قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف فصل: في الحمل على الغالب والأغلب في العادات
ولذلك أمثلة
منها: أن من
أتلف متقوما فإنه يلزمه ضمانه بقيمته من نقد البلد، أو من
غالبه إن كان فيه نقود، أو من أغلبه إن كان فيه نقود بعضها
أغلب من بعض، ومنها: أن من ملك خمسا من الإبل فإنه يلزمه شاة
من شياه البلد. ومنها: وجوب الفطرة من غالب قوت البلد، ومنها:
أن من ملك التصرف القولي بأسباب مختلفة
ج / 2 ص -121-
ثم صدر منه تصرف صالح للاستناد إلى كل واحد من تلك الأسباب
فإنه يحمل على أغلبها. فمن هذا تصرف رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالفتيا والحكم والأمانة العظمى، فإنه إمام الأئمة، فإذا
صدر منه تصرف حمل على أغلب تصرفاته وهو الفتيا ما لم يدل دليل
على خلافه، وله أمثلة: أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم لهند
امرأة أبي سفيان لما شكت إليه إمساك أبي سفيان وشحه:
"خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف"
احتمل أن يكون فتيا، واحتمل أن يكون حكما، فمنهم من جعله حكما
والأصح أنه فتيا، لأن فتياه صلى الله عليه وسلم أغلب من
أحكامه، ولأنه لم يستوف شروط القضاء.
المثال الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم:
"من قتل قتيلا فله سلبه" محمول على الفتيا لأنه أغلب تصرفه بالقضاء وبالإمامة العظمى.
المثال الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم:
"من أحيا أرضا ميتة فهي له" حمله أبو حنيفة رحمه الله على التصرف بالإمامة العظمى، لأنه لا
يجوز إلا بإذن الإمام وحمله الشافعي رحمه الله على التصرف
بالفتيا لأنه الغالب عليه، وقال يكفي في ذلك إذن رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ومما يحمل على غالب التصرف تصرف الوكيل
والمضارب، والوصي، والولي العام والخاص، إذا اشتروا شيئا بثمن
مثله مما يصح شراؤه لأنفسهم وللمولى عليهم فإنه يقع لهم، لأن
الغالب من تصرفاتهم التصرف لأنفسهم فقصر عليهم إلا أن ينووا به
من تحت ولايتهم، وإن اشتروه مطلقا بعين مال المولى عليهم تعين
للمولى عليهم إذ لا تردد فيه.
[قاعدة] كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو
باطل فلا يصح بيع حر ولا أم ولد، ولا نكاح محرم، ولا محرم، ولا
إجارة على عمل محرم، فإن شرط نفي الخيار في البيع صح على قول
مختار لأن لزومه هو المقصود والخيار دخيل عليه.
ج / 2 ص -122-
قاعدة في اختلاف أحكام التصرفات لاختلاف مصالحها
اعلم أن الله تعالى شرع في كل تصرف من التصرفات ما يحصل مقاصده
ويوفر مصالحه؛ فشرع في باب ما يحصل مصالحه العامة والخاصة، فإن
عمت المصلحة جميع التصرفات شرعت تلك المصلحة في كل تصرف، وإن
اختصت ببعض التصرفات شرعت فيما اختصت به دون ما لم تختص به، بل
قد يشترط في بعض الأبواب ما يكون مبطلا في غيره نظرا إلى مصلحة
البابين، كما يشترط استقصاء أوصاف المحكوم له والمحكوم عليه أن
ينتهي إلى عزة وجوده المشارك في تلك الأوصاف، كي لا يقع الحكم
على مبهم. ولو وقع مثل ذلك في السلم لأفسده لأنه مؤد إلى تعذر
تحصيل مقصوده، ولذلك شرط التوقيت في الإجارة والمساقاة
والمزارعة، ولو وقع التوقيت في النكاح لأفسده لمنافاته
لمقصوده، وكذلك شرط في العقود اللازمة على المنافع أن يكون
أجلها معلوما وجعل أجل النكاح مقدرا لعمر أقصر الزوجين عمرا.
