كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "المتشابه"
فإذا صار المراد مشتبها على وجه لا طريق لدركه حتى سقط
طلبه ووجب اعتقاد الحقية فيه سمي متشابها بخلاف المجمل فإن
طريق دركه متوهم وطريق درك المشكل قائم فأما
المتشابه فلا طريق
لدركه إلا التسليم فيقتضي اعتقاد الحقية قبل الإصابة, وهذا
معنى قوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل
ـــــــ
منقطع من لا طريق, قبل الإصابة أي قبل يوم القيامة فإن
المتشابهات تنكشف يوم القيامة, وهذا أي ما ذكرنا من تفسير
المتشابه, وهو الذي لا طريق لدركه أصلا قوله: "وعندنا لا
حظ للراسخين إلا التسليم" استثناء متصل من لا حظ أي ليس له
موجب سوى اعتقاد الحقية فيه والتسليم, وعلى بمعنى مع, وهذا
بيان حكم المتشابه, وأن الوقف معطوف على قوله لا حظ, وفي
بعض النسخ وعندنا أن لا حظ, وهو أصح واختلفوا في أن الراسخ
في العلم هل يعلم تأويل المتشابه فذهب عامة السلف من
الصحابة والتابعين رضي الله عنهم إلى أنه لا حظ لأحد في
ذلك; وإنما الواجب فيه التسليم إلى الله تعالى مع اعتقاد
حقية المراد عنده. وهو مذهب عامة متقدمي أهل السنة
والجماعة من أصحابنا وأصحاب الشافعي, وهو مختار المصنف
وإليه أشار بقوله وعندنا, وعلى هذا الوقف على قوله إلا
الله واجب لأنه لو وصل فهم أن الراسخين يعلمون تأويله
فيتغير الكلام, وذهب أكثر المتأخرين إلى أن الراسخ يعلم
تأويل المتشابه وأن الوقف على قوله والراسخون في العلم لا
على ما قبله والواو فيه للعطف لا للاستئناف, وهو مذهب عامة
المعتزلة, قالوا لو لم يكن للراسخ حظ في العلم بالمتشابه
إلا أن يقولوا آمنا به كل من عند ربنا لم يكن لهم فضل على
الجهال; لأنهم يقولون ذلك أيضا, قالوا ولم يزل المفسرون
إلى يومنا هذا يفسرون ويؤولون كل آية ولم نرهم وقفوا عن
شيء من القرآن وقالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله بل
فسروا الكل, وقال ابن عباس رضي الله عنهما أعلم كل القرآن
إلا أربعة: الغسلين والحنان والرقيم والأواه ثم روي عنه
أنه علم ذلك. وروي عنه أنه كان يقول الراسخون في العلم
يعلمون تأويل المتشابه وأنا ممن يعلم تأويله وقد اشتهر عن
الصحابة
(1/88)
عمران: 7]
وعندنا أن لا حظ للراسخين في العلم من المتشابه إلا
التسليم على اعتقاد حقية المراد عند الله تعالى; وإن الوقف
على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا
ـــــــ
تفسير الحروف المقطعة في أوائل السور, ويدل على ما ذكرنا
ما قال مجاهد1 وابن جريج2 والراسخون في العلم يعلمون
تأويله ويقولون آمنا به, وقال القتبي لم ينزل الله تعالى
شيئا من القرآن إلا لينتفع به عباده ويدل على معنى أراده
فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره للزم للطاعن فيه مقال ولزم
منه الخطاب بما لا يفهم ولم يبق فيه فائدة وهل يجوز أن
يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف
المتشابه وإذا جاز أن يعرفه مع قوله: {وَمَا يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} جاز أن يعرف الربانيون من
الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين. وأما العامة
فقالوا الوقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} واجب; لأنه أكد
أولا بالنفي ثم خصص اسم الله بالاستثناء فيقتضي أنه مما لا
يشاركه في علمه سواه فلا يجوز العطف على قوله إلا الله كما
على لا إله إلا الله فقوله والراسخون يكون ثناء مبتدأ من
الله تعالى عليهم بالإيمان والتسليم بأن الكل من عنده لا
عطفا على اسم الله عز وجل كذا ذكر في بعض نسخ أصول الفقه,
والدليل عليه قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن
تأويله إلا عند الله وقراءة أبي وابن عباس في رواية طاوس
عنه ويقول الراسخون. ولأنه تعالى ذم من اتبع المتشابه
ابتغاء التأويل كما ذم على اتباعه له ابتغاء الفتنة بأن
يجريه على الظاهر من غير تأويل ومدح الراسخين بقولهم:
{كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] وبقولهم:
{رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] أي لا
تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ فاتبعوا المتشابه مؤولين أو
غير مؤولين فدل هذا على أن الوقف على قوله: {إِلَّا
اللَّهُ} لازم, وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت تلا
رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية وقال: "إذا رأيتم
الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله
فاحذروهم" 3 أمر بالحذر من غير فصل بين متابع ومتابع
فيتناول الجميع, وروي عنها أيضا أن النبي عليه السلام لم
يفسر من القرآن إلا آيات علمهن جبريل عليه السلام فمن قال
أنا أفسر الجميع فقد تكلف فيه ما لم يتكلفه الرسول عليه
السلام.
