر الدرس في الليل أو وقت الزوال أو وقت
المغرب منع من ذلك.
المثال الثامن عشر: وجوب الإثابة في سباب الأراذل للأماثل بناء
على العرف الغالب فيه.
المثال التاسع عشر: اندراج الأبنية والأشجار في بيع الدار ولو
لم يصرح البائع بذلك بناء على العرف الغالب فيه واندراجهما في
بيع الأرض، والساحة والعرصة أبعد لأنهما قد يفردان عن الملك في
الساحات والأراضي والعراص، بخلاف الأبنية والديار.
المثال العشرون: دخول ثياب العبد والأمة في بيعهما عند من رآه
لاطراد العرف بذلك.
المثال الحادي والعشرون: التوكيل في أداء الديون يجب على
الوكيل الإشهاد على الأداء بحكم العرف.
المثال الثاني والعشرون: الاعتماد في كون الركاز جاهليا أو غير
جاهلي على العلامات المختصة بإحدى الملتين: فما وجدت عليه
علامات الإسلام كان لقطة واجبة
ج / 2 ص -115-
التعريف، وما كان عليه علامة الجاهلية كان ركازا يجب فيه
الخمس، وما خلا من العلامتين واحتمل أن يكون لكل واحدة من
الطائفتين، فالنص أنه لقطة، وجعله بعضهم كالركاز لعموم قوله
عليه السلام:
"وفي الركاز الخمس".
المثال الثالث والعشرين: إذن الإمام للجلاد في جلد الحدود
والتعزيرات فإنه يحمل على حزب بين حزبين لسقوط بين سقوطين في
زمن بين زمانين وإذا أمر الإمام بالرجم تعين الرجم بالأحجار
المعتادة فلا يجوز بالصخور ولا بالحصيات الصغار ولا يجلد عريان
وإن كان أصل الوضع يدل على ذلك فإن معنى جلده ضرب جلده، كما
يقال رأسه إذا ضرب رأسه، وركبه إذا ضرب ركبته إلا أنه صار بعرف
الاستعمال محمولا على الحائل خلافا لمالك في تجريد الرجال،
ويدل عليه قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} مع انعقاد الإجماع على أن المرأة لا تتجرد فيستعمل اللفظ فيهما
استعمالا واحدا، فكأنه قيل فاضربوا جلد كل واحد منهما فوق
ثوبه.
وأما إشارة الأخرس المفهمة فهي كصريح المقال إن فهمها جميع
الناس، كما لو قيل له كم طلقت امرأتك، فأشار بأصابعه الثلاث،
وكم أخذت من الدراهم؟ فأشار بأصابعه الخمس.
وإن كانت مما يفهمه الناس نزلت منزلة الظواهر، وإن كانت مما
يتردد فيه نزلت منزلة الكنايات، وكذلك من اعتقل لسانه بمرض أو
غيره فقيل له لفلان عليك ألف فأشار برأسه - أي نعم - أو أشار
برأسه إلى فوق أي لا شيء له - وكذا لو قيل له قتلت زيدا؟ وكذلك
كتابته تقوم مقام إشارته
وأما كتابة غيره من القادرين على النطق ففي إقامتها مقام كلامه
قولان.
فصل: في حمل الألفاظ على ظنون مستفادة من
العادات لمسيس الحاجات إلى ذلك وله أمثلة
أحدها: إزفاف العروس إلى زوجها مع كونه لا يعرفها فإنه يجوز له
وطؤها
ج / 2 ص -116-
لأن زفافها شاهد على أنها امرأته لبعد التدليس في ذلك في
العادات.
المثال الثاني: الأكل من الهدي المنحور المشعر بالفلاة جائز
على المختار لدلالة النحر والإشعار القائمين مقام صريح اللفظ
على البذل والإطلاق.
المثال الثالث: الدخول إلى الأزقة والدروب المشتركة جائز للإذن
العرفي المطرد فيه، فلو منعه بعض المستحقين امتنع من الدخول،
ولو كان فيهم يتيم أو مجنون ففي هذا نظر، ولو استند لجدار
إنسان فإن كان استناده مما يؤثر فيه اختلالا أو ميلا أو سقوطا
لم يجز لعدم الإذن اللفظي والعرفي، وإن كان الجدار مما لا يؤثر
فيه الاستناد إليه ألبتة جاز الاستناد إليه للإذن العرفي، فإن
منعه مالكه من الاستناد إليه فقد اختلف في مثل هذا من جهة أنه
عناد محض فيصير بمثابة قوله لا تنظر إلى حسن داري، ولا إلى
نضارة أشجاري، ولا إلى رونق أثوابي ولا إلى كثر أصحابي.
المثال الرابع: طرق باب الدار والإيقاد من السرج والمصابيح كل
ذلك جائز للإذن العرفي.
