كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية

"المشكل".
ثم المشكل, وهو الداخل في إشكاله وأمثاله مثل قولهم أحرم أي دخل في الحرم وأشتى أي دخل في الشتاء وهذا فوق الأول لا ينال بالطلب بل بالتأمل بعد الطلب ليتميز عن إشكاله, وهذا لغموض في المعنى أو لاستعارة بديعة
ـــــــ
"قوله ثم المشكل", في ثم إشارة إلى تباعد رتبة المشكل في الخفاء عن الخفي; لأنه في أدنى درجات الخفاء وفوق المشكل. "وقوله, وهو الداخل في إشكاله" إشارة إلى مأخذه قال شمس الأئمة: المشكل مأخوذ من قولهم أشكل على كذا أي دخل في أشكاله وأمثاله, وهو اسم لما يشتبه المراد منه بدخوله في أشكاله على وجه لا يعرف المراد إلا بدليل يتميز به من بين سائر الأشكال. وقال القاضي الإمام: هو الذي أشكل على السامع طريق الوصول إلى المعاني لدقة المعنى في نفسه لا بعارض فكان خفاؤه فوق الذي كان بعارض حتى كاد المشكل يلتحق بالمجمل وكثير من العلماء لا يهتدون إلى الفرق بينهما. قوله: "وهذا لغموض في المعنى" أي الإشكال إنما يقع لغموض في المعنى, قيل نظيره قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6], فإنه مشكل في حق الفم والأنف; لأنه أمر بغسل جميع البدن والباطن خارج منه بالإجماع للتعذر فبقي الظاهر مرادا وللفم والأنف شبه بالظاهر حقيقة وحكما وشبه بالباطن كذلك على ما عرف فأشكل أمرهما باعتبار هذين الشبهين فبعد الطلب ألحقناهما بالظاهر احتياطا ثم وجدنا داخل العين خارجا من الوجوب مع أن له شبها بالظاهر وشبها بالباطن حقيقة وحكما أما حقيقة فظاهر وأما حكما; فلأن الماء لو دخل عين الصائم أو اكتحل لا يفسد صومه ولو خرج دم من قرحة في عينه ولم يخرج من العين لا يفسد وضوءه وأن يجاوز عن القرحة فتأملنا فيه فوجدناه خارجا للتعذر كالباطن; لأن إيصال الماء إلى داخل العين سبب للعمى, وليس في إيصاله إلى داخل الفم والأنف حرج فبقي داخلا تحت الوجوب هذا هو معنى التأمل بعد الطلب, قلت هذا معنى فقهي لطيف إلا أن ما ذكروه لا يصلح نظيرا للمشكل; لأن المشكل ما كان في نفسه اشتباه, وليس ما ذكروه كذلك; لأن معنى التطهر لغة وشرعا معلوم, ولكنه اشتبه بالنسبة إلى الفم والأنف كاشتباه لفظ السارق بالنسبة إلى الطرار والنباش فكان من نظائر الخفي لا من نظائر المشكل, وذكر شمس الأئمة الكردري رحمه

(1/83)


