كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "باب معرفة
أحكام الخصوص"
باب معرفة أحكام الخصوص:
اللفظ الخاص يتناول المخصوص قطعا ويقينا بلا شبهة لما أريد
به من الحكم ولا يخلو الخاص عن هذا في أصل الوضع; وإن
ـــــــ
الباب: النوع ومنه قوله عليه السلام: "من تعلم بابا من
العلم" , أي نوعا منه قوله: "يتناول المخصوص" أي مدلوله,
قطعا تمييز أي على وجه انقطع إرادة الغير عنه, ويقينا أي
ثبوتا في ذاته من غير شك, واليقين العلم وزوال الشك فعيل
من يقن الأمر يقنا لازم ومتعد, بلا شبهة تأكيد آخر ببيان
النتيجة; لأنه إذا ثبت في ذاته وانقطع عنه إرادة الغير لا
تبقى فيه شبهة لا محالة, والغرض من التأكيد مرتين المبالغة
في نفي قول من قال إنه ليس بقطعي لبقاء الاحتمال ولهذا قدم
قطعا على يقينا; وإن كان من قضية الكلام تقديم اليقين على
القطع; لأن المنازعة لم تقع في ثبوت موضوعه بل هي وقعت في
قطع الاحتمال فكان هذا هو الغرض الأصلي; فلهذا قدمه, لما
أريد به أي لأجل ما أريد بالمخصوص من الحكم الشرعي, ومن
للبيان وذلك كلفظة الثلاثة يتناول مخصوصها. وهو الأفراد
المعلومة لما أريد به من تعلق وجوب التربص به, يوضحه ما
قال شمس الأئمة رحمه الله: حكم الخاص معرفة المراد باللفظ
ووجوب العمل به فيما هو موضوع له لغة; لأنه عامل فيما وضع
له بلا شبهة, وهذا على مذهب المصنف, ومن لم يعتبر نفس
الاحتمال قادحا في اليقين فأما عند من اعتبره كذلك, فهو
يوجب العمل بظاهره ولكن لا يوجب اليقين, لا يخلو الخاص عن
هذا أي عن تناول المخصوص بطريق القطع في أصل الوضع; لأنه
وضع لذلك, وفيه إشارة إلى أن دلالة الخاص على المخصوص
باعتبار أصل الوضع لا باعتبار الحقيقة والمجاز; لأنهما من
باب الاستعمال والخصوص من باب الوضع والوضع مقدم على
الاستعمال; وإن احتمل التغير أي قبل أن يراد به غير موضوعه
مجازا إذا قام الدليل; فإن قيل كيف يثبت القطع مع الاحتمال
قلنا لما لم يقم عليه دليل الحق بالعدم فلا يمتنع القطع به
ألا يرى أنه لم يمتنع أحد من دخول المسقف مع أن احتمال
السقوط ثابت جزما لكنه لما لم يقم عليه دليل ألحق بالعدم
هذا هو المسموع من الثقات, وتحقيقه أن الاحتمال صفة اللفظ,
وهو صلاحيته لأن يراد به غير الموضوع له وإرادة الغير هو
المحتمل فقولنا قطعا راجع إلى المحتمل لا إلى الاحتمال
بيانه أن لفظ الأسد الموضوع للحيوان
(1/123)
احتمل التغير
عن أصل وضعه لكن لا يحتمل التصرف فيه بطريق البيان لكونه
بينا لما وضع له من ذلك أن الله تعالى قال:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قلنا المراد به الحيض
لأنا إذا حملنا على الأطهار
ـــــــ
المخصوص في قولك رأيت أسدا من غير قرينة يقبل أن يراد به
الشجاع مجازا فهذا هو الاحتمال وإرادة الشجاع هي المحتمل,
فإذا قلنا المراد منه موضوعه قطعا فالمراد بالقطع قطع
المحتمل; لأن ثبوته متوقف على قيام الدليل ولم يوجد فيكون
منقطعا لا محالة لا قطع الاحتمال إذ صلاحية اللفظ باقية
حتى لو انقطع الاحتمال أيضا يسمى محكما فثبت أن القطع
يجتمع مع الاحتمال.
قوله: "لكن لا يحتمل التصرف" استدراك من قوله واحتمل
التغير بطريق البيان. وذلك أن البيان إما إثبات الظهور,
وهو حقيقته أو إزالة الخفاء, وهي لازمته فلو احتمل التصرف
بطريق البيان مع كونه بينا يلزم إثبات الثابت أو نفي
المنفي وكلاهما فاسد, من ذلك أي من الخاص الذي ذكرنا أن
العمل يجب بموجبه ولا يحتمل البيان.
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ} الآية. وقوله قلنا نحن
جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} , خبر في معنى الأمر أي
وليتربص المطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء: {ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ} أي مضي ثلاثة قروء على أنها مفعول به كقولك
المحتكر يتربص الغلاء, أو مدة ثلاثة قروء على أنها ظرف,
والمراد بالقروء الحيض عندنا, وهو مذهب الخلفاء الراشدين
وأبي الدرداء رضي الله عنهم وعند الشافعي المراد بها
الأطهار, وهو مذهب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعائشة
رضي الله عنهم واللفظ يحتملها بالاتفاق والشأن في الترجيح
فقلنا لو حمل اللفظ على الأطهار انتقص العدد عن الثلاثة;
لأنه إذا طلقها في الطهر; وإن كان في أوله ينتقص ذلك الطهر
في حق العدة لا محالة إذ المراد من الطهر هو الطهر الشرعي
المتخلل بين دمي ترك بالاتفاق لا مسمى الطهر إذ لو كان
كذلك لانقضت العدة في طهر واحد أو أقل ولما انقضت عدة
المستحاضة ثم هو محسوب من العدة عند من حمل القروء على
الأطهار فيصير العدة قرأين وبعض قرء والثلاثة اسم خاص لعدد
معلوم لا يحتمل غيره سواء كان أقل منه أو أكثر فلا يجوز أن
يراد بالخمسة الأربعة ولا الستة مع أن إطلاق اسم الكل على
البعض وبالعكس جائز وذلك; لأن أسماء الأعداد أعلام; ولهذا
يقال ستة ضعف ثلاثة وأربعة نصف ثمانية من غير انصراف
للعلمية والتأنيث والنقل لا يجري في الإعلام بخلاف ما إذا
حملنا على الحيض; لأنه لو طلقها في الحيض لا تحتسب تلك
الحيضة بالاتفاق فيكمل الأقراء لا محالة فيكون عملا بهذا
اللفظ الخاص, وهو الثلاثة فيكون الحمل على وجه يوافق
الكتاب أولى من الحمل على وجه يخالفه. ولا يلزم عليه قوله
تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
(1/124)
انتقص العدد عن
الثلاثة فصارت العدة قرأين وبعض الثالث وإذا حملنا على
الحيض كانت ثلاثة كاملة والثلاثة اسم خاص لعدد معلوم لا
يحتمل غيره كالفرد لا يحتمل العدد والواحد لا يحتمل
الاثنين فكان هذا بمعنى الرد والإبطال.
ـــــــ
[البقرة: 197], حيث أريد شهران وبعض الثالث, وهو عشر ذي
الحجة مع أن أقل الجمع ثلاثة; لأن الأشهر اسم عام فيجوز أن
يذكر ويراد به البعض كما أريد من قوله تعالى: {وَإِذْ
قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ} [آل عمران: 42],
جبريل عليه السلام ومن قوله عز اسمه: {فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] قلباكما فأما أسماء الأعداد
فأعلام فلا يجوز فيها ذلك; ولهذا جاز إذا رأى رجلين أن
يقول رأيت رجالا ولا يجوز أن يقول رأيت ثلاثة رجال.
فإن قيل: في الحمل على الحيض مخالفة للنص من وجهين:
أحدهما: أنه يلزم منه ازدياد الحيض على الثلاثة; لأنه إذا
طلقها في الحيض لا يحتسب تلك الحيضة بالإجماع فيجب التربص
حينئذ بثلاثة أقراء وبعض الرابع واسم الثلاثة كما لا يحتمل
النقصان لا يحتمل الزيادة, والثاني أن الهاء علامة التذكير
في مثل هذا العدد يقال ثلاثة رجال وثلاث نسوة والحيضة
مؤنثة والطهر مذكر فدلت العلامة في الثلاثة على أن المراد
من القروء الأطهار.
قلنا: الجواب عن الأول أن ذلك الازدياد ثبت ضرورة وجوب
التكميل فلا يعبأ به وذلك; لأن الحيضة الواحدة لا تقبل
التجزئة ولهذا قلنا لو قال لامرأته أنت طالق إذا حضت نصف
حيضة لا تطلق حتى تطهر كما لو قال حيضة وقد وجب تكميل
الأولى بالرابعة فوجب بتمامها ضرورة عدم التجزؤ والعدة قد
يحتمل مثل هذه الزيادة احترازا عن النقصان كما أن عدة
الأمة على النصف من عدة الحرة بالإجماع ثم جعلت قرأين وفيه
زيادة نصف القرء كذا في الأسرار. وعن الثاني أن الحيضة;
وإن كانت مؤنثة فالقرء المضاف إليه الثلاثة مذكر ولا
استبعاد في تسمية شيء واحد باسم التذكير والتأنيث كالبر
والحنطة والذهب والعين فلما أضيف إلى المذكر روعي علامة
التذكير, ومما يؤكد أن المراد من القروء الحيض قوله عليه
السلام: "دعي الصلاة أيام أقرائك" 1 وقوله: "طلاق الأمة
ثنتان وعدتها حيضتان" 2 ولم يقل طهران وقوله تعالى:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4],
الآية فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار وأن الغرض
الأصيل
ـــــــ
1 أخرجه الطحاوي والدارقطني من حديث فاطمة بنت أبي حبيش ص
19.
2 أخرجه أبو داود في الطلاق رقم 2189 وأخرجه الترمذي في
الطلاق رقم 182 وأخرجه ابن ماجه في الطلاق رقم 2080 وأخرجه
مالك في الموطأ 2/205.
(1/125)
ومن ذلك قوله
تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]
والركوع اسم لفعل معلوم, وهو الميلان عن الاستواء بما يقطع
اسم الاستواء فلا يكون
ـــــــ
في العدة استبراء الرحم والحيض هو الذي يستبرأ به الأرحام
دون الطهر ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة بالاتفاق
ويقال أقرأت المرأة إذا حاضت كذا في الكشاف.
قوله: "والواحد لا يحتمل المثنى" تأكيد لقوله كالفرد لا
يحتمل العدد; وإنما أكد به; لأن الفرد يطلق على الأعداد
التي ليست بزوج كما يطلق على الواحد يقال ثلاثة عدد فرد
وأربعة عدد زوج فلما احتمل الفرد العدد أزال الإبهام بقوله
والواحد لا يحتمل المثنى ومعناه لفظ الفرد لا يتناول العدد
واسم الواحد لا يتناول المثنى, فكان هذا أي الحمل على
الأطهار بمعنى الرد والإبطال أي بموجب الكتاب; لأن الكتاب
يقتضي التكميل والتنقيص ضده قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص
الذي لا يحتمل التصرف بطريق البيان قوله تعالى:
{وَارْكَعُوا} [البقرة: 43], قيل هو أمر لليهود بالركوع أي
أقيموا صلاة المسلمين وزكاتهم واركعوا مع الراكعين منهم
وذلك; لأن اليهود لا ركوع في صلاتهم, ويجوز أن يراد
بالركوع الصلاة كما يعبر عنها بالسجود ويكون أمرا بأن يصلي
مع المصلين يعني في الجماعة كأنه قيل وأقيموا الصلاة
وصلوها مع المصلين لا منفردين كذا في الكشاف فعلى هذا
فرضية الركوع بهذه الآية ثابتة علينا بطريق الإشارة أو
الدلالة, فإنه تعالى لما أوجب الركوع عليهم متابعة لنا
فيكون ذلك علينا أوجب, وإيراد قوله تعالى: {ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا} [الحج: 77], لإثبات فرضية الركوع كما أورده
شمس الأئمة أحسن.
