كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية
أقسام الدلالات
عبادة النص
...
"أقسام الدلالات"
1 – عبارة النص
وتفسير القسم الرابع أن الاستدلال بعبارة النص هو العمل
بظاهر ما سيق الكلام له.
ـــــــ
قوله: "وتفسير القسم الرابع" أي باعتبار أصل التقسيم أو
الخامس باعتبار المقابل أن الاستدلال بعبارة النص أي
بعينه; ولهذا قال القاضي الإمام: الثابت بعين النص ما
أوجبه نفس الكلام وسياقه, وكذا ذكر أبو اليسر أيضا فتكون
هذه الإضافة من باب إضافة العام إلى الخاص كما في قولك
جميع القوم وكل الدراهم ونفس الشيء, والاستدلال انتقال
الذهن من الأثر إلى المؤثر وقيل على العكس, وهو المراد
ههنا, والعبارة لغة تفسير الرؤيا يقال عبرت الرؤيا أعبرها
عبارة أي فسرتها, وكذا عبرتها, وعبرت عن فلان إذا تكلمت
عنه فسميت الألفاظ الدالة على المعاني عبارات; لأنها تفسر
ما في الضمير الذي هو مستور كما أن المعبر يفسر ما هو
مستور, وهو عاقبة الرؤيا; ولأنها تكلم عما في الضمير,
واعلم أنهم يطلقون اسم النص على كل ملفوظ مفهوم المعنى من
الكتاب والسنة سواء كان ظاهرا أو مفسرا أو نصا حقيقة أو
مجازا خاصا كان أو عاما اعتبارا منهم للغالب; لأن عامة ما
ورد من صاحب الشرع نصوص فهذا هو المراد من النص في هذا
الفصل دون ما تقدم تفسيره حتى كان التمسك في إثبات الحكم
بظاهر أو مفسر أو خاص أو عام أو صريح أو كناية أو غيرها
استدلالا بعبارة النص لا غير, هو العمل بظاهر ما سيق
الكلام له المراد من العمل عمل المجتهد, وهو إثبات الحكم
لا العمل بالجوارح كما إذا قيل الصلاة فريضة لقوله تعالى:
{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] [البقرة: 83] [البقرة:
110] [النساء: 77] [الأنعام: 72] [يونس: 87] [النور: 56]
[الروم: 31] [المزمل: 20], والزنا حرام لقوله جل ذكره:
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الاسراء: 32], فهذا وأمثاله
هو العمل بظاهر النص والاستدلال بعبارته, واعلم أن دلالة
الكلام على المعنى باعتبار النظم على ثلاث مراتب, إحداها
أن يدل على المعنى ويكون ذلك المعنى هو المقصود الأصلي منه
كالعدد في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3],
والثانية أن
(1/106)
...................................................
يدل على معنى ولا يكون مقصودا أصليا فيه كإباحة النكاح من
هذه الآية. والثالثة أن يدل على معنى هو من لوازم مدلول
اللفظ وموضوعه كانعقاد بيع الكلب من قوله عليه السلام: "إن
من السحت ثمن الكلب" 1, الحديث, فالقسم الأول مسوق ليس إلا
والقسم الأخير ليس بمسوق أصلا والمتوسط مسوق من وجه, وهو
أن المتكلم قصد إلى التلفظ به لإفادة معنى غير مسوق من
وجه, وهو أنه إنما ساقه لإتمام بيان ما هو المقصود الأصلي
إذ لا يتأتى له ذلك إلا به يوضح الفرق بين القسمين
الأخيرين أن المتوسط يصلح أن يصير مقصودا أصليا في السوق
بأن انفرد عن القرينة والقسم الأخير لا يصلح لذلك أصلا,
وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد ههنا من كون الكلام مسوقا
لمعنى أن يدل على مفهومه مطلقا سواء كان مقصودا أصليا أو
لم يكن وفيما سبق في بيان النص والظاهر المراد من كونه
مسوقا أن يدل على مفهومه مقيدا بكونه مقصودا أصليا فيدخل
القسم المتوسط ههنا في السوق ولم يدخل فيه فيما سبق, فإذا
تمسك أحد في إباحة النكاح بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا
طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3], أو في إباحة البيع بقوله عز
اسمه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] كان
استدلالا بعبارة النص لا بإشارته, ويؤيد ما ذكرنا ما قال
صدر الإسلام في أصوله الحكم الثابت بعين النص أي بعبارته
ما أثبته النص بنفسه وسياقه كقوله تعالى: {وَأَحَلَّ
اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فعين
النص يوجب إباحة البيع وحرمة الربا والتفرقة, فسوى بين ما
هو مقصود أصلي, وهو الفرق وبين ما ليس كذلك, وهو حل البيع
وحرمة الربا فجعلهما ثابتين بعبارة النص لا بإشارته.
ـــــــ
1 هو جزء من حديث "القينة سحت وغناؤها حرام والنظر إليها
حرام وثمنها مثل الكلب وثمن الكلب سحت ومن نبت لحمه على
السحت فالنار أولى به" رواه الطبراني وروي عن ابن معن في
مجمع الزوائد 4/94 وأخرجه الديلمي 2/164.