وذلك يسمى غريبا مثل رجل اغترب عن وطنه فاختلط بأشكاله من الناس فصار خفيا بمعنى زائد على الأول.
ـــــــ
الله أن من نظائره قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3]. ولا بد من أن توجد ليلة القدر في كل اثني عشر شهرا فيؤدي إلى تفضيل الشيء على نفسه بثلاث وثمانين مرة فكان مشكلا فبعد التأمل عرف أن المراد ألف شهر ليس فيها ليلة القدر لا ألف شهر على الولاء; ولهذا لم يقل خير من أربعة أشهر وثلاث وثمانين سنة; لأنها توجد في كل سنة لا محالة فيؤدي إلى ما ذكرنا قلت ومثله قوله صلى الله تعالى عليه وسلم: "من قرأ يس يريد بها وجه الله غفر الله له وأعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة" 1 وفي رواية "من قرأ سورة يس كان كمن قرأ القرآن عشر مرات" 2 ففيه تفضيل الشيء على نفسه أيضا فبعد التأمل عرف أن معناه فكأنما قرأ القرآن عشر مرات أو اثنتين وعشرين مرة بدونها لا معها, ومن نظائره قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223], اشتبه معناه على السامع أنه بمعنى كيف أو بمعنى أين فعرف بعد الطلب والتأمل أنه بمعنى كيف بقرينة الحرث وبدلالة حرمة القربان في الأذى العارض, وهو الحيض ففي الأذى اللازم أولى. وأما نظير الاستعارة البديعة فقوله تعالى: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الانسان: 16], فالقوارير لا يكون من الفضة وما كان من الفضة لا يكون قوارير ولكن للفضة صفة كمال, وهي نفاسة جوهره وبياض لونه وصفة نقصان وهي أنها لا تصفو ولا تشف وللقارورة صفة كمال أيضا. وهي الصفاء والشفيف وصفة نقصان, وهي خساسة الجوهر فعرف بعد التأمل أن المراد من كل واحد صفة كماله وأن معناه أنها مخلوقة من فضة, وهي مع بياض الفضة في صفاء القوارير وشفيفها. وقوله عز اسمه: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:13], فللصب دوام ولا يكون له شدة وللسوط عكسه فاستعير الصب للدوام والسوط للشدة أي أنزل عليهم عذابا شديدا دائما, وقيل ذكر الصب إشارة إلى أنه من السماء أي من عند الله وذكر السوط إشارة إلى أن ما أحل بهم في الدنيا من العذاب العظيم بالقياس إلى ما أعد لهم في الآخرة كالسوط إذا قيس إلى سائر ما يعذب به. وقوله جل ذكره: { فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112], فاللباس لا يذاق ولكنه يشمل الظاهر ولا أثر له في الباطن والإذاقة أثرها في الباطن ولا شمول لها فاستعيرت الإذاقة لما يصل من أثر الضرر إلى
ـــــــ
1 أخرجه الزمخشري في الكشاف 3/295.
2 أخرجه البيهقي في الجامع الضغير 6/200 وسويد بن إبراهيم البصري العطار أبو حاتم.

(1/84)


.....................................................
الباطن واللباس بالشمول فكأنه قيل فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف أي أثرهما واصل إلى بواطنهم مع كونه شاملا لهم, وبيان النظائر الثلاثة منقول من العلامة شمس الأئمة الكردري رحمه الله.
واعلم أن معنى الطلب والتأمل أن ينظر أولا في مفهومات اللفظ جميعا فيضبطها ثم يتأمل في استخراج المراد منها كما إذا نظر في كلمة "أنى" فوجدها مشتركة بين معنيين لا ثالث لهما فهذا هو الطلب ثم تأمل فيهما فوجدها بمعنى كيف في هذا الموقع دون أين فحصل المقصود وكما إذا نظر في قوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3], فوجده دالا على مفهومين أحدهما أن يكون خيرا من ألف شهر متوالية والثاني أن يكون خيرا من ألف شهر غير متوالية ولا ثالث لهما ثم تأمل فيهما فوجده بالمعنى الثاني لفساد في المعنى الأول فظهر المراد وقس عليه الباقي.

(1/85)


"المجمل"
ثم المجمل, وهو ما ازدحمت فيه المعاني واشتبه المراد اشتباها لا يدرك بنفس العبارة بل بالرجوع إلى الاستفسار ثم الطلب ثم التأمل, وذلك مثل قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة: 275] فإنه لا يدرك بمعاني اللغة بحال, وكذلك
ـــــــ
قوله: "ثم المجمل" أي بعد المشكل المجمل ومعناه فوقه; لأنه لما بدأ ببيان أدنى درجات الخفاء أولا كان كل ما بعده أعلى رتبة منه في الخفاء, ما ازدحمت فيه المعاني أي تدافعت يعني يدفع كل واحد سواه لا أنه شمل معاني كثيرة, وقوله المعاني, ليس بشرط لصيرورته مجملا; لأن اللفظ المشترك بين معنيين قد يصير مجملا إذا انسد فيه باب الترجيح كما مر, والمراد من المعنى ههنا مفهوم اللفظ, والأولى أن يقال المراد من ازدحام المعاني تواردها على اللفظ من غير رجحان لأحدهما على الباقي كما في المشترك في أصل الوضع إلا أن التوارد ههنا أعم منه في المشترك; لأنه في المشترك باعتبار الوضع فقط وههنا باعتباره وباعتبار غرابة اللفظ وتوحشه من غير اشتراك فيه وباعتبار إبهام المتكلم الكلام وهذا لأن المجمل أنواع ثلاثة نوع لا يفهم معناه لغة كالهلوع قبل التفسير ونوع معناه مفهوم لغة ولكنه ليس بمراد كالربا والصلاة والزكاة ونوع معناه معلوم لغة إلا أنه متعدد والمراد واحد منها ولم يمكن تعيينه لانسداد باب الترجيح فيه كما مر ففي القسم الأخير توارد المعنى باعتبار الوضع وفي القسمين الأولين باعتبار غرابة اللفظ وإبهام التكلم, وقيل قوله ما ازدحمت فيه المعاني زائد في التحديد إذ يكفيه أن يقول هو ما اشتبه المراد اشتباها لا يدرك إلا بالاستفسار كما قال شمس الأئمة هو لفظ لا يفهم المراد منه إلا بالاستفسار المجمل, وقال القاضي الإمام: هو الذي لا يعقل معناه أصلا ولكنه احتمل البيان. وقال آخر هو ما لا يمكن العمل به ببيان يقترن به, قلت لما حصل المقصود, وهو فهم المعنى لا ضير في ترك التكلف وبيان سبب الاشتباه.
واعلم أن البيان اللاحق بالمجمل قد يكون بيانا شافيا, ويصير المجمل به مفسرا كبيان الصلاة والزكاة, وقد يكون غير شاف ويصير المجمل به مؤولا كبيان الربا بالحديث الوارد في الأشياء الستة; ولهذا قال عمر: رضي الله تعالى عنه خرج النبي عليه السلام من الدنيا ولم يبين لنا أبواب الربا, وهذا النوع من البيان قد يحتاج فيه إلى الطلب والتأمل; لأن

