كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية
الدليل الأول: الكتاب
أما الكتاب فالقرآن المنزل على رسول الله المكتوب في
المصاحف
ـــــــ
قوله: "أما الكتاب فالقرآن" اعلم أن الحد ونعني به المعرف
للشيء لفظي ورسمي وحقيقي.
1 - فاللفظي هو ما أنبأ عن الشيء بلفظ أظهر عند السائل من
اللفظ المسئول عنه مرادف له كقولنا العقار الخمر والغضنفر
الأسد لمن يكون الخمر والأسد أظهر عنده من العقار
والغضنفر.
2 - والرسمي هو ما أنبأ عن الشيء بلازم له مختص به كقولك
الإنسان ضاحك منتصب القامة عريض الأظفار بادي البشرة.
3 - والحقيقي ما أنبأ عن ماهية تمام الشيء وحقيقته كقولك
في جسد الإنسان هو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق,
فالأولان مؤنتها خفيفة إذ المطلوب منهما تبديل لفظ بلفظ أو
ذكر وصف يتميز به المحدود عن غيره. وأما الحقيقي فمن
شرائطه أن يذكر جميع أجزاء الحد من الجنس والفصول وأن يذكر
جميع ذاتياته بحيث لا يشذ واحد وأن يقدم الأعم على الأخص
وأن لا يذكر الجنس البعيد مع وجود الجنس القريب وأن يحترز
عن الألفاظ الوحشية الغريبة والمجازية البعيدة والمشتركة
المترددة وأن يجتهد في الإيجاز فإن أتى بلفظ مستعار أو
مشترك وعرف مراده بالتصريح أو بالقرينة فلا يستعظم ذلك إن
كان قد كشف عن الحقيقة بذكر جميع الذاتيات إذ هو المقصود
وغيره تزيينات وتحسينات فلا يبالي بتركها لكن من شرط
الجميع الاطراد. وهو أنه متى وجد الحد وجد المحدود
والانعكاس وهو أنه إذا عدم الحد عدم المحدود; لأنه لو لم
يكن مطردا لما كان مانعا لكونه أعم من المحدود ولو لم يكن
منعكسا لما كان جامعا لكونه أخص من المحدود وعلى التقديرين
لا يحصل التعريف, إذا عرف هذا فنقول ما ذكر الشيخ رحمه
الله تعالى ليس بحد حقيقي سواء أراد به تعريف مجموع الكتاب
من حيث هو مجموع أو تعريف ما يطلق عليه لفظ الكتاب في
الشرع حقيقة أو مجازا حتى دخل فيه الكل والبعض; لأنه تعرض
فيه للكتابة في المصحف والنقل وهما من العوارض ألا ترى
(1/36)
المنقول عن
النبي عليه السلام نقلا متواترا بلا شبهة, وهو النظم
والمعنى
ـــــــ
في زمن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان قرآنا بدون
هذين الوصفين ولم يتعرض للإعجاز وهو معنى ذاتي لهذا الكتاب
المحدود.
ثم قيل هو حد رسمي وأحسن الحدود الرسمية ما وضع فيه الجنس
الأقرب وأتم باللوازم المشهورة فلا جرم قال فالقرآن وهو
مصدر كالقراءة قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18], أي قراءته وأنه بمعنى
المقروء ههنا فيتناول جميع ما يقرأ من الكتب السماوية
وغيرها, فاحترز بقوله المنزل عن غير الكتب السماوية وعن
الوحي الذي ليس بمتلو; لأن المراد من المنزل ما أنزل نظمه
ومعناه والوحي الذي ليس بمتلو لم ينزل إلا معناه, وبقوله
على رسول الله عما أنزل على غيره من الأنبياء عليهم السلام
من التوراة والإنجيل والزبور أو نحوها. وبقوله المكتوب في
المصاحف عما نسخت تلاوته وبقيت أحكامه مثل الشيخ والشيخة
إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله, وبقوله المنقول
عنه نقلا متواترا عما اختص بمثل مصحف أبي1 وغيره مما نقل
بطريق الآحاد نحو قوله: فعدة من أيام أخر متتابعات, وبقوله
بلا شبهة عما اختص بمثل مصحف ابن مسعود رضي الله عنه مما
نقل بطريق الشهرة, وهذا على قول الجصاص2 ظاهر, فإنه جعل
المشهور أحد قسمي المتواتر وعلى قول غيره يكون قوله نقلا
متواترا احترازا عنهما وقوله بلا شبهة تأكيدا, وهذا الموضع
صالح للتأكيد لقوة شبه المشهور بالمتواتر.
فعلى هذا القول يكون هذا تعريف الكتاب بالمعنى الثاني
فيدخل فيه الكل والبعض, وإنما لم يتعرض للإعجاز; لأنه يدل
على صدق الرسول لا على كونه كتاب الله تعالى إذ يتصور
الإعجاز بما ليس بكلام الله تعالى إليه أشير في التقويم;
ولأن بعض الآية ليس بمعجز, وهو من الكتاب كذا قيل; ولأن
أصالته للأحكام وكونه حجة فيه لا يتعلق بصفة الإعجاز,
وإنما يتعلق بما ذكر من الأوصاف.
وقيل هو حد لفظي; لأن القرآن اسم علم للمنزل على الرسول
صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي المتلو كالتوراة اسم
للمنزل على موسى والإنجيل اسم للمنزل على عيسى عليهما
السلام قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً
عَرَبِيّاً} [يوسف: 2], والدليل عليه ما ذكر في الميزان
أما الكتاب فهو المسمى بالقرآن وأنه. وإن أطلق على المعنى
القائم بذات الله تعالى بالاشتراك
ـــــــ
1 هو أبي بن كعب الصحابي الجليل سيد القراء شهد العقبة
وبردرا.