(1/107)
"2 –
إشارة النص"
والاستدلال بإشارته هو العمل بما ثبت بنظمه لغة لكنه غير
مقصود ولا سيق له النص وليس بظاهر من كل وجه فسميناه إشارة
كرجل ينظر ببصره
ـــــــ
قوله: "والاستدلال بإشارته" الإشارة الإيماء فكأن السامع
غفل عن المعنى المضمون في النص لإقباله إلى ما دل عليه
ظاهر الكلام فالنص يشير إليه, وقوله لكنه غير مقصود تعرض
لجانب المعنى وقوله ولا سيق له النص تعرض لجانب اللفظ,
والضمير في لكنه وله راجع إلى ما, وليس بظاهر من كل وجه;
لأنه لما لم يسق له الكلام لا بد من أن يكون فيه نوع غموض
فيحتاج إلى ضرب تأمل ولهذا لا يقف عليه كل أحد قال القاضي
الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله الإشارة من العبارة بمنزلة
الكناية والتعريض من الصريح أو المشكل من الواضح, ثم إن
كان ذلك الغموض بحيث يزول بأدنى تأمل يقال هذه إشارة
ظاهرة; وإن كان يحتاج إلى زيادة فكرة يقال هذه إشارة
غامضة. "قوله ليس بظاهر من كل وجه" ليس من تمام التعريف بل
هو ابتداء كلام والغرض منه الإشارة إلى تعليل تسمية هذا
القسم إشارة; ولهذا قال فسميناه إشارة بالفاء. وقوله كرجل
إلى آخره تشبيه لما ثبت بالنظم غير مقصود في ضمن ما هو
المقصود بما أدرك بالبصر غير مقصود في ضمن ما هو المقصود
والغرض منه التنبيه على كون هذا القسم من محاسن الكلام
وأقسام البلاغة كما أن إدراك ما ليس بمقصود بالنظر مع
إدراك ما هو المقصود به من كمال قوة الإبصار, واللحظ النظر
بمؤخر العين ويدرك غيره بإشارة لحظاته أي بلحظاته وكأنها
تشير الناظر إلى ما أقبل عليه ليدركه, الضمير في نظيره
راجع إلى ما في قوله ما ثبت بنظمه لغة, على سبيل الترجمة
بفتح الجيم أي التفسير ومنه الترجمان بفتح التاء والجيم
وضمهما لمن يفسر كلام الغير, لما سبق, وهو قوله تعالى:
{وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7], لا لما قبله, وهو قوله:
{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7]; لأن قوله تعالى:
{لِلْفُقَرَاءِ} بدل مما ذكرنا بتكرير العامل لا من قوله:
{فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} والمعطوف عليه; لأنه تعالى هو
الغني على الإطلاق ورسوله أجل قدرا من أن يطلق عليه اسم
الفقير كيف وأنه تعالى أخرج رسوله عن الفقراء بقوله عز
اسمه: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحشر: 8],
إليه أشير في الكشاف. وقيل هو معطوف على الأول بغير واو
كما يقال هذا المال لزيد لبكر لعمرو كذا في التيسير فعلى
هذا لا يكون ترجمة لما سبق بل يكون بيانا لمصرف آخر, وعلى
التفسيرين السوق لبيان مصارف الخمس,
(1/108)
إلى شيء ويدرك
مع ذلك غيره بإشارة لحظاته ونظيره قوله تعالى:
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] إنما سبق النص
لاستحقاق سهم من الغنيمة على سبيل الترجمة لما سبق واسم
الفقراء إشارة إلى زوال ملكهم عما خلفوا في دار الحرب.
ـــــــ
واسم الفقراء أي وذكر هذا الاسم دون غيره إشارة إلى أن
الذين هاجروا من مكة قد زالت أملاكهم عما خلفوا بها
باستيلاء الكفار عليه; لأنه تعالى وصفهم بالفقر مع أنهم
كانوا مياسير بمكة بدليل قوله جل ذكره: {أُخْرِجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8], والفقر على
الحقيقة بزوال الملك لا يبعد اليد عن المال; لأن ضده
الغنى, وهو ملك المال لا قرب اليد من المال ألا ترى أن ابن
السبيل غني حقيقة; وإن بعدت يده عن المال لقيام الملك;
ولهذا وجب عليه الزكاة والمكاتب فقير حقيقة ولو أصاب مالا
عظيما لعدم الملك حقيقة; فلهذا قلنا إن استيلاءهم بشرط
الأحرار سبب للملك إذ لو لم يكن كذلك لسماهم أبناء السبيل;
لأنه اسم لمن بعدت يده عن المال مع قيام الملك فيه, وهذه
من الإشارات الظاهرة التي تعرف بأدنى تأمل إلا أن الشافعي
رحمه الله لم يعمل بها, وقال إنما سماهم فقراء ولم يسمهم
أبناء السبيل; لأنه اسم لمن له مال في وطنه, وهو بعيد عنه
ويطمع أن يصل إليه, وأنهم لم يكونوا مسافرين بالمدينة بل
توطنوا بها وانقطعت أطماعهم بالكلية عن أموالهم فلم يستقم
أن يسموا بابن السبيل ولكنهم لما كانوا محتاجين حقيقة
وانقطع عنهم ثمرات أموالهم بالكلية; وإن كانت باقية على
ملكهم صحت تسميتهم فقراء تجوزا كأنه لا مال لهم أصلا كما
صحت تسمية الكافر أصم وأعمى وأبكم وعديم العقل في قوله
تعالى عز وجل: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا
يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171]. بهذا الطريق, والدليل على
صرفه إلى المجاز قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:
141], وليس المراد نفي السبيل الحسي بالإجماع فيرجع النفي
إلى السبيل الشرعي والتملك بالقهر الذي هو عدوان محض أقوى
جهات السبيل, وما روي أن عيينة بن حصن أغار على سرح
بالمدينة وفيها ناقة رسول الله العضباء وأسر امرأة الراعي
قالت المرأة فلما جن الليل قصدت الفرار فما وضعت يدي على
بعير إلا رغا حتى وضعت يدي على ناقة رسول الله العضباء
فركنت إلي فركبتها وقلت إن نجاني الله عليها فلله علي أن
أنحرها فلما أتيت رسول الله عليه السلام وقصصت عليه القصة
قال عليه السلام: "بئس ما جازيتها لا نذر فيما لا يملكه
ابن آدم وإنها ناقة من إبلي ارجعي إلى أهلك على اسم الله
تعالى" 1, ولكنا نقول لا حجة له في الآية; لأنها تدل على
نفي سبيلهم على المؤمنين لا
ـــــــ
1 أخرجه الطبراني عن النواس بن سمعان في المعجم الكبير
والأوسط مجمع الزوائد 4/190.
