كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي ط العلمية "باب"
يلقب ببيان صفة حكم الأمر وذلك نوعان: أداء وقضاء والأداء:
ثلاثة أنواع: أداء كامل محض وأداء قاصر محض وما هو شبيه
بالقضاء والقضاء أنواع ثلاثة: نوع بمثل معقول ونوع بمثل
غير معقول ونوع بمعنى الأداء, وهذه الأقسام تدخل في حقوق
الله تعالى وتدخل في حقوق العباد أيضا.
والأداء اسم لتسليم نفس الواجب بالأمر والقضاء اسم لتسليم
مثل
ـــــــ
"باب يلقب ببيان صفة حكم الأمر"
وذلك أي حكم الأمر, وقوله كامل وقاصر تقسيم للأداء المحض,
بمثل معقول أي مماثلته مدرك بالعقل, وبمثل غير معقول أي
غير مدرك بعقولنا لا أنه خلاف العقل إذ العقل حجة من حجج
الله تعالى ولا تناقض في حججه فيستحيل أن يرد الشرع بخلاف
العقل كذا قيل. قوله: "والأداء اسم لتسليم نفس الواجب" أي
عينه, بالأمر الباء للسببية, وهي تتعلق بالواجب لا
بالتسليم على ما زعم بعضهم أي الواجب بسبب الأمر, وإضافة
الواجب إلى الأمر توسع; لأن الوجوب بالسبب ووجوب الأداء
بالأمر على ما يعرف بعد إلا أن السبب لما علم بالأمر أضيف
الوجوب إليه, وهذا التعريف يشمل تسليم المؤقت في وقته
كالصلاة والصوم وتسليم غير المؤقت كالزكاة.
"فإن قيل" كيف يمكن تسليم عين الواجب, وهو وصف في الذمة لا
يقبل التصرف من العبد; ولهذا قيل الديون تقضى بأمثالها لا
بأعيانها.
"قلنا" لما شغل الشرع الذمة بالواجب ثم أمر بتفريغها أخذ
ما يحصل به فراغ الذمة حكم ذلك الواجب كأنه عينه, أو يقال
الواجب بالأمر غير الواجب بالسبب إذ الواجب بالأمر فعل
الصلاة أو إيتاء ربع العشر الذي به يحصل فراغ الذمة مثلا,
وهو ممكن التسليم فأما الوصف الشاغل للذمة فحاصل بالسبب لا
بالأمر فعلى هذا لا يكون إضافة الواجب إلى الأمر في
التعريف على سبيل التوسع بل يكون بطريق الحقيقة كذا قيل.
قوله: "والقضاء اسم لتسليم مثل الواجب به" أي بالأمر ولم
يذكر الشيخ مثل
(1/201)
الواجب به كمن
غصب شيئا لزمه تسليم عينه ورده فيصير به مؤديا وإذا هلك
لزمه ضمانه فيصير به قاضيا وقد يدخل في الأداء قسم آخر وهو
النفل على قول من جعل الأمر حقيقة في الإباحة والندب.
فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف قال الله تعالى: {إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
ـــــــ
الواجب من عنده كما ذكره شمس الأئمة فقال القضاء إسقاط
الواجب بمثل من عند المأمور هو حقه, وكذا ذكره القاضي
الإمام أيضا. ولا بد منه إذ لو لم يكن من عند المأمور لا
يكون قضاء; وإن كان مثلا للواجب فإن من صرف دراهم الغير
إلى دينه لا يكون قضاء وللمالك أن يستردها من رب الدين,
وكذا لو صرف العصر إلى الظهر أو ظهر اليوم إلى ظهر الأمس
بأن نوى أن يكون هذا الظهر قضاء عن الفائت لا يصح; وإن
كانت المماثلة بينه وبين الفائت أقوى منها بين النفل
والفائت بكونها ثابتة بين الظهر والظهر ذاتا ووصفا وبين
النفل والظهر ذاتا لا وصفا; لأن ذلك ليس من عنده ألا ترى
كيف أكده شمس الأئمة رحمه الله بقوله هو حقه احترازا عن
الوديعة ولهذا اختير في المنتخب ما ذكره شمس الأئمة رحمه
الله.
قوله: "وقد يدخل في الأداء قسم آخر" أي يزاد عليه قسم آخر
على قول من جعل الأمر حقيقة في الندب فيصير الأداء عنده
قسمين تسليم عين الواجب كما ذكرنا وتسليم عين المندوب
إليه, قال القاضي الإمام في التقويم الأداء نوعان: واجب
كالفرض في وقته وغير واجب كالنفل وكذا ذكر الشيخ في شرح
التقويم أيضا فقال الأداء على نوعين: واجب ونفل وكلاهما
موجب الأمر, وعلى قول من جعله حقيقة في الإباحة أيضا ينبغي
أن ينقسم الأداء ثلاثة أقسام تسليم الواجب وتسليم المندوب
وتسليم المباح إذ الكل موجب للآمر عنده وقد ذكرنا أن هذا
قول خارج عن الإجماع, والتعريف الشامل للقسمين على القول
الأول هو ما ذكره القاضي الإمام الأداء اسم لفعل ما طلب من
العمل بعينه. وإن جعل الواجب بمعنى الثابت في التعريف
المذكور في الكتاب فهو يشمل القسمين أيضا, والشامل للأقسام
الثلاثة على القول الآخر هو ما يقال الأداء تسليم عين ما
أمر به, قال الإمام بدر الدين: رحمه الله إنما ذكر هذا
يعني قوله يدخل في الأداء قسم آخر احتراز عما يقال ما
ذكرتم من تفسير الأداء ينتقض بقولهم أدى النفل, وهو ليس
بتسليم الواجب بالأمر فلا يكون التعريف جامعا يقال هذا قسم
آخر وما ذكرنا قسم آخر إذ نحن في تفسير الأداء الذي هو
موجب الأمر فلا يرد ذلك نقضا علينا.
قوله: "فأما القضاء فلا يحتمل هذا الوصف", وهو دخول النفل
فيه; لأن القضاء مبني
(1/202)
تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وقد يدخل
إحدى العبارتين في قسم
ـــــــ
على كون المتروك مضمونا والنفل لا يضمن بالترك. وأما إذا
شرع في النفل ثم أفسده فإنما يجب القضاء; لأنه بالشروع صار
ملحقا بالواجب لا; لأنه نفل كما قبل الشروع.
قوله: قال الله تعالى متصل, بقوله الأداء تسليم نفس الواجب
واستشهاد على أنه مستعمل في تسليم العين; لأن الآية نزلت
في تسليم مفتاح الكعبة, وذلك أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لما فتح مكة طلب المفتاح فقيل له إنه مع عثمان بن
طلحة وكان يلي سدانة الكعبة فوجه إليه عليا رضي الله عنه
فأبى أن يدفعه إليه وقال لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه
المفتاح فلوى علي رضي الله عنه يده وأخذه منه قسرا حتى دخل
رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى فيه فلما خرج قال
له العباس اجمع لي السدانة مع السقاية وسأله أن يعطيه
المفتاح فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه برده إليه فرده إليه
وألطف له في القول واعتذر إليه فقال لعلي رضي الله عنه
أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق قال; لأن الله تعالى أنزل في شأنك
قرآنا وأمرنا برده عليك, وقرأ هذه الآية فأتى النبي عليه
السلام وأسلم ثم إنه هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة فهو
في ولده إلى اليوم.
وأمانة في الأصل مصدر سمي به الشيء الذي يؤتمن عليه, ثم
الآية عامة في كل أمانة كما قال ابن مسعود رضي الله عنه
الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والصوم والزكاة
والجنابة وفي الكيل والوزن وأعظم من ذلك الودائع. وذكر في
عين المعاني قد دخل في هذا الأمر أداء الفرائض التي هي
أمانة الله تعالى التي حملها الإنسان وحفظ الحواس التي هي
ودائع الله جل جلاله ثم الواجب في ذمة العبد بمنزلة عين
مودعة عنده, فإذا أداه في وقته مراعيا حقه بأقصى الإمكان
كان أداء بمنزلة تسليم عين الوديعة وإذ قصر في رعايته كان
بمنزلة الخيانة في الأمانة فكان قضاء إذ الخيانة في
الأمانة يوجب الضمان وأداء الضمان قضاء حقيقة لا أداء كذا
في بعض الشروع.
واعلم أن عامة الأصوليين قسموا الواجب إلى أداء وقضاء
وإعادة, ثم من لم يجعل الأمر حقيقة في الندب فسر الأقسام
فقال: الأداء تسليم عين الواجب في وقته المعين أي المقدر
شرعا والقضاء تسليم مثل الواجب في غير وقته المعين شرعا,
والإعادة إتيان مثل الأول على صفة الكمال بأن وجب على
المكلف فعل موصوف بصفة فأداه على وجه النقصان وهو نقصان
فاحش يجب عليه الإعادة, وهي إتيان مثل الأول ذاتا مع صفة
الكمال كذا ذكر في الميزان, فعلى هذا إذا فعل ثانيا في
الوقت أو خارج الوقت يكون إعادة, وعبارة بعضهم الواجب إذا
فعل في وقته ويسمى أداء وإذا فعل بعد خروج وقته المضيق أو
الموسع يسمى قضاء; وإن فعل مرة على نوع من الخلل ثم فعل
ثانيا في وقته
(1/203)
.......................................................
المضروب له يسمى إعادة فالإعادة اسم لمثل ما فعل مع ضرب من
الخلل والقضاء اسم لفعل مثل ما فات وقته المحدود فشرط
الوقت في الإعادة فلا يكون إتيانه بعد الوقت إعادة.
ومن جعل الأمر حقيقة في الندب قال الأداء ما فعل أولا في
وقته المقدر شرعا والقضاء ما فعل بعد وقت مقدر استدراكا
لما سبق له وجوب والإعادة ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل
في الأول, فقوله ما فعل يتناول الفرائض والنوافل, وقوله.
أولا احتراز عن الإعادة. وقوله في وقته المقدر احتراز عن
القضاء, وقوله في تعريف القضاء استدراكا احترازا عما إذا
فعل لا بقصد الاستدراك وقوله لما سبق له وجوب احتراز عن
النوافل, وقوله في تفسير الإعادة.
ثانيا احتراز عن الأداء, وقوله لخلل أي لفوات شرط سواء كان
مفسدا أو لم يكن احتراز عن صلاة من صلى بجماعة بعد أن
صلاها منفردا على وجه الصحة, فإنها لا تسمى إعادة, ثم
التعريف الذي ذكره الشيخ للأداء أحسن مما قالوا; لأنه جامع
يشمل المؤقت وغيره على ما ذكرنا وما ذكروه لا يشمل غير
المؤقت كالزكاة والكفارات والنذور المطلقة ثم فعل غير
المؤقت إن كان أداء عندهم فلا يكون الحد الذي ذكروه جامعا
فيكون فاسدا بالاتفاق; وإن لم يكن كذلك بل كان الأداء
مختصا بالمؤقت كالقضاء فالحد صحيح عندهم فاسد عندنا; لأنا
لا نسلم لهم أن الأداء مختص بالوقت; لأن فعل غير المؤقت
يسمى أداء شرعا وعرفا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا} [النساء: 58], وقال عليه السلام: "أدوا عمن
تمونون" و "أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع" 1 الحديث وكل ذلك
ليس مؤقتا بوقت مقدور ويقال أدى زكاة ماله بعد سنين وأدى
طعام الكفارة كما يقال أدى الصوم والصلاة وقد نص الشيخ
عليه في هذا الباب فقال والأداء في العبادات إلى آخره وإذا
ثبت أنه أداء كان الحد الذي ذكروه فاسدا لعدم انعكاسه.
وإنما لم يذكر الشيخ الإعادة في تقسيم الواجب; لأنها إن
كانت واجبة بأن وقع الفعل الأول فاسدا بأن ترك القراءة أو
ركنا آخر من الصلاة مثلا فهي داخلة في الأداء أو القضاء;
لأن الفعل الأول لما فسد أخذ حكم العدم شرعا ويكون
الاعتبار للثاني فيكون أداء إن وقع في الوقت وقضاء إن وقع
خارج الوقت; وإن لم تكن واجبة بأن وقع الفعل الأول
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/432 وأبو داود حديث رقم
1619 – 1620.
(1/204)
العبارة الأخرى
فسمى الأداء قضاء; لأن القضاء لفظ متسع وقد يستعمل الأداء
ـــــــ
ناقصا لا فاسدا بأن ترك مثلا في الصلاة شيئا يجب بتركه
سجدة السهو فلا تكون داخلة في هذا التقسيم; لأنه تقسيم
الواجب بالأمر, وهي ليست بواجبة; ولهذا وقع الفعل الأول عن
الواجب دون الثاني والثاني بمنزلة الخبر بسجود السهو, وهذا
بناء على أن المأمور إذا أتى بالمأمور به على وجه الكراهة
أو الحرمة يخرج عن العهدة على القول الأصح كالحاج إذا طاف
محدثا خلافا لهم.
واعلم أيضا أنهم اتفقوا على أن وجوب الفعل إذا تقرر ولم
يفعل في وقته المقدر وفعل بعده أنه يكون قضاء حقيقة سواء
تركه في وقته عمدا أو سهوا ولكنهم اختلفوا فيما انعقد بسبب
وجوبه وتأخر وجوب أدائه لمانع سواء كان المكلف قادرا على
الإتيان به كالصوم في حق المريض والمسافر أو غير قادر عليه
إما شرعا كالصوم في حق الحائض وإما عقلا كالصلاة في حق
النائم والمغمى عليه, فقال بعض أصحاب الحديث: إنه يسمى
قضاء مجازا, وهو في الحقيقة فرض مبتدأ; لأن القضاء الحقيقي
مبني على وجوب الأداء, وهو ساقط عن هؤلاء بالاتفاق وكيف
يقال بوجوب أداء الصوم على الحائض ولا سبيل لها إلى الأداء
ولا إلى إزالة المانع من الأداء بخلاف الحدث فإنه يمكن
إزالته, وكذلك المغمى عليه والنائم لكنه سمي قضاء مجازا;
لأن من شرط هذا الفرض فوات الأول فلفوات إيجابه في الوقت
سمي قضاء, وقال عامة الفقهاء من أصحابنا وأصحاب الشافعي
إنه قضاء حقيقة; لأن حقيقته ما فعل بعد وقت الأداء
استدراكا لمصلحة ما انعقد سبب وجوبه وقد انعقد في حق هؤلاء
فيكون هذا حقيقة. والدليل عليه أنه يجب عليهم نية قضاء
الفائت بالإجماع, ولو كان فرضا مبتدأ لما وجبت وليس من
شرطه وجوب الأداء حقيقة بل تصور ذلك كاف; وإن كان بعيدا
كتصور وجوب الطهارة بالماء في موضع لا ماء فيه لصحة نقل
الحكم إلى التراب وقد تصور زوال هذه الأعذار في الوقت
وإيجاب الأداء بعده فيكون هذا القدر كافيا في نقل الحكم
إلى القضاء بشرط أن لا يكون مؤديا إلى الحرج, وهذا كالمحدث
إذا ضاق به وقت الصلاة لا يتأتى له الأداء ووجوب الأداء
يلاقيه وكذلك من لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا لا يتصور منه
الأداء ولا التسبيب إليه, ومع ذلك صح الوجوب عليه والسكران
يلاقيه وجوب الصلاة وهو ممنوع من أدائها, وذكر في الميزان
في هذه المسألة, وليس من شرط القضاء وجوب الأداء في حق من
عليه ولكن الشرط وجوب الأداء في الجملة لعموم دليله وفواته
عن الوقت في حقه مع إدراك وقت القضاء وانتفاء الحرج عنه
على ما عرف من مسألة المجنون والله أعلم.
قوله: "فسمي الأداء قضاء" كما في قوله تعالى: {فَإِذَا
قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ}
(1/205)
في القضاء
مقيدا; لأن للأداء خصوصا بتسليم نفس الواجب وعينه; لأن
مرجع العبارة إلى الاستقصاء وشدة الرعاية كما قيل في
الثلاثي منه:
"الذئب يأد للغزال بأكله"
ـــــــ
[البقرة: 200] أي أديتم وأتممتم أمور الحج, وقوله عز اسمه:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ} [الجمعة: 10] أي أديت وفرغ
منها; لأن المراد منها الجمعة وأنها لا تقضى, ورأيت في
نسخة من أصول الفقه أن الواجب الأصلي في يوم الجمعة هو
الظهر لقول عائشة رضي الله عنها إنما قصرت الصلاة لمكان
الخطبة إلا أن الجمعة أقيمت مقامها مع القدرة على أدائها
لنوع حاجة فكان اسم القضاء لها حقيقة من هذا الوجه.
قوله: "لأن القضاء لفظ متسع" بالكسر أي عام يجوز إطلاقه
على تسليم عين الواجب ومثله; لأن معناه الإسقاط والإتمام
والإحكام وهذه المعاني موجودة في تسليم عين الواجب كما هي
موجودة في تسليم مثله فيجوز إطلاقه على الأداء بطريق
الحقيقة لعموم معناه كإطلاق الحيوان على الإنسان والفرس
والأسد وغيرها إلا أنه لما اختص بتسليم المثل عرفا أو شرعا
كان في غيره مجازا فكان إطلاقه على الأداء حقيقة لغوية
مجازا عرفيا أو شرعيا.
قوله: "وقد يستعمل الأداء في القضاء مقيدا" أي بقرينة يعني
لا بد فيه من قرينة تدل على القضاء إذا استعمل فيه كما أنه
لا بد من قرينة تدل على الشجاع إذا استعمل لفظ الأسد فيه
من نحو قوله يرمي أو غيره في قولك رأيت أسدا يرمي أو في
الحمام وهذا كما يقال أدى ما عليه من الدين فبقرينة قوله
من الدين يفهم منه القضاء; لأن أداء حقيقة الدين محال وكما
يقال نويت أن أؤدي ظهر الأمس فبقرينة الأمس يفهم منه
القضاء; لأن أداء ظهر الأمس بعد مضيه محال.
قوله: "لأن للأداء خصوصا" دليل على اشتراط التقييد يعني أن
معنى الأداء مختص بتسليم نفس الواجب لأنه في اللغة ينبئ عن
شدة الرعاية والاستقصاء في الخروج عما لزمه وذلك بتسليم
عين الواجب لا بتسليم مثله بعدما فات فلا يمكن إطلاقه على
تسليم المثل إلا بطريق المجاز; فلهذا يحتاج إلى التقييد
بقرينة فأما القضاء فإحكام الشيء نفسه وذلك موجود في تسليم
المثل والعين فيطلق عليهما بطريق الحقيقة فلا يحتاج إلى
التقييد بالقرينة.
وقال القاضي الإمام وشمس الأئمة رحمهما الله وقد يستعمل
القضاء في الأداء مجازا لما فيه من إسقاط الواجب ويستعمل
الأداء في القضاء مجازا لما فيه من التسليم
(1/206)
أي يحتال
ويتكلف فيختله وأما القضاء فأحكام الشيء نفسه لا ينبئ عن
شدة الرعاية واختلف المشايخ في القضاء أيجب بنص مقصود أم
بالسبب
ـــــــ
فجعلا كل واحد منهما مجازا في الآخر, والتوفيق بينهما أن
الشيخ نظر إلى معناهما اللغوي فوجد معنى القضاء شاملا
لتسليم العين وتسليم المثل فجعله حقيقة فيهما ووجد معنى
الأداء خاصا في تسليم العين فجعله مجازا في غيره فاشترط
التقييد بالقرينة والقاضي الإمام وشمس الأئمة نظرا إلى
العرف أو الشرع فوجدا كل واحد منهما خاصا بمعنى فجعلاه
مجازا في غير ما اختص كل واحد به.
وفي بعض النسخ إلا أن للأداء خصوصا مقام; لأن معناه على
هذا الوجه أن الأداء قد يسمى قضاء وعلى العكس إلا أن
الأداء مختص بتسليم عين الواجب في الحقيقة والقضاء بتسليم
المثل على ما بينا; لأن الأداء ينبئ عن شدة الرعاية
والقضاء لا ينبئ عن شدة الرعاية بل عن مجرد الإحكام فيكون
مختصا بتسليم المثل الذي ليس فيه شدة الرعاية بل فيه نوع
قصور, وهذا الوجه يوافق ما ذكره شمس الأئمة رحمه الله فعلى
هذا الوجه يجوز أن يكون قوله مقيدا متصلا بالجملتين كما في
قوله تعالى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ
اتَّقَى} [البقرة: 203] ويكون معناه ويسمى الأداء قضاء
مقيدا بقرينة ويستعمل الأداء في القضاء مقيدا بقرينة,
وقوله نفس الواجب وعينه ترادف, وقوله في الثلاثي أي
الثلاثي المجرد منه أي من الأداء; لأن الأداء من منشعبة
الثلاثي يقال أدى يؤدي أداء وتأدية كما يقال سلم يسلم
سلاما وبلغ يبلغ بلاغا. وقوله يأدو وذكر في الصحاح يقال
الذئب يأدو للغزال أي يختله ليأكله والختل الخداع وأدوت له
وأديت أي ختلته وهذا مثل يضرب في مقاساة المرء في الشيء
ومعاناته لرجاء نفع يعود إليه في عاقبته.
ثم حاصل ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الأداء على معنى القضاء
كقوله نويت أن أؤدي ظهر الأمس وعكسه كقوله نويت أن أقضي
الظهر الوقتية جائز, فأما صحة الأداء بنية القضاء حقيقة
كنية من نوى أداء ظهر اليوم بعد خروج الوقت على ظن أن
الوقت باق, وكنية الأسير الذي اشتبه عليه شهر رمضان فتحرى
شهرا وصامه بنية الأداء فوقع صومه بعد رمضان, وعكسه كنية
من نوى قضاء الظهر على ظن أن الوقت قد خرج, وهو لم يخرج
بعد, وكنية الأسير الذي صام رمضان بنية القضاء على ظن أنه
قد مضى فليس مبنيا على هذا الأصل كما ذهب إليه البعض;
لأنه; وإن اقتصر على قصد القلب ولم يذكر باللسان شيئا فلا
يشكل; لأن كلامنا في إطلاق اللفظ على معنى وليس ههنا لفظ;
وإن ضم إليه الذكر باللسان, فكذلك; لأنه أراد بكل لفظ
حقيقته حينئذ وليس كلامنا فيه, وأما جوازه فباعتبار
(1/207)
الذي يوجب
الأداء فقال بعضهم: بنص مقصود; لأن القربة عرفت قربة
بوقتها وإذا فاتت عن وقتها ولا يعرف لها مثل إلا بالنص كيف
يكون لها مثل بالقياس.
ـــــــ
أنه أتى بأصل النية ولكنه أخطأ في الظن والخطأ في مثله
معفو على ما عرف في موضعه.
قوله: "واختلف المشايخ" أي مشايخنا واللام بدل الإضافة, في
القضاء أيجب بنص مقصود أي بنص قصد به إيجاب القضاء ابتداء
أم بالسبب الذي يجب به الأداء, وهو الأمر لأن وجوب الأداء
يضاف إليه لا إلى السبب إذ لا يثبت بالسبب إلا نفس الوجوب;
وإن شئت أبهمت السبب كما أبهمه الشيخ فقلت يجب القضاء بما
يجب به الأداء سواء كان الموجب نصا أو غيره.
وقال بعض الشارحين: معنى قوله بنص مقصود بسبب ابتدائي غير
سبب الأداء عرف بالنص أنه سبب له, ويدل على صحة الوجه
الأول ما ذكره الشيخ رحمه الله في شرح التقويم ثم اختلف
أصحابنا قال بعضهم: القضاء يجب بأمر مبتدأ من الله تعالى
وقال بعضهم: لا يحتاج إلى أمر مبتدأ بل يجب المثل إذا فات
المضمون بالكتاب والسنة والإجماع وما ذكر صاحب الميزان فيه
اختلف مشايخنا في الأمر المؤقت إذا خرج الوقت قبل تحصيل
الفعل حتى وجب القضاء أنه يجب بالأمر السابق أو يجب بأمر
مبتدأ قال بعضهم: يجب بالأمر السابق وقال بعضهم: يجب بأمر
مبتدأ وعليه يدل سياق كلام شمس الأئمة رحمه الله أيضا.
وذكر صدر الإسلام أبو اليسر قال عامة الفقهاء إن الوقت متى
فات لا يبقى المأمور دينا في الذمة ويجب القضاء في وقت آخر
بدليل آخر, بعض الناس يبقي دينا في الذمة بعد خروج الوقت
بحكم ذلك الأمر, والحاصل أن وجوب القضاء لا يتوقف على أمر
جديد وإنما يجب بالأمر الأول عند القاضي الإمام أبي زيد
وشمس الأئمة والمصنف, ومن تابعهم وإليه ذهب بعض أصحاب
الشافعي والحنابلة وعامة أصحاب الحديث وعند العراقيين من
أصحابنا وصدر الإسلام أبي اليسر وصاحب الميزان لا يجب
بالأمر الأول بل بأمر آخر وبدليل آخر, وهو مذهب عامة أصحاب
الشافعي وعامة المعتزلة والخلاف في القضاء بمثل معقول,
فأما القضاء بمثل غير معقول فلا يمكن إيجابه إلا بنص جديد
بالاتفاق, احتج من قال بأنه يجب بأمر مبتدأ بأن الواجب
بالأمر أداء العبادة ولا مدخل للرأي في معرفتها; وإنما
تعرف بالنص, فإذا كان الأمر مقيدا بوقت كان كون المأمور به
عبادة مقيدا به أيضا ضرورة توقفه على الأمر فإن العبادة
مفسرة بأنها فعل يأتي به المرء على وجه التعظيم لله تعالى
بأمره وإذا كان كذلك لا يكون الفعل في وقت آخر عبادة بهذا
الأمر لعدم دخوله تحت الأمر كمن قال لغيره افعل كذا يوم
الجمعة لا يتناول هذا الأمر ما عدا يوم الجمعة بحكم الصيغة
كما لو كان مقيدا بالمكان
(1/208)
وقد ذهب وصف
فضل الوقت وقال عامتهم يجب بذلك السبب وبيان ذلك
ـــــــ
بأن قيل اضرب من كان في الدار لا يتناول من لم يكن فيها
وإذا لم يتناوله الأمر كان الفعل بعد الوقت وقبله سواء
فيحتاج إلى أمر آخر ضرورة ولا يمتنع أن يكون الفعل مصلحة
في وقت دون غيره; ولهذا كانت الصلوات مخصوصة بأوقات والصوم
كذلك. ولا يقال نحن لا ندعي أنه يتناوله من حيث الصيغة;
لأنه لو كان كذلك لما سمي قضاء ولكنا نقول المأمور لما فات
يضمن بالمثل من غير توقف على أمر آخر كما في حقوق العباد,
لأنا نقول من شرط إيجاب الضمان المماثلة ولا مدخل للرأي في
مقادير العبادات وهيئاتها فلا يمكن إثبات المماثلة فيها
بالرأي وكيف يمكن ذلك والأداء مشتمل على الفعل وإحراز
فضيلة الوقت; ولهذا لم يجز قبل الوقت وقد فاتت فضيلة الوقت
بحيث لا يمكن تداركه قال عليه السلام: "من فاته صوم يوم من
رمضان لم يقضه صيام الدهر كله" 1 فكيف يكون الفعل بعد
الوقت مثلا للفعل في الوقت ولما لم يمكن إيجابه بالأمر
الأول توقف على دليل آخر ضرورة, قال أبو اليسر: رحمه الله
إن إقامة الفعل في الوقت إنما عرفت قربة شرعا بخلاف القياس
فلا يمكننا إقامة مثل هذا الفعل في وقت آخر مقام هذا الفعل
بالقياس عند الفوات كما في الجمعة فإن أداء الركعتين لما
عرف قربة بخلاف القياس لا يمكننا أن نقيم مثل هاتين
الركعتين مقامهما في وقت آخر بالقياس عند الفوات وكما في
تكبيرات التشريق, فإنها لما عرفت قربة في تلك الأيام شرعا
بخلاف القياس لا يمكننا أن نقيم مثل هذه التكبيرات في غير
تلك الأيام مقامها عند الفوات, واحتج من قال بأنه يجب
بالأمر الأول بالقياس, وهو أن الشرع ورد بوجوب القضاء في
الصوم والصلاة قال الله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ} [البقرة: 184 و185] أي فأفطر فعليه عدة من أيام
أخر. وقال عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها
إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" 2, وما ورد فيه معقول المعنى
فوجب إلحاق غير المنصوص به. وبيانه أن الأداء قد صار
مستحقا عليه بالأمر في الوقت ومعلوم بالاستقراء أن المستحق
لا يسقط عن المستحق عليه إلا بالأداء أو بالإسقاط أو
بالعجز ولم يوجد الكل فبقي كما كان قبله أما عدم وجود
الأداء فظاهر وكذا عدم الإسقاط; لأنه لم يوجد صريحا بيقين
ولا دلالة; لأنه لم يحدث إلا خروج الوقت, وهو بنفسه لا
يصلح مسقطا لأن بخروج الوقت تقرر ترك الامتثال وذلك لا
يجوز أن يكون مسقطا بل
ـــــــ
1 أخرجه أبو داود في الصوم حديث رقم 2396 والترمذي في
الصوم حديث رقم 723 والإمام أحمد في المسند 2/387 و442
و458 و470.
2 أخرجه أبو داود في الصلاة باب رقم 11 والنسائي في
المواقيت باب رقم 53 وابن ماجة في الصلاة باب رقم 10.
(1/209)
......................................................
هو تقرر ما عليه من العهدة; وإنما يصلح الخروج مسقطا
باعتبار العجز ولم يوجد العجز إلا في حق إدراك الفضيلة
لبقاء القدرة على أصل العبادة لكونه متصور الوجود منه
حقيقة وحكما فيتقدر السقوط بقدر العجز فيسقط عنه استدراك
شرف الوقت إلى الإثم إن تعمد التفويت وإلى عدم الثواب إن
لم يكن تعمد للعجز ويبقى أصل العبادة الذي هو المقصود
مضمونا عليه لقدرته عليه فيطالب بالخروج عن عهدته بصرف
المثل إليه كما في حقوق العباد.
