قواعد الأحكام في مصالح الأنام ط المعارف

قاعدة فيمن تجب طاعته ومن تجوز طاعته ومن لا تجوز طاعته
لا طاعة لأحد المخلوقين إلا لمن أذن الله في طاعته كالرسل والعلماء والأئمة والقضاة والولاة والآباء والأمهات والسادات والأزواج والمستأجرين في الإجارات على الأعمال والصناعات، ولا طاعة لأحد في معصية الله عز وجل لما فيه من المفسدة الموبقة في الدارين أو في أحدهما، فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنسانا على أمر يبيحه الإكراه فلا إثم على مطيعه، وقد تجب طاعته لا لكونه آمرا بل لدفع مفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بضع، ولو أمر الإمام أو الحاكم إنسانا بما يعتقد الآمر حله والمأمور تحريمه فهل له فعله نظرا إلى رأي الآمر أو يمتنع نظرا إلى رأي المأمور، فيه خلاف، وهذا مختص فيما لا ينقض حكم الآمر به، فإن كان مما ينقض حكمه به فلا سمع ولا طاعة، وكذلك لا طاعة لجهلة الملوك والأمراء إلا فيما يعلم المأمور أنه مأذون في الشرع. وتفرد الإله بالطاعة لاختصاصه بنعم الإنشاء والإبقاء والتغذية والإصلاح

 

ج / 2 ص -135-       الديني والدنيوي، فما من خير إلا هو جالبه، وما من ضير إلا هو سالبه، وليس بعض العباد بأن يكون مطاعا بأولى من البعض، إذ ليس لأحد منهم إنعام بشيء مما ذكرته في حق الإله، وكذلك لا حكم إلا له فأحكامه مستفادة من الكتاب والسنة والإجماع والأقيسة الصحيحة والاستدلالات المعتبرة، فليس لأحد أن يستحسن ولا أن يستعمل مصلحة مرسلة، ولا أن يقلد أحدا لم يؤمر بتقليده: كالمجتهد في تقليد المجتهد أو في تقليد الصحابة وفي هذه المسائل اختلاف بين العلماء، ويرد على من خالف في ذلك قوله عز وجل: {إِِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}. ويستثنى من ذلك العامة فإن وظيفتهم التقليد لعجزهم عن التوصل إلى معرفة الأحكام بالاجتهاد، بخلاف المجتهد فإنه قادر على النظر المؤدي إلى الحكم، ومن قلد إماما من الأئمة ثم أراد تقليد غيره فهل له ذلك؟ فيه خلاف، والمختار التفصيل، فإن كان المذهب الذي أراد الانتقال إليه مما ينقض فيه الحكم؛ فليس له الانتقال إلى حكم يجب نقضه فإنه لم يجب نقضه إلا لبطلانه، فإن كان المأخذان متقاربين جاز التقليد والانتقال لأن الناس لم يزالوا من زمن الصحابة إلى أن ظهرت المذاهب الأربعة يقلدون من اتفق من العلماء من غير نكير من أحد يعتبر إنكاره، ولو كان ذلك باطلا لأنكروه وكذلك لا يجب تقليد الأفضل وإن كان هو الأولى، لأنه لو وجب تقليده لما قلد الناس الفاضل والمفضول في زمن الصحابة والتابعين من غير نكير، بل كانوا مسترسلين في تقليد الفاضل والأفضل ولم يكن الأفضل يدعو الكل إلى تقليد نفسه، ولا المفضول يمنع من سأله عن وجود الفاضل وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل.
ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلده، وقد

 

ج / 2 ص -136-       رأيناهم يجتمعون في المجالس فإذا ذكر لأحدهم في خلاف ما وظن نفسه عليه تعجب غاية التعجب من استرواح إلى دليل بل لما ألفه من تقليد إمامه حتى ظن أن الحق منحصر في مذهب إمامه أولى من تعجبه من مذهب غيره، فالبحث مع هؤلاء ضائع مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحدا رجع عن مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره بل يصير عليه مع علمه بضعفه وبعده، فالأولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية مذهب إمامه قال لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه ولم أهتد إليه، ولم يعلم المسكين أن هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكره من الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتى حمله على مثل ما ذكر، وفقنا الله لاتباع الحق أين ما كان وعلى لسان من ظهر، وأين هذا من مناظرة السلف ومشاورتهم في الأحكام ومسارعتهم إلى اتباع الحق إذا ظهر على لسان الخصم، وقد نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: ما ناظرت أحدا إلا قلت اللهم أجر الحق على قلبه ولسانه، فإن كان الحق معي اتبعني وإن كان الحق معه اتبعته.
[فائدة] اختلف العلماء في تقليد الحاكم المجتهد لمجتهد آخر فأجازه بعضهم لأن الظاهر من المجتهدين أنهم أصابوا الحق، فلا فرق بين مجتهد ومجتهد فإذا جاز للمجتهد أن يعتمد على ظنه المستفاد من الشرع فلم لا يجوز له الاعتماد على ظن المجتهد المعتمد على أدلة الشرع، ولا سيما إذا كان المقلد أنبل وأفضل في معرفة الأدلة الشرعية، ومنعه الشافعي وغيره، وقالوا ثقة بما يجده من نفسه من الظن المستفاد ومن أدلة الشرع أقوى مما يستفيده من غيره ولا سيما إن كان هو أفضل الجماعة، وخير أبو حنيفة في تقليد من شاء من المجتهدين لأن كل واحد منهم على حق وصواب، وهذا ظاهر متجه إذا قلنا كل مجتهد مصيب.

 

ج / 2 ص -137-       قاعدة في الشبهات الدارئة للحدود
الشبهات دارئة للحدود وهي ثلاثة: إحداها في الفاعل وهو ظن حل الوطء إذا وطئ امرأة يظنها زوجته أو مملوكته الثانية: شبهة في الموطوءة كوطء الشركاء الجارية المشتركة، الثالثة: في السبب المبيح للوطء كالنكاح المختلف في صحته. فأما الشبهة الأولى فدرأت عن الواطئ الحد لأنه غير آثم، والنسب لاحق به، والعدة واجبة على الموطوءة، والمهر واجب عليه. وأما الشبهة الثانية فدرأت الحد لأن ما فيها من ملكه يقتضي الإباحة، وما فيها من ملك غيره يقتضي التحريم، فلا تكون المفسدة فيه كمفسدة الزنا المحض، بل لو أكل الإنسان رغيفا مشتركا بينه وبين غيره لم يأثم بأكل نصيبه مثل إثمه بأكل نصيب شريكه بل يأثم به إثم الوسائل، وكذلك لو قتل أحد الأولياء الجاني بغير إذن شركائه أثم ولم يقتص منه، ولا يأثم إثم من قتل من لا شريك له في قتله. وكذلك الوسائل إلى المصالح لا يثاب عليها مثل ثواب المصالح، فإن صلاة من فاتته صلاة من صلاتين لزمه أداؤهما، ولا يثاب على الوسيلة منهما مثل ثواب الواجبة منهما، ولذلك فعلهما بتيمم واحد على الأصح. وأما الشبهة الثالثة فليس اختلاف العلماء هو الشبهة، ولذلك لم يلتفت إلى خلاف عطاء في إباحة الجواز، وإنما الشبهة التعارض بين أدلة التحريم والتحليل، فإن الحلال ما قام دليل تحليله، والحرام ما قام دليل تحريمه، وليس أحدهما أولى من الآخر، كما أن ملك أحد الشريكين يقتضي التحليل وملك الآخر يقتضي التحريم، وإنما غلب درء الحدود مع تحقق الشبهة لأن المصلحة العظمى في استيفاء الإنسان لعبادة الديان، والحدود أسباب محظرة فلا تثبت إلا عند كمال المفسدة وتمحضها، وخالف الظاهرة في شبهة لا تدفع التحريم كوطء أحد الشريكين ظنا منهم أن الزنا عبارة عن الوطء المحرم، وليس كما ظنوا لأن العرب وصفوا اسم الزنا لمن وطئ بضعا لا حق له فيه، واستعمال الزنا في وطء يملك بعضه يكون تجوزا أو اشتراكا

 

ج / 2 ص -138-       وكلاهما على خلاف الأصل، ومثل درء الحد بوطء أحد الشريكين درء القطع بسرقة أحد الشريكين.

قاعدة من المستثنيات من القواعد الشرعية
اعلم أن الله شرع لعباده السعي في تحصيل مصالح عاجلة وآجلة تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في ملابسته مشقة شديدة أو مفسدة تربى على تلك المصالح، وكذلك شرع لهم السعي في درء مفاسد في الدارين أو في أحدهما تجمع كل قاعدة منها علة واحدة، ثم استثنى منها ما في اجتنابه مشقة شديدة أو مصلحة تربى على تلك المفاسد، وكل ذلك رحمة بعباده ونظر لهم ورفق، ويعبر عن ذلك كله بما خالف القياس، وذلك جار في العبادات والمعاوضات وسائر التصدقات.
أما في العبادات فله أمثلة: أحدها تغير أحد أوصاف الماء بشيء سالب لطهوريته استثنى من ذلك ما يشق حفظ الماء منه، المثال الثاني: تلاقي النجاسة والماء القليل موجب لنجاسته استثنى من ذلك غسالة النجاسة ما دامت على المحل لأنها لو لم تستثن ما ظهر محل نجس إلا بقلتين، فإذا انفصل فالأصح بقاء طهارته، المثال الثالث: استعمال الماء في الحدث سالب لطهورته إذا انفصل على الأصح يسلبها ما دام على المحل لما ذكرناه في النجاسة، وقالوا لو انغمس الجنب في ماء قليل ناويا رفع الحدث لم يسلب طهوريته حتى ينفصل عنه، وكان ينبغي أن يقال إذا طهر جسده فينبغي أن تسلب طهوريته وإن لم ينفصل، إذ لا حاجة إلى الحكم ببقاء طهوريته بعد تطهير المحل. ولو قيل إنما طهر الجسد من الحدث بالمقدار الذي لاقاه من الماء دون ما وراء ذلك فكان لا ينبغي أن لا يثبت حكم الاستعمال إلا للقدر المطهر ثم ينسب بالمقدار المطهر إلى بقية الماء فإن كان بحيث يغيره لو خالفه زالت طهوريته، وإن كان بحيث لا يخالفه فلا وجه لزوال طهوريته لما كان بعيدا. المثال الرابع: استعمال أواني الذهب والفضة حرام على النساء والرجال لكنه يباح عند الحاجة

 