(1/109)
وقوله:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}
[البقرة: 233] سيق لإثبات النفقة وأشار بقوله تعالى:
{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلى أن
ـــــــ
على أموالهم وهم لا يملكوننا بالاستيلاء أيضا إنما الكلام
في الأموال, أو المراد نفي السبيل في الآخرة كما قال ابن
عباس رضي الله عنهما بدليل قوله: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ
بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 113], أو نفي
الحجة كما قال السدي1 ولا فيما ذكر من الحديث; لأنه معارض
بما روي أن عليا رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه
وسلم يوم فتح مكة ألا تنزل دارك يعني الدار التي ورثها
النبي عليه السلام من خديجة رضي الله عنها وقد كان استولى
عليها عقيل بعد هجرته فقال وهل ترك لنا عقيل من دار2. ولا
يقال إنما قال ذلك; لأنه كان خربها ولم تبق صالحة للنزول;
لأن قول علي رضي الله عنه ألا تنزل دارك يأبى ذلك, ومؤول
بأن عيينة لم يحرزها بدار الحرب فلم يملكها ولا ملكت
المرأة; فلهذا استردها منها وجعل نذرها فيما لا تملك فلما
لم يصلح ما ذكر من القرائن صارفا للفظ الفقراء إلى المجاز
يحمل على الحقيقة إذ هي الأصل في الكلام, فالحاصل أن
الإشارة قد تكون موجبة لموجبها قطعا مثل العبارة مثلها في
قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ}
[البقرة: 233], وقد لا توجب قطعا وذلك عند اشتراك معنى
الحقيقة والمجاز مرادا بالكلام, فأما كونها حجة فلا خلاف
فيه. قوله: "وقوله عز وجل" إما معطوف على قوله قوله تعالى
للفقراء وقوله سيق لكذا جملة مستأنفة لا محل لها من
الإعراب وإما مبتدأ وسيق خبره فيكون مرفوع المحل وأشار عطف
على سيق والضمير المستكن فيهما يرجع إلى القول, وكذا
البارز في بقوله أي سيق هذا القول لكذا وأشار هذا المسوق
بقوله وعلى المولود له إلى كذا فكأنه قدر المسوق قائلا هذا
الكلام, أو الضمير المستكن في أشار والبارز في بقوله
يرجعان إلى ما دل عليه قوله سيق من السائق, وهو الله تعالى
إن جاز ذلك, وكأنه هو مراد المصنف أي سيق هذا القول لكذا
وأشار السائق هذا القول, وهو الله تعالى بقوله: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلى كذا, أو الباء في
بقوله زائدة وأشار مسند إلى القول والضمير البارز راجع إلى
الله أي سيق قول الله, وهو: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ}
[البقرة: 233] إلى آخره لكذا وأشار قوله: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ} [البقرة: 233] إلى كذا وفي الكل بعد.
ولو قيل أشير لكان أحسن. قوله جل ذكره: {وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ}
ـــــــ
1 هو أبو محمد إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة السدي
التابعي المفسر توفي سنة 127 هـ.
2 أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود جامع الأصول 9/600.
(1/110)
النسب إلى
الآباء وإلى قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" وقوله:
{وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الاحقاف: 15]
سيق لإثبات منة الوالدة على الولد
ـــــــ
[البقرة: 233] أي وعلى الذي ولد له, وهو الأب, وله في محل
الرفع على الفاعلية نحو عليهم في: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ} : {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} أي طعام
الوالدات ولباسهن: {بِالْمَعْرُوفِ} أي من غير إسراف ولا
تقتير نظرا للجانبين, أو تفسيره ما ذكر بعده في الآية, ثم
إن كان المراد من الوالدات في أول الآية المطلقات, وهو
الظاهر بدليل أن ما قبل الآية وما بعدها في ذكر المطلقات
فالمراد إيجاب أصل الرزق والكسوة على طريق الأجر; لأنهن
يحتجن إلى ما يقمن به أبدانهن; لأن الولد إنما يغتذي
باللبن; وإنما يحصل لها ذلك بالاغتذاء وتحتاج هي إلى
التستر فكان هذا من الحوائج الضرورية كذا في التيسير. وإن
كان المراد منها المنكوحات بدليل ذكر الرزق والكسوة دون
الأجر فالمراد إيجاب فضل الطعام والكسوة الذي تحتاج إليه
في حالة الرضاع لا أصل النفقة; لأن ذلك واجب بالنكاح, وعلى
التقديرين الكلام مسوق لبيان إيجاب أصل النفقة أو فضلها
على الأب, وفي ذكر المولود له دون ذكر الوالد إشارة إلى أن
النسب إلى الأب; لأنه تعالى أضاف الولد إليه بحرف الاختصاص
فيدل على أنه هو المختص بالنسبة إليه حتى لو كان الأب
قرشيا والأم أعجمية يعد الولد قرشيا في باب الكفأة
والإمامة الكبرى وفي العكس بالعكس, ولهذا قيل:
وإنما أمهات الناس أوعية ... مستودعات وللأنساب آباء
وفيه تنبيه أيضا على علة إيجاب هذه النفقة والكسوة على
الآباء أي الوالدات لما ولدن لهم فكان عليهم أن يرزقوهن
ويكسوهن إذا أرضعن أولادهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم
الوالد حيث لم يكن هذا المعنى, وهو قوله تعالى:
{وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}
[لقمان: 33], الآية.
قوله: "وإلى قوله" أي قول النبي عليه السلام: "أنت ومالك
لأبيك" 1, روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتى
النبي عليه السلام فقال إن لي مالا; وإن والدي يحتاج إلى
مالي قال: "أنت ومالك لوالدك" , وفي رواية: "لوالديك" كذا
في المصابيح, وذكر في الكشاف شكا رجل إلى رسول الله عليه
السلام أباه وأنه يأخذ ماله فدعا به, فإذا هو شيخ يتوكأ
على عصا فسأله فقال إنه كان ضعيفا وأنا قوي, وفقيرا وأنا
غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي واليوم أنا ضعيف. وهو قوي,
وأنا فقير وهو غني ويبخل علي بماله فبكى
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في البيوع حديث رقم 3530 وابن ماجه في
التجارات حديث رقم 2291 وأخرجه الإمام أحمد في المسند
2/179 و204, 214. والطبراني في الكبير 10/99.
(1/111)
وفيه إشارة إلى
أن أقل مدة الحمل ستة أشهر إذا رفعت مدة الرضاع وهذا القسم
هو الثابت بعينه.
