كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "الحقيقة
والمجاز"
وتفسير القسم الثالث أن الحقيقة اسم لكل لفظ أريد به ما
وضع له مأخوذ من حق الشيء يحق حقا, فهو حق وحاق وحقيق.
ـــــــ
قوله: "وتفسير القسم الثالث" أي بالنسبة إلى أصل التقسيم,
وفي بعض النسخ الرابع أي بالنسبة إلى القسم المقابل,
الحقيقة كل لفظ أريد به ما وضع له قد ذكرنا أن ذكر كلمة كل
في التعريف مستبعد واعتذرنا عنه. وقوله كل لفظ إشارة إلى
أن الحقيقة من عوارض الألفاظ لا المعاني, وكذا المجاز إذ
المراد من كلمة ما في تعريفه اللفظ أيضا, واعلم أن الحقيقة
ثلاثة أقسام لغوية وشرعية وعرفية والسبب في انقسامها هذا
هو أن الحقيقة لا بد لها من وضع والوضع لا بد له من واضع
فمتى تعين نسبت إليه الحقيقة فقيل لغوية إن كان صاحب وضعها
واضع اللغة كالإنسان المستعمل في الحيوان الناطق وقيل
شرعية إن كان صاحب وضعها الشارع كالصلاة المستعملة في
العبادة المخصوصة ومتى لم يتعين قيل عرفية سواء كان عرفا
عاما كالدابة لذوات الأربع أو خاصا كما لكل طائفة من
الاصطلاحات التي تخصهم كالنقض والقلب والجمع والفرق
للفقهاء والجوهر والعرض والكون للمتكلمين والرفع والنصب
والجر للنحاة, ولا يستراب في انقسام المجاز إلى نحو هذه
الثلاثة فإن الإنسان المستعمل في الناطق مجاز لغوي والصلاة
المستعملة في الدعاء مجاز شرعي; وإن كانت حقيقة لغوية
والدابة المستعملة في كل ما يدب مجاز عرفي; وإن كانت حقيقة
لغوية.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن المراد من الوضع, وهو تعيين اللفظة
بإزاء معنى بنفسها في التعريفين مطلق الوضع فيدخل فيهما
الأقسام الستة ولا بد في تعريف المجاز من قيد, وهو أن يقال
لعلاقة مخصوصة بين المحلين أو نحوه كما ذكر صاحب المختصر
لاتصال بينهما معنى أو ذاتا وإلا ينتقض بما إذا استعمل لفظ
السماء في الأرض, فإنه ليس بمجاز; وإن كان مستعملا في غير
ما وضع له بل هو وضع جديد. ولا يقال تعريف المجاز بما ذكر
مع هذا القيد الذي شرطت غير جامع لخروج التجوز بتخصيص
الاسم ببعض مسمياته في اللغة كتخصيص الدابة بذوات الأربع
عنه إذ ليس هو مستعملا في غير ما وضع له وخروج
(1/96)
والمجاز اسم
لما أريد به غير ما وضع له مفعل من جاز يجوز بمعنى فاعل أي
متعد عن أصله ولا ينال الحقيقة إلا بالسماع ولا تسقط عن
المسمى
ـــــــ
التجوز بزيادة الكاف في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11], عنه لعدم استعمالها في
شيء أصلا وغير مانع لدخول الحقيقة العرفية والشرعية فيه
لكونهما مستعملتين في غير ما وضعتا له والحقيقة من حيث هي
حقيقة لا تكون مجازا لأنا نجيب عن الأول بأن حقيقة المطلق
مخالفة لحقيقة المقيد من حيث هما كذلك وإذا كان لفظ الدابة
حقيقة في مطلق كل دابة فاستعماله في الدابة المقيدة على
الخصوص يكون استعمالا له في غير ما وضع له وعن الثاني بأن
الكاف إذا لم يكن لها معنى كانت مستعملة لا فيما وضعت له
أولا وعن الثالث بأنهما; وإن كانتا حقيقتين بالنسبة إلى
تواضع أهل الشرع والعرف فلا يخرجان بذلك عن كونهما مجازين