ج / 2 ص -139-       وفقد الآنية المباحة. المثال الخامس: إيقاع الطهارة على غير محل الحدث أو ما اتصل بمحل الحدث عبث لكنه جاز على الخفاف والعصائب والجبائر لمس الحاجة إلى لبس الخف، وللضرورة إلى وضع العصائب والجبائر كي لا يعتاد المكلف ترك المسح فيثقلا عليه عند إمكانهما الغسل. المثال السادس: الصلاة مع الحدث محظورة لكنها جازت للتيمم عند فقد الماء شرعا وحسا عند الأمراض التي يخشى منها على النفوس والأعضاء أو المشاق الشديدة وكذلك يجوز عند فقد الماء والتراب إقامة لمصالح الصلاة التي لا تدانيها مصالح الطهارة.
المثال السابع: الحدث مانع من ابتداء الطهارة قاطع لأحكامها بعد انعقادها لكنه غير مانع في حق المستحاضة ومن عذره دائم كسلس البول وسلس المذي وذرب المعدة، لأن ما يفوت من مصالح أركان الصلاة وشرائطها أعظم مما يفوت من مصالح الطهارة.
المثال الثامن: الجمادات كلها طاهرة لأن أوصافها مستطابة غير مستقذرة واستثني منها الخمر عند جمهور العلماء تغليظا لأمرها، والحيوانات كلها طاهرة واستثني منها الكلب والخنزير وفروعهما عند الشافعي تغليظا لأمرهما وتنفيرا من مخالطتهما، لأن الكلب يروع الضيف وابن السبيل، والخنزير أسوأ حالا منه لوجوب قتله بكل حال، ولا يجوز اقتناء الكلاب إلا لحاجة ماسة كحفظ الزرع والمواشي واكتساب الصيود. المثال التاسع: الميتات كلها نجسة لأن الميت مظنة العيافة والاستقذار، واستثني من ذلك الآدمي لكرامته والسمك والجراد، وما يستحيل من الطعام كدود الخل والتفاح لمسيس الحاجة إلى ذلك. وكذلك إذا ذكي الحيوان فوجد في جوفه جنين ميت ولو وجد حيا فقصر في ذبحه حتى مات نجس وحرم، واختلف في ميتة ما ليس له نفس سائلة.
المثال العاشر: الأصل في الطهارات أن يتبع الأوصاف المستطابة، وفي النجاسة أن يتبع الأوصاف المستخبثة. وكذلك إذا صار العصير خمرا تنجس

 

ج / 2 ص -140-       للاستخباث الشرعي. وكذلك إذا صار خلا للتطيب الشرعي والحسي وكذلك ألبان الحيوان المأكول لما تبدلت أوصافها إلى الاستطابة طهرت فكذا المخاط والبصاق والدمع والعرق واللعاب، وكذلك الحيوان المخلوق من النجاسات، وكذلك الثمار المسقية بالمياه النجسة طاهرة محللة لاستحالتها إلى صفات مستطابة. وكذلك بيض الحيوان المأكول والمسك والإنفحة واختلف العلماء في رماد النجاسات فمن طهره استدل بتبديل أوصافه المستخبثة بالأوصاف المستطابة، وكما تطهر النجاسات باستحالة أوصافها فكذلك تطهر الأعيان التي أصابتها نجاسة بإزالة النجاسة، وإذا دبغ الجلد فلا بد من إزالة فضلاته وتغير صفاته، فمنهم من غلب عليه الإزالة، ومنهم من غلب عليه الاستحالة، ومنهم من قال: هر مركب منهما. المثال الحادي عشر: المقصود بالتطهر من الأحداث والأخباث، تعظيم الإله وإجلاله من أن يناجى أو يتلى كتابه أو يمكث في بيوته مع وجود الأحداث والأخباث، وقد ذكرنا المستثنى من الأحداث. وأما المستثنى من الأخباث فكل نجاسة يعم الابتلاء بها كفضلة الاستجمار ودم البراغيث والبثرات وطين الشارع المحكوم بنجاسته فإنه يعفى عن قليله ولا يعفى عن كثيره لندرته بالنسبة إلى قليله ولتفاحشه وإذا كانت الخراجة نضاخة فحكمها حكم دم الاستحاضة وأما تفاحش كثرته كالنجاسة تعم جميع الجسد والمصلى فإنه يعفى عنها في الصلاة إذا لم يجد ما يزيلها ولم يمكنه التحول عنها، لأن مصلحة ما يفوت من أركان الصلاة وشرائطها أعظم من مصلحة ما يفوت من طهارة الأخباث. المثال الثاني عشر: ستر العورات والسوآت واجب وهو من أفضل المروآت وأجمل العادات ولا سيما في النساء الأجنبيات، لكنه يجوز للضرورات والحاجات.
أما الحاجات فكنظر كل واحد من الزوجين إلى صاحبه، وكذلك نظر المالك إلى أمته التي تحل له ونظرها إليه، وكذلك نظر الشهود لتحمل الشهادات، ونظر الأطباء لحاجة المداواة، والنظر إلى الزوجة المرغوب في نكاحها قبل العقد

 

ج / 2 ص -141-       عليها إن كانت ممن ترجى إجابتها. وكذلك يجوز النظر لإقامة شعائر الدين كالختان وإقامة الحد على الزناة، وإذا تحقق الناظر إلى الزانيين من إيلاج الحشفة في الفرج حرم عليه النظر بعد ذلك، إذ لا حاجة إليه، وكذلك لو وقف الشاهد على العيب أو الطبيب على الداء فلا يحل له النظر بعد ذلك. لأنه لا حاجة إليه لذلك، لأن ما أحل إلا لضرورة أو حاجة يقدر بقدرها ويزال بزوالها.
وأما الضرورات فكقطع السلع المهلكات ومداواة الجراحات المتلفات، ويشترط في النظر إلى السوآت لقبحها من شدة الحاجة ما لا يشترط في النظر إلى سائر العورات، وكذلك يشترط في النظر إلى سوأة النساء من الضرورة والحاجة ما لا يشترط في النظر إلى سوأة الرجال، لما في النظر إلى سوآتهن من خوف الافتتان، وكذلك ليس النظر إلى ما قارب الركبتين من الفخذين كالنظر إلى الأليتين، المثال الثالث عشر: يجب التوجه في الصلوات إلى أفضل الجهات لكنه جاز تركه في نوافل الأسفار تحصيلا لمصالح، وجعل صوب السفر بدلا من القبلة لأنه هو الذي مست الحاجة إليه، كما جعلت جهة محاربة الكفار بدلا من جهة القبلة لأنها هي التي مست الحاجة إليها وحثت الضرورة عليها، المثال الرابع عشر: تنقيص أركان الصلاة ممنوع واستثني من ذلك الفاتحة وقيامها في حق المسبوق جبرا لها بشرف الاقتداء.
المثال الخامس عشر: الزيادة على قعدات الصلاة وسجداتها مبطل لها إلا في حق المقتدي إذا اقتدى بالإمام بعد رفع رأسه من الركوع فإنه يأتي بسجدتين وقعدة بينهما، ولو أدرك ذلك في آخر الصلاة لزاد على ذلك أركان التشهد وتطويل القعود، ولو قرأ المسبوق بعض الفاتحة فرجع الإمام قبل إتمامه فالمختار إلحاقه بالمسبوق بجميع قراءة القيام. المثال السادس عشر: مساوقة الإمام المأموم في أركان الصلاة جائزة إلا في الإحرام عند الشافعي إذ به الانعقاد وقال أبو حنيفة الأفضل أن يساوق فيه ليكون مقتديا من أول الصلاة إلى

 

ج / 2 ص -142-       آخرها. المثال السابع عشر: مخالفة المؤتم الإمام بالمسابقة إلى الأركان إن كثرت أفسدت الصلاة إلا مع الغفلة والنسيان فمسابقته بركنين مبطلة مع العمد، وفي المسابقة بركن واحد خلاف، ولو سابق إلى الأركان واجتمع مع الإمام في كل ركن منها لم تبطل صلاته على المذهب. والتخلف كالتقدم إلا ما استثني في صلاة عسفان. وفي التأخر بأوائل الأركان، وإذا شرع الإمام في الانتقال إلى ركن من الأركان فالسنة أن لا يتابعه المأموم حتى يلابس الركن الذي انتقل إليه فحينئذ يشرع في متابعته، والانتظار في قومات الصلاة غير مشروع وفي الانتظار في الركوع قولان. المثال الثامن عشر: الفعل الكثير المتوالي مبطل للصلاة إلا في حال النسيان وفي حال التحام القتال. المثال التاسع عشر: التخلف بأركان كثيرة والانتظار في القيام ممنوع إلا في التخلف للحراسة في صلاة عسفان، وفي الانتظار في صلاة ذات الرقاع تقديما لمصالح الجهاد على مصالح الاقتداء وعلى التحقيق هذا جمع بين مصالح الاقتداء ومصالح الجهاد، فإن الحراسة والانتظار ضرب من الجهاد، وكذلك الجمع في صلاة شدة الخوف بين الجهاد وبين الإتيان بما قدر عليه من الأركان. المثال العشرون: لبس الذهب والتحلي به محرم على الرجال إلا لضرورة وحاجة ماسة، وكذلك الفضة إلا الخاتم وآلات الحرب، وكذلك الحرير لا يجوز للرجال إلا لضرورة أو حاجة ماسة. ويجوز لبس الحرير والتحلي بالذهب والفضة للنساء تحبيبا لهن إلى الرجال، فإن حبهن حاث على إيلادهن من يباهي به الرسول الأنبياء وينتفع به الوالد إن عاش بما جرت به العادة من الانتفاع بالأولاد والأحفاد، وإن مات كان فرطا لأبويه وأجرا وذخرا ووقاية من النار بحيث لا تصيبه إلا تحلة القسم، المثال الحادي والعشرون: تجليل الدواب بالجلود النجسة جائز إلا جلد كلب أو خنزير، المثال الثاني والعشرون: الصلاة واجبة على الأموات لافتقارهم إلى رفع وتكفير السيئات إلا الأطفال لا يدعى لهم بتكفير السيئات، لكن يدعى لهم برفع الدرجات لافتقارهم إليها، وقد روى مالك عن

 