فمن ذلك أن الشرع منع من بيع المعدوم وإجارته وهبته لما في ذلك
من الغرر وعدم الحاجة، وجوز عقود المنافع مع عدمها إذ لا يتصور
وجودها حال العقد، ولا تحصل منافعها إلا كذلك وقد جوز الشافعي
رحمه الله إجارة المنافع بالمنافع، وإن كانتا معدومتين، كما
جوزت الشريعة عقد النكاح بتعليم القرآن، وهو مقابلة منفعة
التعليم بمنفعة البضع، والتقدير زوجتكها بتعليم ما معك من
القرآن أو بتلقين ما معك من القرآن، وكما أنكح شعيب ابنته من
موسى برعي عشر حجج مقابل منافع البضع بالرعي، كما قابل صلى
الله عليه وسلم منافع البضع بتعليم القرآن.
وكذلك جوز الشرع القراض على عمل معدوم مجهول وجزء من الربح
معدوم مجهول، إذ لا تحصل فائدة القراض من الطرفين ومصلحته
غالبا إلا كذلك، لكنه شرط في ذلك غلبة الوجود في العوضين كما
شرط في الإجارة، وكذلك جوزت المساقاة على ثمر مجهول معدوم،
وعلى عمل معلوم معدوم، إذ لا حاجة إلى جهالة
ج / 2 ص -123-
العمل في المساقاة والمزارعة وإذ لا حاجة إلى جهل الجعل في
الجعالة، لكن يشترط في عوض المساقاة غلبة الوجود، ولا يشترط
ذلك في عمل الجعالة لتعذره. وإن كانت الثمرة موجودة جازت
المساقاة على الأصح، لانتفاء الغرس وموافقة ذلك لقواعد العقود.
ونظير تجويز المساقاة على ثمار مجهولة معدومة بأعمال معلومة:
الإجارة على الرضاع؛ فإن اللبن فيه معدوم مجهول كالثمار
والحبوب في المساقاة والمزارعة والأجرة في ذلك معلومة إذ لا
حاجة أن تكون مجهولة كما في عمل المساقاة، ولا وجه لقول من شرط
الحضانة في الإجارة على الرضاع ليكون الرضاع تابعا كما يتبع
الماء الإجارة على المزارعة، وهذا لا يصح لأن المقصود الأعظم
من الرضاع إنما هو اللبن دون الحضانة، ويدل على ذلك أن الله
علق إيتاء الأجرة على مجرد الرضاع بقوله:
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}. وكذلك دخول مياه الأنهار والعيون والآبار في الإجارة على زرع
الحبوب أو غرس الأشجار، وكذلك دخول المياه المذكورة في إجارة
الأرحية والديار، إذ لا يتم مقاصد هذه الإجارة إلا بذلك، لأنه
في الديار يكمل الانتفاع وفي الأرحية والمزارع والمغارس محصل
لأصل الانتفاع. وكذلك جوزت الجعالة على عمل مجهول مع عمل مجهول
لأن مصلحة رد الضائع لا تحصل في الغالب إلا كذلك، وشرط في
الجعل ما شرط في الأجرة إذ لا تدعو الحاجة إلى مخالفة الأصول
فيه إلا مسألة العلج وهو الكافر الغليظ الشديد إذا دل المسلمين
على عورات حصون المشركين يجعل من مال المشركين، فإنه يصح مع
أنه مجهول غير مملوك ولا مقدور على تسليمه لماس الحاجة إلى ذلك
في إقامة مصالح الجهالة، وكذلك شرطت الرؤية في المبيع والمأجور
والموهوب دفعا للغرر، ولم تشترط في النكاح مع أن جمال المرأة
من أكمل المقاصد لما في اشتراطها فيه من الضرر على النساء
والأولياء وإرغام أنف النخوة والحياء. ومن أجاز بيع الغائب على
الصفة خيره إذا رأى المبيع بين الفسخ والإمضاء ولا يجري مثله
في النكاح لما فيه من الضرر
ج / 2 ص -124-
العظيم على النساء والأولياء، ولا يشترط وصف المرأة كما يشترط
وصف المبيع الغائب لما في وصفها من والابتذال والامتهان مع أن
الزوج قادر على أن يرسل إليها من يشاهدها ويخبره بأوصافها. وقد
ندب الشارع الخاطب إلى رؤيتها ليعلم ما يقدر عليه فيرغب في
النكاح ويكون على بصيرة من الإحجام أو الإقدام وإنما جوز ذلك
ليرجو رجاء ظاهرا أن يجاب إلى خطبته دون من يعلم أنه لا يجاب،
أو يغلب على ظنه أنه لا يجاب، وإن استوى الأمران ففي هذا
احتمال من جهة أن النظر لا يحمل إلا عند غلبة الظن بالسبب
المجوز، وإن عجز الرؤية أرسل إليها من يشاهدها ويقدم الرؤية
والإرسال على الخطبة، كي لا يشاهدها بعد الخطبة فلا تعجبه
فيتركها ويكسرها ويكسر أولياءها بزهده فيهم.