وقوله اركعوا خاص في حق المأمور به; وإن كان عاما في حق
المأمور. قوله: "وهو الميلان عن الاستواء" يقال ركعت
النخلة إذا مالت وركع البعير إذا طأطأ رأسه, وركع الشيخ
إذا انحنى قامته من الكبر, بما يقطع اسم الاستواء حتى لو
طأطأ رأسه قليلا ثم رفع رأسه إن كان إلى القيام أقرب منه
إلى الركوع لم يجزه لعدم انقطاع الاستواء. وإن كان إلى
الركوع أقرب جاز, وفي المبسوط قدر الركن من الركوع أدنى
الانحطاط على وجه يسمى له في الناس راكعا, فلا يكون إلحاق
التعديل, وهو الطمأنينة في الركوع والسجود وإتمام القيام
بين الركوع والسجود والقعدة بين السجدتين, به أي بالركوع
أو بقوله تعالى {وَارْكَعُوا} [البقرة: 43], بخبر الواحد,
وهو حديث تعليم الأعرابي1 على وجه يكون فرضا كالركوع,
بيانا صحيحا; لأن من شرط التحاق خبر الواحد بيانا بالكتاب
أن يكون فيما
ـــــــ
1 حديث لأعرابي الذي دخل المسجد وصلى وقال له صلى الله
عليه وسلم "ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا.." أخرج البخاري
ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد عن أبي هريرة رضي
الله عنه والترمذي وأبو داود والنسائي عن رفاعة بن رافع
جامع الأصول لابن الأثير 5/420 – 425.
(1/126)
إلحاق التعديل
به على سبيل الفرض حتى تفسد الصلاة بتركه بيانا صحيحا لأنه
بين بنفسه بل يكون رفعا لحكم الكتاب بخبر الواحد لكنه يلحق
به إلحاق الفرع بالأصل ليصير واجبا ملحقا بالفرض كما هو
منزلة خبر الواحد من الكتاب.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ
الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وهذا فعل خاص وضع لمعنى خاص, وهو
الدوران حول البيت, فلا يكون وقفه على
ـــــــ
التحق به إجمال; لأنه لو لم يكن كذلك يلزم نسخ الكتاب بخبر
الواحد وقد عدم هنا; لأنه بين بنفسه فلم يصح لعدم شرطه.
وقوله لكنه استدراك من مفهوم هذا الكلام وتقديره أن إلحاقه
بالنص على وجه التسوية فاسد فلا يلحق لكنه أي التعديل يلحق
بالنص أو بالركوع إلحاق الفرع بالأصل, وذلك بأن لا يؤدي
إلى إبطال الأصل, ليصير واجبا ملحقا بالفرض حتى ينتقص
الصلاة بدونه ويأثم هو بتركه ولكن لا تبطل; لأن الحكم يثبت
على حسب الدليل, كما هو منزلة خبر الواحد, وذلك بأن يكون
تبعا للكتاب لا مبطلا له. قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص
الذي ذكرنا قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: 29], أي
طواف الزيارة وطاف وتطوف بمعنى, بالبيت العتيق أي من
الجبابرة والغرق; لأنه رفع إلى السماء وقت الطوفان, أو
الكريم وكرمه وشرفه ظاهر, أو القديم; لأنه أول بيت وضع
للناس. وهذا فعل, أي الطواف الذي هو مدلول وليطوفوا
وتسميته فعلا توسع إذ المراد منه لفظ الطواف بدليل قوله
وضع لكذا, قال شمس الأئمة: الطواف موضوع لغة لمعنى معلوم,
فلا يكون وقفه أي الحكم بأن الطواف متوقف على الطهارة كما
قال الشافعي رحمه الله, عملا بالكتاب; لأنه ساكت عن
اشتراطها, ولا بيانا; لأنه ليس فيه إجمال, وذكر في الأسرار
إنما يقال إنه بيان إذا كان النص يحتمله بوجه والأمر
بالطواف لا يحتمل الطهارة, بل كان نسخا محضا; لأن الكتاب
يقتضي جواز الطواف مع الحدث واشتراط الطهارة ينفيه فيكون
نسخا محضا فلا يصح بخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام:
"ألا لا يطوفن بهذا البيت محدث ولا عريان" 1 وقوله عليه
السلام: "الطواف صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام" 2, لكنه أي
شرط الطهارة يزاد على الطواف واجبا, وهو الصحيح بدليل
إيجاب الدم عند تركه, وكان ابن
ـــــــ
1 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن أبي هريرة
رضي الله عنه أخرجه الترمذي عن علي رضي الله عنه جامع
الأصول 2/152 – 156 وأخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله
عنهما المرجع نفسه 8/660.
2 أخرجه النسائي في الأصول 3/190 – 191 وأخرجه ابن عباس
الحاكم والبيهقي كما روى الطبراني وأبو نعيم والحاكم
والبيهقي في الفتح الكبير 2/219.
(1/127)
الطهارة عن
الحدث حتى لا ينعقد إلا بها عملا بالكتاب ولا بيانا بل
نسخا محضا فلا يصح بخبر الواحد لكنه يزاد عليه واجبا ملحقا
بالفرض كما هو منزلة خبر الواحد من الكتاب ليثبت الحكم
بقدر دليله
ـــــــ
شجاع يقول إنه سنة1 كذا في المبسوط.
فإن قيل: النص مجمل; لأن نفس الطواف ليس بمراد بالإجماع
فإنه قدر بسبعة أشواط وشرط فيه الابتداء من الحجر الأسود
حتى لو ابتدأ من غيره لا يعتد بذلك القدر حتى ينتهي إلى
الحجر, وكذا يلزم إعادة طواف الجنب والعريان والطواف
المنكوس فثبت أنه مجمل لمعنى زائد ثبت شرعا عليه كالربا
فيجوز أن يلتحق خبر الطهارة بيانا به.
قلنا: أما التقدير بسبعة أشواط فقد ثبت بالأحاديث
المتواترة فكان كالمنصوص في القرآن فتجوز الزيادة بها;
ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لا يجوز النقصان عن هذا
العدد كالحدود إلا أن علماءنا رحمهم الله قالوا يحتمل أن
يكون التقدير به للإكمال ويحتمل أن يكون للاعتداد به فيثبت
القدر المتيقن. وهو أن يجعل ذلك شرط الإتمام ولئن كان شرط
الاعتداد فالأكثر منه يقوم مقام الكل لترجح جانب الوجود
فيه على جانب العدم كالنية قبل انتصاف النهار في الصوم
المتعين وكما أن المعظم من أفعال الحج يقوم مقام الكل في
حق الخروج عن عهدة الأمر حتى لم يفسد الحج بعد عرفة بوجه
كأنه أتي بالكل. وأما الابتداء من غير الحجر فمن أصحابنا
من يقول بأنه معتد به ولكنه مكروه, ولئن سلمنا أنه غير
معتد به كما ذكر محمد رحمه الله في الرقيات فذلك لما روي
أن إبراهيم قال لإسماعيل عليهما السلام ائتني بحجر أجعله
علامة افتتاح الطواف فأتاه بحجر فألقاه ثم بالثاني ثم
بالثالث فناداه قد أتاني بالحجر من أغناني عن حجرك ووجد
الحجر الأسود في موضعه فعرفنا أن ابتداء الطواف منه فما
أداه قبل الافتتاح به لا يكون معتدا به كذا ذكر في
المبسوط, ولكن لا تزول الشبهة به; لأن هذه زيادة على النص
بخبر الواحد أيضا, والأشبه أن يقال إنه ليس بمجمل في نفسه,
ولكنه في حق المبالغة وابتداء الفعل مجمل; لأن الأمر صدر
بصيغة التطوف وتاء التفعل للتكلف والمبالغة, وذلك يحتمل أن
يكون من حيث العدد ومن حيث الإسراع في المشي فالتحق خبر
العدد والابتداء بيانا به; لأنه يصلح لبيان إجماله فأما
خبر الطهارة فلا يصلح للبيان لما ذكرنا أن الطواف لا يحتمل
الطهارة بل هو شرط زائد فلا يثبت بخبر الواحد. ونظيره مسح
الرأس, فإنه لما كان في حق المقدار
ـــــــ
1 هو عبد الرحمن بن شجاع بن الحسن بن الفضل أبو الفرج
البغدادي فقيه حنفي ولد سنة 539 هـ وتوفي سنة 609 هـ.
(1/128)
ومن ذلك قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ
إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]
فإنما الوضوء غسل ومسح وهما لفظان خاصان
ـــــــ
مجملا التحق فعل النبي عليه السلام بيانا به; لأنه يبين
إجماله دون خبر التثليث; لأن اللفظ لا يحتمله.
وأما وجوب إعادة طواف الجنب والعريان والطواف المنكوس فليس
لعدم الجواز بل لتمكن النقصان الفاحش فيه كوجوب إعادة
الصلاة التي أديت مع الكراهة; ولهذا ينجبر بالدم إذا رجع
من غير إعادة انجبار نقصان الصلاة بالسجدة.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص الذي تقدم ذكره والفاء في
فإنما إشارة إلى تعليل كون مفهوم الآية من هذا الباب, وهما
لفظان خاصان لمعنى معلوم أي كل واحد منهما لمعنى كما في
قول المتنبي:
حشاي على جمر ذكي من الهوى ... وعيناي في روض من الحسن
ترتع
أي كل واحدة والمعنى المعلوم الإسالة للغسل والإصابة
للمسح, فلا يكون شرط النية كما قاله الشافعي, في ذلك أي في
الوضوء بقوله عليه السلام: "الأعمال بالنيات" 1, أو
بالقياس على التيمم; لأن اشتراطها في البدل يدل على
اشتراطها في الأصل; لأن البدل لا يخالف الأصل في الشروط,
عملا بالكتاب; لأنه ساكت, ولا بيانا; لأنه بين, والواو في
"وهو" للحال, والنية عنده أن يقصد بقلبه عند غسل الوجه
إزالة الحدث أو استباحة الصلاة أو فرض الوضوء حتى لو توضأ
للتبرد أو للتعليم أو نوى غير مقارن لغسل الوجه لا يعتد
بذلك الوضوء عنده, بل إضراب عن مفهوم الكلام. على الوصف
الذي ذكرنا أي إلحاق الفرع بالأصل وذلك بأن يجعل واجبا أو
سنة على حسب اقتضاء الدليل لا فرضا كما قاله الخصم, ولا
يلزم على ما ذكرنا اشتراط النية في التيمم مع أنه خاص; لأن
ذلك ثبت بإشارة النص إذ التيمم القصد, وبطل شرط الولاء,
وهو أن يتابع في الأفعال, ولا يفرق والذي يقطع التتابع
جفاف العضو مع اعتدال الهواء; وإنما شرطه مالك وابن أبي
ليلى2 والشافعي في قوله القديم بفعل النبي عليه السلام
واظب على الموالاة قالوا فلو جاز تركه لفعله مرة تعليما
للجواز, قال ابن أبي ليلى: إن اشتغل بطلب الماء أجزأه; لأن
ذلك
ـــــــ
1 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجه والدارقطني في الأشباه والنظائر ص 38 – 39.
2 هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار الأنصاري الكوفي
الفقيه المجتهد الفرضي القاري المحدث توفي سنة 148 هـ.
(1/129)
لمعنى معلوم في
أصل الوضع, فلا يكون شرط النية في ذلك عملا به ولا بيانا
له, وهو بين لما وضع له بل يجب أن يلحق به على الوصف الذي
ذكرنا وبطل
ـــــــ
من عمل الوضوء; وإن أخذ في عمل آخر غير ذلك وجف أعاد ما جف
وجعله قياس أعمال الصلاة إذا اشتغل في خلالها بعمل آخر كذا
في المبسوط, والترتيب, وهو أن يراعي النسق المذكور في كتاب
الله تعالى وقد شرطه الشافعي رحمه الله بقوله عليه السلام:
"لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه
ثم يديه أو قال ذراعيه" وحرف ثم للترتيب, والتسمية. وهي أن
يسمي الله تعالى في ابتداء الوضوء ومختار المشايخ بسم الله
العظيم والحمد لله على الإسلام; وإنما شرط التسمية أصحاب
الظواهر وقيل هو قول مالك أيضا بقوله عليه السلام: "لا
وضوء لمن لم يسم" 1, لما ذكرنا أنه ليس بعمل بالكتاب ولا
ببيان له بل هو نسخ لموجبه بخبر الواحد.
فإن قيل: فهلا قلتم بوجوب النية وأخواتها كما قلتم بوجوب
التعديل في الصلاة والطهارة في الطواف "قلنا" للمانع من
القول بالوجوب, وهو لزوم المساواة بين التبعين مع ثبوت
التفرقة بين الأصلين وذلك; لأن الوضوء أحط رتبة من الصلاة;
لأنه فرض لغيره إذ هو شرط والشروط أتباع ولهذا تسقط بسقوط
المشروط من غير عكس والصلاة فرض لعينه فلو قلنا بالوجوب في
مكمل الوضوء كما قلنا بالوجوب في مكمل الصلاة يلزم التسوية
إذ يصير كل واحد منهما واجبا لغيره فقلنا بالسنة في مكمل
الوضوء إظهارا للتفاوت بينهما كذا قالوا وشبهوا هذا بأن
غلام الوزير لا بد من أن يكون أدون حالا من غلام الأمير
لكون الوزير أدنى رتبة من الأمير قلت والأقرب إلى التحقيق
أن ذلك التفاوت درجات الدلائل فإن الأدلة السمعية أنواع
أربعة:
قطعي الثبوت والدلالة كالنصوص المتواترة.