ج / 2 ص -143-       سعيد بن المسيب أنه سمع أنسا يدعو لصبي في الصلاة عليه: أن يعيذه الله من عذاب القبر، وليس هذا ببعيد إذ يجوز أن يبتلى في قبره كما يبتلى في الدنيا، وإن لم يكن له ذنب فيجوز أن يكون هذا رأيا من أنس، ويجوز أن يكون أخذ ذاك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يصلى على الشهداء فإنهم قد غفرت لهم الزلات لأن أول قطرة تقطر من دم الشهيد يكفر بها كل ذنب إلا الدين. فإن قيل: هلا صلي عليهم لرفع الدرجات كما صلي على الأطفال؟ قلنا: لو صلي عليهم لم يعرف أنهم قد استغنوا عن الشفاعات، فتركت الصلاة عليهم ترغيبا للناس في الجهاد. فإن قيل: لم ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على المدين مع افتقاره إليها قلنا؟ تركها تنفيرا من الديون، لما في العجز عن أدائها من مضرة أربابها، ولأن المدين إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن كثرة استعاذته من المأثم والمغرم فقال: "إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف". فإن قيل: قد صلى الصحابة على سيد الأولين والآخرين مع أن الله أخبره أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قلنا: كما أمروا بالصلاة عليه قبل موته أمروا بمثل ذلك بعد موته. فإن قيل: الدعاء شفاعة للمدعو له فكيف يشفع؟ قلنا ليست الصلاة عليه شفاعة له، ولكن قد أمرنا بأن نكافئ من أسدى إلينا المعروف وإن عجزنا عن مكافأته أن ندعو له بدلا من مكافأته، ولا معروف أكمل مما أسداه إلينا صلى الله عليه وسلم فنحن ندعو الله عز وجل أن يكافئه عنا لعجزنا عن مكافأته، المثال الثالث والعشرون: تكفين الأموات على الهيئة المعتادة - إكراما لهم - واجب. وكذلك تطهرهم من النجاسات، استثني من ذلك الشهداء فإنهم يدفنون في ثيابهم بكلومهم ودمائهم ليقدموا على الله عز وجل على وجه يوجب العطف عليهم والرحمة لهم، وهذا معلوم بالعادة أن العبد إذا ناضل عن سيده فقتل لأجل مناضلته ثم أحضر إليه ملفوفا في ثيابه مخضبا بدمائه فإنه يعطف عليه ويرحمه ويود مكافأته على صنيعته، لأنه بذل في طاعته أنفس الأشياء عنده وأحبها إليه،

 

ج / 2 ص -144-       وكذلك لو رأى عبده مجندلا بالفلاة تأكله السباع والطير لكان عطفه عليه أكثر، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حمزة رضي الله عنه لما قتل بأحد: "لولا أن تكون سنة لتركته حتى يحشر من بطون السباع وحواصل الطير وكذلك يحشر الشهداء يوم القيامة وجراحاتهم تنعب دما"، ويقارب هذا المعنى المحرم إذا مات فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا. المثال الرابع والعشرون: الحول معتبر في زكاة النعم والنقدين إلا في النتاج كما أنه معتبر في زكاة التجارة إلا في الأرباح لأنهما نشئا عن النصاب الذي وجبت فيه الزكاة فتبعاه في الحول. المثال الخامس والعشرون: إذا نقص المال عن النصاب في أثناء الحول لم ينعقد الحول، وإن نقص في أثناء الحول انقطع الحول إلا في زكاة التجارة على قول معتبر وفيه إشكال. المثال السادس والعشرون: إذا قلنا بملك الفقراء الزكاة بحول الحول فنفقة نصيبهم على المزكي، وهذا مستثنى من إيجاب نفقة الملك على المالك، وللمالك إبدال ما ملكوه من الزكاة بمثله أو أفضل منه، وهذا مستثنى من التصرف في الملك بغير إذن المالك، لكنه جاز رفقا بأرباب الأموال فيما لا ضرر فيه على الفقراء، إذ لا يجوز إبداله إلا بمثله وأفضل منه، المثال السابع والعشرون: إذا بدل المالك النصاب الزكوي في أثناء الحول بجنسه أو بغير جنسه انقطع الحول إلا في زكاة التجارة، فإن قيمة العروض فيها تبدل بالقيمة القائمة بأثمانها ولا ينقطع الحول بذلك تقديرا لاستمرارها كي لا يتضرر الفقراء بذلك، المثال الثامن والعشرون: جبران الأسنان مستثنى من قياس الجبران فإن إبدالها يتقدر بقيمتها من نقد البلد من غير تخيير، وإنما استثني ذلك لعسر إحضار المقومين إلى أهل البوادي، ولم يجب فيها ذهب لعزته في البوادي، والتقدير بالخرص على خلاف الأصل لأن الخطأ يكثر فيه، بخلاف الميزان والزرع والكيل والتقويم، وأضبط هذه التقديرات الوزن لقلة التفاوت فيما بين الوزنين، وأبعدها الخرص، لكنه جاز في الزكاة والمساقاة لمسيس الحاجة العامة، فإن الرطب والعنب إذا بدا صلاحهما ووجبت الزكاة فيهما خرص على

 

ج / 2 ص -145-       المالكين وضمنوا مقدار الزكاة بالخرص، لأنهم لو منعوا من التصرف فيه بالأكل والبيع والشراء لتضرر الملاك والناس بمنعهم من ذلك إلى أن ييبس ويقدر بالمكيال، وكذلك حكم الخرص في المساقاة لئلا يمتنع على الشركاء الأكل والتصرف، وإذا امتنع عليهم امتنع على كافة الناس وذلك حزر عام دون عموم ضرر الزكاة، فإن الشريكين ههنا يتصرفان فيه بالرضا وإن لم يخرص، والفقراء يتعذر رضاهم لأنهم لا يتعينون، المثال التاسع والعشرون من أمثلة مستثنيات العبادات: لا زكاة فيما نقص من النعم عن النصاب إلا في الخلطة عند الشافعي رحمه الله، ولو تخالط أربعون رجلا بأربعين شاة أو ثمانون رجلا بأربعين شاة لأوجب الشافعي رحمه الله الزكاة على من يملك شاة أو نصف شاة مع كونه مالا نزرا لا يحتمل المواساة. فإن قيل: إنما اعتبرت النصب ليكون المال محتملا للمواساة فهلا أوجبتم الزكاة على من يملك من الجواهر والخيل والحمير والبغال والقرى والبساتين والدور والدكاكين ما يساوي مائة ألف دينار لاحتمال ماله للمواساة؟ وكيف لا يجب على هذا الزكاة وهي واجبة على الضعيف ذي العيال في خمس من الإبل أو في جزء من بعير في صورة الخلطة؟ قلت إن اشتملت قراه وبساتينه على الأموال الزكوية من النخل والكرم والزرع كانت زكاتها مجزية عن زكاة رقابها، وإن لم يكن فيها مال زكوي، فإن ثمار بساتينها تباع بالنقود في الغالب، وكذلك تؤجر أراضيها بالنقود في الغالب فإن بقيت نقودها حتى حال عليها الحول قامت زكاة النقود مقام زكاة رقابها، وإن اتجر في نقدها قامت زكاة التجارة مقام زكاة النقد، وكذلك القول في إيجار الدور والدكاكين. وكذلك البغال والحمير، واختلف العلماء في زكاة الخيل. وأما الجواهر في الغالب أنها لا تقتنى بل يتجر فيها ولا يدخرها إلا القليل من الناس، وأما اقتناء الملوك لها، فإن كانت لبيت مال المسلمين فلا زكاة في بيت المال، والملوك فقراء وليسوا بأغنياء بسبب ما حازوه من بيت المال لأنفسهم ظلما وعدوانا، ولا زكاة في مال بيت المال إذ لا يتعين مستحقوه، وإن كان

 

ج / 2 ص -146-       مما اشتروه لأنفسهم: فإن اشتروه بعين مال بيت المال لم يملكوه، وإن اشتروا في ذمتهم ونقدوا ثمنه من مال بيت المال كانت أثمانه دينا عليهم. وفي وجوب الزكاة على المدين خلاف بين العلماء وقد خالف بعض العلماء في الجواهر المستخرجة من البحار، المثال الثلاثون: لا يثبت شيء من الشريعة إلا بشاهدين عدلين، وتثبت أوقات الصلاة بخبر العدل الواحد، ولا يثبت شوال إلا بعدلين على المذهب، وإنما ثبت رمضان بعدل واحد، لأنه حق الله عز وجل يبعد في العادة الكذب فيه فيصير كالإخبار عن الشرعيات واحتياطا لهذه العبادة العظيمة التي هي ركن من أركان الإسلام، بخلاف الحج فإنه لا يقع إلا نادرا، فلا تخالف قواعد النيات لأجله مع ندرته. المثال الحادي والثلاثون: لا تصح النيابة في شيء من العبادات كالعرفان والإيمان والصلاة والتسبيح والتحميد والتكبير والتمجيد والأذان وقراءة القرآن، لأن الغرض بها تعظيم الإله، وليس المنيب معظما بتعظيم النيابة، واستثني من ذلك الحج والعمرة في حق العاجزين إما بالموت أو بالهرم أو مرض لا يرجى زواله، ولم يستثن من الصلاة إلا ركعتا الطواف في نسك النيابة لأنها تابعة للنسك، وقد يجوز بالتبعية ما لا يجوز بالأصالة، وكذلك الصيام على الأصح، وقد ألحق الاعتكاف بالصيام، وفيه بعد إذ لا نص فيه، ولا مجال للقياس في مثل ذلك. المثال الثاني والثلاثون: من نوى التنفل بعبادة من العبادات لم ينقلب تنفله فرضا إلا في النسكين. المثال الثالث والثلاثون: من استناب في عمل يقبل النيابة فعمله ناويا به مستنيبه وقع لمستنيبه إلا في النسكين فإن الضرورة المستأخرة في النسكين على الذمة إذا نوى النسكين أو أحدهما عن مستنيبه. المثال الرابع والثلاثون: إبهام النية بين عبادتين بدنيتين لا تصح إلا في النسكين. فإن إبهامه الإحرام يصح ثم يصرفه المحرم إلى من يشاء من النسكين أو أحدهما، ويصح إبهام الزكاة والكفارات، فإن الغالب عليهما المالية كالديون، المثال الخامس والثلاثون: من علق إحرامه

 

ج / 2 ص -147-       بالعبادة على إحرام غيره مثل أن قال صليت صلاة كصلاة فلان لم يصح إلا في النسكين، فإذا علق إحرامه على ما أحرم به غيره فإن إحرامه ينعقد بما أحرم به غيره وإن كان غير شاعر به، المثال السادس والثلاثون: خروج وقت العبادة المقدر يجعلها قضاء خطأ كان خروجه أم عمدا إلا في جمع التأخير، وفي غلط يوم عرفة فإنها تكون أداء: أما في الجمع فلعذر السفر. وأما في العيد فلرتبة فوات الأداء، وأما في الحج فللضرر العام مع فوات رتبة الأداء. المثال السابع والثلاثون: من أفسد العبادة بطل انعقادها ووصفها إلا في النسكين إذا أفسدهما بالجماع فإنه يبطل وصفهما وهو الصحة ولا يبطل انعقادهما، فيلزمه أن يأتي بما كان يلزمه الإتيان به قبل الإفساد، وليس إمساك الصائم إذا أفسد صومه من شهر رمضان كذلك، لأن مفسدة النسك مستمرة في عبادة يلزمه كفارات محظوراتها إذا ارتكبها، ولو جامع الممسك في رمضان بعد الإفساد لما لزمه كفارة جماعه، لأنه ليس في صوم منعقد إنما هو متشبه بالصائمين، المثال الثامن والثلاثون: فوات العبادات موجب لقضائها غير ناقل لعبادة أخرى إلا الحج، فإن من فاته لزمه الإتيان بعمل عمرة ثم القضاء في العام المقبل. المثال التاسع والثلاثون: ليس للعبادات كلها إلا تحليل واحد، أما الصلاة فيخرج منها بالتسليم. وأما الصوم فلا يتوقف خروجه منه على فعله ولا على اختياره بل ينتهي بانتهاء النهار، وأما الاعتكاف فيخرج منه تارة بانتهاء مدته كالصوم وتارة بالخروج من المسجد بغير عذر، بخلاف الحج فإنه يخرج منه خروج أحدهما بالتحلل الأول، والثاني بالتحلل الثاني.
المثال الأربعون: ترتفع أحكام العبادات بموت العابد إلا في النسكين فإن المحرم إذا مات لم يجز تخمير رأسه ولا ستر بدنه بالمخيط ولا تطييبه وليس هذا استثناء على الحقيقة، فإن تكليفه قد انقطع بموته، وإنما ذلك تكليف لمن يتولاه من الأحياء. وفي ارتفاع الإحداد بموت المعتدة خلاف.

