كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"تعريف المؤول"1
وأما المؤول فما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي وهو مأخوذ من آل يئول إذا رجع وأولته إذا رجعته وصرفته; لأنك لما تأملت في
ـــــــ
قوله: "وأما المؤول فكذا" قيد بقوله من المشترك وبغالب الرأي وهما ليسا بلازمين, فإن صاحب الميزان ذكر فيه أن الخفي والمشكل والمشترك والمجمل إذا لحقها البيان بدليل قطعي يسمى مفسرا, وإذا زال الإشكال أي الخفاء بدليل فيه شبهة كخبر الواحد والقياس يسمى مؤولا, وذكر في التقويم بعد ذكر المؤول وتفسيره كما فسره الشيخ هنا وكذا المراد من الكلام متى خفي لدقته فأوضح بالرأي كان مؤولا, وقال صدر الإسلام المؤول اسم لمشترك تناول بعض ما دخل تحته بدليل غير مقطوع به من القياس ونحوه فثبت بما ذكرنا أن القيدين ليسا بلازمين فعلى هذا يكون المراد من قوله من المشترك ما فيه نوع خفاء ومن غالب الرأي ما يوجب الظن فيكون تقدير الكلام المؤول ما ترجح مما فيه خفاء بعض وجوهه بدليل ظني فقوله ما ترجح بعض وجوهه بمنزلة الجنس فدخل فيه المفسر بقوله بدليل ظني احترز عنه. وقوله مما فيه خفاء ليس بلازم أيضا; لأن الظاهر والنص يقبلان التأويل أيضا قال شمس الأئمة: المفسر فوق الظاهر والنص; لأن احتمال التأويل قائم فيهما في المفسر, فالأولى أن يجعل قوله من المشترك زائدا لا عبارة عما فيه خفاء أو يجعل بمعنى المحتمل أي المؤول ما ترجح من اللفظ المحتمل بعض محتملاته ليتناول الجميع, ولكنه خلاف الظاهر, فإن سياق كلامه يدل على أن المراد هو المشترك الذي سبق ذكره, فإن المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت الثانية عين الأولى.
وقيل في حد التأويل هو اعتبار احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر, ثم قيل إنما دخل المؤول في أقسام النظم; لأن الحكم بعد التأويل يضاف إلى الصيغة واللغة; لأن إضافة الحكم إلى الدليل الأقوى أولى; ولهذا كان
ـــــــ
1 عبارة السرخسي المؤول تبين بعض ما يحتمل المشترك بغالب الرأي والاجتهاد أصول السرخسي 1/127.

(1/68)