ـــــــ
عليه السلام وقال ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى ثم
قال للولد: "أنت ومالك لأبيك" , وذكر الإمام ظهير الدين
البخاري1 في فوائده أن شيخا أتى النبي عليه السلام وقال إن
ابني هذا له مال كثير; وإنه لا ينفق علي من ماله فنزل
جبرائيل عليه السلام وقال إن هذا الشيخ قد أنشأ في ابنه
أبياتا ما قرع سمع بمثلها فاستنشدها فأنشدها الشيخ وقال:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا ... تعل بما أحني عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت ... لسقمك إلا باكيا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي ... طرقت به دوني وعيني تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي ... إليها مدى ما كنت فيك
أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة ... كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي ... فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدا للخلاف كأنه ... برد على أهل الصواب مؤكل
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "أنت ومالك
لأبيك" , فهذا الحديث يدل على أن للأب حق التملك في مال
ولده; لأن ظاهره; وإن دل على ثبوت حقيقة الملك له لكنه لما
تخلف بالإجماع وبقوله عليه السلام: "الرجل أحق بماله من
والده وولده والناس أجمعين" , ثبت به حق التملك له في ماله
فيتملكه عند الحاجة بغير عوض إن كانت من الحوائج الأصلية
وبعوض إن لم يكن كذلك; وإن له تأويلا في نفسه فلا يعاقب
بإتلاف ولده كما لا يعاقب بإتلاف عبده وقد عرف تحقيقه في
موضعه فالنص المذكور بإشارته أيد هذا الحديث وآزره; لأن
موافقة الحديث الكتاب من دلائل صحة الحديث لقوله عليه
السلام: "وما وافق فاقبلوه" . فهذا معنى قوله وأشار إلى
قوله: "أنت ومالك لأبيك" .
قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الاحقاف: 15]
المراد بيان مدة الرضاع لا الفطام ولكن عبر عن الرضاع به;
لأن الرضاع يليه الفصال ويلابسه; لأنه ينتهي به والغرض هو
الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال ووقته, ثم
المراد من الحمل إن كان هو الحمل بالأيدي إذ الطفل يحمل
باليد في هذه المدة غالبا فالمدة المذكورة للحمل والفصال
جميعا ولا
ـــــــ
1 هو أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر البخاري ظهير الدين
الفقيه الحنفي الأصولي القاضي توفي سنة 619 هـ.
(1/112)
.....................................................
تعرض للحمل في البطن حينئذ في الآية, فلا يكون الإشارة
المذكورة ثابتة فيها, ويكون الآية حجة لأبي حنيفة رحمه
الله في أن أكثر مدة الرضاع ثلاثون شهرا, ويحمل على هذا
التقدير قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:
233]: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14], على بيان
مدة وجوب أجر الرضاع على الأب دفعا للتعارض; وإن كان
المراد منه الحمل في البطن كما ذهب إليه الجمهور, وهو
الظاهر, فالإشارة ثابتة ولا يمكن التمسك لأبي حنيفة بها في
تلك المسألة بل يتمسك له بالمعقول, وهو أن اللبن كما يغذي
الصبي قبل الحولين يغذيه بعدهما والفطام لا يحصل في ساعة
واحدة بل يفطم درجة فدرجة حتى ييبس اللبن ويتعود الصبي
الطعام فلا بد من زيادة على حولين لمدة الفطام, فإذا وجبت
الزيادة قدرنا تلك الزيادة بأدنى مدة الحمل, وذلك ستة أشهر
اعتبارا للانتهاء بالابتداء كذا في المبسوط, ثم هذا النص
مسوق لبيان منة الوالدة; لأنه تعالى أمر بالإحسان إلى
الوالدين ثم بين السبب في جانب الأم بقوله: {حَمَلَتْهُ
أُمُّهُ كُرْهاً} [الاحقاف: 15] أي ذات كره على الحال أو
حملا ذا كره على الصفة للمصدر والكره المشقة. ثم زاد في
البيان بقوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}
[الاحقاف: 15], أي مشقة الحمل لم تكن مقتصرة على زمان قليل
بل هي مع مشقات الرضاع ممتدة هذه المدة, وفيه إشارة إلى أن
أقل مدة الحمل ستة أشهر كما قال علي أو ابن عباس رضي الله
عنهم فيما روي أن امرأة ولدت لستة أشهر من وقت التزوج فرفع
ذلك إلى عمر وفي رواية إلى عثمان رضي الله عنهما فهم
برجمها فقال علي: أو ابن عباس رضي الله عنهم أما إنها لو
خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم أي غلبتكم في الخصومة قال الله
تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}
[الاحقاف: 15] وقال عز اسمه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233],
فبقي ستة أشهر لحملها فأخذ عمر بقوله وأثنى عليه ودرأ عنها
الحد قال أبو اليسر: رحمه الله وهذه إشارة غامضة وقف عليها
عبد الله بن عباس بدقة فهمه وقد اختفى هذا الحكم على
الصحابة فلما أظهره قبلوا منه.
ولا يقال لا بد في الإشارة من لفظ يدل على المشار إليه,
وليس ذلك فيما ذكرت بل هو من قبيل بيان الضرورة كما سيأتي
بيانه إن شاء الله تعالى; لأنا نقول قوله ثلاثون يشمل
أفراده مطابقة فيكون الستة بعض مدلوله فيكون ثابتا بالنظم
ولا منافاة بين بيان الضرورة والإشارة فليكن بيان ضرورة
أيضا "فإن قيل" العادة المستمرة في مدة الحمل تسعة أشهر
فكان المناسب في مقام بيان المنة ذكر الأكثر المعتاد لا
ذكر الأقل النادر كما في جانب الفصال "قلنا" قد قيل نزلت
الآية في أبي بكر رضي الله عنه حملته أمه بمشقة ثم وضعته
(1/113)
...................................................
على تمام ستة أشهر وقيل نزلت في الحسن أو الحسين رضي الله
تعالى عنهما وضعته أمه على ما ذكر من المدة كذا في شرح
التأويلات, فإذا كان كذلك لا يستقيم ذكر ما ورائها لئلا
يؤدي إلى الكذب; ولأن هذه المدة أقل مدة الحمل إذ الإنسان
لا يعيش إذا ولد لأقل من ستة أشهر فيكون مشقة الحمل في هذه
المدة موجودة لا محالة في حق كل مخاطب فيكون اعتبار ما هو
المتيقن به; لكونه ملزما للمنة لا محالة أدخل في باب
المناسبة بخلاف الفصال; لأنه لا حد لجانب القلة فيه بل لا
تيقن في نفس الرضاع إذ يجوز أن يعيش الإنسان بدون ارتضاع
من الأم فلا جرم اعتبر فيه الأكثر; لأنه هو الغالب فيه إذ
الرضاع اختياري والشفقة حاملة على تكميل المدة فصار في
التقدير كأنه قيل قد حملته ستة أشهر لا محالة إن لم تحمله
أكثر منها وأرضعته سنتين فوجب عليه الإحسان إليها.