 

ج / 2 ص -148-       المثال الحادي والأربعون: الانتفاع بملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة منهي عنه إلا ركوب الهدي المنذور للفقراء، ودرء الفاضل عن ولده، وكذلك قدر الزكاة من النعم فإن الانتفاع به جائز، وإن جعلناه ملكا للفقراء.
المثال الثاني والأربعون: من نذر قربة لزمه القيام بما نذر إلا نذر اللجاج فإنه لما جعل الملتزم بالنذر حاثا على الفعل أو زاجرا عنه أشبه اليمين فيتخير على قول بين القيام بما نذره، وبين الكفارة، وتتعين الكفارة على قول آخر، لقوله عليه السلام:
"كفارة النذر كفارة اليمين".
المثال الثالث والأربعون: من نذر أن يحج ماشيا فحج راكبا أو أن يحج راكبا فحج ماشيا فقد بناه بعض أصحاب الشافعي على أن الأفضل هو المشي أو الركوب وبرأه بالأفضل منهما، وقال آخرون لا يبرأ من الفاضل منهما عن المفضول، لأنهما جنسان مختلفان، وهذا هو المختار لأن المشي لا يجانس الركوب.

وأما ما خالف القياس في المعاوضات وغيرها من التصرفات فله أمثلة
أحدها: أن الرضا شرط في جميع التصرفات إلا أن يتعدد رضا المتصرف والعامل ورضا نائبهما فإن الحاكم يتصرف فيما لزمه من التصرفات القابلة للنيابة مع غيبته أو امتناعه على كره منهم إيصالا للحق إلى مستحقه ونفعا للممتنع ببراءته من الحق، وقد فعل ذلك عمر رضي الله عنه بأسيفع جهينة، ولا بد لهذا الرضا من لفظ يدل عليه سواء كان مما يستقل به الإنسان كالطلاق والعتاق والعفو والإبراء، أما ما لا يستقل به: كالبيع والإجارة فإن لم يقم مقام اللفظ عرف تعين اللفظ، إلا فيمن خرس لسانه وتعذر بيانه فإن إشارته تقوم مقام لفظه للحاجة إلى ذلك، إذ لا مندوحة عنه ولا خلاص منه. وفي إقامة الكتابة مقام اللفظ في حق الناطق اختلاف، وإن حصل عرف دال على ما يدل عليه اللفظ كالمعاطاة في محقرات البياعات واستعمال الصناع، وتقديم الطعام إلى الضيفان، ففي إقامة العرف مقام اللفظ خلاف، لاشتراكهما في الدلالة على الرضا على المقصود.

 

ج / 2 ص -149-       فإن حصل العلم أو الاعتقاد أو ظن قوي يربى على الظن الذي ذكرناه أقيم ذلك مقام اللفظ لقوة دلالة العرف وإطراده، وكذلك كدخول الحمامات والقياسير والحانات ودور القضاة والولايات في الأوقات التي اطردت العادة فيها بالجلوس للخصومات والحكومات وقد ذكرنا لذلك نظائر، وإن لم يحصل عرف ولا كتابة تعين اللفظ كما في الأنكحة. فإن قيل هل يستقل أحد بالتملك والتمليك، وهل يقوم أحد مقام اثنين أم لا؟ قلنا: نعم وله أمثلة. أحدها: الأب يستقل ببيع مال ابنه من نفسه وببيع مال نفسه من ابنه. وكذلك في الإجارة وسائر المعاوضات يستقل بتمليك مال ابنه من نفسه وبتمليك مال ابنه لنفسه، وإذا فعل ذلك هل يفتقر إلى إيجاب وقبول فيه وجهان: أحدهما نعم ليأتي بصورة العقد، والثاني لا، لتحقق الرضا فإذا أتى بأحد شقي العقد أتى بما يدل على الرضا من الجانبين، وكذلك الجد لقوة الولاية، وإن زوج الجد بنت ابنه ابن ابنه ففيه خلاف، مأخذه إن تولي الأب لطرفي البيع كان لكثرة وقوعه أو لقوة الولاية. المثال الثاني: استقلال الشفيع بأخذ الشقص المشفوع به ببذل الثمن وهذا استقلال بالتملك والتمليك. المثال الثالث: إذا ظفر الإنسان بجنس حقه بمال من ظلمه فإنه يستقل بأخذه، فإن الشارع أقامه مقام القابض والمقبض لمسيس الحاجة، ولو كان بغير جنس حقه جاز له أخذه وبيعه ثم استيفاء حقه من ثمنه، فقد قام في قبضه مقام قابض ومقبض، وقام في بيعه مقام وكيل وموكل، وقام في أخذ حقه مقام قابض ومقبض فهذه ثلاث تصرفات أقامه الشرع في كل واحدة مقام اثنين. المثال الرابع: المضطر في المخمصة إذا وجد طعام أجنبي أكله بقيمته، وقد أقامه الشرع مقام مقرض ومقترض لضرورته. المثال الخامس: استقلال الملتقط بتمليك اللقطة إقامة له مقام مقترض ومقرض. المثال السادس: استقلال القاتل بملك سلب القتيل، واستقلال السارق بملك ما سرقه من دار الحرب، إذ لا حرمة لأموالهم حتى يشترط فيها رضاهم. وكذلك استقلال الجند بتمليك الغنيمة، وكذلك استقلالهم بأكل أقواتهم من مال الغنيمة

 

ج / 2 ص -150-       وعلف دوابهم ما داموا في دار الحرب. المثال السابع: استقلال كل فاسخ باسترداد ما بذله وبتمليك ما استبدله. المثال الثامن: استقلال الإمام بإرقاق رجال المشركين.
المثال الثاني: من أمثلة ما خالف القياس في المعاوضات وغيرها من التصرفات
الرضا بالمجهول والإبراء من المجهول لا يصحان، إذ لا يتصور توجه الرضا والإبراء مع الجهالة بالرضا والمبرأ منه، كما لا يتصور توجه الإرادة إلا إلى معلوم أو مظنون: فمن أبرأ مما لا يعلم جنسه أو قدره برئ المبرأ من القدر المعلوم منه ولا يبرأ من المجهول على الأصح، ومن برأه من المجهول كان هذا مستثنى من قاعدة الرضا، ولأجل قاعدة اعتبار نهي الشرع عن بيع الغرر إلى ما يشق الاحتراز منه مشقة عظيمة وإلى ما لا يشق الاحتراز منه إلا مشقة خفيفة وإلى ما بين الرتبتين من المشاق عفا الشرع عن بيع ما اشتدت مشقته: كالبندق والفستق والبطيخ والرمان والبيض وأساس الدار المدفون في الأرض وباطن الصبر من الطعام، وباطن ما في الأواني من المائعات، واجتزأ فيه بالرضا فيما علمه المكلف من الأوصاف ولم يشترط الرضا فيما وراء ذلك لما فيه من المشقة. وأما ما خفت مشقته: كبيع عبد من عبدين، وثوب من ثوبين، وكبيع الثمار قبل بدو صلاحها فهذا لا يصح العقد معه إذ لا يعسر اجتنابه. وأما ما يقع بين الرتبتين: كبيع الغائب والجوز واللوز في قشريهما والمسك في فأرته والحنطة في سنبلها واللبن في ضرعه فهذا مختلف فيه، فكلما خفت المشقة في اجتنابه كان أولى بأن لا يحتمل في العقد لاضطراب الرضا فيه، وكلما عظمت المشقة في اجتنابه كان أولى بأن لا يحتمل في العقد لاطراد الرضا فيه وكلما عظمت المشقة في احتماله كان أولى بتحمله. والغرر تارة يكون في الصفات: كبيع الغائب المستقصى الأوصاف فإن الغرر باق فيه لأن كل صفة ذكرها مرددة بين الرتبة العليا والرتبة الدنيا والرتب المتوسطات بين ذلك، وتتفاوت القيم بتفاوت
 

 

ج / 2 ص -151-       هذه الصفات، وتارة يكون الغرر في تعيين المبيع كبيع عبد من عبدين فهذا غرر لا حاجة إلى تحمله، ويستثنى منه بيع صاع من صبرة مجهولة الصيعان فإنه على غرر من تعين الصاع مشبه ما لو أشار إلى صاعين متفرقين فقال بعتك أحد هذين الصاعين، وإلا أن في بيع صاع من صاعين غرر لا تمس الحاجة إليه إذ لا يمكنه إيقاع المبيع على عين أحد الصاعين، ولا يمكن إيقاع البيع على صاع معين من الصبرة، ولو شرط فصل الصاع من الصبرة، لو وقع العقد عليه معينا لأدى إلى مشقة ظاهرة في فصله من الصبرة، وقد لا ينفع البيع بعد فصله أو يتفق ثم يفسخ البيع في مجلس العقد فيؤدي إلى مشقة في الفصل وإلى مشقة في الرد إلى الصبرة، فإن قيل لو باع صبرة مجهولة الصيعان واستثنى منها صاعا فهل يصح هذا البيع؟ قلنا لا يصح لأن المبيع غير مقدر بالكيل ولا بتخمين العيان، فإن العيان لا يخمن المقادير إلا بعد الانفصال، فلما تعذر التقدير الحقيقي والتخميني في هذه الصفقة حكم ببطلانها، لأن الجهل بتقديرها وتخمينها غرر لا تمس الحاجة إليه، وربما وقع الغرر في حصول المقصود عليه مع تحقق وجوده كالفرس العاثر والعبد الآبق والجمل الشارد فهذا غرر عظيم في المقصود وأوصافه. ولا يصح بيع الجمل لأنه مجهول المالية إذ لا ثقة بحياته ولا بشيء من صفاته ولا ببقائه وسلامته، ولأن الجمل يتزايد من ملك البائع تزايدا لا ضبط له، فيشبه ما لو باع عبدا وشرط نفقته على البائع في مدة مجهولة، وربما وقع الغرر في سلامة المبيع كبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها وله علتان: إحداهما أنه لا ثقة بسلامته لكثرة الحوائج، والثانية اغتذاؤه من ملك البائع بما يمتصه ويجتذبه من شجراته إلى أن يبدو صلاحه. فإن قيل فلم جاز بيعه بعد بدو صلاحه مع أنه يمتد بما يمصه من ملك البائع إلى أوان جذاذه؟ قلنا: هذا نزر يسير بالنسبة إلى ما قبل بدو الصلاح مع مسيس الحاجة إلى أكله وبيعه بعد بدو صلاحه، ولو لم يجز ذلك لتعذر على الناس أكل الثمار الرطبة، وذلك ضرر عام لم ترد الشريعة بمثله، وقد يكون الغرر في مقدار المبيع: كما لو باع