فإن قيل: لم لا يشرط الذوق في المذوقات مع كونه مقصودا، وهلا
شرط اختبار الدواب المستأجرة بالركوب والتسيير. قلنا لم يشترط
ذلك لأن رؤية الأوصاف الظاهرة من المبيع والمأجور تدل على ما
يظن من أوصافه دلالة ظاهرة، فاكتفى برؤية ما ظهر عن معرفة ما
بطن، ولو شرط ذوق المطعوم لتلف أكثره بذوق الذائقين، لأنه قد
يذوقه فلا يعجبه، أو يذوقه التذاذا بطعمه من غير رغبة في
شرائه، وكذلك شرع في الوقف ما يتم مصالحه كتمليك المعدوم من
المنافع والغلات لموجود منهم: كالوقف على الفقراء والحجاج
والغزاة، ولمعدوم منهم: كالوقف على أولاد الأولاد بعد الأولاد
وكالوقف على من سيوجد من الفقراء والمساكين إلى يوم الدين لأن
مصلحة هذه الصدقة الجارية إلى يوم المعاد لا تحصل إلا بما
ذكرناه، وكذلك إخراج المنافع إلى غير مالك: كالوقف على بناء
القناطر والمساجد ومصالحهما، وإنما خولفت القواعد لأن المقصود
منه المنافع والغلات وهي باقية إلى يوم الدين، فلما عظمت مصلحة
خولفت القواعد في أمره تحصيلا لمصلحته.
ج / 2 ص -125-
ومن ذلك الوصايا خولفت فيها القواعد تحصيلا لمصالحها نظرا إلى
الأموات إذا انقطعت حسناتهم لافتقارهم إلى رفع درجاتهم وتكفير
سيئاتهم بحسناتهم فجاز فيها تراخي القبول عن الإيجاب، لأن شرط
القبول الاتصال بالإيجاب فإن تأخر تأخرا يشعر بالإضراب عن
القبول بطل سلطان القبول لأن الإيجاب موجب لسلطان القبول
للقابل في المدة التي يعد فيها مجيبا للموجب غير مضرب عن
جوابه، وهذا معتبر باتصال الكلام حتى لو فرق الفاتحة تفريقا
يعد به مضربا عن القراءة انقطع ولاء الفاتحة وكذلك اتصال
الاستثناء والشرط بكلام المستثني والشارط، وإذا جوزنا المعاملة
بالكتابة جاز أن يتراخى القبول بعد وصول الخبر بزمان لا يعد
بالتأخير في مثله مضربا عن الإيجاب. وإنما جاز ذلك في الوصية
تحصيلا لمقاصدها وكذلك جاز فيها أيضا أن يتراخى القبول عن بلوغ
الخبر. وكذلك جاز فيها أن يوصي بما لا يملك حال الوصية، وجاز
فيها أيضا الوقف فيما زاد على الثلث على الأصح مع أن الشافعي
رحمه الله لا يرى وقف العقود، ومما تختص به الوصية أن إيجابها
لا يبطل بموجبها فإنه لو بطل لفات جميع مقاصدها.
[فائدة] إذا مات الموجب بين الإيجاب والقبول بطل إيجابه بخلاف
الوصية إذ لا يتم مقصودها إلا كذلك بخلاف سائر العقود. وكذلك
لو أغمي على الموجب أو جن بطل إيجابه إلا في الوصايا فإنها لم
تبطل بالموت، فالأولى أن تبطل بما دونه والله أعلم.
ومن ذلك جواز التصرفات ولزومها، والتصرفات أنواع.