المثال الخامس: صدقة التطوع يكفي فيها المناولة لأن قرينة حال
الفقير تشهد على أنها صدقة، ولا وجه لقول من شرط فيها اللفظ
لأنه خلاف ما درج عليه السلف والخلف.
المثال السادس: المعاطاة في المحقرات قائمة مقام الإيجاب
والقبول لمن جلس في الأسواق للبيع والشراء لأنها دالة على
الرضا بالمعاوضة دلالة صريح الألفاظ، وكذلك الطائف بالمحقرات.
المثال السابع: إتلاف المشتري المبيع ووطء المشتري الجارية
المبيعة بحضرة البائع فإنه يتنزل منزلة الإمضاء بصريح اللفظ،
ولو وطئها البائع لكان فسخا لدلالته عليه، فإن الغالب من
المسلم لا يقدم على الفجور مع إمكان الوطء الحلال.
ج / 2 ص -117-
المثال الثامن: سكوت الأبكار إذا استؤذن في النكاح فإنه يدل
ظاهرا على الرضا به، إذ لو كرهته لصرحت بالمنع، إذ لا تستحي من
المنع استحياءها من الإذن.
المثال التاسع: الاعتماد في المعاملات والضيافات والتبرعات على
بذل الباذل لأن دلالتها على ملكه واختصاصه ظاهرة في العرف
المطرد.
المثال العاشر: معاملة مجهول الحرية والرشد، وسماع دعواه
وإقراره وأكل طعامه وقبول هديته، وإباحته والدخول في منزله
بناء على أن الغالب في الناس الحرية والإطلاق.
المثال الحادي عشر: الاعتماد على قول المقومين العارفين
بالصفات النفيسة الموجبة لارتفاع القيمة، وبالصفات الخسيسة
الموجبة لانحطاط القيمة لغلبة الإصابة على تقويمهم، وكذلك
الاعتماد على قول الخارصين لغلبة إصابتهم في ذلك حتى لا يكادون
يخطئون.
المثال الثاني عشر: اعتماد المنتسب على ميل طبعه إلى أحد
المتداعين في الانتساب وهذا من أضعف الظنون، ولذلك كان في آخر
رتب الإلحاق عند عدم القائف.
المثال الثالث عشر: الاعتماد على كيل الكائلين ووزن الوازنين
ومساحة الماسحين لغلبة الإصابة في ذلك.
المثال الرابع عشر: الاعتماد في رفع اللقطة على وصف من يصف
وكاءها وعفاصها وقدرها لظهور دلالته على صدقه بأنها ملكه.
المثال الخامس عشر: الاعتماد على أمارات الطهارة والنجاسة وجهة
القبلة.
المثال السادس عشر: حبس المدعى عليه بشهادة مستورين إلى أن
يعدلا لأن الغالب من المستورين العدالة.
المثال السابع عشر: حمل الدعاوى بالأسباب والتصرفات والعقود -
على صحيحها دون فاسدها لغلبة صحيحها وندرة فاسدها.
ج / 2 ص -118-
المثال الثامن عشر: سماع الشهادات بالإقرار مع إهمال الشاهد
ذكر أهلية المقر للإقرار لغلبة الرشد والاختيار على المقرين
المتصرفين.
المثال التاسع عشر: دلالة الاتصال على الاختصاص فإذا حال جدار
بين أرضين، فإذا كانتا لمستحقين خاصين كان الجدار بينهما لأن
اتصاله بملكيهما يدل على أنه لهما، ولو كان حائلا بين الشارع
وبين ملك، أو بين موات وبين ملك، اختص به المالك لأن الطرق
والموات لا تحوط عليها في العادة بخلاف الملكية.
المثال العشرون: دلالة أوضاع الأبنية على اختصاص أحد
المتجاورين كما لو كان بين ملكين جدار متصل بأبنية أحد الملكين
اتصال تداخل وترصيف، فإنه يختص به ذو الترصيف، لأن معه
دلالتين: أحدهما الاتصال، والثاني التداخل والترصيف، ولو تداخل
من أحد طرفيه في ملك أحدهما ومن الطرف الآخر في ملك الآخر
اشتركا فيه لتساويه في الدلالتين.
المثال الحادي والعشرون: الأبواب المشرعة في الدروب المنسدة
دالة على الاشتراك في الدروب إلى حد كل باب منها فيكون الأول
شريكا من أول الدرب إلى بابه الأول، ويكون الثاني شريكا من أول
الدرب إلى بابه الثاني وكذلك الثالث أو الرابع إلى أن يصير
الذي في صدر الدرب شريكا من أول الدرب إلى آخر الأبواب، ويختص
بما وراء آخر الأبواب إلى صدر الدرب على المذهب.