2 هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص من فقهاء
الحنفية توفي سنة 370 هـ.
(1/37)
.........................................................
أو بطريق المجاز, وهو المراد من قولنا القرآن غير مخلوق
لكنه من هذا الإطلاق أوضح من لفظ الكتاب; لأنه لا يطلق إلا
على هذين المعنيين بخلاف الكتاب; فلهذا فسره به, ثم قيده
بالمنزل على رسول الله احترازا عن المعنى القائم بالذات
وبالمكتوب احترازا عن المنسوخ تلاوته لا عن الوحي الغير
المتلو كما ظنه البعض; لأنه بداخل ليجب الاحتراز عنه
والباقي على ما فسرنا فعلى هذا الطريق المنزل على الرسول
قيد واحد بخلاف الطريق الأول ويكون هذا تعريفا للكتاب
بالمعنى الأول فلا يدخل فيه البعض; لأنه ليس القرآن حقيقة
وعلى قول من جعل اسم القرآن حقيقة للبعض كما هو حقيقة للكل
أن يكون هذا تعريفا لفظيا للكتاب بالمعنى الثاني إن كان
للمشترك عموم عنده, قال ابن الحاجب1 هذا تحديد للشيء بما
يتوقف تصوره على ذلك الشيء; لأن الوجود الذهني للمصحف فرع
تصور القرآن فيكون دور أو هو باطل2, قلت ليس الأمر كما
زعم; لأن الأصحاف لغة جمع الصحائف في شيء لا جمع صحائف
القرآن لا غير يقال أصحف أي جمعت فيه الصحف كذا في الصحاح
والمصحف حقيقته مجمع الصحف وعلى هذا لا يتوقف معرفته على
تصور القرآن, فإن معرفته كانت ثابتة لهم قبل كتابة القرآن
في المصحف بل قبل إنزال القرآن; ولكون معناه معلوما سموه
مصحفا; لأنه كان متفرقا في صحائف أولا فجمعوه بين الدفتين
وسموه به ويجوز أن يسمى غيره بهذا الاسم إذا وجد هذا
المعنى وإني قد رأيت دفاتر من الجامع الصحيح للبخاري
مكتوبا عليها المصحف الأول المصحف الثاني فعلى هذا يكون
قوله المكتوب في المصاحف احترازا عما لم يكتب من القرآن
أصلا إن جاز الاحتراز عنه مثل ما ارتفع بالنسيان قبل
الكتابة, فإنه روي أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة
والأولى أن يحمل المصحف على المعهود وأن يمنع لزوم الدور
على هذا الحد, فإنه تعريف للكتاب وتوقف وجود المصحف في
الذهن على تصور القرآن لا يمنع صحته; لأن القرآن معلوم عند
السامع متصور في ذهنه. وإن لم يكن الكتاب معلوما له ولو لم
يكن القرآن معلوما له لما صح جعل القرآن مطلع الحد, وإنما
يلزم الدور المذكور على تعريف القرآن بمثل هذا الحد كما
نقل عن بعض الأصوليين أنه قال القرآن ما نقل إلينا بين
دفات المصاحف مع أنه يمكنه التخلص عنه
ـــــــ
1 هو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي المعروف بابن
الحاجب الفقيه المالكي والمتوفى سنة 646 هـ.
2 ذكره الآمدي في الإحكام: أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه:
هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة
نقلا متواترا والأولى أن يقال: هو كلام الله المنزل على
رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم باللسان العربي المنقول
إلينا بالتواتر بطريق الرواية والكتابة المعجز المتعبد
بتلاوته المبدوء بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس.
(1/38)
.......................................................
أيضا بأن يقول المراد من المصاحف ما جمعته الصحابة من
الوحي المتلو في المصحف فيندفع الدور. فإن قيل يلزم على
اطراد هذا الحد التسمية سوى التي في سورة النمل, فإنها
دخلت تحت الحد وليست بقرآن ولم يتعلق بها جواز الصلاة ولا
حرمة القراءة على الحائض والجنب, ومن أنكرها لا يكفر
وانتفاء اللوازم يدل على انتفاء الملزوم, قلنا الصحيح من
المذهب أنها من القرآن ولكنها ليست من كل سورة عندنا بل هي
آية منزلة للفصل بين السور كذا ذكر أبو بكر الرازي ومثله
روي عن محمد رحمة الله عليه أيضا; ولهذا قال علماؤنا رحمهم
الله في المصلي يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يفتتح
القراءة ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم ففصلوها عن الثناء
ووصلوها بالقراءة وذلك يدل على أنها عندهم من القرآن
والأمر بالإخفاء يدل على أنها ليست من الفاتحة, وإنها تقرأ
تبركا كالقراءة في الأخريين والدليل على أنها من القرآن
أنها كتبت مع القرآن بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتى ينزل عليه
جبريل عليه السلام بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة1
وكذا انتقلت إلينا بين دفات المصاحف مع أنهم كانوا يبالغون
في حفظ القرآن حتى كانوا يمنعون من كتابة أسامي السور مع
القرآن ومن التعشير والنقط كي لا يختلط بالقرآن غيره فلو
أبدع لاستحال في العادة سكوت أهل الدين عنه مع تصلبهم في
الدين لا سيما ورأس السور يكتب بخط يتميز عن القرآن
بالحمرة أو الصفرة عادة والتسمية تكتب بخط القرآن بحيث لا
تتميز عنه فيحيل العادة السكوت على من يبدعها لولا أنه
بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن النقل المتواتر لما
لم يثبت أنها من السورة لم يثبت ذلك وقد اختلف الفقهاء
وأئمة القراءة في كونها من السورة وأدنى أحوال الاختلاف
المعتبر إيراث الشبه; فلهذا لا يثبت كونها من كل سورة
وحديث القسمة, وهو معروف دليل ظاهر على ما قلناه, وإنما لم
يكفر من أنكر كونها من القرآن; لأنه زعم أنها أنزلت وكتبت
للتيمن بها كما تكتب على صدور الكتب وتذكر عند كل أمر ذي
خطر لا لكونها من القرآن والتمسك بمثله يمنع الإكفار. وأما
عدم جواز الصلاة فقد ذكر التمرتاشي2 في شرح الجامع الصغير
أنه لو اكتفى بها يجوز الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله
ولكن الصحيح أنها لا تجوز; لأن في كونها آية تامة شبهة إذ
الصحيح من مذهب الشافعي رحمه الله أنها مع ما بعدها إلى
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود وأخرجه البيهقي نحوه عن ابن مسعود
الإتقان في علوم القرآن 1/78.