ثم قيل لا اختلاف في هذه المسألة في الحقيقة; لأن من قال
بأن الراسخ يعلم تأويله
ـــــــ
1 هو مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج 21 – 104 هـ من
التابعين المفسرين.
2 هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المحدث المفسر أو
مكي رتب الأحاديث ترتيبا موضوعيا ولد سنة 86 – توفي سنة
150 هـ.
3 أخرجه البخاري في التفسير 6/42 ومسلم في العلم رقم 2665
وأبو داود في السنة حديث رقم 4598.
(1/89)
اللَّهُ} [آل
عمران: 7] واجب. وأهل الإيمان على طبقتين في العلم منهم من
يطالب بالإمعان في السير لكونه مبتلى بضرب من الجهل ومنهم
من يطالب بالوقف لكونه مكرما بضرب من العلم فأنزل المتشابه
تحقيقا للابتلاء وهذا
ـــــــ
أراد أنه يعلمه ظاهرا لا حقيقة, ومن قال إنه لا يعلمه أراد
أنه لا يعلمه حقيقة; وإنما ذلك إلى القديم سبحانه وتعالى,
وقيل كل متشابه يمكن رده إلى محكم فإن الراسخ يعلم تأويله
كقوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67],
فهذا متشابه يمكن رده إلى قوله تعالى: {لا يَضِلُّ رَبِّي
وَلا يَنْسَى} [طه: 52], الذي هو محكم لا يحتمل التأويل
فيكون معناه جازاهم النسيان, وهو الترك والإعراض وكل
متشابه لا يمكن رده إلى محكم فالراسخ لا يعلم تأويله كقوله
تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187],
ثم الراسخ في العلم هو الثابت المستقيم الذي لا يتهيأ
استزلاله وتشكيكه, وقيل هو الذي حقق العلم لبسط الفروع
بالاجتهاد حتى رسخ في قلبه. وقيل هو الذي حقق العلم
بالمعرفة والقول بالعمل, وعن النبي صلى الله عليه وسلم,:
"الراسخ من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه وعف بطنه
وفرجه" 1 قوله: "وأهل الإيمان" جواب عما يقال الخطاب
المنزل إما للتعريف أو للتكليف ولا بد فيهما من علم
المخاطب ليمكنه العمل به أو يحصل له المعرفة به, فإذا انسد
باب العلم به أصلا خلا عن الحكمة; لأن من خاطب عبده بشيء
لا يفهمه لا يعد من الحكمة ولم يكن إذ ذاك فرق بينه وبين
أصوات الطيور فبين الحكمة بقوله وأهل الإيمان على طبقتين
أي منزلتين في العلم, منهم من يطالب أي يؤمر, بالإمعان أي
المبالغة في السير أي في الطلب من أمعن الفرس إذا تباعد في
عدوه, لكونه مبتلى بضرب من الجهل إنما قال بضرب ولم يقل
بالجهل; لأنه لا يصح تكليف من لم يعلم شيئا أصلا فأنزل
المحكم والمفسر ونحوهما ابتلاء لمثله, ومنهم من يطالب
بالوقف أي بالوقوف عن الطلب; لأن الوقف يستعمل بمعنى
اللازم; وإن كان متعديا يقال على رأس هذه الآية وقف أي
وقوف أو معناه وقف النفس عن الطلب أي حبسها. فأنزل
المتشابه تحقيقا للابتلاء أي في حقه أو تتميما للابتلاء في
حق الكل وهذا هو المعنى في الابتلاء بإنزال المجمل والمشكل
والخفي فإن الكل لو كان ظاهرا جليا بطل معنى الامتحان ونيل
الثواب بالجهد في الطلب ولو كان الكل مشكلا خفيا لم يعلم
شيء حقيقة فجعل بعضها جليا ظاهرا وبعضها خفيا ليتوسل
بالجلي
ـــــــ
1 أخرج الحديث الديلمي في الفردوس 2/416 وابن جرير وابن
أبي حاتم في الدر المنثور 2/07.