موضع اللفظ فصرفت اللفظ إلى بعض المعاني خاصة فقد أولته إليه وصار ذلك عاقبة الاحتمال بواسطة الرأي قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ}
ـــــــ
الحكم في المنصوص عليه مضافا إلى النص لا إلى العلة; لأنه أقوى منها, وإن كان في غير محل النص مضافا إلى العلة بخلاف المفسر; لأن التفسير اللاحق به مثله في القوة فيجوز إضافة الحكم إلى المفسر, وهذا كالمجمل إذا لحقه البيان بخبر الواحد يكون ذلك ثابتا قطعا, وإن كان خبر الواحد لا يوجب الحكم بنفسه قطعا; لأن بعد البيان يضاف الحكم إلى المفسر لكونه أقوى لا إلى خبر الواحد ألا ترى أن خبر الواحد وهو قوله عليه السلام إذا قلت هذا أو فعلت هذا فقد تمت صلاتك لما التحق بيانا بقوله تعالى: {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: 72], ثبتت فرضية القعدة الأخيرة لما ذكرنا. قال العبد الضعيف أصلح الله شأنه أما قولهم المؤول من أقسام النظم بالطريق الذي ذكروا فمشكل; لأنه إن كان يستقيم فيما إذا ترجح بعض وجوه المشترك بالرأي فلا يستقيم فيما إذا ظهر المراد من الخفي أو المشكل بالرأي ولا فيما إذا حمل الظاهر أو النص على بعض محتملاته بدليل ظني; لأنها ليست من أقسام الصيغة واللغة إلا أن يجعل قوله من المشترك قيدا لازما عند المصنف وفيه تعسف. وأما قولهم المجمل إذا لحقه البيان بخبر الواحد يكون الثابت به قطعيا فليس كذلك لما ذكرنا; ولأن مثل هذا البيان لا يوجب الكشف لكونه ظنيا مثل القياس فكيف تثبت به الفرضية, فإنها لا تثبت إلا بما هو قطعي الدلالة والثبوت, فإن خبر الواحد لا يثبت الفرضية وإن كان قطعي الدلالة, وكذا العام المخصوص, وإن كان قطعي الثبوت, وأي فرق بين معرفة المراد من المشترك بالرأي الذي هو ظني وبين معرفة المراد من المجمل بخبر الواحد الذي هو ظني. وأما استدلالهم بالقعدة ففاسد; لأنا لا نسلم أنها فريضة بل هي واجبة ولكن الواجب نوعان: واجب في قوة الفرض في العمل كالوتر عند أبي حنيفة رحمه الله حتى منع تذكره صحة الفجر كتذكر العشاء, وواجب دون الفرض في العمل فوق السنة كتعيين الفاتحة حتى وجب سجود السهو بتركها ولكن لا تفسد الصلاة فالقعدة من القسم الأول; فلذلك سميناها فرضا فأما أن يجب اعتقاد فرضيتها بحيث يكفر جاحدها أو يضلل فلا, ألا ترى أن أبا بكر الأصم ومالكا لم يكفرا بإنكارهما فرضيتها ولم يكفر ابن عباس رضي الله عنهما بإنكاره ربا النقد مع لحوق البيان بآية الربا في الأشياء الستة. ولم يكفر من أنكر تقدير فرض المسح بالربع مع لحوق خبر المغيرة بيانا بمجمل الكتاب, وهو قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] حتى قال بعض أصحابنا بالتقدير بثلاثة أصابع والشافعي بالقطر ومالك1 بالاستيعاب وكيف يثبت
ـــــــ
1 هو إمام المدينة والمجتهد المطلق مالك بن أنس ولد سنة 93 هـ توفي سنة 179 هـ.

(1/69)


[الأعراف: 53] أي عاقبته وليس هذا كالمجمل إذا عرفت بعض وجوهه ببيان المجمل فإنه يسمى مفسرا لأنه عرف بدليل قاطع فسمي مفسرا أي مكشوفا كشفا بلا شبهة مأخوذ من قولهم أسفر الصبح إذا أضاء إضاءة لا شبهة فيه وسفرت
ـــــــ
الحكم قطعا بمثل هذا البيان وفي ثبوته بيانا شبهة, أولته بضم التاء إذا رجعته وصرفته بفتح التاءين, وصار ذلك عاقبة الاحتمال أي احتمال اللفظ إياه, قال الله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53], أي عاقبة أمر الكتاب وما يئول إليه من تبين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد. قوله: "وليس هذا كالمجمل" أي ليس المؤول على التفسير الذي قلنا كالمجمل الذي عرف معناه ببيان المجمل, فإن ذلك مفسر وليس بمؤول وكذا الظاهر أو النص أو المشكل أو غيرها إذا التحق به بيان قاطع فهو مفسر لا مؤول فلا يكون ما ذكر مختصا بالمجمل لكن غرضه إثبات الفرق بين التفسير والتأويل; لأن الحديث المذكور يقتضي حرمة تفسير القرآن بالرأي بآكد الوجوه وإجماع الأمة من حيث العمل على استخراج معاني القرآن بالرأي يقتضي الجواز ولا بد من التوفيق ففرقوا بينهما وقالوا النهي وارد عن التفسير دون التأويل.
ثم اختلفوا في الفرق فقيل التفسير هو الإخبار عن شأن من نزل فيه وعن سبب نزوله وذلك علم الصحابة رضي الله عنهم; لأنهم شهدوا ذلك فهم يقولون فيه بالعلم وغيرهم بالرأي والتأويل, وهو تبيين ما يحتمله اللفظ من المعاني ولهذا قيل التفسير للصحابة والتأويل للفقهاء, وقيل التفسير بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحدا والتأويل توجيه لفظ يتوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر عنده من الأدلة, وقال الشيخ أبو منصور رحمه الله: هو القطع على أن المراد باللفظ هذا فإن قام دليل مقطوع به على المراد يكون تفسيرا صحيحا مستحسنا, وإن قطع على المراد لا بدليل مقطوع به فهو تفسير بالرأي, وهو حرام; لأنه شهادة على الله تعالى بما لا يأمن أن يكون كذبا, فأما التأويل فهو بيان عاقبة الاحتمال بالرأي دون القطع فيقال يتوجه اللفظ إلى كذا وكذا, وهذا الوجه أوجه لشهادة الأصول فلم يكن فيه شهادة على الله تعالى كذا في شرح التأويلات فالمصنف اختار قول الشيخ أبي منصور رحمهما الله. قوله: "مأخوذ من كذا" مدار تركيب السفر يدل على الكشف لما ذكر.
ومنه يقال سفرت البيت أي كنسته, ومنه السفير; لأنه يكشف مراد اثنين وسافر الرجل انكشف عن البنيان ومنه السفر; لأنه يكشف عن أخلاق المرء وأحواله, فيكون هذا اللفظ أي التفسير مقلوبا من التسفير ومعناهما واحد, وهو الكشف والإظهار على وجه لا شبهة فيه فيكون من باب الاشتقاق الكبير كجبذ وجذب وطسم وطمس إلا أنه قيل