 

ج / 2 ص -152-       صبرة على أرض غير مستوية فقد نزله بعضهم على بيع الغائب وجعل الجهل بالمقدار كالجهل بالوصف، ومنهم من أبطل العقد ههنا لعظم الغرر فإن الجهل بالوصف والموصوف أعظم من الجهل بالوصف على حياله، المثال الثالث: الإقباض يختلف باختلاف المقبوض، فإن كان عقارا فتخليته من التمكن من أخذه قبض له، وإن كان قليلا أو موزونا فقبضه بكيله أو وزنه ثم نقله، وإن كان غير مكيل ولا موزون فالأصح أن قبضه بنقله إلى موضع عام أو موضع يختص به المشتري، واستثني من ذلك الثمار على الأشجار فإن الأصح أن قبضها بتخليتها لما ذكرناه من الحاجة العامة إلى بيعه ليأكلها الناس رطبة، المثال الرابع: إذا شرط في البيع قطع الملك بطل البيع إلا إذا شرط قطعه بالعتق فإنه يصح على الأصح لشدة اهتمام الشرع بالعتق، ولذلك كمل مبعضه وسراه إلى أنصباء الشركاء، ويكون الغرض من هذا البيع حصول ثمرات العتق للمشتري في الدنيا بالولاء، وفي الآخرة بالإعتاق من النار، ويكون الثواب ثواب التسبب إلى مثل هذه الفضيلة فإنه تسبب إلى تحصيل مصلحة الحرية في الدنيا والآخرة وإلى تحصيل إعتاق المشتري من النار، ولو شرط قطع الملك بالوقف ففيه وجهان: أحدهما يصح لأن الوقف قربة كالعتق، ولأن ما يحصل من فعله إلى يوم القيامة يربى على مصلحة العتق، والثاني لا يصح لأن الشرع لم يكمل مبعضه ولم يسره إلى أنصباء الشركاء، المثال الخامس: لا يدخل في البيع إلا ما تناوله الاسم، وقد اختلف في الاستثناء من هذه القاعدة، ولذلك أمثلة. أحدها: يثاب العبد للعرف في ذلك، وهذا لا يصح لأن العرف دال على إطلاقه والمسامحة به لا على تمليكه. المثال الثاني: إذا قال بعت هذه الأرض أو هذه الساحة أو رهنتكها وفيها بناء أو غراس، ففي دخولهما في البيع والرهن اختلاف، والقياس أن لا يدخلا لأن الاسم لا يتناولهما. المثال الثالث: مفتاح الدار وفي دخوله في البيع والإجارة اختلاف. المثال الرابع: حجر الرحا إذا كان الأسفل منهما مبنيا وفي دخولهما في البيع مذاهب. ثالثهما

 

ج / 2 ص -153-       التفرقة بين الأعلى والأسفل، ولو باع نخلا عليها طلع مؤبر لم يدخل في البيع لأن اسم النخلة لا يتناوله، وإن كان غير مؤبر فالقياس أنه لا يدخل لخروجه عن اسم النخلة، لكن الشافعي نقله إلى المشتري مع خروجه عن اسم النخلة لاستتاره، كما نقل حمل الجارية والبهيمة إلى المشتري لاستتارهما، وعملا بقوله عليه السلام: "من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع"، ومفهوم هذا أن ما لم يؤبر فهو للمشتري، ولا يدخل في البيع ما كان مدفونا في الأرض من الحجارة والكنوز والأحطاب والأخشاب لأنه ليس جزءا منها ولا داخلا في اسمها ولا متصلا بها اتصال الأبنية. فإن قيل فما تقولون فيمن اشترى دارا أو أرضا فوجد فيها شيئا من ذلك فماذا يجب عليه؟ قلنا: ينظر فيما وجده. فإن أمكن أن يكون من كانت الدار تحت يده هو الدافن أخبره به، فإن ذكر أنه دافنه دفعه إليه لاشتمال يده عليه، وإن لم يمكن أن يكون هو الدافن له سأل من أمكن أن يكون هو الدافن له، فإن لم يعرفه ويئس من معرفته كان ذلك مالا ضائعا يصرفه الواجد في المصالح العامة إن لم يجد إماما عادلا، وإن وجد إماما عادلا صرفه إليه.
المثال السادس: من أمثلة ما خالف القياس في المعارضات وغيرها من التصرفات
من جمع في التصرف بين ما يصح وما لا يصح بطل تصرفه فيما لا يصح، وفيما يصح خلاف، واستثني من ذلك أمثلة أحدها: إذا أوصى بما زاد على الثلث وقلنا ببطلان وصيته فإنها تصح من الثلث ولا يخرج على الخلاف في البيع والإجارة ونحوهما. المثال الثاني: إذا قال لامرأته وأجنبية أنتما طالقان طلقت امرأته ولا تطلق الأجنبية. المثال الثالث: إذا قال لعبده وأجنبي أنتما حران فإنه يعتق عبده دون الأجنبي.
المثال السابع: إذا باع عينين ثم وجد بأحدهما عيبا فأراد أن يفردهما بالرد قبل تلف إحداهما أو بعد تلفها فهل له ذلك فيه خلاف، فإن قلنا يرد قوم التالف

 

ج / 2 ص -154-       والباقي بما يخصهما من الثمن ورد الباقي مع قيمة التالف، واستثني من ذلك المصراة فإنه يردها ويرد بدل قيمة اللبن صاعا من التمر، لأن اللبن الذي تناوله البيع قد اختلط بما حدث على ملك المشتري من اللبن بحيث لا يعرف قدر كل واحد منهما، فقدر الشافعي البدل قطعا للنزاع والخصام وجعله من التمر لمشاركته اللبن في كونه قوتا، المثال الثامن: لا يباع المال الربوي المكيل إلا بالكيل ولا يباع رطبه بيابسه إلا في العرايا، فإن الشرع قدره بالخرص، وقد جوز بيع رطبه بيابسه في دون خمسة أوسق لمسيس الحاجة إلى مثل ذلك.
المثال التاسع: لا تجوز المعاملة على ما جهلت أوصافه لاختلاف رتب الأوصاف في النفاسة والخساسة وزيادة المالية ونقصانها بسبب ذلك، واستثنى من ذلك السلم لمسيس الحاجة إليه وترك كل وصف من أوصافه على أدنى رتبه ولم يسمح بالزيادة على أدنى الأوصاف إذ لا ضابط لها. وكذلك جوز الشارع شرط الصفات التي تتعلق بها الأغراض في الثمن والمثمن، إذ لا يمكن مشاهدتها مع مسيس الحاجة إليها، وترك كل وصف منها على أدنى رتبه لما ذكرناه في السلم، فإذا شرط في العبد أنه كاتب أو حاسب أو رام أو بان أو نجار أو قصار، حمل على أقل ما يقع عليه كاتب أو حاسب أورام أوبان أونجار أوقصار.
المثال العاشر: الحلول شرط في صحة المعاملة على الأموال الربوية والقبض في العوضين شرط في استمرار العقد، واستثني من ذلك القرض الواقع في الأموال الربوية لمسيس الحاجة إليه، المثال الحادي عشر: الميت لا يملك لانتفاء حاجته إلى الملك إلا أنه يملك في الموتة الأولى في الإرث عن أبيه أو ابنه لأنه صائر إلى الاحتياج إلى الملك فثبت له الملك بالإرث دفعا لما سيصير إليه من الحاجات. وأما الموتة الثانية: فإن لم يكن على الميت دين ولا أوصى بشيء انقطع ملكه بموته لانتفاء الحاجة في الحال والمآل، وإن كان عليه دين أو أوصى بشيء فهل يبقى ملكه بعد موته لاحتياجه إلى قضاء دينه وتنفيذ

 

ج / 2 ص -155-       وصيته أو ينتقل الملك إلى ورثته بعد موته وتتعلق الديون به، أو يكون موقوفا فإن برئ من الديون وردت الوصايا تبين أنهم ملكوه، وإن أديت الديون وقبلت الوصايا تبين أنهم لم يملكوه؟ فيه أقوال، فإن قلنا: إنهم يملكوه كان تصرفهم فيه كتصرف السيد في رقبة العبد الجاني، وكتصرف الراهن في المرهون فيه خلاف يجري مثله في تعليق حق الزكاة بمقدارها من النصاب، والأولى أن يجعل التعلق بالتركة كتعلق الرهن نظرا للميت فإنه أحق بماله من ورثته، فكان الحجر على ورثته أقرب إلى أداء ديونه وتنفيذ وصاياه.
والتوثق المتعلق بالأعيان أقسام:
منها التوثق في الزكاة، ومنها التوثق في حبس المبيع على قول، ومنها توثق جناية العبد، ومنها توثق الرهن، ومنها توثق البائع بالبيع في صورة الفلس، ومنها توثق الغرماء بالحجر على المفلس، ومنها التوثق بالحجر على البائع إذا أوجبنا البداءة بتسليم الثمن على المشتري وهذا حجر بعيد، ومنها التوثق بضمان الديون وضمان الوجوه وضمان إحضار ما يجب إحضاره من الأعيان المضمونة وضمان العهدة، ومنها التوثق للصداق، ومنها التوثق للبضع، ومنها التوثق بحبس الجناة إلى حضور الغيب وإفاقة المجانين وبلوغ الصبيان. ومنها التوثق بحبس من يحبس على الحقوق، ومنها التوثق بالإشهاد الواجب على أداء الديون، ومنها التوثق بالحيلولة بين المدعى عليه وبين العين إذا شهد بها شاهدان مستوران. وكذلك حبس المدعي إذا شهد عليه مستوران بالدين أو بشيء يتعلق ببدنه، كالحد والقصاص والتعزير، أو بالرق والزوجية إلى أن تزكي البينة أو يخرج مع حد الحاكم في المسارعة إلى استزكاء المستورين.
المثال الثاني عشر: لا يجوز توكيل الإنسان ولا إذنه فيما سيملكه إذ لا ينفذ فيما لا سلطان له عليه إلا في المضاربة، فإن إذن المالك في بيع ما سيملكه من العروض نافذ إذ لا تتم مصالح هذا العقد إلا بذلك، إذ لا مندوحة عنه ولا