(1/90)
أعظم الوجهين
بلوى وأعمهما نفعا وجدوى وهذا يقابل المحكم ومثاله
ـــــــ
إلى معرفة الخفي بالاجتهاد وإتعاب النفس وإعمال الفكر
فيتبين المجد من المقصر والمجتهد من المفرط فيكون ثوابهم
بقدر اجتهادهم ومراتبهم على قدر علومهم فيظهر فضيلة
الراسخين في العلم لحاجة الناس إلى الرجوع إليهم والاقتداء
بهم ولولا ذلك لاستوت الأقدام ولم يتميز الخاص من العام
ولذهب التفاوت بين الناس ولا يزال الناس بخير ما تفاوتوا,
فإذا استووا هلكوا وقال الله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ
فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}
[الأنعام: 165], ووجه آخر أنه تعالى ابتلى عباده بضروب من
العبادات بعضها على كل البدن كالصلاة ونحوها وبعضها متفرق
على الأعضاء بحسب ما يليق بكل عضو إقداما وامتناعا والقلب
أشرف الأعضاء فابتلاه بإنزال الخفي والمشكل والمتشابه
ليتعب بالتفكر فيما سوى المتشابه فيخرجه على موافقة الظاهر
الجلي ويمتنع عن التفكر في المتشابه معتقدا حقيته فيكون
ذلك عبادة منه كعبادات سائر الأعضاء بالإقدام والامتناع,
وذكر في عين المعاني الحكمة في إنزال المتشابه ابتلاء
العقل; لأن في تكليف الأحكام ابتلاء العاقل وله من تفهم
معانيها وحكمها مفزع إلى العقل فلو لم يبتل العقل الذي هو
أشرف الخلائق لاستمر العالم في أبهة العلم على المرودة,
وما استأنس إلى التذلل لعز العبودة. والحكيم إذا صنف كتابا
ربما أجمل فيه إجمالا وأبهم فيما أفهم منه إشكالا ليكون
موضع جثوة التلميذ لأستاذه انقيادا فلا يحرم باستغنائه
برأيه هداية منه وإرشادا فالمتشابه هو موضع جثوة العقول
لبارئها استسلاما واعترافا بقصورها والتزاما. قوله: "وهذا
أعظم الوجهين بلوى" أي الوقف عن الطلب أعظم ابتلاء من
الإمعان في الطلب; لأن العقل جبل على صفة يتأمل في غوامض
الأشياء ليقف على حقائقها فكان منعه عن ذلك أشد عليه من
حمله على تحصيل ما يميل إليه كما أن الابتلاء بالترك في حق
سائر الجوارح أشد من الابتلاء بالعمل; لأن النفس مائلة إلى
الشهوات فكان امتناعها عنها أشق عليها من الإقدام على
العمل; ولهذا كان ثوابه أجزل كما أشار إليه النبي صلى الله
عليه وسلم بقوله: "لترك ذرة مما نهى الله أفضل من عبادة
الثقلين" ولهذا اختص به الراسخون في العلم; لأن ابتلاء
الرجل على قدر دينه قال عليه السلام: "إن أشد الناس بلاء
الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل" 1, وأعمها نفعا
أي في الدنيا بالأمن من الوقوع في الزيغ والزلل بسبب
الاتباع, وجدوى أي في الآخرة بكثرة الثواب; لأنه لما كان
أعظم ابتلاء كان الصبر فيه أشد
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي 4/601 حديث رقم 2398 وأخرجه ابن ماجه
2/1334 حديث رقم 4023 وأخرجه الإمام أحمد في المسند 1/172
و 174 و185.