وقطعي الثبوت ظني الدلالة كالآيات المؤولة.
وظني الثبوت قطعي الدلالة كأخبار الآحاد التي مفهومها
قطعي.
وظني الثبوت والدلالة كأخبار الآحاد التي مفهومها ظني.
فبالأول يثبت الفرض وبالثاني والثالث يثبت الوجوب وبالرابع
يثبت السنة والاستحباب ليكون ثبوت الحكم بقدر دليله. فخبر
التعديل من القسم الثالث; لأنه عليه السلام أمر الأعرابي
بالإعادة ثلاثا فقال له كل مرة ارجع فصل, فإنك لم تصل ثم
علمه
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الطهارة رقم 101 والترمذي في الطهارة
رقم 25 وأخرجه ابن ماجه في الطهارة رقم 397, 398, 399,
400.
(1/130)
شرط الولاء
والترتيب والتسمية كما ذكرنا وصار مذهب المخالف في هذا
الأصل غلطا من وجهين أحدهما أنه حط منزلة الخاص من الكتاب
عن رتبته
ـــــــ
ومثله لو كان قطعي الثبوت يثبت به الفرض لانقطاع الاحتمال
عنه, فإذا كان ظني الثبوت يثبت به الوجوب; ولهذا قال أبو
حنيفة فيه أخشى أن لا تجوز صلاته يعني إذا تركه, وكذا خبر
الطهارة, وهو قوله عليه السلام: "لا يطوفن بهذا البيت
محدث" لتأكده بالنون المؤكدة, فأما قوله عليه السلام:
"الأعمال بالنيات" فمن القسم الرابع; لأن معناه إما ثواب
الأعمال أو اعتبار الأعمال على ما ستعرفه فيكون مشترك
الدلالة, وكذا خبر التسمية; لأنه معارض بقوله عليه السلام:
"من توضأ وسمى كان طهورا لجميع أعضائه ومن توضأ ولم يسم
كان طهورا لما أصابه الماء" 1 فلم يبق قطعي الدلالة كيف
واستعمال مثله في نفي الفضيلة شائع, وكذا دليل الموالاة;
لأن المواظبة لا تدل على الركنية فإنه عليه السلام كان
يواظب على المضمضة والاستنشاق كما كان يواظب على غسل
الوجه, وخبر الترتيب أيضا معارض بما روي أنه عليه السلام
نسي مسح الرأس في وضوئه فتذكر بعد فراغه فمسحه ببلل في كفه
فلما كانت هذه الدلائل ظنية الثبوت والدلالة يثبت بها
السنة لا الوجوب.
قوله: "وصار مذهب المخالف غلطا من وجهين"; لأنه لما سوى
بينهما في الرتبة حيث أثبت بخبر الواحد ما أثبت بالكتاب
لزم حط درجة الكتاب بالنظر إلى رتبة الخبر أو رفع درجة
الخبر بالنظر إلى رتبة الكتاب كمن سوى بين شريف, ومن هو
أدنى منه في المكان يلزم رفع درجة الأدنى إن أجلسه في مكان
الشريف أو حط درجة الشريف إن أجلسه في مكان الأدنى, ولكنهم
يقولون إنما يلزم ذلك لو قلنا بأن ما ثبت بخبر الواحد ثابت
علما وعملا ونحن لا نقول به بل نقول ما ثبت بالكتاب قطعي
موجب للعلم والعمل وما ثبت بخبر الواحد موجب للعمل دون
العلم حتى لا يكفر جاحده كما قال أبو حنيفة رحمه الله
بفرضية الوتر وفرضية الترتيب بين الفوائت فأنى يلزم ما
ذكرتم وجوابه سيأتي في باب العزيمة والرخصة.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص الذي ذكرنا, اعلم أن الصحابة
رضي الله عنهم اختلفوا في مسألة الهدم وصورتها مشهورة فقال
عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي
الله عنهم وطء الزوج الثاني يهدم حكم ما مضى من الطلقات
واحدا كان أم ثلاثة وبه قال إبراهيم2 وأبو حنيفة وأبو يوسف
رحمهم الله وقال عمر
ـــــــ
1 أخرجه الدارقطني والبيهقي نيل الأوطار 1/167.
2 هو أبو عمران إبراهيم بن يزيد بن قيس ولد سنة 50 هـ
(1/131)
والثاني أنه
رفع حكم الخبر الواحد فوق منزلته ومن ذلك قوله تعالى:
{فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً
غَيْرَهُ} [البقرة: 230] قال محمد والشافعي رحمهما الله:
قوله حتى تنكح كلمة وضعت لمعنى خاص, وهو للغاية والنهاية
فمن جعله محدثا حلا جديدا لم يكن ذلك عملا بهذه الكلمة ولا
بيانا; لأنها ظاهرة فيما وضعت له بل كان إبطالا, ولكنها
تكون غاية ونهاية والغاية والنهاية بمنزلة البعض لما وصف
بها وبعض الشيء لا ينفصل عن كله فيلغو قبل وجود الأصل
ـــــــ
وعلي وأبي بن كعب وعمران بن الحصين وأبو هريرة رضوان الله
عليهم: لا يهدم ما دون الثلاث وبه قال محمد وزفر والشافعي
رحمهم الله, ومبنى المسألة على أن الزوج الثاني أي إصابته
في الطلقات الثلاث مثبت حلا جديدا أم هو غاية للحرمة
الثابتة بها فقط فعند الأولين هو مثبت للحل, وعند الآخرين
هو غاية, تمسك الفريق الآخر بأن الله تعالى جعل الزوج
الثاني غاية للحرمة بقوله جل ذكره: {فَإِنْ طَلَّقَهَا}
[البقرة: 230] أي الطلقة الثالثة: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
بَعْدُ} أي بعد ذلك التطليق: {حَتَّى تَنْكِحَ} أي تتزوج
زوجا غيره أي رجلا أجنبيا وسماه زوجا باعتبار العاقبة
كتسمية العنب خمرا وكلمة حتى للغاية وضعا ولا تأثير للغاية
في إثبات ما بعدها بل هي منهية فقط, فإذا انتهى المغيا ثبت
الحكم فيما بعد بالسبب السابق كما في الأيمان الموقتة
ينتهي الحرمة الثابتة بها بالغاية ثم يثبت الإباحة بالسبب
السابق وكما في الصوم ينتهي حرمة الأكل والشرب بالليل ثم
يثبت الحل بعد الإباحة الأصلية. وكذا الحكم في تحريم البيع
إلى قضاء الجمعة وتحريم الاصطياد على المحرم إلى انتهاء
الإحرام والظهار الموقت التكفير, فكذا ههنا بإصابة الزوج
الثاني ينتهي الحرمة ثم يثبت الحل بالسبب السابق, وهو
كونها من بنات آدم خالية عن أسباب الحرمة, ولا يقال قد
اضمحل الحل الأول بضده فلا بد من أن يثبت حل آخر يضمحل به
الحرمة لاستحالة عود الحل الأول, لأنا نقول نحن لا ننكر
ذلك لكنه إنما يثبت بالسبب الذي يثبت به الأول, وهو أنها
من بنات آدم لا بالزوج الثاني الذي هو غاية; لأن إضافة
الحكم إلى السبب الذي ظهر أثره مرة أولى من إضافته إلى سبب
لم يظهر أثره أصلا كمن آجر داره فخرجت المنافع عن ملكه ثم
انتهت الإجارة صارت المنافع مملوكة له بملك جديد غير الأول
لزوال الأول بالتمليك وعدم ارتفاع سبب الزوال ولكن بالسبب
السابق, وهو ملك الدار لا بانتهاء الإجارة.
فمن جعل الزوج الثاني مثبتا حلا جديدا لم يكن ذلك عملا
بالكتاب; لأنه لا يقتضي ذلك بل يقتضي كونه غاية فقط, بل
كان إبطالا; لأن الكتاب يقتضي أن يكون
(1/132)
والجواب أن
النكاح يذكر ويراد به الوطء, وهو أصله ويحتمل العقد على ما
يأتي في موضعه وقد أريد به العقد هنا بدلالة إضافته إلى
المرأة لأنها في فعل مباشرة العقد مثل الرجل فصحت الإضافة
إليها وأما فعل الوطء فلا يضاف إليها مباشرته أبدا لأنها
لا تحتمل ذلك; وإنما ثبت الدخول بالسنة على ما روي
ـــــــ
الزوج الثاني غاية وكونه غاية يقتضي أن يكون وجوده وعدمه
قبل الثلاث بمنزلة وجعله مثبتا حلا جديدا يقتضي خلافه
فيكون إبطالا. ولما ثبت أن الزوج الثاني غاية لم يكن له
عبرة قبل الثلاث; لأن غاية الشيء بمنزلة البعض لذلك الشيء
لتوقف صيرورتها غاية عليه توقف البعض على الكل وبعض الشيء
لا ينفصل عن كله إذ لو انفصل لم يبق بعضا حقيقة, فتلغوا
بالتاء أي الغاية قبل وجود الأصل, وهو المغيا كرجل حلف لا
يكلم فلانا في رجب حتى يستشير إياه فاستشاره قبل دخول رجب
لم يكن معتبرا في حق اليمين حتى لو كلمه في رجب قبل
الاستشارة حنث; لأن اليمين أوجبت تحريم الكلام بعد دخول
رجب إلى غاية الاستشارة فالاستشارة وعدمها قبل دخول رجب
بمنزلة.
ولا يقال النص متروك الظاهر; لأنه يقتضي أن يكون نفس
التزوج غاية كما ذهب إليه سعيد بن المسيب وليس كذلك إذ
الإصابة بعده شرط للحل بالإجماع وقول سعيد مردود حتى لو
قضى القاضي به لا ينفذ فلا يستقيم التمسك به, لأنا نقول قد
زيد على النص الإصابة بالحديث المشهور حتى صار كالمنصوص
عليه فلا يمنع ذلك كون الحرمة موقتة وكون الزوج الثاني مع
الإصابة غاية, فكأنه قيل هذه الحرمة مغياة إلى التزوج
والإصابة فيصح التمسك به, "فمن جعله" الضمير البارز راجع
إلى الزوج المفهوم من الكلام الأول والتقدير كلمة حتى وضعت
لمعنى خاص, وهو الغاية والنهاية فيكون الزوج الثاني غاية
فمن جعل الزوج, ولكنها استدراك من حيث المعنى أيضا كما
ذكرنا, والهاء راجعة إلى كلمة حتى والمراد الزوج أو نكاحه
بطريق التوسع; لأن حتى لا يكون غاية بل الغاية ما دخل عليه
حتى, والتقدير فمن جعله محدثا حلا جديدا لا يكون عملا بل
يكون إبطالا فلا يكون الزوج محدثا حلا جديدا لكنه يكون
غاية ونهاية. والنهاية تأكيد للغاية ووقع في محله; لأنه في
بيان الخلاف كما مر مثله.
قوله: "والجواب إلى آخره" اتفق العلماء سوى سعيد بن المسيب
على اشتراط الوطء للتحليل لكنهم اختلفوا في أنه ثابت
بالكتاب أو بالسنة المشهورة فذهب الجمهور منهم إلى أنه
ثابت بالسنة وذهب طائفة منهم إلى أنه ثابت بالكتاب متمسكين
بأن النكاح حقيقة في الوطء فيحمل على حقيقته إلا أنه أسند
إلى المرأة ههنا باعتبار التمكين كما أسند الزنا الذي هو
الوطء الحرام إليها بهذا الاعتبار فيكون الإسناد مجازا
(1/133)
عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال لامرأة رفاعة وقد طلقها ثلاثا ثم
نكحت عبد الرحمن بن الزبير ثم جاءت إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم تتهمه بالعنة وقالت ما وجدته إلا كهدبة ثوبي هذا
فقال صلى الله عليه وسلم: "أتريدين أن تعودي إلى رفاعة"
فقالت نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تذوقي
من عسيلته ويذوق من عسيلتك" 1.