 

ج / 2 ص -156-       خلاص منه، المثال الثالث عشر: من لا يملك تصرفا لا يملك الإذن فيه ويستثنى من ذلك المرأة فإنها لا تملك النكاح وتملك الإذن فيه. وكذلك الأعمى لا يملك البيع والإجارة على العين ويملك الإذن فيهما. وأما إيجارة نفسه وشراؤها من سيدها وكتابته عليها فجائز لعلمه بالمعقود عليه، ومن لا يملك الإنشاء لا يملك الإقرار بما لا يملكه من الإنشاءات وقد استثني منه المرأة لا تملك إنشاء النكاح وتملك الإقرار به وكذلك لا يملك مجهول الحرية إنشاء الرق على نفسه ويملك الإقرار به ولا يصح الإبراء مما لا يملكه، الإنسان ويصح مما ملكه وإن وجد سبب ملكه ووجوبه ولم يملك ففي صحة الإبراء منه قولان، ووجه الصحة تقدير الملك والوجوب عند التسبب، وحكم الضمان في ذلك حكم الإبراء.
المثال الرابع عشر: لا يجتمع العوضان، إنما جوزت لمصالح المتعاقدين فلا يختص أحدهما، وكذلك لا تصح الإجارة على الطاعات كالإيمان والجهاد والصلاة، لأنها لو صحت لاجتمع الأجر والأجرة لواحد، وإنما جازت الإجارة في الأذان لأن الأجرة مقابلة لما فيه من مجرد الإعلام بدخول الأوقات ولما فيه من الأذكار التي يختص أجرها بالمؤذن. وأما المسابقة والنضال فإن الغالب فيهما يفوز بالغلب وأخذ السبق، لأن الحصول عليها حاث على تعلم أسباب الجهاد الذي هو تلو الإيمان، فإن كان السبق من واحد جاز ذلك لما ذكرناه، وإن كان من المتسابقين والمتناضلين فلا بد من إدخال محلل بينهما تمييزا لصورة المسابقة والمناضلة عن صورة القمار، كما شرط في النكاح الولي والشهود تمييزا لصورة النكاح عن صورة السفاح، المثال الخامس عشر: إيجار المأجور بعد قبضه جائز من أن المنافع لم تقبض، ولكن أقام الشرع قبض محلها مقام قبضها في نفسها للحاجة إلى ذلك، ولو تلفت العين في أثناء المدة لانفسخ العقد فيما بقي لفوات بعض المعقود عليه قبل قبضه، المثال السادس عشر: إيجار عمر رضي الله عنه أرض السواد بأجرة مؤبدة معدومة مجهولة المقدار لما في ذلك من المصلحة

 

ج / 2 ص -157-       العامة المؤبدة، ولو أجرها ذرية مستأجريها بأجرة مجهولة لم يجز على الأصح إذ يجوز للمصالح العامة ما لا يجوز للخاصة، وقال ابن شريح ما يؤخذ منه ثمن، وهو أيضا خارج عن القياس، ولكن الذي ذكره الشافعي أبعد من القياس، لأن الجهالة واقعة في العوض والمعوض، وعلى قول ابن شريح تختص الجهالة بالثمن دون المثمن، لكنه خالف النقل في أن عمر أخرجها من الكفار. والإجارة لا تنفسخ بموت المؤجر، وفي مذهب الشافعي إشكال من جهة حكمه بالوقف على أرباب الأيدي بمجرد الرواية من غير بينة قامت على ذلك، ولا إقرار من ذي اليد، فإن الأيدي لا تزال في الشرع بمجرد الأخبار الصحيحة، وإنما تزال ببينة أو بإقرار، ومثل هذا الإشكال وارد عن مالك في أراضي مصر.
المثال السابع عشر: لا يجوز تقطيع المنافع في الإجارة إلا عند مسيس الحاجة، فإذا استأجر لبعض الأعمال يوما خرجت أوقات الأكل والشرب والصلاة وقضاء الحاجات عن ذلك لمسيس الحاجة إلى هذا التقطيع، وكذلك لو استأجره للخدمة أو لبعض الأعمال شهرا أو سنة أو جمعة خرجت هذه الأوقات مع الليالي عن الاستحقاق، فإن ذلك لو منع لأدى إلى ضرر عظيم. ولو قال استأجرتك من أول النهار إلى الظهر ومن العصر إلى المغرب لما صحت الإجارة، إذ لا حاجة إلى التقطيع، وكذلك الاستئجار للحمل والنقل والركوب تنقطع فيه المنافع في المراحل والمنازل الخارجة عن الاستحقاق ومطرد العادات. وقد أجاز بعض العلماء الإجارة في الحال وعلى الحول القابل لأن المنافع لا تكون في حال العقد إلا معدومة، ولا فرق بين المنافع المتعقبة العقد وبين المنافع المستقبلة، والشافعي رحمه الله يجعل المنافع المستقبلة للعقد المتحد تابعة لما يتعقب العقد من المنافع، ويجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع، ويجاب عنه بأن القليل يتبع الكثير في العقود، ولا يجوز أن يجعل معظم المقصود تابعا لأقله فلو أجره عشر سنين لكان ما يستقبل من مقصود العقد تابعا لما يتعقب العقد من المنفعة التافهة.

 

ج / 2 ص -158-       [فائدة] كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه بما يوافق مقصود العقد صح فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب ويقطع المنفعة لزمه ذلك، ولو أدخل أوقات قضاء الحاجات في الإجارة مع الجهل بحال الأجير في قضاء الحاجة لم يصح، ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب وأن يقتصر في الفرائض على الأركان صح ووجب الوفاء بذلك لأن تلك الأوقات إنما خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشرط، فإذا صرح بخلاف ذلك مما يجوزه الشرع ويمكن الوفاء به جاز، كما لو أدخل بعض الليل في الإجارة بالنص عليه، ولو شرط عليه أن يعمل شهرا الليل والنهار بحيث لا ينام ليلا ولا نهارا فالذي أراه بطلان هذه الإجارة لتعذر الوفاء به، فإن النوم يغلب بحيث لا يتمكن الأجير من العمل، فكان ذلك غررا لا تمس الحاجة إليه، بخلاف ما لو شرط ذلك في ليلة أو ليلتين، المثال الثامن عشر: أكل الوصي الفقير من مال اليتيم بالمعروف إن جعلناه قرضا فقد اتحد المقرض والمقترض لأنه مقترض لنفسه ومقرض عن اليتيم، وإن لم نجعله قرضا فقد قبض من نفسه لنفسه، ولا يأخذ أكثر من أجرة مثله، لأن ذلك مقيد بالمعروف، لأن الله تعالى قيد ذلك بالمعروف. المثال التاسع عشر: المخالطة في الطعام جائزة من المطلقين، لأن كل واحد من المخالطين باذل للآخرين ما يأكلونه وإن كان مجهولا، إذ لا يشترط العلم في الإباحة، فإن المنائح والعواري وثمار البساتين جائزة مع الجهل بقدر ما يتناوله المباح له من ذلك، وكذلك ما يأكله الضيفان كما ذكرناه. وأما مخالطة الأوصياء وأولياء اليتامى في مثل ذلك فيجوز أن يكون ذلك إباحة في مقابلة إباحة، فإن الإباحة في مال اليتيم هي التي لا مقابل لها، بخلاف هذه الإباحة ويجوز أن تكون مخالطة المحجور عليهم ومخالطة المطلقين من باب المعاوضة، فيكون ما يأكله كل واحد منهم من نصيب غيره في مقابلة ما بذله من نصيب نفسه، وإن تفاوت المتقابلان، ولا يجوز للوصي أن يخالط اليتيم بحيث يقطع بأنه أكل من

 

ج / 2 ص -159-       ماله أكثر مما بذله، ولذلك قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} أي يعرف المفسد لما يتناوله من تفاوت المقابلة، والأولى بالولي والوصي أن يخالطا اليتيم بما يعلمان أن اليتيم يأكل بقدر ماله أو أكثر منه. فإن قيل لو كانت المخالطة من باب المقابلة لأدى ذلك إلى الربا للجهل بالمماثلة، ولأن معظم الأطعمة خارج عن حال كمال المأكول، فيجاب عن ذلك بأن هذا رخصة من المستثنيات للحاجات العامة فلا يتقاعد عن رخصة العرايا في الجهل بالمماثلة وخروج الرطب عن حال الكمال، بل لو علمت المفاضلة ههنا بين المخالطين لجاز في مخالطة غير الأيتام، وكذلك في الأيتام، إذا كان ما يأكل اليتيم أكثر من ماله للحاجة إلى ذلك، المثال العشرون: لا يصح قبض الصبي والمجنون لشيء من الأعيان والديون سواء كان المقبوض لهما أو لغيرهما، ويستثنى من ذلك ما مست الحاجة إليه ودعت إليه الضرورة، كثياب الصبي والمجنون وما يدفع إليهما من الطعام والشراب ليأكلاه، وكذلك إرضاع الصبي لما استؤجرت المرأة على رضاعة فلا يصح قبضها فيما وراء ذلك. وقد أجاز الشافعي رحمه الله الخلع على الإرضاع ومن طعام الصبي عشر سنين إذا وصف الطعام بصفات السلم، فإن سلمت الطعام إلى الولي ثم سلمه إليها لتطعمه الصبي برئت ذمتها، وإن أذن لها في إطعامه إياه فهذا مما لا تمس الحاجة العامة ولا الضرورة الخاصة إليه، فلا وجه لمخالفة القاعدة فيه لندرته وسهولة الانفكاك منه والانفصال عنه. ولو قال لإنسان ادفع ديني عليك إلى صبي أو مجنون أو ألقه ففعل لم يبرأ من الدين، إذ لا براء منه إلا بقبض صحيح، ولو وثب صبي أو مجنون فقتلا قاتل أبيهما ففي وقوعه قصاص خلاف، لأن الغرض بالقصاص تفويت نفس الجاني وإزالة حياته بسبب مضمن وقد تحقق ذلك. المثال الحادي والعشرون: لو عم الحرام الأرض بحيث لا يوجد فيها حلال جاز أن يستعمل من ذلك ما تدعو إليه الحاجة، ولا يقف تحليل ذلك على الضرورات لأنه لو وقف عليها لأدى إلى ضعف العباد واستيلاء أهل

 