بالنسبة إلى استعمالهما في غير ما وضعتا له أولا في اللغة
إذ لا تناقض بين كون اللفظ حقيقة باعتبار ومجازا باعتبار
آخر, واختار بعض الأصوليين في تعريفهما أن الحقيقة ما أفيد
بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الذي وقع التخاطب به وقد
دخل فيه الحقيقة اللغوية والشرعية والعرفية. "والمجاز" ما
أفيد به غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة التي وقع
التخاطب بها لعلاقة بينه وبين الأول وقد دخل فيه المجاز
اللغوي والشرعي والعرفي أيضا ولكن لقائل أن يقول هذا
التعريف يقتضي خروج الاستعارة عنه, وكذا التعريف المذكور
في الكتاب; لأنا إذا قلنا على وجه الاستعارة هذا أسد قدرنا
صيرورته في نفسه أسدا لبلوغه في الشجاعة التي هي خاصة
الأسد إلى الغاية القصوى ثم أطلقنا عليه اسم الأسد فلا
يكون هذا استعمالا للفظ في غير موضوعه, ويجاب عنه أن
تعظيمه بتقدير حصول قوة له مثل قوة الأسد لا يوجب تحقيق
ذلك والتعريف للحقائق فيكون استعمال لفظ الأسد فيه
استعمالا له في غير موضعه حقيقة, وذكر صاحب المفتاح فيه أن
الحقيقة هي الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له من غير
تأويل في الوضع كاستعمال الأسد في الهيكل المخصوص فلفظ
الأسد موضوع له بالتحقيق ولا تأويل فيه, قال; وإنما ذكرت
هذا القيد ليحترز به عن الاستعارة ففي الاستعارة تعد
الكلمة مستعملة فيما هي موضوعة له على أصح القولين ولا
نسميها حقيقة لبناء دعوى المستعار موضوعا للمستعار له على
ضرب من التأويل, قال والمجاز هو الكلمة المستعملة في غير
ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى
نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناها في ذلك النوع,
قال وقولي بالتحقيق احتراز من خروج الاستعارة التي هي من
باب المجاز نظرا إلى دعوى
(1/97)
أبدا والمجاز
ينال بالتأمل في طريقه ليعتبر به ويحتذى بمثاله ومثال
المجاز من الحقيقة مثال القياس من النص.
ـــــــ
استعمالها فيما هي موضوعة له, وقولي مع قرينة مانعة إلى
آخره احتراز عن الكناية فإن الكناية تستعمل وتراد بها
المكنى فتقع مستعملة في غير ما هي موضوعة له مع أنا لا
نسميها مجازا لعرائها عن هذا القيد. واعلم أن فعيلا إذا
كان بمعنى الفاعل يلحقه تاء التأنيث لقرب الفاعل من الفعل
الذي هو الأصل في لحوق تاء التأنيث به وإذا كان بمعنى
المفعول غير جار على موصوف, فكذلك تقول مررت بقتيل بني
فلان وقتيلتهم رفعا للالتباس; وإن كان جاريا على موصوف لا
يلحقه التاء تقول رجل قتيل وامرأة جريح, ثم الحقيقة إما
فعيلة بمعنى فاعل من حق الشيء يحق إذا وجب وثبت وإليه أشار
المصنف, وإما بمعنى مفعول من حققت الشيء أحقه إذا أثبته
فيكون معناها الثابتة أو المثبتة في موضعها الأصلي, والتاء
للتأنيث إذا كانت بالمعنى الأول ولشبه التأنيث, وهو نقل
اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة كالنطيحة والأكيلة
إذا كانت بالمعنى الثاني; لأن النقل ثان كما أن التأنيث
ثان, وقال صاحب المفتاح: هي عندي للتأنيث في الوجهين
بتقدير لفظ الحقيقة قبل التسمية صفة مؤنث غير مجراة على
الموصوف.