(1/91)
المقطعات في
أوائل السور ومثاله إثبات رؤية الله تعالى بالأبصار حقا في
الآخرة بنص القرآن بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
نَاضِرَةٌ*إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22, 23],
لأنه موجود بصفة الكمال وأن يكون مرئيا لنفسه ولغيره من
صفات
ـــــــ
فيكون الثواب فيه أكثر, وبلوى وجدوى كلاهما بلا تنوين
كدعوى ثم الخلف مع كون هذه الطريقة أسلم وأعم نفعا عدلوا
عنها واشتغلوا بتأويل المتشابه لظهور أهل البدع والأهواء
بعد انقراض زمان السلف وتمسكهم بالمتشابهات في إثبات
مذاهبهم الباطلة فاضطر الخلف إلى إلزامهم وإبطال دلائلهم
فاحتاجوا إلى التأويل. ولهذا قيل طريقة السلف أسلم وطريقة
الخلف أحكم قوله: "ومثاله المقطعات" أي مثال المتشابه
الحروف المقطعة أي الحروف التي يجب أن يقطع في التكلم كل
حرف منها عن الباقي بأن يؤتى باسم كل منها على هيئته كقوله
ألف لام ميم بخلاف قوله: "ألم" فإنه يجب أن يوصل بعضها
ببعض ليفيد المعنى وهذه الألفاظ; وإن كان اسما حقيقة لكنها
تسمى حروفا باعتبار مدلولاتها تجوزا, ثم قيل هي من
المتشابهات التي لم يطلع الله عليه الخلائق إلا من شاء
منهم فيجب الإيمان بها ولا يطلب لها التأويل, وقيل هي من
ألسن الملائكة التي تفهم بعضهم من بعض وألسن الطيور
والدواب فيحتمل أن يكون هذا مما لا يطلعنا الله تعالى
ويعرفه الرسول بتعليم الملائكة إياه, وقيل إنها ليست من
المتشابه بل هي من جنس التكلم بالرمز فيحتمل التأويل فيقبل
كل تأويل احتمله ظاهر الكلام لغة ولا يرده الشرع ولا يقبل
تأويلات الباطنية التي خرجت عن الوجوه التي يحتملها ظاهر
اللغة وأكثرها مخالفة للعقل والآيات المحكمة; لأنها ترك
للقرآن لا تأويل كذا في شرح التأويلات, والدليل على أنها
ليست من المتشابهات تأويل بعض السلف مثل ابن عباس وغيره
هذه الحروف من غير رد; وإنكار عليهم من الباقين ولم ينقل
عن أحد منهم تأويل الوجه واليد والاستواء بل كانوا يزجرون
عن ذلك حتى قال مالك بن أنس رحمه الله حين سئل عن قوله
تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5],
الاستواء غير مجهول والكيف منه غير معقول والإيمان به واجب
والشك فيه شرك والسؤال عنه بدعة, ولما كان القول الأول قول
الأكثر اختاره المصنف. ثم قال: "ومثاله إثبات رؤية الله
تعالى" ولم يقل, وكذلك إثبات رؤية الله كما قال, وكذلك
إثبات الوجه واليد فرقا بين ما هو مختلف في كونه متشابها
وبين ما هو متشابه بالاتفاق أو فرقا بين ما تشابه لفظه
وبين ما تشابه معناه. وقوله إثبات رؤية الله أي إثبات
كيفيتها; لأن نفس الرؤية ليست بمتشابهة كذا قيل, والمراد
من الإثبات إثباتها في الاعتقاد لا في نفس الأمر إذ لا
يمكن ذلك; لأنه يؤدي إلى الحدوث بل هي في نفس الأمر ثابتة,
وقوله; لأنه موجود بصفة الكمال إشارة إلى علة جواز الرؤية;