"فإن قيل" لا نسلم أن القدرة على أصل الواجب تبقى بعد فوات
الوقت; لأن الأمر مقيد بالوقت بحيث لو قدم الأداء عليه لا
يصح فيكون الواجب فعلا موصوفا بصفة, ومن وجب عليه فعل
موصوف بصفة لا يبقى بدون تلك الصفة كالواجب بالقدرة
الميسرة لا تبقى بعد فوات تلك القدرة لفوات وصفه. وهو
اليسر.
"قلنا" هذا إذا كان الوصف مقصودا ونحن نعلم أن نفس الوقت
ههنا ليس بمقصود; لأن معنى العبادة في كون الفعل عملا
بخلاف هوى النفس أو في كونه تعظيما لله تعالى وثناء عليه
وهذا لا يختلف باختلاف الأوقات كما لا يختلف باختلاف
الأماكن, وكان هذا كمن أمر بأن يتصدق درهما من ماله باليد
اليمنى فشلت يده اليمنى يجب أن يتصدق باليسرى; لأن الغرض
به يحصل, فكذا هنا وأما عدم صحة الأداء قبل الوقت فليس
لكونه مقصودا بل لكونه سببا للوجوب والأداء قبل السبب لا
يجوز ولما كان الوقت تبعا غير مقصود لم يجز أن يسقط بسقوطه
ما هو المقصود الكلي, وهو أصل العبادة كمن أتلف مثليا وعجز
عن تسليم المثل صورة يسقط عنه ذلك للعجز ولا يسقط بسقوط ما
هو المقصود, وهو المثل معنى فيجب عليه القيمة كذا هنا, قال
الشيخ أبو المعين1: رحمه الله القضاء مثل الأداء وإن لم
يكن في الفضيلة مثله والمثلية في حق إزالة المأثم لا في
إحراز الفضيلة, وكذا جميع عبادات أصحاب الأعذار كالمومئ
وغيره يقوم مقام العبادات الكاملة في حق إزالة المأثم لا
في حق إحراز الفضيلة, ولما ثبت أن النص معقول المعنى تعدى
الحكم, وهو وجوب القضاء به إلى الفروع وهي الواجبات بالنذر
المؤقت من الصلاة والصيام والاعتكاف وغيرها. وبما ذكرنا
خرج الجواب عن قولهم إن مثل العبادة لا يصير عبادة إلا
بالنص لأنا قد سلمنا ذلك ولكن الكلام في أن الفعل الذي قد
شرع عبادة في غير
ـــــــ
1 هو ميمون بن محمد بن محمد بن مكحول أبو المعين النسفي
الفقيه الأصولي والمتكلم الحنفي 418 – 508 انظر الفوائد
البهية 216 – 217.
(1/210)
أن الله تعالى
أوجب القضاء في الصوم بالنص فقال: {فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ} [البقرة: 184] وجاءت السنة بالقضاء في الصلاة
قال النبي عليه السلام: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها
إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" فقلنا نحن: وجب القضاء في هذا
بالنص, وهو معقول فإن الأداء كان فرضا, فإذا فات فات
مضمونا, وهو قادر على تسليم مثله من عنده لكون النفل
مشروعا له من جنسه أمر بصرف ماله إلى ما عليه وسقط فضل
الوقت إلى غير مثل وإلى غير ضمان إلا
ـــــــ
هذا الوقت حقا للعبد هل يجب إقامته مقام الفعل الواجب في
الوقت عند فواته فنقول بأنه يجب; لأن الشرع قد أقامه في
الصوم والصلاة بمعنى معقول فيقاس عليهما غيرهما, وقد خرج
الجواب أيضا عن الجمعة وتكبيرات التشريق; لأن سقوطهما
للعجز; لأن إقامة الخطبة مقام ركعتين غير مشروع للعبد في
غير ذلك الوقت فبمضي الوقت يتحقق العجز فيه ويلزمه صلاة
الظهر; لأن مثلها مشروع للعبد بعد مضي الوقت, وكذا الجهر
بالتكبير دبر الصلوات غير مشروع للعبد في غير أيام التكبير
بل هو منهي عنه لكونه بدعة فبمضي الوقت يتحقق الفوات فيه
فيسقط كذا ذكر شمس الأئمة رحمه الله, ولا يقال لما وجب
القضاء في الصلاة والصوم بالنص إذ لولاه لما عرف وجوب
القضاء كيف يستقيم قولكم القضاء بالأمر الذي يوجب الأداء,
لأنا نقول قد عرفنا بالنص الموجب للقضاء أن الواجب لم يكن
سقط بخروج الوقت, وأن هذا النص طلب لتفريغ الذمة عن ذلك
الواجب بالمثل ولهذا سمي قضاء ولو وجب به ابتداء لما صح
تسميته قضاء حقيقة, وهذا كمن غصب شيئا وهلك عنده يجب
الضمان لورود النصوص الموجبة له, ولكنه يضاف إلى الغصب
السابق الموجب للأداء, وهو رد العين والنصوص لطلب التفريغ
عن ذلك الواجب, فكذا هنا., قال الشيخ رحمه الله في شرح
التقويم: الفريق الآخر قالوا الفائت مضمون عليه; لأنه واجب
الأداء وما وجب أداؤه فات يصير مضمونا عليه كالمغصوب وإن
لم يكن أداؤه واجبا وكانت أمانة عنده يضمن بالتفويت أيضا
فثبت أنه صار مضمونا عليه عند الفوات, وله مثل مشروع عنده
مملوك له, وهو النفل, فإنه شرع عبادة بحكم الأمر وأداء
المثل من عنده عن الفائت المضمون أمر ثابت بالكتاب والسنة
والإجماع فلا يحتاج إلى أمر مبتدأ وهو الأصح.
قوله: "وبيان ذلك" أي بيان الوجوب بذلك السبب, في هذا أي
في المنصوص عليه, وهو الصوم والصلاة, وهو معقول أي وجوب
القضاء يدرك بالعقل, وسقط فضل الوقت إلى كذا ضمن فيه معنى
الانتهاء أي سقط منتهيا إلى غير مثل بأن لم يجب من جنسه,
وإلى غير ضمان بأن لم يجب من
(1/211)
بالإثم إن كان
عامدا للعجز, فإذا عقل هذا وجب القياس به في قضاء
المنذورات المتعينة من الصلاة والصيام والاعتكاف وهذا أقيس
وأشبه بمسائل أصحابنا.
ـــــــ
خلاف جنسه أيضا, فإذا عقل هذا أي المعنى الذي ذكرنا في
المنصوص, وهو الصوم والصلاة وجب القياس به.
وهكذا الكلام يشير إلى أن ثمرة الاختلاف تظهر فيما ذكر من
المنذورات المتعينة فعند العامة يجب قضاؤها بالقياس, وعند
الفريق الأول لا يجب لعدم ورود نص مقصود فيه, ولكن ذكر أبو
اليسر في أصوله أنه إذا نذر صوم هذا الشهر أو نذر أن يصلي
في هذا اليوم أربع ركعات فمضى اليوم والشهر ولم يف فالقضاء
واجب بالإجماع بين الفريقين ولكن على قول الفريق الأول
بسبب آخر مقصود غير النذر, وهو التفويت وعلى القول الآخر
بالنذر, واعلم أن التفويت إنما يوجب القضاء عندهم; لأنه
بمنزلة نص مقصود فكأنه إذا فوت فقد التزم المنذور ثانيا
فعلى هذا إذا فات لا بالتفويت بأن مرض أو جن في الشهر
المنذور صومه أو أغمي عليه في اليوم المنذور فيه الصلاة
يجب أن لا يقضى عندهم لعدم النص المقصود صريحا أو دلالة
فتظهر ثمرة الاختلاف., ولكن ما ذكر شمس الأئمة أن وجوب
القضاء بدليل آخر, وهو تفويت الواجب عن الوقت على وجه هو
معذور فيه أو غير معذور يشير إلى أن الفوات بمنزلة التفويت
عندهم في إيجاب القضاء فحينئذ لا يظهر فائدة الاختلاف في
الأحكام بين أصحابنا وإنما يظهر في التخريج.
قوله: "وهذا أقيس" أي قول العامة أقرب إلى المعقول مما ذهب
إليه الفريق الأول, وأشبه بمسائل أصحابنا أي أوفق لها
فإنهم قالوا إن قوما فاتتهم صلاة من صلوات الليل فقضوها
بالنهار بالجماعة جهر إمامهم بالقراءة ولو فاتتهم صلاة من
صلوات النهار فقضوها بالليل لم يجهر إمامهم بالقراءة ومن
فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر صلى ركعتين لو فاتته
في الحضر فقضاها في السفر صلى أربعا كذا ذكر شمس الأئمة
رحمه الله وفي اعتبار حالة وجوب الأداء دون وجوب القضاء
دليل على أنه يجب بالسبب السابق, ولا يلزم عليه ما إذا
فاتته صلاة في المرض الذي يعجز فيه عن القيام والركوع
والسجود فيقضيها في حالة الصحة أو على العكس حيث يعتبر فيه
حالة القضاء لا حالة الأداء حتى وجب عليه القيام والركوع
والسجود في الفصل الأول مع أن الأداء لم يجب بهذه الصفة
ولم يجب عليه في الفصل الثاني مع أن الأداء وجب بهذه الصفة
فهذا يدل على أنه وجب بدليل آخر كما قال الفريق الأول;
لأنا نقول السبب في حق الأداء انعقد في الفصلين موجبا
للقيام والركوع والسجود باعتبار يوهم القدرة مجوزا
للانتقال إلى الخلف وهو القعود أو الإيماء عند العجز إن
اختار الفعل في هذه الحالة., فكذلك عمله في حق القضاء من
غير
(1/212)
ولهذا قلنا في
صلاة فاتت عن أيام التشريق وجب قضاؤها بلا تكبير; لأنه لا
ـــــــ
تفاوت فإذا فاتته صلاة في حالة المرض أو الصحة فقد فاتته
صلاة كاملة بقيام وركوع وسجود كان له فيها ولاية الانتقال
إلى الخلف عند الفعل للعجز, فإذا قضاها فهي بتلك الصفة
بعينها; فإن وجد شرط النقل في هذه الحالة كان له ذلك وإلا
فلا كما في الأداء ألا ترى أنه لو افتتحها في الوقت قائما
ثم حدث به عجز كان له أن يتمها قاعدا وبإيماء ولو افتتحها
قاعدا ثم زال العجز كان له أن يتمها قائما فإذا ثبت
الانتقال في الأداء, فكذلك في القضاء وهذا كمن وجب عليه
التيمم ثم قدر على الماء أو على العكس لا يجوز له التيمم
في الفصل الأول, ويجوز في الفصل الثاني; لأن السبب انعقد
موجبا للطهارة بالماء في الحالين لتوهم حدوث الماء مجوزا
للانتقال إلى الخلف, وهو التراب عند العجز; فإن أقدم على
الفعل حالة العجز كان له ولاية الانتقال إلى الخلف وإلا
فلا, فكذا هذا بخلاف السفر والحضر, فإن السبب هناك قد تقرر
موجبا للركعتين أو الأربع فلا يتغير ذلك في القضاء.
"فإن قيل" قد ذكرتم أن القضاء إنما يجب إذا كان قادرا على
المثل وإلا سقط فينبغي أن لا يجهر الإمام في قضاء صلاة
الليل إذا قضوها بالنهار لأن الجهر بالقراءة في نافلة
النهار غير مشروع, وكذا ينبغي أن لا يلزمه قضاء المغرب;
لأنه ليس له نافلة مشروعة على هيئة المغرب.
"قلنا" إنما يشترط لصحة القضاء كون النفل مشروعا من غير
نظر إلى الكيفية والكمية فإنه يجب قضاء الظهر مع أن النفل
لم يكن مشروعا على صفة الظهر ركعتان بقراءة وركعتان بغير
قراءة., وكذا لا يجوز التسليم على رأس الركعتين في قضاء
الظهر ويجوز في النفل فعلم أن المعتبر ما قلنا كذا أورد
شيخي في فوائد الجامع الكبير1 ناقلا عن أستاذه مولانا بدر
الدين الكردي رحمهما الله, وأجيب أيضا في جنس هذه المسائل
بأن الشرع لما أمره بالقضاء على هذه الهيئة والصفة عرفنا
أن له نفلا يصلح للصرف إلى ما عليه, ولكن يظهر ذلك في ضمن
فعل القضاء لا مطلقا كما أن له أن يعين أحد الأشياء
الثلاثة في كفارة اليمين ضرورة التخيير ولكن يثبت ذلك في
ضمن الفعل لا أن يعينه بالقول ابتداء, وكما أن للأب أن
يمتلك جارية الابن ولكن في ضمن الفعل لا أن يمتلكها ابتداء
ونظائره كثيرة. قوله: "ولهذا قلنا" أي ولما ذكرنا أن ما
قدر عليه يجب ولا يسقط
ـــــــ
1 شيخ المؤلف هو محمد بن محمد بن نصر أبو الفضل حافظ الدين
الكبير البخاري الفقيه الحنفي المولود سنة 615 هـ وتوفي
سنة 693 هـ انظر الفوائد البهية ص 199 – 200.
(1/213)
تكبير عنده في
سائر الأيام ثم لم يسقط ما قدر عليه بهذا العذر ويتفرع من
هذا الأصل مسألة النذر بالاعتكاف في شهر رمضان إذا صامه
ولم يعتكف أنه
ـــــــ
بسقوط ما عجز عنه قلنا إذا فاتته صلاة في أيام التشريق وجب
قضاؤها بلا تكبير أي في غير أيام التشريق, والمسألة على
أربعة أوجه, إن تركها قبل أيام التشريق ثم قضاها في هذه
الأيام لا يكبر وعن أبي يوسف أنه يكبر; لأنه قدر على وجه
الكمال فيلزمه كالمريض إذا فاتته صلاة بإيماء فقضاها في
الصحة يقضيها بركوع وسجود, وأنا نقول: الجهر بالتكبير لم
يشرع إلا مقدرا فلو كبر للفائتة يكون زيادة على ذلك
المقدر.; وإن تركها في أيام التشريق فقضاها في غير أيام
التشريق وهي مسألة الكتاب, فإنه لا يكبر وقال الشافعي رحمه
الله يكبر ليكون القضاء على حسب الفوات, وأنا نقول الجهر
بالتكبير بدعة إلا في زمان مخصوص فيبطل بفوته كرمي الجمار
يسقط بانقضاء أيام النحر وكالجمعة وكالأضحية وصار كالصحيح
إذا نسي صلاة فقضاها في المرض يقضيها بإيماء; وإن قضاها في
أيام التشريق من العام القابل وحده أو بجماعة لا يكبر
أيضا; لأن الزيادة على المشروع بدعة, فأما إذا قضاها في
هذه الأيام من هذه السنة بجماعة, فإنه يكبر; لأن وقت
التكبير قائم ولو كبر لا يزيد على المشروع في هذه الأيام
فيكبر; ليكون القضاء على حسب الفوات كذا ذكر شمس الإسلام
الأوزجندي في شرح الجامع.
وذكر الشيخ في شرح الجامع في هذه المسألة أنه إنما يكبر;
لأن التكبير جهرا مشروع فيها, ويصلح أن يكون مشروعا في حق
النوافل إلا أنه لم يؤد لفقد شرطه, وهو الجماعة فظهر ذلك
في حق الصرف إلى ما عليه; لأنه مثل لما فات بجماعة وعندهما
لم يكبر في النوافل احتياطا فظهر ذلك في حق ما عليه أيضا
ولا يشترط الجماعة عندهما للتكبير كما في الأداء.
"فإن قيل" إنه قد عجز عن صفة الجهر لا غير; لأن أصل
التكبير مشروع فينبغي أن لا يسقط الأصل مع القدرة عليه
بالعجز عن الوصف فيجب عليه التكبير خفية.
"قلنا" قد ذكرنا أن الوصف إذا كان مقصودا يسقط الأصل
بفواته وههنا كذلك; لأن التكبير في هذه الأيام من الشعائر
وذلك يختص بصفة الجهر فيسقط بسقوطه لعدم حصول المقصود
بالأصل بدون الوصف.
قوله: "ويتفرع عن هذا الأصل", وهو أن القضاء يجب بما وجب
به الأداء عند عامة مشايخنا وبنص مقصود عند آخرين مسألة
النذر بالاعتكاف, وهي أن يقول لله علي أن أعتكف شهر رمضان
أو أن أعتكف هذا الشهر سواء عينه باسمه العلمي أو بالإشارة
فصامه
(1/214)
يقضي اعتكافه
ولا يجزئ في رمضان آخر. قالوا: لأن القضاء إنما وجب
بالتفويت ابتداء لا بالنذر والتفويت سبب مطلق عن الوقت
فصار كالنذر المطلق لكنا
ـــــــ
ولم يعتكف لزمه أن يقضي الاعتكاف متتابعا بصوم مبتدأ وعند
الحسن بن زياد لا شيء عليه, وهو إحدى الروايتين عن أبي
يوسف وزفر رحمهم الله; لأنه التزم اعتكافا بصوم لا أثر
للاعتكاف في وجوبه ولا سبيل إلى قضائه في شهر آخر; لأنه
يلزمه بصوم للاعتكاف أثر في وجوبه فيزيد على ما التزمه
فوجب أن يبطل.
وجه الظاهر على مذهب الفريق الأول هو أن القضاء إنما يجب
بالتفويت ابتداء لا بالدليل الذي تعلق به الأصل والتفويت
سبب مطلق عن الوقت أي لا يخص القضاء بوقت دون وقت كالأوامر
المطلقة فصار كأنه قال بعد فوات الوقت لله علي أن أعتكف
شهرا متتابعا لأنا قد ذكرنا أن التفويت بمنزلة التنصيص
ثانيا على الإيجاب فلذلك يلزمه الاعتكاف بصوم مقصود.
وأما الفريق الثاني فإنهم يقولون الواجب بالنذر بمنزلة
الواجب بالأمر وذلك مضمون بالقضاء, فكذلك هذا وإذا وجب صار
من ضرورته إيجاب الفضل; لأن تحمل الفضل أحق من إبطال
الأصل; فإن لم يقضه حتى جاء شهر رمضان من قابل فقضى فيه لم
يجز عندنا خلافا لزفر رحمه الله; لأن الصوم شرط الاعتكاف
والشرط يعتبر وجوده تبعا لا وجوده قصدا كالطهارة; ولهذا صح
نذره بهذا الاعتكاف فكان كمن نذر أن يصلي ركعتين, وهو
متطهر يجوز له أن يصلي المنذور بتلك الطهارة; فإن انتقض
وضؤه يلزمه التوضؤ لأداء المنذور; فإن توضأ لصلاة أخرى
يجوز له أن يصلي المنذور بتلك الطهارة, فكذا هذا., ولنا
أنه إذا لم يعتكف حتى وجب القضاء عليه صار التفويت بمنزلة
نذر مطلق عن الوقت على القول الأول أو صار ذلك النذر مطلقا
عن الوقت على القول الثاني فلا يتأدى بصوم رمضان وهذا; لأن
الصوم, وإن كان شرطا ههنا لكنه مما يلتزم بالنذر بخلاف
الطهارة; لأنها مما لا يلتزم بالنذر أصلا ولما أثر النذر
في إيجابه لا يتأدى بواجب آخر كذا في شرح الجامع للمصنف
وشمس الإسلام رحمهما الله.
وإذا عرفت هذا فاعلم أن الفريق الأول استدلوا بهذه المسألة
على صحة مذهبهم بوجهين:
أحدهما أنهم قالوا لو كان القضاء واجبا بالسبب الأول; لكان
ينبغي أن يبطل فيما إذا صام ولم يعتكف كما قال أبو يوسف
رحمه الله; لأن السبب الأول لا أثر له في إيجاب الصوم كما
ذكرنا ولا يمكن إيجاب القضاء بلا صوم ولا يمكن إيجاب صوم
بلا موجب فيبطل ولم يبطل باتفاق بيننا فعرفنا أنه وجب بسبب
آخر أوجب الصوم.
(1/215)
نقول إنما وجب
القضاء في هذا بالقياس على ما قلنا لا بنص مقصود في هذا
الباب وإذا ثبت هذا لم يكن بد من إضافته إلى السبب الأول
ألا ترى أنه يجب بالفوات مرة وبالتفويت أخرى إلا أن
الاعتكاف الواجب بالنذر مطلقا أثر في
ـــــــ
والثاني أنه لو كان واجبا بما وجب به الأداء, وهو الأمر
بالوفاء بالنذر لجاز قضاؤه في الرمضان الثاني كما قال زفر
رحمه الله: لأنه مثل الأول في كون الصوم مشروعا فيه مستحقا
عليه وصحة أداء الاعتكاف به ومع هذا لم يجز فعرفنا أن وجوب
القضاء غير مضاف إلى السبب الذي يجب به الأداء وفي قول
الشيخ أنه يقضي اعتكافه ولا يجري في شهر رمضان الآخر إشارة
إلى الوجهين والدليل على الوجهين واحد, وهو أن التفويت
بمنزلة نذر مطلق عن الوقت فلهذا لم يفصل بينهما.
وقوله لكنا نقول استدراك عما قالوا إنه يجب بالتفويت ولهذا
ذكر كلمة الحصر أي لا يجب إلا بكذا, في هذا أي في النذر,
بالقياس على ما قلنا من الصلاة والصوم, لا بنص مقصود وهو
التفويت, وفيه إشارة إلى أن التفويت كنص مقصود عندهم, في
هذا الباب, وهو النذر, وإذا ثبت هذا أي عدم وجوب القضاء
بنص مقصود بالدليل الذي ذكره لم يكن بد من إضافة وجوب
القضاء إلى السبب الأول, وهو النذر.
قوله: "ألا ترى أنه يجب بالفوات مرة" استدلال على أنه لا
يمكن إضافته إلى التفويت; لأنه لو كان كذلك يلزم أن لا يجب
في الفوات, وذلك بأن جن أو أغمي عليه أو مرض حتى فاته
المنذور لا باختياره إذ لا يمكن أن يجعل فوات المنذور
حينئذ بمنزلة نذر ابتدائي; لأنه لا بد فيه من كونه مختارا
ولا اختيار في الفوات فلا يكون الفوات بمنزلة نص مقصود,
ولما وجب في الفوات كما وجب في التفويت يضاف إلى معنى
يشملهما, وهو السبب الأول, وصورة الفوات في مسألة الاعتكاف
بأن مرض مرضا لا يمنعه من الصوم ويمنعه من الاعتكاف بأن
صار مبطونا أو نحوه.
قوله: "إلا أن الاعتكاف" جواب سؤال يرد عليه, وهو أنه لو
كان مضافا إلى السبب الأول فكيف وجب زائدا على ما أوجبه
السبب الأول مع أن الحكم لا يزيد على العلة فقال نعم إلا
أن مطلق الاعتكاف الواجب من غير نظر إلى تقيده بوقت أو عدم
تقيده به أو الاعتكاف الواجب الذي هو مطلق عن الوقت يقتضي
صوما للاعتكاف أي للنذر الذي يوجبه أثر في إيجابه; لأن
الصوم شرطه وشرط الشيء تابع له وما لا يتوسل إلى الواجب
إلا به يجب كوجوبه تبعا له, وقيد بالواجب; لأن في الاعتكاف
النفل لا يشترط الصوم في ظاهر الرواية وروى الحسن عن أبي
حنيفة رحمهما الله أنه يشترط فيه الصوم أيضا; لأن
(1/216)
إيجابه وإنما
جاء هذا النقصان في مسألة شهر رمضان بعارض شرف الوقت وما
ثبت بشرف الوقت فقد فات بحيث لا يتمكن من اكتساب مثله إلا
بالحياة إلى رمضان آخر, وهو وقت مديد يستوي فيه الحياة
والموت فلم يثبت القدرة فسقط فبقي مضمونا بإطلاقه, وكان
هذا أحوط الوجهين; لأن ما ثبت بشرف
ـــــــ
الصوم فيه كالطهارة في الصلاة فعلى هذا لا يكون الاعتكاف
النفل أقل من يوم وجه الظاهر أن مبنى النفل على المساهلة
والمسامحة حتى يجوز صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام
وراكبا مع القدرة على النزول والواجب لا يجوز قال محمد
رحمه الله: إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما
أقام تارك له إذا خرج فيثبت أن الظاهر ما ذكرنا كذا في
المبسوط, غير أنه امتنع وجوب الصوم بوجوب هذا الاعتكاف,
بعارض على شرف الزوال, وهو شرف الوقت, وهو معنى قوله;
وإنما جاء هذا النقصان أي عدم اقتضاء الاعتكاف صوما له أثر
في إيجابه بعارض شرف الوقت أي بتقيد الاعتكاف واتصاله بوقت
شريف لا يقبل إيجاب الصوم من جهة العبد لشرفه, أو معناه
إنما لم يوجب هذا الاعتكاف صوما; لأنه يضاف إلى شهر شريف
فكان الاعتكاف فيه أفضل من غيره قال عليه السلام: "من تقرب
فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه.,
ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه" 1.
فاكتفى فيه بصوم الشهر لإدراك هذه الفضيلة, وما ثبت بشرف
الوقت, وهو زيادة فضيلة حصلت لهذا الاعتكاف بسبب شرف الوقت
فقد فات بفوات الوقت أصلا; لأنه لا يتمكن من اكتساب مثله
إلا بإدراك العام القابل وذلك متردد لاستواء الحياة
والممات في هذه المدة فلا يثبت به القدرة, فسقط أي استدراك
ما ثبت بشرف الوقت واكتساب مثله للعجز كما في الصوم
والصلاة بعد خروج الوقت, فبقي أي الاعتكاف مضمونا في
الذمة, بإطلاق الاعتكاف أي بإطلاق ما يوجب الاعتكاف, وهو
النذر السابق عن الوقت كالأمر بالصلاة بعد خروج الوقت,
ولما صار النذر بالاعتكاف مطلقا بزوال العارض وجب به الصوم
المقصود ولم يتأد في الرمضان الثاني كما لو كان ذلك النذر
مطلقا ابتداء; لأنه يريد بذلك صرف الواجب إلى الواجب الآخر
وليس له ذلك, فصار الحاصل أن الفريق الأول جعلوا التفويت
كالنذر المطلق والعامة جعلوا النذر السابق بعد زوال العارض
كالنذر المطلق, ولا يقال لما صار النذر السابق كالمطلق بعد
زوال العارض حتى وجب به الصوم
ـــــــ
1 ذكره المتقي الهندي في كنز العمال حديث رقم 24276
والمنذري في الترغيب والترهيب 2/94.
(1/217)
الوقت من
الزيادة احتمل السقوط فالنقصان والرخصة الواقعة بالشرف;
لأن يحتمل السقوط والعود إلى الكمال أولى. وإذا عاد لم
يتأد في الرمضان الثاني والأداء في العبادات يكون في
الموقتة في الوقت وفي غير الموقتة أبدا على ما
ـــــــ
المقصود لزم أن لا يتأدى بصوم القضاء فيما إذا لم يصم ولم
يعتكف ثم اعتكف في قضاء الصوم متتابعا كما لو كان النذر
مطلقا ابتداء, لأنا نقول امتناع وجوب الصوم في هذا
الاعتكاف يجوز أن يكون باعتبار شرف الوقت ويجوز أن يكون
باعتبار اتصاله بصوم الشهر فإن زال شرف الوقت لم يزل
الاتصال لبقاء الخلف فيجوز لبقاء إحدى العلتين.
قوله: "وكان هذا أحوط الوجهين" قيل الوجهان إيجاب القضاء
بالسبب الذي وجب به الأداء وإيجابه بسبب آخر مقصود والأول
أحوط; لأنه لو أضيف إلى سبب آخر يجب أن لا يلزم عليه
القضاء عند الفوات والأول يوجب القضاء عند الفوات والتفويت
جميعا فكان أولى, والأولى أن يقال الوجهان إيجاب القضاء
بصوم مقصود وإسقاطه بزوال الوقت لتعذر الاعتكاف بلا صوم
وتعذر إيجاب الصوم بلا موجب كما قاله أبو يوسف رحمه الله
فإيجاب القضاء أحوطهما; لأن فيه إسقاط النقصان وإعادة
الواجب إلى صفة الكمال بإيجاب تبعه لوجوبه وفي الوجه الآخر
إسقاط أصل الواجب لتعذر إيجاب التبع وقد أمكن اعتبار هذا
الوجه مع رعاية الأصل الذي مهدناه بالطريق الذي قلنا,
وبيان الإمكان أن الزيادة التي تثبت بسبب شرف الوقت
للعبادة احتملت السقوط بزوال الوقت كما بينا في الصوم
والصلاة, فالنقصان, وهو عدم وجوب الصوم به, والرخصة
الواقعة بالشرف, وهي الاكتفاء بصوم الوقت لأن يحتمل السقوط
والعود إلى الكمال أولى; لأن الأول عود من الكمال إلى
النقصان, وهذا عود من النقصان إلى الكمال ومن الرخصة إلى
العزيمة ولما عاد إلى الكمال لم يتأد في الرمضان الثاني,
وفي بعض النسخ والنقصان بالواو والنصب عطفا على السقوط
وليس بمستقيم لأن السقوط حينئذ يرجع إلى الزيادة والنقصان
يرجع إلى محل الزيادة, وهو الصوم والصلاة فيختلف الضمير
المستكن في احتمل فيختل الكلام; ولأن السقوط في قوله لأن
يحتمل السقوط راجع إلى النقصان والعود إلى الكمال راجع إلى
الرخصة وفي عطف النقصان على السقوط إبطال هذه اللطيفة
فكانت النسخة الأولى أولى.