(1/70)


المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب فيكون هذا اللفظ مقلوبا من التفسير وهذا معنى قول النبي عليه السلام: "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار" 1 أي قضى بتأويله واجتهاده على أنه مراد الله تعالى; لأنه نصب نفسه صاحب وحي وفي هذا إبطال قول المعتزلة في أن كل مجتهد مصيب لأنه يصير الثابت بالاجتهاد تفسيرا وقطعا على حقيته مرادا, وهذا باطل.
ـــــــ
السفر كشف الظاهر لما ذكرنا والفسر كشف الباطن ومنه التفسرة للقارورة التي يؤتى بها عند الطبيب; لأنها يكشف عن باطن العليل فسمي كشف المعاني تفسيرا; لأنه كشف باطن الألفاظ. قوله: "وهذا معنى قول النبي" أي ما ذكرنا أن التفسير هو الكشف بلا شبهة هو المراد من التفسير المذكور في الحديث, وقوله عليه السلام: "فليتبوأ" أمر بمعنى الخبر أي فقد تبوأ أي اتخذ النار منزلا, قضي بتأويله الباء للاستعانة, والضمير في أنه راجع إلى الحاصل بالتأويل والاجتهاد أي حكم بأن ما صرفت اللفظ إليه واجتهدت في استخراجه, وهو مراد الله تعالى, وفي هذا أي الحديث إبطال قولهم لما ذكر, وما روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال كل مجتهد مصيب أراد به في حق العمل أي يجوز له العمل بما أدى إليه اجتهاده ويؤجر عليه, وإن كان خطأ عند الله تعالى أو أراد أن كل مجتهد مصيب في المقدمات ولكنه يقع في الخطإ بعد ذلك إن أصاب الحق غيره.
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في التفسير حديث رقم 2951 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/269 و293 و323 و327.

(1/71)


"تعريف الظاهر والنص"
وأما القسم الثاني فإن الظاهر اسم لكل كلام ظهر المراد به للسامع بصيغته مثل قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فإنه ظاهر في الإطلاق قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] هذا
ـــــــ
قوله: "الظاهر اسم لكل" المراد من الظاهر هو المصطلح أي الشيء الذي يسمى ظاهرا في اصطلاح الأصوليين, ومن قوله ما ظهر الظهور اللغوي فلا يكون فيه تعريف الشيء بنفسه إذ الأول بمنزلة العلم فلا يراعى فيه المعنى, وقيل هو ما دل على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي ويحتمل غيره احتمالا مرجوحا, وقيل هو ما لا يفتقر في إفادته لمعناه إلى غيره قوله: "وأما النص فكذا" اعلم أن أكثر من تصدى لشرح هذا الكتاب والمختصر ذكروا أن قصد المتكلم إذا اقترن بالظاهر صار نصا وشرط في الظاهر أن لا يكون معناه مقصودا بالسوق أصلا فرقا بينه وبين النص, قالوا لو قيل رأيت فلانا حين جاءني القوم ظاهرا في مجيء القوم لكونه غير مقصود بالسوق ولو قيل ابتداء جاءني القوم كان نصا في مجيء القوم لكونه مقصودا بالسوق, وهذا; لأن الكلام إذا سيق لمقصود كان فيه زيادة ظهور وجلاء بالنسبة إلى غير المسوق له; ولهذا كانت عبارة النص راجحة على إشارته, قالوا وإليه أشار المصنف بقوله بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة وبقوله فازداد وضوحا على الأول بأن قصد به وسيق له. قلت هذا الكلام حسن ولكنه مخالف لعامة الكتب, فإن شمس الأئمة رحمه الله ذكر في أصول الفقه الظاهر ما يعرف المراد منه بنفس السماع من غير تأمل, مثاله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء: 1]. وقوله جل ذكره: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275], وقوله عز اسمه: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38], فهذا ونحوه ظاهر يوقف على المراد منه بسماع الصيغة. وهكذا ذكر القاضي الإمام أبو زيد في التقويم وصدر الإسلام أبو اليسر في أصول الفقه أيضا, ورأيت في نسخة أخرى من تصانيف أصحابنا في أصول الفقه الظاهر اسم لما يظهر المراد منه بمجرد السمع من غير إطالة فكرة ولا إجالة رؤية نظيره في الشرعيات قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [لقمان: 33], وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2], وذكر السيد الإمام الأجل أبو