والمجاز مفعل بمعنى فاعل من الجواز بمعنى العبور والتعدي;
لأن الكلمة إذا استعملت في غير موضوعها فقد تعدت موضعها,
وهو المراد من قوله متعد من أصله أي عن موضعه الأصلي;
ولهذا قيل إنه حقيقة عرفية في معناه مجاز لغوي; لأن بناء
المفعل للموضع أو للمصدر حقيقة لا للفاعل فإطلاقه على
اللفظ المنتقل لا يكون إلا مجازا; ولأن حقيقة معنى العبور
والتعدي إنما تحصل في انتقال الجسم من حيز إلى حيز فأما في
الألفاظ فلا فثبت أن ذلك إنما يكون على سبيل التشبيه. وكذا
لفظ الحقيقة في مفهومه مجاز لغوي حقيقة عرفية أيضا لما
ذكرنا أنها مأخوذة من الحق, وهو حقيقة في الثابت ثم إنه
نقل إلى العقد المطابق; لأنه أولى بالوجود من العقد الغير
المطابق ثم نقل إلى القول المطابق لعين هذه العلة ثم نقل
إلى استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي إذ استعماله فيه تحقيق
لذلك الوضع فظهر أنه مجاز واقع في الرتبة الثالثة بحسب
اللغة الأصلية كذا قيل, وذكر الغزالي في المستصفى أن لفظة
الحقيقة مشتركة قد يراد بها ذات الشيء وحده ولكن إذا
استعملت في الألفاظ أريد بها ما استعمل في موضوعه فهذا يدل
على أن لفظ الحقيقة في مفهومه حقيقة لغوية أيضا, وهو
الأصح; لأن الحقيقة اسم للثابتة لغة واللفظ المستعمل في
موضوعه ثابت فيه فيكون إطلاق الحقيقة
(1/98)
....................................................
عليه بالحقيقة لا بالمجاز, واعلم أيضا أن اللفظ بعد الوضع
قبل الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز; لأن شرطهما استعمال
اللفظ بعد الوضع أما في موضوعه أو في غير موضوعه للعلاقة
كما بينا وانتفاء المشروط بانتفاء الشرط غني عن البيان,
وإلى ما ذكرنا إشارة في قوله أريد به ما وضع له وأريد به
غير ما وضع له.
قوله: "ولا ينال الحقيقة إلا بالسماع" أي لا يوجد ولا يعرف
كون اللفظ حقيقة فيما استعمل فيه إلا بالسماع من أهل اللغة
أنه موضوع فيما استعمل فيه بخلاف المجاز فإنه يوقف عليه
بالتأمل في طريقه أو معناه لا يمكن أن يستعمل اللفظ في
موضوعه إلا بالسماع من أهل اللغة أنه موضوع فيه بخلاف
المجاز فإنه يمكن أن يستعمل اللفظ في غير موضوعه من غير
سماع أنهم استعملوه فيه. وحاصله أن استعمال اللفظ في
مفهومه الحقيقي لغير الواضع موقوف على السماع بالاتفاق;
لأن دلالات الألفاظ لما لم تكن ذاتية إذ لو كانت ذاتية لما
اختلفت باختلاف الأماكن والأمم ولاهتدى كل إنسان إلى كل
لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم لا بد فيها من
الوضع ولا بد فيه من السماع فأما استعمال اللفظ في معناه
المجازي فلا يفتقر في كل فرد إلى السماع; وإن كان يفتقر في
معرفة طريقه إليه كإطلاق اسم الملزوم على اللازم والسبب
على المسبب والخاص على العام وعكسهما, وهو المراد من قوله
والمجاز ينال بالتأمل في طريقه, وهو مذهب الجمهور, وذهبت
طائفة إلى اشتراط السماع في كل فرد من المجاز محتجين بأن
السماع لو لم يشترط لجاز إطلاق النخلة على طويل غير إنسان
كمنارة مثلا لوجود العلاقة المعتبرة التي هي كافية في جواز
الإطلاق عندكم وهي المشابهة الصورية ولجاز إطلاق الشبكة
على الصيد وإطلاق الابن على الأب وعكسهما للمجاورة
والملازمة وكل ذلك ممتنع; ولأنه لو جاز إطلاق الاسم على
الشيء للعلاقة من غير السمع كإطلاق النخلة على المنارة
مثلا; فإن كان هذا الإطلاق; لأنها أطلقت على الإنسان
للطول, وهو موجود في المنارة لكان هذا قياسا في اللغة, وهو
باطل وإلا كان اختراعا من المطلق وحينئذ لا يكون من لغة
العرب وكلامنا فيها, واحتج الجمهور بأنا نجد أهل العربية
إذا وجدوا بين محلي الحقيقة والمجاز العلاقة المعتبرة
يطلقون الاسم; وإن لم يسمع من العرب استعمال تلك اللفظة
فيه ولو كان السماع شرطا لتوقفوا في الإطلاق على النقل
لاستحالة وجود المشروط بدون الشرط. وبأن الكل اتفقوا على
أن استعمال اللفظ في مفهومه المجازي مفتقر إلى النظر في
العلاقة المعتبرة وما يكون نقليا لا يكون كذلك إذ يكفي في
استعمال اللفظ فيه كونه منقولا عن أهل اللغة كما في جميع
المستعملات فإنا إذا رأيناهم استعملوا لفظا بإزاء معنى
تابعناهم
(1/99)
......................................................