ج / 2 ص -160-       الكفر والعناد على بلاد الإسلام، ولا يقطع الناس عن الحرف والصنائع والأسباب التي تقوم بمصالح الأنام.
قال الإمام رحمه الله: ولا يتبسط في هذه الأموال كما يتبسط في المال الحلال بل يقتصر على ما تمس إليه الحاجة دون أكل الطيبات وشرب المستلذات ولبس الناعمات التي هي بمنازل التتمات، وصور هذه المسألة أن يجهل المستحقين بحيث يتوقع أن يعرفهم في المستقبل، ولو يئسنا من معرفتهم لما تصورت هذه المسألة لأنه يصير حينئذ للمصالح العامة، وإنما جاز تناول ذلك قبل اليأس من معرفة المستحقين، لأن المصلحة العامة كالضرورة الخاصة، ولو دعت ضرورة واحد إلى غصب أموال الناس لجاز له ذلك بل يجب عليه إذا خاف الهلاك لجوع أو حر أو برد، وإذا وجب هذا لإحياء نفس واحدة، فما الظن بإحياء نفوس، مع أن النفس الواحدة قد لا يكون لها قدر عند الله، ولا يخلو العالم من الأولياء والصديقين والصالحين، بل إقامة هؤلاء أرجح من دفع الضرورة عن واحد قد يكون وليا لله، وقد يكون عدوا لله، وقد جوز الشرع أكل اللقطة بعد التعريف ولم يشترط الضرورة. ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصل له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المصلحة لا يجوز إهمالها، وأن هذه المفسدة لا يجوز قربانها، وإن لم يكن فيها إجماع ولا نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك. ومثل ذلك أن من عاشر إنسانا من الفضلاء الحكماء العقلاء وفهم ما يؤثره ويكرهه في كل ورد وصدر ثم سنحت له مصلحة أو مفسدة لم يعرف قوله فإنه يعرف بمجموع ما عهده من طريقته وألفه من عادته أنه يؤثر تلك المصلحة ويكره تلك المفسدة. ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة، ولعلمنا أن الله أمر بكل خير دقه وجله، وزجر عن كل شر دقه وجله، فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبر به عن جلب المفاسد ودرء المصالح، وقد قال تعالى:
{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ

 

ج / 2 ص -161-       مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وهذا ظاهر في الخير الخالص والشر المحض. وإنما الإشكال إذا لم يعرف خير الخيرين وشر الشرين أو يعرف ترجيح المصلحة على المفسدة أو ترجيح المفسدة على المصلحة أو جهلنا المصلحة والمفسدة، ومن المصالح والمفاسد ما لا يعرف إلا كل ذي فهم سليم وطبع مستقيم يعرف بهما دق المصالح والمفاسد وجلهما، وأرجحهما من مرجوحهما، وتفاوت الناس في ذلك على قدر تفاوتهم فيما ذكرته، وقد يغفل الحاذق الأفضل عن بعض ما يطلع عليه الأخرق المفضول ولكنه قليل. وأجمع آية في القرآن للحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فإن الألف واللام في العدل والإحسان للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دق العدل وجله شيء إلا اندرج في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} ولا يبقى من دق الإحسان وجله شيء إلا اندرج في أمره بالإحسان، والعدل هو التسوية والإنصاف، والإحسان: إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة وكذلك الألف واللام في الفحشاء والمنكر والبغي عامة مستغرقة لأنواع الفواحش ولما يذكر من الأقوال والأعمال. وأفرد البغي - وهو ظلم الناس - بالذكر مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به، فإن العرب إذا اهتموا أتوا بمسميات العام. ولهذا أفرد البغي وهو الظلم مع اندراجه في الفحشاء والمنكر للاهتمام به، كما أفرد إيتاء ذي القربى بالذكر مع اندراجه بالعدل والإحسان.
[فائدة] الإحسان لا يخلو عن جلب نفع أو دفع ضرر أو عنهما. وتارة يكون في الدنيا، وتارة يكون في العقبى: أما في العقبى فتعليم العلم والفتيا والإعانة على جميع الطاعات وعلى دفع المعاصي والمخالفات، فيدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان. وأما في الدنيا فبالإرفاق الدنيوية ودفع المضار الدنيوية، وكذلك إسقاط الحقوق والعفو عن المظالم. قال بعض العلماء ينبغي أن لا يعفى عن

 

ج / 2 ص -162-       الظالم كي لا يجترئ على المظالم وهو بعيد من القواعد، لأن الغالب ممن يعفى عنه أنه يستحي ويرتدع عن الظلم ولا سيما عن ظلم المعافى وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: "بأنه لا يجزي بالسيئة السيئة". ولكن يعفو ويصفح، مع أن الجرأة عليه أقبح من كل جرأة، ولأن العفو لا يؤدي إلى الجرأة غالبا إذ لا يعفو من الناس إلا القليل، وقد مدح الله العافين عن الناس وهو عفو يحب العفو، وقد رغب في العفو بقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} وقال في القصاص: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ}. قال بعضهم لو أرخص بعض الناس في السعر على الناس وسامحهم في البيع وساهلهم في الثمن من ذلك لما يؤدي إليه من كساد أهل سوقه، وهذا أيضا بعيد فإن الذين يسامحون من المشترين أكثر من الكاسدين من أهل السوقة فلا ترجح مصالح خاصة على مصالح عامة، وقد قال عليه السلام: "رحم الله رجلا سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى، سمحا إذا قضى، سمحا إذا اقتضى". المثال الثاني والعشرون: الكتابة وهي خارجة عن القياس، فإنها في الحقيقة هي بيع ملك السيد وهو الرقبة بما يملكه من اكتساب العبد، لكن الشرع قدر الأكساب خارجة عن ملك السيد. وجعل الأعمال الواقعة بينه وبين السيد كالمعاملة الواقعة بين السيد وبين الأجنبي تحصيلا لمصالح العتق. ولكن مذهب الشافعي رحمه الله مشكل من جهة أنه شرط في الكتابة التنجيم بنجمين. ولو كاتبه على ثمن درهم وأجله مثلا بشهر لم يصح عند الشافعي مع كونه أقرب إلى تحصيل العتق، وهذا لا يلائم أوضاع العقود لأن كل ما كان أقرب إلى تحصيل المقصود من العقود كان أولى بالجواز لقربه إلى تحصيل المقصود، وقد خولف في ذلك ومنع أيضا من الكتابة الحالة مع كونها مقتضية لتعجيل تحصيل المقصود، وقد علل ذلك بعجز المكاتب عن النجوم الحالة، وقد رد ذلك بالبيع من المفلس. وأجيب عنه بأنه يملك المبيع فيكون موسرا به، وهذا لا يستقيم، فإنه لو اشترى ما يساوي درهما واحدا بمائة درهم حالة فإن البيع يصح مع عجزه عن معظم الثمن. وكذلك

 

ج / 2 ص -163-       لو تبايع اثنان عينا غائبة والمشتري معسر، وهما في برية ومسافة بعيدة فإن المشتري عاجز عن تسليم الثمن في الحال، والبيع مع ذلك صحيح.
المثال الثالث والعشرون: اعلم أن الله قسم أموال المصالح العامة على قدر الحاجات والضرورات، وقسم الغنائم أيضا على قدر الحاجات: فجعل للراجل سهما واحدا لأن له حاجة واحدة، وجعل للفارس ثلاثة أسهم لأن له ثلاث حاجات: حاجة لنفسه وحاجة للفرس، وحاجة لسائس فرسه. وكذلك مواريث البنين والبنات والإخوة والأخوات على قدر الحاجات: فجعل للإناث من هؤلاء سهما واحدا، وجعل للذكر سهمين، لأن للذكر في الغالب حاجة لنفسه وحاجة لزوجته، وللأنثى في الغالب حاجة واحدة لأنها مكفولة في الغالب، والرجل كافل في الغالب، لكن خولف هذا القياس في الإخوة من الأم: فسوى فيهم بين ذكورهم وإناثهم من جهة إدلائهم بالأم، وسوى بين الأب والأم: فجعل لكل واحد منهما السدس مع وجود الأولاد، وفضل الأب مع الأم مع فقدهم، وقدم الأبناء على الآباء في التعصيب لأن الابن بضعة من الأب وبعض له، فكان بعض الميت أحق بماله من أبيه لأنه أقرب إليه، ويقدم الآباء على الإخوة والأخوات، لأنهن بضعة من الأموات، لكن خولف القياس فيما إذا مات عن مائة وخمسين درهما وعن مائة بنت وأخت واحدة من أبويه، فإن الأخت تفوز بالثلث وهو أضعاف ما يحصل للبنات مع قربهن، إذ يحصل لكل بنت درهم واحد، ويحصل للأخت خمسون درهما مع كون البنت بضعة للميت وبعضا له، والأخت بضعة من الجد مع بعده، وهذا موغل في البعد عن القياس. وكذلك خولف القياس في الإخوة مع الجد لأن كل واحد منهما يدلي بالأب والأخ أولى بالأب المدلى به، والجد ليس كذلك، ولهذا جعل الشافعي الأخ في باب الولاء مقدما على الجد على قول، لكنه بضعة من المدلى به، ولولا إجماع الصحابة على أن الأخ لا يقدم على الجد في الإرث

 

ج / 2 ص -164-       لقال بتقديم الأخ كما قال به في الولاء. المثال الرابع والعشرون: الأحداث المطلقون مستقلون في التصرف في منافع أموالهم وأجسادهم، واستثني من ذلك تزويج المرأة نفسها لما في مباشرتها ذلك من المشقة والخجل والاستحياء، ولا سيما في حق المحضرات بحضرة شهود النكاح، وكذلك إجبار الأب البكر المستقلة مخالف لقاعدة التصرف في منافع الحر بغير اختيار، لكنه جاز للآباء والأجداد، لما فيهم من الاستصلاح وتحصيل مقاصد النكاح.
المثال الخامس والعشرون: قول الرجل لزوجته إن أعطيتني ألفا فأنت طالق ففعلت فإنها تطلق: وهو مشكل لأنه إن حمل الإعطاء على الإقباض من غير تمليك فينبغي أن تطلق ولا يستحق شيئا كما لو قال إن أقبضتني ألفا فأنت طالق وإن أراد إعطاء التمليك فكيف يصح التمليك بمجرد الفعل، فإن قيل قد قام تعليق الطلاق على الإعطاء من الإيجاب، قلنا فكيف يصح أن يكون الإيجاب بالفعل، وقاعدة الشافعي أن العقود لا تنعقد إلا بالأفعال، ولو قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فأعطته ألفا من غير النقد الغالب، وقع الطلاق ووجب الإبدال بألف من الغالب، وهذا في غاية الإشكال، لأن الطلاق إن علق على غير الغالب لم يجب إبداله، كما لو نص عليه، وإن علق على الغالب فينبغي أن لا يقع الطلاق بغير الغالب، لأن الشرط لم يوجد، المثال السادس والعشرون: لا يجوز إسقاط شيء من حقوق المولى عليه مجانا ويستثنى بعد ذلك عفو الولي المجبر عن نصف الصداق قبل الدخول لما في المسامحة من وليها، المثال السابع والعشرون: من أتلف شيئا عمدا بغير حق لزمه الضمان جبرا لما فات من الحق ويستثنى من ذلك صور. إحداها: ما أتلفه الكفار على المسلمين من النفوس والأموال فإنهم لا يضمنون لما في تضمينه من التنفير عن الإسلام، وإتلافهم إياه محرم لأنهم مخاطبون بفروع الإسلام. الصورة الثانية: ما يتلفه المرتدون في حال القتال، وفي تضمنه مع تحريمه اختلاف من جهة أن التضمين منفر من الإسلام، ولكن الردة