(1/114)
"3 – دلالة
النص"
وأما الثابت بدلالة النص فما ثبت بمعنى النص لغة لا
اجتهادا ولا استنباطا مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23] هذا قول
ـــــــ
دلالة النص هي فهم غير
المنطوق من المنطوق بسياق الكلام ومقصوده, وقيل هي الجمع
بين المنصوص وغير المنصوص بالمعنى اللغوي, ويسميها عامة
الأصوليين فحوى الخطاب; لأن فحوى الكلام معناه كذا في
الصحاح, وفي الأساس عرفت في فحوى كلامه أي فيما تنسمت من
مراده بما تكلم به مأخوذ من الفحاء, وهو أبزار القدر,
ويسميها بعض أصحاب الشافعي مفهوم الموافقة; لأن مدلول
اللفظ في محل السكوت موافق لمدلوله في محل النطق. قوله:
"بمعنى النص لغة" أي بمعناه اللغوي لا بمعناه الشرعي, ولغة
تمييز, لا اجتهادا ولا استنباطا ترادف وهذا نفي كونه
قياسا, واعلم أن الحكم إنما يثبت بالدلالة إذا عرف المعنى
المقصود من الحكم المنصوص كما عرف أن المقصود من تحريم
التأفيف والنهر كف الأذى عن الوالدين; لأن سوق الكلام
لبيان احترامهما فيثبت الحكم في الضرب والشتم بطريق
التنبيه وكما عرف أن الغرض من تحريم أكل مال اليتيم في
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10], ترك التعرض لها فيثبت
الحكم في الإحراق والإهلاك أيضا ولولا هذه المعرفة لما لزم
من تحريم التأفيف تحريم الضرب إذ قد يقول السلطان للجلاد
إذا أمره بقتل ملك منازع له لا تقل له أف ولكن اقتله لكون
القتل أشد في دفع محذور المنازعة من التأفيف ويقول الرجل
والله ما قلت لفلان أف وقد ضربه, والله ما أكلت مال فلان
وقد أحرقه فلا يحنث, ثم إن كان ذلك المعنى المقصود معلوما
قطعا كما في تحريم التأفيف فالدلالة قطعية; وإن احتمل أن
يكون غيره هو المقصود كما في إيجاب الكفارة على المفطر
بالأكل والشرب فهي ظنية, ولما توقف ثبوت الحكم بالدلالة
على معرفة المعنى ولا بد في معرفته من نوع نظر ظن بعض
أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي وغيرهم أن الدلالة قياس جلي
فقالوا لما توقف على ما ذكرنا وقد وجد أصل كالتأفيف مثلا
وفرع كالضرب وعلة جامعة مؤثرة كدفع الأذى يكون قياسا إذ لا
معنى للقياس إلا ذلك إلا أنه لما كان ظاهرا سميناه جليا,
وليس كما ظنوا على ما ذهب إليه الجمهور; لأن الأصل في
القياس لا يجوز أن يكون جزءا من الفرع بالإجماع. وقد يكون
في هذا النوع ما تخيلوه أصلا جزءا مما تخيلوه فرعا كما لو
قال السيد لعبده: لا تعط زيدا ذرة فإنه يدل على منعه من
إعطاء ما فوق الذرة مع أن الذرة المنصوصة داخلة
(1/115)
معلوم بظاهره
معلوم بمعناه, وهو الأذى وهذا معنى يفهم منه لغة حتى شارك
فيه غير الفقهاء أهل الرأي والاجتهاد كمعنى الإيلام من
الضرب ثم يتعدى حكمه إلى الضرب والشتم بذلك المعنى فمن حيث
إنه كان معنى لا عبارة لم نسمه نصا, ومن حيث إنه ثبت به
لغة لا استنباطا يسمى دلالة وأنه يعمل عمل النص.
ـــــــ
فيما زاد عليها; ولأنه كان ثابتا قبل شرع القياس فعلم أنه
من الدلالات اللفظية وليس بقياس, ولهذا اتفق أهل العلم على
صحة الاحتجاج به من مثبتي القياس ونفاته إلا ما نقل عن
داود الظاهري1 لفهم المعنى منه على سبيل القطع أو الظن.
قوله: "وهذا معنى يفهم منه لغة" أي الأذى يفهم من التأفيف
لغة لا رأيا كمعنى الإيلام من الضرب يعني إذا قيل اضرب
فلانا أو لا تضربه يفهم منه لغة أن المقصود إيصال الألم
بهذا الطريق إليه أو منعه عنه; ولهذا لو حلف لا يضربه
فضربه بعد الموت لا يحنث, ولو حلف ليضربه فلم يضربه إلا
بعد الموت لم يبر, فكذلك معنى الأذى من التأفيف, ثم تعدى
حكمه أي حكم التأفيف, وهو الحرمة إلى الضرب والشتم بذلك
المعنى للتيقن بتعلق الحرمة به لا بالصورة حتى إن من لا
يعرف هذا المعنى من هذا اللفظ أو كان من قوم هذا في لغتهم
إكرام لم يثبت الحرمة في حقه, ولما تعلق الحكم بالإيذاء في
التأفيف صار في التقدير كأن قيل لا تؤذهما فثبت الحرمة
عامة. ولا يقال ينبغي أن يحرم التأفيف للوالدين; وإن لم
يعرف المتكلم معناه أو استعمله بجهة الإكرام; لأن العبرة
للمنصوص عليه في محل النص لا للمعنى كما في أداء نصف صاع
من تمر قيمته نصف صاع من بر عن نصف صاع من بر بطريق القيمة
في صدقة الفطر فإنه لا يجوز لما ذكرنا, لأنا نقول: ذلك
فيما إذا كان المعنى ثابتا بالاجتهاد فيكون ظنيا وأنه لا
يظهر في مقابلة القطع فأما إذا كان المعنى ثابتا بالنص
وعرف قطعا أن الحكم متعلق به فالحكم يدور على هذا المعنى
لا غير كطهارة سؤر الهرة لما تعلقت بالطوف في قوله عليه
السلام: "الهرة ليست بنجسة" الحديث كان سؤر الهرة الوحشية
نجسا مع قيام النص لعدم الطوف, وحاصل فرق المصنف أن
المفهوم بالقياس نظري ولهذا شرط في القائس أهلية الاجتهاد
بخلاف ما نحن فيه; لأنه ضروري أو بمنزلته; لأنا نجد أنفسنا
ساكنة إليه في أول سماعنا هذه اللفظة ولهذا شارك أهل الرأي
غيرهم فيه فلا يكون قياسا لانتفاء المشروط بانتفاء الشرط.