(1/86)


الصلاة والزكاة, وهو مأخوذ من الجملة, وهو كرجل اغترب عن وطنه بوجه انقطع به أثره والمشكل يقابل النص والمجمل يقابل المفسر.
ـــــــ
المجمل بمثل هذا البيان يخرج عن حيز الإجمال إلى حيز الإشكال بخلاف الأول, وإلى ما ذكرنا أشار القاضي الإمام أبو زيد رحمه الله في التقويم بقوله ثم بعد البيان يلزمه ما يلزم بالمفسر أو الظاهر على حسب اقتران البيان به, فالشيخ لما أراد توضيح الفرق بينه وبين المشكل قال لا بد فيه من الاستفسار أولا ثم قد يحتاج فيه إلى ما يحتاج إليه في المشكل, وهو الطلب والتأمل. ولهذا قدم نظير المجمل الذي يحتاج إلى الطلب والتأمل بعد البيان, وهو الربا على المجمل الذي لم يحتج إلى أمر آخر بعد البيان كالصلاة والزكاة, وبيان ما قلنا أنه يصير مشكلا بعد البيان أن الربا مع إجماله اسم جنس محلى باللام فيستغرق جميع أنواعه والنبي عليه السلام بين الحكم في الأشياء الستة من غير قصر عليها بالإجماع فبقي الحكم فيما وراء السنة غير معلوم كما كان قبل البيان فينبغي أن يكون مجملا فيما سواها إلا أنه لما احتمل أن يوقف على ما وراءها بالتأمل في هذا البيان نسميه مشكلا فيه لا مجملا, وبعد الإدراك بالتأمل والوقوف على المعنى المؤثر صار مؤولا فيه أيضا فصار تقدير الكلام لا بد من الرجوع إلى الاستفسار في كل أنواعه ثم الطلب والتأمل في البعض, قيل معنى الطلب طلب المعنى المؤثر والتأمل هو التأمل في صلاحه للتعدية والأظهر أن المراد هو الطلب والتأمل في اللفظ لإزالة الخفاء كما في المشكل; لأن الطلب والتأمل كما ذكروا لا يختصان بالمجمل بل يكونان في المفسر والنص أيضا.
قوله: "لا يدرك بمعاني اللغة بحال", فإن مطلق الزيادة التي يدل عليه لفظ الربا, وكذا الدعاء والنماء اللذان يدل عليهما لفظا الصلاة والزكاة لم يبقيا مرادين بيقين ونقلت هذه الألفاظ إلى معان أخر شرعية أما مع رعاية المعنى اللغوي, أو بدونها فلا يوقف عليه إلا بالتوقيف كما في الوضع الأول, انقطع به أي بالاغتراب أثره, فلا يوقف عليه إلا بعد الاستفسار. وذكر في نسخة وأنه على مثال رجل غاب عن بلدته ودخل بلدة أخرى لا يعرفه أهل تلك البلدة بالتأمل فيه بل بالرجوع إلى أهل بلدته حتى لو شهد لا يحل للقاضي أن يقضي بشهادته ولا للمزكي أن يعدله إلا بالرجوع إلى أهل بلدته لتعرف حاله.
فإن طريق دركه متوهم أي مرجو من جهة المجمل وطريق درك المشكل قائم أي ثابت بدون بيان يلتحق به بل يعرف بالتأمل في مواضع اللغة. قوله: "إلا التسليم" استثناء

(1/87)