فإنها الوجود
(1/92)
الكمال والمؤمن
لإكرامه بذلك أهل لكن إثبات الجهة ممتنع فصار بوصفه
متشابها فوجب تسليم المتشابه على اعتقاد الحقية فيه وكذلك
إثبات اليد
ـــــــ
عندنا على ما عرف, وقوله وأن يكون مرئيا لنفسه ولغيره من
صفات الكمال; لأن في الشاهد عدم رؤية ما عرف موجودا أمارة
العجز والنقصان; لأن من يتستر عن الناس إنما يتستر لعيب به
ولنقصان حل فيه أو لعجزه عن مقاومة الناس في إيذائهم إياه
والله تعالى غالب على كل شيء, وهو أجمل من كل جميل منزه عن
النقائص والعيوب موصوف بصفات الكمال فيجوز أن يكون مرئيا;
لأنه من صفات الكمال, وقوله والمؤمن لإكرامه بذلك أهل أي
المؤمن أهل لأن يكرم بتلك الكرامة; وإنما قال هذا; لأن
الشيء قد يمتنع لعدم الأهل. وإن كان في نفسه ممكنا فقال
الرؤية ممكنة عقلا والمؤمن أهل لها كما هو أهل لغيرها من
الكرامات التي لم تخطر على قلب بشر وقد ورد بها السمع فيجب
القول بثبوتها, واعلم أن أكثر المعتزلة يقولون بأن الله
تعالى يرى ذاته ولكن لا يرى وطائفة منهم أنكروا أن يرى
ويرى فقوله أن يكون مرئيا لنفسه رد لقول هذه الطائفة
وإشارة إلى الإلزام على الأكثر; لأنه تعالى لما كان يرى
ذاته كانت رؤية ذاته ممكنة في نفس الأمر; لأنه تعالى لا
يوصف بما هو مستحيل ألا ترى أنه جل جلاله لا يوصف بأنه يرى
المعدوم; لأن رؤية المعدوم مستحيلة ولما كانت ممكنة يجوز
أن يراه المؤمنون بلا كيف وجهة كما يرى هو نفسه بلا كيف
وجهة قوله: "لكن إثبات الجهة ممتنع"; لأن من شرط الرؤية في
الشاهد أن يكون المرئي في جهة من الرائي وأن يكون مقابلا
له ومحاذيا ويكون بينهما مسافة مقدرة لا في غاية القرب ولا
في غاية البعد وكل ذلك على الله تعالى محال فصار إثبات
الرؤية بوصفه أي بكيفيته متشابها أي بحيث لا يدرك بالعقل
فنسلم ذلك إلى الله تعالى ولا نشتغل بالتأويل, ومن جوز
التأويل من المحققين المتأخرين قال لا نسلم أن ما ذكروا من
القرائن اللازمة بل هي من الأوصاف الاتفاقية وذلك; لأن
المرئي في الشاهد ذو جهة يتحقق في حقه المقابلة فيرى كذلك
فأما الله تعالى فمنزه عن الجهة والمقابلة والمسافة فيرى
كما هو أيضا; لأن الرؤية تحقق الشيء بالبصر كما هو,
والدليل عليه أن الله تعالى يرانا قال تعالى: {أَلَمْ
يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14], وقد اعترف
بذلك كثير من المعتزلة ورؤية الله تعالى إيانا من غير
مقابلة ولا جهة فعلم أنها ليست من القرائن اللازمة للرؤية;
لأن ما كان من القرائن اللازمة الذاتية لا يتبدل بين
الشاهد والغائب بل هي من الأوصاف الاتفاقية ككون الثاني في
الشاهد محدثا وذا صورة ودم ولحم مع فوات هذه الأوصاف في
الغائب بالاتفاق لكون هذه الأوصاف اتفاقية فعلى هذا لم يبق
التشابه في الوصف أيضا لزواله بالتأويل والله الهادي.