2 هو أحمد بن إسماعيل ظهير الدين التمرتاشي الخوارزمي أبو
العباس فقيه حنفي متوفى سنة 600هـ.
(1/39)
جميعا في قول
عامة العلماء وهو الصحيح من قول أبي حنيفة عندنا إلا أنه
لم يجعل النظم ركنا لازما في حق جواز الصلاة خاصة على ما
يعرف في موضعه.
وجعل المعنى ركنا لازما والنظم ركنا يحتمل السقوط رخصة
بمنزلة التصديق
ـــــــ
رأس الآية آية تامة فأورث ذلك شبهة في كونها آية فلا يتأدى
بها الفرض المقطوع به. وأما جواز قراءتها للحائض والجنب
فذلك عند قصد التيمن كما جاز لهما قراءة: {الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} على قصد الشكر فأما عند قصد
قراءة القرآن فلا; لأن من ضرورة كونها آية من القرآن حرمة
قراءتها عليهما. قوله: "وهو النظم والمعنى جميعا" إلى قوله
على ما يعرف في موضعه أي المبسوط, أراد بالنظم العبارات
وبالمعنى مدلولاتها, ثم في العدول عن ذكر اللفظ الذي معناه
الرمي يقال لفظ النوى أي رماه ولفظت الرحى بالدقيق أي رمت
به إلى ذكر النظم الذي يدل على حسن الترتيب في أنفس
الجواهر رعاية للأدب وتعظيم لعبارات القرآن, وفي تعريف
الخاص وغيره ذكر اللفظ; لأن ذلك تعريف له من حيث هو خاص لا
من حيث, إنه خاص القرآن فلا يجب فيه رعاية الأدب, والمراد
من عامة العلماء جمهورهم ومعظمهم, ومنهم من اعتقد أنه اسم
للمعنى دون النظم, وزعم أن ذلك مذهب أبي حنيفة رحمه الله
تعالى بدليل جواز القراءة بالفارسية عنده في الصلاة بغير
عذر مع أن قراءة القرآن فيها فرض مقطوع به فرد الشيخ رحمه
الله ذلك, وأشار إلى فساده بقوله, وهو الصحيح من مذهب أبي
حنيفة عندنا أي المختار عندي أن مذهبه مثل مذهب العامة في
أنه اسم للنظم والمعنى جميعا. وأجاب عما استدل به الزاعم
بقوله, إلا أنه أي لكن أبا حنيفة, لم يجعل النظم ركنا
لازما; لأنه قال مبنى النظم على التوسعة; لأنه غير مقصود
خصوصا في حالة الصلاة إذ هي حالة المناجاة, وكذا مبنى
فرضية القراءة في الصلاة على التيسير قال تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:
20], ولهذا تسقط عن المقتدي بتحمل الإمام عندنا وبخوف فوت
الركعة عند مخالفنا بخلاف سائر الأركان فيجوز أن يكتفى فيه
بالركن الأصلي وهو المعنى, يوضحه أنه نزل أولا بلغة قريش;
لأنها أفصح اللغات فلما تعسر تلاوته بتلك اللغة على سائر
العرب نزل التخفيف بسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم وأذن
في تلاوته بسائر لغات العرب وسقط وجوب رعاية تلك اللغة
أصلا واتسع الأمر حتى جاز لكل فريق منهم أن يقرءوا بلغتهم
ولغة غيرهم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:
"أنزل القرآن على سبعة أحرف كلها كاف شاف" 1 فلما جاز
للعربي ترك لغته إلى لغة غيره من العرب حتى جاز للقرشي أن
يقرأ بلغة تيم مثلا مع كمال قدرته على لغة
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الخصومات 3/160 ومسلم في المسافرين
وأبو داود في الوتر 2/75 – 76 وأحمد 5/114 و391 و332.
(1/40)
......................................................
نفسه جاز لغير العربي أيضا ترك لغة العرب مع قصور قدرته
عنها والاكتفاء بالمعنى الذي هو المقصود, فصار الحاصل أن
سقوط لزوم النظم عنده رخصة إسقاط كمسح الخف والسلم وسقوط
شطر صلاة المسافر حتى لم يبق اللزوم أصلا فاستوى فيه حال
العجز والقدرة. وفي قوله خاصة تنصيص على أن فيما سواه من
الأحكام من وجوب الاعتقاد حتى يكفر كون من أنكر النظم
منزلا وحرمة كتابة المصحف بالفارسية وحرمة المداومة
والاعتياد على القراءة بالفارسية النظم لازم كالمعنى, ولا
يلزم عليه وجوب سجدة التلاوة بالقراءة بالفارسية وحرمة مس
مصحف كتب بالفارسية على غير المتطهر وحرمة قراءة القرآن
بالفارسية على الجنب والحائض على اختيار بعض المشايخ منهم
شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله; لأنه لم يرو عن
المتقدمين من أصحابنا فيها رواية منصوصة وما ذكرنا جواب
المتأخرين فالشيخ رحمه الله بنى على أصلهم لا على مختار
المتأخرين, وإنما بنوه على أن النظم إن فات فالمعنى الذي
هو المقصود قائم فيثبت هذه الأحكام احتياطا لا على أن
النظم ليس بلازم للقرآن.