قوله: "وأنه يعمل عمل النص" أي هذا النوع, وهو دلالة النص
يثبت به عند المصنف ما يثبت بالنصوص حتى الحدود والكفارات,
وكذا عند من جعله قياسا من
ـــــــ
1 هو أبو سليمان داود بن علي بن خلف الأصبهاني ولد سنة 200
هـ توفي سنة 270 هـ.
(1/116)
........................................................
أصحاب الشافعي; لأنها تثبت بالقياس عندهم, فأما عند من
جعله قياسا من أصحابنا فلا يثبت به الحدود والكفارات;
لأنها لا تثبت بالقياس عندنا فهذا هو فائدة الخلاف وإليه
أشار المصنف فيما بعد. وسمعت عن شيخي قدس الله روحه وهو
كان أعلى كعبا من أن يجازف أو يتكلم من غير تحقيق أنها
تثبت بمثل هذا القياس عندهم كما تثبت بالقياس الذي علته
منصوصة فعلى هذا لا يظهر فائدة الخلاف ويكون الخلاف لفظيا,
ويؤيده ما ذكر الغزالي في المستصفى وقد اختلفوا في تسمية
هذا القسم قياسا ويبعد تسميته قياسا; لأنه لا يحتاج فيه
إلى فكرة واستنباط علة, ومن سماه قياسا اعترف بأنه مقطوع
به ولا مشاحة في الأسامي فمن كان القياس عنده عبارة عن نوع
من الإلحاق يشمل هذه الصورة ولا مشاحة في عبارة.
(1/117)
"4 -
إقتضاء النص"
وأما الثابت باقتضاء النص فما لم يعمل إلا بشرط تقدم عليه,
فإن ذلك أمر اقتضاه النص لصحة ما تناوله, فصار هذا مضافا
إلى النص بواسطة المقتضى,
ـــــــ
قوله: "وأما الثابت باقتضاء النص إلى آخره" الاقتضاء الطلب
ومنه اقتضى الدين وتقاضاه أي طلبه, قيل في تفسير المقتضى
هو ما أضمر في الكلام ضرورة صدق المتكلم ونحوه, وقيل هو
الذي لا يدل عليه اللفظ ولا يكون منطوقا لكن يكون من ضرورة
اللفظ, وقال القاضي الإمام: هو زيادة على النص لم يتحقق
معنى النص بدونها فاقتضاها النص ليتحقق معناه ولا يلغو,
وهذه العبارات تؤدي معنى واحدا ولا بد من زيادة قيد في
التعريف على مذهب من جعل المحذوف قسما آخر, وهو أن يقال هو
ما ثبت زيادة على النص لتصحيحه شرعا, واعلم أن الشرع متى
دل على زيادة شيء في الكلام لصيانته عن اللغو ونحوه
فالحامل على الزيادة, وهو صيانة الكلام هو المقتضي والمزيد
هو المقتضى ودلالة الشرع على أن هذا الكلام لا يصح إلا
بالزيادة هو الاقتضاء كذا ذكر بعض المحققين, وقيل الكلام
الذي لا يصح شرعا إلا بالزيادة هو المقتضي وطلبه الزيادة
هو الاقتضاء والمزيد هو المقتضى وما ثبت به هو حكم
المقتضى. ومثاله المشهور قولك لغيرك اعتق عبدك عني بألف
فنفس هذا الكلام هو المقتضى لعدم صحته في نفسه شرعا وطلبه
ما يصح به اقتضاء وما زيد عليه, وهو البيع مقتضى وما ثبت
بالبيع, وهو الملك حكم المقتضى وسيأتي الكلام فيه إن شاء
الله تعالى.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد من لفظة الثابت إن كان
المقتضي; لأنه هو الثابت باقتضاء النص فمعنى قوله وأما
الثابت باقتضاء النص وأما المقتضى, والضمير المستكن في لم
يعمل والبارز في عليه راجعان إلى النص, ويقرأ بشرط تقدم
على الإضافة ويكون التنوين في تقدم عوضا عن المضاف إليه,
وهو الضمير العائد إلى ما أي بشرط تقدمه كما يقتضيه هذا
المقام, وكذا ذكر المصنف فيما بعد, وذلك وهذا إشارتان إلى
الثابت, والمقتضى بالفتح في قوله بواسطة المقتضى بمعنى
الاقتضاء; لأن زنة المفعول من أوزان المصادر في المنشعبات,
واللام فيه بدل الإضافة, والفاء في فإن "إشارة" إلى تعليل
تسميته بهذا الاسم أو إلى تعليل اشتراط تقدمه عليه. وهي في
فصار لبيان كونه نتيجة للجملة الأولى, وتقدير الكلام وأما
المقتضى فالشيء الذي لم يعمل النص أي لم يفد شيئا ولم
(1/118)
وكان كالثابت
بالنص وعلامته أن يصح به المذكور, ولا يلغى عند ظهوره
ـــــــ
يوجب حكما إلا بشرط تقدم ذلك الشيء على النص; وإنما سمي
هذا الشيء بالمقتضى; لأنه أمر اقتضاه النص; وإنما شرط
تقدمه عليه; لأن ذلك أمر اقتضاء النص لصحة ما تناول النص
إياه فتكون صحة النص متوقفة عليه توقف المشروط على الشرط
فيقدم لا محالة ولما اقتضى النص ذلك الشيء لصحته صار ذلك
الشيء مضافا إلى النص بواسطة اقتضاء النص إياه, ويؤكد هذا
الوجه ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله المقتضى عبارة عن زيادة
على المنصوص بشرط تقديمه ليصير المنظوم مفيدا أو موجبا
للحكم وبدونه لا يمكن إعمال المنظوم, ورأيت في بعض الشروح
وأما الثابت بطلب النص لنفسه فشيء لم يعمل النص بدون تقدمه
على النص فإن النص اقتضاه ليكون متناوله صحيحا فصار متناول
النص مضافا إلى النص لكن بواسطة المقتضى إذ لو لم يكن
المقتضى لما صح ما تناوله النص, وإذا لم يصح لا يكون مضافا
إلى النص كقوله عليه السلام: "شراء القريب إعتاق" , أضاف
الإعتاق إلى الشراء بواسطة مقتضاه, وهو الملك هو الذي يوجب
العتق في القريب لا الشراء ولولا المقتضى لما صح إضافة
الإعتاق إلى الشراء فجعل هذا الشارح اسم الإشارة راجعا إلى
ما في متناوله وهذا وجه حسن أيضا; وإن كان المراد من
الثابت حكم المقتضى كما أن المراد من الثابت الحكم فيما
تقدم فالاقتضاء بمعنى المقتضى ويقرأ بشرط بالتنوين والجملة
بعده صفة له. وذلك إشارة إلى الشرط وهذا إلى الثابت,
والمقتضى بمعنى المفعول, والفاء في فإن للإشارة إلى تعليل
التقدم لا غير, وهي في فصار للإشارة إلى كون إضافة الحكم
نتيجة للاقتضاء, وتقديره وأما الحكم الثابت بمقتضى النص
فما لم يعمل النص في إثباته أي لم يوجبه إلا بشرط تقدم على
النص; وإنما تقدم ذلك الشرط; لأنه أمر اقتضاء النص لصحة
متناوله ولما كان مثبت ذلك الحكم مضافا إلى النص; لأن النص
اقتضاه صار الحكم مضافا إلى النص أيضا بواسطته فلا يكون
ثابتا بالرأي وإليه أشار بقوله فكان كالثابت بالنص أي
الحكم الثابت بالمقتضي أو المقتضى على الوجه الأول كالثابت
بالنص, قال شمس الأئمة فعرفنا أن الثابت بطريق الاقتضاء
بمنزلة الثابت بدلالة النص لا بمنزلة الثابت بطريق القياس,
ويؤيد هذا الوجه ما قال صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله
وأما الحكم الثابت بمقتضى النص فما ثبت بشيء زائد على النص
اقتضاه النص فيكون الحكم ثابتا بالنص; لأن المقتضى ثابت
بالنص والحكم ثبت بالمقتضى فيكون المقتضى مع حكمه ثابتين
بالنص.