المثال الثاني والعشرون: وجود الأجنحة المشرعة المطلة على ملك
الجار وعلى الدروب المشتركة فإنها دالة على أنها وضعت
باستحقاق. وكذلك القنوات المدفونة تحت الأملاك، والجداول
والأنهار الجارية في أملاك الناس دالة على استحقاقها لأرباب
المياه، لأن صورها دالة على أنها وضعت باستحقاق.
ج / 2 ص -119-
المثال الثالث والعشرون: دلالة الأيدي على الاستحقاق لأنه
الغالب. فإن قيل: هذا ظاهر في بعض المنقولات كثياب الإنسان
الذي هو لابسها وعدد الدواب المشدود عليها، والبر الذي في أيدي
التجار. وأما ما اطردت العادة بإيجاره وخروجه عن يد مالكه إلى
يد مستأجره وكالأراضي والدواب والقياسير والحمامات فإن الغالب
فيها الخروج من يد مالكها؟ قلت: جوابه مشكل واعلم أن البينات
مقدمة على هذه الدلالات، لأن الظن المستفاد من البينات أقوى من
الظن المستفاد من هذه الجهات، والاقرار مقدم على البينة لأن
الظن المستفاد منه أقوى من الظن المستفاد من شهادة الشاهد، لأن
وازع المقر عن الكذب طبعي ووازع الشاهد شرعي. والوازع الطبعي
أقوى من الوازع الشرعي، ولذلك يقبل الإقرار من كل مسلم وكافر
وبر وفاجر لقيام الوازع الطبعي. ولكان كا الوازع عن الكذب
مخصوصا بالمقر كان إقراره حجة قاصرة عليه، وعلى من يتلقى منه
لكونه فرعه، ولما كان الوازع الشرعي عاما بالنسبة إلى جميع
الناس كان حجة عامة فإن خوف الله يزع الشاهد عن الكذب في حق كل
واحد فكان قوله حجة عامة لكل أحد، ولما كان وازع الإقرار عن
الكذب مختصا بالمقر قصر عليه فهو خاص قوي، والشهادة عامة ضعيفة
بالنسبة إلى الإقرار، قوية بالنسبة إلى الأيدي وإلى ما ذكرنا
من الدلالات، وقد أجرى الله تعالى العادة بأن الظنون لا تقع
إلا بأسباب تثيرها وتحركها فمن أسبابها استحضار الأصول، ومن
أسبابها اطراد العادات فيما ذكرناه ومن أسبابها كثرة الوقوع من
غير اطراد، ولا يتصور في الظنون تعارض كما لا يتصور في العلوم،
وإنما يقع التعارض بين أسباب الظنون، وإذا تعارض، وإذا تعارضت
أسباب الظنون فإن حصل الشك لم يحكم بشيء، وإن، وإن وجدنا الظن
في أحد الطرفين حكمنا به، لأن ذهاب مقابله يدل على ضعفه، فمهما
تعارضا سببا ظن، فإن كل واحد منهما
ج / 2 ص -120-
مكذبا للآخر تساقطا كتعارض الخبرين والشهادتين، وإن لم يكذب كل
واحد منهما صاحبه عمل بهما على حسب الإمكان كدابة عليها راكبان
فإنه يحكم بها لهما، لأن كل واحد من اليدين لا تكذب الأخرى
وكذلك الدار فيها ساكنان، والخشبة لها حاملان، والحبل يتجاذبه
اثنان والجدار المتصل بملكين فهذا يحكم به لهما، إذ لا تكاذب
بينهما.
[فائدة] اليد عبارة عن القرب والاتصال، وللقرب
والاتصال مراتب بعضها أقوى من بعض في الدلالة أعلاها: ما اشتد
اتصاله بالإنسان كثيابه التي هو لابسها وعمامته ومنطقته وخاتمه
وسراويله ونعله الذي في رجله ودراهمه التي في كمه أو جيبه أو
يده، فهذا الاتصال أقوى الأيدي لاحتوائه عليها ودنوه منها.
الرتبة الثانية: البساط الذي هو جالس عليه أو البغل الذي هو
راكب عليه فهذا في الرتبة الثانية. الرتبة الثالثة: الدابة
التي هو سائقها أو قائدها، فإن يده في ذلك أضعف من يد راكبها.
الرتبة الرابعة: الدار التي هو ساكنها، ودلالتها دون دلالة
الراكب والسائق والقائد لأنه غير مسئول على جميعها ويقدم أقوى
اليدين على أضعفهما، فلو كان اثنان في دار فتنازعا في الدار
وفي ما هما لابسانه جعلت الدار بينهما بأيمانهما لاستوائهما في
الاتصال وجعل القول قول كل واحد منهما في ما هو لباسه المختص
به لقوة القرب والاتصال، ولو اختلف الراكبان في مركوبهما حلفا
وجعل بينهما لاستوائهما، ولو اختلف الراكب مع القائد أو السائق
قدم الراكب عليهما بيمينه. |