والدليل عليه أنهم لم يذكروا فيها اختلافا بين أصحابنا ولو
لم يكن طريق ثبوت هذه الأحكام ما ذكرنا لم يستقم هذا
الجواب على قولهما; لأن النظم عندهما كالمعنى, ويؤيد ما
ذكر الإمام المحبوبي1 في شرح الجامع الصغير: جواز الصلاة
حكم يختص بقراءة القرآن فيتعلق بالمنزل على الرسول صلى
الله عليه وسلم قياسا على قراءة القرآن في حق الجنب
والحائض يعني حرمة التلاوة تتعلق بالنظم والمعنى حتى لو
قرأ الجنب أو الحائض بالفارسية جاز. وأجيب أيضا عن سجدة
التلاوة بأنها ملحقة بالصلاة; لأن السجدة من أركان الصلاة
وبينها وبين سجدة التلاوة مشاركة في المعنى, وهو مطلق
السجود فيجوز أن تلحق بالصلاة بواسطتها وركنية النظم قد
سقطت في الصلاة فتسقط فيما ألحق بها, وعن المسألتين بأن
المكتوب أو المقروء بالفارسية كلام الله تعالى, وإن لم يكن
قرآنا فيحرم مسه لغير المتطهر وقراءته للحائض والجنب
كالتوراة والإنجيل والأول أحسن وأشمل, ثم الخلاف فيمن لا
يتهم بشيء من البدع وقد تكلم بالفارسية في الصلاة بكلمة أو
أكثر غير مؤولة ولا محتملة للمعاني وزاد بعضهم ولم يختل
نظم القرآن زيادة اختلال بأن قرأ مكان قوله تعالى:
{مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه: 124] معيشة تنكا أو مكان:
{جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] سزاء أما لو قرأ
تفسير القرآن فلا يجوز بالاتفاق, وعن الإمام أبي
ـــــــ
1 هو عبيد الله بن إبراهيم بن أحمد المجبوبي العبادي ولد
سنة 546 هـ وتوفي سنة 680 هـ.
(1/41)
في الإيمان أنه
ركن أصلي والإقرار ركن زائد على ما يعرف في موضعه إن شاء
ـــــــ
بكر محمد بن الفضل1 أن الخلاف فيما إذا جرى على لسانه من
غير قصد أما من تعمد ذلك فيكون مجنونا أو زنديقا والمجنون
يداوى والزنديق يقتل. وقيل الخلاف في الفارسية; لأنها قربت
من العربية في الفصاحة فأما القراءة بغيرها فلا يجوز
بالاتفاق وقد صح رجوعه إلى قول العامة ورواه نوح بن أبي
مريم عنه ذكره المصنف في شرح المبسوط, وهو اختيار القاضي
الإمام أبي زيد2 وعامة المحققين وعليه الفتوى.
قوله: "وجعل المعنى ركنا لازما" إلى قوله يعرف في موضعه أي
جعل أبو حنيفة رحمه الله المعنى لازما في حالة القدرة لا
في حالة العجز والنظم ركنا قابلا للسقوط رخصة في جميع
الأحوال كما جعل التصديق في الإيمان لازما في جميع الأحوال
والإقرار ركنا زائدا يحتمل السقوط عند العذر فالحاصل أن
المقصود إظهار التفاوت بين الركنين في إحدى الحالتين في
الصورتين; لأنه لا يمكن إظهار التفاوت بينهما في الحالة
الأخرى فيهما; لأن النظم والمعنى لا يفترقان في السقوط
حالة العجز بالاتفاق كما لا يفترق التصديق والإقرار في
اللزوم حالة الاختيار; فلهذا وجب إظهار التفاوت بين النظم
والمعنى حالة القدرة كما وجب في الإقرار والتصديق حالة
الاضطرار, ثم الغرض من إعادة قوله والنظم ركنا يحتمل
السقوط بعدما ذكر أنه لم يجعل النظم ركنا لازما تحقيق كونه
زائدا بإتمام تشبيه الركنين بالركنين كما ذكرنا, وتسمية
الإقرار ركنا مذهب الفقهاء فأما عند المتكلمين فهو شرط
إجراء الأحكام على ما يعرف في موضعه من هذا الكتاب, ولا
يستبعد تسمية النظم ركنا مع جواز تركه حالة القدرة كما لا
يستبعد تسمية ما هو زائد على أصل الفرض في أركان الصلاة
ركنا بعدما صار موجودا مع جواز تركه في الابتداء. فإن قيل
لما جاز الاكتفاء بالمعنى عنده في الصلاة من غير عذر لا بد
من أن يكون ذلك قرآنا إذ لا جواز للصلاة بدون القرآن
بالإجماع وحينئذ لا يكون الحد المذكور متناولا له لعدم
إمكان كتابة المعنى المجرد في المصحف ونقله بالتواتر وما
تعلق المعنى به من العبارة الفارسية مثلا ليس بمكتوب في
المصحف ولا منقول بالتواتر أيضا فلا يكون الحد جامعا أو لا
يكون المعنى بدون النظم قرآنا فينبغي أن لا يجوز الصلاة,
قلنا إنما جاز الاكتفاء عنده بالمعنى إما لقيام المعنى
المجرد في حالة الصلاة قيام النظم والمعنى أو لقيام
العبارة الفارسية الدالة على معنى القرآن مقام النظم
المنقول كما قال أبو يوسف3 ومحمد
ـــــــ
1 هو محمد بن الفضل أبو بكر الفضلي الكماري البخاري مات
سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
2 هو القاضي عبيد الله بن عمر بن عيسى أبو زيد الدبوسي
توفي سنة 430 هـ.
