كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "الصريح
والكناية"
وأما الصريح فما ظهر المراد به ظهورا بينا زائدا ومنه سمي
القصر صرحا لارتفاعه عن سائر الأبنية والصريح الخالص من كل
شيء وذلك مثل
ـــــــ
قوله: "وأما الصريح فما ظهر المراد منه ظهورا بينا" أي
انكشف انكشافا تاما, وهو احتراز عن الظاهر, وقيل لا بد فيه
من قيد, وهو أن يقال بالاستعمال أو بالعرف ونحوهما ليتميز
عن المفسر والنص إذ الفرق بين الصريح وبين ما ذكرنا ليس
إلا بكثرة الاستعمال في الصريح وعدمه في المفسر والنص إليه
أشير في الميزان إلا أن الشيخ رحمه الله ترك ذكره لدلالة
مورد التقسيم عليه إذ هذا القسم في بيان وجوه الاستعمال
فعلى هذا لا يدخل فيه إلا الحقائق العرفية, وقيل لا حاجة
إلى هذا القيد; لأن تمام انكشاف المعنى قد يحصل بالتنصيص
والتفسير كما يحصل بكثرة الاستعمال فكما يدخل فيه الحقائق
العرفية يدخل فيه النص والمفسر ويكون كل واحد قسما من
أقسام الصريح ولكن لا يدخل فيه الظاهر; لأن الشرط فيه كون
الظهور بينا أي تاما وليس هو في الظاهر كذلك بل فيه مجرد
الظهور ولهذا توصف الإشارة بالظهور فيقال هذه إشارة ظاهرة
وهذه غامضة ولا توصف بالصراحة أصلا لعدم تمام الانكشاف
فيها, ويؤيده ما ذكره السيد الإمام أبو القاسم رحمه الله
أن الصريح هو الذي يعرف مراده معرفة جلية وما ذكر الشيخ
القاضي أبو زيد وشمس الأئمة رحمهما الله أن الصريح اسم
لكلام مكشوف المعنى كالنص سواء كان حقيقة أو مجازا, قلت
هذا كلام حسن إذ لا استبعاد في تسمية النص أو المفسر صريحا
وقد رأيت في كثير من الكتب ما يدل عليه إلا أن مورد
التقسيم ههنا يوجب اشتراط الاستعمال فيه ولا يتحقق ذلك في
النص والمفسر إذ ظهورهما باللغة لا بالاستعمال فتبين أن ما
ذكرنا أولا أصح, ثم لما استوى في الصريح الحقيقة والمجاز
جمع الشيخ في إيراد النظائر بين ما هو مجاز لغوي وبين ما
هو حقيقة لغوية فقوله أنت حر وأنت طالق ونكحت من قبيل
الأول. وقوله بعت من قبيل الثاني.
وقوله: "وهذا اللفظ" أي الصريح موضوع لهذا المعنى أي لما
ظهر المراد منه ظهورا
(1/102)
قوله أنت حر
وأنت طالق والكناية خلاف الصريح وهو ما استتر, المراد به
مثل
ـــــــ
بينا إشارة إلى أنه من الأسماء المقررة, وهي التي قررت على
موضوعها اللغوي في العرف أو الشرع كالبيع والشراء لا من
الأسماء المغيرة, وهي التي غيرت عن موضوعها فيه كالصلاة
والزكاة, وهي فعيل بمعنى فاعل من صرح يصرح صراحة وصروحة إذ
خلص وانكشف, وتصريح الخمر أن يذهب عنه الزبد, وصرح فلان
بما في نفسه أي أظهره قوله: "والصريح الخالص من كل شيء"
كلمة من متعلقة بالصريح أي الصريح من كل شيء خالصه قيل في
الصحاح وكل خالص صريح, ويجوز أن تكون متعلقة بالخالص أي
الذي خلص من كل شيء, وهو الصريح وكلاهما واحد فلما خلص هذا
اللفظ عن محتملاته بمنزلة المفسر سمي صريحا. قوله: "وهو ما
استتر المراد به" أي خلاف الصريح لفظ "استتر" المعنى الذي
أريد به; وإنما فسر خلاف الصريح به لأن خلاف الشيء قد يكون
نقيضه وقد يكون ضده; فإن كان المراد من الخلاف ههنا نقيضه
فهو ما لم يظهر المراد به ظهورا بينا وأنه يتناول الظاهر,
وهو ليس بكناية, وكذا يتناول النص والمفسر والخفي والمشكل
وغيرها إن قدر قيد الاستعمال وقيل هو ما لم يظهر المراد به
بالاستعمال ظهورا بينا وفساده ظاهر; وإن كان المراد ضده
فهو ما استتر المراد به استتارا تاما ولا يوجد ذلك إلا في
المجمل فلا يكون التعريف جامعا ولا مانعا فالشيخ بهذا
التفسير بين أن المراد من خلاف الصريح ضده, وهو الاستتار
لا نقيضه إذ هو أولى بالتعريف به من نقيضه, وهو عدم الظهور
لكون الأول وجوديا والثاني عدميا وبين أيضا بترك قوله
استتارا تاما أن قوله ظهورا بينا في تعريف الصريح لزيادة
البيان إذ هو مفهوم من تقدير قيد الاستعمال; لأنه من
لوازمه, ثم لا بد من القيد المذكور أيضا عند من قال
باشتراطه في الصريح بأن يقال هو ما استتر المراد به
بالاستعمال أي يحصل الاستتار بالاستعمال بأن يستعملوه
قاصدين للاستتار فإنه مقصود عندهم لأغراض صحيحة. وإن كان
معناه ظاهرا في اللغة كما أن الانكشاف يحصل في الصريح
باستعمالهم; وإن كان خفيا في اللغة, وعند من لم يقل
باشتراطه في الصريح لا يشترط ههنا فيدخل فيه المشترك
والمشكل وأمثالهما وعليه يدل كلام القاضي الإمام فإنه قال
كل كلام يحتمل وجوها يسمى كناية ولهذا سمي المجاز قبل أن
يصير متعارفا كناية لاحتمال الحقيقة وغيرها إلا أن الصحيح
هو الأول لما ذكرنا من اشتراط اشتراك مورد التقسيم بين
الأقسام ولا يحصل ذلك إلا باشتراط هذا القيد.