قوله: "وفي غير المؤقتة" كسجود التلاوة وأداء الزكاة وصدقة
الفطر والكفارات, أبدا أي في العمر; لأن جميع العمر فيه
بمنزلة الوقت فيما هو مؤقت., وهذا على مذهب من قال الأمر
المطلق لا يوجب الفور ظاهر, وهو مذهب عامة أصحابنا, وكذا
على مذهب بعض القائلين بالفور; لأن أول أوقات الإمكان; وإن
تعين عندهم إلا أن بفوته لا يصير قضاء;
(1/218)
نبين إن شاء
الله تعالى والمحض ما يؤديه الإنسان بوصفه على ما شرع مثل
الصلاة بالجماعة فأما فعل الفرد فأداء فيه قصور ألا ترى أن
الجهر عن المنفرد ساقط والشارع مع الإمام في الجماعة مؤد
أداء محضا والمسبوق ببعض الصلاة
ـــــــ
لأن معنى هذا الأمر افعل في الوقت الأول; فإن أخرت ففي
الثاني والثالث إلى آخر العمر فيكون أداء لا قضاء, فأما
عند الباقين منهم إذا فات عن أول أوقات الإمكان فإنه يصير
قضاء; لأن أول أزمنة الإمكان وقت مقدر كوقت الصلاة; ولهذا
من شرط منهم الأمر الجديد في القضاء شرطه ههنا كذا في
الميزان وغيره, على ما تبين من بعد يعني قبيل باب النهي,
والمحض منه أي الخالص الكامل من الأداء, هو الذي يؤديه
الإنسان ملتبسا بوصفه كما شرع مثل الصلاة بجماعة; لأن هذه
صلاة توفر عليها حقها من الواجبات والسنن والآداب لما بينا
أن الأداء ينبئ عن الاستقصاء وشدة الرعاية وفيها ذلك, وهذا
في الصلاة التي سنت الجماعة فيها مثل المكتوبات والوتر في
رمضان والتراويح فأما فيما لم تسن الجماعة فيه مثل عامة
النوافل والوتر في غير رمضان فالجماعة فيها صفة قصور عندنا
كالإصبع الزائدة, فأداء فيه قصور لعدم وصفه المرغوب فيه
شرعا, وهو الجماعة فإن الصلاة بالجماعة تفضل على صلاة
المنفرد بسبع وعشرين درجة كما نطق به الحديث1, الجهر ساقط
أي وجوبه والجهر صفة كمال في الصلاة بدليل وجوب السجدة
بتركه., ولما كان الأداء منقسما أقساما ثلاثة; لأنه إما إن
أديت الصلاة كلها مع الجماعة أو بعضها وذلك البعض إما إن
كان أول الصلاة أو غيره أعاد قوله والشارع مع الإمام في
الجماعة أي الذي شرع معه وأتمها معه مؤد أداء محضا أي
كاملا ليبين القسمين الآخرين.
قوله: "والمسبوق ببعض الصلاة" أي الذي فاته أول الصلاة مع
الإمام بأن فاتته الركعة الأولى أو أكثر مؤد أيضا; لأنه
يؤديها في الوقت, لكنه منفرد في أداء ما سبق به; لأن
الاقتداء لم يتحقق فيما فرغ الإمام من أدائه, فكان أي
المسبوق فيه مؤديا أداء قاصرا أو فعله أداء قاصرا ولكن
فعله في القصور دون فعل المنفرد من وجهين:, أحدهما: أن صفة
الجماعة موجودة ههنا في البعض بخلاف المنفرد, والثاني أنه
وإن كان منفردا فيما سبق به حتى لزمه القراءة وسجود السهو
لو سها فيه لكنه مقتد فيه باعتبار التحريمة; لأنه أدركها
مع الإمام, وهي شيء واحد ولهذا لا يصح اقتداء الغير به
فكان الذي صلى بغير إمام منفردا في الكل أداء وتحريمة
والمسبوق منفردا في البعض أداء لا تحريمة فكان قصوره دون
الأول بدرجتين.
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الآذان 645 ومالك في الموطأ في الصلاة
1/129.
(1/219)
مؤد أيضا لكنه
منفرد فكان قاصرا ومن نام خلف الإمام أو أحدث فذهب يتوضأ
ثم عاد بعد فراغ الإمام فهذا مؤد أداء يشبه القضاء.
ألا ترى أنهم قالوا في مسافر اقتدى بمسافر في الوقت ثم
سبقه الحدث أو نام حتى فرغ الإمام ثم سبقه الحدث فدخل مصره
للوضوء أو نوى الإقامة,
ـــــــ
قوله: "ومن نام خلف الإمام" ثم انتبه بعد فراغه. "أو أحدث"
أي صار محدثا, وهو المسمى باللاحق أي الذي أدرك أول الصلاة
وفاته الباقي, مؤد أي باعتبار بقاء الوقت أداء, يشبه
القضاء باعتبار فوات ما التزمه من الأداء مع الإمام
بفراغه, ولما كانت الجهة مختلفة صح اجتماعهما في فعل واحد
مع كونهما متنافيين. وإنما جعلنا فعله أداء يشبه القضاء لا
على العكس; لأنه باعتبار أصل الفعل مؤد وباعتبار الوصف قاض
والوصف تبع, ثم من المعلوم أن القضاء يقوم مقام الأداء
فكان هو في حكم المقتدي دون المنفرد حتى لا يلزمه القراءة
وسجود السهو لو سها كالمقتدي, وكان فعله في القصور دون فعل
المسبوق; لأنه مؤد باعتبار الوقت وقاض صفة الجماعة فيما
فاته مع الإمام فكان أداؤه كاملا بعضه حقيقة وبعضه حكما,
يوضح ما ذكرنا ما قال محمد رحمه الله في أيمان الجامع لو
قال عبدي حر إن صليت الجمعة مع الإمام فسبق فيها بركعة لم
يحنث; لأنه إنما صلى معه ركعة فأما الأخرى فلا; لأن
المسبوق منفرد لا إمام له, ولو افتتح مع الإمام ثم نام حتى
سلم الإمام ثم قام فصلى حنث; لأن النائم الذي يقضي مثل ما
انعقد له إحرام الإمام مقتد به كذا ذكر الشيخ في جامعه.
"فإن قيل" قد جعل صاحب الشرع المسبوق قاضيا بقوله: "وما
فاتكم فاقضوا" 1 فكيف يستقيم جعله مؤديا "قلنا" قد بينا أن
استعمال إحدى العبارتين مكان الأخرى مجازا جائز; وإنما سمي
المسبوق قاضيا مجازا لما فعله من إسقاط الواجب أو باعتبار
حال الإمام وإليه أشار في قوله: "وما فاتكم" ونحن إنما
جعلناه مؤديا باعتبار حاله ويؤيده ما أورده الإمام محمد بن
إسماعيل2 رحمه الله في الصحيح: "وما فاتكم فأتموا" , أشار
إلى أكثر هذه اللطائف شمس الأئمة رحمه الله.
قوله: "ألا ترى أنهم" أي المشايخ استدلال على شبه القضاء,
في الوقت حتى لو اقتدى به خارج الوقت لا يتغير بمغير بحال
بالاتفاق, ثم سبقه الحدث أي قبل فراغ الإمام,
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الآذان 1/163 – 164 ومسلم في المساجد
حديث رقم 602 وأبو داود في الصلاة حديث رقم 572 وابن ماجه
في المساجد حديث رقم 775 والإمام أحمد في المسند 2/237
و238.
2 هو محمد بن إسماعيل البخاري 194 – 256هـ.
(1/220)
وهو في غير
مصره والوقت باق أنه يصلي ركعتين ولو تكلم صلى أربعا ولو
كان الإمام بعد لم يفرغ أو كان هذا الرجل مسبوقا صلى أربعا
كما في المسألة الأولى.
ـــــــ
ثم سبقه الحدث أي بعد الفراغ ضرورة, فدخل في مصره في
الصورتين بعد فراغ الإمام, أو نوى الإقامة أي في موضع
الإقامة والوقت باق إذ لو لم يكن باقيا يصلي ركعتين; وإن
تكلم بلا خلاف أنه يصلي ركعتين باعتبار معنى القضاء, ولو
تكلم أي هذا المسافر اللاحق بعد وجود المغير صلى أربعا
لزوال شبه القضاء بالخروج عن التحريمة المشتركة وبقاء
الوقت فيتغير فرضه.
وعكس هذه المسألة مسافر أحدث فانفتل ليأتي مصره فيتوضأ ثم
علم أن أمامه ماء, فإنه يتوضأ ويصلي أربعا, فإن تكلم صلى
ركعتين; لأنه حين عزم على الانصراف إلى أهله فقد صار مقيما
وبعدما صار مقيما في صلاة لا يصير مسافرا فيها; لأن السفر
عمل وحرمة الصلاة تمنعه من مباشرة العمل بخلاف الإقامة;
لأنها ترك السفر وحرمة الصلاة لا تمنعه عن ذلك, فإذا تكلم
فقد ارتفعت حرمة الصلاة, وهو متوجه أمامه على عزم السفر
فصار مسافرا كذا في المبسوط بعد أي بعد وجود المغير ولو
تكلم أي هذا الرجل المسبوق, فالحاصل أن المسبوق يصلي أربعا
بعد وجود المغير سواء فرغ الإمام أو لم يفرغ تكلم أو لم
يتكلم; لأنه مؤد. وكذا اللاحق إذا تكلم أو لم يفرغ إمامه,
فأما إذا فرغ إمامه ثم وجد المغير والوقت باق فإنه يصلي
ركعتين عندنا وقال زفر رحمه الله يصلي أربعا; لأنه إما أن
يعتبر اللاحق بالمسبوق نظرا إلى انفراده حقيقة أو بالمقتدي
نظرا إلى الاقتداء حكما والحكم في صلاتهما أنها تتغير
بالمغير, فكذا للاحق, وأنا نقول اللاحق مع كونه مقتديا ليس
بمؤد; لأنه يستحيل أن يجعل مؤديا خلف الإمام ولا إمام له
بل هو قاض شيئا فاته مع الإمام وجعل كأنه خلف الإمام في
الحكم; لأن العزيمة في حقه أن يؤدي مع الإمام; لأنه مقتد
لكن الشرع جوز الأداء بعد فراغ الإمام إذا فاته الأداء
بعذر وجعل أداؤه في هذه الحالة كالأداء مع الإمام وهذا هو
تفسير القضاء; لأن معناه أن يؤدي شيئا بمثل ما وجب عليه
قبل ذلك فصار اللاحق بمنزلة القاضي الحقيقي بعد الوقت فلا
يؤثر في فعله نية الإقامة.
وهذا; لأن المغير لم يتصل بالأصل لانقضائه فلم يتغير في
نفسه فلا يتغير ما بنى عليه, وهو القضاء بخلاف المسبوق
فإنه منفرد مؤد شيئا عليه في الحال, وكذا الذي خلف الإمام
حقيقة; لأنه مؤد في الحال فيجوز أن تعمل نية الإقامة في
تغير صلاته وصلاته
(1/221)
وأصل هذا أن
هذا مؤد باعتبار الوقت لكنه قاض باعتبار فراغ الإمام لأنه
كأنه خلف الإمام لا أنه في الحقيقة خلفه فصار قاضيا لما
انعقد له إحرام الإمام بمثله والمثل بطريق القضاء إنما يجب
بالسبب الذي أوجب الأصل فما لم يتغير الأصل لم يتغير
المثل. فإذا لم يفرغ الإمام حتى وجد من المقتدي ما يوجب
إكمال صلاته تمت صلاته بنية إقامته أو بدخول مصره لأنه مؤد
في الوقت, فأما إذا فرغ الإمام ثم وجد ما ذكرنا فإنما
اعترض هذا على القضاء دون الأداء, فإذا لم يتغير الأداء لم
يتغير القضاء كما إذا صار قضاء محضا بالفوات عن الوقت ثم
وجد المغير وإذا تكلم فقد بطل معنى القضاء وعاد الأمر إلى
ـــــــ
محتملة للتغير مع وصف التبعية بدليل أنه يجوز أن يكون
صلاته على خلاف وصف صلاة الإمام في الابتداء فجاز في
البقاء; ولأنه منفرد فيما سبق وأثر التغير يظهر فيه, وهو
ليس بتابع فيه كذا في مبسوط الشيخ رحمه الله.
"فإن قيل" نية الإمام إنما لم تعتبر لخروجه عن حرمة الصلاة
فأما المقتدي فهو في حرمة الصلاة فيكون نيته معتبرة.
"قلنا" المقتدي تبع فيجعل كالخارج من الصلاة حكما بخروج
إمامه منها كذا في مبسوط شمس الأئمة رحمه الله.
قوله "وأصل ذلك, استدل أولا بالحكم على صحة المذهب ثم بين
المعنى فيه فقال: وأصل ذلك أي أصل ما ادعينا من شبه القضاء
في فعل اللاحق", أن هذا أي اللاحق, وقوله كأنه خلف الإمام
لا أنه في الحقيقة خلف الإمام نفي لقول زفر رحمه الله فإنه
جعله مؤديا خلف الإمام حقيقة حيث جعل اللاحق والمؤدي خلف
الإمام سواء كما بينا, فصار أي اللاحق قاضيا لما انعقد له
إحرام الإمام بمثله الباء تتعلق بقاضي والضمير عائد إلى ما
وفي هذه العبارة نوع تسامح; لأنه لا يقضي ما انعقد له
إحرام الإمام; وإنما يقضي ما انعقد له إحرام نفسه من
المتابعة والمشاركة معه في الفعل الذي فاته بفراغ الإمام
إلا أن المتابعة والمشاركة لما لم تتحقق بدون فعل الإمام
جعل فعل الإمام أصلا, فما لم يتغير الأصل أي ما دام الأصل,
وهو الأداء لا يقبل التغير لا يتغير المثل; لأن القضاء خلف
الأداء والخلف لا يفارق الأصل, وقد تم هنا بيان الأصل.
ثم شرع في ترتيب الفروع المذكورة عليه فقال فإذا لم يفرغ
الإمام وقد وجد المغير في صلاة المقتدي تمت صلاته لعدم
المانع للمغير من العمل لقبول الأصل التغير; لأنه مؤد من
كل وجه فاعتراض المغير يؤثر فيه. قوله: "بخلاف المسبوق"
متصل بقوله ثم وجد المغير أو بقوله, فإذا لم يتغير الأداء
لم يتغير القضاء; وإنما قال أيضا لئلا يتوهم أن
(1/222)
الأداء فتغير
بالمغير لقيام الوقت بخلاف المسبوق أيضا لأنه مؤد ولهذا
قلنا في اللاحق لا يقرأ ولا يسجد للسهو بخلاف المسبوق لما
بينا أنه قاض لما انعقد له إحرام الجماعة وأما القضاء
فنوعان: إما بمثل معقول فكما ذكرنا وإما بمثل غير معقول
فمثل الفدية في الصوم وثوابه النفقة في الحج بإحجاج النائب
لأنا لا
ـــــــ
مسألة المسبوق تخالف مسألة التكلم; لأن ظاهر الكلام يقتضي
ذلك لولاه فقوله أيضا يدل على أن مسألة التكلم توافق مسألة
المسبوق وأنهما تخالفان مسألة اللاحق فعلى هذا لو قيل
وبخلاف بالواو لاستقام المعنى كما استقام بدونها, وكان
عطفا على مسألة التكلم من حيث المعنى والتقدير بخلاف ما
إذا تكلم وبخلاف المسبوق أيضا "قوله وأما القضاء فنوعان"
أي القضاء الخالص نوعان فأما الذي شابه معنى الأداء فقسم
آخر, أو معناه أن القضاء بالنظر إلى كون المثل معقولا وغير
معقول نوعان فيدخل فيه جميع أقسامه; لأن القضاء الذي فيه
معنى الأداء لا يخلو من أن يكون قضاء بمثل معقول أو غير
معقول, ثم تقسيمه بالنظر إلى خلوصه وعدم خلوصه لا يضر
بالتقسيم الأول كما أن اللفظ يقسم على اسم وفعل وحرف
بالنظر إلى معنى ثم يقسم إلى مفرد ومركب بالنظر إلى معنى
آخر ولا يضر ذلك بالتقسيم الأول فكذا هذا., وتقدير الكلام
أما القضاء فنوعان قضاء بمثل معقول وقضاء بمثل غير معقول
أما القضاء إلى آخره وإنما اختصر اعتمادا على ما ذكره في
أول الباب "قوله فمثل الفدية في باب الصوم" فإنها شرعت
خلفا عن الصوم عند العجز المستدام عن الصوم لعجز الشيخ
الفاني ومن بحاله, والفدية والفداء البدل الذي يتلخص به عن
مكروه توجه إليه.
قوله: "وثواب النفقة" أي الإنفاق في الحج بإحجاج النائب.
واعلم أن الإحجاج عن الغير جائز ولكنه في الحج الفرض مشروط
بالعجز الدائم حتى جاز عن الميت وعن المريض الذي لا يستطيع
الحج إذا لم يزل مريضا حتى مات فإن صح فعليه حجة الإسلام
والمؤدى تطوع; لأنا عرفنا جوازه بحديث الخثعمية1 وقد ورد
في عجز الشيخوخة وأنها دائمة لازمة ولأنه فرض العمر فيعتبر
فيه عجز يستغرق بقية العمر ليقع به اليأس عن الأداء
بالبدن, وفي التطوع ليس بمشروط بالعجز حتى إن صحيح البدن
إذا أحج بماله رجلا على سبيل التطوع عنه يجوز; لأن مبنى
التطوع على التوسع. ثم المتأخرون من أصحابنا اختلفوا في
هذه المسألة فقال عامتهم: للآمر ثواب النفقة ويسقط الواجب
عن الآمر فأما الحج فيقع
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الحج ومسلم في الحج حديث رقم 1334
والترمذي في الحج حديث 928 وأبو داود في المناسك حديث رقم
1809 وابن ماجه في المناسك حديث رقم 2907.
(1/223)
نعقل المماثلة
بين الصوم والفدية لا صورة ولا معنى فلم يكن مثلا قياسا
وأما الصوم فمثل صورة ومعنى وكذلك ليس بين أفعال الحج
ونفقة الإحجاج مماثلة بوجه لكنا جوزناه بالنص
ـــــــ
عن المأمور وهو رواية عن محمد رحمه الله; لأن الحج عبادة
بدنية ولا تجري النيابة في أداء العبادات البدنية ولكن له
ثواب الإنفاق; لأنه فعله فيثاب عليه وإنما يسقط عن الآمر
الحج إما; لأن الإنفاق سبب وإقامة السبب مقام المسبب أصل
في الشرع أو لأن الواجب عليه إنفاق المال في طريق الحج
وأداء الحج, فإذا عجز عن أداء الحج بقي عليه مقدار ما يقدر
عليه وهو إنفاق المال في طريق الحج فيلزمه دفع المال
لينفقه الحاج في الطريق والدليل عليه أنه يشترط أهلية
النائب لصحة الأفعال حتى لو أمر ذميا لا يجوز ولو كان
الفعل ينتقل إلى الآمر لشرط أهليته لا أهلية النائب كما في
الزكاة, ولا يقال لما لم تجر النيابة في الأفعال ووقعت عن
نفسه لزم أن يسقط عن المأمور فرض الحج بهذه الأفعال; لأنا
نقول فرض الحج لا يتأدى إلا بنية الفرض أو بمطلق النية ولم
يوجد وإنما وجدت النية عن الآمر. وقال بعضهم الحج يقع عن
الآمر وهو اختيار شمس الأئمة في المبسوط وهو ظاهر المذهب;
لأن ظواهر الأخبار في هذا الباب تشهد به فإنه عليه السلام
قال لسائلة, "حجي عن أبيك واعتمري" . وقال رجل يا رسول
الله إن أبي مات ولم يحج أفيجزئني أن أحج عنه؟ فقال "نعم"
1. وحديث الخثعمية في هذا الباب مشهور على ما سنذكره فدل
أن أصل الحج يقع عن المحجوج عنه ولهذا يشترط الحج عنه ولو
نوى الحج لنفسه يصير ضامنا. يوضحه أن الواجب عليه الفعل لا
الإنفاق بدليل أنه لو حج من غير أن ينفق من ماله يسقط عنه
الفرض ولو أنفق في الطريق ولم يحج لا يسقط فثبت أن النيابة
في الفعل. وإذا ثبت هذا قلنا قوله وثواب النفقة في الحج
بإحجاج النائب إنما يصح على المذهب الأول لا على المذهب
الثاني; لأن الفعل فيه أقيم مقام الفعل لا الإنفاق. ثم على
هذا المذهب بيان أن المماثلة بين الفعل والفعل غير معقولة
مع كونها معقولة ظاهرا أن يقال إنما جعل فعل نفسه مثلا
لفعل نفسه في قضاء الصلاة والصوم لحصول المشقة وإتعاب
النفس في الفعل الثاني كحصولها في الفعل الأول فأما فعل
الغير فلا يحصل به المشقة له فكيف يكون مثلا لفعل نفسه؟
ألا ترى أنه لا مدخل للقياس فيه حتى لم تجز أن يقضي الابن
صلاة أبيه ولا صيامه بأمره وبغير أمره, ولو كانت المثلية
معقولة بينهما لجاز إثباته بالقياس كما في المنذورات
المتعينة.
قوله: "لا صورة ولا معنى" أما عدمها صورة فظاهر. وأما معنى
فلأن معنى الصوم
ـــــــ
1 أخرجه النسائي في الحج حديث رقم 2638.
(1/224)
قال الله
تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أي لا يطيقونه وهذا مختصر
بالإجماع وثبت في الحج بحديث
ـــــــ
إتعاب النفس بالكف عن قضاء الشهوتين, ومعنى الفدية تنقيص
المال ودفع حاجة الغير فلم يكن الفدية مثلا للصوم قياسا أي
رأيا وفي قوله; لأنا لا نعقل المماثلة لطف ورعاية أدب ليس
ذلك في قوله فيما بعده وكذلك ليس بين أفعال الحج ونفقة
الإحجاج مماثلة بوجه يعرف ذلك بالذوق. وإنما جاء التفرقة
من قبل أنه قد قيل: إن بين الفدية والصوم مماثلة وهي أنه
لما صرف طعام يوم إلى مسكين فقد منع النفس عن الارتفاق
بذلك الطعام فكأنه لم يوصل إلى نفسه حظها من الطعام يوما
وهذا معنى الصوم ولم يقل المماثلة بوجه عن أحد بين الإنفاق
وأفعال الحج فكأن الشيخ نظر إلى ذلك المعنى ونفاه بألطف
عبارة.
وقوله لكنا استدراك من حيث المعنى يعني لما لم يكن الفدية
مثلا معقولا للصوم وكذا الإنفاق للحج لا يجوز إثباته
بالرأي لكنا جوزناه أي المذكور وهو الفدية بالنص قوله:
"قال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} " أي
وعلى المطيقين الذين لا عذر لهم إن أفطروا: {فِدْيَةٌ
طَعَامُ مِسْكِينٍ} نصف صاع من بر أو صاع من غيره عندنا.
وكان ذلك في بدء الإسلام فرض عليهم الصوم ولم يتعودوه
فاشتد عليهم فرخص لهم في الإفطار والفدية وقرأ ابن عباس
يطوقونه ويطيقونه أي يكلفونه على جهد منهم وعسر وهم الشيوخ
والعجائز وحكم هؤلاء الإفطار والفدية وهو على هذا الوجه
غير منسوخ. ويجوز أن يكون هذا معنى يطيقونه أي يصومونه
جهدهم وطاقتهم ومبلغ وسعهم كذا في الكشاف, وذكر في التيسير
وفي قراءة ابن عباس رضي الله عنهما: {وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ} أي يكلفونه فلا يطيقونه, وفي قراءة حفصة رضي
الله عنها: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وقيل هو
الشيخ الفاني فعلى هذا لا يكون منسوخا فإنه حكم ثابت مجمع
عليه. قوله: "وهذا مختصر" أي قوله تعالى: {وَعَلَى
الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} , أو وهذا النص مختصر أي حذف عنه
حرف لا كما في قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ
تَضِلُّوا} [النساء: 176], بالإجماع أي بإجماع القائلين
بأنه غير منسوخ, أو معناه بدلالة الإجماع فإن حكم الشيخ
الفاني ومن بمعناه مجمع عليه وهو مستفاد من الكتاب ولا
يستفاد منه بدون حرف لا فيكون محذوفا لا محالة فيكون النص
مختصرا ضرورة. ويمكن أن يجري على ظاهره أي هذا النص مختصر
بالإجماع أما عند من جعله غير منسوخ فلما ذكرنا وأما عند
من جعله منسوخا فلأن التقدير عنده وعلى الذين يطيقون الصوم
فلا يصومون فعليهم فدية ولما ثبت أنه مختصر لا يمكن العمل
بظاهره رجحنا ما ذكرنا بقراءة ابن عباس وحفصة رضي الله
عنهما
(1/225)
الخثعمية أنها
قالت يا رسول الله إن أبي أدركه الحج وهو شيخ كبير لا
يستمسك على الراحلة أفيجزئني أن أحج عنه فقال عليه السلام:
"أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يقبل منك فقالت
نعم قال فدين الله أحق"
ـــــــ
قوله: "وثبت" أي قيام الإنفاق مقام الأفعال في الحج بحديث
الخثعمية وهي أسماء بنت عميس من المهاجرات والحديث مذكور
في الكتاب. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من
خثعم قالت يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج
أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفأحج عنه قال:
"نعم" قال وقال رجل إن أختي نذرت أن تحج وأنها ماتت فقال
النبي عليه السلام, "لو كان عليها دين أكنت قاضيه قال نعم
فاقض الله فهو أحق بالقضاء" كذا في المصابيح لا يستمسك على
الراحلة أي لا يقدر على إمساك نفسه عليها وضبطها والثبات
عليه. أفيجزئني بالهمز أي يكفيني عما وجب في ذمته. أن أحج
عنه بفتح الهمزة وضم الحاء أي أحرم عنه بنفسي وأؤدي
الأفعال عنه وهذا هو المشهور من الرواية وعلى هذا الوجه لا
دلالة في الحديث على أن الإنفاق قائم مقام الأفعال فلا
يستقيم التمسك به في هذه المسألة إلا أن يثبت أن أباها كان
أمرها بذلك وأنفق عليها. وفي بعض النسخ أن أحج بضم الهمزة
وكسر الحاء أي آمر أحدا أن يحج عنه وعلى هذا الوجه صح
التمسك به, أرأيت أي أخبريني وكان هذا اللفظ للنظر ثم صار
للإخبار وذلك أن العرب إذا لم يجدوا الضالة يقولون لكل من
يرونه أرأيت ضالة كذا أي أخبرني عنها, أما كان يقبل منك
وفي عامة الكتب من المبسوط وغيره أكان يقبل بدون كلمة ما
وهذا هو الصحيح; لأن نعم لا يستقيم جوابا للمذكور ههنا;
لأنه لتصديق ما سبق من الكلام نفيا كان أو إثباتا فيصير
تقدير المذكور ههنا نعم لا يقبل فيفسد المعنى بل جوابه
بلى; لأنه لتحقيق ما بعد النفي لكنه يستقيم جوابا للمذكور
في عامة الكتب فتبين أنه هو الصحيح, ورأيت في الأسرار في
حديث الخثعمية: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما
كان يجوز قالت بلى قال فدين الله أحق" . ومعنى قوله أحق أي
بالقبول; لأنه أكرم الأكرمين فأولى بكرمه وأجدر برأفته أن
يقبل منه حالة العجز فعل الغير أو الإنفاق الذي لا يقدر
إلا عليه ويؤيده رواية المبسوط الله أحق أن يقبل. وقيل
معناه فدين الله أولى بالقضاء ويؤيده رواية المصابيح وفي
بعض النسخ فقضيتيه بالياء ذلك بطريق الإشباع لكسرة التاء
وهو جائز في لغة حمير. قال شاعرهم:
يا أم عمرو لم ولدتيه ... معمما بالكبر والتيه
ليتك إذ جئت به هكذا ... كما بذرتيه أكلتيه
(1/226)
ولهذا قلنا: إن
ما لا يعقل مثله يسقط كمن نقص صلواته في أركانها بتغيير
ولهذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله عنهما فيمن أدى في
الزكاة خمسة دراهم زيوفا عن خمسة جياد أنه يجوز ولا يضمن
شيئا; لأن الجودة لا
ـــــــ
كذا في الجوامع الجمادية. قيل وفي حديث الخثعمية دليل على
أن أباها كان أمرها بالحج حيث قاس رسول الله صلى الله
تعالى عليه وسلم قبول الحج بالأداء من الغير بقبول الدين
بالأداء من الغير وإنما يجب ويتحقق قبول الدين بالأداء من
الغير إذا كان ذلك الأداء بأمر المديون; لأن رب الدين إن
امتنع فيه عن القبول يجبر عليه فأما إذا كان بغير أمر منه
فرب الدين بالخيار في القبول فلا يتحقق القبول فهذا يدل
على أن ذلك كان بالأمر. والظاهر أنه عليه السلام قاس على
العادة الفاشية بين الناس أنهم يقبلون ديونهم من أي وجه
تصل إليهم من المديون أو غيره تبرعا أو غير تبرع نظرا منهم
إلى حصول المقصود وهذا لا يدل على الأمر بوجه قوله: "ولهذا
قلنا" متصل بما اتصل به الاستدراك في قوله ولكنا جوزناه
بالنص أي ولعدم تصرف الرأي فيما لا ندركه قلنا إن ما لا
يدرك بالعقل مثله ولم يرد فيه نص يسقط; لأن إيجاب المثل
متوقف إما على إدراك العقل ليمكن إيجابه بالسبب الأول أو
على السمع, فإذا لم يوجد واحد منهما فلا وجه إلا الإسقاط
كترك الاعتدال في أركان الصلاة لا يضمن بشيء سوى الإثم;
لأنه ليس لذلك الوصف منفردا عن الأصل مثل عقلا ولا نصا.
وقوله يتغير احتراز عن نقصان الركن نفسه من الصلاة فإن
قوله نقص الصلاة في أركانها يحتمل ذلك.