(1/72)


ظاهر في الإحلال وأما النص فما ازداد وضوحا على الظاهر بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة مأخوذ من قولهم نصصت الدابة إذا استخرجت بتكلفك
ـــــــ
القاسم السمرقندي رحمه الله الظاهر ما ظهر المراد منه لكنه يحتمل احتمالا بعيدا نحو الأمر يفهم منه الإيجاب, وإن كان يحتمل التهديد وكالنهي يدل على التحريم, وإن كان يحتمل التنزيه فثبت بما ذكرنا أن عدم السوق في الظاهر ليس بشرط بل هو ما ظهر المراد منه سواء كان مسوقا أو لم يكن ألا ترى كيف جمع شمس الأئمة وغيره في إيراد النظائر بين ما كان مسوقا وغير مسوق وألا ترى أن أحدا من الأصوليين لم يذكر في تحديده للظاهر هذا الشرط, ولو كان منظورا إليه لما غفل عنه الكل, ليس ازدياد وضوح النص على الظاهر بمجرد السوق كما ظنوا إذ ليس بين قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32], مع كونه مسوقا في إطلاق النكاح وبين قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3], مع كونه غير مسوق فيه فرق في فهم المراد للسامع, وإن كان يجوز أن يثبت لأحدهما بالسوق قوة يصلح للترجيح عند التعارض كالخبرين المتساويين في الظهور يجوز أن يثبت لأحدهما مزية على الآخر بالشهرة أو التواتر أو غيرهما من المعاني, بل ازدياده بأن يفهم منه معنى لم يفهم من الظاهر بقرينة نطقية تنضم إليه سباقا أو سياقا تدل على أن قصد المتكلم ذلك المعنى بالسوق كالتفرقة بين البيع والربا لم تفهم من ظاهر الكلام بل بسياق الكلام. وهو قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} [البقرة: 275], عرف أن الغرض إثبات التفرقة بينهما, وأن تقدير الكلام: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فأنى يتماثلان, ولم يعرف هذا المعنى بدون تلك القرينة بأن قيل ابتداء: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275], يؤيد ما ذكرنا ما قال شمس الأئمة: رحمه الله وأما النص فما يزداد بيانا بقرينة تقترن باللفظ من المتكلم ليس في اللفظ ما يوجب ذلك ظاهرا بدون تلك القرينة وإليه أشار القاضي الإمام في أثناء كلامه وقال صدر الإسلام النص فوق الظاهر في البيان لدليل في عين الكلام, وقال الإمام اللامشي1: النص ما فيه زيادة ظهور سيق الكلام لأجله وأريد بالإسماع باقتران صيغة أخرى بصيغة الظاهر كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275], نص في التفرقة بين البيع والربا حيث أريد بالإسماع ذلك بقرينة دعوى المماثلة. وأما قوله بمعنى من المتكلم لا في نفس الصيغة فمعناه ما ذكرنا أن المعنى الذي به ازداد النص وضوحا على الظاهر ليس له صيغة في الكلام يدل عليه وضعا بل يفهم بالقرينة التي اقترنت بالكلام أنه هو الغرض للمتكلم من السوق كما أن فهم
ـــــــ
1 هو الحسين بن علي أبو القاسم عماد الدين اللامشي نسبة إلى لامش قرية من قرى فرغانة فقيه حنفي.