ثم إذا تأملت علمت أن المراد من الاستعمال, وهو التلفظ
بكلام لإفادة معنى في مورد التقسيم, وهو قوله والقسم
الثالث في وجوه استعمال ذلك النظم مطلق الاستعمال إذ
الاستعمال في الحقيقة والمجاز غير الاستعمال في الصريح إذ
هو فيه مقيد بالكثرة وفي الحقيقة مقيد بالموضوع وفي المجاز
بغير الموضوع, وهو في الكناية غيره في الصريح إذ هو
(1/103)
هاء الغائبة
وسائر ألفاظ الضمير أخذت من قولهم كنيت وكنوت ومنه قول
الشاعر:
وإني لأكنو عن قذور بغيرها ... وأعرب أحيانا بها فأصارح
ـــــــ
فيها مقيد بقصد الاستتار فلا بد حينئذ من قدر مشترك أي
معنى جامع ليستقيم التقسيم وليس ذلك إلا مطلق الاستعمال
فافهم وقال صاحب المفتاح في تعريف الكناية هي ترك التصريح
بذكر الشيء إلى ما يلزمه لينتقل من المذكور إلى المتروك
كما تقول فلان طويل النجاد لينتقل منه إلى ما هو ملزومه,
وهو طول القامة والفرق بين المجاز والكناية من وجهين
أحدهما أن الكناية لا تنافي إرادة الحقيقة بلفظها فلا
يمتنع في قولك فلان طويل النجاد أن تريد طول نجاده من غير
ارتكاب تأويل مع إرادة طول قامته والمجاز ينافي ذلك فلا
يصح في نحو قولك في الحمام أسد أن تريد معنى الأسد من غير
تأويل.
والثاني أن مبنى الكناية على الانتقال من اللازم إلى
الملزوم ومبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم,
وذكر غيره في الفرق بينهما أنه لا بد في المجاز من اتصال
وتناسب بين المحلين وفي الكناية لا حاجة إليه فإن العرب
تكني عن الحبشي بأبي البيضاء وعن الضرير بأبي العيناء ولا
اتصال بينهما بل بينهما تضاد, مثل هاء المغايبة وسائر
ألفاظ الضمير مثل أنا وأنت وغيرها; لأنها لما لم تميز بين
اسم واسم إلا بدلالة أخرى لم تكن صريحة ولما احتملت
التمييز بدلالة استقامت كناية عن الصريح فكانت ألفاظ
الكناية من الصريح بمنزلة المشترك من المفسر من حيث إن
ألفاظ الكناية مما لا يفهم معناها إلا بدلالة أخرى والصريح
اسم لما فهم معناه منه بنفسه, ولا يلزم على قول من زاد قيد
الاستعمال في التعريف أن هذه الألفاظ كنايات بالوضع لا
بالاستعمال فلا تكون داخلة في التعريف; لأنه يقول إنها
إنما وضعت ليستعملها المتكلم بطريق الكناية فإن المتكلم
إذا أراد أن لا يصرح باسم زيد مثلا يكني عنه بهو كما يكني
عنه بأبي فلان لا أنها كنايات قبل الاستعمال فكما أن
الألفاظ الموضوعة لا تكون حقيقة قبل الاستعمال لا يكون هذه
الألفاظ كنايات قبل الاستعمال أيضا فتكون داخلة في التعريف
قوله: "أخذت أي الكناية من قولهم كنيت وكنوت" وقع على مذهب
الكوفيين فإن المصدر مأخوذ من الفعل عندهم والفعل هو الأصل
فأما على مذهب البصريين فالمصدر هو الأصل والفعل مشتق منه.
ثم إن كانت لام الكلمة ياء, وهو المشهور, فهي في الكناية
أصلية كما في النهاية والسقاية; وإن كانت واوا وهي لغة
فيها غير مشهورة; ولهذا استشهد لها دون الياء فهي منقلبة
عن الواو على غير قياس كما انقلبت الواو عنها في جبيت
الخراج
(1/104)
وهذه جملة يأتي
تفسيرها في باب بيان الحكم.
ـــــــ
جباوة والأصل جباية, والكناية لغة أن تتكلم بشيء وتريد به
غيره فهي من الأسماء المقررة, والقذور المرأة التي تجتنب
الأقذار والريب, وأعرب بحجته أي أفصح بها من غير تقية من
أحد, والمصارحة المجاهرة, يعني أني ربما أذكر غيرها
وأريدها خوفا من عشيرتها وإخفاء لمحبتي إياها وربما غلبني
سكر المحبة فأفصح بها من غير تقية من أحد وأذكرها صريحا,
وهذه جملة أي الحقيقة والمجاز والصريح والكناية يأتي
تفسيرها أي تمام تفسيرها
(1/105)
|