قوله: "وعلامته إلى آخره" اعلم أن عامة الأصوليين من
أصحابنا وجميع أصحاب الشافعي وجميع المعتزلة جعلوا ما يضمر
في الكلام لتصحيحه ثلاثة أقسام:
(1/119)
ويصلح لما أريد
به فأما قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]
ـــــــ
ما أضمر ضرورة صدق المتكلم كقوله عليه السلام: "رفع عن
أمتي الخطأ" الحديث1.
1 - وما أضمر لصحته عقلا كقوله تعالى إخبارا: {وَاسْأَلِ
الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
2 - وما أضمر لصحته شرعا كقول الرجل اعتق عبدك عني بألف.
وسموا الكل مقتضى; ولهذا قالوا في تحديده هو جعل غير
المنطوق منطوقا لتصحيح المنطوق, وهو مذهب القاضي الإمام
أبي زيد, ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى القول بجواز العموم في
الأقسام الثلاثة, وهو مذهب الشافعي وبعضهم إلى القول بعدم
جوازه في جميعها, وهو مذهب القاضي الإمام. وخالفهم المصنف
وشمس الأئمة وصدر الإسلام وصاحب الميزان في ذلك فأطلقوا
اسم المقتضى على ما أضمر لصحة الكلام شرعا فقط وجعلوا ما
وراءه قسما واحدا وسموه محذوفا أو مضمرا وقالوا: بجواز
العموم في المحذوف دون المقتضى إلا أبا اليسر فإنه لم يقل
بعموم المحذوف أيضا; وإن سلم أنه غير المقتضى وسيأتيك
الكلام فيه مشروحا إن شاء الله عز وجل, فلما كان كذلك أراد
الشيخ أن يفرق بين المقتضى والمحذوف ببيان العلامة, فقال
وعلامته أي علامة المقتضى أن يصح به أي بالمقتضى المذكور
أي يصير مفيدا لمعناه, وموجبا لما تناوله, وفي بعض النسخ
ولا يلغى عند ظهوره أي لا يتغير ظاهر الكلام عن حاله
وإعرابه عند التصريح به كذا قيل بل يبقى كما كان قبله,
ويصلح بنصب الحاء أي المذكور لما أريد به من المعنى أي لا
يتغير معناه أيضا, وبمجموع ما ذكر يقع الفرق بينه وبين
المحذوف; لأن بالمحذوف; وإن كان يصح المذكور إلا أنه ربما
يتغير به ظاهر الكلام عن حاله وإعرابه كما في قوله:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] وربما لم يتغير ولكنه
لا يبقى صالحا لما أريد به لتغير معناه كما لو تزوج عبد
بغير إذن سيده فأخبر المولى فقال طلقها لا يثبت الإجازة
اقتضاء; وإن كان يصح المذكور به ولا يتغير ظاهره عن حاله
لكنه لا يبقى صالحا لما
ـــــــ
1 أخرجه ابن ماجه في الطلاق 1/659 وأخرجه الحاكم في
المستدرك 2/198 وأخرجه ابن عباس الطبراني في الكبير 11/133
والدارقطني عنه عن أبي هريرة 4/170 – 171.
(1/120)
فإن الأهل غير
مقتضى لأنه إذا ثبت لم يتحقق في القرية ما أضيف إليه بل
هذا من باب الإضمار; لأن صحة المقتضي إنما يكون لصحة
المقتضى ومثاله
ـــــــ
أريد به; لأن دلالة حال العبد, وهو تمرده على مولاه بهذا
التزوج يدل على أن غرض المولى رد العقد والمتاركة, فإنه
يسمى طلاقا لا إبقاء النكاح وأنه في ولايته فيصح الأمر فلو
ثبتت الإجازة اقتضاء لم يبق قوله طلقها صالحا لما أريد به.