(1/73)


منها سيرا فوق سيرها المعتاد وسمي مجلس العروس منصة لأنه ازداد ظهورا على سائر المجالس بفضل تكليف اتصل به ومثاله قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} فإن هذا ظاهر في الإطلاق نص في بيان العدد; لأنه سبق الكلام للعدد وقصد به فازداد ظهورا على الأول بأن قصد به وسيق له ومثله قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} فإنه ظاهر للتحليل
ـــــــ
التفرقة ليس باعتبار صيغة تدل عليه لغة بل بالقرينة السابقة التي تدل على أن قصد المتكلم هو التفرقة ولو ازداد وضوحا بمعنى يدل عليه صيغة بصير مفسرا فيكون هذا احترازا عن المفسر. يقال الماشطة تنض العروس فتقعدها على المنصة بفتح الميم, وهي كرسيها لترى بين النساء.
قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3], أي ما حل لكم من النساء; لأن منهن ما حرم كاللاتي في آية التحريم, وقيل ما ذهابا إلى الصفة; لأن ما سؤال عن الصفة كما أن من سؤال عن الذات; ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6].
{مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3], معدولة عن أعداد مكررة, وإنما منعت التصريف لما فيها من العدلين عدلها عن صيغتها وعدلها عن تكررها, وهي نكرات يعرفن فاللام التعريف تقول فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ومحلهن النصب على الحال مما طاب تقديره فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا كذا في الكشاف, وقيل ما طاب أي ما أدرك من طابت الثمرة إذا أدركت والوجه هو الأول; لأن نكاح الصغائر جائز, ظاهر في الإطلاق أي في إباحة نكاح ما يستطيبه المرء من النساء; لأن أدنى درجات الأمر الإباحة, وقيل في اختياره لفظ الإطلاق إشارة إلى أن الأصل في النكاح الحظر; لأن النكاح رق وكونها حرة ينافي صيرورتها مملوكة; ولأنها مكرمة بالتكريم الإلهي كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الاسراء: 70], وصيرورتها موطوءة مصبة للماء المهين ينافي التكريم إلا أنه أبيح للضرورة على ما عرف ففي قوله الإطلاق إشارة إلى إزالة هذه الحرمة, الضمير في لأنه للشأن. وقصد به أي قصد العدد بالسوق, فازداد هذا الكلام, وهو قوله تعالى: {فَانْكِحُوا} [النساء: 3] إلى قوله رباع, وضوحا على الأول, وهو قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] من غير ذكر عدد بسبب أن قصد العدد بالكلام وسيق الكلام للعدد, وهذا المعنى لم يكن مفهوما من الأول.

(1/74)


والتحريم نص للفصل من البيع والربا لأنه سيق الكلام لأجله فازداد وضوحا بمعنى من المتكلم لا بمعنى في صيغته وحكم الأول ثبوت ما انتظمه يقينا وكذلك الثاني إلا أن هذا عند التعارض أولى منه.
ـــــــ
قوله: "وحكم الأول", وهو الظاهر ثبوت ما انتظمه يقينا عاما كان أو خاصا وكذا الثاني, وهو النص عاما كان أو خاصا, وهو مذهب مشايخ العراق من أصحابنا منهم الشيخ أبو الحسن الكرخي1 وأبو بكر الجصاص وإليه ذهب القاضي أبو زيد ومن تابعه وعامة المعتزلة وقال عامة مشايخ ديارنا منهم: الشيخ أبو منصور رحمه الله حكم الظاهر وجوب العمل بما وضع له اللفظ ظاهرا لا قطعا ووجوب اعتقاد حقية ما أراد الله تعالى من ذلك وكذا حكم النص وبه قال أصحاب الحديث وبعض المعتزلة وهو بناء على أن العام الخالي من قرينة الخصوص يوجب العلم والعمل قطعا عندنا وعندهم بخلافه لاحتمال الخصوص في الجملة وكذا كل حقيقة محتمل للمجاز ومع الاحتمال لا يثبت القطع كذا في الميزان, وحاصله أن ما دخل تحت الاحتمال. وإن كان بعيدا لا يوجب العلم بل يوجب العمل عندهم كخبر الواحد والقياس وعندنا لا عبرة للاحتمال البعيد, وهو الذي لا تدل عليه قرينة; لأن الناشئ عن إرادة المتكلم, وهي أمر باطن لا يوقف عليه والأحكام لا تتعلق بالمعاني الباطنة كرخص المسافر لا تتعلق بحقيقة المشقة والنسب بالأعلاق والتكليف باعتدال العقل لكونها أمورا باطنة بل بالسفر الذي هو سبب المشقة والفراش الذي هو دليل الأعلاق والاحتلام الذي هو دليل اعتدال العقل وسيأتي بيان هذا بعد إن شاء الله تعالى, وذكر الغزالي رحمه الله في المستصفى الظاهر هو الذي يحتمل التأويل والنص هو الذي لا يحتمله ثم قال النص يطلق في تعريف العلماء على ثلاثة أوجه: الأول ما أطلقه الشافعي, فإنه سمى الظاهر نصا فهو منطلق على اللغة ولا مانع في الشرع والنص في اللغة بمعنى الظهور تقول العرب نصت الظبية رأسها إذا رفعت وأظهرت فعلى هذا حده حد الظاهر, وهو اللفظ الذي يغلب على الظن فهم معنى منه من غير قطع فهو بالإضافة إلى ذلك المعنى الغالب ظاهر ونص. الثاني: وهو الأشهر هو ما لا يتطرق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد كالخمسة مثلا, فإنه نص في معناه لا يحتمل شيئا آخر فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا في
ـــــــ
1 هو أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي الفقيه الحنفي المولود سنة 260 هـ توفي سنة 340 هـ.