 

ج / 2 ص -165-       لا تعم عموم الكفر الأصلي. الصورة الثالثة ما يتلفه البغاة على أهل العدل في حال القتال فإنهم لا يضمنونه على قول لما فيه من التنفير عن الطاعة والإذعان، وعلى قول يضمنون لانحطاط رتبة التنفير عن الإسلام، ولا يتصف إتلافهم بتحليل ولا تحريم ولا إباحة لأنه خطأ معفو عنه. الصورة الرابعة: ما يتلفه العبيد على السادة فإنهم لا يضمنونه مع تحريم إتلافهم وفي هذا إشكال، لأن إيجاب ما يتلفه العبيد في ذمتهم لا يمنع منه شرع ولا عقل، ولا فرق بين السادة وغيرهم في ذلك، وكذلك قولهم لا يثبت للسيد دين في ذمة عبده لا وجه له. وأما ما يتلفه العبد على غير سيده فإنه يتعلق برقبته خلافا لأهل الظاهر، وهذا مشكل من جهة لأن السيد لم يتلف شيئا ولا تسبب إلى إتلافه والذي تقتضيه القواعد أن يبث في ذمة العبد ولا يتعلق برقبته، ولا وجه لقول من قال إنما وقع التعلق برقبته، لتفريط السيد في حفظه فصار كالبهيمة إذا قصر صاحبها في حفظها فأتلفت شيئا، لأن التعلق بالرقبة في عبيد الصبيان والمجانين ثابت مع أنه لا ينسب إليهم تقصير بسبب ولا مباشرة ولا شرط، والتقصير في حفظ الدابة لا يختص بمالكها بل يعم من قصر في ضبطها وحفظها من مالك أو غالب أو مودع أو مستعير أو مستأجر. الصورة الخامسة: أن الإمام والحاكم إذا أتلفا شيئا من النفوس أو الأموال في تصرفهما للمصالح فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم والإمام ودون عواقلهما على قول الشافعي، لأنهما لما تصرفا للمسلمين صار كأن المسلمين هم المتلفون ولأن ذلك يكثر في حقهما فيتضرران به ويتضرر عواقلهما. الصورة السادسة: أن الجلاد إذا قتل بالحد أو القصاص من لا يجوز قتله في نفس الأمر فإنه لا يطالب بشيء من ضمان ذلك مع كونه غير ملجئ إلى الإتلاف، ومن وضع يده خطأ على مال غيره لزمه ضمانه إلا الحكام وأمناء الحكام فيما يتعلق بعهدة ما باعوه، لأن ذلك لو شرط لزهد الناس في البيع بطريق الحكم ونيابة الحكم، المثال الثامن والعشرون: إهدار الضمان مع التسبب وقد ذكرنا أن الضمان يجب تارة بالمباشرة،

 

ج / 2 ص -166-       وتارة بالتسبب واستثني من ذلك صور يشق الاحتراز منها وتدعو الحاجة إلى التسبب إليها. إحداها: إرسال البهائم للرعي بالنهار فإنه لا يضمن ما تتلفه لما في تضمنه من الضرر العام. الصورة الثانية: إذا أوقد في داره نارا على الاقتصاد المعتاد فطار منها شرر فأتلف شيئا بالإحراق فإنه لا يضمن لما ذكرناه. الصورة الثالثة: إذا سقى بستانه على الاقتصاد في مثله فسرى إلى جاره فأفسد له شيئا فلا ضمان عليه. الصورة الرابعة: إذا ساق دابته على الاقتصاد في الأسواق فأثارت غبارا أو شيئا من الأوحال والإيذاء فأفسد ذلك شيئا فلا ضمان، إلا أن يزيد على الاقتصاد في السوق. ولو ساق في الأسواق إبلا غير مقطورة أو ركب دابة نزقة لا يؤثر فيها كبح اللجام لزمه الضمان لخروج ذلك عن المعتاد، ولو بالت أو راثت في الطريق فتلف بذلك إنسان أو غيره فلا ضمان، وإن أوقفها فزاد انتشار بولها وروثها بسبب وقفها فإن كان الطريق واسعا لم يضمن، وإن كان ضيقا لزمه الضمان، المثال التاسع والعشرون: الأصل في الضمان أن يضمن المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته، فإن تعذر المثل رجع إلى القيمة جبرا للمالية، ولو شرب المضطر ماء لأجنبي له قيمة خطيرة حيث شربه ضمنه لمستحقه بقيمته إذا رجع إلى المصر إذ لا قيمة لمثله في الأمصار، وإن كانت له قيمة فهي خسيسة. المثال الثلاثون: الذكاة واجبة في الحيوان المأكول تقليلا لما فيه من الدم النجس واستثني من ذلك ما لا يقدر على ذكاته من الوحوش والطيور وشوارد الأنعام فإن جرحها يقوم مقام ذكاتها لتعذر ذكاتها، وكذلك لو سقط بعير في بئر يتعذر رفعه منه، وأمكن طعنه في بعض مقاتله حل بذلك، وهذا وأمثاله داخل في قول الشافعي: بنيت الأصول على أن الأشياء إذا ضاقت اتسعت يريد؛ بالأصول قواعد الشريعة، وبالاتساع الترخيص الخارج عن الأقيسة واطراد القواعد، وعبر بالضيق عن المشقة.
[فائدة] إذا سقط الصيد وفيه حياة مستقرة: فإن كان بحيث لو سعى إليه عدوا لأدرك ذكاته فلم يفعل ذلك حرم، وإن لم يمكن ذلك حل وإن بقي على حياة

 

ج / 2 ص -167-       مستقرة، ولا يلزمه أن يجهد نفسه ليدرك ذكاته، بل يعدو إليه عدوا كعدو الصيادين. المثال الحادي والثلاثون: إذا ظهر في نصيب أحد المقتسمين حق معين لإنسان كبيت من دار يطلب القسمة لخروجها عن حقيقتها، فإن القسمة إفراد ما يستحق كل واحد من المقتسمين ولا يحق له ههنا، ولو خرج ذلك في قسمة الغنائم وعسر إبطالها لكثرتهم لم يحكم ببطلانها، وعوض من وقع المستحق في نصيبه من سهم المصالح العامة لما في نقض القسمة مع كثرة الجند من العسر، ولو كان الجند قليلا كعشرة مثلا فينبغي أن تبطل القسمة إذ لا عسر في إعادتها. المثال الثاني والثلاثون: من ملك شيئا ثم أعرض عنه وتركه لغيره لم يزل ملكه عنه إلا الغنائم إذا ترك حقه من الغنيمة فإنه يسقط حقه ويبطل ملكه، لأن مقصود الجهاد الأعظم إنما هو إعلاء كلمة الدين، وملك الغنائم تابع لذلك غير مقصود، فإذا أعرض عنه سقط لأنه غير مقصود، وليتمحص الجهاد لنصرة الدين وإعلاء كلمة رب العالمين. المثال الثالث والثلاثون: لا يجوز تعطيل الإنسان عن منافعه وأشغاله واستثني من ذلك تعطيل المدعى عليه إذا استدعاه الحاكم بطلب خصمه لإحضاره لما فيه من المصلحة العامة، وكذلك تعطيل الشهود إذا استحضروا لما تعين عليهم أداؤه، وكذلك استحضارهم لما لا يتم إلا بالشهادة كالنكاح، لأنها حقوق واجبة فصار كتعطيلهم فيما لا يثمر من حقوق الله إلا بالتعليل: كالغزوات والجمعات وتغيير المنكرات. المثال الرابع والثلاثون: لا يستوفي أحد حق نفسه بالضرب واستثني من ذلك العبد والأمة إذا استغنى من خدمة السيد والقيام بحقوقه ولم يرتدعا بالوعظ والكلام، وكذلك المرأة الناشزة على زوجها، وهو أن يضربها لاستيفاء حقه، والضرب في هذا كله غير مبرح، ويختلف باختلاف المضروب في الضعف والقوة. المثال الخامس والثلاثون: من قدر على استيفاء حق له مضبوط معين فله استيفاؤه: كانتزاع المغصوب من غاصبه، والمسروق من سارقه، ويستثنى من ذلك القصاص فإنه لا يستوفى إلا بحضرة

 

ج / 2 ص -168-       الإمام لأن الانفراد باستيفائه محرك للفتن، ولو انفرد بحيث لا يرى فينبغي أن لا يمنع منه، ولا سيما إذا عجز عن إثباته. وكذلك لا يستوفى حد القذف إلا بحضرة الإمام، ولا ينفرد مستحقه باستيفائه لأنه غير مضبوط في شدة وقعه وإيلامه. وكذلك التعزير لا يفوض إلى مستحقه إلا أن يضبطه الإمام بالحبس في مكان معلوم في مدة معلومة فيجوز له أن يتولاه المستحق. وكذلك لا يجوز تفويض الحد والتعزير إلى عدو المحدود والمعزر: لما يخشى ذلك من مجاوزة الشرع في شدة الضرب. وكذلك لا يفوض إلى الآباء والأبناء لاتهامهم في تخفيفه عن القدر المشروع، ولو فوض الإمام قطع السرقة إلى السارق، أو وكل المجني عليه الجاني في قطع عضو القصاص فوجهان: أحدهما: يجوز لحصول المقصود باستيفائه. والثاني لا يجوز لأن الاستيفاء لغيره أزجر له كما قالت الزباء لما مصت السم من خاتمها: بيدي لا بيدك يا عمرو. ولو أوجر رجلا سما مدففا فقتله فأمره ولي القصاص بأن يشرب مثل ذلك السم، فينبغي أن يخرج على الوجهين، وقد قدمنا نظائر كثيرة لما خالف القواعد والأقيسة لما فيه من جلب المصالح العامة والخاصة، والشريعة كلها مصالح من رب الأرباب لعباده فيا خيبة من لم يقبل نصحه في الدنيا والآخرة.

ارض لمن غاب عنك غيبته                            فذاك ذنب عقابه فيه

وكفى بالإنسان شرفا أن يتزين بطاعة مولاه فيما أمره ونهاه. وكفى به شرا أن يؤثر هواه على طاعة مولاه {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.