ـــــــ
كما يقال نهارك صائم وليلك قائم, ولا يصح أن يحمل على
النكاح; لأن قوله زوجا يأبى ذلك; لأن المرأة لا تزوج نفسها
زوجها فصار معناه على هذا التقدير حتى تمكن من وطئها زوجا
فكان ذكر الزوج اشتراطا للعقد وذكر النكاح اشتراطا للوطء,
قالوا: وفيه تقليل المجاز الذي هو خلاف الأصل; لأنه لم يبق
إلا في الإسناد فيجب اعتباره, وتمسك الجمهور بأن النكاح;
وإن كان حقيقة في الوطء إلا أنه أريد به العقد ههنا بدليل
إضافته إلى المرأة والنكاح المضاف إلى المرأة ليس إلا
العقد يقال نكحت أي تزوجت, وهي ناكح في بني فلان أي هي ذات
زوج منهم كذا في الصحاح; وإنما يجوز إرادة الوطء منه إذا
أضيف إلى الرجل; لأن الوطء يتصور منه فأما المرأة فلا يجوز
إضافة الوطء إليها ألبتة; لأنه لم يسمع في كلامهم إضافة
الوطء والنكاح الذي بمعناه إلى المرأة ولو جاز أن تسمى
واطئة بالتمكين لجاز أن يسمى المركوب راكبا والمضروب
ضاربا, وهي خلاف اللغة.
وأما إضافة الزنا إليها, فليس بطريق المجاز بل; لأنه اسم
للتمكين الحرام من المرأة كما هو اسم للوطء الحرام من
الرجل; ولهذا لا يصح نفي الزنا عنها إذا زنت كما لا يصح
نفي التمكين عنها, ولئن سلمنا أن النكاح ههنا بمعنى
التمكين فلا يحصل المقصود; لأن الحل متعلق بالوطء الذي هو
فعل الزوج ولا يلزم الوطء من التمكين لا محالة فثبت أنه
ثابت بالسنة, ثم في هذا الطريق إعمال السنة والكتاب جميعا
فكان أولى مما قالوا; لأن فيه إعمال أحدهما وفيه عمل
بالحقيقة من وجه; لأن الوطء إنما سمي بالنكاح لمعنى الضم
وفي العقد ضم كلام إلى كلام شرعا.
واعلم أن الشيخ إنما اختار هذه الطريقة بعد كونها أولى
بالاعتبار من الأولى; لأن كلام الفريق الأول لا يتضح إلا
بأن يجعل الوطء مثبتا للحل ولو ثبت الوطء بالكتاب كما
ذكروا لا يحصل المقصود إذ ليس فيه دليل على المطلوب ويتأكد
كلام الخصوم حينئذ; وإنما
ـــــــ
1 أخرجه البخاري حديث رقم 1433, 2/1056 ومالك في الموطأ
2/531 وأبو داود في الطلاق حديث 2/303 رقم 2308 والترمذي
في النكاح حديث رقم 1118 والنسائي في الطلاق 6/146 – 147
وابن ماجه في النكاح حديث رقم 1932 – 1933 والإمام أحمد في
المسند 2/25, و62, و85.
(1/134)
وفي ذكر العود
دون الانتهاء إشارة إلى التحليل وفي حديث آخر: "لعن الله
المحلل والمحلل له"
ـــــــ
ثبت الدخول بالسنة, وهي ما ذكره الشيخ في الكتاب, والمرأة
هي تميمة بنت أبي عبيد القرظية, وقيل عائشة بنت عبد الرحمن
بن عتيك النضيرية, ورفاعة هو ابن وهب بن عتيك ابن عمها.
وقيل ابن سموأل, والزبير بفتح الزاي لا غير واتهامها له
بالعنة قولها ما معه إلا مثل هدبة الثوب, وهو نظير ما حكت
امرأة عن عنين فقالت حللت منه بواد غير ذي زرع, والعسيلتان
كنايتان عن العضوين لكونهما مظنتي الالتذاذ. وصغرت بالهاء;
لأن الغالب على العسل التأنيث; وإن كان يذكر أيضا, ويقال
إنما أنث; لأنه أريد به العسلة, وهي القطعة منه كما يقال
للقطعة من الذهب ذهبة, والتأكيد بالتعرض للجانبين إشارة
إلى أنه هو المقصود في باب التحليل. وقوله تذوقي ويذوق
إشارة إلى أن الشبع, وهو الإنزال ليس بشرط, وكذا التصغير
إشارة إلى أن القدر القليل كاف وراوي الحديث عائشة رضي
الله عنها, وكذا روى ابن عمر وأنس بن مالك رضي الله عنهم
من غير قصة رفاعة, وفي عامة الروايات أن ترجعي مقام أن
تعودي وكلاهما واحد, وفي بعض الروايات أنها جاءت بعد ذلك
وقالت كان غشيني فقال عليه السلام لها كذبت في قولك الأول
فلن أصدقك في الآخر فلبثت حتى قبض النبي عليه السلام ثم
أتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت: أرجع إلى زوجي الأول فإن
زوجي الآخر قد مسني فقال أبو بكر: قد عهدت رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين قال لك ما قال فلا ترجعي إليه فلما قبض
أبو بكر أتت عمر رضي الله عنهما فقال لها لئن أتيتني بعد
مرتك هذه لأرجمنك فمنعها كذا في التيسير.
قوله: "وفي ذكر العود" إضافة المصدر إلى المفعول أي وفي
ذكر رسول الله العود وتركه لفظ الانتهاء الذي هو مدلول
الكتاب بأن لم يقل أتريدين أن تنتهي حرمتك إشارة إلى أن
ذوق العسيلة تحليل وذلك أنه عني عدم العود إلى ذوق
العسيلة, فإذا وجد الذوق يثبت العود لا محالة; لأن حكم ما
بعد الغاية يخالف ما قبلها, وهو أمر حادث; لأنه لم يكن قبل
ولا بد له من سبب وقد ثبت بعد الدخول فيضاف إليه بخلاف أصل
الحل; لأنه كان ثابتا قبل الحرمة الغليظة وسببه كونها من
بنات آدم إلا أن حكمه تخلف باعتراض الحرمة, فإذا انتهت
أمكن أن يقال ثبت الحل بالسبب السابق, فأما العود فلم يكن
ثابتا قبل ذلك, وقد حدث بعد الإصابة فيكون حادثا به,
وعبارة بعض الشروح أن العود هو الرد إلى الحالة الأولى وفي
الحالة الأولى كان الحل ثابتا مطلقا, ولم يبق فيكون فعل
الزوج الثاني مثبتا للحل الذي عدم; لأنه حدث بعده, وهو
معنى ما قال شمس الأئمة رحمه الله ففي اشتراط الوطء للعود
إشارة إلى السبب الموجب للحل.
(1/135)
.....................................................
قوله: "لعن الله المحلل والمحلل له" 1 سماه محللا والمحلل
حقيقة من يثبت الحل كالمحرم من يثبت الحرمة والمبيض من
يثبت البياض فيثبت له هذه الصفة بعبارة النص كذا قيل,
والأوجه أنه إشارة أيضا; لأن الكلام لم يسق له بل لإثبات
اللعن إلا أن هذه إشارة ظاهرة, والأولى غامضة, وإلحاق
اللعن به لا يمنع الاستدلال; لأن ذلك ليس للتحليل بل لشرط
فاسد ألحقه بالنكاح, وهو ذكر الشرط الفاسد إن تزوجها بشرط
التحليل أو لقصده تغيير المشروع إن لم يشرط; لأنه مشروع
للتناسل والبقاء, وهو إنما قصد غيره ويدل عليه قوله عليه
السلام: "إن الله لا يحب كل ذواق مطلاق" . وأما إلحاق
اللعن بالمحلل له فلأنه مسبب لمثل هذا النكاح والمسبب شريك
المباشر في الإثم والثواب, والأشبه أن الغرض من اللعن
إظهار خساسة المحلل بمباشرة مثل هذا النكاح والمحلل له
بمباشرة ما ينفر عنه الطباع من عودها إليه بعد مضاجعة غيره
إياها واستمتاعه بها لا حقيقة اللعن إذ هو الأليق بكلام
الرسول صلى الله عليه وسلم في حق أمته; لأنه عليه السلام
ما بعث لعانا ويدل عليه قوله عليه السلام: "ألا أنبئكم
بالتيس المستعار" 2 وعلى هذا قوله عليه السلام: "لعن الله
السارق يسرق البيضة فيقطع يده" 3 ثم هذا الحديث; وإن كان
من الآحاد لكنه لما لم يكن مخالفا للكتاب ولم يلزم منه
نسخه يجب العمل به, وذلك; لأن الكتاب أثبت كون الزوج
الثاني غاية ولم ينف كونه مثبتا للحل وليس ذلك من ضرورات
كونه غاية أيضا إذ لا منافاة بين كونه غاية وبين كونه
مثبتا للحل; لأن انتهاء الشيء كما يكون بنفسه يكون بثبوت
ضده كما في قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي
سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43], فالاغتسال
مثبت للطهارة ومنه للجنابة; لأنه لما ثبتت الطهارة لم تبق
الجنابة وكما في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}
[النور: 27] أي تستأذنوا والاستئذان منه لحرمة الدخول
بإثبات الحل ابتداء والحديث أثبت كونه مثبتا للحل فيجب
العمل به ولما ثبت الحل لما ذكرنا لم يزل إلا بثلاث
تطليقات كالحل الأول.
"فإن قيل" المثبت للحل رافع للحرمة ضرورة والرافع للشيء لا
يكون غاية له كالطلاق للنكاح. "قلنا" ما يرفع الشيء قصدا
فهو قاطع له ولا يطلق عليه اسم الغاية
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في النكاح حديث رقم 2076 والترمذي في
النكاح 3/427 – 429 والنسائي في الطلاق 6/149.
2 أخرجه ابن ماجة في النكاح حديث رقم 1936.
3 أخرجه البخاري 8/200 – 201 ومسلم في الحدود حديث رقم
1687 والنسائي في السارق 8/65 وابن ماجه في الحدود حديث
رقم 2583.
(1/136)
فثبت الدخول
زيادة بخبر مشهور يحتمل الزيادة بمثله وما ثبت الدخول
بدليله إلا بصفة التحليل وثبت شرط الدخول به بالإجماع, ومن
صفته التحليل وأنتم أبطلتم هذا الوصف عن دليله عملا بما هو
ساكت, وهو نص الكتاب عن هذا
ـــــــ
كالطلاق, فأما ما يثبت حكما آخر من ضرورة ثبوته انتفاء
الثابت لتضاد بينهما فهو غاية لما كان ثابتا لما ذكرنا أن
الشيء ينتهي بضده كالليل بالنهار وعكسه ومسألتنا من هذا
القبيل.
"فإن قيل" سلمنا أنه مثبت للحل ولكنه يقتضي عدم الحل; لأن
إثبات الثابت محال ألا ترى أنه لو تزوج منكوحته لم ينعقد;
لأن الحل ثابت فلا يملك إثباته ثانيا وههنا الحل ثابت
بكماله غير منتقص; لأن زواله معلق بالثلاث فقبله لا يثبت
شيء من الحكم; لأن أجزاء الحكم لا تتوزع على أجزاء الشرط
والعلة, قلنا السبب إذا وجد وأمكن إظهار فائدته لا بد من
اعتباره, وقد وجد السبب وفي اعتباره فائدة, وهي أن لا تحرم
عليه إلا بثلاث تطليقات مستقبلات فيجب اعتباره كاليمين بعد
اليمين والظهار بعد الظهار منعقد; وإن تم المنع عن الفعل
باليمين الأولى والحرمة بالظهار الأول; لأن في الانعقاد
فائدة وهي تكرر التكفير, وكذا إذا اشترى ماله من المضارب
قبل ظهور الربح أو ضم ماله إلى مال الغير فاشتراهما يصح;
لأنه يفيد ملك التصرف أو جواز العقد في مال الغير "فإن
قيل" فعلى هذا وجب أن يملك أربعا أو خمسا من التطليقات
ثلاثا بهذا الحادث وواحدة أو ثنتين بالأول "قلنا" إذا وجب
إثبات الحل بهذا السبب الثاني لما فيه من الفائدة اقتضى
انتفاء الأول إذ لم يبق فيه فائدة فينتفي به اقتضاء كما
إذا عقدا البيع بألف ثم جدداه بأنقص أو أكثر يصح الثاني
وينفسخ الأول اقتضاء. أو يقال لما عرفنا الثلاث محرما
للمحل بالنص حكمنا بتأثيره في الحلين فيرفعهما جميعا الأول
بالطلقة أو الطلقتين لتمام علة زوال الأول والثاني بالباقي
كما قلنا في تداخل العدتين, وهو مشهور.