أحدها: ما لا يتم مصالحه ومقاصده إلا بلزومه من طرفيه كالبيع
والإجارة والأنكحة والأوقاف والضمان والهبات. وأما البيع
والإجارة فلو كانا جائزين لما وثق كل واحد من المتعاقدين
بالانتفاع بما صار إليه ولبطلت فائدة شرعيتهما إذ لا يأمن من
فسخ صاحبه، لكن دخل في البيع خيار المجلس على خلاف
ج / 2 ص -126-
قاعدته لأن الحاجة تمس إليه فجاز مع قصر مدته، وقد لا يتحقق
العاقد في مدة المجلس أنه غابن أو مغبون، فشرع خيار الشرط
مقدرا بثلاثة أيام تكميلا للغرض من شرعية الخيار، ولو شرط أحد
المتعاقدين خيار المجلس لسقط على المختار لأن سقوطه موافق
لمقاصد العقد بخلاف ما لو شرط نفي الملك والقبض لأنهما مراغمان
لمقصود العقد. وفي ثبوت خيار المجلس في الإجارة المقدرة بالمدة
خلاف لأدائه إلى تفويت بعض المعقود عليه. وكذلك يثبت الخيار في
البيع لأسباب تغض من مقاصد الخيار كخيار الخلف وخيار العيب
وخيار التدليس، وكذلك في الإجارة. وأما النكاح فلا تحصل مقاصده
إلا بلزومه ولا يثبت فيه خيار مجلس ولا خيار شرط لما في ذلك من
الضرر على الزوجين في أن يرد كل واحد منهما رد السلع مع أن
الغالب في النكاح أن لا يقع إلا بعد البحث وصحة الرغبة، ولا
يفسخ إلا بعيوب خمسة قادحة في مقاصده ويقع بالطلاق عند
الإيلاء. وأما قطعه بالإعسار فهل هو قطع فسخ أو قطع طلاق فيه
قولان، وقد رأى بعض العلماء أن لا يفسخ بالإعسار، لأن اليسار
ليس من المقاصد الأصلية. وأما الأوقاف فلا يحصل مقصودها الذي
هو جريان أجرها في الحياة وبعد الممات إلا بلزومها، وأما
الضمان فلا يحصل مقصوده إلا بلزومه ولا خيار فيه في الوقف
بحال. وأما الهبات فالأصل فيها اللزوم ليحصل المتهب على
مقاصدها لكن شرع فيها الجواز إلى الإقباض نظرا للواهب والمتهب،
كما شرع خيار المجلس في البيع، فإن الواهب قد يرى المصلحة في
فسخ الهبة وصرف الموهوب فيما هو أهم منها، وقد يرى المتهب أن
لا يتحمل منه الواهب، واستثنى الشرع رجوع الآباء والأمهات في
الهبات بعد الإقباض تخصيصا لشرف الولادة كما أوجب لهؤلاء من
الحقوق ما لم يوجبه لغيرهم، وحرم الرجوع في الهبات بعد لزومها
على سواهم حتى شبه العائد في
ج / 2 ص -127-
هبته بالكلب يعود في قيئه زجرا عن العود فيها لما فيه من أذية
المتهب بإزالة ملكه مع تحمله ضيم منة الأجانب.
النوع الثاني من التصرفات: ما يكون مصلحته في جوازه من طرفيه
كالشركة والوكالة والجعالة والوصية والقراض والعواري والودائع.
أما الوكالة فلو لزمت من جانب الوكيل لأدى إلى أن يزهد الوكلاء
في الوكالة خوف لزومها فيتعطل عليها هذا النوع من البر، ولو
لزمت من جانب الموكل لتضرر لأنه قد يحتاج إلى الانتفاع بما وكل
فيه لجهات أخر كالأكل والشرب واللبس أو العتق أو السكنى أو
الوقف وغير ذلك من أنواع البر المتعلق بالأموات، والشركة وكالة
لأنها إن كانت من أحد الجانبين فالتعليل ما ذكرناه، وإن كانت
من الجانبين فإن لزمت فقد فات على كل واحد منهما المقصودان
المذكوران.
وأما الجعالة فلو لزمت لكان في لزومها من الضرر ما ذكرناه في
الوكالة وأما الوصية فلو لزمت لزهد الناس في الوصايا.
وأما القراض فلو لزم على التأبيد عظم الضرر فيه من الجانبين
وفاتت الأغراض التي ذكرناها في الوكالة، وإن لزم إلى مدة لا
يحصل فيها الربح في مثل تلك المدة فلا يحصل مقصود العقد، فإن
قيل هلا لزم إلى مدة يحصل فيها الأرباح غالبا، قلنا ليس لتلك
الأرباح ضابط يعتمد على مثله. أما العواري فلو لزمت لزهد الناس
فيها، فإن المعير قد يحتاج إليها لما من الأغراض والمستعير قد
يزهد فيها دفعا لمنة المعير.