في إطلاقه عليه من غير نظر إلى شيء آخر, والجواب عما ذكروا
من عدم جواز الإطلاقات المذكورة أن وجود العلاقة إنما يكفي
للإطلاق إذا كانت العلاقة معتبرة ولم يكن ثمة مانع وفي
الصورتين الأوليين العلاقة ليست بمعتبرة; لأن مجرد الطول
ليس بمعتبر إذ هو معنى عام ولم يطلق على الإنسان لمجرد
الطول بل له ولغيره من الأوصاف, وكذا لا ملازمة بين الشبكة
والصيد إذ الصيد قد يحصل بدون الشبكة والشبكة قد لا يحصل
بها الصيد وفي الصورة الأخيرة المانع موجود; لأنهما من
المتقابلات وفي مثله لا يعتبر المجاورة. وأما قولهم لو جاز
لكان قياسا أو اختراعا فلا نسلم أنه لو لم يكن قياسا لكان
اختراعا; لأنه إنما يكون كذلك لو لم يكن معلوما من مجاري
كلامهم صحة الإطلاق لكنه ليس كذلك; لأنا قد استقرأنا
كلامهم فعلمنا أن العلاقة مصححة للإطلاق كما في رفع الفاعل
ونصب المفعول وغيرهما من المسائل المعلومة وإلا لزم مما
ذكرتم كون رفع الفاعل فيما لم يسمع عنهم قياسا أو اختراعا
وأنتم لا تقولون به.
وقوله: "ولا تسقط عن المسمى أبدا" من إحدى العلامات الذي
يميز بها الحقيقة عن المجاز ومعناه أن الحقيقة لا ينفي عن
مسماها بحال بخلاف المجاز فإنه يمكن نفيه عن مفهومه في نفس
الأمر; ولهذا لما لم يصح أن ينفي لفظ الأسد عن الهيكل
المخصوص وصح أن ينفي عن الإنسان الشجاع علمنا أنه حقيقة في
الأول مجاز في الثاني وقيل التعريف بهذه العلامة غير مفيد
لاستلزامه الدور وذلك لتوقف النفي وامتناعه على كون اللفظ
مجازا أو حقيقة فإن من تردد في كون اللفظ حقيقة أو مجازا
إنما يصح منه النفي لو علم كونه مجازا ويمتنع منه لو علم
كونه حقيقة فلو توقف كونه حقيقة أو مجازا على صحة النفي
وامتناعه لزم الدور. ولو قيل المراد من صحة النفي وعدم
صحته وجدانه في مجاري استعمالاتهم وعدم وجدانه فيها ليندفع
الدور فهو بعيد; لأن الوجدان إن صلح علامة للمجاز ح فعدم
الوجدان لا يصلح علامة للحقيقة إذ عدم الوجدان لا يدل على
عدم الوجود الذي هو المطلوب فالأولى أن يجعل امتناع النفي
في الحقيقة وصحته في المجاز من الخواص لا من العلامات, بل
المعتبر من العلامات أن اللفظ إذا تبادر مدلوله إلى الفهم
عند الإطلاق بلا قرينة فهو حقيقة; وإن لم يتبادر إليه إلا
بالقرينة فهو مجاز; لأن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام المعنى
للغير اقتصروا على عبارات مخصوصة, وإذا عبروا عنه بعبارات
أخر لم يقتصروا عليها بل ذكروا معها قرينة.
قوله: "ومثال المجاز إلى آخره" يعني كما أن النص لا يعرف
إلا بالتوقيف ولكن يمكن أن يوقف على حكم الفرع من غير
توقيف بسلوك طريقه, وهو التأمل في النص
(1/100)
.........................................................
واستخراج الوصف المؤثر, فإذا وجد ذلك في الفرع يعدى الحكم
إليه, فكذلك الحقيقة لا يمكن أن يثبت في محل إلا بالسماع
من أهل اللغة ولكن المجاز يمكن أن يثبت في محل بالتأمل في
طريقه من غير سماع, وهو التأمل في محل الحقيقة واستخراج
المعنى المشهور اللازم له, فإذا وجد في محل آخر يجوز أن
يستعار اللفظ له فيصح هذا من كل متكلم كما يصح القياس من
كل مجتهد إلا أن المعتبر في القياس المعاني الشرعية وفي
المجاز المعاني اللغوية.
(1/101)
|