3 هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الكوفي ولد سنة
113 هـ توفي سنة 182 هـ.
(1/42)
الله تعالى
وإنما يعرف أحكام الشرع بمعرفة أقسام النظم والمعنى وذلك
أربعة أقسام فيما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع: القسم
الأول: في وجوه النظم صيغة ولغة
ـــــــ
في حالة العذر فيكون النظم المكتوب المنقول موجودا تقديرا
وحكما فيدخل تحت الحد ويكون الحد جامعا ويفسر قوله المكتوب
في المصاحف المنقول عنه نقلا متواترا بالكتابة والنقل
حقيقة أو تقديرا أو نقول هو يسلم أن المعنى بدون النظم ليس
بقرآن ولكنه لا يسلم أن جواز الصلاة متعلق بقراءة القرآن
المحدود بل هو متعلق بمعناه ويحمل قوله تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]
على أن المراد وجوب رعاية المعنى دون النظم لدليل لاح له
فلا يرد الإشكال. قوله: "وإنما يعرف أحكام الشرع" أي لا
يعرف أحكام الشرع الثابتة بالقرآن أو أحكام شريعة محمد
الثابتة بالقرآن إلا بمعرفة أقسام النظم والمعنى فيجب
معرفة الأقسام لتحصل معرفة الأحكام, وذلك, أي المذكور, وهو
أقسام النظم والمعنى, فيما يرجع إلى معرفة أحكام الشرع
احترازا عما لم يتعلق به معرفة الأحكام من القصص والأمثال
والحكم وغيرها إذ هو بحر عميق لا تنقضي عجائبه ولا تنتهي
غرائبه.
ولا يقال ليس شيء من القرآن مما لا يتعلق به حكم من أحكام
الشرع, فإن وجوب اعتقاد الحقية وجواز الصلاة وحرمة القراءة
على الجنب والحائض من أحكام الشرع, وهي متعلقة بجميع
عبارات القرآن فكيف يصح هذا الاحتراز, لأنا نقول: هذه
الأحكام, وإن تعلقت بالجميع لكنه لم يثبت معرفتها بالجميع
بل تثبت ببعض النصوص من الكتاب أو السنة فيصح هذا
الاحتراز.
قوله: "الأول في وجوه النظم" وجه الشيء طريقه يقال ما وجه
هذا الأمر أي ما طريقه. وقدم النظم; لأن التصرف في اللفظ
الموضوع للمعنى مقدم على التصرف في المعنى طبعا فيقدم وضعا
وكذا قدم المفرد على المركب لهذا, صيغة ولغة, قيل لكل لفظ
معنى لغوي, وهو ما يفهم من مادة تركيبه ومعنى صيغي, وهو ما
يفهم من هيئته أي حركاته وسكناته وترتيب حروفه; لأن الصيغة
اسم من الصوغ الذي يدل على التصرف في الهيئة لا في المادة
فالمفهوم من حروف ضرب استعمال آلة التأديب في محل قابل له
ومن هيئته وقوع ذلك الفعل في الزمان الماضي وتوحد المسند
إليه وتذكيره وغير ذلك; ولهذا يختلف كل معنى باختلاف ما
يدل عليه كفتح ويضرب إلا أن في بعض الألفاظ يختص الهيئة
بمادة فلا تدل على المعنى في غير تلك المادة كما في رجل
مثلا, فإن المفهوم من حروفه ذكر من بني آدم جاوز حد البلوغ
ومن هيئته كونه مكبرا غير مصغر وواحد غير جمع وغير ذلك ولا
تدل هذه الهيئة في أسد ونمر على شيء وفي بعضها
(1/43)
والثاني في
وجوه البيان بذلك النظم والثالث في وجوه استعمال ذلك النظم
وجريانه في باب البيان والرابع في معرفة وجوه الوقوف على
المراد والمعاني
ـــــــ
كلاهما يدل على معنى واحد, وهي الحروف ثم فيما نحن فيه
دلالة اللغة والصيغة في الخاص دلالة حروف أسد مثلا على
الهيكل المعروف ودلالة هيئته على توحده وكونه مكبرا وغير
ذلك ولا يخرج الخاص عن الخصوص بالتعرض لمثل هذه العوارض
فافهم, وفي العام دلالة حروف أسد على ذلك, ودلالة هيئته
على تكثره وعمومه, وفي المشترك دلالة حروف القرء على الحيض
أو الطهر, ودلالة الهيئة على التوحد ولكن الظاهر أنهما
ترادف والمقصود تقسيم النظم باعتبار معناه في نفس الأمر لا
باعتبار المتكلم والسامع فالشيخ أجل قدرا من أن يلتفت إلى
مثل هذه التكلفات التي لا تليق بهذا الفن.