قوله: "فثبت الدخول زيادة" أي على النص; وإنما تركه لكونه
مفهوما, بخبر مشهور, وهو حديث امرأة رفاعة, يحتمل, الضمير
راجع إلى المفهوم من قوله "زيادة", وهو النص, وما ثبت أي
لم يثبت الدخول, بدليله, وهو الحديث إلا بصفة التحليل,
وثبت شرط الدخول به أي بالحديث, بالإجماع, فإن المتقدمين
اتفقوا على أنه ثابت بالحديث وإثباته بالكتاب تخريج بعض
المتأخرين, ومن صفته أي صفة الدخول التحليل, ويجوز أن يكون
الواو في قوله وثبت وقوله ومن صفته للحال أي والحال أن
الدخول ثبت بالحديث موصوفا بصفة التحليل, وأنتم أبطلتم هذا
الوصف, وهو التحليل,
(1/137)
الحكم أعنى
الدخول بأصله ووصفه جميعا, ومن ذلك قوله تعالى: {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الآية فالله تعالى ذكر الطلاق
مرة ومرتين وأعقبهما بإثبات الرجعة ثم أعقب ذلك بالخلع
بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
[البقرة: 229] فإنما بدأ بفعل الزوج,
ـــــــ
عن دليله, وهو الحديث حيث قلتم باشتراط الدخول وأنكرتم صفة
التحليل, عملا أي لأجل العمل بما هو ساكت, وهو نص الكتاب
عن هذا الحكم فكان الطعن عائدا عليكم, قال القاضي الإمام
أبو زيد: رحمه الله متى نظرت إلى السنة كان الأمر ما قاله
أبو حنيفة رحمه الله ومتى نظرت إلى موجب نص الآية أشكل
وأنه أولى الأمرين قولا بظاهر كلمة حتى ومسألة اختلف فيها
كبار الصحابة رضي الله عنهم يصعب الخروج عنها وبالله
التوفيق.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص الذي مر ذكره قوله تعالى:
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي التطليق الشرعي
تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة
واحدة, ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير كقوله
تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4],
أي كرة بعد كرة, ونحوه قولهم لبيك وسعديك وحنانيك. وقوله
جل ذكره: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229], تخيير لهم بعد أن علمهم كيف
يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن
وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم, وقيل معناه
الطلاق الرجعي مرتان; لأنه لا رجعة بعد الثلاث فيكون
المراد بالمرتين حقيقة التثنية, وإلى هذا الوجه مال
المصنف, ويدل عليه قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ}
[البقرة: 229], أي رجعة برغبة لا على قصد إضرار أو تسريح
بإحسان بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدة أو بأن لا يراجعها
مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها, وقيل بأن
تطلقها الثالثة في الطهر الثالث, وقوله تعالى: {فَإِنْ
خِفْتُمْ} أي علمتم أو ظننتم, وهو خطاب للحكام: {أَلَّا
يُقِيمَا} أي الزوجان: {حُدُودَ اللَّهِ} أي حقوق الزوجية
بما يحدث من نشوزها أو نشوزهما: {فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا} أي لا إثم على الرجل فيما أخذ, ولا على
المرأة: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نفسها أي لا يكون دفعها
إسرافا وأخذه ظلما. هذا تفسير الآية, ثم اعلم بأن الخلع
طلاق عندنا, وهو مذهب عامة الصحابة وأكثر الفقهاء رضي الله
عنهم وقال الشافعي رحمه الله في قوله القديم: هو فسخ, وهو
قول ابن عمر وابن عباس وإحدى الروايتين عن عثمان رضي الله
عنهم, وفائدة الخلاف تظهر في انتقاص عدد الثلاث به تمسك
الشافعي بأنه عقد محتمل للفسخ فإنه يفسخ بخيار عدم الكفاءة
وخيار العتق وخيار البلوغ عندكم فينفسخ بالتراضي, وذلك
بالخلع قياسا على البيع
(1/138)
وهو الطلاق ثم
زاد فعل المرأة, وهو الافتداء وتحت الأفراد تخصيص المرأة
به وتقرير فعل الزوج على ما سبق فإثبات فعل الفسخ من الزوج
بطريق الخلع لا
ـــــــ
فالشيخ رحمه الله تمسك في إثبات كونه طلاقا بالنص على ما
ذكره في الكتاب.
قوله: "ذكر الطلاق مرة" يعني بقوله عز اسمه:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وذكره
مرتين بهذه الآية, وأعقبهما الضمير البارز راجع إلى المرة
والمرتين لا إلى المرتين فحسب أي أعقب المرة بإثبات الرجعة
بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ} [البقرة: 228] والمرتين بقوله:
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] ليعلم أن الرجعة
مشروعة بعد تطليقتين كما هي مشروعة بعد تطليقة كذا قيل,
والأظهر أن مراده من الذكر مرة ومرتين الذكر في هذه الآية
لا غير إذ السوق يدل عليه; لأنه في بيان قوله تعالى:
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229], ودلالته على أن
الخلع طلاق لا في بيان قوله عز ذكره: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228], إذ لا حاجة له إلى التمسك
به; وإنما يحسن ذلك التفسير لو قال من ذلك قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] وقوله:
{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] الله تعالى ذكر
الطلاق مرة ومرتين ولم يقل كذلك, ويدل على ما ذكرنا بيان
وجه التمسك أيضا, والغرض من ضم المرة إلى المرتين مع أن
المقصود يتم بدونه الإشارة إلى أن التثنية; وإن كانت
مقصودة كما ذكرنا فالتفريق فيها مقصود أيضا حتى لا يحل
إرسال التطليقتين; لأنه تعالى قال مرتان وإرسالهما جمعا لا
يسمى مرتين كمن أعطى فقيرا درهمين لا يقال أعطاه مرتين إلا
أن يفرق فعلى ما ذكرنا يكون معنى قوله ومرتين أي مع الأولى
لا بدونها كما يقال نصحتك مرة ومرتين فلم تسمع وأتيت بابك
مرة ومرتين فما صادفتك ويراد مع الأولى لا أنه نصح ثلاث
مرات وأتاه ثلاث مرات. ويجوز أن يكون الضمير في وأعقبهما
راجعا إلى المرة والمرتين كما ذكرنا, وأن يكون راجعا إلى
المرتين فحسب, وعلى التقديرين إثبات الرجعة بقوله, فإمساك
بمعروف لا غير, فافهم.
قوله: "فإنما بدأ" بيان وجه التمسك أي بدأ الله تعالى في
أول الآية بذكر فعل الزوج, وهو الطلاق ثم زاد فعل المرأة,
وهو الافتداء, وبحث الإفراد أي إفراد المرأة بالذكر
تخصيصها بالافتداء أي لا يكون الافتداء إلا من جانبها;
لأنها هي المحتاجة إلى الخلاص ويصير تقدير الكلام فلا جناح
عليهما فيما اختصت هي به, وهو الافتداء, وفيه أي في
الإفراد تقرير فعل الزوج على الوصف الذي سبق, وهو الطلاق;
لأنه تعالى لما جمعهما في قوله أن لا يقيما ثم خص جانبها
مع أنها لا تتخلص بالافتداء إلا بفعل الزوج كان بيانا
بطريق الضرورة أن فعله هو الذي سبق في أول الآية, وهو
الطلاق ومثل هذا البيان في حكم المنطوق كما في قوله عز
اسمه: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ}
[النساء: 11], فصار كأنه صرح بأن فعله في الخلع طلاق, فمن
جعل فعله في الخلع فسخا لا يكون ذلك عملا بهذا
(1/139)
يكون عملا به
بل يكون رفعا ومن ذلك قوله تعالى بعد هذا: {فَإِنْ
طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ} [البقرة: 230]
والفاء حرف خاص لمعنى مخصوص, وهو الوصل والتعقيب; وإنما
وصل الطلاق بالافتداء بالمال فأوجب صحته بعد الخلع فمن
وصله بالرجعي وأبطل وقوعه بعد الخلع لم يكن عملا به ولا
بيانا ومن
ـــــــ
الخاص المنطوق حكما, وهو الطلاق بل يكون رفعا. "فإن قيل"
ذكر في أول الآية الطلاق لا فعل الزوج صريحا فيثبت بالبيان
السكوتي هذا القدر ويصير في التقدير كأنه قيل; فإن خفتم أن
لا يقيما حدود الله ولا يطلقها مجانا فلا جناح عليهما فيما
افتدت به لتحصيل الطلاق فيكون الآية بيان الطلاق على مال
لا بيان الخلع وكلامنا في الخلع.
"قلنا" بل هي بيان الخلع بدليل سبب النزول, فإنها نزلت في
جميلة بنت عبد الله بن أبي كانت تبغض زوجها ثابت بن قيس,
وكان يحبها فتخاصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلبت
التفريق فقال ثابت قد أعطيتها حديقة فلترد علي فقال عليه
السلام أتردين عليه حديقته وتملكين فقالت: نعم وأزيده فقال
عليه السلام لا بل حديقته فقط1 ثم قال يا ثابت خذ منها ما
أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان أول خلع في الإسلام.
"فإن قيل" لو كان الخلع طلاقا صارت التطليقات أربعا في
سياق الآية "قلنا" المراد بقوله تعالى: {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] بيان الشرعية لا بيان الوقوع
بدليل أنه تعالى ذكر الطلاق في مواضع ولا يقتضي ذلك أن
يكون الطلاق متعددا بتعدد الذكر, فكذلك ههنا كذا ذكر في
بعض الشروح. وأما قول الشافعي إنه يحتمل الفسخ فغير مسلم,
فإن النكاح بعد تمامه لا يقبل الفسخ ألا يرى أنه لا ينفسخ
بالهلاك قبل التسليم, وأن الملك الثابت به ضروري لا يظهر
إلا في حق الاستيفاء أما الفسخ بعدم الكفاءة ففسخ قبل
التمام, فكان في معنى الامتناع من الإتمام, وكذلك في خيار
العتق والبلوغ. فأما الخلع فإنما يقع بعد تمام العقد
والنكاح فلا يمكن أن يجعل فسخا فيجعل قطعا للنكاح في الحال
فيكون طلاقا قوله: "ومن ذلك قوله تعالى": {فَإِنْ
طَلَّقَهَا} الآية الصريح يلحق البائن عندنا, وعند الشافعي
لا يلحقه; وإنما يتحقق الخلاف في المختلعة والمطلقة على
مال إذ لا بينونة فيما سواهما عنده هكذا سمعت من الثقات,
وإليه يشير لفظ التهذيب فقد ذكر فيه إذا طلق امرأته طلاقا
رجعيا ثم طلقها في العدة يقع; لأن أحكام النكاح باقية; وإن
حرم الوطء أما المختلعة إذا طلقها زوجها في العدة فلا
يلحقها; لأنها صارت أجنبية
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الطلاق 7/60 والنسائي في الطلاق 6/169
وابن ماجه في الطلاق حديث رقم 2056.
(1/140)
ذلك قوله
تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ}
[النساء: 24] فإنما أحل الابتغاء بالمال, والابتغاء لفظ
خاص وضع لمعنى مخصوص, وهو الطلب.
ـــــــ
منه بالخلع, ورأيت في بعض الشروح أن عند الشافعي يقع
الطلاق بعد الطلاق على مال فلو صح هذا لم يبق الخلاف إلا
في المختلعة وما ذكرته أولا أصح, قال; لأن الطلاق مشروع
لإزالة ملك النكاح, وقد زال بالخلع, فلا يقع الطلاق بعده
كما بعد انقضاء العدة, واستدل الشيخ بالآية فقال: وصل
الطلاق بالافتداء بالمال, وهو الخلع بحرف الفاء, وهو للوصل
والتعقيب فيكون هذا تنصيصا على صحة إيقاع الطلقة الثالثة
بعد الخلع متصلا به, وصار معنى الآية; فإن طلقها بعد
الخلع, فمن وصله أي الطلاق أو قوله; فإن طلقها بالرجعي
يعني بأول الآية لا يكون وصله عملا بالفاء ولا بيانا.
واعلم أن ما ذكره الشيخ مشكل, فإنه ذكر في شرح التأويلات:
هذه الآية رجعت إلى الآية الأولى, وهي قوله: {الطَّلاقُ
مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] أي; فإن طلقها بعد التطليقتين
تطليقة أخرى, وذكر في الكشاف; فإن طلقها الطلاق المذكور
الموصوف بالتكرار في قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} واستوفى
نصا به أو; فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرتين فوصلاه بالآية
الأولى. وكذا في عامة التفاسير, ثم المراد من قوله:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] إما بيان مباشرة الطلقة
الثالثة إن كانت شرعيتها ثابتة بقوله تعالى: {أَوْ
تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] على ما روى أبو رزين
العقيلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن
الطلقة الثالثة فقال: "أو تسريح بإحسان أو بيان الشرعية"
كما ذهب إليه أكثر أهل التأويل وعلى الوجهين يجب وصله بأول
الآية لا بالخلع, فلا يبقى التمسك به في المسألة كيف
والترتيب في الذكر لا يوجب الترتيب في الحكم والمشروعية;
لأنه لو وجب ذلك لما تصور شرعية الطلقة الثالثة قبل الخلع
عملا بالفاء وأنها ثابتة بالإجماع, وكذا الخلع متصور
ومشروع قبل الطلقتين فعرفنا أن موجب حرف الفاء ساقط, وأنها
لمطلق العطف; ولأنه لو اعتبر الترتيب والوصل كما هو موجب
حرف الفاء لصار عدد الطلاق أربعا; لأنه يصير الطلقة
الثالثة مرتبة على الخلع والخلع مرتبا على الطلقتين وذلك
خلاف النص والإجماع.