قوله: "ولهذا" أي ولما ذكرنا أن ما لا يعقل مثله ولا نص
فيه يسقط قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله إذا أدى
خمسة زيوفا في الزكاة مكان خمسة جياد يجوز أن يسقط عنه
الواجب ولكنه يكره لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267], الآية ولا
يضمن شيئا بمقابلة الجودة; لأن المؤدى قد صح ولزم حتى لا
يملك أحدهما الفسخ لصيرورته صدقة وليس للوصف الذي تحقق فيه
الفوات منفردا مثل صورة وهو ظاهر ولا معنى; لأنها لا تتقوم
عند المقابلة بجنسها فيسقط أصلا.
ألا ترى أنه لو أدى أربعة جيادا عن خمسة زيوف لا يصح إلا
عن أربعة عندنا خلافا لزفر رحمه الله. وكذا لو كان له
إبريق فضة وزنه مائة وخمسون وقيمته لصياغته مائتان وقد حال
عليه الحول لا تجب فيه الزكاة لسقوط اعتبار الجودة في هذه
الأموال عند المقابلة بجنسها, ولا معنى لقوله من قال سقوط
اعتبار الجودة للربا ولا ربا بين العبد وسيده; لأنا نقول
إن الله تعالى عامل عباده معاملة المكاتبين أو الأحرار
فإنه تعالى استقرضهم
(1/227)
يستقيم أداؤها
بمثلها صورة ولا بمثلها قيمة; لأنها غير متقومة فسقط أصلا
واحتاط محمد رحمه الله في ذلك الباب فأوجب قيمة الجودة من
الدراهم أو الدنانير ولهذا قلنا إن رمي الجمار لا يقضى
والوقوف بعرفات والأضحية
ـــــــ
وملكهم والربا يجري بين المولى ومكاتبه. ألا ترى إلى ما
روي عن النبي عليه السلام أنه قال في صوم يوم الشك أنه
تعالى نهى عن الربا أفيقبل منكم1؟
واحتاط محمد رحمه الله في ذلك الباب أي باب العبادة فقال
عليه أن يؤدي فضل ما بينهما, ووجهه أن الجودة متقومة من
وجه فإنها تتقوم في الغصوب وفي تصرف المريض حتى لو حابى
بها بأن باع قلبا وزنه عشرة وقيمته عشرون بعشرة لم تسلم
المحابات للمشتري وكذا في تصرف الوصي حتى لو باع درهما
جيدا من مال اليتيم بدرهم رديء لا يجوز, وغير متقومة من
وجه فوجب الاحتياط في حق الله تعالى ألا ترى أن ما لا عبرة
به أصلا وهو تغير السعر إلى الزيادة اعتبر في ضمان حق الله
تعالى حقا قيل إن من أخذ صيدا من الحرم فأخرجه ثم تغير
سعره إلى زيادة ثم هلك أنه يضمن الزيادة احتياطا فهذا أولى
كذا في شرح الجامع للمصنف. وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده
رحمه الله في شرحه للجامع أن الجودة إنما سقطت في حكم
الربا في حق العاقدين ليتحقق المماثلة التي هي شرط جواز
البيع فأما في حق غير العاقد كالوارث والصغير فلا لعدم
الحاجة إليه; لأنه لا يؤدي إلى الربا.
ثم اعتبار الجودة في حق الفقير يؤدي إلى الربا وجه دون وجه
فمن حيث إن الفقير بما يأخذ من الغني لا يملك منه مقدار
الواجب إذ قدر الواجب قبل الأخذ لم يكن ملكا للفقير حتى
يصير مملكا إياه صاحب المال بما يأخذ بل يأخذ صلة لا يؤدي
إلى الربا, ومن حيث إنه تعلق بالواجب حق الفقير إن لم يصر
ملكا له حتى صار صاحب المال ضامنا بالاستهلاك والحق ملحق
بالحقيقة يتحقق فيه الربا; لأنه يصير مملكا الواجب منه بما
يأخذ من صاحب المال, فإذا تردد بين الأمرين قلنا متى كان
في اعتبار جهة الربا منفعة للفقير فإنها تعتبر كما إذا أدى
أربعة جيادا عن خمسة زيوف لا يجوز ومتى كان في اعتبار
الربا ضرر في حقه لا يعتبر كما في مسألتنا فإنه لو اعتبر
لا يسلم الدراهم الزائدة والله أعلم. قوله: "ولهذا" أي
ولعدم المثل عقلا ونصا قلنا إن رمي الجمار وأخواته لا
يقضى: "فإن قيل" كيف يستقيم هذا وقد أوجبتم الدم عليه
باعتبار ترك الرمي؟
"قلنا" إيجاب الدم عليه ليس بطريق أنه مثل للرمي قائم
مقامه بل; لأنه جبر لنقصان
ـــــــ
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 4/441 وابن خزيمة وابن حبان
في صحيحيهما وابن أبي شيبة والطبراني نيل الأوطار 3/5.
(1/228)
كذلك فإن قيل:
فإذا ثبت هذا بنص غير معقول فلم أوجبتم الفدية في الصلاة
بلا نص قياسا على الصوم من غير تعليل؟ قلنا; لأن ما ثبت من
حكم الفدية عن الصوم يحتمل أن يكون معلولا والصلاة نظير
الصوم بل أهم منه لكنا لم نعقل واحتمل أن لا يكون معلولا
وما لا ندركه لا يلزمنا العمل به لكنه
ـــــــ
تمكن في نسكه بترك الرمي كسجود السهو في الصلاة وجب جبرا
لنقصان لا قضاء بما فاته ألا ترى أنه يجب أيضا إذا أراد في
الصلاة من جنسها وفي الزيادة لا يتصور القضاء كذا هذا.
ولما ذكر الشيخ أن لا مدخل للرأي فيما ليس له مثل معقول
ولزم عليه إيجاب الفدية في الصلاة تعرض لذلك فقال فإن قيل:
إذا ثبت أي وجوب الفدية عند اليأس غير معقول المعنى فلم
أوجبتم الفدية في الصلاة بلا نص يوجب ذلك قياسا على الصوم
من غير معنى يعقل؟, وقوله بلا نص حال عن الفدية أي
أوجبتموها حال كونها غير منصوصة قلنا نحن لا نعدي ذلك
الحكم بالقياس ولا نوجبه حتما لكنا نقول يحتمل أن يكون
إيجاب الفدية في الصوم بناء على معنى معقول وإن كنا لا نقف
عليه. والصلاة نظير الصوم من حيث إن كل واحد منهما عبادة
بدنية محضة لا تعلق لوجوبهما ولا لأدائهما بالمال بل أهم
منه; لأنها عبادة لذاتها لكونها تعظيم الله تعالى والصوم
عبادة بواسطة قهر النفس على ما يعرف بعد إن شاء الله
تعالى, فإذا وجب تدارك الصوم عند العجز بالفدية فالصلاة
بالتدارك أولى, يحتمل أن لا يكون معقولا وما لا ندركه لا
يلزمنا العمل به فلا يجب علينا العمل بذلك الاحتمال
لمعارضة الاحتمال الثاني إياه لكن وجوب الفدية في الصوم
لما احتمل الوجهين المذكورين أمرناه بالفدية في الصلاة
بناء على الوجه الأول على سبيل الاحتياط, فلئن كان هذا
الحكم في الصلاة مشروعا فقد صار مؤدى وإلا فليس به بأس;
لأنه ح يكون برا مبتدأ يصلح ماحيا للسيئات فتبين أن إيجاب
الفدية في الصلاة بهذا الطريق لا بالقياس. ولهذا لم يحكم
بجواز الفداء في الصلاة مثل حكمنا بجوازه في الصوم; لأنا
حكمنا بجوازه في الصوم قطعا لكونه منصوصا عليه فيه, ورجونا
القبول أي الجواز في الصلاة فضلا فإن محمدا رحمه الله قال
في الزيادات في هذا أي في فداء الصلاة يجزيه إن شاء الله
كما قال يجزيه إن شاء الله في فداء الصوم فيما إذا تطوع به
الوارث بأن مات من عليه الصوم من غير قضاء ولا إيصاء
بالفدية, ولو كان ثابتا بالقياس لما احتاج إلى إلحاق
الاستثناء به كما في سائر الأحكام الثابتة بالقياس ولا
يقال لما كانت الصلاة مثل الصوم أو أهم منه يلزم أن يثبت
الحكم فيه بالدلالة وإن كان غير معقول المعنى كما يثبت
الحكم في الأكل والشرب بطريق الدلالة بالنص الوارد في
الجماع وإن كان غير
(1/229)
لما احتمل
الوجهين أمرناه بالفدية احتياطا فلئن كان مشروعا فقد تأدى
وإلا فليس به بأس ثم لم نحكم بجوازه مثل ما حكمنا به في
الصوم; لأنا حكمنا به في الصوم قطعا ورجونا القبول من الله
تعالى في الصلاة فضلا. وقال محمد رحمه الله في الزيادات في
هذا يجزيه إن شاء الله كما إذا تطوع به الوارث في الصوم
ـــــــ
معقول المعنى حتى لم يكن للقياس فيه مدخل. لأنا نقول لا بد
في الدلالة من كون المعنى المؤثر في الحكم معلوما سواء كان
التأثير في ذلك الحكم معقولا كالإيذاء في التأفيف أو غير
معقول كالجناية على الصوم في إيجاب الكفارة المكيفة
المقدرة وها هنا المعنى الذي هو المؤثر في إيجاب الفدية
غير معلوم فلا يمكن إثباته بالدلالة كما لا يمكن بالقياس,
ثم إذا مات وعليه صلوات يطعم عنه لكل صلاة نصف صاع من حنطة
أو صاع من غيرها, وكان محمد بن مقاتل1 يقول أو لا يطعم عنه
لكل يوم نصف صاع على قياس الصوم ثم رجع فقال كل صلاة فرض
على حدة بمنزلة صوم يوم وهو الصحيح كذا في المبسوط وغيره
وهذا إذا أوصى بالفدية عن الصلاة فإن لم يوص وتبرع بها
الوارث قيل لا يسقط الصلوات عن الميت; لأن الاختيار فيه
معدوم أصلا ولأنه أدنى رتبة من الإيصاء فيحكم فيه بعدم
الجواز إظهارا لانحطاط رتبته كما فعل كذلك في الصوم. وقيل
تسقط عنه إن شاء الله تعالى كما في الإيصاء; لأن دليل
الجواز وهو الرجاء إلى فضل الله وكرمه يشمل الإيصاء
والتبرع جميعا يوضحه ذكر في النوازل سئل أبو القاسم عن
امرأة ماتت وقد فاتتها صلوات عشر أشهر ولم تترك مالا فقال
لو استقرض ورثتها قفيز حنطة ودفعوها إلى مسكين ثم يهبها
المسكين لبعض ورثتها يتصدق بها على المسكين فلم يزل يفعل
كذلك حتى يتم لكل صلاة نصف صاع أجزأ ذلك عنها فتبين بهذا
أن التبرع فيه كالإيصاء.
وقد لزم الشيخ مسألة أخرى فتصدى لها أيضا فقال: فإن قيل لا
مثل للأضحية عقلا ولا نصا وقد أوجبتم بعد فوات وقتها
التصدق بالعين فيما إذا كانت الشاة التي عينت للتضحية
بالنذر أو بالشراء الصادر من الفقير بنية الأضحية باقية
بعد أيام النحر فإنه يلزمه التصدق بعينها حية أو بالقيمة
فيما إذا استهلكت الشاة المعينة للتضحية بالنذر أو غيره أو
كان غنيا ولم يضح أصلا حتى مضت أيام النحر فإنه يلزمه
التصدق بالقيمة كذا في الإيضاح والمبسوط قلنا: لأن التضحية
ثبتت قربة بالنص وهو قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ
ـــــــ
1 هو محمد بن مقاتل الرازي توفي سنة 242 هـ انظر كشف
الظنون 2/1457.
(1/230)
فإن قيل
فالأضحية لا مثل لها وقد أوجبتم بعد فوات وقتها التصدق
بالعين أو القيمة قلنا; لأن التضحية ثبتت قربة بالنص
واحتمل أن يكون التصدق بعين الشاة أو قيمتها أصلا; لأنه هو
المشروع في باب المال كما في سائر الصدقات إلا أن الشرع
نقل من الأصل إلى التضحية وهو نقصان في المالية بإراقة
الدم عند محمد وبإراقة الدم وإزالة التمول عن الباقي عند
أبي يوسف على ما
ـــــــ
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج: 36]
وقوله عليه السلام: "ضحوا" 1. وغير ذلك واحتمل أن يكون
التصدق أصلا في باب التضحية; لأنه هو المشروع في باب المال
كما في سائر العبادات المالية من الزكاة وصدقة الفطر; لأن
معنى العبادة وهو مخالفة هوى النفس بإزالة المحبوب من يده
يحصل به إلا أن الشرع أي الشارع نقل القربة من تمليك عينها
أو قيمتها إلى الإراقة في أيام النحر لأجل تطبيب الطعام;
لأن الناس أضياف الله تعالى يوم العيد ولهذا كره الأكل قبل
الصلاة ليكون أول ما يتناولون من طعام الضيافة ومن عادة
الكريم أن يضيف بأطيب ما عنده ومال الصدقة يصير من الأوساخ
لإزالته الذنوب بمنزلة الماء المستعمل وإليه أشار الله
تعالى في قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103]. ولهذا حرم على النبي عليه
السلام وعلى من التحق به نسبا لكرامتهم وعلى الغني لعدم
حاجته فلا يليق بالكريم المطلق الغني على الحقيقة أن يضيف
عباده بالطعام الخبيث, فنقل القربة من عين الشاة إلى
الإراقة لينتقل الخبث إلى الدماء فتبقى اللحوم طيبة فيتحقق
معنى الضيافة في هذه الأيام باستواء الغني والفقير فيه,
إلا أنه مع ما بينا يحتمل أن يكون معنى التضحية أصلا دون
التصدق فلم يعتبر بهذا الموهوم وهو التصدق في معارضة
المنصوص المتيقن به وهو التضحية, فإذا فات المتيقن بفوات
وقته وجب العمل بالموهوم وهو التصدق.
مع الاحتمال أي احتمال أن لا يكون معتبرا احتياطا أيضا
يعني كما قلنا بوجوب الفدية في الصلاة احتياطا. وحاصل
الجواب أنا أوجبنا التصدق باعتبار كونه أصلا لا باعتبار
كونه مثلا لها.
قوله: "وهو" أي فعل التضحية أو الذبح "نقصان في المالية"
إلى قوله في الهبة معترض فنبين المسألة أولا ثم نكشف الغرض
عن إيرادها فنقول إذا وهب شاة لرجل فضحى الموهوب له بها لم
يكن للواهب أن يرجع فيها في قول أبي يوسف وقال محمد له أن
يرجع فيها ويجزيه الأضحية وقال أبو حنيفة مع أبي يوسف
رحمهما الله. وجه قول
ـــــــ
1 الحديث "ضحوا بالجذع من الضأن فإنه جائز" أخرجه الإمام
أحمد في المسند 6/368.
(1/231)
نبين في مسألة
التضحية أيمنع الرجوع في الهبة أم لا فنقل إلى هذا تطبيبا
للطعام وتحقيقا لمعنى العيد بالضيافة إلا أنه يحتمل أن
يكون التضحية أصلا فلم نعتبر هذا الموهوم في معارضة
المنصوص المتيقن, فإذا فات هذا المتيقن بفوات وقته وجب
العمل بالموهوم مع الاحتمال احتياطا أيضا والدليل على أنه
ـــــــ
محمد رحمه الله أن ملك الموهوب له لم يزل عن العين والذبح
نقصان فيها فلا يمنع الرجوع فيما بقي كشاة القصاب, وهذا;
لأن القربة لم تقع بعين الشاة بل بالإراقة بدليل أن ما
أديت به القربة لا يجوز أن يبقى على ملكه والمذبوح باق على
ملكه يأكله ويضمن له مستهلكه ويورث عنه ويبيعه فيجوز إلا
أنه يتصدق بثمنه وذلك لا يدل على عدم الملك فإن الأملاك
الخبيثة سبيلها التصدق بها مع قيام الملك وإذا ثبت أن أداء
القربة لم يقع إلا بالإراقة بقي الحكم فيما وراء الدم على
ما لو ذبح لا للأضحية والرجوع فيها لا يغير حكم الإراقة;
لأن الفائت لا يعمل فيه الفسخ ونظيره وهب شاتين فضحى
بأحديهما وأكلها ثم رجع في الأخرى أو ذبح شاة الهبة وباع
جلدها ورجع الواهب فيما بقي لا يبطل البيع. ولأبي يوسف
رحمه الله أن القربة كما يتأدى بالدم يتأدى بأجزاء الشاة
بدليل أن سلامتها معتبرة للجواز ابتداء وبعد الذبح لو باع
شيئا منها يتصدق بثمنه لمكان أنه بقي قربة فيجب صرفه إلى
حيث لا يبطل به حق الله عز وجل ولو لم يتعلق معنى القربة
بما بقي لبقي على حكم سائر الأغنام فتأدى القربة بإراقة
الدم وبإبطال حق التمول من الباقي فلذلك لم يبطل أصل
الملك; لأن القربة لم تتأد به وإذا كان كذلك لم يصح
الرجوع; لأنه يبطل ما أدى من القربة بالعين ألا ترى أنه
يصير بعد الرجوع مالا يتمول كسائر الأموال كذا في الأسرار.
فمحمد رحمه الله عد سقوط التمول نقصا فيه لا باعتبار ظهور
معنى القربة فيه ونحن اعتبرناه أثر القربة.
ثم الغرض من إيراد هذه المسألة في أثناء الكلام أن معنى
التصدق في النقل إلى التضحية حاصل أيضا من وجه; لأن التصدق
تنقيص المال بإيصال منفعته إلى الفقير والتضحية تنقيص
المال بالإراقة أو التنقيص مع إزالة التمول عن الباقي
فيكون بينهما نوع مماثلة. قال المصنف رحمه الله في شرح
التقويم: إن الله تعالى نقل القربة من التمليك إلى الإراقة
فثبت المماثلة بينهما شرعا من حيث إن الله تعالى أقام
الإراقة مقام التمليك وفيه شبهة المماثلة فإن محمدا قال
القربة لا تتم إلا بالتمليك حتى لو وهب شاة فضحى الموهوب
لا ينقطع حق الواهب قبل التمليك, فدل أن القربة لا تتم إلا
بالتمليك, فإذا كان بينهما مماثلة من هذا الوجه, فإذا ذهب
وقت التضحية وجب التمليك بالشاة أو القيمة; لأنه مثل من
حيث إن الشرع أقام أحدهما مقام الآخر.
(1/232)
كان بهذا
الطريق لا أنه مثل الأضحية أنه إذا جاء العام القابل لم
ينتقل الحكم إلى الأضحية.
وهذا وقت يقدر فيه على أداء مثل الأصل فيجب أن يبطل الخلف
كما في الفدية إلا أنه لما ثبت أصلا من الوجه الذي بينا
ووقع الحكم به لم ينقض
ـــــــ
وقوله إلا أنه يحتمل جواب سؤال وهو أن يقال لما ثبت أصالة
التصدق في التضحية بما ذكرتم والنقل إلى الإراقة لمعنى
الضيافة ينبغي أن يخرج عن العهدة بالتصدق في أيام النحر
أيضا كمن وجب عليه الجمعة لو صلى الظهر في منزله يخرج عن
العهدة, وإن كان مأمورا بأداء الجمعة لكون الظهر أصلا
فأجاب وقال يحتمل أن يكون إراقة الدم أصلا من غير اعتبار
معنى التصدق وهي واجبة بالنص في هذه الأيام فلا يعتبر
الموهوم في مقابلته بخلاف صلاة الظهر فإن أصالتها ثبت
بالنص أيضا كوجوب الجمعة فيجوز أن تقابل الجمعة.
قوله: "والدليل على أنه" أي وجوب التصدق. كان بهذا الطريق
وهو احتمال كونه أصلا في التضحية لا أنه مثل للأضحية غير
معقول كالفدية للصوم, أنه إذا جاء القابل أي أيام النحر
منه لم ينتقل الحكم إلى الأضحية والحال أن هذا وقت يقدر
فيه على مثل الأصل أي على مثل أصل الواجب وهو الإراقة إذ
الإراقة للإراقة مثل من كل وجه, أو معناه على المثل الأصلي
فيجب أن يبطل الخلف وهو وجوب التصدق.
كما في الفدية يعني من وجب عليه الفدية إذا قدر على الصوم
يسقط عنه الفدية وينتقل الحكم إلى الصوم; لأنه المثل
الأصلي في الباب, إلا أنه أي التصدق لما ثبت أصلا من الوجه
الذي بينا وهو أن الأصل في القربات المالية التصدق, ووقع
الحكم به أي حكم الشرع بوجوبه, لم يبطل بالشك أيضا وهو أن
التصدق إن كان أصلا لا يبطل بالقدرة على الإراقة, وإن كانت
الإراقة أصلا يبطل للقدرة على المثل الأصلي كما في الفدية
وقد صار كونه أصلا محكوما به فلا يبطل بهذا الشك كما لم
يبطل الإراقة المنصوص عليها في أيام النحر باحتمال كون
التصدق أصلا.
وإليه أشار بقوله أيضا وذكر في شرح التقويم أنه إذا عاد
وقت الأضحية إنما لا يسقط التصدق; لأنه مثل أصلي في هذا
الباب على معنى أنه كان أصلا فنقل منه إلى التضحية ولو لم
يكن مثلا أصليا لعادت الأضحية للقدرة عليها كما أن المثل
في حقوق العباد إذا فات ووجبت القيمة عاد حقه بالقدرة على
المثل وها هنا لما لم يعد الفائت دل أنه مثل أصلي.
(1/233)
بالشك أيضا.
أما القضاء الذي بمعنى الأداء فمثل رجل أدرك الإمام في
العيد راكعا كبر في ركوعه وهذا قد فات موضعه فكان قضاء وهو
غير قادر على مثل
ـــــــ
وبعض أصحابنا رحمهم الله قالوا: إنما لا تعود الأضحية; لأن
المثل وجب وتأكد بإيجاب الله تعالى فلا يسقط بالقدرة على
الفائت كما في المثليات إذا انقطعت عن أيدي الناس وقضى
القاضي بالقيمة ثم عاد المثل لا يعود حقه إليه كذا هذا,
وقد وقع لفظ إلا أن في هذه المسألة في ثلاثة مواضع كلها
بمعنى لكن.
فالأول استدراك من قوله واحتمل أن يكون التصدق أصلا وفي
هذا الاستدراك تحقيق ذلك الاحتمال.
والثاني استدراك عما يلزم من هذا الاحتمال مع استدراكه وهو
أنه لما احتمل أن يكون أصلا والنقل بعارض فيلزم أن يجوز
التصدق في أيام النحر فقال لكنه يحتمل أن يكون التضحية
أصلا وفي هذا الاستدراك رفع ذلك الاحتمال.
والثالث استدراك من قوله وجب العمل بالموهوم مع الاحتمال,
ويجوز أن يكون استدراكا من قوله فيجب أن يبطل, وقوله على
ما نبين أراد به في شرح المبسوط لا في هذا الكتاب, أو هو
تبين بالتاء أي ظهر, وقوله فنقل إلى هذا أي الذبح متصل
بقوله نقل من الأصل إلى التضحية على سبيل الإعادة لطول
الكلام والله أعلم. قوله: "وأما القضاء الذي بمعنى الأداء
إلى آخره" رجل أدرك الإمام في الركوع من صلاة العيد يأتي
بتكبيرات العيد قائما إن كان يرجو أن يدرك الإمام في
الركوع ليكون التكبيرات في القيام من كل وجه وإن كان هذا
اشتغالا بقضاء ما سبق قبل فراغ الإمام كي لا يفوت أصلا,
فإن خاف إن كبر تكبيرات العيد أن يرفع الإمام رأسه فإنه
يكبر للافتتاح وهو فرض ثم يكبر للركوع وهو واجب ثم يكبر في
الركوع تكبيرات العيد ولا يرفع يديه; لأن الرفع سنة ووضع
الأكف على الركبة سنة فلا يجوز الاشتغال بسنة فيها ترك
سنة, وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يأتي بها في الركوع;
لأنها قد فاتت موضعها وهو القيام وهو غير قادر على مثل من
عنده قربة في الركوع فلا يصح أداؤها فيه كالقراءة والقنوت
وتكبير الافتتاح فإنه إذا أنسي الفاتحة والسورة لا يأتي
بها في الركوع وكذا إذا أدرك الإمام في الركوع الأخير من
الوتر في رمضان وخشي أنه لو قنت قائما يفوته الركوع فركع
فإنه لا يقنت في الركوع.
والدليل عليه أن الإمام إذا نسي التكبيرات لا يأتي بها في
الركوع. ووجه ظاهر الرواية أن التكبيرات شرعت في القيام
المحض وشرع من جنسها فيما لو شبه بالقيام فإن تكبير الركوع
حسب منها حتى أن من سها عنه وهو إمام أو مسبوق يسجد للسهو
وإن سها عنه
(1/234)
من عنده قربة
فكان ينبغي أن لا يقضي إلا أنه قضاء يشبه الأداء لأن
الركوع يشبه القيام وهذا الحكم قد ثبت بالشبهة ألا ترى أن
تكبير الركوع يحتسب
ـــــــ
ثم تذكر في ذلك الركوع كبر فيه; لأنه واجب وقد بقي محله
الخالص وإذا كان من جنسها ما شرع في حال الانحناء وله شبه
بالقيام احتمل أن يكون سائرها ملحقة بهذه لاتحاد الجنس
واحتملت المفارقة فكان الاحتياط في فعلها على أن ذلك أداء
لا قضاء, وكان هذا احتياطا لا تعليلا ومقايسة كما قلنا في
الفدية في الصلاة بخلاف القراءة والقنوت وتكبير الافتتاح;
لأنها غير مشروعة فيما له شبه القيام بوجه. وبخلاف الإمام
إذا سها عن التكبيرات حتى ركع أنه يعود إلى القيام; لأنه
قادر على حقيقة الأداء فلا يعمل بشبهه وهذا عجز عن حقيقته
فيعمل بشبهه كذا في جامع المصنف وغيره.
قوله: "لأن الركوع يشبه القيام أي حقيقة وحكما" أما حقيقة
فلأن القيام ليس إلا الانتصاب وهو باق باستواء النصف
الآخر; إذ المضادة أو المفارقة بينه وبين القعود إنما يثبت
بفوات الاستواء في النصف الأسفل; لأن استواء النصف الأعلى
موجود فيهما لكن فيها نقصان لما فيه من الانحناء وذلك لا
يضر; لأنه قد يكون قيام بعض الناس هكذا كذا ذكر الإمام
الإسبيجابي. وأما حكما فلأن من أدرك الإمام في الركوع
وشاركه فيه يصير مدركا لتلك الركعة قال عليه السلام: "من
أدرك الإمام في الركوع فقد أدركها" 1.
وهذا الحكم أي وجوب التكبير قد ثبت بالشبهة; لأنه عبادة
فيحتاط في إثباتها فتثبت بشبهة الأداء قوله: "ألا ترى" قيل
تقرير وتأكيد لقوله الركوع يشبه القيام والأشبه أنه دليل
آخر استوضح به ما تقدم, وليست أي تكبيرة الركوع في حال محض
القيام فإن محمدا رحمه الله قال: يكبر وهو يهوي قالوا وهذا
أصح مما روي عنه يكبر ثم يهوي; لأنه يخلو إذا حالة
الانحناء عن الذكر بخلاف الأول. ويؤيده حديث أبي هريرة رضي
الله عنه أنه عليه السلام كان يكبر وهو يهوي2 وما روي أنه
عليه السلام كان يكبر مع كل خفض ورفع3 ولهذا قال في الجامع
الصغير ويكبر مع الانحطاط. إذا قرأ الفاتحة في الأوليين
ولم يزد عليها قرأ في الآخرين الفاتحة والسورة وإن قرأ في
الأوليين السورة ولم يقرأ بفاتحة الكتاب لم يقرأ بعدها في
الآخرين قال عيسى بن أبان4 الجواب على
ـــــــ
1 أخرج بنحوه البخاري في المواقيت باب رقم 29 ومسلم في
المساجد حديث رقم 161 والإمام مالك في الموطأ في وقوت
الصلاة حديث رقم 15.
2 أخرجه البخاري في صفة الصلاة 1/200 – 203 ومسلم في
الصلاة حديث رقم 392 والإمام أحمد في المسند 2/454
والترمذي باب 189 – 2/34 – 35.
3 أخرجه الترمذي في الصلاة حديث رقم 253 والنسائي في
الافتتاح 2/195 والإمام أحمد في المسند 1/386.
4 هو القاضي أبو موسى عيسى بن أبان بن صدقة توفي سنة 221
هـ انظر الفوائد البهية 151.
(1/235)
منها وليس في
حال محض القيام فاحتمل أن يلحق به نظائره فوجب عليه
التكبير اعتبارا بشبهة الأداء احتياطا وكذلك السورة, فإذا
فاتت عن أوليين وجبت في الأخريين; لأن موضع القراءة جملة
الصلاة إلا أن الشفع الأول تعين بخبر الواحد الذي يوجب
العمل وقد بقي للشفع الثاني شبهة كونه محلا وهو
ـــــــ
العكس إذا ترك الفاتحة يقضيها في الآخرين وإن ترك السورة
لا يقضيها; لأن قراءة الفاتحة واجبة وقراءة السورة غير
واجبة وبهذا الطريق تمسك يحيى بن أكثم1 وطعن على محمد في
الجامع الصغير. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله أن
يقضيها أما السورة فلما تذكر وأما الفاتحة فلما قال عيسى
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يقضي واحدة منهما أما
الفاتحة فلما يذكر وأما السورة فلأنها سنة في الأوليين وما
كان سنة في وقته كان بدعة في غير وقته فلا يقضي. وجه
الظاهر ما يذكر.