وهو إيجاب المتاركة بل يصير أمرا للعبد بالطلاق وليس في
ولايته ذلك فلا يصح الأمر, بخلاف ما إذا زوجه فضولي فبلغه
الخبر فقال: طلقها حيث يثبت الإجازة اقتضاء; لأنه يبقى
الكلام صالحا لما أريد به كما كان; لأنه يملك التطليق بعد
الإجازة كما كان يملكه قبلها فيملك الأمر به أيضا; وإن قرئ
ولا يصلح بالرفع ويجعل الضمير عائدا إلى المقتضى مع أنه
يلزم منه انتشار الضمير فمعناه ويصلح المقتضى لما أريد به
من تصحيح الكلام, وذلك بأن يمكن إثباته تبعا للمقتضى, قال
أبو اليسر: رحمه الله الشيء إنما يثبت بطريق الاقتضاء إذا
كان تابعا للمصرح; لأن المقتضى يصير تابعا للمصرح في
الثبوت فينبغي أن يكون تابعا في الجملة حتى يصلح أن يصير
تابعا له في الثبوت أو يكون مثله; لأن الشيء قد يستتبع
مثله ولا يجوز أن يكون أصلا له ألبتة; ولهذا قلنا لو قال
لامرأته يدك طالق لا يقع الطلاق ولا يقتضي ذكر اليد ذكر
النفس; وإن كان الطلاق لا يقع على اليد إلا بعد وقوعه على
النفس; لأن النفس أصل اليد فلا يجوز أن تصير تابعة لها في
الذكر والثبوت; لأنه يؤدي إلى أن يصير الأصل تبعا والتبع
أصلا, وكذا حكم النكاح والبيع وهذا بلا خلاف بيننا وبين
الشافعي إلا أن عنده يقع الطلاق بإضافته إلى اليد بطريق
آخر; وإنما الاختلاف في عمومه, هذا لفظه وعن هذا قلنا إذا
قال لعبده كفر بهذا العبد عن يمينك لا يثبت الإعتاق
اقتضاء; لأن أهلية الإعتاق أصل لسائر التصرفات فلا تثبت
تبعا. وكذلك قلنا إن الكفار لا يخاطبون بالشرائع إذ لو
خوطبوا بها لثبت الإيمان مقتضى تبعا لها ولا يصح إذ جميع
الأحكام الشرعية تبع للإيمان, وكذلك ذكر في دعوى الجامع
إذا ادعى على آخر أنك أخي لأبي وأمي; فإن كان يدعي عليه
حقا صحت الدعوى, وقبلت الشهادة على ذلك وإلا فلا; لأن
الأخوة حق يبتنى على البنوة على الغائب, وذلك أصل وهذا
تابع له فلم يجز أن يصير ذلك مقتضى هذا فبقي هذا حقا على
غائب فلم يسمع; فإن ادعى حقا مقصودا صارت الأخوة والبنوة
مقتضاه وتبعا له فوجب القضاء به غير مقتضى وإن كان يشبه
المقتضى من وجه; لأنه أي; لأن الأهل إذا ثبت أي صرح به ما
أضيف إليه أي السؤال الذي نسب إلى القرية وتعلق بها,
والضمير في إليه راجع إلى القرية على تأويل المذكور أو
المسئول هذا هو المشهور في مثل هذا الضمير ولكن التحقيق
فيه أن التأنيث إنما يجب مراعاة حقه إذا كان مرتبا على
المذكر بزيادة حرف على صيغة التذكير كضارب وضاربة أو بصيغة
غير صيغة التذكير أي يكون له مذكر في الجملة, فإذا كان
كذلك يلزم مراعاة حق التذكير والتأنيث وإذا لم يكن كذلك
سقط اعتباره لعدم الترتيب وتعذر المراعاة كما في لفظ
المعرفة والنكرة مثلا فإن تأنيثهما لما لم يكن مرتبا على
التذكير
(1/121)
الأمر بالتحرير
للتكفير مقتض للملك ولم يذكر هذا البيان معرفة تفسير هذه
الأصول لغة وتفسير معانيها وبيان ترتيبها والفصل الرابع في
بيان أحكامها والله أعلم بالصواب.
ـــــــ
والتأنيث سواء وصفت به نحو: اسم معرفة واسم نكرة أو جعلته
خبرا نحو: زيد معرفة والرجل معرفة بخلاف المعرفة والمنكرة;
لأن تأنيثهما مرتب فأمكن المراعاة ونظيرهما لفظ اسم وشيء
فتقول هذا اسم وهذه اسم, وهذا شيء وهذه شيء. وكذا الفعل
والحرف تقول: ضربت: فعل, وضرب: فعل وربت: حرف, ومن: حرف,
فلا تقول هذا اسم وهذه سمة وهذا شيء وهذه شيئة وضرب: فعل,
وضربت: فعلة ومن: حرف, وربت: حرفة فتبين أن التذكير
والتأنيث إذا لم يكونا مرتبين لم يراع حقهما كذا في المحصل
في شرح المفصل, ولهذا قال جار الله1 في المفصل في المضمرات
والضمير في قولهم ربه رجلا نكرة مبهم ولم يقل مبهمة ولما
كان تأنيث القرية غير مرتب استوى فيه التذكير والتأنيث,
وليكن هذا على ذكر منك فإنك تحتاج إليه في هذا الكتاب
كثيرا.
قوله: "من باب الإضمار" جعله من باب الإضمار هنا وسماه
فيما بعد محذوفا, وإلا صار ما له أثر في اللفظ كقوله وبلدة
أي ورب بلدة وقوله الله لأفعلن بالجر والحذف بخلافه كقوله
تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155], أي
من قومه وقول الرجل الله لأفعلن بالنصب وما ذكر من النظير
من هذا القبيل فكان تسميته بالمحذوف أولى وما ذكره ههنا
توسع, ومثاله أي مثال المقتضى الأمر بالتحرير, وهو قوله
تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92]; لأنه في معنى
الأمر أي فحرروا رقبة مقتض للملك; لأن تحرير الحر لا
يتصور, وكذا تحرير ملك الغير عن نفسه فصار التقدير فعليه
تحرير رقبة مملوكة له ثم إذا قدر مذكورا لم يتغير موجب
الكلام وبقي صالحا لما أريد به, وهو التكفير, وذكر السيد
الإمام أبو القاسم رحمه الله والثابت مقتضى نحو قوله
تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً}
[لقمان: 15], ولا يتحقق المصاحبة إلا بالاتفاق وترك القتل
فيثبت حرمة القتل ووجوب الاتفاق مقتضاه سابقا عليه. هذا
إشارة إلى ما سبق من قوله الخاص كذا إلى ما انتهى إليه,
وبيان ترتيبها أي في البعض; لأنه لم يتبين الترتيب في
الكل, والفصل الرابع أي من البيان فكأنه جعل بيان معانيها
لغة فصلا وبيان معانيها شرعا فصلا وبيان ترتيبها عند
التعارض فصلا وبيان الأحكام رابع الفصول والله أعلم.
ـــــــ
1 هو أبو القاسم جار الله محمود ين عمر بن محمد الخوارزمي
الزمخشري المفسر المتكلم النحوي اللغوي والأديب ولد 467 هـ
توفي سنة 538 هـ.
(1/122)
|