وأجاب الإمام البرغري في طريقته عن هذا بأن بيان الطلقة
الثالثة في قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فلا
تحل لا في قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:
229] وأن قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]
ينصرف إلى الطلقتين المذكورتين في أول الآية لا أنه بيان
طلقة أخرى; لأنه لم يذكر تطليق آخر من جهة الزوج, فكأنه
قيل فلا جناح عليهما فيما افتدت في الطلاقين المذكورين ثم
رتب على الافتداء الثالثة فلا يلزم منه أن
(1/141)
والطلب بالعقد
يقع فمن جوز تراخي البدل عن الطلب الصحيح إلى المطلوب, وهو
فعل الوطء كان ذلك منه إبطالا فبطل به مذهب الخصم في مسألة
ـــــــ
يكون الطلاق أكثر من الثلاث ويبقى النص حجة من الوجه الذي
ذكرنا وإلى هذا أشار القاضي الإمام في الأسرار أيضا إلا
أنه مع بعده عن سياق النظم ومخالفته لأقوال المفسرين لا
يستقيم ههنا; لأنا لو حملناه على هذا الوجه لم يبق حجة في
المسألة الأولى, وقد بينا في تلك المسألة أن المراد منه
الخلع لا الطلاق على مال بدليل سبب النزول, فإذا كان
الأولى أن يتمسك في المسألة بما رواه أبو سعيد الخدري رضي
الله عنه وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة" وبالمعاني
الفقهية المذكورة في المبسوط وغيره.
قوله قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
[النساء: 24] أي سوى هؤلاء المحرمات أن تبتغوا مفعول له
بمعنى بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم
بأموالكم, ويجوز أن يكون أن تبتغوا بدلا مما وراء ذلكم,
والأموال المهور, محصنين في حال كونكم ناكحين غير زانين
لئلا تضيعوا أموالكم وتفقروا أنفسكم فيما لا يحل لكم
فتخسروا دنياكم ودينكم, ومفعول أن تبتغوا مقدر, وهو
النساء, فالله تعالى أحل الابتغاء أي الطلب بالمال والباء
للإلصاق فيقتضي أن يكون الطلب ملصقا بالمال والطلب بالعقد
يقع لا بالإجارة والمتعة وغيرهما لقوله تعالى: {غَيْرَ
مُسَافِحِينَ} [النساء: 24], فيجب المال عند العقد إما
تسمية وإما وجوبا بإيجاب الشرع. وقوله عن الطلب الصحيح
احتراز عن النكاح الفاسد; لأنه لا يجب فيه المهر بنفس
العقد بالإجماع بل يتراخى إلى الوطء.
قوله: "في المفوضة" بكسر الواو وبفتحها, واعلم أن التفويض
هو التزويج بلا مهر, وهو عنده صحيح وفاسد فالصحيح هو أن
تأذن المرأة المالكة لأمرها ثيبا كانت أو بكرا لوليها أن
يزوجها بلا مهر أو تقول زوجني ولا تذكر المهر فيزوجها
وليها ويقول زوجتكها بلا مهر أو يسكت عن ذكر المهر أو
السيد يزوج أمته بلا مهر أو يسكت عن ذكره فيصح النكاح ولا
يجب المهر بالعقد على الصحيح من المذهب, ولو دخل بها وجب
لها مهر المثل ولها مطالبته بالفرض ولو طلقها قبل المسيس
والفرض لا مهر لها, والفاسد هو أن يزوج الأب الصغيرة أو
المجنونة مفوضة أو الأب زوج البكر البالغة دون رضاها
مفوضة.
ففي انعقاد النكاح قولان أصحهما يصح ويجب مهر المثل بالعقد
كذا في التهذيب للإمام محيي السنة رحمه الله1, ثم في
التفويض الصحيح يجوز أن تسمى
ـــــــ
1 هو الإمام الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بالبغوي توفي
سنة 516 هـ.
(1/142)
المفوضة ومثله
قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي
أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] والفرض لفظ خاص وضع لمعنى
مخصوص, وهو التقدير فمن
ـــــــ
المرأة المالكة لأمرها مفوضة بكسر الواو; لأنها فوضت أي
أذنت في التزويج بلا مهر ومفوضة بفتحها; لأن وليها فوضها
أي زوجها بلا مهر والأمة المزوجة بلا مهر لا تسمى إلا
مفوضة بالفتح فهذا معنى فتح الواو وكسرها. فأما ما ذكر في
بعض الشروح أن المفوضة بالكسر هي التي زوجت نفسها بغير مهر
وبالفتح هي الصغيرة التي زوجها وليها بلا مهر فغير صحيح;
لأن نكاح الأولى فاسد عنده لعدم الولي فلا يكون من باب
التفويض وفي نكاح الثانية يجب المهر بالعقد كما ذكرنا فلا
يتأتى الخلاف.
وذكر في الطريقة المنسوبة إلى الصدر الحجاج قطب الدين رحمه
الله أن التمسك بهذه الآية من أصحابنا لا يستقيم في
المفوضة; لأن فيه دليلا على كونه مشروعا بمال وليس فيه نفي
كونه مشروعا بلا مال بل هو مسكوت عنه موقوف إلى قيام
الدليل وقد قام الدليل على كونه مشروعا بلا عوض, وهو قوله
تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3]
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32], فإنه
بإطلاقه يدل على ما ذكرنا والمطلق يجري على إطلاقه والمقيد
على تقييده. قلت المطلق يحمل على المقيد في الحكم الواحد
في الحادثة الواحدة بالاتفاق كما في كفارة اليمين وههنا
كذلك فيجب حمل المطلق على المقيد بالمال ألا يرى أنه شرط
فيه الإشهاد مع أن إطلاقه لا يدل عليه, فكذا يشترط المال.
"قوله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ
فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50] أي قد علم الله ما يجب
فرضه على المؤمنين في الأزواج والإماء كذا في الكشاف وقيل
النفقة والكسوة والمهر, وفي التيسير أي ما أوجبنا من
المهور في أمتك في أزواجهم ومن العوض في إمائهم وأحللنا لك
الواهبة نفسها من غير مهر وأطلقنا لك الاصطفاء من الغنيمة
ما شئت, فعلى هذا القول استدل الشيخ في تقدير المهر فقال
الفرض لفظ خاص لمعنى مخصوص, وهو التقدير فيقتضي أن يكون
المهر مقدرا بحيث لا يجوز النقصان عنه إلا أنه في تعيين
المقدار مجمل فالتحق السنة بيانا به, وهي ما روى جابر بن
عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "لا يزوج النساء إلا الأولياء ولا يزوجن إلا من
الأكفاء ولا مهر أقل من عشرة" 1 فصارت العشرة تقديرا لازما
فمن لم يجعله مقدرا كان مبطلا له لا عاملا به,
ـــــــ
1 أخرجه الدارقطني من حديث جابر 3/245.
(1/143)
لم يجعل المهر
مقدرا شرعا كان مبطلا, وكذلك الكناية في قوله تعالى: {مَا
فَرَضْنَا} [الأحزاب: 50] لفظ خاص يراد به نفس المتكلم فدل
ذلك على أن صاحب الشرع هو المتولي للإيجاب والتقدير; وإن
تقدير العبد امتثال به فمن جعل إلى
ـــــــ
ولكن للخصم أن يقول لا أسلم أن الفرض خاص في المعنى الذي
ذكرت بل الفرض الجز في الشيء ومنه قيل فرض القوس للجز الذي
يقع فيه الوتر, والمفرض للحديدة التي يجز بها, والفريض
للسهم المفروض الذي فرض فوقه وفرضة النهر لثلمته التي منها
يستقى, والفرض الإيجاب أيضا, وهو مشهور, والفرض البيان
أيضا قال تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا}
[النور: 1] أي بيناها في قول غير واحد من المفسرين, وقال:
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ} [التحريم: 2] فيما فرض الله
له, أي بين في قول جماعة. والفرض التقدير كما ذكرت فيكون
مشتركا لا خاصا, أو هو خاص في القطع حقيقة فيه على ما قال
صاحب الكشاف في أول سورة النور أصل الفرض القطع, وكذا قال
غيره من أئمة اللغة ثم نقل إلى الإيجاب والتقدير; لأن
الواجب مقطوع به, وكذا المقدر مقطوع عن الغير فكان مجازا
فيهما ثم على التقديرين حمله على معنى الإيجاب ههنا
بقرينة: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50]
أولى من حمله على التقدير; لأن معنى الإيجاب يستقيم في حق
الإماء كما يستقيم في الأزواج; لأن ما به قوامهن من النفقة
والكسوة واجب لهن عليهم كوجوبه ووجوب المهر للأزواج عليهم
ولهذا فسره عامة أهل التأويل بالإيجاب ههنا فأما معنى
التقدير فلا يستقيم في حق الإماء; لأنه لم يقدر على
الموالي للإماء شيء ويدل أيضا على أن الإيجاب هو المراد
ههنا كلمة على, فإنها صلة الإيجاب لا صلة التقدير يقال فرض
عليه أي أوجب ولا يقال فرض عليه بمعنى قدر, فإذا ثبت أن
حمله على الإيجاب أولى لا يكون ترك القول بالتقدير في
المهر إبطالا.
قوله: "قبل ذلك" أي مجموع قوله فرضنا على أن صاحب الشرع هو
المتولي للإيجاب بالإضافة إلى ذاته, والتقدير بلفظ الفرض
وأن تقدير العبد امتثال به قيل معناه أن مهور النساء مقدرة
معلومة عند الله تعالى, ولكنها غيب عنا فباصطلاح الزوجين
على مقدر يظهر ذلك المقدر المعلوم لا أنهم يقدرون ما ليس
بمقدور اعتبر هذا بقيم الأشياء فإنها مقدرة معلومة عند
الله تعالى ثم تظهر بتقويم المقومين ونظيره كفارة اليمين,
فإن الواجب في حق كل أحد معلوم عند الله تعالى مستور عنا
ويظهر في ضمن الفعل ولكن فيه بعد; لأن الغرض إثبات تقدير
المهر, وأنه معلوم قبل الفعل ليتحقق الامتثال كتقدير نصاب
السرقة وما ذكروه لا يفيد هذا الغرض ويلزم منه أنهما لو
اصطلحا على الخمسة يكون ذلك إظهارا للمقدر أيضا كما لو
اصطلحا على العشرين
(1/144)
العبد اختيار
الإيجاب والترك في المهر والتقدير فيه كان إبطالا لموجب
هذا اللفظ الخاص لا عملا به ولا بيانا له لأنه بين ومن ذلك
قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وقال
الشافعي
ـــــــ
والذي يخطر ببالي أن هذا جواب سؤال مقدر, وهو أن يقال لو
كان المهر مقدرا بما ذكرتم ينبغي أن لا يجوز الزيادة عليه
كما لا يجوز النقصان عنه اعتبارا بأعداد الركعات ولما جازت
الزيادة جاز النقصان أيضا فلا يكون المهر مقدرا؟, فأجاب
بأنه من المقادير التي تمنع النقصان دون الزيادة كمقادير
الزكوات ألا يرى أنه تعرض لجانب القلة بالنفي فقال لا مهر
أقل من عشرة دون الكثرة إذ لم يقل ولا أكثر منها فيكون
التزام الأكثر امتثالا بهذا التقدير لا محالة كالتزام
الزيادة في الزكاة بخلاف جانب النقصان; لأنه ترك للامتثال
به, فلا يجوز فهذا معنى قوله, وأن تقدير العبد امتثال به
أي بتقدير الشرع, فمن جعل إلى العبد اختيار الإيجاب والترك
في المهر أي إثبات المهر وتركه كما جعله مالك وعلي بن أبي
هريرة1 من أصحاب الشافعي حيث قالا إن شاء أوجب المهر في
العقد أو سكت فيجب المهر, ويصح العقد; وإن شاء نفاه فيصح
نفيه أيضا ويؤثر في فساد العقد كنفي الثمن عن البيع يصح
ويفسد البيع, والتقدير فيه أي في المهر كما جعله الشافعي
حيث قال: إيجاب أصله بالعقد وبيان مقداره مفوض إلى رأي
الزوجين كان إبطالا, ويجوز أن يكون التقدير منصوبا عطفا
على الاختيار وأن يكون مجرورا عطفا على الإيجاب أي من جعل
إلى العبد اختيار الإيجاب واختيار التقدير.