"قوله وكذلك السورة يعني كما أن تكبيرات العيد تقضى في
الركوع باعتبار شبه الأداء فكذلك السورة" إذا فاتت عن
الأوليين يؤتى بها في الآخرين لشبهه الأداء وإن كانت قضاء
ظاهرا, وذلك; لأن موضع القراءة جملة الصلاة لقوله عليه
السلام: "لا صلاة إلا بقراءة" 2 ولقوله تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:
20]. إذ المراد والله أعلم القراءة في الصلاة لكن الشفع
الأول تعين للقراءة بخبر الواحد الذي يوجب العمل وهو ما
روي عن علي رضي الله عنه القراءة في الأوليين قراءة في
الآخرين أي تنوب عن القراءة فيهما كما يقال لسان الوزير
لسان الأمير وقد تعين الشفع الأول لقراءة السورة أيضا بما
روي عن جابر وأبي قتادة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر والعصر في الركعتين
الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة وفي الآخرين بفاتحة الكتاب3
كذا في مبسوط الشيخ فبقي للشفع الثاني شبهة كونه محلا; لأن
القيام في الآخرين مثل القيام في الأوليين في كونه ركن
الصلاة والدليل على المعين غير قطعي فمن هذا الوجه لم
يتحقق الفوات فوجب أداؤها اعتبارا بهذه الشبهة وإن كان في
الحقيقة قضاء بالنظر إلى خبر الواحد.
وما ذكرنا مؤيد بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه ترك
القراءة في ركعة من صلاة
ـــــــ
1 هو القاضي يحيى بن أكثم بن محمد بن قطن التميمي الأسيدي
المروزي 159 – 242 هـ انظر لسان الميزان 6/760.
2 أخرجه مسلم في الصلاة حديث رقم 396 وأبو داود في الصلاة
حديث رقم 820.
3 أخرجه البخاري في صفة الصلاة 1/197 وأخرجه مسلم في
الصلاة حديث رقم 451 وأبو داود في الصلاة حديث 799.
(1/236)
من هذا الوجه
ليس بفائت فوجب أداؤها اعتبارا لهذه الشبهة وإن كان قضاء
في الحقيقة ولهذا لو ترك الفاتحة سقطت; لأن المشروع من
الفاتحة في الأخريين إنما شرع احتياطا فلم يستقم صرفها إلى
ما عليه
ـــــــ
المغرب فقضاها في الثالثة وجهر وعثمان رضي الله عنه ترك
قراءة السورة في الأوليين من صلاة العشاء فقضاها في
الآخرين كذا في المبسوط ويلزم على ما ذكرنا أنه لما وجب
قضاء السورة التي هي دون الفاتحة في الوجوب مع عدم القدرة
على المثل باعتبار شبهة الأداء فلأن يجب قضاء الفاتحة التي
هي آكد في الوجوب من السورة مع القدرة على المثل لشرعية
الفاتحة في الآخرين نفلا كان أولى.
فقوله ولهذا جواب عنه أي ولكون قضاء السورة لشبهه الأداء
لا لمعنى القضاء قلنا: لو ترك الفاتحة في الأوليين سقطت;
لأنه لا يمكن قضاؤها باعتبار معنى الأداء كما لا يمكن
باعتبار معنى القضاء. أما من حيث القضاء فلأنه لم يشرع له
قراءتها في الآخرين نفلا ابتداء حقا له ليصرفه إلى ما عليه
وإنما شرعت إما على سبيل الوجوب كما رواه الحسن عن أبي
حنيفة رحمهما الله أو على سبيل الاحتياط أداء عملا بقوله
عليه السلام: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" , فلما كانت
شرعيتها بهذه الجهة لم يستقم صرفها إلى ما عليه; لأنه يصير
تغييرا للمشروع وذلك ليس في ولاية العبد إليه أشار شمس
الأئمة رحمه الله. وحاصله أن قراءة الفاتحة في الآخرين
ليست بنفل مطلق بل فيه جهة الوجوب نظرا إلى الاحتياط فلذلك
لم يستقم صرفها إلى ما عليه. وأما من حيث الأداء فلأن
الفاتحة شرعت في الآخرين أداء فإن قرأها مرة واحدة وقعت عن
الواجب أو المسنون الذي فيه جهة الوجوب وإن قرأها مرتين
كان خلاف المشروع; لأن تكرار الفاتحة في ركعة واحدة غير
مشروع فلذلك تسقط.
ولا يقال: لما انتقلت إحداهما إلى الشفع الأول لم يبق
تكرارا معنى, لأنا نقول يبقى صورة ورعاية الصورة واجبة
أيضا ولأن النفل إنما يتصور على تقدير القضاء وكلامنا على
تقدير الأداء, وقوله والسورة لم تجب قضاء جواب عن السؤال
المذكور بطريق المنع يعني لا نسلم أن السورة وجبت قضاء بل
وجبت باعتبار الأداء وذلك في الفاتحة غير ممكن.
ثم إذا قضى السورة قال بعضهم يقدم السورة على الفاتحة;
لأنها ملحقة بالقراءة فكان تقديم السورة أولى, وقال بعضهم:
يؤخر وهو الأشبه وأبعد من التغيير كذا ذكر المصنف في شرح
المبسوط.
(1/237)
ولم يستقم
اعتبار معنى الأداء; لأنه مشروع أداء فيتكرر فلذلك قيل
يسقط والسورة لم تجب قضاء; لأنه ليس عنده في الأخريين
قراءة سورة يصرفها إلى ما عليه وإنما وجب لاعتبار الأداء.
وأما حقوق العباد فهي تنقسم على هذا الوجه, أما الأداء
الكامل فهو رد العين في الغصب والبيع وأداء الدين, والقاصر
مثل أن يغصب عبدا فارغا ثم يرده مشغولا بالجناية أو يسلم
المبيع مشغولا
ـــــــ
قوله: "على هذا الوجه" أي على الأداء والقضاء منقسما كل
واحد على أقسام ثلاثة كما في حقوق الله تعالى, أما الأداء
الكامل فهو رد المغصوب وتسليم المبيع على الوصف الذي ورد
عليه الغصب والبيع, وأداء الدين أي على الوصف الذي وجب. ثم
عد أداء الدين من هذا القسم وإن كانت الديون تقضى
بأمثالها; لأنه لا طريق لأداء الدين سوى هذا ولهذا كان
للمقبوض في الصرف والسلم حكم عين الحق إذ لو لم يكن كذلك
لصار استبدالا ببدل الصرف ورأس مال السلم أو المسلم فيه
قبل القبض وإنه حرام, وكذا له حكم عين الحق في غير الصرف
والسلم بدليل أنه يجبر رب الدين على القبض, ولو كان غير
حقه لم يجبر عليه; لأنه كان استبدالا ح وأنه موقوف على
التراضي فعرفنا أنه عين ما وجب حكما, ألا ترى أن القضاء
مبني على الأداء أو على تصوره وذلك منتف فيه بالكلية وفي
انتفائه انتفاء القضاء فيؤدي إلى أن تسليم العين لا يكون
أداء ولا قضاء وذلك خلاف المعقول والإجماع فعلم أن تسليم
العين في حكم تسليم الدين فكان من قبيل الأداء المحض ولم
يجعل من الأداء القاصر; لأنه أدى ما عليه أصلا ووصفا فكان
أداء كاملا.
قوله: "مشغولا بالجناية" بأن جنى المغصوب في يد الغاصب أو
المبيع في يد البائع جناية يستحق بها رقبته أو طرفه أو
بالدين بأن استهلك في يدهما مال إنسان فتعلق الضمان
برقبته, أو ما أشبه ذلك أي الجناية والدين بأن رده مريضا
أو مجروحا أو رد الجارية المبيعة أو المغصوبة مشغولة
بالحبل.
ولا بد من بيان هذه المسائل والفرق بين بعضها والبعض فنقول
إذا غصب عبدا فارغا فرده مشغولا بالجناية أو بالدين إن هلك
في يد المالك قبل الدفع أو البيع في الدين برئ الغاصب وإن
دفع أو قتل بذلك السبب أو بيع في ذلك الدين رجع المالك على
الغاصب بالقيمة بلا خلاف ولو سلم البائع العبد المبيع
مشغولا بالدين فبيع في ذلك الدين يرجع بكل الثمن بلا خلاف,
ولو سلمه مشغولا بالجناية فهلك في ذلك الوجه يرجع بكل
الثمن عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يرجع بنقصان العيب
بأن قوم حلال الدم وحرام الدم فيرجع بتفاوت ما بين
القيمتين من الثمن.
(1/238)
بالجناية أو
الدين أو ما أشبه ذلك حتى إذا هلك في ذلك الوجه انتقض
التسليم عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما هذا تسليم
كامل; لأن العيب لا يمنع
ـــــــ
ففي هذه المسائل أصل الأداء موجود; لأنه رد عين ما غصب أو
باع لكنه قاصر; لأنه أداه لا على الوصف الذي وجب عليه
أداؤه إلا أن كونه مباح الدم في البيع بمنزلة العيب عندهما
فلا يمنع تمام التسليم وعنده بمنزلة سبب الاستحقاق فيمنع
تمام القبض وكونه عيبا لا شك فيه; لأن العبد الذي حل دمه
أو طرفه لا يشترى بما إذا لم يكن كذلك وهذا المعنى أشد من
المرض وهو عيب بالإجماع, وإنما الشبهة في كونه استحقاقا
فوق العيب فقالا: إنه ليس باستحقاق; لأن تلف المالية التي
ورد البيع عليها لم يكن بوجوب العقوبة; لأن وجوبها يتعلق
بكونه مخاطبا لا بالمالية; لأن المالية لا يستحق عقوبة
كالبهائم وكيف يتعلق بالمالية وإنها سبب سقوط الخطاب الذي
توقف وجوب العقوبة عليه. يوضحه أن المشتري إذا اشترى عبدا
وولي القصاص يأباه صح البيع وملكه المشتري, ولو كان حقه
فيما اشترى لما صح كحق المرتهن ونحوه فثبت أن البيع ورد
على محل غير مستحق بسبب الجناية والمستحق بها النفس وإنما
تملك بالبيع المالية وبحل الدم لا تفوت المالية ولا تصير
مستحقة وإنما تلفت المالية بالاستيفاء وذلك فعل إنشاء
المستوفي باختياره بعدما دخل المبيع في ضمان المشتري
فيقتصر الفوات على زمان وجود الاستيفاء فلا ينتقض به
التسليم, وكان هذا بمنزلة ما لو سلمه زانيا فجلد عند
المشتري ومات منه لم يرجع بالثمن لاقتصار الفوات على زمان
الجلد كذا هذا بخلاف ما إذا استحق المبيع بملك أو حق رهن
أو دين; لأن المستحق هناك هو الذي تناوله البيع وهو
المالية فينتقض به قبض المشتري من الأصل. وبخلاف ما إذا
غصب عبدا ثم رده حلال الدم فقتل عند المولى حيث يرجع
بالقيمة; لأن الرد لا يتم مع قيام سبب العقوبة; لأنه رد
على سبيل الخروج عن عهدة الغصب وذلك بإعادة يده كما كانت
قبل الغصب فكان سقوط الضمان بهذا الرد موقوفا على سقوط حكم
هذا السبب الطارئ عند الغاصب, فإذا لم يسقط عدم الرد
المستحق عليه الذي يبرئه عن عهدة الضمان فبقي تحته, فأما
التسليم بحكم الشراء فقد تم مع السرقة والقصاص; لأنه عيب
قبل الاستيفاء بالإجماع والعيب لا يمنع تمام القبض,
والرجوع بالثمن إنما يكون بالانتقاض بعدم التمام وذلك
بالفوات والفوات كان بسبب بعد القبض فلا ينتقض به القبض.
"فإن قيل" يشكل على هذا الفرق ما إذا رد المغصوبة حاملا
فهلكت بالولادة حيث يرجع بالنقصان لا بالقيمة عندهما كما
لو سلم المبيعة حاملا فهلكت عند المشتري بالولادة يرجع
بالنقصان لا بالثمن بالاتفاق فلم يفرقا بين الغصب والبيع
في الحمل وفرقا بينهما في الجناية.
(1/239)
......................................................
"قلنا" لأن الأصل في الحمل هو السلامة والهلاك مضاف إلى
ألم الطلق الذي هو حادث وليس بمضاف إلى الانغلاق الذي كان
في يد الغاصب فلا يبطل به حكم الرد كما لو حمت الجارية عند
الغاصب ثم ردها فهلكت لم يضمن الغاصب إلا النقصان
بالاتفاق; لأن الهلاك لم يكن بالسبب الذي كان عند الغاصب
إنما كان ذلك لضعف الطبيعة عن دفع آثار الحمى المتوالية
وذلك لا يحصل بأول الحمى الذي كان عند الغاصب وإن ذلك غير
موجب لما كان بعده.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول زالت يد المشتري عن المبيع بسبب
كانت إزالتها به مستحقة في يد البائع فيرجع بالثمن كما لو
استحقه مالك أو مرتهن أو صاحب دين وهذا; لأن الإزالة لما
كانت مستحقة قبل قبض المشتري ينتقض به قبض المشتري من
الأصل فكأنه لم يقبضه وإنما قلنا ذلك; لأن القتل بسبب
الردة مستحق لا يجوز تركه وبسبب القصاص مستحق في حق من
عليه إلا أن ينشئ من له حق عفو باختياره البيع وإن كان يرد
على المالية ولكن استحقاق النفس بسبب القتل والقتل متلف
للمالية في هذا المحل فكان في معنى علة العلة وعلة العلة
تقام مقام العلة في الحكم فمن هذا الوجه المستحق كأنه
المالية.
ولأنه لا تصور لبقاء المالية في هذا المحل بدون النفسية
وهي مستحقة بالسبب الذي كان عند البائع فيجعل ذلك بمنزلة
استحقاق المالية; لأن ما لا ينفك عن الشيء بحال فكأنه هو
إلا أن استحقاق النفسية في حكم الاستيفاء فقط وانعقاد
البيع صحيحا وراء ذلك وإذا مات في يد المشتري فلم يتم
الاستحقاق في حكم الاستيفاء فلهذا هلك في ضمان المشتري
وإذا قتل فقد تم الاستحقاق, ولا يبعد أن يظهر الاستحقاق في
حكم الاستيفاء دون غيره كملك الزوج في زوجته وملك من له
القصاص في نفس من عليه القصاص لا يظهر إلا في حكم
الاستيفاء حتى إذا وطئت المنكوحة بشبهة كان العقر لها وإذا
قتل من عليه القصاص خطأ كانت الدية لورثته دون من له
القصاص. وهذا بخلاف الزنا فإن بزنا العبد لا يصير نفسه
مستحقة إذ المستحق عليه ضرب مؤلم واستيفاء ذلك لا ينافي
المالية في المحل والتلف حصل لخرق الجلاد أو لضعف المجلود
فلم يكن مضافا إلى الزنا بوجه.
وإذا اشتراه وهو يعلم بحل دمه ففي أصح الروايتين عن أبي
حنيفة رحمه الله يرجع بالثمن أيضا إذا قتل عنده; لأن هذا
بمنزلة الاستحقاق وفي الرواية الأخرى قال لا يرجع; لأن حل
الدم من وجه كالاستحقاق ومن وجه كالعيب حتى لا يمنع صحة
البيع فلشبهه
(1/240)
تمام التسليم
وهو عيب عندهما وأداء الزيوف في الدين إذا لم يعلم به صاحب
الحق أداء بأصله; لأنه جنس حقه وليس بأداء بوصفه لعدمه
فصار قاصرا ولهذا
ـــــــ
بالاستحقاق قلنا عند الجهل به يرجع بجميع الثمن ولشبهه
بالعيب قلنا لا يرجع عند العلم بشيء; لأنه إنما جعل
كالاستحقاق لدفع الضرر عن المشتري وقد اندفع حين علم به.
فأما الحامل فهناك السبب الذي كان عند البائع يوجب انفصال
الولد لا موت الأم بل الغالب عند الولادة السلامة فهي مثل
الزاني إذا جلد, وليس هذا كالغصب; لأن الواجب على الغاصب
نسخ فعله وهو أن يرد المغصوب كما غصب ولم يوجد ذلك حين
ردها حاملا, وههنا الواجب على البائع تسليم المبيع كما
أوجبه العقد وقد وجد ذلك ثم إن تلف بسبب كان الهلاك به
مستحقا عند البائع ينتقض قبض المشتري فيه وإن لم يكن
مستحقا لا ينتقض قبض المشتري فيه والله أعلم كذا في
المبسوط والأسرار.
وإذا حققت ما ذكرنا علمت أن قوله أو الدين راجع إلى
المسألتين وأن الخلاف المذكور مختص بتسليم المبيع مشغولا
بالجناية وفي لفظ الكتاب إشارة إليه قيل انتقض التسليم
عنده وعندهما هذا تسليم كامل والتسليم يستعمل في العقد لا
في الغصب وإنما يستعمل فيه الرد; لأنه يقتضي مسابقة الأخذ
ولهذا قال الشيخ في مسألة الغصب فرده مشغولا وفي مسألة
البيع أو تسليم المبيع فعلم باستعمال لفظة التسليم أن
الخلاف في البيع دون الغصب إذ لو كان فيهما لقيل انتقض
الرد والتسليم وهذا رد وتسليم كامل. وقوله إذا هلك في ذلك
الوجه إشارة إلى أن مسألة الدين خارجة عن الخلاف أيضا; لأن
الهلاك إنما يتحقق في الجناية لا في الدين وإنما يتحقق فيه
البيع فحيث قيل هلك ولم يقل هلك أو بيع علم أن مسألة الدين
على الوفاق, وقوله تسليم كامل أي تام أراد به ليس بموقوف
كما قاله أبو حنيفة رحمه الله لا أنه أداء كامل; إذ العيب
يمنع الكمال في الأداء كما ذكرنا.
قوله: "وأداء الزيوف" هو جمع زيف أي مردود يقال زافت عليه
دراهمه أي صارت مردودة عليه لغش ودرهم زيف وزائف ودراهم
زيوف وزيف وهو دون النبهرج في الرداءة; لأن الزيف ما يرده
بيت المال ولكنه يروج فيما بين التجار والنبهرج ما يرده
التجار وربما تسامح فيه بعضهم, وإذا وجب على المديون دراهم
جياد فأدى زيوفا مكانها فهو أداء قاصر لوجود تسليم أصل
الواجب إذ الزيوف من جنس الدراهم ولهذا لو تجوز بها في
السلم والصرف تجوز مع أن الاستبدال فيهما حرام قبل القبض
ولكنه قاصر لفوات الوصف وهو الجودة.
(1/241)
قال أبو حنيفة
ومحمد رضي الله عنهما إنها إذا هلكت عند القابض بطل حقه
أصلا; لأنه لما كان أداء بأصله صار مستوفيا وبطل الوصف;
لأنه لا مثل له صورة ولا معنى
ـــــــ
ثم إذا كان قائما في يد رب الدين ولم يكن علم بالزيافة
حالة القبض كان له أن يفسخ الأداء ويطالبه بالجياد إحياء
لحقه في الوصف وفي الصرف والسلم يشترط مجلس العقد, وإذا
هلك عنده بطل حقه في الجودة عند أبي حنيفة ومحمد "رح" فلا
يرجع بشيء على المديون وقال أبو يوسف رحمه الله له أن يرد
مثل المقبوض ويطالبه بالجياد, لهما أن استيفاء الحق قدرا
حصل بالزيوف; لأنها من جنس حقه مساو له قدرا وإنما بقي حقه
في الجودة التي لا مثل لها ولا قيمة ولا يمكن تداركها إلا
بضمان الأصل ولا سبيل إليه; لأن القضاء بالضمان على القابض
حقا له ممتنع إذ الإنسان لا يضمن لنفسه وكيف يضمن وقد ملكه
ملكا صحيحا بالقبض, وحقا لغيره ولا طالب له ممتنع أيضا,
فإذا تعذر التدارك سقط للعجز وهذا هو القياس. واستحسن أبو
يوسف رحمه الله فقال يضمن مثل ما قبض ليحيي حقه في الجودة;
لأن حقه مراعى في الوصف كما في القدر ولو كان المقبوض دون
حقه قدرا لم يسقط حقه في المطالبة بقدر النقصان فكذا إذا
كان دون حقه وصفا إلا أنه تعذر عليه الرجوع بالقيمة
لتأديته إلى الربا فيرد مثل المقبوض كما يرد عينه إذا كان
قائما; لأن مثل الشيء يحكي عينه, وإنما يصير الزيوف حقا له
إذا أسقط حقه في الجودة فأما إذا لم يسقط فهي غير حقه
وتضمين الإنسان لنفسه إنما يبطل لعدم الفائدة وقد حصل ههنا
فائدة عظيمة وهي تدارك حقه في الصفة فيصح.
نظيره شراء الإنسان مال نفسه باطل وإذا تضمن فائدة صح وهو
أن يشتري مال المضاربة أو كسب عبده المأذون المديون أو
ماله مع مال غيره فكذا هذا, كذا في شرح الجامع الصغير
للمصنف وشمس الأئمة رحمهما الله.
"وقوله إذا لم يعلم به" ليس بشرط لكونه أداء قاصرا كما يدل
عليه سياق الكلام بل هو أداء قاصر علم به أو لم يعلم لكنه
شرط لصحة العين إذا كانت قائمة ورد المثل إذا كانت هالكة
عند أبي يوسف فإنه إذا علم به عند القبض ليس له ذلك
بالاتفاق, ولهذا أي ولكونه أداء بأصله; لأنه لا مثل له أي
للوصل منفردا عن الأصل ولم يجز إبطال الأصل أي أصل الأداء,
للوصف أي لأجل الوصف الذي هو تبع وهذا جواب عن كلام أبي
يوسف.
ثم الفرق لمحمد رحمه الله بين هذه المسألة وبين مسألة
الزكاة التي تقدمت أنه أمكن تضمين الوصف هناك; لأن سقوطه
للاحتراز عن الربا وأنه لا يجري بين المولى وعبده وههنا لا
يمكن تضمين الوصف لجريان الربا فيما بين العباد فلهذا وافق
أبا
(1/242)
ولم يجز إبطال
الأصل للوصف إذ الإنسان لا يضمن لنفسه واستحسن أبو يوسف
وأوجب مثل المقبوض إحياء لحقه في الوصف والأداء الذي هو في
معنى القضاء مثل أن يتزوج رجل امرأة على أبيها وهو عبد
فاستحق ووجبت قيمته فإن
ـــــــ
حنيفة. والفرق لأبي يوسف رحمه الله بينهما أن ما قبضه
الفقير في مسألة الزكاة لا يمكن أن يجعل مضمونا عليه; لأنه
إنما يقبضه في الحكم كفاية له من الله تعالى لا من المعطي
وبدون رد المثل يتعذر اعتبار الجودة منفردة عن الأصل ولهذا
لو كان المقبوض قائما لا يتمكن من الرد وطلب الجياد وكذا
ليس له ولاية المطالبة عن الغني إن لم يؤد إليه شيئا وههنا
رب الدين يتمكن من مطالبته أصلا ووصفا بطريق الجبر فأمكن
أن يجعل المقبوض مضمونا بالمثل إحياء لحقه. قوله: "والأداء
الذي هو في معنى القضاء" إلى آخره, رجل تزوج امرأة على
أبيها عتق الأب; لأن المهر يملك بنفس العقد كالبضع, فإن
استحق الأب بقضاء بطل ملكها وبطل عتقه وعلى الزوج قيمته;
لأنه سمى مالا وعجز عن تسليمه فيجب قيمته كما إذا تزوجها
على عبد الغير ابتداء فإن لم يقض بقيمته حتى ملك الزوج
الأب أي أبا المرأة واللام للعهد, بوجه من الوجوه أي بشراء
أو هبة أو ميراث أو نحوها, لزم الزوج تسليم العبد إلى
المرأة حتى لو امتنع عنه بعد طلب المرأة يجبر على التسليم,
ولو أراد أن يدفعه إليها فأبت عن القبول تجبر عليه أيضا;
لأن هذا أداء لعين ما استحق بالتسمية في العقد وكونه ملك
الغير لا يمنع صحة التسمية وثبوت الاستحقاق بها على الزوج
ألا ترى أنه تلزمه القيمة إذا تعذر التسليم وليس ذلك إلا
لاستحقاق الأصل. فرق بين هذا وبين ما إذا باع عبدا فاستحق
العبد بقضاء ثم اشتراه البائع من المستحق لا يجبر البائع
على تسليمه إلى المشتري; لأن بالاستحقاق ظهر أن البيع توقف
على إجازة المستحق وقد بطل برده, فإذا انفسخ البيع لا يجبر
البائع على التسليم أما الموجب لتسليم العبد ههنا فقائم
وهو النكاح; لأنه لا ينفسخ باستحقاق المهر كما لا ينفسخ
بهلاكه, فإذا قدر على تسليم العبد يلزمه, إلا أنه في معنى
القضاء; لأن تبدل الملك بمنزلة تبدل العين فكان هذا غير ما
وجب تسليمه بالعقد حكما, والدليل عليه أن عائشة رضي الله
عنها قالت دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والبرمة
تفور بلحم فقرب إليه خبز وإدام من أدم البيت فقال عليه
السلام: "ألم أر برمة فيها لحم" قالوا بلى ولكن ذاك لحم
تصدق به على بريرة وأنت لا تأكل الصدقة قال: "هو عليها
صدقة ولنا هدية" 1 كذا في المصابيح فجعل اختلاف السبب
بمنزلة اختلاف العين. ولا يقال كيف يصح هذا والصدقة لا تحل
لبني
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الطلاق 7/61 ومسلم في العتق حديث رقم
1504 والإمام أحمد في المسند 6/178.
(1/243)
لم يقض بقيمته
حتى ملك الزوج الأب بوجه من الوجوه لزمه تسليمه إلى
المرأة; لأنه عين حقها في المسمى إلا أنه في معنى القضاء;
لأن تبدل الملك أوجب تبدلا في العين حكما فكان هذا عين
حقها في المسمى لكن بمعنى المثل ولهذا قلنا: إن الزوج إذا
ملكه لا يملك أن يمنعها إياه; لأنه عين حقها ولهذا قلنا:
إنه لا يعتق حتى يسلمه إليها أو يقضي به لها; لأنه مثل من
وجه فلا تملك قيمته إلا بالتسليم ولهذا قلنا إذا أعتقه
الزوج أو كاتبه أو باعه قبل التسليم صح; لأنه مثل من وجه
وعليه قيمته ولهذا قلنا إذا قضي بقيمته على الزوج ثم
ـــــــ
هاشم ومواليهم; لأنا نقول إنها كانت مولاة عائشة وهي من
بني تيم لا من بني هاشم كيف وكان ذلك التصدق تطوعا بدليل
كونه لحما وحرمته مختصة بالنبي عليه السلام, وتصدق أبو
طلحة بحديقة له على أمه ثم ماتت فورثها منها فسأل عن ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله تعالى قبل
عنك صدقتك ورد عليك حديقتك" 1, ولأن بتبدل الوصف يتغير حكم
العين حسا وشرعا كالخمر إذا تخللت تغير حكمها الطبيعي من
الحرارة إلى البرودة ومن الإسكار إلى عدمه وحكمها الشرعي
من الحرمة إلى الحل, وقد يتغير بتبدله حل التصرف الثابت
للبائع إلى الحرمة وحرمته الثابتة للمشتري إلى الحل أيضا
فيجوز أن يجعل العين باعتباره بمنزلة شيء آخر.
وإذا ثبت هذا كان هذا التسليم من الزوج أداء مال من عنده
مكان ما استحق عليه فكان شبيها بالقضاء من هذا الوجه,
ولهذا أي ولكون العبد عين المسمى في العقد حقيقة قلنا لا
يملك الزوج أن يمنعها إياه أي العبد; لأنه عين حقها, ولهذا
أي ولكونه غير المسمى حكما قلنا إنه لا يعتق قبل التسليم
إليها والقضاء به لها; لأنه لما كان ملحقا بالمثل كان ملكا
للزوج قبل التسليم والقضاء فلا يعتق عليها, والفقه فيه أن
العقد حال وقوعه لم يقع تمليكا للعبد; لأن تمليك مال الغير
لا يصح وإنما وقع تمليكا لمثل مالية العبد في الذمة فكان
المهر مثل ماليته إلا أن مالية العبد مثل لما في ذمته
حقيقة ومالية محل آخر ليست كذلك; لأنها تكون مثلا بالحزر
والظن فمتى أمكن تسليم عين العبد لا يصار إلى غيره; لأنه
أعدل من القيمة وإذا ثبت هذا لا يكون العبد ملكا لها قبل
التسليم أو القضاء.
ولهذا أي ولكونه غير المسمى حكما قلنا إذا تصرف الزوج فيه
بإعتاق أو كتابة أو بيع أو هبة قبل التسليم والقضاء نفذت
تصرفاته; لأنها صادفت ملك نفسه, وكان ينبغي أن
ـــــــ
1 ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4/235.
(1/244)
ملكه الزوج أن
حقها لا يعود إليه وهذه الجملة في نكاح كتاب الجامع مذكورة
ويتصل بهذا الأصل أن من غصب طعاما فأطعمه المالك من غير أن
يعلمه لم يبرأ عند الشافعي لأنه ليس بأداء مأمور به; لأنه
غرور إذ المرء لا
ـــــــ
ينقض التصرفات التي تحتمل النقض كالبيع والهبة لتعلق حق
المرأة بعين العبد كالمشتري إذا تصرف في الدار المشفوعة
والراهن إذا تصرف في المرهون وإنما لا تنقض; لأنها لو نقضت
بطل حق الزوج في التصرف لا إلى خلف ولو لم تنقض بطل حق
المرأة إلى خلف وهو القيمة والإبطال خلف أهون فكان أولى
بالتحمل بخلاف مسألة الشفيع; لأن ثمة لو نقض بطل حق
المشتري إلى خلف وهو الثمن ولو لم ينقض بطل الشفيع أصلا
وفي الرهن لا ينقض تصرفاته بل يؤخر إلى أن يفك الرهن كذا
في الجامع لشمس الإسلام رحمه الله.