وأما الودائع فلو لزمت لتضرر المودع والمستودع، ولزهد
المستودعون في قبول الودائع، وقد اختلف الشافعي رحمه الله في
المسابقة والمناضلة فألحقهما على قول بالإجارات، وألحقهما على
قول بالجعالات.
النوع الثالث من التصرفات: ما تكون مصلحته في جوازه من أحد
طرفيه ولزومه من الطرف الآخر كالرهن والكتابة وعقد الجزية،
وإجارة المشرك
ج / 2 ص -128-
المستجير لسماع كلام الله تعالى. وأما الرهن فإن مقصوده التوثق
ولا يحصل إلا بلزومه على الراهن وهو حق من حقوق المرتهن فله
إسقاط توثقه به كما تسقط وثيقة الضمان بإبراء الضامن وهو محسن
بإسقاطهما. وأما الكتابة فمقصودها الأعظم حصول العتق فلو جازت
من قبل السيد لأدى ذلك إلى أن يفسخها متى شاء بعد أن يكدح
العبد في تحصيل معظم النجوم وذلك مبطل لتحصيل مقصود الكتابة،
وجازت من قبل العبد إذ لا يلزمه السعي في تحصيل حريته. وأما
عقد الجزية فإنه جائز من جهة الكافرين لازم من جهة المسلمين
تحصيلا لمصالحه ولو جاز من جهة المسلمين لامتنع الكافرون منه
لعدم الثقة به لكن يجوز فسخه بأسباب تطرأ منهم وذلك غير منفرد
من الدخول فيه. وأما إجارة المشرك المستجير لسماع كلام الله
تعالى فإنها جائزة من جهة المستجيرين لازمة من جهة المسلمين إذ
لا تتم مصلحتها إلا بلزومها من قبلنا فإنها لو لم تلزم لفات
مقصودها وهو معرفة المستجير لدعوة الإسلام والدخول فيه بعد
الاطلاع عليه. فإن قيل لم منعتم الزيادة على العشر في أموال
الكفار وقلتم لا تؤخذ في السنة إلا مرة واحدة؟ قلنا لأنا لو
خالفنا ذلك لزهدوا في التجارة إلى بلادنا وانقطع ارتفاق
المسلمين بالعشور وبما يجلبونه مما يحتاج إليه من أموال
التجارة والأقوات وغير ذلك.
[فائدة] العفو عن القصاص والعقوبات لازم لا
يقبل الجواز. وكذلك الإبراء عن الديون. وأما الولايات فإن تعين
المتولي ولم يوجد من يقوم مقامه فإنها لازمة في حقه لا يقبل
العزل ولا الانعزال إلى أن يوجد من يقوم مقامه فينفذ العزل
والانعزال، فلو عزل الإمام أو الحاكم أنفسهما وليس في الوجود
من يصلح لذلك لم ينفذ عزلهما أنفسهما لوجوب المضي عليهما.
وكذلك الوصي إذا لم يجد حاكما يوثق به فينبغي أن لا ينفذ عزل
نفسه ولو نفذ عزل نفسه لصار المال بيده أمانة شرعية، إذ لا
يجوز تسليمه إلى الظلمة والفجرة، لأن التسلم إلى الظلمة
والفجرة كالإلقاء في مضيعة.
ج / 2 ص -129-
[فائدة] القسمة المجبر عليها لازمة إذ لا يحصل مقصودها إلا بلزومها وكذلك
قسمة التراضي لازمة سواء جعلت بيعا أم إقرارا لأن مقصودها زوال
ضرر الشركة لما على كل واحد من الشريكين من امتناع الانتفاع
بنصيبه إلا بإذن شريكه، إذ لا يجوز لأحد الشريكين أكل ما يؤكل
ولا شرب ما يشرب، ولا ركوب ما يركب، ولا لبس ما يلبس، ولا سكنى
ما يسكن إلا بإذن شريكه, وكذلك التصدق والهدية والإيداع
والضيافة لا يرتفع هذا الحجر إلا بلزوم القسمة.