(1/93)
والوجه حق
عندنا معلوم بأصله متشابه بوصفه, ولن يجوز إبطال الأصل
بالعجز عن درك الوصف; وإنما ضلت المعتزلة من هذا الوجه,
فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة.
ـــــــ
قوله: "وكذلك" أي وكإثبات الرؤية إثبات الوجه واليد لله
تعالى حق عندنا فبقوله عندنا احترز عن قول من قال لا يوصف
الله تعالى سبحانه بالوجه واليد بل المراد من الوجه الرضاء
أو الذات ونحوهما ومن اليد القدرة أو النعمة ونحوها فقال
الشيخ: بل الله تعالى يوصف بصفة الوجه واليد مع تنزيهه جل
جلاله عن الصورة والجارحة; لأن الوجه واليد من صفات الكمال
في الشاهد; لأن من لا وجه له أو لا يد يعد ناقصا, وهو
تعالى موصوف بصفات الكمال فيوصف بهما أيضا إلا أن إثبات
الصورة والجارحة مستحيل, وكذا إثبات الكيفية فتشابه وصفه
فيجب تسليمه على اعتقاد الحقية من غير اشتغال بالتأويل,
واعلم أن في أمثال ما ذكرنا يتبع اللفظ الذي ورد به النص
من الكتاب والسنة فلا يشتق منه الاسم ولا يقال: الله تعالى
متوجه إلى فلان بنظر الرحمة أو العناية ولا يبدل بلفظ آخر
لا بالعربية ولا بغيرها فلا يبدل لفظ العين بالباصرة ولا
لفظ القدم بالرجل ولا يقال بالفارسية أيضا: "جثم خداي وروى
خداي ودست خداي" وغير ذلك.
قوله: "ولن يجوز إبطال الأصل" أي لا يجوز الحكم بأن القول
الرؤية والوجه واليد باطل بالعجز عن درك الوصف أي الكيفية
لما فيه من إبطال المتبوع بالتبع والأصل بالفرع وذلك كمن
رأى شخصا على شط نهر عظيم لا يتصور العبور منه بدون سفينة
وملاح ثم رأى ذلك الشخص في الجانب الآخر من غير أن يشاهد
سفينة وملاحا لا يمكنه أن ينكر عبوره من النهر; وإن لم
يدرك كيفية العبور, فكذا فيما نحن فيه لما ثبت بالدلائل
القاطعة جواز الرؤية وصفة الوجه واليد لله سبحانه لا يجوز
إنكارها بالعجز عن درك أوصافها والجهل بطريق ثبوتها, فإنهم
ردوا الأصول يجوز أن يكون معناه ردوا أصل الرؤية والوجه
واليد لجهلهم بالصفات اللام في الصفات بدل المضاف إليه أي
بكيفياتها. ويجوز أن يكون معناه ردوا الأصول أي الصفات جمع
بأن قالوا ليس له صفة العلم والقدرة والحياة وغيرها لجهلهم
بالصفات أي بكيفية ثبوتها بأن اشتبه عليهم طريقه وذلك; لأن
الصانع القديم واحد لا شريك له والصفات لو ثبتت لكانت غير
الذات لا محالة; لأن الصفة إذا لم تكن هي الذات فهي غير
الذات لا محالة كزيد لما لم يكن عمرا كان غير عمر ولا
محالة والقول بإثبات الأشياء المتغايرة في الأزل مناف
للتوحيد ومن هذا سموا أنفسهم أهل التوحيد ولم يعلموا أنهم
أبطلوا توحيدهم بتوحيدهم, ويدل على هذا الوجه قوله فصاروا
(1/94)
.........................................................
معطلة أي فرقة معطلة أي قائلة بخلو الذات عن الصفات,
والتعطيل في الأصل نزع الحلي من امرأة مأخوذ من عطلت
المرأة عطلا إذا خلا جيدها من القلائد إلا أنه يستعمل في
التخلية عن الصفات; لأنها بمنزلة الزينة ولهذا يقال حليته
كذا أي هيئته التي هي صفته; لأن تزينه بها, ويجوز أن يكون
مأخوذا من العطلة أي عطلوا النصوص وتركوها بلا عمل فصاروا
معطلة لها.
(1/95)
|