ولهذا أي ولكون العبد غير المسمى في الحكم قلنا: إذا قضى
القاضي بقيمته بعد الاستحقاق ثم ملكه الزوج لم يعد حقها
إلى العين فلا يجبر الزوج على التسليم ولا المرأة على
القبول; لأن الحق نقل من العين إلى القيمة بالقضاء وتقرر
به فانقطع الحق عما له حكم المثل كمن غصب شيئا له مثل من
جنسه فهلك عنده ثم انقطع مثله فقضى القاضي عليه بالقيمة ثم
جاء, أو أنه لم يعد حقه إلى المثل, ولو كان للعبد بعد
الدخول في ملك الزوج حكم عين المسمى من كل وجه لعاد حقها
فيه إذا كان القضاء بالقيمة بقول الزوج مع اليمين كما في
المغصوب إذا عاد من إباقة بعد قضاء القاضي بالقيمة للمغصوب
منه بقول الغاصب مع يمينه والله أعلم.
قوله: "ويتصل بهذه الجملة" أي وبما ذكرنا من أقسام الأداء
يتصل مسألة مبنية على الأداء وهي أن من غصب طعاما فقدمه
إلى مالكه وأباحه كله فأكله وهو لا يعلم به, أو غصب ثوبا
فكساه رب الثوب فلبسه حتى يخرق ولم يعرفه يبرأ الغاصب عن
الضمان عندنا, وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله لا يبرأ
وهذا إذا لم يحدث فيه ما يقطع حق المالك فإن أحدث فيه ما
يقطع حقه بأن كان دقيقا فخبزه ثم أطعمه أو لحما فشواه ثم
أطعمه أو تمرا فنبذه وسقاه أو ثوبا فقطعه وخاطه قميصا
وكساه لا يبرأ عن الضمان بالاتفاق; لأنه ملكه بهذه
التصرفات عندنا ولو وهبه وسلمه إليه أو باعه منه وهو لا
يعلم به وأكله المالك من غير أن يطعمه الغاصب يبرأ عن
الضمان بالاتفاق هكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه
الله له أنه ما أتى بالرد المأمور به فإنه غرور منه والشرع
لا يأمره بالغرور والغاصب لا يستفيد البراءة إلا بالرد
المأمور به, فإذا لم يوجد صار ضامنا. ولأنه ما أعاده إلى
ملكه كما كان; لأن المباح له الطعام لا يصير مطلق التصرف
فيما أبيح له فكان
(1/245)
يتحامى في
العادات عن مال غيره في موضع الإباحة, والشرع لم يأمر
بالغرور فبطل الأداء نفيا للغرور فصار معنى الأداء لغوا
ردا للغرور.
قلنا نحن هذا أداء حقيقة; لأنه عين ماله وصل إلى يده ولو
كان قاصرا لتم بالهلاك فكيف لا يتم وهو في الأصل كامل فأما
الخلل الذي ادعاه فإنما وقع
ـــــــ
فعله قاصرا في حكم الرد فلو جعلنا هذا ردا تضرر به المغصوب
منه; لأنه أقدم على الأكل بناء على خبزه أنه أكرم ضيفه ولو
علم أنه ملكه ربما لم يأكله وحمله إلى عياله فأكله معهم
فلدفع الضرر عنه بقي الضمان على الغاصب كذا ذكر شمس الأئمة
رحمه الله.
فالنكتة الأولى تشير إلى أن الأداء لم يوجد, والثانية تشير
إلى أنه وجد قاصرا ولكنه لم يعتبر نفيا للغرور, وحجتنا في
ذلك أن الواجب على الغاصب نسخ فعله وقد تحقق ذلك أما من
حيث الصورة فلأنه وصل إلى يد المالك وبه ينعدم ما كان
فائتا وأما من حيث الحكم فلأنه صار متمكنا من التصرف حتى
لو تصرف فيه نفذ تصرفه غير أنه جهل بحاله وجهله لا يكون
مبقيا للضمان في ذمة الغاصب مع تحقق العلة المسقطة كما أن
جهل المتلف لا يكون مانعا من وجوب الضمان عليه عند تحقق
الإتلاف إذا كان يظن أنه ملكه. وأما الغرور فثابت ولكن
الغرور بمجرد الخبر لا يوجب حكما كمن عرف بسراق في الطريق
فأخبر أن الطريق أمن فخرجوا فقطع عليهم لا يضمن الغار شيئا
وإنما المعتبر منه ما يوجد في ضمن عقد ضمان كما في ولد
المغرور ولم يوجد ذلك فإن الغاصب المضيف ما شرط لنفسه
عوضا. ولأن أكثر ما في الباب أن لا يكون فعل الغاصب هو
الرد المأمور به ولكن تناول المغصوب منه عين المغصوب كاف
في إسقاط الضمان عن الغاصب, ألا ترى أنه لو جاء إلى بيت
الغاصب وأكل ذلك الطعام بعينه وهو يظن أنه ملك الغاصب برئ
الغاصب من الضمان, فكذلك إذا أطعمه الغاصب إياه كذا في
المبسوط.
قوله: "ليس بأداء مأمور به" إذ لا بد للمأمور به من أن
يكون حسنا والغرور قبيح منهي عنه فكيف يكون مأمورا به. إذ
المرء لا يتحامى أي لا يجتنب ولا يحترز في العادات عن مال
الغير في موضع الإباحة; لأن المانع من التصرف في مال الغير
الحرمة الشرعية أو المنع الحسي, فإذا زال ذلك بالإباحة لا
يبالي بإتلافه بخلاف مال نفسه فإنه يحترز عن إتلافه أشد
الاحتراز بقاء له على نفسه وإذا كان كذلك كان التلف مضافا
إلى الغرور لا إلى فعله فبقي الضمان على الغار, فبطل معنى
الأداء أي بطل إيصاله إلى المالك حقيقة ردا للغرور المنهي
عنه, وحاصل هذا الدليل أن ما صدر عنه ليس بأداء لكونه
غرورا.
وقوله ولو كان قاصرا لتم بالهلاك جواب عين نكتة للشافعي لم
تذكر في الكتاب
(1/246)
لجهله والجهل
لا يبطله وكفى بالجهل عارا فكيف يكون عذرا في تبديل إقامة
الفرض اللازم والعادة المخالفة للديانة الصحيحة على ما زعم
لغو; لأن عين ماله
ـــــــ
وهي ما ذكرنا أن الغاصب أزال يدا مطلقة لجميع التصرفات وما
أعاد بتقديم الطعام إليه إلا يد إباحة فكان هذا أداء قاصرا
فلا ينوب عن الكامل فأجاب وقال لو كان قاصرا كما زعمتم لتم
بالهلاك كما في أداء الزيوف عن الجياد مع أنا لا نسلم أنه
قاصر بل هو كامل; لأنه إيصال الحق إلى مالكه أصلا ووصفا.
وقوله ما أعاد الأيد إباحة قلنا جهة الإباحة ساقطة
بالإجماع; لأنه لا يتصور في حق المالك إلا جهة الملك فأما
الخلل الذي ادعاه الخصم وهو الغرور الذي تضمنه هذا الأداء
فإنما وقع بجهل المالك والجهل أي جهل المالك لا يبطل
الأداء الصادر من الغاصب إذ علم المالك ليس من شرائط صحة
الأداء كما ذكرنا وكفى بالجهل عارا; لأنه نقيصة فإن الرجل
يعير به فوق تعييره بنقصان أعضائه فكيف يصلح عذرا في تبديل
إقامة الفرض اللازم وهو الرد إلى المالك يعني تسليم هذا
العين إلى المالك فرض على الغاصب وقد أتى به بجهله بأن هذا
ملكه لا يصلح مبطلا له, ألا ترى أن المغصوب لو كان عبدا
فقال الغاصب للمالك أعتق هذا العبد فقال أعتقته وهو لا
يعلم أنه عبده ينفذ عتقه ولا يرجع على الغاصب بشيء وكذا
البائع لو قال للمشتري أعتق عبدي هذا وأشار إلى المبيع
فأعتقه المشتري ولم يعلم بأنه عبده صح إعتاقه ويجعل قبضا
ويلزمه الثمن; لأنه أعتق ملكه وجهله بأنه ملكه لا يمنع صحة
ما وجد منه فكذا هذا.
وقوله: "والعادة المخالفة للديانة الصحيحة" لغو جواب عن
قوله المرء لا يتحامى في العادات عن مال الغير يعني العادة
إنما تعتبر إذا لم يكن مخالفة للديانة الصحيحة, وقيد
بالصحيحة احترازا عن ديانات أهل الأهواء والمتقشفة ونحوها
فإن العادة المخالفة لها يعتبر, وما ذكرت من العادة مخالفة
للديانة الصحيحة; لأن مقتضى الإسلام أن لا يرغب في مال
الغير وأن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه قال عليه السلام:
"والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
1, فكما يكره إتلاف مال نفسه مع كونه مطلق التصرف فيه
فكذلك ينبغي أن يكره إتلاف مال الغير.
وروي عن بعض الكبار أنه قال: وقع حريق بالليل فخرجت أنظر
إلى دكاني فقيل لي الحريق بعيد من دكانك فقلت: الحمد لله
ثم قلت في نفسي: هب إنك نجوت من البلاء
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الإيمان باب رقم 14 ومسلم في الإيمان
حديث رقم 45 والإمام أحمد في المسند 3/176 و206 و251 و272
و278 و289.
(1/247)
وصل إلى يده.
أما القضاء بمثل معقول فنوعان كامل وقاصر أما الكامل
فالمثل صورة ومعنى وهو الأصل في ضمان العدوان.
وفي باب القروض تحقيقا للجبر حتى كان بمنزلة الأصل من كل
وجه
ـــــــ
ألا تهتم للمسلمين ما تهتم لنفسك فأنا أستغفر الله من قولي
الحمد لله منذ ثلاثين سنة, وإذا كان كذلك كانت العادة
المخالفة لهذه الديانة غير معتبرة فلا تصلح ناقصة للأداء
الموجود حقيقة في القضاء بمثل معقول في حقوق العباد.
قوله: "كامل وقاصر" قيل هذا التقسيم يجري في حقوق الله
تعالى أيضا فإن قضاء الفائتة بالجماعة قضاء بمثل معقول
كامل وقضاؤها منفردا قضاء بمثل معقول قاصر كما في الأداء
فصارت الأقسام بهذا الاعتبار أربعة عشر. ويحتمل أن لا يجري
هذا التقسيم فيها; لأن صفة القصور في المثل إنما تثبت إذا
تحقق الوجوب في الصفة ليتمكن بفواتها قصور فيه كما في
الأداء ولم يتحقق هنا; لأن وصف الجماعة ليس بلازم في
القضاء; لأن اللزوم فيه يبتني على صيرورة الواجب دينا في
الذمة وبعد الفوات لا يصير وصف الجماعة دينا في الذمة
بالإجماع بل الدين أصل الصلاة لا غير فبفوات هذا الوصف لا
يتمكن قصور في المثل بل القضاء منفردا مثل كامل والقضاء
بجماعة أكمل منه فكانت الأقسام بهذا الاعتبار ثلاثة عشر.
وهذا بخلاف الأداء فإن فوات هذا الوصف يوجب قصورا فيه;
لأنه ثبت له فيه شبه الوجوب من حيث إنه سنة مؤكدة ولكن
أثره يظهر في الفعل حتى سقط به التخيير بين الفعل والترك
بترجح جانب الفعل على سبيل التأكيد دون صيرورته دينا في
الذمة; لأنه ليس بواجب حقيقة فلشبه الوجوب يثبت القصور في
الأداء بفواته ولعدم الوجوب حقيقة لا يثبت في القضاء وهذا;
لأن وصف الجماعة من الشعار فيليق بالأداء الذي ينبئ عن شدة
الرعاية ويجوز أن يثبت له فيه شبه الوجوب دون القضاء الذي
ينبئ عن التقصير في الامتثال ولهذا قيل كره قضاء الصلوات
في المسجد علانية وإنما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما فاته غداة ليلة التعريس بجماعة لبقاء معنى الأداء من
وجه بأن ما بعد الطلوع إلى الزوال له حكم ما قبل الطلوع في
بعض الأحكام مثل قضاء سنة الفجر وتدارك الورد الذي فاته
بالليل كما جاءت به السنة وكان ينبغي أن تكره الجماعة في
القضاء لما قلنا إلا أنه لما كان مبنيا على الفائت انتفت
الكراهة كما انتفى شبه الوجوب وبقي الجواز بظاهر الحديث
والله أعلم.
قوله: "وفي باب القروض" إنما عد الشيخ رد المثل في باب
القروض من القضاء وفي باب الديون من الأداء; لأن رد عين ما
قبض ممكن في القرض فصح أن يجعل رد مثله
(1/248)
فكان سابقا.
أما المثل القاصر فالقيمة فيما له مثل إذا انقطع مثله
وفيما لا مثل
ـــــــ
قضاء لوجود شرطه وهو تصور الأصل فأما تسليم الدين فغير
ممكن فلا يصح أن يجعل تسليم العين فيه قضاء له لعدم شرطه
فكان تسليم العين فيه كتسليم نفس الدين فلهذا كان من أقسام
الأداء.
"فإن قيل" ينبغي أن يكون رد المثل في القرض قضاء يشبه
الأداء; لأن بدل القرض في حكم عين المقبوض إذ لو لم يجعل
كذلك كان مبادلة الشيء بجنسه نسيئة ولهذا كان القرض في حكم
الإعارة حتى لا يلزم فيه التأجيل عندنا بخلاف الديون.
"قلنا" بدل القرض غير المقبوض حقيقة وإنما أخذ حكم المقبوض
ضرورة الاحتراز عن الربا فلا يظهر فيما وراء موضع الضرورة
وهو كونه أداء كذلك قيل., والأولى أن يقال كونه شبيها
بالأداء لا يمنعه من أن يكون من أقسام القضاء بمثل معقول
كما أشرنا إليه فيما سبق; لأن الشيخ قسم القضاء بالمثل
المعقول مطلقا ولم يقيده بالقضاء المحض فيدخل فيه القضاء
المحض وغير المحض.
قوله: "تحقيقا للجبر" جبر الكسر جبرا أي أصلحه. فالغاصب
فوت على المغصوب منه ما له صورة ومعنى فالجبر التام أن
يتداركه بأداء مال من عنده هو مثل لما فوت عليه صورة ومعنى
حتى يقوم مقام الأصل وهو المغصوب من كل وجه, فكان أي المثل
صورة ومعنى, سابقا أي على المثل معنى وهو القيمة فلا يصار
إليه إلا عند تعذر رد الأصل صورة ومعنى, وهو مذهب عامة
الفقهاء وقال نفاه القياس لأن الواجب على الغاصب رد القيمة
في جميع الأموال عند تعذر رد العين; لأن حق المغصوب منه في
العين والمالية وقد تعذر إيصال العين إليه فيجب إيصال
المالية إليه ووجوب الضمان على الغاصب باعتبار صفة المالية
ومالية الشيء عبارة عن قيمته, ولكن العامة يقولون الواجب
هو المثل قال الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
[البقرة: 194], وتسمية الفعل الثاني اعتداء بطريق المقابلة
مجازا كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
مِثْلُهَا} [الشورى: 40], وقد ثبت بالنص أن هذه الأموال
أمثال متساوية قال عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثل بمثل"
1, الحديث فيجب رد المثل لا رد القيمة, ولأن المقصود هو
الجبر كما ذكرنا وذلك في المثل أتم; لأن فيه مراعاة الجنس
والمالية وفي القيمة مراعاة المالية فقط فكان إيجاب المثل
أعدل إلا إذا تعذر ذلك
ـــــــ
1 أخرجه مسلم في المساقاة حديث رقم 1588 وابن ماجه في
التجارات حديث رقم 2255 والإمام أحمد في المسند 2/232.
(1/249)
له; لأن حق
المستحق في الصورة والمعنى إلا أن الحق في الصورة قد فات
للعجز عن القضاء به فبقي المعنى ولهذا قال أبو حنيفة رضي
الله عنه فيمن
ـــــــ
بالانقطاع من أيدي الناس "فح" يصار إلى المثل القاصر وهو
القيمة للضرورة كذا في المبسوط.
قوله: "فالقيمة فيما له مثل" كالمكيل والموزون والعددي
المتقارب, إذا انقطع مثله أي عن أيدي الناس بأن لا يوجد في
الأسواق وهذا بالاتفاق, وفيما لا مثل له كالحيوانات
والثياب والعدديات المتفاوتة فإن الواجب فيها المثل معنى
وهو القيمة عند تعذر رد العين عند الجمهور, وقال أهل
المدينة يضمن مثلها من جنسها معدلا بالقيمة; لأن فيه رعاية
المماثلة صورة ومعنى أما صورة فظاهر وأما معنى فلأنهما
عدلا قيمة فكان أولى من الدراهم التي تفوت فيها المماثلة
صورة, وروي أن عائشة رضي الله عنها كسرت قصعة لصفية رضي
الله عنها ثم جاءت بقصعة مثل تلك القصعة فردتها واستحسن
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم1, وروي أن أعرابيا أتى
عثمان رضي الله عنه وقال إن بني عمك عدوا على إبلي فقطعوا
ألبانها وأكلوا فصلانها, الحديث إلى أن قال عبد الله بن
مسعود رضي الله عنه أرى أن يأتي هذا واديه فيعطي ثمة إبلا
مثل إبله وفصلانا مثل فصلانه فرضي به عثمان. وتمسك الجمهور
بالحديث المشهور وهو ما روي عن النبي عليه السلام: "من
أعتق شقصا له في عبد قوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرا" 2
وهذا تنصيص على اعتبار القيمة فيما لا مثل له إذ لم يقل
يضمن مثله نصف عبد آخر وبأن ضمان التعدي مبني على
المماثلة, وهذه الأموال تتفاوت في المالية خلقة فتعذر فيها
رعاية الصورة إذ لو روعيت لفاتت المماثلة معنى فوجب رعاية
المعنى الذي لا تفاوت فيه, وهو القيمة بخلاف المكيلات
والموزونات; لأنها لا تتفاوت خلقة فأمكن فيها رعاية الصورة
والمعنى يوضحه أنه لو اشترى عشرة أقفزة حنطة بعشرة دراهم
كان له أن يبيع واحدا منها مرابحة على درهم لعدم تفاوت
القفزان وبمثله في العبيد لا يجوز للتفاوت الذي بينهم فلا
يعرف قدر الواحد من الجملة قطعا. وأما حديث عائشة فتأويله
أن الرد كان على سبيل المروءة ومكارم الأخلاق لا على طريق
الضمان فقد كانت القصعتان لرسول الله عليه السلام
ـــــــ
1 أخرجه الترمذي في الأحكام حديث رقم 1359 وابن ماجه في
الأحكام حديث رقم 2333 والإمام أحمد في المسند 3/105.
2 أخرجه مسلم في الإيمان حديث رقم 1503 وأبو داود في العتق
حديث رقم 3937 والترمذي في الأحكام رقم 1348 وابن ماجه في
العتق حديث رقم 2527 والإمام أحمد في المسند 2/326 و427.
(1/250)
قطع يد رجل ثم
قتله عمدا أنه يقطع ثم يقتل إن شاء الولي; لأنه مثل كامل
وأما القتل المنفرد فمثل قاصر
ـــــــ
ويحتمل أن القصعة كانت من العدديات المتقاربة. وأما حديث
عثمان فقد كان ذلك على سبيل الصلح لا على طريق القضاء
بالضمان; لأن المتلف لم يكن عثمان والإنسان غير مؤاخذ
بجناية بني عمه إلا أنه تبرع بأداء مثل ذلك عن بني عمه
لفرط ميله إلى أقاربه وانتصارهم به كذا في الأسرار
والمبسوط.
قوله: "ولهذا" أي ولكون المثل الكامل أصلا في الباب وسابقا
على القاصر قال أبو حنيفة إلى آخره, والمسألة على وجوه أما
إن كان القتل بعد البرء أو قبله, وأما إن كان القطع والقتل
من شخص واحد أو من شخصين, وأما إن كانا خطأين أو عمدين أو
أحدهما عمدا والآخر خطأ فإن كان القتل بعد البرء فهما
جنايتان على كل حال بالاتفاق. وكذا إن كان قبل البرء إلا
أنه من شخص آخر, وكذا إن كان قبل البرء من ذلك الشخص ولكن
كان أحدهما عمدا والآخر خطأ, وإن كانا خطأين من شخص واحد
والقتل قبل البرء فهما جناية واحدة بالاتفاق, وإن كانا
عمدين فهما جنايتان عند أبي حنيفة رحمه الله وجناية واحدة
عندهما, فتبين بما ذكرنا أن قوله قطع يد رجل مقيد بالعمد
أي قطعا عمدا, وإن قوله ثم قتله عمدا مقيد بأن يكون قبل
البرء أي قتله عمدا قبل برء اليد, أنه الضمير للشأن أي
الشأن أن الولي يتخير إن شاء قطعه ثم قتله وإن شاء قتله من
غير قطع; لأن القصاص مبني على المساواة في الفعل والمقصود
الفعل وفي القتل بدون القطع مراعاة المساواة في المقصود
بالفعل وفيه مع القطع مراعاة المساواة في المقصود بالفعل
وصورة الفعل جميعا فيتخير الولي بينهما لا يمنع من القطع
بخلاف الخطأ فالمعتبر هناك صيانة المحل عن الإهدار لا صورة
الفعل; لأن الخطأ موضوع عنا رحمة من الشرع علينا, وقالا بل
له أن يقتل وليس له أن يقطع; لأن القطع موقوف في حق الحكم
على السراية فإذا سرى سقط حكمه في نفسه وصار قتلا والفعل
الثاني ههنا إتمام لما توقف عليه القطع وتحقيق له بدليل أن
حكمه حكم السراية بعينه فكانا جناية واحدة بخلاف ما إذا
تخلل بينهما برء; لأن الجناية الأولى قد انتهت واستقر
حكمها بالبرء فيكون الثانية إنشاء جناية أخرى, ألا ترى
أنهما لو كانا خطأين وتخلل برء بينهما تجب دية ونصف كما لو
حلا بشخصين. وبخلاف ما إذا كان الجاني اثنين; لأن الفعل من
الأول لم يتوقف على أن يصير بالسراية فعلا مضافا إلى شخص
آخر فلا يمكن جعل الثاني إتماما للأول, وبخلاف ما إذا كان
أحدهما عمدا والآخر خطأ; لأن صفة الفعل يختلف باختلاف
الموجب; لأن باختلاف صفة الفعل يختلف الموجب فلا يمكن جعل
الثاني إتماما للأول كما إذا اختلف الفاعل أو محل الفعل.
(1/251)
وقالا بل يقتله
ولا يقطعه; لأن القتل بعد القطع تحقيق لموجب القطع فصار
أمر الجناية يئول إلى القتل, وقلنا هذا هكذا من طريق
المعنى فأما من طريق الصورة في باب جزاء الفعل فلا, ألا
ترى أن القتل قد يصلح ماحيا أثر القطع كما يصلح محققا;
لأنه علة مبتدأة صالحة للحكم فوق الأول فخيرناه بين
الوجهين. ولهذا لا يضمن المثلي بالقيمة إذا انقطع المثل
إلا يوم الخصومة
ـــــــ
وإيضاح جميع ما ذكرنا في فصل الخطأ أنه لو قطع يده ثم قتله
قبل البرء لا يجب إلا دية واحدة فكذا ههنا وقلنا هذا أي
القتل بعد القطع قبل البرء, هكذا أي تحقيق لموجب القطع كما
ذكرتم فكانا جناية واحدة ولكنه من طريق المعنى والمقصود
فأما من طريق الصورة فلأن الفعل متعدد.
وقوله في باب جزاء الفعل إشارة إلى ما ذكرنا من الفرق أن
الواجب في باب القصاص جزاء الفعل فإنما يقتل نفوسا بنفس
واحدة لتعدد الأفعال بخلاف الخطأ فإن الواجب فيه بدل
الفائت فإن جماعة لو قتلوا واحدا خطأ لم تجب إلا دية واحدة
وههنا قد تعدد الفعل فيجوز أن يتعدد الجزاء, قوله ألا ترى
أنه يصلح ماحيا أثر القطع كما يصلح محققا يعني أن القتل
بعد القطع كما يصلح إتماما للفعل الأول من وجه فكذلك يصلح
ماحيا له بمنزلة البرء من حيث إن المحل يفوت به ولا تصور
للسراية بعد فوات المحل والقتل بنفسه علة صالحة للحكم وهو
إزهاق الروح فوق الأول; لأنه ليس بمؤد إلى الإزهاق لا
محالة بل الغالب فيه عدمه فيصلح أن يكون الحكم مضافا إلى
القتل ابتداء, ألا ترى أن القاتل لو كان غير القاطع كان
القصاص في النفس على الثاني خاصة ولو كان محققا لا محالة
لوجب القصاص عليهما, ويؤيده قوله تعالى: {وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3], جعل
الذكاة قاطعة للسراية وإلا لما حل المذكى بعد جرح السبع.
ولهذا قلنا إذا رمى إلى صيد تاركا للتسمية عمدا وجرحه ثم
أدركه وذكاه حل فعلم أن الفعل الثاني يصلح ماحيا كما يصلح
محققا فلهذا خيرناه بين الوجهين.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولكون المثل الكامل أصلا في ضمان
العدوان وسابقا على القاصر قلنا إذا انقطع المثل في المثلي
تعتبر القيمة وقت القضاء عند أبي حنيفة رحمه الله; لأن
التحول إلى القيمة إنما يتحقق وقت القضاء إذ المثل هو
الواجب في الذمة قبله وهو مطالب به حتى لو صبر إلى مجيء أو
أنه كان له أن يطالبه بالمثل وإنما يتحول إلى القيمة للعجز
وذلك وقت القضاء بخلاف ما إذا كان المغصوب أو المستهلك مما
لا مثل له; لأن الواجب هناك وإن كان هو المثل عند أبي
حنيفة ولكنه غير مطالب بأداء المثل بل
(1/252)
عند أبي حنيفة
رضي الله عنه; لأن المثل القاصر لا يصير مشروعا مع احتمال
الأصل ولا يقطع الاحتمال إلا بالقضاء ولهذا لا يضمن منافع
الأعيان بالإتلاف بطريق التعدي; لأن العين ليس بمثل لها
صورة ولا معنى أما الصورة فلا شك فيها وأما المعنى فلأن
المنافع إذا وجدت كانت إعراضا لا تبقى زمانين وليس
ـــــــ
هو مطالب بأداء القيمة بأصل السبب فتعتبر قيمته عند ذلك,
وأبو يوسف رحمه الله يقول لما انقطع المثل فقط التحق بما
لا مثل له في وجوب اعتبار القيمة والخلف إنما يجب بالسبب
الذي يجب به الأصل وذلك الغصب فتعتبر قيمته يوم الغصب.
ومحمد رحمه الله يقول أصل الغصب أوجب المثل خلفا عن رد
العين وصار ذلك دينا في ذمته فلا يوجب القيمة أيضا; لأن
السبب الواحد لا يوجب ضمانين ولكن المصير إلى القيمة للعجز
عن أداء المثل وذلك بالانقطاع عن أيدي الناس فتعتبر قيمته
بآخر يوم كان موجودا فيه فانقطع كذا في المبسوط.
قوله: "ولهذا لم يضمن منافع الأعيان إلى آخره" أي ولكون
المثل الكامل أو القاصر شرطا في القضاء قلنا لا يضمن
المنافع بالأعيان; لأنها ليست بمثل للمنافع لا كاملا ولا
قاصرا, أو معناه ولكون العجز مسقطا للضمان في حقوق العباد
كما في حقوق الله تعالى فإنه لو غصب زوجة إنسان أو ولده
وهلك عنده لا يجب الضمان للعجز قلنا لا يضمن المنافع
بالإتلاف للعجز عن تسليم المثل. واعلم بأن المنافع لا تضمن
بالغصب ولا بإتلاف عندنا وقال الشافعي تضمن بهما وصورة
الغصب أن يمسك العين المغصوبة مدة ولا يستعملها وصورة
الإتلاف أن يستعملها بأن يستخدم العبد أو يركب الدابة أو
يسكن البيت.
ثم الخلاف في مسألة الغصب ليس بناء على الأصل المذكور بل
هو بناء على الاختلاف في زوائد الغصب فإنها ليست بمضمونة
على الغاصب عندنا; لأن الغصب هو إزالة اليد المحقة بإثبات
يد المبطلة ولا يتصور الإزالة في الزوائد لحدوثها في يد
الغاصب فكذلك المنافع أزهى زوائد تحدث في العين شيئا فشيئا
وعنده هي مضمونة; لأن الغصب ليس إلا إثبات اليد المبطلة
وقد يتحقق ذلك في الزوائد فكذلك المنافع; لأن اليد تثبت
على المنفعة كما تثبت على العين. فأما الخلاف في الإتلاف
فبناء على الأصل المذكور وهو القدرة على المثل وعدمها لا
على إثبات اليد وإزالتها ألا ترى أن الزوائد تضمن بالإتلاف
بلا خلاف فتحقق بما ذكرنا أن الشيخ إنما قيد بقوله
بالإتلاف احترازا عن الغصب وبقوله بطريق التعدي احترازا عن
الإتلاف بالعقد كالإجارة والعارية, ثم منافع الحر مضمونة
بالإتلاف عنده قولا واحدا حتى لو استسخر حرا واستعمله لزمه
أجر المثل
(1/253)
لما لا تبقى
زمانين صفة التقوم; لأن التقوم لا يسبق الوجود وبعد الوجود
التقوم لا يسبق الإحراز والاقتناء, والإعراض لا يقبل هذه
الأوصاف إلا أن يثبت إحرازها
ـــــــ
وغير مضمونة بالغصب في قول حتى استولى عليه وحبسه حتى
تعطلت منافعه لا يلزمه شيء; لأن منافع الحر تحت يده ولا يد
لغيره عليه كثياب بدنه بخلاف العبد. وجه قول الشافعي رحمه
الله في مسألة الإتلاف أن المنافع أموال متقومة فتضمن
بالإتلاف كالأعيان.