فائدة في اختلاف مصالح الأركان والشرائط
كل تصرف جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة فقد شرع الله من الأركان
والشرائط ما يحصل تلك المصالح المقصودة الجلب بشرعه، أو يدرئ
المفاسد المقصودة الدرء بوضعه، فإن اشتركت للتصرفات في مصالح
الشرائط والأركان كانت تلك الشرائط والأركان مشروعة في جميعها،
وإن اختص بعض التصرفات بشيء من الشروط أو الأركان اختص ذلك
التصرف بهما. وقد يشترط في أحد التصرفين ما يكون مفسدا في
التصرف الآخر لتقاربهما في جلب مصالحهما ودرء مفاسدهما:
فالإيمان شرط في كل عبادة، والطهارة شرط في كل صلاة وطواف،
وكذلك السترة واستقبال القبلة، ولا يشترط ذلك في حج ولا صوم
ولا زكاة ولا قراءة ولا ذكر الله ولا تعريف ولا سعي ولا اعتكاف
ولا رمي، وكذلك يشترط في بعض التصرفات: كالبيع والإجارة الوجود
والقدرة على التسليم وانتفاء الأغرار السهلة الاجتناب، ولا
يشترط ذلك في قراض ولا بيع ولا مساقاة ولا مزارعة ولا جعالة
ولا إجارة ولا إرضاع ولا في مياه العيون والآبار والجداول
والأنهار التابعة للإجارة على المزارعة وغرس الأشجار، فإن ذلك
لو شرط لفاتت مصالح هذه التصرفات ومقاصدها ولا يخشى ما في فوات
هذه المصالح من المفسدة والإضرار، ولا سيما فيما يتعلق بالرضاع
ومياه الآبار والأنهار. ويشترط في الوكالة أن يكون الموكل
مالكا للتصرف الذي يوكل فيه إذ لا يملك
ج / 2 ص -130-
الفرع ما لم يملكه الأصل ويستثنى من ذلك إذن المرأة في النكاح
وإذن الأعمى في البيع والشراء وإذن المضارب للعامل في التصرف
في عروض التجارة التي لا يملكها المالك ولا العامل لمسيس
الحاجة إلى ذلك، فإن ذلك لو منع لفاتت مصالح التزويج والبيع
والشراء في حق العميان، وكذلك أرباح القراض. ولا شك أن المصالح
التي خولفت القواعد لأجلها: منها ما هو ضروري لا بد منه، ومنها
ما تمس إليه الحاجة المتأكدة. ولو شهد الوصي ليتيم بحق يتصرف
فيه الوصي لم تقبل شهادته لجرها إليه جواز التصرف فيما شهد به،
وكذلك لو حكم الحاكم لموكله أو لولده الطفل لم ينفذ حكمه، ولو
حكم للأيتام بحق لنفذ حكمه في محل تصرفه على الأصح لعموم
الحاجة إليه، وكذلك يشترط في الحكم للغائب وعلى الغائب
المبالغة في وصفه بحيث يعز وجود مثله ونظيره دفعا للإبهام عن
الأحكام، فإن الإبهام في المحكوم به والمحكوم له والمحكوم عليه
مبطل للدعاوى والشهادات والأحكام، ولو وصف المسلم فيه بما يعز
وجوده لبطل السلم لمنافاة عزة الوجود للمقصود من السلم. وكذلك
يشترط الإطلاق في المضاربة لمنافاة التأجيل لمقصودها، ولا
يشترط في النكاح لمنافاته لمقصوده، ولا يشترط التأقيت في
المضاربة، ويشترط في الإجارة والمساقاة والمزارعة، ولو شرط في
النكاح لأبطله لمنافاته لمقاصد النكاح.
فأحكام الإله كلها مضبوطة بالحكم محالة على الأسباب والشرائط
التي شرعها، كما أن تدبيره وتصرفه في خلقه مشروط بالحكم
المبينة المخلوقة مع كونه الفاعل للأسباب على الأسباب
والمسببات، ولو شاء لاقتطع الأسباب عن المسببات ودل بينهما من
التلازم، فكما شرع للتحريم والتحليل والكراهة والندب للإيجاب
أسبابا وشروطا، وكذلك وضع لتدبيره وتصرفه في خلقه أسبابا،
وشروطا فجعل للجوع أسبابا، وللشبع أسبابا، وللسقم أسبابا
وللموت أسبابا، والحياة أسبابا، وللغنى أسبابا، وللقرب أسبابا،
وللبعد أسبابا، وللعز أسبابا، وللذل
ج / 2 ص -131-
أسبابا، وللضحك أسبابا، وللبكاء أسبابا، وللنشاط أسبابا،
وللكسل أسبابا، وللحركات أسبابا، وللنصح أسبابا، وللغش أسبابا،
وللصدق أسبابا، وللسعادة أسبابا، وللشقاوة أسبابا وللغموم
أسبابا، وللذات أسبابا، وللآلام أسبابا، وللصحة أسبابا، وللخوف
أسبابا، وللغضب أسبابا، وللأمن أسبابا، وللراحات أسبابا،
وللنصب أسبابا، وللعرفان أسبابا، وللاعتقادات الصحيحة أسبابا،
وللفاسدة أسبابا، وللشك أسبابا، ولليقين أسبابا، وللظنون
أسبابا، وللأوهام أسبابا. كل ذلك قد نصبه الإله مع الاستغناء
عنه وهو المنفرد بخلق الأسباب ومسبباتها، فلا يوجد سبب مسببا
إذ لا موجود غيره، ولا مدبر إلا هو، يحكم بما يشاء ويفعل ما
يريد من غير فائدة تعود إليه، ولا نفع يحصل له، وهو بعد خلق
المخلوقات كما كان قبل أن يخلقها لا يفيده شيء غنى ولا عزا ولا
شرفا، بل هو الآن على ما عليه كان من أوصاف الجلال، ونعوت
الكمال، والاستغناء عن الأكوان.