(1/75)


....................................................
طرفي الإثبات والنفي أعني في إثبات المسمى ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم فعلى هذا حده اللفظ الذي يفهم منه على القطع معنى فهو بالإضافة إلى معناه المقطوع به نص, ويجوز أن يكون اللفظ الواحد نصا وظاهرا ومجملا لكن بالإضافة إلى ثلاثة معان لا إلى معنى واحد.
الثالث التعبير: بالنص عما لا يتطرق إليه احتمال مقبول يعضده دليل أما الاحتمال الذي لا يعضده دليل فلا يخرج اللفظ عن كونه نصا فكان شرط النص بالوضع الثاني أن لا يتطرق إليه احتمال أصلا وبالوضع الثالث أن لا يتطرق إليه احتمال مخصوص, وهو المعتضد بدليل ولا حجر في إطلاق النص على هذه المعاني الثلاثة لكن الإطلاق الثاني أوجه وأشهر وعن الاشتباه بالظاهر أبعد, فظهر بهذا أن موجب الظاهر والنص على التفسير الذي اختاره مشايخنا ظني عند أصحاب الشافعي فأما على التفسير الذي اختاروه فقطعي كالمفسر. "وقوله إلا أن هذا" أي النص استثناء منقطع من المساواة التي دل عليها قوله, وكذا الثاني فيكون بمعنى لكن, أولى منه أي من الظاهر; لأن النص لما كان أوضح بيانا كان العمل به أولى; ولأن فيه جمعا بين الدليلين بخلاف العكس لإمكان حمل الظاهر على معنى يوافق النص من غير عكس; ولأنا إنما لم نعتبر الاحتمال الذي في الظاهر لعدم دليل يعضده فلما تأيد ذلك الاحتمال بمعارضة النص وجب حمله عليه. ونظير التعارض بين الظاهر والنص من الكتاب قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24], مع: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3], فإن الأول ظاهر عام في إباحة نكاح غير المحرمات فيقتضي بعمومه وإطلاقه جواز نكاح ما وراء الأربع والثاني نص يقتضي اقتصار الجواز على الأربع فيتعارضان فيما وراء الأربع فيرجح النص ويحمل الظاهر عليه, ومن السنة قوله عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" 1 مع قوله عليه السلام: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" 2 فالأول ظاهر في نفي الجواز عام في كل صلاة; لأن لا هذه لنفي الجنس فيتناول صلاة المقتدي والمنفرد والثاني نص; لأنه أشد وضوحا في إفادة معناه من الأول; لأن استعمال لا لنفي الفضيلة واستعمال العام في بعض مفهوماته شائع ذائع فيتعارضان في حق المقتدي فيعمل بالنص ويحمل الأول على المنفرد أو على نفي الفضيلة.
ـــــــ
1 أخرجه النابلسي في المواريث 1/281 – 282.
2 أخرجه أحمد وابن ماجه عن جابر رضي الله عنه مرفوعا.

(1/76)