وإنما قلنا أنها أموال بدليل الحقيقة والعرف والحكم, أما
الحقيقة فلأن المال غير الآدمي خلق لمصالح الآدمي والمنافع
منا أو من غيرنا بهذه الصفة وكيف لا والمصلحة في التحقيق
تقوم بمنافع الأشياء لا بذواتها, والذوات تصير متقومة
ومالا بمنافعها, إذ كل شيء لا منفعة فيه لا يكون مالا فكيف
يسقط حكم المالية والتقوم عنها. وأما العرف فلأن الأسواق
إنما تقوم بالمنافع والأعيان جميعا فإن الحجر والخانات
إنما بنيت للتجارة وقد يستأجر المرء جملة ويؤاجر متفرقا
لابتغاء الربح كما يشتري جملة ويبيع متفرقا. وأما الحكم
فلأنها في الشرع عدت أموالا متقومة حتى صلحت مهرا وورد
العقد عليها وضمنت بالمال في العقود الصحيحة والفاسدة
بالإجماع والعقد لا يجعل ما ليس بمال مالا ولا ما ليس
بمتقوم متقوما كورود العقد على الميتة والخمر وإذا ثبت
أنها أموال متقومة وقد تحقق إتلافها; لأن الانتفاع بالشيء
إتلاف لمنافعه تكون مضمونة عليه.
ولعلمائنا رحمهم الله في نفي المماثلة بين المنفعة والعين
طريقان, أحدهما نفيها بنفي المالية والتقوم عن المنفعة
أصلا, وثانيهما بإثبات التفاوت في المالية بينهما, بيان
الأول أن المنفعة ليست بمال ولا بمتقومة فلا تضمن بالإتلاف
بالمال كالميتة والخمر وذلك; لأن صفة المالية للشيء
بالتمول والتمول عبارة عن صيانة الشيء وادخاره لوقت الحاجة
لا عن الانتفاع بالإتلاف فإن الأكل لا يسمى تمولا والمنافع
لا تبقى وقتين بل كما توجد تتلاشى فكيف يرد عليها التمول,
وكذا التقوم الذي هو شرط الضمان ومبناه لا يسبق الوجود فإن
المعدوم لا يوصف بأنه متقوم إذ المعدوم ليس بشيء وبعد
الوجود التقوم لا يسبق الأحراز كالصيد والحشيش والأحراز لا
يتحقق فيما لا يبقى زمانين فكيف يكون متقوما.
ولا يقال المنافع توجد محرزة ضرورة إحراز ما قامت هي به,
لأنا نقول إن ذلك يوجب أنها يكون محرزة للغاصب لا للمغصوب
منه وإحراز الغاصب لا يوجب الضمان عليه كما في زوائد الغصب
ليست بمضمونة عندنا, ولو كانت محرزة للمغصوب منه فذلك لا
يوجب الضمان أيضا; لأنه إحراز ضمني لا قصدي وذلك لا يوجب
الضمان
(1/254)
بولاية العقد
حكما شرعيا بناء على جواز العقد فلا يثبت في غير موضع
العقد
ـــــــ
كالحشيش النابت في أرض مملوكة لا يكون مضمونا بالإتلاف وإن
كان محرزا ضمنا لإحراز الأرض. وعلى هذا نقول الإتلاف يتصور
في المنفعة أيضا; لأنه لا يحل المعدوم ولا يأتي مقترنا
بالوجود; لأنه ضده فيمتنع الوجود وإنما يأتي بعده وهي لا
تبقى في الزمان الثاني ليحله الإتلاف وإثبات الحكم بدون
تحقق سببه لا يجوز, وبيان الثاني أن ضمان العدوان مقدر
بالمثل بالنص والمنافع وإن كانت أموالا متقومة فهي دون
الأعيان في المالية فلا تضمن بالأعيان كما لا تضمن الديون
بالعين والرديء بالجيد, وهذا لأن المنفعة تقوم بالعين
والعين تقوم بنفسها وما يقوم بغيره تبع له والتفاوت بين
التبع والمتبوع ظاهر. وكذا المنافع لا تبقى وقتين والعين
أوقاتا وبين ما تبقى وبين ما لا تبقى تفاوت عظيم ثم من
ضرورة كون الشيء مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له إذ
هو اسم إضافي كالأخ والعين لا تضمن في باب العدوان
بالمنفعة قط فعرفنا أنه لا مماثلة بينهما, يوضحه أن
المنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الإتلاف حتى أن الحجر في خان
واحد على تقطيع واحد لا يكون منفعة أحديهما مثلا لمنفعة
الأخرى عند الإتلاف بالإجماع مع أن المماثلة بين المنفعة
والمنفعة أظهر منها بين العين والمنفعة فلأن لا يضمن
المنفعة بالعين وهي الدراهم أو الدنانير أولى فالشيخ رحمه
الله أشار بقوله; لأن العين ليس بمثل لها إلى آخره إلى
الطريق الأول وبقوله ولأن التفاوت بين ما يبقى إلى آخره
إلى الطريق الثاني.
قوله: "إلا أن يثبت إحرازها" استثناء منقطع من قوله وليس
لما لا يبقى صفة التقوم أي وليس لما لا يبقى صفة التقوم
حقيقة إلا أن يثبت إحرازها شرعا بخلاف القياس فيتقوم وهو
في الحقيقة جواب سؤال مقدر وهو أن يقال قد ثبتت لها صفة
التقوم في باب العقد مع استحالة إحرازها حقيقة لعدم بقائها
زمانين فجاز أن تثبت لها هذه الصفة في الإتلاف أيضا سدا
لباب العدوان فأجاب أن إحرازها وتقومها في باب العقد إنما
ثبت غير معقول المعنى بناء على جواز العقد يعني لما جاز
العقد شرعا يثبت الإحراز ضرورة بناء عليه فلا يثبت في غير
موضع العقد.
ولا يقال وقد ثبت التقوم لها في غير العقد أيضا كما إذا
وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره يجب نصف العقر لصاحبه,
لأنا نقول: منافع البضع التحقت بالأعيان عند الدخول على ما
عرف فيكون الضمان في مقابلة العين حكما, ولأنها إنما تضمن
بالعقر إذا كانت فيه شبهة العقد فأما إذا كان عدوانا محضا
فلا يجب العقر وإنما يجب الحد, وهذا الجواب يشير إلى عدم
صحة المقايسة بين العقد والإتلاف لكون الأصل غير معقول
المعنى.
(1/255)
بل يثبت التقوم
في حكم العقد خاصة ولأن التقوم في حكم العقد ثبت لقيام
العين مقامها وهذا أصح.
ـــــــ
وقوله: "ولأن التقوم في حكم العقد ثبت بقيام العين مقامها"
جواب آخر عن هذا السؤال يعني لما كان بالناس حاجة إلى هذا
العقد أقام الشرع العين المنتفع بها مقام المنفعة في قبول
العقد إذ لا بد له من محل ألا ترى أنه لو أضاف العقد إلى
المنافع لا يصح بأن قال: آجرتك منافع هذه الدار شهرا ثم
عند حدوث المنفعة يثبت حكم العقد فيها فيثبت التقوم لها
بهذا الطريق للضرورة ولا يتحقق مثل هذه الضرورة في العدوان
فتبقى الحقيقة معتبرة.
قوله: "وهذا أصح" اعلم بأن الشافعي رحمه الله جعل المنافع
المعدومة في باب الإجارة كالموجودة حكما; لأن العقود لا
تصح إلا مضافة إلى محال أحكامها والحكم وهو الملك إنما
يثبت في المنفعة دون الدار فلا بد من وجودها حال العقد إما
حقيقة أو تقديرا من جهة الشرع ليكون الحكم في المقدر على
مثال الحكم في المحقق فأنزل المنافع موجودة تحريا لصحة
العقد واعتبرت الإضافة إلى الدار; لأنها محل المنفعة فصارت
المنفعة بذكرها مذكورة; لأن باعتبارها حدثت لها عرضية
الوجود وصار كالنطفة في الرحم يعطى لها حكم الولد الحي
باعتبار العرضية. وعندنا عقد الإجارة مضاف إلى العين التي
هي محل حدوث المنافع خلفا عن المنافع في حق كونها شرطا
للعقد; لأنه لا يثبت الحكم إلا بالإضافة إلى محل فصار وجود
المحل شرطا لصحة العقد وتعذر اعتبار هذا الشرط بحقيته في
بيع المنافع إذ لا وجود لها حالة العقد ولا بقاء لها بعد
الوجود فأقمنا الدار مقام المنفعة لصحة الإضافة ثم بعدما
وجد اللفظان المرتبطان وصارا علة لإثبات حكم يتأخر عملهما
في إثبات الحكم وهو الملك إلى حين وجود المنافع حقيقة ساعة
فساعة, ومن أصحابنا من قال اللفظ الصادر منهما مضافا إلى
محل المنفعة صح كلاما وهو العقد منهما إذ العقد فعلهما ولا
فعل يصدر منهما سوى ترتيب القبول على الإيجاب ثم الانعقاد
حكم الشرع يثبت وصفا لكلامهما شرعا فجاز أن يقال العقد قد
وجد منهما وذلك عبارة عن كلامين يترتب أحدهما على الآخر
فيحكم الشرع بالانعقاد عند حدوث المنافع ساعة فساعة كذا في
إشارات الأسرار للشيخ الإمام أبي الفضل الكرماني1 رحمه
الله.
ـــــــ
1 هو ركن الدين أبو الفضل عبد الرحمن بن محمد بن أميرويه
الكرماني الفقيه الحنفي ولد سنة 457 هـ وتوفي في 543 هـ
انظر الفوائد البهية 91 – 92.
(1/256)
ألا ترى أن
ضمان العقد فاسدا كان أو جائزا يجب بالتراضي فوجب بناء
التقوم على التراضي, وضمان العدوان يعتمد أوصاف العين
والرجوع إليها يمنع التقوم على ما عرف ولأن التفاوت بين ما
يبقى وتقوم العرض به وبين العرض
ـــــــ
فعلى الطريقة الأولى يكون العقد منعقدا في حق العين والحكم
ينفذ في المنفعة وعلى الطريقة الثانية ينعقد على المنفعة
لا على العين, فإذا عرفت هذا فنقول أجاب الشيخ عن السؤال
المقدر على معتقد الخصم أولا بقوله إلا أن يثبت إحرازها
بولاية العقد; لأن هذا الكلام يدل على أن العقد يرد على
المنفعة ابتداء, ثم أجاب على مذهبه ثانيا بقوله ولأن
التقوم إلى آخره ورجح مذهبه بقوله وهذا أصح ووجهه أن ما
قاله الخصم قلب الحقيقة وهو جعل المعدوم موجودا وما قلنا
إبقاء الأمر على حقيقة وتأخير الحكم إلى حين الوجود وأنه
قابل للتأخر والتراخي كما إذا أوصى بما يثمر نخيله يتأخر
حكمه إلى حين وجود الثمرة لا أنها تجعل موجودة, ولأن إقامة
السبب مقام المسبب في الشرع أمر شائع كإقامة السفر مقام
المشقة والنوم مقام الحدث والبلوغ مقام اعتدال العقل وحدث
الملك مقام شغل الرحم في وجوب الاستبراء فأما جعل المعدوم
موجودا فليس له في الشرع استمرار مثل استمرار ما ذكرنا
فيكون ما قلنا أصح.
وقوله: "ألا ترى أن ضمان العقد فاسدا كان أو جائزا يجب
بالتراضي" جواب آخر عن ذلك السؤال المقدر بطريق التوضيح,
وهذا الجواب يثبت وصفا مفارقا به يفسد القياس وصار كأنه
قال لا يصح القياس; لأن التقوم ثبت غير معقول المعنى وإن
كان معقول المعنى ففي المقيس عليه وصف يفارق به المقيس وهو
الرضاء; لأن للرضاء أثرا في إيجاب أصل المال وفضله فيجب
الأجر بالتراضي فأما ضمان العدوان فمبني على أوصاف العين
والرجوع إلى أوصاف المحل يوجب عدم الضمان ههنا فصار هذا
القياس كما قيل مس الفرج حدث كما إذا مس وبال.
والغرض من إيراده هو الجواب عن العقد الفاسد; لأن ما ذكر
أولا إنما يصلح جوابا عن العقد الصحيح لا عن الفاسد; لأن
إثبات التقوم بطريق الضرورة إنما يكون في العقد الجائز دون
الفاسد فيلزم منه أن لا تتقوم المنافع فيه كما في الإتلاف
والغصب, فأما إثبات التقوم والتزام المال بطريق التراضي
فموجود في العقد الصحيح والفاسد بخلاف الإتلاف والغصب, ثم
الانفصال عن لزوم العقد الفاسد على ما ذكره أولا هو أن
التقوم لما ظهر في حق العقد لا تميز فيه بين الصحيح
والفاسد بل يؤخذ حكم الفاسد من الصحيح ولا يجعل الفاسد
بنفسه أصلا.
قوله: "ولأن التفاوت" قد ذكرنا أن التفاوت بين العين
والمنفعة من وجهين
(1/257)
القائم به
تفاوت فاحش فلم يصلح مثلا له معنى بحكم الشرع في العدوان
بخلاف ضمان العقود; لأن العقود مشروعة فبنيت على الوسع
والتراضي باعتبار الحاجة إليها وسقط اعتبار هذا التفاوت,
ألا ترى أن اعتبار هذا التفاوت في
ـــــــ
أحدهما أن العين تبقى والمنفعة لا تبقى وثانيهما أن
المنفعة تقوم بالعين لكونها عرضا والعين تقوم بنفسها فجمع
الشيخ بين الوجهين بقوله بين ما تبقى وتقوم العرض به وبين
العرض القائم به أي العرض الذي لا يبقى وهو مع ذلك قائم
بغيره.
قوله: "تفاوت فاحش" قال الشافعي رحمه الله التفاوت باعتبار
البقاء لا يؤثر في المنع من إيجاب الضمان بعد المساواة في
الوجود كما إذا أتلف ما يتسارع إليه الفساد نحو الجمد
والبطيخ فإنه تضمن الدراهم ولا مساواة بينهما في البقاء;
لأن الدراهم يبقى أزمنة كثيرة والجمد ونحوه لا يبقى فكذا
التفاوت الذي بين العين والمنفعة في البقاء لا يمنع من
وجوب الضمان لتساويهما في أصل الوجود, فأجاب الشيخ بأن
التفاوت بينهما فاحش لا يبقى معه المساواة بينهما فمنع من
إيجاب الضمان, وهذا; لأن المماثلة إنما تعتبر في المعنى
الذي بني عليه الضمان وهو المالية لا في كل معنى فإن
الدراهم مثل للحيوان في المالية لا غير وههنا التفاوت في
نفس المالية لما ذكرنا أن مالية المنافع لا تساوي مالية
الأعيان; لأنها لا تقبل البقاء والمالية صفة للموجود, فإذا
كان الموجود غير قابل للبقاء كيف يكون معنى المالية فيهما
مثل معنى المالية في الأعيان فأشبه التفاوت بين العين
والدين بخلاف ما يتسارع إليه الفساد; لأن التفاوت بينه
وبين الدراهم في مقدار البقاء; لأنه يبقى في زمانين وأزمنة
كثيرة إلا أن الدراهم أكثر بقاء منه ومثل هذا التفاوت لا
يمنع وجوب الضمان وهذا; لأن المساواة بين المتلف وبدله
إنما يشترط حال وجوب الضمان; لأنها حال إقامة أحدهما مقام
الآخر فيجب أن يكون كل واحد منهما موصوفا بالبقاء ليصح
المقابلة بوجود المساواة فأما البقاء بعد الإقامة فليست من
موجب الغصب والعدوان فلهذا لا يمنع التفاوت بعد ذلك من
وجوب الضمان.
قوله: "باعتبار الحاجة إليها". "فإن قيل" الحاجة ماسة إلى
إهدار هذا التفاوت ههنا أيضا سدا لباب العدوان إذ في
اعتباره انفتاح باب الظلم وتضيق الأمر على الناس "قلنا"
ليس الأمر كما زعمت فإن مساس الحاجة فيما يكثر وجوده وهو
ما كان مشروعا لا فيما يندر وجوده وهو العدوان فإنه منهي
عنه وسبيله أن لا يوجد كيف وقد أوجبنا للزجر التعزير
والحبس فإنه ذكر في المبسوط وعندنا يأثم ويؤدب على ما صنع
ولكنه لم يضمن شيئا. "فإن قيل" في اعتبار هذا التفاوت
إبطال حق المالك أصلا وفي إهداره وإيجاب
(1/258)
ضمان العقود
يبطلها أصلا واعتباره في ضمان العدوان لا يبطله أصلا بل
يؤخره إلى دار الجزاء; لأنه بطل حكما لعجز نابه لا لعدمه
في نفسه وإهدار التفاوت يوجب ضررا لازما للغاصب في الدنيا
والآخرة ولم يحصل التمييز بين الجائز والفاسد; لأن ذلك
يؤدي إلى الحرج فلم يعتبر فيما شرع ضرورة.
ـــــــ
الضمان إبطال حق الغاصب وصفا فكان ترجيح حق صاحب الأصل
أولى كيف وأنه مظلوم والغاصب ظالم وإلحاق الحبس بالظالم
أولى.
"قلنا" حق الغاصب فيما وراء ظلمه محترم معصوم لا يجوز
تفويته عليه ولهذا قدر الضمان بالمثل وإنما يجوز استيفاء
الضمان منه على طريق الانتصاف مع قيام حرمة ماله فلا يترجح
حق المغصوب منه على الغاصب.
وأما قوله حق الغاصب يفوت وصفا وحق المالك يفوت أصلا فليس
كذلك; لأن حق المالك لا يفوت بل يتأخر إلى دار الجزاء
لتعذر الاستيفاء نحو حق الشتم والأذى, فأما حق الغاصب في
الوصف فيبطل أصلا; لأنه يستحق عليه بقضاء القاضي وما يستحق
بالقضاء الذي هو حجة الشرع لا توصل إليه في دار الآخرة
فكان تأخر الأصل أهون من إبطال الوصف. يوضح ما ذكرنا أنا
لو أوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ظلما مضافا إلى
الشرع; لأن الموجب هو الشرع وذلك لا يجوز وإذا لم يوجب
الضمان لتعذر إيجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا
وهي أنا لا نقدر على القضاء بالمثل وذلك مستقيم. وقوله:
"ألا ترى" توضيح لقوله: "وسقط اعتبار هذا التفاوت" ودليل
عليه, وتقديره وسقط اعتبار هذا التفاوت; لأنه لو لم يسقط
وبقي معتبرا لأدى إلى إبطال العقود أصلا.
قوله: "يبطلها أصلا" أي العقود; لأنها شرعت للاسترباح ولا
يحصل ذلك إلا بالتفاوت بين البدل والمبدل فإن البائع يرى
خيرية في الثمن نظرا إلى جانبه والمشتري كذلك في جانب
المبيع فيتبايعان طلبا للفضل الذي رأى كل واحد منهما في
مال صاحبه ولا كذلك في باب العدوان لما ذكر. وقد أوردت هذه
المسألة في بعض النسخ بطريق آخر فلا بد من شرحه أيضا
فنقول: قوله: "وليس إلى التقوم حاجة; إذ الاستبدال صحيح من
غير التقوم" معناه أنها قد تقومت في باب العقود لا بطريق
الضرورة إذ هي تندفع بالاستبدال من غير تقوم كما في الخلع
والعتق على مال والصلح عن دم العمد ولما تقومت فيه من غير
ضرورة عرفنا أنه هو الأصل فيها فيثبت تقومها في ضمان
العدوان أيضا, ثم أجاب عنه فقال: إن القياس يأبى ثبوت
تقومها لما مر من الدلائل ولكنها تقومت بالنص في العقد
بخلاف القياس وإن لم يكن إلى التقوم حاجة فنقتصر على مورد
النص لكونه غير معقول المعنى.
(1/259)
وأما القضاء
بمثل غير معقول فهو كغير المال المتقوم إذا ضمن بالمال
المتقوم كان مثلا غير معقول مثل النفس تضمن بالمال; لأن
المال ليس بمثل للنفس لا صورة ولا معنى; لأن الآدمي مالك
والمال مملوك فلا يتشابهان بوجه ولهذا قلنا إن المال غير
مشروع مثلا عند احتمال القصاص; لأن القصاص مثل
ـــــــ
قوله: "وإنما قلنا ذلك" أي بأن التقوم ثبت نصا بخلاف
القياس; لأن الله تعالى شرع ابتغاء الإبضاع بالمال المتقوم
بقوله عز ذكره: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}
[النساء: 24], والأموال إنما تضاف إلينا بواسطة الإحراز
الذي به يثبت التقوم للأموال فثبت أن الابتغاء بالمال
المتقوم., ثم هذا النص يقتضي أن لا يكون الابتغاء إلا
بالمال; لأن معناه والله أعلم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بشرط أن تبتغوا بأموالكم
والمشروط لا وجود له بدون الشرط, والشرع جوز الابتغاء
بالمنافع فإنه إذا تزوج امرأة على رعي غنمها سنة جاز قال
تعالى إخبارا عن شعيب عليه السلام: {عَلَى أَنْ
تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27], فعرفنا ضرورة
أن المنافع في العقد أموال متقومة حيث صح الابتغاء بها,
وبطلت المقايسة; لأنه قياس مع الفارق على ما بيناه, ولا
يثبت شيء من ذلك بالعدوان يعني لا يثبت به أصل المال ولا
فضله فإنه إذا أتلف جلد ميتة لا يجب عليه شيء ولو أتلف ثوب
إنسان لم يجب عليه أكثر من قيمته فعلم أنه لا أثر للعدوان
في إيجاب أصل ولا فضل والله أعلم.
قوله: "لأن المال ليس بمثل للنفس صورة" وهذا ظاهر إذ لا
مماثلة بين الآدمي والإبل أو الدراهم صورة, ولا معنى; لأن
الآدمي مالك مبتذل لما سواه والمال مملوك مبتذل له ولا
تساوي بين المالك والمملوك بل هما على التضاد في الدرجة
هذا في الدرجة العليا وذلك في الدرجة السفلى, ولأن معنى
المال هو ما خلق المال له من إقامة المصالح به ومعنى
الآدمي هو ما خلق له من عبادة ربه والخلافة في أرضه لإقامة
حقوقه وتحمل أمانته ولا مشابهة بين المعنيين, ولأن المال
جعل مثل لمال آخر يخالفه صورة بتساويهما في قدر المالية لا
غير وهذا المتلف ليس بمال فكان طريق المماثلة بينهما
منسدا, ولأن المثل معنى عبارة عن قيمة الشيء وهي عبارة عن
قدر ماليته بالدراهم أو الدنانير وإذا لم يكن الشيء مالا
لم يكن له قيمة كذا في الأسرار.
قوله: "ولهذا قلنا" أي ولكون المماثلة غير معقولة بين
المال والنفس قلنا المال غير مشروع بطريق المثل عند احتمال
القود, وإنما قيد بقوله مثلا; لأن المال بطريق الصلح مشروع
مع احتمال القود بالاتفاق. وبيان هذا أن موجب العمد القود
على التعيين عندنا لا يعدل عنه إلى المال إلا صلحا, وهو
أحد قولي الشافعي وفي قوله الآخر موجبه القود أو
(1/260)
الأول صورة
ومعنى وهو إلى الإحياء الذي هو المقصود أقرب فلم يجز أن
ـــــــ
الدية والخيار إلى الولي في التعيين لقوله عليه السلام:
"من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا
أخذوا الدية" 1, فهذا تنصيص على أن كل واحد منهما موجب
القتل وإن الولي مخير بينهما, ولأن وجوب المال هو الأصل في
القتل شرع لجبر حق المقتول فيما فات عليه بدليل حالة الخطأ
فإن الفوات عليه في الوجهين يقع على نمط واحد, ألا ترى أنه
ينتفع به يقضي به ديونه وتنفذ وصاياه أما القصاص فإنما
ينتفع به الوارث إذ التشفي يحصل له ولهذا كان المقتول
شهيدا في العمد دون الخطأ; لأن نفع القصاص لا يعود إليه
بخلاف نفع الخطأ إلا أن الشرع أوجب القصاص ضمانا زائدا
لمعنى الانتقام وتشفي الصدر نظرا للولي وإبقاء للحياة
فشرعه لا ينفي الضمان الأصلي لكنه تعذر الجمع بينهما; لأن
كل واحد منهما يجب حقا للعبد حتى يعمل فيه إسقاطه ويورث
عنه ولا يجوز الجمع بين الحقين لمستحق واحد بمقابلة محل
واحد فأثبتنا الجمع بينهما على سبيل التخيير, ولنا أنه
أتلف مضمونا فيتقيد ضمانه بالمثل ما أمكن كإتلاف المال
وتفويت حقوق الله تعالى من الصلاة والصوم, والمال ليس بمثل
للمتلف لما ذكرنا والقصاص مثل له صورة; لأنه قتل وإفاتة
حياة كالأول, ومعنى لأن المقصود بالقتل ليس إلا الانتقام
والثاني في معنى الانتقام كالأول ولهذا سمي قصاصا وفيه
مقابلة النفس بالنفس كما قال تعالى: {وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:
45], فمع القدرة على المثل الكامل لا يجوز المصير إلى
غيره; لأنه سابق على أقسام القضاء ألا ترى أن الصوم لا
يجوز قضاؤه بالفدية مع القدرة على المثل الكامل وهو الصوم
لما ذكرنا.
"فإن قيل" كما أن المال ليس بمثل للقصاص أو النفس فكذا
القتل ليس بمثل للقطع مع القتل فيما تقدم فينبغي أن لا
يجوز الاقتصار على القتل مع القدرة على القطع والقتل.
"قلنا" المال ليس بمثل للنفس صورة ولا معنى فأما القتل
فمثل للقطع صورة ومعنى ومثل للقطع معنى لا صورة فلهذا
النوع من المماثلة كان الواجب في الابتداء أحدهما إما
الجمع أو الاقتصار فلا يكون الاقتصار انتقالا عن الواجب
الأصلي مع القدرة على استيفائه إلى خلفه بخلاف الدية في
القتل العمد; لأنها لو وجبت كانت خلفا عن القصاص; لأنه
الواجب الأصلي دون الدية التي لا مماثلة بينها وبين الفائت
بوجه فيكون
ـــــــ
1 أخرجه البخاري في الديات باب رقم 2434 ومسلم في الحج
حديث رقم 1355 والترمذي في الديات حديث رقم 1405.
(1/261)
يزاحمه ما ليس
بمثل وإنما شرع عند عدم المثل صيانة للدم عن الهدر ومنة
على القاتل بأن سلمت له نفسه وللقتيل بأن لم يهدر حقه,
ولهذا قلنا نحن خلافا
ـــــــ
خيار الدية انتقالا عن الأصل إلى الخلف مع القدرة عليه,
ولأن الاقتصار بمنزلة استيفاء بعض الحق وإسقاط الباقي
ولهذا جاز الاقتصار بالإجماع.
قوله: "وهو" أي القصاص إلى الأحياء الذي هو المقصود من
شرعية الضمان أقرب. بيانه أن الأول أفات حياة فيكون المثل
القائم مقامه ما ينجبر به الفائت وإنما يحصل ذلك بإتلاف
حياة تحصل به حياة للولي القائم مقام القتيل وذلك في
القصاص دون إيجاب المال; لأن إفاتة الحياة مضمونة بما تقوم
مقامها وإنما تقوم مقام الحياة حياة أخرى لا مال إذ كل
الدنيا لا يسوى بحياة ساعة وقد نص الله تعالى على أن في
القصاص حياة لنا وذلك في شرعيته واستيفائه, أما الأول فلأن
من قصد قتل عدوه وتفكر أنه يقتص منه فإنه ينزجر عن ذلك
فيكن القصاص حياة لهما جميعا فعلى هذا يكون الخطاب لكافة
الناس, وأما الثاني فلأن من قتل إنسانا يصير حربا على
أولياء القتل خوفا على نفسه وهم يخافونه; لأنه يستعين
عليهم بغيره على ما عليه العادات المتغلبة فمتى قتلوه
قصاصا اندفع عنهم الشر والهلاك وبقيت حياتهم وعلى هذا يكون
الخطاب للورثة والله تعالى سمى دفع الهلاك من الحي إحياء
قال تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا
النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32]. فيكون في القصاص حياة
أولاده وفي حياتهم حياة; لأن بقاء الرجل ببقاء ولده من
طريق المعنى ولهذا يسعى لولده كما سعى لنفسه فثبت أن
القصاص إلى الإحياء أقرب.
وإنما قال أقرب; لأن للمال نوع قرب إلى المقصود إذ بوجوبه
قد يمتنع القاتل عن القتل وباستيفائه قد يمتنع الولي عن
انتقام لكنه دون القصاص في هذا المعنى فلهذا كان القصاص
أقرب إلى المقصود.