القسم الأول في تقسيم النظم نفسه بحسب توحد معناه وتعدده,
والثاني في تقسيمه بعد التركيب بحسب ظهور المعنى للسامع
وخفائه عليه; لأن المراد من البيان ههنا إظهار المعنى أو
ظهوره للسامع, وذلك إنما يكون بعد التركيب, وهو المراد من
قوله البيان بذلك النظم, والثالث في تقسيم النظم بحسب
استعمال المتكلم; لأن اللفظ بسبب الاستعمال يتصف بكونه
حقيقة أو مجازا لا بالوضع وأشار إلى جانب المتكلم بقوله في
استعمال ذلك النظم وإلى جانب اللفظ واتصافه بالحقيقة
والمجاز بقوله: وجريانه في باب البيان, والرابع في وجوه
الوقوف أي وقوف السامع على مراد المتكلم ومعاني الكلام,
وقيل الأقسام الثلاثة أقسام النظم, وهذا قسم المعنى بدليل
أن الشيخ ذكر النظم في الأقسام الثلاثة فقال: في وجوه
النظم في وجوه البيان بذلك النظم في استعمال ذلك النظم
وذكر المعاني في هذا القسم وكون الدلالة والاقتضاء من
أقسام المعنى ظاهر, وكذا كون العبارة والإشارة; لأن
العبارة, وإن كانت نظما إلا أن نظر المستدل إلى المعنى دون
النظم إذ الحكم إنما يثبت بالمعنى دون النظم نفسه, فإن
إباحة قتل المشركين مثلا ثبت بالمعنى الثابت بقوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لا بعين النظم
إلا أن المعنى لما كان مفهوما من النظم والعبارة سمي
الاستدلال به استدلالا بالعبارة, ولكنه في الحقيقة استدلال
بالمعنى الثابت بالعبارة فصلح أن يكون من أقسام المعنى
بهذا الطريق. ويجوز أن يكون جميع الأقسام للنظم والمعنى
جميعا على أن يكون بعض الأقسام للنظم وبعضها للمعنى من غير
أن يعين القسم الرابع له فيكون الدلالة والاقتضاء راجعين
إلى المعنى والباقي أقسام النظم, ويحتمل أن يكون النظم,
والمعنى داخلين في كل قسم إذ هو في بيان أقسام القرآن الذي
هو النظم والمعنى جميعا فكان الخاص اسما للنظم باعتبار
معناه, وكذا العام وسائر الأقسام وعلى هذا الوجه يمكن أن
يجعل الدلالة والاقتضاء من
(1/44)
على حسب الوسع
والإمكان وإصابة التوفيق
ـــــــ
أقسام النظم والمعنى أيضا; لأن المعنى فيهما لا يفهم بدون
اللفظ أيضا, وهذه الأوجه كلها لا يخلو عن تكلف والله أعلم
بحقيقة مراد المصنف, ثم إن الشيخ جعل معرفة وجوه الوقوف
على المعاني من جملة أقسام الكتاب وفيه تساهل وتسامح; لأن
المعاني هي التي دخلت في أقسام الكتاب دون معرفة وجوه
الوقوف عليها ولكن لما لم تعد المعاني بدون الوقوف عليها
جعل معرفة وجوه الوقوف عليها من أقسام الكتاب تسامحا, ثم
ثبت بما ذكرنا من الأقسام الثلاثة أن للكلام معنى بحسب
الوضع ومعنى بحسب التركيب وتقررا على المعنى الوضعي أو
تجاوزا عنه بحسب إرادة المتكلم واستعماله فإذا قلت زيد
منطلق مثلا فلكل واحد منهما معنى بحسب الوضع ولهما جميعا
معنى بحسب التركيب, وهو إسناد الانطلاق إلى زيد وكل واحد
منهما حقيقة بحسب إرادة المتكلم وتقريره إياهما في
موضوعهما فبقوله المراد أشار إلى هذا القسم وبقوله
والمعاني إلى القسمين الأولين, الوسع والإمكان. مترادفان
ههنا أي على قدر طاقة العبد, وإصابة التوفيق, من الله
تعالى وإليه أشار قوله جل جلاله: {أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}
[الرعد: 17], قيل الماء القرآن, نزل لحياة الجنان, كالماء
للأبدان, والأودية القلوب يختلف في ضيقها وسعتها وأصلها
وصفتها, فيقر فيها بقدر إقرارها واليقين, وتوفيق ربها
والتلقين, ما هو أصفى من الماء المعين, ومنه قيل:
جميع العلم في القرآن لكن ... تقاصر عنه أفهام الرجال
وإنما يتحقق قد تتأكد معرفة الشيء بذكر مقابله وتستفيد به
زيادة وضوح, وإن كانت ثابتة في نفسها; ولهذا قيل, وبضدها
تتبين الأشياء, ثم في هذا القسم لما لم يخالف بعضه بعضا;
لأن الكل ظهور ولكن بعضه أعلى من بعض بخلاف غيره إذ الخاص
يخالف العام والحقيقة تخالف المجاز اختصه بذكر ما يقابله
في قسم آخر على حدة دون غيره, واعلم أنه ذكر في عامة
الشروح في انحصار هذه الأقسام وجوه وأحسنها ما أذكره وهو
أن المفهوم من النظم لا يخلو من أن يكون راجعا إلى نفس
النظم فقط أو إلى غيره فالأول هو القسم الأول, والثاني لا
يخلو من أن يكون راجعا إلى تصرف المتكلم أو إلى غيره,
فالأول أن يكون تصرفه تصرف بيان أي إلقاء معنى إلى السامع,
وهو القسم الثاني أو غير ذلك, وهو القسم الثالث والثاني هو
القسم الرابع ثم القسم الأول, وهو نفس النظم لا يخلو من أن
يدل على مدلول واحد وهو الخاص أو أكثر بطريق الشمول وهو
العام, أو بطريق البدل من غير ترجح البعض على الباقي وهو
المشترك, أو مع ترجحه وهو المؤول.