قوله: "ومن ذلك" أي ومن الخاص المذكور قوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} الآية, رفعهما على الابتداء
والخبر محذوف كأنه قيل وفيما فرض عليكم: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ} أي حكمهما أو الخبر {فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط, أيديهما,
ونحوه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكتفى
بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف, وأريد باليدين
اليمينان بدليل قراءة عبد الله والسارقون والسارقات
فاقطعوا أيمانهم جزاء ونكالا2 مفعول لهما كذا في الكشاف,
وذكر في التيسير إنما جمع الأيدي; لأن السارق اسم جنس,
وكذا السارقة أريد بهما الجمع; فلذلك قال الأيدي; لأنها
أفراد مضافة إلى الجمع وقال أيديهما على التثنية ولم يقل
ـــــــ
1 هو أبو علي الحسن بن الحسين بن أبي هريرة البغدادي
الفقيه الشافعي المتوفي سنة 345.
2 أخرجه الطبري في تفسيره 6/148.
(1/145)
رحمه الله:
القطع لفظ خاص لمعنى مخصوص, فأنى يكون إبطال عصمة المال
عملا به فقد وقعتم في الذي أبيتم.
ـــــــ
أيديهم لظاهر اللفظ وهذا جمع بين اعتبار اللفظ واعتبار
المعنى في كلام واحد, وهو شائع لغة كالجمع بين تذكير
المعنى وتأنيث اللفظ, وفي عين المعاني وقرأ ابن عباس
والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما والصواب أيمانهم إلا
أنه أراد أيمان اثنين منهم والعضو أن يجمع من اثنين;
لأنهما اثنان من اثنين, واعلم بأن عندنا حكم السرقة قطع
ينفي الضمان عن السارق حتى لو هلك المسروق عنده قبل القطع
أو بعده أو استهلكه لا يضمن كما لو أتلف خمرا, وهو ظاهر
المذهب. وروى الحسن1 عن أبي حنيفة رحمهما الله أنه يضمن
إذا استهلكه وقال الشافعي: رحمه الله عليه القطع لا ينفي
ضمان العين عنه بل العين في حق الضمان كما لو لم يكن قطع,
وكذا الحكم في السرقة الكبرى وحد الزنا قال; لأن الله
تعالى أمر بالقطع بقوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولم
ينف الضمان صريحا ولا دلالة; لأن القطع اسم لفعل معلوم,
وهو الإبانة ولا دلالة له على انتفاء الضمان وانقطاع
العصمة أصلا, ولا هو من ضروراته أيضا; لأنهما مختلفان,
اسما, وهو ظاهر, ومقصودا; لأن أحدهما شرع جبرا للمحل
والآخر شرع زاجرا بطريق العقوبة ومحلا; لأن محل أحدهما
اليد ومحل الآخر الذمة, وسببا; لأن سبب أحدهما الجناية على
حق الله تعالى وسبب الآخر الجناية على حق العبد واستحقاقا,
فإن مستحق القطع هو الله تعالى ومستحق الآخر العبد وإذا
اختلفا من كل وجه لا يقتضي ثبوت أحدهما ثبوت الآخر ولا
انتفاءه وقد دل الدليل على ثبوته, وهو العمومات الموجبة
للضمان كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا} [الشورى: 40], وكقوله عز اسمه: {فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]
وكقوله عليه السلام: "على اليد ما أخذت حتى ترد" 2, فيجب
القول به فمن قال بأن القطع يوجب انتفاء الضمان وإبطال
العصمة لا يكون هذا عملا بهذا اللفظ الخاص بل يكون زيادة
عليه بالرأي أو بخبر الواحد, وهو قوله عليه السلام: "لا
غرم على سارق بعدما قطعت يمينه" , وقد أبيتم ذلك, وفيه ترك
العمل بالعمومات الموجبة للضمان أيضا. وقوله: أنى بمعنى
كيف, وهو استفهام بمعنى النفي أي لا يكون إبطال عصمة المال
عملا به.
ـــــــ
1 هو الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي توفي سنة 204 هـ.
2 أخرجه الترمذي في البيوع حديث رقم 1266 وأبو داود في
البيوع حديث رقم 3561 والإمام أحمد في المسند 5/8/12/13
والحاكم 2/47.
(1/146)
والجواب أن ذلك
ثبت بنص مقرون به عندنا, وهو قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا
كَسَبَا} [المائدة: 38]; لأن الجزاء المطلق اسم لما يجب
لله تعالى على مقابلة
ـــــــ
والجواب أن ذلك أي إبطال العصمة ثبت بنص يشير إلى إبطالها,
"مقرون" بقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} وقد يجوز أن
يتغير النص بدليل يقترن به كقولك أنت حر نص في إثبات
الحرية, فإذا اتصل به الاستثناء أو الشرط تغير موجبه,
فكذلك ههنا غيرنا هذا النص الذي لم يوجب سقوط عصمة المحل,
وهو قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:
38], بدليل زائد اقترن به, وهو قوله: {جَزَاءُ} , وفي قوله
مقرون به إشارة إلى نوع من التشنيع على الخصم, وهو أنه غفل
عن الدليل القطعي المتصل بهذا الكلام من غير فصل ولم يطلع
على إشارته ثم طعن من غير روية فيكون الطعن عائدا عليه, ثم
بيان إشارته إلى ما ذكرنا أن الجزاء قد أطلق ههنا والجزاء
إذا أطلق في معرض العقوبات يراد به ما يجب حقا لله تعالى
بمقابلة أفعال العباد فتبين به أن وجوب القطع حق الله
تعالى على الخلوص; ولهذا لم يتقيد بالمثل وما يجب حقا
للعبد يتقيد به مالا كان أو عقوبة كالغصب والقصاص; ولهذا
لا يملك المسروق منه الخصومة بدعوى الحد وإثباته ولا يملك
العفو بعد الوجوب ولا يورث عنه وما يجب لله تعالى على
الخلوص إنما يجب بهتك حرمة هي لله تعالى على الخلوص; ليكون
الجزاء وفاقا وذلك بأن يثبت الحرمة لمعنى في ذاته كحرمة
شرب الخمر والزنا لا لحق العبد; لأنه يصير حراما لغيره
مباحا في ذاته بالإباحة الأصلية ومثل هذه الحرمة لا يوجب
الجزاء لله تعالى كشرب عصير الغير والوطء في حالة الحيض.
ثم إن الله تعالى جعل هذا المال قبل السرقة محترما لحق
العبد على الخلوص ولم يستبق لذاته حقا حتى صح بذل العبد
وإباحته ويجب الضمان له بإتلاف ولا يجب لله تعالى ضمان ثم
أوجب الجزاء, وهو القطع بسرقته حقا لنفسه خالصا فعرفنا
ضرورة أنه استخلص الحرمة لنفسه وإذا استخلصها لذاته وهي
حرمة واحدة لا تبقى للعبد ضرورة كالعصير إذا تخمر وصار
محترما حقا لله تعالى ولا يبقى حقا للعبد وكالأرض تتخذ
مسجدا وصارت لله تعالى لا يبقى للعبد وكما لا يبقى للبائع
إذا ثبت للمشتري بالبيع فهذا معنى قول الشيخ ومن ضرورته
تحويل العصمة إليه, وظهر من هذا أن معنى قوله إبطال العصمة
إبطالها على العبد بنقلها إلى الله تعالى لا إبطالها
مطلقا.
"فإن قيل" لا نسلم أن الحرمة واحدة بل المال محترم لحق
الله تعالى لوجود النهي فيجب القطع ومحترم أيضا لحق العبد
كما كان لبقاء حاجته إليه فيجب الضمان كما في قتل الصيد
المملوك في الحرم أو الإحرام وشرب خمر الذمي عندكم وكوجوب
الدية مع الكفارة.
(1/147)
فعل العبد; وإن
يجب حقا لله تعالى يدل على خلوص الجناية الداعية إلى
الجزاء واقعة على حقه ومن ضرورته تحول العصمة إليه; ولأن
الجزاء يدل على كمال المشروع لما شرع له مأخوذ من جزى أي
قضى وجزاء بالهمزة أي كفى
ـــــــ
"قلنا" بل الحرمة واحدة; لأنا لا نجد القطع يجب إلا بمال
محترم حقا للعبد; وقد أوجب الله تعالى القطع به لنفسه
تحقيقا لصيانته على العبد وانتقلت تلك الحرمة إليه كما
ذكرنا فلم يبق معنى للعبد يضاف وجوب الضمان إليه بخلاف
جزاء الصيد; لأنه لم يجب بالجناية على حق العبد في الصيد
بل بالجناية على الإحرام أو الحرم بدليل أنه يجب في الصيد
الذي ليس بمملوك. وإذا لم يصر حقه مقضيا به وجب الضمان.
وكذلك وجوب الكفارة بالجناية على حق الله تعالى لا لحق
العبد, فإنها تجب في قتل المسلم الذي لم يهاجر إلينا; وإن
لم يكن حقه مضمونا بالدية, وكذلك شرب خمر الذمي; لأن الحد
بشربها لم يجب لحق العبد, فإنه لو شرب خمر نفسه يجب الحد
أيضا وإذا لم يجب لحقه وجب جبر حقه بالضمان.
ثم استدل الشيخ رحمه الله بوجه آخر فقال; ولأن الجزاء يدل
يعني لغة, على كمال المشروع, وهو القطع في مسألتنا مثلا,
لما شرع له, وهو السرقة أو الزجر, والضمير المستكن راجع
إلى المشروع والبارز إلى ما, يعني تسمية الشيء جزاء يدل
على أنه كامل وتام في المقصود الذي شرع له; لأنه مأخوذ من
جزي بالياء أي قضي والقضاء الإحكام والإتمام قال1:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع
أي أحكمهما وأتمهما كذا قيل, فعلى هذا أصله جزاي بالياء
إلا أنها قلبت همزة لوقوعها بعد الألف كالقضاء أصله قضاي,
وأجزأ بالهمز أي كفى والشيء إنما يكون كافيا إذا كان تاما
وكاملا فعلى هذا يكون الهمزة أصلية والأول أظهر; لأنه مصدر
جزى يجزي يقال جزيته بما صنع جزاء فأما كونه مهموزا فما
وجدته في كتب اللغة التي عندي ولعل الشيخ وقف عليه, وإذا
دل لفظ الجزاء على الكمال لغة استدعى كمال الجناية; لأن
كمال الشيء باعتبار كمال سببه وذلك بأن يكون الفعل حراما
لعينه ومع بقاء العصمة حقا للعبد لا يكون الفعل حراما
لعينه بل لغيره. وهو حق المالك فيبقى مباحا بالنظر إلى
ذاته وذلك أعظم شبهة في سقوط الحد فلا يجب معها الحد كما
لا يجب بالغصب,
ـــــــ
1 البيت لأبي ذؤيب الهذلي لسان العرب 5/3665.
(1/148)
وكماله يستدعي
كمال الجناية ولا كمال مع قيام حق العبد في العصمة; لأنه
يكون حراما لمعنى يكون في غيره ولا يلزم أن الملك لا يبطل;
لأن محل الجناية العصمة, وهي الحفظ ولا عصمة إلا بكونه
مملوكا.
فأما تعين المالك فشرط ليصير خصمه متعينا لا لعينه حتى إذا
وجد
ـــــــ
والفرق بين النكتتين أن الأولى استدلال بإطلاق لفظ الجزاء
والثانية استدلال بمعناه اللغوي, وحاصلهما يرجع إلى معنى
واحد, وهو الاستدلال بكمال الجزاء على كمال الجناية; لأن
الإطلاق يدل على الكمال أيضا, واستدل شمس الأئمة رحمه الله
في المبسوط بوجه آخر فقال في لفظ الجزاء إشارة إلى الكمال
فلو أوجبنا الضمان معه لم يكن القطع جميع موجب الفعل فكان
نسخا لما هو ثابت بالنص. قوله: "ولا يلزم أن الملك لا
يبطل" جواب سؤال, وهو أن يقال: أتلك شرط لانعقاد السرقة
موجبة للقطع كالعصمة; ولهذا لا يقطع النباش عندكم باعتبار
شبهة في الملك ثم لم يقتض وجوب القطع نقل الملك إلى الله
تعالى بل بقي للعبد كما كان حتى يثبت له ولاية الاسترداد
إن كان قائما بعينه, فكذلك لا يقتضي نقل العصمة حتى يثبت
له ولاية التضمين إن كان هالكا, فأجاب وقال: اشتراط الملك
ليس بعينه; وإنما هو لتحقيق العصمة التي هي محل الجناية,
وذلك; لأن القطع لم يجب جزاء على الجناية على المحل بوصف
كونه مملوكا بل بكونه معصوما متقوما إلا أن العصمة لا
يتحقق بدون الملك; لأن ما ليس بمملوك للعبد ليس بمعصوم
فثبت أن اشتراطه لتحقيق العصمة لا لذاته, فلا يلزم من
انتقال العصمة انتقاله; لأن الضرورة, وهي تحقق الجناية
الكاملة قد اندفعت به. وذلك كالعصير إذا تخمر بقي الملك
لصاحبها; وإن انتقلت عصمتها إلى الله تعالى وكالشاة إذا
ماتت بقي ملك صاحبها في الجلد; وإن صارت محرمة العين حقا
لله تعالى.