قاعدة فيما يوجب الضمان والقصاص
يجب الضمان بأربعة أشياء: اليد والمباشرة، والتسبب، والشرط.
فأما اليد فالغصوب والأيدي الضامنة من غير غصب، وأما المباشرة
فهي إيجاد علة الهلاك، وتنقسم إلى القوي والضعيف والمتوسط:
فأما القوي فكالذبح والإحراق والإغراق وإيجاد السموم المذففة
والحبس مع المنع من الطعام والشراب. وأما الضعيف فظن المغرور
بنكاح الأمة إذا أحبلها ظانا أنها حرة يضمن ما فات من حرية
الولد بظنه فتلزمه قيمته عند الولادة يرجع بها على من غره لأنه
تسبب غاره ههنا أقوى من مباشرته بظنه، وتلزمه قيمته حال ولادته
وهذا مخالف للقواعد في كون المتلف إنما يضمن بقيمته حال إتلافه
دون ما قبلها وما بعدها، وإنما خرج هذا عن القاعدة، إذ لا قيمة
له يوم الإحبال فإنه نطفة قذرة لكنه كانت أجزاؤه دم أمة، وإن
كان تكونه حيوانا
ج / 2 ص -132-
بالقوى التي أودعها الله في رحم أمه صار كالثمرة المخلوقة من
الشجر كسبا من أكساب أمه لأنه إنما صلح وصار حيوانا بالقوى
التي في رحمها فيشبه ما صنعته بيدها، فذلك قدر الإتلاف متأخرا
إلى حين الوضع، وكأنه رقيق فوت حريته حال الوضع، ولهذا جعل
الولد تابعا لأمه في الملك والرق والحرية وأما المتوسط
فكالجراحات السارية، وقد تتردد صور بين الضعيف والمتوسط كغرز
الإبرة فيختلف فيها. وأما التسبب فإيجاد علة المباشرة وهو
منقسم إلى قوي وضعيف ومردد بينهما وله أمثلة:
أحدها: الإكراه وهو موجب للقصاص والضمان على المكره لأنه ملجئ
المكره إلى المباشرة، فإن طبعه يحثه على درء المكروه عنه، وقد
جعل المكره شريكا للتسبب الذي هو المكره لتولد مباشرته عن
الإكراه. الثاني: إذا شهد بالزنا على إنسان فقتل بشهادته أو
رجم في الحد بشهادته فإنه يلزمه الضمان والقصاص لأن الشاهد ولد
في الحاكم وفي ولي الدم الداعية إلى القتل، لأن الحاكم يخاف من
عذاب الآخرة وإن ترك الحكم، ومن عار الدنيا إذ ينسب إلى الفسوق
والجور، وكذلك الولي ولد فيه الشاهد داعية طبيعية تحثه على
استيفاء القصاص، والوازع الشرعي دون الوازع الطبعي. والثالث
إذا حكم الحاكم بالقتل جائرا في حكمه لزمه القصاص، لأنه ولد في
الولي داعية استيفاء القصاص، ولو أمر السلطان العادل العالم
بأحكام الشرع بقتل رجل بغير حق فقتله الجلاد جاهلا بذلك فإن
الضمان يجب على الإمام دون الجلاد، وإن كان الجلاد مختارا غير
ملجئ، لأنه ولد فيه داعية القتل، إذ الغالب من أمره أن لا يكون
إلا بحق، فالجلاد وإن كان مختارا فلا إثم عليه ولا قصاص لأنه
يعتقد أنه مطيع لله. وكذلك لا إثم على الحاكم إذا لم يعلم
بشهادة الزور بخلاف المكره فإنه أثم إذ ليس على الحاكم إذا لم
يعلم بشهادة الزور بخلاف المكره فإنه أثم إذا ليس له أن يفدي
نفسه المظلومة بنفس معصومة إذ لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى
ثلاث، فإذا كان الإمام جائرا ظالما لم يجز للجلاد امتثال أمره
ج / 2 ص -133-
إلا إذا علم أو غلب على ظنه أنه غالب في أمره بالقطع والقتل
وغيرهما من العقوبات، لأنه بمثابة فاسق من الرعية أكره على قتل
مسلم، وإن أكره الإمام على القتل بغير حق فهو كغيره من
المكرهين وإن لم يكره ولكن عهد منه أنه يسطو بمن خالفه سطوة
يكون مثلها لو هدد بها إكراها ففي إلحاقه بالإكراه خلاف
والمختار أنه إكراه إذا أثار خوفا كالخوف الذي يثيره التهديد.