ولا يفيد الترجح بالدليل الظني احترازا عن المفسر كما قيده
البعض فقال من
(1/45)
أما القسم
الأول, فأربعة أوجه الخاص والعام والمشترك والمؤول والقسم
الثاني أربعة أوجه أيضا الظاهر والنص والمفسر والمحكم
وإنما يتحقق معرفة هذه الأقسام بأربعة أخرى في مقابلتها
وهي الخفي والمشكل والمجمل والمتشابه والقسم الثالث أربعة
أوجه أيضا الحقيقة والمجاز والصريح والكناية, والقسم
الرابع أربعة أوجه أيضا الاستدلال بعبارته وبإشارته
وبدلالته وباقتضائه وبعد معرفة هذه الأقسام قسم خامس, وهو
وجوه أربعة أيضا معرفة مواضعها ومعانيها وترتيبها وأحكامها
ـــــــ
غير ترجح البعض بدليل ظني, وهو المشترك أو مع ترجحه به,
وهو المؤول; لأنه يبقى حينئذ داخلا في قسم المشترك بل
الأولى ترك التقييد ومنع الترجح في المفسر; لأنه إنما يثبت
فيما يبقى فيه احتمال غيره وفي المفسر بطل جانب المرجوح
بالكلية حتى صار كالخاص بل أقوى فلا يدخل فيما نحن فيه,
والقسم الثاني, وهو أن يكون راجعا إلى بيان المتكلم لا
يخلو من أن يكون ظاهر المراد للسامع أو لم يكن والأول إن
لم يكن مقرونا بقصد المتكلم فهو ظاهر, وإن كان مقرونا به
فإن احتمل التخصيص والتأويل فهو النص وإلا, فإن قبل النسخ
فهو المفسر, وإن لم يقبل فهو المحكم, وإن لم يكن ظاهر
المراد فإما إن كان عدم ظهوره لغير الصيغة أو لنفسها
والأول هو الخفي والثاني فإن أمكن دركه بالتأمل فهو المشكل
وإلا فإن كان البيان مرجوا فيه فهو المجمل, وإن لم يكن
مرجوا فهو المتشابه, والقسم الثالث, وهو أن يكون راجعا إلى
الاستعمال لا يخلو من أن يكون اللفظ مستعملا في موضوعه وهو
الحقيقة أو لا, وهو المجاز وكل واحد منهما إن كان ظاهر
المراد بسبب الاستعمال فهو الصريح وإلا فهو الكناية,
والقسم الرابع, وهو قسم الاستثمار لا يخلو من أن يستدل في
إثبات الحكم بالنظم أو غيره والأول إن كان مسوقا له فهو
العبارة, وإن لم يكن فهو الإشارة والثاني إن كان مفهوما
لغة فهو الدلالة, وإن كان مفهوما شرعا فهو الاقتضاء, وإن
لم يكن مفهوما لغة ولا شرعا فهي التمسكات الفاسدة, ولكن
الأولى أن نضرب عن مثل هذه التكلفات صفحا; لأن بعض هذه
الانحصارات غير تام يظهر بأدنى تأمل بل يتمسك فيه
بالاستقراء التام الذي هو حجة قطعا; لأن الكتاب ما يمكن
ضبطه في حق هذه التقسيمات والاستقراء فيما يمكن ضبطه حجة
قطعية قوله: "معرفة مواضعها" أي مآخذ اشتقاق الألفاظ التي
هي أسماء لأقسام الكتاب, فهذا يرجع إلى أسماء للأقسام
وقوله صيغة ولغة إلى نفس ذلك القسم, فإن قوله المؤمنون
مثلا يدل على مسميين موصوفين بالإيمان صيغة ولغة ثم سمي
هذا اللفظ بالعام فمأخذ اشتقاق هذا القسم العموم وقس عليه,
وترتيبها. أي تقديم بعضها على البعض عند التعارض كما في
النص مع الظاهر أو
(1/46)
......................................................
في الوجود كما في العام مع الخاص, ومعانيها, أي حقائقها
وحدودها في اصطلاح الأصوليين, وأحكامها, أي الآثار الثابتة
بها من ثبوت الحكم بها قطعا أو ظنا ووجوب التوقف وغير ذلك.
قال عامة الشارحين: لما انقسم ما يرجع إلى معرفة أحكام
الشرع من الكتاب عشرين قسما ثم انقسم كل واحد منها باعتبار
هذا القسم أربعة أقسام صار أقسام الكتاب ثمانين قسما,
ولكنه مشكل; لأن التقسيم على أنواع:
1 - تقسيم الجنس إلى أنواعه بأن يؤخذ بزيادة قيد قيد, وهو
التقسيم المصطلح بين أهل العلم ولا بد فيه من أن يكون مورد
التقسيم مشتركا بين أقسام, فإنك إذا قسمت الجسم إلى جماد
وحيوان كان كل واحد منهما جسما, وإذا قسمت الحيوان إلى
إنسان وفرس وطير كان كل واحد منهما جسما وحيوانا.
2 - وتقسيم الكل إلى أجزائه كتقسيم الإنسان إلى الحيوان
والناطق. ولا يستقيم فيه إطلاق اسم الكل على كل قسم بطريق
الحقيقة, فإن اسم الإنسان لا يطلق على الحيوان والناطق بل
يطلق على المجموع.
3 - وتقسيم الشيء باعتبار أوصافه كتقسيم الإنسان إلى عالم
وكاتب وأبيض وأسود ولا بد فيه من اشتراك مورد التقسيم
أيضا, ومن أن يوجد في الجميع من يوصف بالكتابة دون العلم
وبالبياض دون السواد وبالعكس ليتميز كل قسم عن غيره في
الخارج.