قوله: "قوله فأما تعين المالك فشرط" جواب سؤال آخر يرد على
هذا الجواب, وهو أن يقال لما كان الملك شرطا لغيره, والأصل
هو العصمة في تحقق الجناية, وقد انتقلت إلى الله تعالى حتى
صار كالخمر على ما قلتم ينبغي أن لا يشترط فيه دعوى المالك
ويثبت بالبينة من غير دعوى كالزنا وشرب الخمر وسائر محارم
الله تعالى, فقال: تعين المالك ليس بشرط لعينه أيضا بل
ليظهر السبب بخصومته عند الإمام فإن السرقة هي الجناية على
(1/149)
الخصم بلا ملك
كان كافيا كالمكاتب ومتولي الوقف ونحوهما; فلذلك تحولت
العصمة دون الملك ألا ترى أن الجناية تقع على المال
والعصمة صفة للمال
ـــــــ
مال الغير ولا يتصور الجناية موجبة للحد إلا بذلك المحل,
وهو المال المتقوم المحرز, ومال الغير لا يثبت إلا بخصومة
الغير وإثباته فكانت الدعوى شرطا لإثبات محل الجناية لا
غير كذا في الأسرار ولهذا لو وجد الخصم بلا ملك كان كافيا
عندنا كالمكاتب ومتولي الوقف والغاصب والمستعير والمستودع
والعبد المستغرق بالدين والمضارب والمرتهن.
ووجه آخر لتقرير الجواب, وهو أن يقال إنما لا يبطل الملك;
لأن محل الجناية العصمة ولا عصمة إلا بكون المسروق مملوكا
للعبد; لأن ما هو ملك لله تعالى خالصا لا يوصف بالعصمة بل
يوصف بالإباحة فلو قلنا بانتقال الملك إليه لبطلت العصمة
أصلا وفي بطلانها بطلان الجناية والمقصود من النقل تحقيقها
لا إبطالها فامتنع القول بانتقال الملك بخلاف العصمة.
وقوله; ولذلك تحولت العصمة دون الملك متصل بأول الكلام
ومعناه على التقرير الأول; فلكون العصمة محل الجناية دون
الملك انتقلت العصمة دون الملك وعلى التقرير الثاني فلعدم
إمكان انتقال الملك تحولت العصمة دون الملك, والوجه الثاني
أوفق لظاهر اللفظ.
"فإن قيل" قد ذكر الشيخ أنه لا عصمة إلا بكونه مملوكا وقد
وجدت العصمة بدون الملك; فإنه إذا سرق مال الوقف من
المتولي يجب القطع ولا ملك فيه لأحد; لأنه إذا تم الوقف
خرج من ملك الواقف, ولم يدخل في ملك الموقوف عليه.
"قلنا" الفتوى على أن الملك باق على ملك الواقف حكما;
ولهذا يرجع الثواب إليه والغلة مملوكة للموقوف عليه إن كان
أهلا للملك; وإن لم يكن أهلا له كالمسجد والرباط يبقى على
ملك الواقف أيضا تبعا لأصله كذا ذكر الإمام العلامة أستاذ
الأئمة حميد الملة والدين رحمه الله في فوائده وقوله حجة;
وإن كان مخالفا لظاهر الرواية, وذكر الإمام فخر الدين
البرغري في طريقته في جواب سرقة مال الوقف وسرقة التركة
المستغرقة بالدين فإنها توجب القطع ولا ملك فيها لغريم ولا
وارث إن الملك ما شرط لعينه; وإنما شرط لمكان الخصومة
فإنها شرط لظهور السرقة وفيما ذكرنا أن عدم الملك فاليد
ثابتة, وهي كافية للخصومة, ثم استوضح الفرق بين العصمة
والملك فقال ألا ترى إلى آخره أي النقل إنما يثبت ضرورة
تكامل الجناية وأنها واقعة على المال فينتقل ما
(1/150)
مثل كونه
مملوكا فأما الملك الذي هو صفة للمالك كيف يكون محلا
للجناية لينتقل وكيف ينتقل الملك, وهو غير مشروع فأما نقل
العصمة فمشروع كما في الخمر والله أعلم.
ـــــــ
هو من أوصاف المال, وهو العصمة فأما الملك فصفة للمالك
وذلك لا يتصور أن يكون محلا للجناية فكيف ينتقل أي لا
ينتقل. وهكذا ذكر أبو اليسر فقال الجزاء: إنما يجب
بالجناية على المال لا على المالك والملك صفة المالك; لأنه
عبارة عن القدرة, وهو من أوصاف القادر لا من أوصاف المال
فجاز أن لا يسقط الملك فأما العصمة, وهي الاحترام فوصف
المحل وهذه جناية على المحل فجاز أن يسقط كما في الخمر.
"فإن قيل" العصمة صفة للعاصم لا للمال كالملك صفة للمالك
ولهذا يقال مال معصوم ولا يقال مال عاصم كما يقال مال
مملوك لا مالك, فأنى يستقيم هذا الفرق "قلنا" تقريره يحتاج
إلى زيادة كشف, وهو أن الفعل المتعدي كالضرب مثلا له تعلق
بالفاعل, وهو تعلق التأثير وتعلق بالمفعول, وهو تعلق
التأثر; ولهذا يوصف كل واحد منهما بذلك الفعل فيقال زيد
الضارب وعمرو المضروب, فإذا وصف به الفاعل فمعناه أن الفعل
المؤثر قام به, وإذا وصف به المفعول فمعناه أن التأثر بذلك
الفعل قام به والمصدر الذي دل عليه كل واحد منهما لغة
مناسب له لا محالة فمصدر الضارب ضرب بمعنى التأثير, ومصدر
المضروب ضرب بمعنى التأثر, ثم قد يكون المقصود تعلقه
بالفاعل من غير نظر إلى جانب المفعول كما في قولك فلان
يعطي ويمنع أي سجيته الإعطاء والمنع وقد يكون المقصود
تعلقه بالمفعول دون الفاعل كما إذا بني الفعل للمفعول. ثم
المقصود من شرع العصمة التعلق بالمفعول, وهو المال لا
بالفاعل; لأن العصمة هي الحفظ والمقصود منه صيرورة المال
محفوظا لا اتصاف الفاعل به; وإن كان ذلك من ضروراته
والمقصود من الملك عكسه, وهو تعلقه بالفاعل واتصافه به من
غير نظر إلى جانب المفعول; وإن كان ذلك من ضروراته أيضا;
لأن الغرض اتصاف العبد بالمالكية لا اتصاف المال
بالمملوكية; فلهذا جعل الشيخ العصمة صفة المال والملك صفة
المالك.
قوله: "وكيف ينتقل, وهو غير مشروع" يعني لو كانت الجناية
متصورة الوقوع على الملك لا يمكن القول بانتقاله فكيف إذا
لم يتصور, وذلك; لأنا لم نعهد في الشرع انتقال ملك العبد
إلى الله; لأنه لا سائبة في الإسلام كيف وأنه يستلزم إثبات
الثابت إذ جميع الأشياء ملكه; ولهذا لا يجوز أن يقال هذا
مملوك العبد لا مملوك الله تعالى إذ العبد وما في يده
لمولاه, فأما العصمة التي تثبت للعبد فقد عهد في الشرع
انتقالها إلى الله تعالى كالعصير إذا تخمر; ولهذا يجوز أن
يقال هذا معصوم للعبد لا لله تعالى; فلهذا قلنا بانتقال
(1/151)
ومن هذا الأصل
ـــــــ
العصمة دون الملك, واعلم بأن انتقال العصمة عندنا إنما
يثبت حال انعقاد السرقة موجبة للقطع لمساس الحاجة إلى
الحفظ في تلك الحالة وليصير الفعل فيها مضمونا بالعقوبة
الزاجرة ولكن إنما يتقرر هذا بالاستيفاء; لأن ما يجب لله
تعالى تمامه بالاستيفاء فكان حكم الأخذ مراعى إن استوفى
القطع تبين أن حرمة المحل قد كانت لله تعالى فلا يجب
الضمان للعبد; وإن تعذر الاستيفاء تبين أنها كانت للعبد
فيجب الضمان له, وبهذا يندفع كثير من الأسئلة. ثم هذا
الانتقال ضروري لما ذكرنا أنه لتحقق الجناية فلا يظهر في
حق غيره حتى لو وهب المسروق منه العين المسروقة للسارق أو
باعها منه أو من غيره صح ولو أتلفه غير السارق يضمن, وكذا
لو أتلفه السارق بعد القطع في رواية الحسن عن أبي حنيفة
رحمهما الله; لأن الاستهلاك فعل آخر غير السرقة فيظهر حكم
التقوم في حق هذا الفعل, ولا يقال ينبغي أن لا يظهر
الانتقال في الضمان أيضا; لأن الضرورة قد اندفعت بإثباته
في حق وجوب القطع, لأنا نقول قد بينا أن العصمة شيء واحد
وقد ظهر انتقالها وإبطالها في حق أحد الضمانين فلا يمكن
اعتبارها في حق الضمان الآخر لئلا يؤدي إلى تكرار الضمان
بإزاء شيء واحد بسبب واحد; ولهذا قلنا إذا استهلكه لا يضمن
في ظاهر الرواية; لأن الاستهلاك إتمام للمقصود بالسرقة
فيظهر سقوط حق العبد في حقه أيضا بخلاف البيع والهبة فإنه
ليس بإتمام للمقصود بالسرقة بل هو تصرف آخر ابتداء كذا في
المبسوط.
"فإن قيل" لو انتقلت العصمة إلى الله تعالى كما في الخمر
يلزم أن لا يجب القطع كما في سرقة الخمر "قلنا" إنما لا
يجب القطع في الخمر; لأن من شرطه أن يكون المسروق معصوما
حقا للعبد قبل السرقة; ولهذا لا يجب في صيد الحرم وحشيشه
والخمر ليست كذلك فعدم الحكم لعدم شرطه فأما المال المسروق
فقد كان معصوما قبل السرقة حقا للعبد مفتقرا إلى الصيانة
فوجب القطع لوجود شرطه.
"فإن قيل" القطع شرع لصيانة حق العبد وفي القول بسقوط
العصمة وبطلان الضمان إبطال حقه فيمتنع القول به. "قلنا"
إن كان فيه إبطال حقه صورة ففيه تكميل معنى الحفظ عليه;
لأنه لما لم يمكن الجمع بينهما; لأن الحرمة واحدة كما
ذكرنا كان القطع أنفع من الضمان; لأن فيه تحقيق الحفظ حالة
السرقة بجعل المحل محرم التناول لحق الله تعالى فيصير
تناوله مضمونا بالقطع فيتحقق معنى الحفظ, وهذا خير له من
حفظ ماله
ـــــــ
1 هو هشام بن عبيد الله الرازي توفي سنة 201 هـ
(1/152)
................................................
بإيجاب الضمان له كما أن إيجاب القصاص خير له من إيجاب
الدية; لأن الزجر وصيانة النفس فيه أتم ولهذا سمي حياة,
فكذلك هذا, واعلم أن ما ذكرنا من سقوط الضمان في الحكم
فأما فيما بينه وبين الله تعالى فيفتي بالضمان فيما رواه
هشام عن محمد رحمهما الله; لأن المسروق منه قد لحقه
النقصان والخسران من جهته بسبب هو متعد فيه ولكن تعذر على
القاضي القضاء بالضمان لما اعتبر المالية والتقوم في حق
استيفاء القطع فلا يقضي بالضمان ولكن يفتي برفع النقصان
والخسران الذي ألحق به فيما بينه وبين ربه كذا في المبسوط
والله أعلم.
قوله: "ومن هذا الأصل" أي ومن القسم الذي نحن في بيانه وهو
الخاص:
(1/153)
|