وأما الشرط ففي إيجاد ما يتوقف عليه الإتلاف وليس بمباشرة ولا
تسبب كالممسك مع المباشر أو المتسبب لأنه لم يصدر منه شيء من
أجزاء القتل وإنما هو ممكن للقاتل من القتل، وقد خالفنا مالك
في ذلك مبالغة في صيانة الدماء. واستدلالا بقول عمر رضي الله
عنه في قتيل قتله جماعة: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به،
ولا حجة في هذا الأثر ونحن قائلون بموجبه لأن معناه لو تمالأ
على قتله أهل صنعاء لقتلهم به، والتمالؤ على القتل إنما يكون
بالاشتراك فيه، والممسك وإن كان ذنبه عظيما فما كل ذنب يصلح
لإراقة الدم وقد يتردد في أسباب منها تقديم الطعام المسموم إلى
الضيف إذا أكله فمات بسمه فهذا التقديم لا إلجاء فيه، لأن
الضيف مختار في الأكل غير مضطر إليه وداعية الأكل مخلوقة فيه
غير متولدة من المضيف، فلهذا اختلف في كونه سببا. وكذلك لو ضيف
إنسانا بطعام مغصوب وجب الضمان على الغاصب والآكل ولا رجوع
للآكل على الأصح لأنه غير ملجئ وقد وقع التردد في مسائل دائرة
بين الشرط والسبب كشهودي الإحصان مع شهودي الزنا، وقد حصل من
ذلك أن الإتلاف يقع بالظنون والأيدي والأقوال والأفعال، ويجري
الضمان في عمدها وخطئها لأنه من الجوابر، ولا تجري العقوبة
والقصاص إلا في عمدها لأنهما من الزواجر. أما العمد فلا بد من
قصاص، أحدهما القصد إلى الفعل والثاني القصد إلى المجني عليه،
ولا بد أن يكون الفعل المقصود إليه مما يقصد به التلف قطعا
كالذبح أو غالبا كالقطع والجرح، وإذا تحققت هذه
ج / 2 ص -134-
الأركان الثلاثة كان القتل عمدا موجبا للعقوبة الشرعية. وإذا
وجد القصد إلى الفعل وإلى الشخص، وكان الفعل مما لا يقتل غالبا
فهذا القتل يقال له عمد الخطأ لأن فيه عمدين: أحدهما إلى
الفعل، والثاني إلى الشخص، وجعل خطأ بالنسبة إلى الفعل الذي لا
يقتل غالبا، ويقال له أيضا شبه العمد، لأنه أشبه العمد في
القصدين، وقد يقع الخطأ بعد فوات القصدين لمن زلق فوقع على
إنسان فقتله، أو على مال فأتلفه.
[فائدة] إذا شهد اثنان بالزور على تصرف ثم
رجعا، فإن كان ذلك التصرف مما لا يمكن تداركه، كالوقف والعتاق
والطلاق لزمهما الضمان، وإن كان مما يمكن تداركه، كالأملاك
والأقارير وجب الضمان على الأصح، فإن تمكن الموقف عليه من
الوقف والمشهود عليه بالعتق من العبد، والمشهود عليه بالطلاق
من المرأة لعدم من يعرف الشهادة بذلك يسقط الضمان لرجوع الحقوق
إلى مستحقها. |