وليس ما نحن بصدده من قبيل الأول لعدم اشتراك مورد التقسيم
فيه بين الأقسام إذ لا يمكن أن يحكم على مأخذ العام مثلا
بأنه عام ولا على مأخذ المجاز بأنه مجاز بل لا يمكن أن
يحكم على ما ذكرنا أنه من الكتاب وأصل مورد التقسيم
الكتاب, ولا من قبيل الثاني; لأن معرفة موضع الاشتقاق ليس
من أجزاء الخاص وكذا معرفة معناه وحكمه وترتيبه وقس عليه
سائر الأقسام ولا من قبيل الثالث; لأن مورد التقسيم ليس
بمشترك; ولأن معرفة مأخذ اشتقاق لفظ الخاص ليس وصفا لحقيقة
الخاص, وهو لفظ الطواف أو الركوع والسجود مثلا كما أن
معرفة مأخذ اشتقاق لفظ الإنسان لا يكون وصفا لحقيقة
الإنسان وكذا معرفة معناه وحكمه وترتيبه ليست من أوصافه
فلا يستقيم بهذا الاعتبار أيضا كما لا يستقيم أن يقال
الإنسان أقسام قسم منه أن مأخذ اسمه الإنس وقسم منه أن
معناه حيوان ناطق وقسم منه أنه مقدم على الفرس في الشرف.
ولئن سلمنا أن المعاني المذكورة من أوصاف كل فرد باعتبار
تعلقها به إذ صح أن يقال الخاص الذي مأخذ اشتقاق اسمه كذا
أو معناه كذا أو حكمه كذا لا يستقيم أيضا إذ لا بد من أن
يتميز كل
(1/47)
وأصل الشرع هو
الكتاب والسنة فلا يحل لأحد أن يقصر في هذا الأصل بل يلزمه
محافظة النظم ومعرفة أقسامه ومعانيه مفتقرا إلى الله تعالى
مستعينا به راجيا أن يوفقه بفضله.
ـــــــ
قسم عن غيره بما يخصه ليظهر فائدة التقسيم ويمكن القول بأن
الخاص أربعة أقسام والعام كذلك إلى آخر الأقسام وقد تعذر
ذلك ههنا; لأن المعاني المذكورة لازمة لكل فرد من أفراد كل
قسم إذ ما من خاص إلا ولاسمه مأخذ وله معنى وحكم وترتيب
فكيف يتميز خاص عن خاص باعتبار هذه المعاني, وهذا كما يقال
الإنسان قسمان قسم منه عريض الأظفار وقسم منه مستوي القامة
وفساده ظاهر; لأن المعنيين من لوازم كل فرد فيم يتميز أحد
القسمين عن الآخر, ولا يقال التمييز بين المعنيين ثابت في
العقل فيكفي ذلك لصحة التقسيم, لأنا نقول ذلك ساقط
الاعتبار في التقسيم إذ التكلف إلى هذا الحد في التقسيم
ليس من عادة أهل العلم, وإنك لا تجد تقسيما في نوع من
العلوم خصوصا في العلوم الإسلامية بهذا الاعتبار فثبت أن
تقسيم الكتاب على ثمانين قسما غير متضح بل الأقسام عشرون
كما ذكره الشيخ ولكن لكل قسم معنى وحكم وترتيب ولاسمه مأخذ
على أن في كونها عشرين قسما كلاما أيضا. واعلم بأن الشيخ
رحمه الله لم يرد بقوله قسم خامس أنه قسيم الأقسام الأربعة
المتقدمة; لأنه لا يستقيم لما ذكرنا بل أراد أن معرفة تلك
الأقسام متوقفة على هذا القسم فكأنه قسم خامس لها, وهو كما
يقال المفصل هو السبع الثامن من الكشاف لتوقف معرفة الكشاف
عليه لا أنه منه حقيقة. قوله: "وأصل الشرع هو الكتاب
والسنة" خصهما بالذكر; لأن هذه الأقسام توجد فيهما دون
الإجماع; ولأن أكثر الأحكام تثبت بهما; ولأن كل واحد منهما
أصل للباقي على ما قيل; لأن الحكم لله تعالى وحده وقول
الرسول ليس بحكم بل هو مخبر عن الله جل جلاله والكتاب هو
كلام الله تعالى فيكون هو أصل الكل من هذا الوجه لكنا لا
نعرف كلام الله تعالى إلا بقول الرسول عليه السلام لأنا لا
نسمع من الله تعالى ولا من جبرائيل عليه السلام فيكون
معرفة كلام الله تعالى متوقفة على قول الرسول فيكون هو
الأصل من هذا الوجه وأما الإجماع ففرع لهما ثبوتا من كل
وجه, وإن كان في إثبات الأحكام أصلا مطلقا, ثم قال فلا يحل
لأحد أن يقصر في هذا الأصل, أي الكتاب ولم يقل في هذين
الأصلين مع سبق ذكر الكتاب والسنة; لأنه الآن في بيان
الكتاب دون السنة; فلهذا أفرده بالذكر, ومحافظة النظم يجوز
أن يكون عبارة عن الحفظ الذي هو ضد النسيان أي يحفظه ويضبط
أقسامه ومعانيه ويجوز أن يكون عبارة عن المحافظة التي هي
ضد الترك والتضييع أي بجعله نصب عينه وأمام نفسه جاهدا في
معرفة أقسامه ومعانيه غير مجاوز عن حدوده, وقوله مفتقرا
مستعينا راجيا أحوال عن الضمير المنصوب في يلزمه.
(1/48)
|