قوله: "وإنما شرع المال" جواب عما قال الشافعي أن المال
مثل للنفس بدليل حالة الخطأ فقال إنما شرع المال في تلك
الحالة لأجل صيانة الدم عن الهدر فإنه عظيم الخطر وتعذر
إيجاب القصاص لا بطريق أنه مثل, وتحقيقه أن القصاص نهاية
في العقوبات المعجلة في الدنيا فلا يجوز مؤاخذة الخاطئ به
لكونه معذورا فيه ونفس المقتول محترمة لا تسقط حرمتها بعذر
الخاطئ فوجب صيانتها عن الهدر فأوجب الشرع المال في حالة
الخطأ لصيانة النفس المحترمة عن الإهدار لا بطريق أنه مثل
كما أوجب الفدية على الشيخ الفاني عند وقوع اليأس له عن
الصوم وذلك لا يدل على أن الإطعام مثل الصوم, فيكون في
إيجاب المال منة على القاتل بأن سلمت له نفسه به مع أنه
قتل نفسا معصومة ومنة على المقتول بأن لم يهدر حقه بإيجاب
شيء يقضي به حوائجه أو حوائج ورثته مع أن القاتل
(1/262)
للشافعي إن
القصاص لا يضمن لوليه بالشهادة الباطلة على العفو أو بقتل
القاتل; لأن القصاص ليس بمتقوم فلم يكن له مثل صورة ومعنى
وإنما شرعت
ـــــــ
معذور. وإذا ثبت هذا في الخطأ ففي كل موضع من مواضع العمد
يتحقق هذا المعنى وهو تعذر القصاص مع بقاء المحل لمعنى في
المحل يجب المال أيضا; لأن المخصوص من القياس بالنص يلحقه
ما يكون في معناه من كل وجه فالأب إذا قتل ابنه عمدا يجب
المال لتعذر إيجاب القصاص بحرمة الأبوة وإذا عفا أحد
الشريكين يجب للآخر المال; لأنه تعذر عليه استيفاء القصاص
لمعنى في المقاتل وهو أنه أحيا بعض نفسه بعفو الشريك فكان
ذلك في معنى الخطأ فوجب المال للآخر بخلاف ما إذا مات من
عليه القصاص; لأنه تعذر الاستيفاء لفوات المحل فلا يكون في
معنى الخاطئ, وفي لفظ الشيخ إشارة إلى ما ذكرنا حيث قال
وإنما شرع عند عدم المثل ولم يقل في حالة الخطأ إذ وجوب
المال ليس مختصا بحالة الخطأ بل هو ثابت في غيره من الصور
كما ذكرنا فلهذا قال عند عدم المثل ليكون شاملا للصور
أجمع.
قوله: "ولهذا" أي ولما ذكرنا أن ما ليس بمال لا يكون المال
مثلا له فلا يجوز أن يضمن به قلنا إذا شهد الشهود على رجل
بالعفو عن القصاص ثم رجعوا بعد القضاء به لم يضمنوا لولي
القصاص شيئا وقال الشافعي رحمه الله يضمنون الدية له.
وكذا إذا قتل من عليه القصاص إنسان آخر لا يضمن لولي
القصاص شيئا وما ذكر ههنا يدل على أن عنده يضمن لولي
القصاص الدية كالشاهد, ورأيت في التهذيب ولو وجب القصاص
على رجل فقتله أجنبي يجب عليه القصاص لورثته وحق من له
القصاص في تركته ولو عفا وارثه عن القصاص على الدية للوارث
كالقصاص وحق من له القصاص في تركته فهذا يدل على أن
الأجنبي لا يضمن عنده شيئا لولي القصاص كما هو مذهبنا وكذا
ذكره في الأسرار أيضا, وسنذكر الفرق له على تقدير الوفاق.
وقوله: "أو بقتل القاتل" إضافة المصدر إلى المفعول, له أن
القصاص ملك متقوم للولي, ألا ترى أن القاتل إذا صالح في
مرضه على الدية يعتبر ذلك جميع المال وقد أتلفوا عليه ذلك
بشهادتهم فيضمنون عند الرجوع وإن لم يكن مالا كما تضمن
النفس بالإتلاف حالة الخطأ وكذا القاتل أتلف عليه حقه
المتقوم فيضمن., وإن لم يضمن عنده كما هو المذكور في
التهذيب والأسرار فالفرق له أن القاتل إنما أتلفه ضمنا
لإتلاف المحل لا قصدا إليه فلا يضمن بخلاف الشاهد فإنه
أتلفه قصدا إليه وهذا; لأن ملك القصاص ضروري فيظهر في حق
الولي من حيث تطرقه إلى الاستيفاء دون المملوك عليه حتى لم
يصر المحل مملوكا له فلا يظهر في حق القتل إليه أشير في
الأسرار., ولنا أن
(1/263)
الدية صيانة
للدم عن الهدر والعفو عن القصاص مندوب إليه فكان جائزا أن
يهدر بل حسنا ولهذا قلنا إن ملك النكاح لا يضمن بالشهادة
بالطلاق بعد الدخول وبقتل المنكوحة وبردتها; لأنه ليس بمال
متقوم وإنما يقوم بالمال
ـــــــ
المتلف ليس بمال متقوم فلا يضمن المال; لأن المال ليس بمثل
لا صورة ولا معنى; لأن ملك القصاص ملك من عليه القصاص,
وملك حياته في حق الاستيفاء وشرعيته لمعنى الإحياء فلا
يكون المال مثلا إلا أن القاتل إنما يلتزم في الصلح الدية
بمقابلة ما هو من أصول حوائجه فهو محتاج إلى هذا الصلح
لإبقاء نفسه وحاجته مقدمة على حق الوارث فلهذا يعتبر من
جميع المال.
قوله: "وإنما شرعت الدية" جواب عن الخطأ الذي هو المقيس
عليه للخصم فقال لا يجوز القياس على الخطأ; لأن وجوب المال
ورد على خلاف القياس لصيانة الدم عن الهدر وإظهار خطر
المحل وما في الشهادة إراقة دم ليصان بالضمان بل فيها
إبطال ملك القصاص بإثبات العفو والعفو مندوب إليه فيكون
إهداره جائزا بهذا الطريق وهو العفو بل حسنا لقوله تعالى:
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ
الْأُمُورِ} [الشورى:43]. ولأن القصاص حياة حكما وفي العفو
حياة حقيقة فلا يمكن إيجاب الضمان لمعنى الصيانة وصار كأن
الشهود أثنوا عليه بفعل مندوب والمراد من الإهدار ههنا عدم
إيجاب شيء من المال بمقابلته.
قوله: "ولهذا أي ولما بينا أن ما ليس بمال" متقوم لا يضمن
بالمال قلنا إذا شهد شاهدان بالتطليقات الثلاث بعد الدخول
ثم رجعا بعد القضاء بالفرقة لم يضمنا شيئا عندنا وعند
الشافعي رحمه الله تعالى يضمنان للزوج مهر مثلها وكذلك إن
قتل رجل منكوحة رجل لم يضمن القاتل شيئا من المهر عندنا
وعند الشافعي يضمن مهر المثل للزوج., وكذلك لو ارتدت
المرأة بعد الدخول لم تغرم للزوج شيئا عندنا وعنده له مهر
المثل عليها كذا في المبسوط, وذكر في إشارات الأسرار للشيخ
أبي الفضل الكرماني رحمه الله في مسألة رجوع شهود الطلاق
بعد الدخول في جانب الشافعي ولا يلزم المرأة إذا ارتدت بعد
الدخول لا تضمن للزوج شيئا وقد فوتت عليه الملك بالردة كما
فوت الشاهد بالشهادة; لأن الردة تؤثر في تغيير الاعتقاد لا
في النكاح قصدا والشاهد أتلف بالشهادة قصدا, فهذا يخالف ما
ذكر في المبسوط عن الشافعي في مسألة الردة فيحمل على أن له
في مسألة الردة قولين, وذكر في التهذيب إن وجدت الردة بعد
الدخول فقد استقر مهرها بالدخول فلا يسقط بالردة وإن وجدت
قبل الدخول نظر فإن ارتدت
(1/264)
بضع المرأة
تعظيما لخطره وإنما الخطر للمملوك فأما الملك الوارد عليه
فلا, حتى صح إبطاله بغير شهود ولا ولي ولهذا لم يجعل له
حكم التقوم عند الزوال; لأنه ليس يتعرض له بالاستيلاء بل
إطلاق له ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول
ـــــــ
المرأة سقط مهرها; لأن الفسخ من قبلها وإن ارتد الزوج
فعليه نصف المهر. وهذا يؤيد ما ذكره أبو الفضل تمسك
الشافعي رحمه الله بأن ملك النكاح متقوم على الزوج ثبوتا
فيكون متقوما عليه زوالا; لأن الزائل عين الثابت فمن ضرورة
تقومه في إحدى الحالتين تقومه في الحالة الأخرى كملك
اليمين بل أولى; لأن ملك اليمين يجوز اكتسابه بلا بدل
بخلاف ملك النكاح فإنه لا ينفك عن مهر ويجب بالفاسد قيمته
كما في الأعيان, ألا ترى أن الزوج لو خالعها على مال يجوز
وما لم يكن متقوما لا يصير متقوما بالعقد كالخمر والميتة
وإنما المعاوضة لإقامة المسمى من المال مقام أصل القيمة
بتراضيهما, ولنا أن ملك النكاح ليس بمال متقوم فلا يضمن
بالمال عند الإتلاف; لأن ضمان الإتلاف مقدر بالمثل ولا
مماثلة بينهما صورة ولا معنى; لأن معنى الشيء ما شرع أو
خلق ذلك الشيء له وملك النكاح شرع للسكن والازدواج وإقامة
حكم الله تعالى في النسل وإبقاء العالم والمال خلق بذلة
لإقامة المصالح فأنى يتماثلان, ولأن ملك النكاح في حكم جزء
من الآدمي بمعنى تفريع الآدمي منه فكان معتبرا به معنى
وأنه خلق مالك المال والمال خلق بذلة مملوكا له فكيف
يتشابهان.
قوله: "وإنما يقوم بالمال بضع المرأة" جواب عما استدل به
الشافعي أنه متقوم ثبوتا فيتقوم زوالا فقال إنما المتقوم
عند الثبوت بضع المرأة لا الملك الوارد عليه ولا يلزم من
تقومه تقوم الملك; لأن ذلك لإظهار خطر ذلك المحل ليكون
مصونا عن الابتذال ولا يمتلك مجانا فإن ما يتملكه المرء
مجانا لا يعظم خطره عنده وذلك محل له خطر مثل خطر النفوس;
لأن النسل يحصل منه فأما الملك الوارد عليه فليس بذي خطر
ولهذا صح إزالته بالطلاق من غير شهود ولا ولي ولا عوض, ولا
يقال عدم توقفه على هذه المقدمات حالة الإبطال لا يدل على
كونه غير خطير في تلك الحالة فإنه لو أتلف ماله المتقوم
بلا شهادة بأن يأكله أو يلقيه في البحر صح ومع هذا لو
أتلفه عليه إنسان ضمن; لأنا نقول إنما ضمن ثمة باعتبار
مملوكه الذي هو متقوم في ذاته حقيقة لا باعتبار ملكه وقد
بينا أنه ليس بمتقوم حقيقة فلا يضمن.
قوله: "ولهذا" أي ولأن تقوم البضع لإظهار خطره, لم يجعل له
أي للبضع حكم التقوم, عند الزوال أي عند خروجه عن ملك
الزوج أو عند زوال ملك الزوج عنه; لأن معنى
(1/265)
فإنها عند
الرجوع يوجب ضمان نصف المهر; لأن ذلك لم يجب قيمة للبضع
ألا ترى أنه لم يجب مهر المثل تاما كما قال الشافعي لكن
المسمى الواجب
ـــــــ
الخطر للمحل إنما يظهر عند التملك والاستيلاء عليه بإثبات
الملك فأما عند زوال الاستيلاء عنه وإطلاقه فلا ولهذا لو
زوج الأب الصغير بماله يصح ولو خالع ابنته الصغيرة بمالها
من زوجها لم يصح.
قوله: "ولا يلزم الشهادة بالطلاق قبل الدخول" جواب عما
يقال لو لم يكن البضع متقوما عند الزوال لما ضمن الشهود
شيئا بالشهادة على الطلاق قبل الدخول ثم الرجوع بعد القضاء
بشهادتهم وقد ضمنوا نصف المهر عندكم فثبت أنه متقوم عند
الزوال أيضا فقال الشيخ لم يوجب ذلك قيمة لما أتلفوا عليه
وهو البضع فقيمته مهر المثل تاما ولا يغرمونه بل يغرمون
نصف المسمى وإن كان ذلك أقل من مهر المثل بكثير أو أكثر
منه بكثير فلو ضمنوا بدل المتلف لما اعتبر نصف الواجب
بالعقد كما في مال اشتراه الإنسان لا يعتبر الثمن عند
الإتلاف, وهذا القدر يكفي جوابا عن النقض., ثم بين وجه
لزوم نصف المسمى فقال لكن المسمى إلى آخره, وبيانه أن عود
المعقود عليه إليها بوقوع الفرقة قبل الدخول مسقط جميع
الصداق إذا لم يكن الفرقة مضافة إلى الزوج ولم تكن بانتهاء
النكاح فهم بإضافة الفرقة إليه منعوا العلة المسقطة من أن
تعمل عملها في النصف فكأنهم ألزموا الزوج ذلك النصف
بشهادتهم أو كأنهم فوتوا يده في ذلك النصف بعد فوات تسليم
البضع فكانوا بمنزلة الغاصبين في حقه فيضمنون ذلك عند
الرجوع, ولا يلزم عليه أن الابن إذا أكره امرأة أبيه حتى
زنى بها قبل الدخول يغرم الأب نصف المهر ويرجع به على
الابن ولم يوجد منه ما تصير الفرقة به مضافة إلى الأب;
لأنا نقول هو بإكراهه إياها منع صيرورة الفرقة مضافة إليها
وذا موجب نصف الصداق على الأب فكأنه ألزمه ذلك أو قصر يده
عنه فلذلك يضمن, وهذا الجواب هو مختار المتأخرين, وعبارة
المتقدمين فيه أن المهر قبل الدخول على شرف السقوط فإن
المرأة إذا ارتدت والعياذ بالله أو قبلت ابن الزوج يسقط
عنه كل المهر, فالشهود بشهادتهم أكدوا ما كان على شرف
السقوط فكأنهم ألزموه ذلك فلهذا ضمنوا., ولكنهم قالوا لا
نسلم التأكيد بل المهر كله وجب متأكدا بنفس العقد; لأنه لم
يبق بعده إلا الوطء الذي جرى مجرى القبض وهذا العقد لا
يتعلق تمامه بالقبض على ما عرف., ولئن سلمنا التأكيد فلا
نسلم أن تأكيد الواجب سبب للضمان ألا ترى أن الشاهدين لو
شهدا على الواهب يأخذ العوض حتى أبطل القاضي عليه حق
الرجوع ثم رجعا وقد هلكت الهبة لم يضمنا للواهب شيئا وقد
أكدا بثبوت العوض حكم زوال ملكه ولم يجر مجرى الإزالة
ابتداء كذا في الأسرار.
(1/266)
بالعقد لا
يستحق تسليمه عند سقوط تسليم البضع فلما أوجبوا عليه تسليم
النصف مع فوات تسليم البضع كان قصرا ليده عن ذلك المال
فأشبه الغصب. فأما القضاء الذي في حكم الأداء فمثل رجل
تزوج امرأة على عبد بغير عينه أنه
ـــــــ
ولما كان جواب المتأخرين أقرب إلى التحقيق اختار الشيخ
قوله: "كما قال الشافعي" متصلا بقوله تاما كاملا لا بقوله
قيمة للبضع على ما ظنه البعض فإن عند الشافعي إذا كان ما
ذكرنا بعد الدخول يجب على الشهود تمام مهر المثل قولا
واحدا وإن كان قبل الدخول فكذلك في رواية المزني عنه, وفي
رواية الربيع1 عنه يجب عليهم نصف مهر المثل; لأن الزوج لم
يغرم لها إلا نصف المسمى وقد عاد إليه نصفه, ألا ترى أنهما
لو شهدا بالإقالة ثم رجعا لم يغرما شيئا; لأنهما إن أخرجا
السلعة عن ملك المشتري فقد رد إليه الثمن, والأصح هو
الأول; لأنهم أتلفوا جميع البضع فيجب عليهم جميع بدله ولا
اعتبار بما غرم ألا ترى أنه يرجع بمهر المثل وإن غرم
المسمى سواء كان مهر المثل أقل من المسمى أو أكثر وكذا لو
برأته عن الصداق يرجع بمهر المثل على الشهود وإن لم يغرم
شيئا كذا في التهذيب, فالشيخ بقوله تاما كاملا كما قال
الشافعي أشار إلى هذا المذهب.
قوله: "فمثل رجل تزوج امرأة على عبد" إذا تزوج امرأة على
عبد مطلق وجب الوسط عندنا إن أتاها بالعين أجبرت على
القبول وإن أتاها بالقيمة أجبرت على القبول, وعند الشافعي
رحمه الله لا تصح التسمية فيجب مهر المثل; لأن النكاح عقد
معاوضة فيكون قياس البيع والعبد المطلق لا يستحق بعقد
المعاوضة فكذا بالنكاح وهذا; لأن المقصود بالمسمى مهرا هو
المالية وبمجرد ذكر العبد لا تصير المالية معلومة فلا يصح
التزامه بعقد المعاوضة لبقاء الجهالة فيه ألا ترى أنه لو
سمى ثوبا أو دابة أو دارا لم تصح التسمية فكذا إذا سمى
عبدا., ولنا أن المهر إنما يستحق عوضا عما ليس بمال
والحيوان يثبت دينا في الذمة مطلقا في مبادلة ما ليس بمال
بمال, ألا ترى أن الشرع أوجب في الدية مائة من الإبل وأوجب
في الجنين غرة عبدا أو أمة, فإذا جاز أن يثبت الحيوان
مطلقا دينا في الذمة عوضا عما ليس بمال فكذلك يثبت شرطا
وهذا لأن المهر باعتبار المالية مال وجب ابتداء والجهالة
المستدركة في التزام المال ابتداء لا يمنع صحته كما في
الإقرار فإن من أقر لإنسان بعبد صح إقراره ولكن لما كان
عين المهر عوضا باعتبار ذاته
ـــــــ
1 هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي صاحب الإمام
الشافعي 174 – 270 هـ شذرات الذهب 2/150.
(1/267)
إذا أدى القيمة
أجبرت على القبول وقيمة الشيء قضاء له لا محالة إنما يصار
إليها عند العجز عن تسليم الأصل وهذا الأصل لما كان مجهولا
من وجه ومعلوما من وجه صح تسليمه من وجه واحتمل العجز فإن
أدى صح وإن اختار جانب العجز وجبت قيمته.
ولما كان الأصل لا يتحقق أداؤه إلا بتعينه ولا تعيين إلا
بالتقويم صار التقويم أصلا من هذا الوجه فصارت القيمة
مزاحمة للمسمى بخلاف العبد المعين; لأنه معلوم بدون
التقويم فصارت قيمته قضاء محضا فلم يعتبر عند
ـــــــ
لزم مراعاة الجانبين فأوجب الشرع الوسط نظرا لهما كما في
الزكوات أوجب الوسط نظرا للفقراء وأرباب الأموال, وهذا
بخلاف تسميته الثوب أو الدابة; لأن الجهالة فيها جهالة
الجنس; لأنه يشتمل على أجناس مختلفة ومعنى كل جنس يعدم في
الجنس الآخر فلا يتحمل فأما العبد ههنا فمعلوم الجنس ولكنه
مجهول الوصف وهي جهالة يسيرة فتتحمل فيما بني على المسامحة
وهو النكاح دون ما بني على المضايقة وهو البيع, وإذا ثبت
أن الواجب هو الوسط فإذا أتى به أجبرت على القبول; لأنه
أدى عين الواجب, ولو أتى بالقيمة أجبرت على القبول أيضا
وإن كان تسليم قيمة الشيء قضاء له لا محالة إذ هو تسليم
مثل الواجب ولهذا لا يجب القيمة إلا عند العجز عن تسليم
الأصل ولكن هذا الأصل وهو المسمى لما كان مجهولا باعتبار
الوصف ومعلوما باعتبار الجنس صح تسليمه باعتبار كونه
معلوما كما لو كان عبدا له بعينه, واحتمل العجز باعتبار
جهالة الوصف إذ لا يمكنه تسليم المجهول فيجب القيمة بهذا
الاعتبار كما إذا سمى عبد نفسه فأبق ثم لما كان الأصل وهو
العبد المسمى لا يتحقق أداؤه لجهالة وصفه, إلا بتعيينه أي
بتعين الأصل وهو المسمى وهو إضافة المصدر إلى المفعول. ولا
تعيين إلا بالتقويم, صار التقويم أي القيمة أصلا من هذا
الوجه إذ هي بهذا الاعتبار قبل العبد الذي يقضي به فكان
تسليمها من هذا الوجه أداء لا قضاء; لأن القضاء خلف عن
الأداء فيثبت بعد ثبوت الأصل لا قبله, فصارت القيمة مزاحمة
للمسمى أي مساوية له في الوجوب; لأنها صارت أصلا في
الإيفاء اعتبارا والعبد أصل تسمية فكأنه وجب بالعقد أحد
الشيئين فلهذا يخير الزوج, وإنما يخير هو دون المرأة; لأن
اعتبار القيمة إنما وجب لإمكان التسليم وهو عليه دون
المرأة بخلاف العبد المعين والمكيل والموزون الموصوف; لأن
المسمى معلوم جنسا ووصفا فكانت قيمته قضاء خالصا فلا يعتبر
عند القدرة على الأصل.
(1/268)
القدرة والله
أعلم. ومن قضية الشرع في هذا الباب أن حكم الأمر موصوف
بالحسن عرف ذلك بكونه مأمورا به لا بالعقل نفسه إذ العقل
غير موجب بحال وهذا الباب لتقسيمه والله الموفق.
ـــــــ
"فإن قيل" فعلى ما ذكرتم يصير كأنه تزوجها على عبد أو
قيمته وذلك يوجب فساد التسمية فيجب مهر المثل إذا كما قال
الشافعي رحمه الله ألا ترى أنه لو عين العبد فقال تزوجتك
على هذا العبد أو قيمته لم تصح التسمية فعند جهالة العبد
أولى.
"قلنا" إنما يفسد التسمية في المسألة المذكورة; لأنه إذا
قال علي عبد وقيمته صارت القيمة واجبة بالتسمية ابتداء وهي
مجهولة; لأنها دراهم مختلفة العدد; لأنه لا بد من اختلاف
يقع بين المقومين فصار كأنه قال علي عبد أو دراهم فيفسد
للجهالة, فأما إذا قال علي عبد فقد صحت التسمية; لأن
جهالته لا تمنع الصحة ولم تجب القيمة بهذا العقد; لأنه ما
سماها فيه لكنها اعتبرت بناء على وجوب تسليم المسمى لما
ذكرنا أنه لا يتمكن منه إلا بمعرفتها, ولما كانت مبنية على
تسمية مسمى معلوم جاز أن يثبت كما إذا تزوجها على عبد
بعينه فاستحق أو هلك فإن القيمة تجب وينتصف بالطلاق قبل
الدخول; لأنها وجبت بناء على مسمى معلوم لا ابتداء كذا في
الأسرار.
قوله: "ومن قضية الشرع" أي ومن حكم الشريعة, في هذا الباب
أي باب الأمر, أن حكم الأمر أي المأمور به يوصف بالحسن,
والمعنى أن ثبوت الحسن للمأمور به من قضايا الشرع لا من
قضايا اللغة; لأن هذه الصيغة تتحقق في القبيح كالكفر
والسفه والعبث كما يتحقق في الحسن, ألا ترى أن السلطان
الجائر إذا أمر إنسانا بالزنا والسرقة والقتل بغير حق كان
أمرا حقيقة حتى إذا خالفه المأمور ولم يأت بما أمر به يقال
خالف أمر السلطان, ثم اختلف أن الحسن من موجبات الأمر أم
من مدلولاته.
فعندنا هو من مدلولات الأمر وعند الأشعرية وأصحاب الحديث
هو من موجباته, وهو بناء على أن الحسن والقبح في الأفعال
الخارجة عن الاضطرار هل يعرف بالعقل أم لا فعندهم لا حظ له
في ذلك وإنما يعرف بالأمر والنهي فيكون الحسن ثابتا بنفس
الأمر لا أن الأمر دليل ومعروف على حسن سبق ثبوته بالعقل,
وعندنا لما كان للعقل حظ في معرفة حسن بعض المشروعات
كالإيمان وأصل العبادات والعدل والإحسان كان الأمر دليلا
ومعروفا لما ثبت حسنه في العقل وموجبا لما لم يعرف به كذا
في الميزان.
وذكر في القواطع ذهب أكثر أصحاب الشافعي إلى أن العقل
بذاته ليس بدليل على تحسين شيء ولا تقبيحه ولا يعرف حسن
الشيء وقبحه حتى يرد السمع بذلك وإنما
(1/269)
.....................................................
العقل آلة تدرك به الأشياء فيدرك به ما حسن وما قبح بعد أن
ثبت ذلك بالسمع., وذهب إلى هذا كثير من المتكلمين وذهب
إليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله, قال وذهبت
طائفة من أصحابنا إلى أن الحسن والقبح ضربان, ضرب علم
بالعقل كحسن العدل والصدق النافع وشكر النعمة وقبح الظلم
والكذب الضار وكفران النعمة, وضرب عرف بالسمع كحسن مقادير
العبادات وهيئاتها وقبح الزنا وشرب الخمر, قالوا وسبيل
السمع إذا ورد بموجب العقل أن يكون وروده مؤكدا لما في
العقل, وإليه ذهب من أصحابنا أبو بكر القفال الشاشي1 وأبو
بكر الصيرفي2 وأبو بكر الفارسي3 والقاضي أبو حامد4
والحليمي5 وغيرهم وإليه ذهب كثير من أصحاب أبي حنيفة خصوصا
العراقيون منهم وهو مذهب المعتزلة بأسرهم.
وإذا عرفت هذا فنقول الظاهر أن قوله عرف ذلك أي كونه
موصوفا بالحسن, بكونه مأمورا لا بالعقل نفسه إشارة إلى أنه
من موجبات الأمر كما ذهب إليه جماعة من أصحابنا وعامة
أصحاب الحديث, ويدل عليه ما ذكر شمس الأئمة رحمه الله ولا
نقول أنه أي حسن المأمور به ثابت عقلا كما ذهب إليه بعض
مشايخنا; لأن العقل بنفسه غير موجب عندنا, وأشار بقوله
نفسه إلى أن العقل ليس بمهدر أصلا بل هو آلة يعرف به الحسن
بعد ما ثبت بالأمر كالسراج للأبصار ولكنه غير موجب بحال
سواء كان مما زعم الخصم أنه مدرك بالعقل قبل الشرع أو لم
يكن.
ومسألة الحسن والقبح مسألة كلامية عظيمة فالأولى أن يطلب
تحقيقها من علم الكلام وأن يقتصر ههنا على ما ذكرنا وإنما
كان الحسن من موجبات الأمر; لأن الأمر من الله تعالى طلب
تحصيل المأمور بأبلغ الجهات وإنما يصح هذا الطلب إذا كان
الفعل
ـــــــ
1 هو أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل المعروف بالقفال
الشاشي الكبير ولد سنة 291 هـ وتوفي سنة 365 هـ شذرات
الذهب 3/51.
2 هو محمد بن عبد الله الصيرفي أبو بكر الشافعي الفقيه
الأصولي المتكلم توفي سنة 330 هـ وفيات الأعيان 1/580.
3 هو أبو بكر أحمد بن الحسين بن مسهل الفارسي الفقيه
الأصولي الشافعي توفي سنة 350 هـ طبقات السبكي 1/286 –
287.
4 هو القاضي أبو حامد بن بشر بن عامر العامري المروروذي
البداية والنهاية 11/209.
5 هو أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن محمد حليم الحليمي
ولد سنة 338 هـ وتوفي سنة 406 هـ شذرات الذهب 3/167.
(1/270)
......................................................
حسنا; لأنه تعالى حكيم لا يليق بحكمته طلب ما هو قبيح قال
الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]. فدل الأمر على كونه حسنا
والعقل إليه هاد لا أنه موجب بنفسه; إذ لو كان حسن المأمور
به بالعقل لما جاز ورود النسخ عليه; لأن الحسن العقلي
حقيقي لا يجوز عليه التبديل فثبت أن حسن المشروعات بالأمر,
والعقل يدرك الحسن في بعضها في ذاته وفي بعضها في غيره كذا
رأيت بخط شيخي قدس الله روحه.
"فإن قيل" الفعل عرض وأنه صفة والصفة لا تقوم بها الصفة
فكيف يصح وصفه بالحسن والقبح والوجوب حقيقة, وأيضا الفعل
قبل الوجود يوصف بكونه حسنا وقبيحا وواجبا وحراما والمعدوم
كيف يقبل الصفة حقيقة.
"قلنا" هذه صفات راجعة إلى الذات كالوجود مع الموجود
والحدوث مع المحدث, وكالعرض الواحد الذي يوصف بأنه موجود
ومحدث ومصنوع وعرض وصفة ولون وسواد فهذه صفات راجعة إلى
الذات لا معان زائدة عليها, ولأن الفعل يوصف بأنه حسن
وقبيح لدخوله تحت تحسين الله تعالى وتقبيحه كما يوصف بأنه
حادث ومحدث لدخوله تحت أحداث الله تعالى لا أنه محدث لحدوث
قام به; لأن ذلك الحدوث محدث فيحتاج إلى حدوث آخر فيؤدي
إلى القول بمعان لا نهاية لها وأنه باطل.
ولأن هذه صفات إضافية وأسماء نسبية والصفات الإضافية ليست
بمعان قائمة بالذات ويكون الذات موصوفة بها على الحقيقة
وإنما يقتضي وجود غير يكون علقة بين الصفة والموصوف والاسم
والمسمى كما في لفظ الأب والابن والأخ والذات موصوفة بهذه
الصفات حقيقة لا مجازا وإن لم يكن الأبوة والبنوة والأخوة
معاني قائمة بالذات موصوفة بهذه الصفات حقيقة لا مجازا وإن
لم يكن الأبوة والبنوة والأخوة معاني قائمة بالذات زائدة
عليها, ثم يوصف المعدوم بهذه الصفات على الطريق الأول
والثاني مجازا; لأن صفات الذات لا يتصور قبل الذات وكذا
الأحداث لا يتعلق بالمعدوم إلا حالة الحدوث وعلى الطريق
الثالث يوصف على سبيل الحقيقة كوصف المعدوم بأنه معلوم
ومذكور ومخبر عنه كذا في الميزان.
(1/271)
|